اللهم

اللهم اشفني شفاءا لا يغادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني رحمة واسعة مباركة طيبة واكفني همي كله وفرج كربي كله واكشف البأساء والضراء عني واعتقني من كل سوء في الدارين يا ربي

الأربعاء، 4 يوليو 2018

الصاواق المرسلة لابن القيم -ج2//3..



  1. ص -1140- به حباها ونورها الذي انقشعت به عنها ظلماؤها وغذاؤها الذي به قوام قوتها ودواؤها الذي به حفظ صحتها وهو البرهان الذي زاد على برهان الشمس ضياء ونورا فلو: {... اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء88].
    فيه نبأ ما كان قبلنا وخبر ما يكون بعدنا وحكم ما بيننا وهو الجد ليس باللعب والفصل ليس بالهزل وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم والنبأ العظيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيتشعب ولا تخلق بهجته على كثرة الترداد بل لا يزداد على تتابع التلاوة إلا بهجة وطلاوة وحلاوة من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ومن أعرض عنه أو عارضه بعقله أو رأيه أو سياسته أو خياله فالضلال منتهاه والنار منقلبه ومثواه والخذلان قرينه
    (26/347)
    ص -1141- والشقاء صاحبه وخدينه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن حاكم به أفلح ومن خاصم به استظهر بأقوى الحجج ومن استنصر به فهو مؤيد ومنصور ومن عدل عنه فهو مخذول ومثبور فبغاه هؤلاء النفاة المعطلة عوجا وجعلوا دون الاهتداء به بابا مرتجا وعزلوه عن إفادة العلم واليقين وقالوا قد عارض ما أثبتته العقول والبراهين وقالوا لم يدل على الحق في الأمور الإلهية ولا أفاد علما ولا يقينا في هذه المطالب العلية بل دلالته ظاهرة في نقيض الصواب مفهمة لنقيض ما يقوله أولو العقول والألباب فالواجب أن نحترمه بالإمساك والتفويض أو نسلط عليه التأويل إن أفهم الخلاف والضد والنقيض فإن عجزنا عن ذلك أتينا بالقانون المشهور بيننا والمقبول أنه إذا تعارض العقل والنقل قدمنا المعقول
    (26/348)
    ص -1142- على المنقول فهذا حقيقة قول هؤلاء النفاة المعطلين في كلام رب العالمين وكلام رسوله الأمين.
    الوجه الثامن والمائة: أن هذا يتضمن الصد عن آيات الله وبغيها عوجا وقد ذم الله سبحانه من فعل ذلك وتوعده بأليم العقاب فقال {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم3-1]. وقال {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود19 , 18].
    وهؤلاء المعارضون للوحي بعقولهم جمعوا بين الأمور الثلاثة الكذب على الله والصد عن سبيل الله وبغيها عوجا أما الكذب على الله فإنهم نفوا عنه ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ووصفوه بما لم يصف به نفسه وأما صدهم عن سبيله وبغيها عوجا فإنهم أفهموا الناس بل
    (26/349)
    ص -1143- صرحوا لهم بأن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد علما ولا يقينا وأن العقول عارضتها فيجب تقديم العقول عليها وأي عوج أعظم من عوج مخالفة العقل الصريح وقد وصف الله كتابه بأنه غير ذي عوج ولا ريب أن الله هو الصادق في ذلك وأنهم هم الكاذبون.
    فإن قلت يبغونها متعدي إلى مفعول واحد فما وجه انتصاب عوجا قيل فيه وجوه
    أحدها: أنه نصب على الحال أي يطلبونها ذات عوج لا يطلبونها مستقيمة والمعنى يطلبون لها العوج.
    الثاني: أن عوجا مفعول يبغونها على تقدير حذف اللام أي يطلبون لها عوجا يرمونها به ويصفونها به وأحسن منهما أن تضمن يبغونها إما معنى يعوجونها فيكون عوجا منصوبا على المصدر ودل فعل البغي على طلب ذلك وابتغائه.
    وأما معنى يسومونها ويؤولونها وعلى كل تقدير فسبيل الله هداه وكتابه الهادي للطريق الأقوم والسبيل الأقصد فمن زعم أن في العقل ما يعارضه فقد بغاه عوجا ودعا إلى الصد عنه ومن له خبرة بالمعقول الصحيح يعلم أن العوج في كلام هؤلاء المعوجين الذين هم عن الصراط ناكبون وعن سبيل الرشد حائدون وعن آيات الله بعيدون وبالباطل
    (26/350)
    ص -1144- والقضايا الكاذبة يصدقون وفي ضلالهم يعمهون وفي ريبهم يترددون وهم للعقل الصريح والسمع الصحيح مخالفون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة15-11].
    الوجه التاسع والمائة: أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب بل تكلموا فيه بغاية الإثبات المناقض لما عليه الجهمية المعطلة وعند الجهمية أن الساكت عنه خير من المتكلم فيه بالإثبات المناقض لتعطيلهم والمتكلم فيه بالنفي والتعطيل الذي يسمونه تنزيها خير من الساكت عنه فجعلوا المتكلم فيه بالإثبات آخر المراتب وهو أحسنها ولا ريب أن هذا يستلزم غاية القدح في الرسل والتنقص لهم ونسبتهم إلى القبيح ووصفهم بخلاف ما وصفهم الله به ومضمون هذا أنهم لم يهدوا الخلق ولم يعلموهم الحق بل لبسوا عليهم ودلسوا وأضلوهم وعرضوهم للجهل المركب ولو تركوهم في جهلهم البسيط لكان خيرا
    (26/351)
    ص -1145- لهم بل تركوهم في حيرة مذبذبين لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال فعند هؤلاء الضالين كلام الأنبياء لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا ولا يبين الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال بل يكون كلام من تسفسط في العقليات وتقرمط في السمعيات وهو كخيط السحار والمشعوذ يخرجه تارة أحمر وتارة أبيض وتارة أسود أهدى سبيلا من نصوص الوحي فإن نصوص الوحي عند هؤلاء أضلت الخلق وأفسدت عقولهم وعرضتهم لاعتقاد الباطل ومن راعى حرمة النصوص منهم قال فائدة إنزالها اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها وحقائقها بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كل الاجتهاد وتنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق فحقيقة الأمر عند المعطلة أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق ولا ينال منه الهدى بل ظاهره يدل على الباطل ويفهم منه الضلال ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في رد
    (26/352)
    ص -1146- ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق ليصلوا برده إلى معرفة الحق الذي استنبطوه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى الرسل بل احتاجوا فيه إلى رد ما جاءوا به بالقانون العقلي أو رد معناه بالتأويل اللفظي وحينئذ فنقول في
    الوجه العاشر بعد المائة: إن مثل ما جاءت به الرسل عند النفاة والمعطلة مثل من ارسل مع الحاج أدلاء يدلونهم في طريق مكة وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير الطريق ليكون ذلك الخطاب سببا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا الطريق بنظرهم واستدلالهم لا بأولئك الأدلة وحينئذ يردون ما فهموا من كلام الأدلة وخطابهم ويجتهدون في نفي دلالته وإبطال مفهومه ومقتضاه ومن المعلوم أن خلقا كثيرا لا يتبعون إلا الأدلاء الذين يدعون أنهم أخبر بالطريق منهم وأن ولاة الأمور قلدوهم دلالة الحاج وتعريفهم الطريق وإن درك ذلك عليهم والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يريدوا بكلامهم الدلالة والإرشاد إلى
    (26/353)
    ص -1147- سبيل الرشاد صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده فاختلفوا في الطرق وتشتتوا فمنهم من سلك طرقا أخرى غير طرق مكة فأفضت بهم إلى مفاوز معطشه وأودية مهلكة وأرض مسبعبه فأهلكتهم وطائفة أخرى شكوا وحاروا فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود ولا لطرق المخالفين للأدلاء اتبعوا بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين حتى هلكوا في أمكنتهم أيضا جوعا وعطشا كما هلك أرباب تلك الطرق فلم ينجوا من المكروه ولم يظفروا بالمطلوب وآخرون اختصموا فيما بينهم فصاروا حزبين حزبا يقولون الصواب مع الأدلاء فإنهم أهل هذا الشأن الذي نصبوا له دون غيرهم وحزبا يقولون بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون إنهم أخبر وأصدق وكلامهم في الأدلة أبين وأصدق فاقتتل الفريقان وطال بينهم الخصام والجدال وانتشر القيل والقال وشهد آخرون الوقعة فوقفوا بين هؤلاء وهؤلاء وخذلوا الفريقين ولم يتحيزوا إلى واحدة من الطائفتين فهلك الحجيج وكثر الضجيج وعظم البكاء والنشيج واضطربت الآراء وعصفت الأهواء وصار حالهم كحال قوم سفر نزلوا في ليلة ظلماء فهجم عليهم عدو وهم نيام فقاموا في ظلمة
    (26/354)
    ص -1148- الليل على وجوههم هاربين لا يهتدون سبيلا ولا يتبعون دليلا وهذا كله إنما نشأ من قول السلطان للأدلاء خاطبوا الناس بما يدلهم على غير الطريق ليجتهدوا بعقولهم ونظرهم في معرفة الطريق فهل يكون من فعل هذا بالحجيج قد هداهم السبيل أو أرشدهم إلى اتباع الدليل أو أراد بهم ما يريده الراعي المشفق على رعيته الناصح لهم وهل هذا مطابق لقول الدليل {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} [الأعراف93] وقوله {رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف62] وقوله {رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف68] فأين النصح والأمانة على قول المعطلين النفاة فإذا قال هذا الدليل إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحاج في معرفة الطريق بعقولهم وبحثهم ونظرهم ولا يستدلوا بكلامي فهل يكون هذا دليلا أم قاطع طريق فهذا مثال ما يقوله هؤلاء
    (26/355)
    ص -1149- المعطلة النفاة في رسل الله الذين أرسلهم الله سبحانه إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم ويدعوهم إلى الله وإلى السبيل الموصلة إليه فجعل هؤلاء المعطلة الجهاد في إفساد سبيل الله جهادا في سبيله والاجتهاد في رد ما جاءت به رسله اجتهادا في الإيمان به والسعي في إطفاء نور الله سعيا في إظهار نوره والحرص على أن لا يصدق كلامه ولا تقبل شهادته ولا تتبع دلالته حرصا على أن تكون كلمة الحق هي العليا والمبالغة في طريق أهل الإشراك والتعطيل مبالغة في طريق التوحيد الموصلة إلى سواء السبيل فقلبوا الحقائق وأفسدوا الطرائق وأضلوا الخلائق وعطلوا الخالق وإنما يعرف حقيقة هذا المثل ومطابقته للواقع من ضرب في الكتاب والسنة بسهم وحصل منها على نصيب وافر واطلع على حقيقة أقوال المعطلين النفاة في دلائلهم ومسائلهم ونظر إلى غايتها من خلال كلماتهم ومن البلية العظمى أن كثيرا ممن لهم علم وفقه وعبادة وزهد ولسان صدق في العامة وقد ضرب في العلم والدين بسهم قد التبس عليه كثير من كلامهم فقبله معتقدا أنه حق وأن أصحابه محققون فسمع كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم والإيمان وكلام هؤلاء وغيرهم من أهل الإلحاد فيؤمن بهذا وهذا إيمانا مجملا ويصدق الطائفتين ولا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء فإذا سمع القرآن والحديث قال هذا كلام الله
    (26/356)
    ص -1150- وكلام رسوله وإذا سمع كلام الملاحدة والمعطلة الذين حسن ظنه بهم قال هذا كلام العارفين المحققين والنظار أصحاب العقول والبراهين وإذا سمع كلام الاتحادية الملاحدة الذين هم أكفر طوائف بني آدم قال هذا كلام أولياء الله أو كلام خاتم الأولياء ومرتبتنا تقصر عن فهمه فضلا عن الاعتراض عليه وبالجملة فلرسول الله أتباع خاصة وعامة ولمسيلمة الكذاب أتباع خاصة وعامة والله تعالى جعل للهدى أئمة وأتباعا إلى آخر الدهر وللضلال أئمة وأتباعا إلى آخر الدهر.
    الوجه الحادي عشر بعد المائة: إن لوازم هذا القول معلومة البطلان بالضرورة من دين الإسلام وهي من أعظم الكفر والإلحاد وبطلان اللازم يستلزم بطلان ملزومه فإن من لوازمه أن لا يستفاد من خبر الرسول عن الله في هذا الباب علم ولا هدى ولا بيان للحق في نفسه.
    ومن لوازمه أن يكون كلامه مضمونا لضد ذلك ظاهره وحقيقته.
    ومن لوازمه القدح في علمه ومعرفته أو في فصاحته وبيانه أو في نصحه وإرادته كما تقدم تقريره مرارا.
    ومن لوازمه أن يكون المعطلة النفاة أعلم بالله منه أو أفصح أو انصح. ومن لوازمه أن يكون أشرف الكتب وأشرف الرسل قد
    (26/357)
    ص -1151- قصر في هذا الباب غاية التقصير بل أفرط في التجسيم والتشبيه غاية الإفراط وتنوع فيه غاية التنوع فمرة يقول أين ومرة يقر عليها لمن سأله ولا ينكرها ومرة يشير بإصبعه ومرة يضع يده على عينه وأذنه حين يخبر عن سمع الرب وبصره ومرة يصفه بالنزول والمجيء والإتيان والانطلاق والمشي والهرولة ومرة يثبت له الوجه والعين واليد والإصبع والقدم والرجل والضحك والفرح والرضى والغضب والكلام والتكليم والنداء بالصوت والمناجاة ورؤية أهل الجنة له مواجهة عيانا بالأبصار من فوقهم ومحاضرته لهم محاضرة ورفع الحجب بينه وبينهم وتجليه لهم واستدعائهم لزيارته وسلامه عليهم سلاما حقيقيا قولا من رب رحيم واستماعه وأذنه لحسن الصوت إذا تلا كلامه وخلقه ما شاء بيده وكتابة كلامه بيده ويصفه بالإرادة والمشيئة والقوة والقدرة
    (26/358)
    ص -1152- والحياة والحياء وقبض السماوات وطيها بيده والأرض بيده الأخرى ووضعه السماوات على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع وأضعاف ذلك مما إذا سمعه المعطلة سبحوا الله ونزهوه جحودا وإنكارا لا إيمانا وتصديقا فما ضحك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقائله يعبس منه هؤلاء إنكارا وتكذيبا وما شهد لقائله ببالإيمان شهد هؤلاء له بالكفر والضلال وما أوحى بتبليغه إلى الأمة وإظهاره يوصي هؤلاء بكتمانه وإخفائه وما أطلقه على ربه لئلا يطلق عليه ضده ونقيضه يطلق هؤلاء عليه ضده ونقيضه لئلا يطلق هو عليه وما نزه ربه عنه من العيوب النقائض يمسكون عن تنزيهه عنه وإن اعتقدوا أنه منزه عنه ويبالغون في تنزيهه عن ما وصف به نفسه فتراهم يبالغون أعظم المبالغة في تنزيهه عن علوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه بالقرآن حقيقة وإثبات الوجه واليد والعين له مالا يبالغون مثله ولا قريبا منه في تنزيهه عن الظلم والعيب والفعل لا لحكمة والتكلم بما ظاهره ضلال ومحال وتراهم إذا أثبتوا أثبتوا مجملا لا تعرفه القلوب ولا تميز بينه وبين العدم وإذا نفوا نفوا مفصلا نفيا يتضمن تعطيل ما أثبته الرسول حقيقة فهذا وأضعافه وأضعاف أضعافه من لوازم قول المعطلة ومن لوازمه أن القلوب لا تحبه ولا تريده ولا تبتهج به
    (26/359)
    ص -1153- ولا تشتاق إليه ولا تلتذ بالنظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم كما صرحوا بذلك وقالوا هذا كله إنما يصح تعلقه بالمحدث لا بالقديم قالوا وإرادته ومحبته محال لأن الإرادة إنما تتعلق بالمعدوم لا بالموجود والمحبة إنما تكون لمناسبة بين المحب والمحبوب ولا مناسبة بين القديم والمحدث. ومن لوازمه أعظم العقوق لأبيهم آدم فإن من خصائصه أن الله خلقه بيده فقالوا إنما خلقه بقدرته فلم يجعلوا له مزية على إبليس في خلقه.
    ومن لوازمه بل صرحوا به جحدهم حقيقة خلة إبراهيم وقالوا هي حاجته وفاقته وفقره إلى الله فلم يثبتوا له بذلك مزية على أحد من الخلق إذ كل أحد فقير إليه في كل نفس وطرفة عين.
    ومن لوازمه بل صرحوا به أن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق كلاما في الهواء أسمعه إياه فكلمه في الريح لا أنه أسمعه كلامه الذي هو صفة من صفاته قائم بذاته لا يصدق الجهمي بهذا أبدا.
    ومن لوازمه بل صرحوا به أن الرسول لم يعرج به إلى الله حقيقة ولم يدن من ربه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارا يسأل التخفيف لأمته فإن من وإلى عندهم في حق الله محال فإنها تستلزم المكان ابتداء وانتهاء.
    ومن لوازمه أن الله سبحانه لم يفعل شيئا ولا يفعل شيئا
    (26/360)
    ص -1154- البتة فإن الفعل عندهم عين المفعول وهو غير قائم بالرب تعالى فلم يقم به عندهم فعل أصلا وسموه فاعلا من غير فعل يقوم به كما سموه مريدا من غير إرادة تقوم به وسموه متكلما من غير كلام يقوم به وسماه زعيمهم المستأخر عند الله وعند عباده عالما من غير علم يقوم به حيث قال العلم هو المعلوم كما قالوا الفعل هو المفعول.
    ومن لوازمه أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يرضى ولا يغضب ولا يحب ولا يبغض فإن ذلك من مقولة أن ينفعل وهذه المقولة لا تتعلق به وهي في حقه محال كما نفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه لكون ذلك من مقولة الأين وهي عليه محال ونفوا كلامه وحياته وقدرته ومشيئته وإرادته وسائر صفاته لأنها من مقولة العرض وهي ممتنعة عليه كما نفوا استوائه على عرشه لأنه من مقولة الوضع المستحيل ثبوتها له ولوازم قولهم أضعاف أضعاف ما ذكرناه وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة يتفطن بها اللبيب لما وراءها وبالله التوفيق.
    الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن الرسول إذا لم يبين للناس أصول إيمانهم ولا عرفهم علما يهتدون به في أعظم أمور الدين وأصل مقاصد الدعوة النبوية وأجل ما خلق الخلق له وأفضل ما أدركوه
    (26/361)
    ص -1155- وحصلوه وظفروا به وهو معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه بل إنما يبين لهم الأمور العملية كانت رسالته مقصورة على أدنى المقصودين فإن الرسالة لها مقصودان عظيمان
    أحدهما: تعريف العباد ربهم ومعبودهم بما هو عليه من الأسماء والصفات.
    والثاني: محبته وطاعته والتقرب إليه فإذا لم يكن الرسول قد بين للأمة أجل المقصودين وأفضلهما كانت رسالته قاصرة جدا فكيف إذا أخبرهم فيه بما تحيله عقولهم وأذهانهم وإذا كان النفاة المعطلة قد بينوا ذلك بيانا مفصلا يجب على كل أحد اعتقاده فحينئذ ما أتوا به أفضل مما جاء به الرسول في القسمين فإن النفي عندهم هو الحق والإثبات باطل فما جاؤوا به من ذلك خير عندهم مما جاء به الرسول من هذا الوجه ومن جهة أن العلم أشرف من العمل ومن المعلوم أن النفاة المعطلة ليس فيهم أحد من أئمة الإسلام ومن لهم في الأمة لسان صدق وإنما أئمتهم الكبار القرامطة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم من ملاحدة الفلاسفة كابن سينا والفارابي وأمثالهما وملاحدة المتصوفة القائلين بوحدة الوجود
    (26/362)
    ص -1156- كابن سبعين وصاحب الفصوص وصاحب نظم السلوك وأمثالهم ثم من أئمتهم من هو أمثل من هؤلاء كأئمة الجهمية كالجهم ابن صفوان والجعد بن درهم وأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام وبشر المريسي وثمامة بن أشرس وأمثال هؤلاء ممن هم من أجهل الخلق بما بعث الله به رسوله فيا للعقول ويا للعجب أيكون ما أتى به هؤلاء من التعطيل والنفي أكمل مما أتى به موسى بن عمران ومحمد بن عبدالله خاتم الرسل وإخوانهما من المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم فإن الرسل عند النفاة لم يبينوا أفضل العلم والمعرفة وإنما هم الذين بينوا ذلك ودلائله تأصيلا وتفصيلا وقد صرح ملاحدة هؤلاء بأن الرسل راموا إفادة
    (26/363)
    ص -1157- ما بينوا هؤلاء الملاحدة كما قال ابن سبعين في خطبة كتابه أما بعد فإني قد عزمت على إفشاء السر الذي رمز إليه هرامسة الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية ويقول صاحب الفصوص أن الرسل يستفيدون معرفة ذلك من مشكاة خاتم الأولياء وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فهو أعلى إسنادا من الرسول وأقرب تلقيا على قوله وطائفة من الفلاسفة تقول إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه بناء على هذا الأصل الملعون ومن لم يصل إلى هذا الذي هو غاية تحقيقهم من أهل التعطيل والتجهيم ومبتدعة المتصوفين فقد شاركهم في الأصل وقاسمهم في الربح والثمرة والله الموفق.
    (26/364)
    ص -1158- الوجه الثالث عشر بعد المائة: إن أقوال هؤلاء النفاة المعطلة متناقضة مختلفة وذلك يدل على بطلانها وأنها ليست من عند الله وما جاء به الرسول متسق متفق يصدق بعضه بعضا ويوافق بعضه بعضا وهذا يدل على أنه حق في نفسه قال تعالى {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء 82].
    وأنت إذا تأملت مقالات القوم ومعقولاتهم وجدتها أعظم شيء تناقضا ولا تجد أحدا من فضلائهم ورؤسائهم أصلا إلا وهو يقول الشيء ويقول ما يخالفه ويناقضه تارة في المسألة الواحدة وتارة يقول القول ثم ينقضه في مسألة أخرى من ذلك الكتاب بعينه.
    وأما قوله الشيء وقول نقيضه في الكتاب الآخر فمن له فهم واطلاع على كتب القوم يعلم ذلك وأما الجاهل المقلد فلا تعبأ به ولا يسوءك سبه وتكفيره وتضليله فإنه كنباح الكلب فلا تجعل للكلب عندك قدرا أن ترد عليه كلما نبح عليك ودعه يفرح بنابحه وأفرح أنت بما فضلت به عليه من العلم والإيمان والهدى واجعل الإعراض عنه من بعض شكر نعمة الله التي ساقها إليك وأنعم بها عليك.
    ولولا خشية الإطالة لذكرنا في هذا الموضع من تناقضهم في مسائلهم ودلائلهم في كل مسألة ما يتعجب منه العاقل
    (26/365)
    ص -1159- ويتنبه به الغافل وأما مناقضة بعضهم بعضا ومعارضة بعضهم بعضا في الأدلة والأحكام فأمر لا خفاء به فالواحد منهم متناقض مع نفسه وأصحابه متناقضون فيما بينهم وهم وخصومهم في هذا الباب أشد تناقضا ومناقضتهم لنصوص الوحي معلومة وهم متناقضون لما تعلم صحته بصريح العقل فهم في {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور40] ولكن لا يرى هذه الظلمات إلا من هو في نور السمع والعقل {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور40]
    الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل يستلزم قولهم ثلاث مقدمات تناقض دعواهم غاية المناقضة
    المقدمة الأولى: ثبوت الرسالة في نفس الأمر على قاعدة أهل الملل وأن الرسول جاء من عند الله برسالة ليس
    (26/366)
    ص -1160- مقدورا لبشر نيلها باكتساب ولا رياضة ولا صناعة من الصنائع.
    الثانية: أنه جاء بهذا الكلام الذي ادعوا أن العقل عارضه.
    الثالثة: أنه أراد به حقيقته وظاهره فلا تتم دعوى المعارضة إلا بهذه الأمور وحينئذ فإما أن يقر المعارض بها أو ينكرها فإن أقر بها ثم ادعى المعارضة كان قوله في غاية وحالة القدح في المرسل والرسول وإن أنكرها كان الكلام معه في أصل ثبوت الرسالة واحتج عليه بما يحتج على منكري النبوات وإن أقر بالنبوة على طريقة ملاحدة الفلاسفة ومن سلك سبيلهم أنها مكتسبة وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم وقوة يتصرف فيها في المعقولات فيشكلها في نفسه خيالات ترى وتسمع وهي المسماة بالملائكة كما يقوله شيوخ هؤلاء كابن سينا وأتباعه ولم يمكنه أن يجزم بأن النبي عالم بما يقول معصوم عن الخطأ فيه فكيف وهو يقول إن النبي قد يقول ما يعلم خلافه فهو لا يستفيد بخبر النبي حقا البتة فكيف يتكلم في المعارضة التي هي فرع الاعتراف بصحة الدليل ولكن قد
    (26/367)
    ص -1161- عارضه غيره فيكون مقام هذا مقام منع لا مقام معارضة فإما أن يمنع كون النبي عالما بما يقول أو كونه جازما معصوما فيه أو كونه جاء بذلك أو كونه أراد به خلاف ما دل العقل بزعمه عليه وإلا فمع إقراره بذلك تستحيل المعارضة أن ترجع حقيقتها إلى أن ما جاء به حق وأنه باطل وهذا جمع بين النقيضين فثبت أن هذه الطريقة طريقة ممانعة لا طريقة معارضة وأن دعوى المعارض تستلزم الجمع بين النقيضين فمن لم يعلم أن الرسول معصوم صادق فيما يخبر به كيف تمكنه المعارضة ومن لم يعلم أنه جاء بكذا لم تمكنه المعارضة ومن لم يعلم أنه أراده بكلامه لم تمكنه المعارضة ومن علم هذه الأمور الثلاثة وأقر بها لم يمكنه المعارضة فبطلت دعوى المعارضة على التقريرين وبالله التوفيق يوضحه
    الوجه الخامس عشر بعد المائة: إن من عرف بطلان هذه المعقولات التي يعارض هؤلاء بها السمع امتنع عنده أن يحصل بها المعارضة لامتناع ثبوت المعارضة بين الحق والباطل ومن اعتقد صحتها فاعتقاد صحتها عنده ملزوم لبطلان السمع فيلزم من صحتها بطلانه وتمتنع المعارضة أيضا فالمعارضة ممتنعة على تقدير صحتها وفسادها.
    (26/368)
    ص -1162- الوجه السادس عشر بعد المائة: إن تجويز التعارض بين السمع والعقل والإيمان بالله ورسوله لا يمكن اجتماعها البتة فإن صحت المعارضة امتنع الإيمان وإن صح الإيمان امتنعت المعارضة فإن الإيمان مبناه على أن الرسول صادق فيما يخبر به عن الله معصوم في خبره وعلى أنه جاء بهذا الكتاب وعلى أنه أراد من الأمة أن يثبتوا حقائقه ويفهموه ويتدبروه ولا ينفوا حقائق ما أخبر به ويقروا بلفظه فلا يمكن وجود الأيمان بالرسول إلا بهذه الأصول الثلاثة فإذا جوزنا معارضة العقل الصريح لما جاء له لزم القدح والطعن فيها أو في بعضها والطعن في الأمرين الأولين مناقض للإيمان بالذات والطعن في الثالث يستلزم الطعن فيهما إذ غايته الاعتراف بأنه جاء بهذه الألفاظ ولم يجيء بحقائقها ومعانيها وهذا جحد لما أرسل به حقيقة فثبت أن الإيمان وهذه المعارضة لا يجتمعان أبدا يوضحه
    الوجه السابع عشر بعد المائة: وهو أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم إما أن تردوا هذه النصوص وتكذبوها وإما أن تصدقوها وتقبلوها والأول إلحاد وكفر ظاهر وإن قبلتموها فإما أن تعتقدوا أن الرسول أراد حقائقها ومعانيها المفهومة منها أولا فإن اعتقدتم أنه اراد حقائقها فإما أن تعتقدوا ثبوت تلك
    (26/369)
    ص -1163- الحقائق في نفس الأمر وانتفائها أو تشكون في الأمر ولا ريب أنه مع اعتقاد ثبوت تلك الحقائق تمتنع المعارضة وأنه مع الشك تمتنع المعارضة فلا تمكن المعارضة إلا على تقدير العلم بانتفاء تلك الحقائق في نفس الأمر وحينئذ فإذا أراد إفهامها فقد أراد إفهام خلاف الحق فإما أن توافقوه في مراده وتمنعوا تأويلها بما يخالف حقائقها لأنه مناقضة لمراده وإما أن توجبوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها ومعانيها المفهومة منها والأول يستلزم الإقرار على الباطل وإفهام أقبح الكذب وهو الكذب على الله واسمائه وصفاته وهذا يرجع على أصل الرسالة ومقصودها بالإبطال فلم يبق إلا التأويل ولا يمكنكم سلوك طريقه لأنكم تناقضون فيه أقبح التناقض.
    فإنكم إما تتأولوا الجميع وليس في المنتسبين إلى القبلة من يجوز ذلك ولا يمكنه وإما تتأولوا البعض دون البعض فيقال لكم ما الفرق بين ما جوزتم تأويله فصرفتموه عن حقيقته ومعناه الظاهر منه وبين ما أقررتموه على حقيقته? فإن قلتم ما يقوله جمهوركم أن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه.
    قيل لكم فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء فإنكم لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية
    (26/370)
    ص -1164- كما تقدم إذ غاية ما معكم نفي العلم بها وعدم العلم لا يستلزم عدم المعلوم وأيضا فمعقولات الناس ليست على حد واحد فهب أن معقولاتكم ليست تعارض ما أقررتموه فقد ادعى غيركم أن مقدماتكم التي عارضتم بها ما تأولتموه ومثلها وأيضا فعدم العلم بالمعارض العقلي القطعي لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي فإنكم إذا جوزتم على الرسول أن يقول قولا له معنى وهو لا يريده لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر ببال الخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك جاز أن يريد بما أقررتموه ما يخالف مقتضاه وعدم العلم بما يعارضه من العقليات لا يستلزم عدم المعارض في نفس الأمر وهذا مما لا جواب لكم عنه.
    فإن قلتم نتأول ما لا يعلم بالاضطرار أنه جاء به وأراده وما علم بالاضطرار أنه جاء به وأراد معناه أقررناه.
    قيل لكم فخصومكم من أهل الباطل يقولون لكم فيما أقررتموه نحن لم نعلم أنه جاء بهذا ولا أراد معناه كما قلتم أنتم فيما تأولتموه سواء فدعواكم من جنس دعواهم لا فرق بينهما فما الذي جعل قولكم أولى بالصواب من قولهم واتباع الرسول وحزبه العالمون بما جاء به الذين هم خاصته يعلمون بالاضطرار من دينه أنه جاء بما يخالف تأويلاتكم وتأويلات إخوانكم وتعلمون بالضرورة أنها مناقضة لما جاء به مناقضة ظاهرة ولا يدعون عليكم أنكم
    (26/371)
    ص -1165- تعلمون ذلك فإنكم لا علم لكم بما جاء به وأنتم من أبعد الناس عنه فإذا قلتم لا نعلم أنه جاء به صدقوكم في ذلك ولكن جهلكم بما جاء به وإعراضكم عنه لا يوجب مشاركتهم لكم في هذا الجهل فالمثبتون لعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكليمه لعبده موسى حقيقة منه إليه بلا واسطة كلاما أسمعه إياه وتكليم عباده في الآخرة وتكليمه ملائكته وإثبات صفاته ورؤية المؤمنين له في الجنة من فوقهم عيانا جهرة بأبصارهم يعلمون أن نبيهم جاء بذلك ضرورة كما أنه جاء بالوضوء والغسل من الجنابة والصلاة وصوم رمضان والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش فكيف تنكرون ذلك لعدم علمكم ولما علم أئمة هؤلاء وفضلاؤهم أن هذا لازم لا محالة صرحوا بأنه لا يستفاد من السمعيات علم ولا يقين إذ هي موقوفة على أمور عشرة ومنها نفي المعارض العقلي ولا سبيل إلى العلم بانتفائه وهذا أتم ما يكون من عزل الرسول عن موجب رسالته وبالله التوفيق.
    الوجه الثامن عشر بعد المائة: أن هؤلاء المعرضين عن الأدلة السمعية المعارضين لها إذا فعلوا ذلك لم يبق لهم إلا طريقان إما طريق النظار وهي الأدلة القياسية العقلية وإما طريق الكشف وما بدرك بالرياضة وصفاء الباطن وكل من هاتين
    (26/372)
    ص -1166- الطريقتين باطلة أضعاف حقه وفيها من التناقض والاضطراب والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد ولهذا تجد غاية من سلك الطريق الأولى الحيرة والشك وغاية من سلك الطريق الثانية الشطح فغاية أولئك عدم التصديق بالحق وغاية هؤلاء التصديق بالباطل وحال أولئك تشبه حال المغضوب عليهم وحال هؤلاء تشبه حال الضالين ونهاية أولئك التعطيل والنفي ونهاية هؤلاء الإلحاد والقول بالوحدة والاتحاد ولهذا لما وصل حذاقهم في طريقة النظر إلى آخرها ورأوا غوائلها وآفاتها ورأوها لا توصل إلى المطلوب الصحيح رجعوا إلى طريقة الوحي والآثار النبوية كما صرح به الرازي وابن أبي الحديد وأبو حامد وأبو المعالي وغيرهم واعترفوا في آخر الأمر أن الطرق كلها مسدودة إلا طريق الوحي والأثر.
    الوجه التاسع عشر بعد المائة: أن يقال لمن جوز مجيء الرسول بما يخالف صريح العقل ما تقول إذا سمعت كلامه قبل أن تعلم هل في العقل ما يخالفه أم لا? هل تبادر إلى رده وإنكاره? أم إلى قبوله واعتقاده? أم تتوقف فيه ولا تصدقه ولا تكذبه ولا تقبله ولا ترده? أم تعلق تصديقه والإقرار به على الشرط وتقول أنا أعتقد موجبه إن لم يكن في العقل ما يرده? فلا بد لك من واحد من هذه الأمور الأربعة فالأول والثالث والرابع مناقض للإيمان بالرسول مناقضة صريحة والثاني
    (26/373)
    ص -1167- لا سبيل لك إليه لأنك قد جوزت أن يكون في صريح العقل ما يناقض ما أخبر به فكيف تجزم مع ذلك بصحته فالقسم الإيماني قد سددت طريقه على نفسك والأقسام الثلاثة مستلزمة لعدم الإيمان وهذا إنما نشأ من تجويز أن يكون في العقل الصريح ما يناقض ما أخبر به يوضحه
    الوجه العشرون بعد المائة: أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول إلا بعد أن يقوم على صحته عنده دليل منفصل من عقل أو كشف أو منام أو إلهام لم يكن مؤمنا به قطعا وكان من جنس الذين قال الله فيهم {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام124] بل قد يكون هؤلاء خيرا منهم من وجه فإنهم علقوا الإيمان بأن يؤتوا سمعا مثل ما أوتيه الرسل وهؤلاء علقوا الإيمان على قيام دليل عقلي على صحة ما أخبروا به وإذا كان من فعل هذا ليس بمؤمن بالرسل فكيف من عارض ما جاءوا به بمعقوله ثم قدمه عليه
    الوجه الحادي والعشرون بعد المائة: إن حال هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل ضد حال أهل الإيمان من كل وجه فإن الله سبحانه أخبر عن أهل
    (26/374)
    ص -1168- الإيمان بأنهم كلما سمعوا نصوص الوحي زادتهم إيمانا وفرحا واستبشارا وأن الذين في قلوبهم مرض وريب يزيدهم رجسا إلى رجسهم ويودون أنها لم تنزل قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة125 , 124]. وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر إلى وجوه القوم وشمائلهم عند استماع آيات الصفات وأخبارها كيف تجدهم ورثة الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة127].
    وقال تعالى {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد36].
    وهؤلاء يسوءهم ما يخالف قواعدهم الباطلة مما أنزل إليه.
    (26/375)
    ص -1169- وقال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات15].
    وهؤلاء في أعظم الريب في أشرف ما جاء به الرسول ومن جوز أن يكون فيما أخبر به ما يعارضه صريح المعقول لم يزل في ريب من ثبوت ما أخبر به ولا يزال بنيانهم لتلك القواعد التي بنوها مما يعارض ما جاء به الرسول {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد19].
    وهؤلاء يرون أن أشرف ما أنزل إليه يخالفه صريح العقل وقال تعالى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ6].
    وهؤلاء يرون أن أشرف ما أنزل إليه وأجله يخالف المعقول ويهدي إلى التشبيه والتجسيم والضلال.
    (26/376)
    ص -1170- الوجه الثاني والعشرون بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين ولعلك تقول إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم فاسمع حكاية ألفاظهم قال الرازي في نهايته:
    فصل
    في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله وذكر القياس وذكر الإلزامات ثم قال والرابع هو التمسك بالسمعيات.
    وهذا تصريح بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة وأخذ في تقرير ذلك فقال المطالب على أقسام ثلاثة: منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع ومنها ما يستحيل حصول العلم بها إلا من السمع
    (26/377)
    ص -1171- ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى
    قال أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسول.
    قال وإما القسم الثاني فهو ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولم يدركه بشيء من حواسه فإن جلوس غراب على قلة جبل قاف إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقا وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلا وهو غائب عن الحس والنفس استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق.
    (26/378)
    ص -1172- وأما القسم الثالث وهو معرفة وجوب الواجبات أو إمكان الممكنات أو اسحتالة المستحيلات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها مثل مسألة الرؤية والصفات والوحدانية وغيرها ثم عدد أمثلة.
    ثم قال إذا عرفت ذلك فنقول إما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر وإلا وقع الدور وإما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف.
    وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي فإما أن نكذب بالعقل وإما أن
    (26/379)
    ص -1173- يأول النقل فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا بالعقل فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه فإذا لا يكون العقل مقطوع الصحة فإذا تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا وتعين تأويل النقل.
    فإذا الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب إلا إذا أثبتنا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا من وجهين إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي وحينئذ يصير الاستدلال بالنقل فضلا غير محتاج إليه.
    وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل
    (26/380)
    ص -1174- وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلا إلا أن نقول إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه ولو كنا زيفنا هذه الطريقة يعني انتفاء الشيء لانتفاء دليله أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الأخرى وحينئذ نحتاج إلى إقامة الدليل على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر.
    فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين لعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على ذلك فإذا الدليل النقلي تتوقف إفادته اليقين على مقدمة غير يقينية وهي عدم دليل عقلي وكل ما يبتنى صحته على مالا يكون يقينا لا يكون هو أيضا يقينا
    (26/381)
    ص -1175- فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدا لليقين.
    قال وهذا بخلاف الأدلة العقلية فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفي فيها بأن لا يعلم فسادها بل لا بد وأن يعلم بالبديهة صحتها أو يعلم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية.
    ثم قال فإن قيل إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل وإلا كان ذلك تلبيسا من الله تعالى وإنه غير جائز.
    قلنا هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح وأنه يجب على الله سبحانه شيء ونحن لا نقول بذلك ثم إن
    (26/382)
    ص -1176- سلمنا ذلك فلم قلتم إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبسا على المكلف لو أسمعه كلاما يمتنع عقلا أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره وليس الأمر كذلك لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر فعلى هذا إذا أسمع الله تعالى المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقدير تقصيرا واقعا من المكلف لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضع القطع فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبسا.
    قال فخرج ما ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية نعم يجوز التمسك
    (26/383)
    ص -1177- بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية انتهى.
    فليتدبر المؤمن هذا الكلام وليرد أوله على آخره وآخره على أوله ليتبين له ما ذكرنا عنهم من العزل التام للقرآن والسنة عن أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله وما يجب له وما يمتنع عليه وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل وأن الله تعالى يجوز عليه التلبيس والتدليس على الخلق وتوريطهم في طرق الضلال وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال وأن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته وقطعوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك إذ قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه فإن غاية ما يمكن أن يحتج بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قلة جبل قاف غرابا صنعته كيت وكيت أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد وأن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة الصحة ومقدمات أدلة أرسطو صاحب المنطق والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعية معلومة الصحة وأنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة السمعية في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته
    (26/384)
    ص -1178- البتة لتوقفها على انتفاء مالا طريق لنا إلى العلم بانتفائه وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فضلة لا يحتاج إليها بل هو مستغن عنه إذا كان موافقا للعقل.
    فتأمل هذا البنيان الذي بنوه والأصل الذي أصلوه هل في قواعد الإلحاد أعظم هدما منه لقواعد الدين وأشد مناقضة منه لوحي رب العالمين وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل وعند جميع أهل الملل.
    وهذه الوجوه المتقدمة التي ذكرناها هي قليل من كثير مما يدل على بطلانه ومقصودنا من ذكره اعترافهم به بألسنتهم لا بإلزامنا لهم به وتمام إبطاله أن نبين فساد كل مقدمة من مقدمات الدليل الذي عارضوا به النقل وأنها مخالفة للعقل كما هي مناقضة للوحي والله يعلم أنا عازمون على ذلك وبيانه على التفصيل في جميع أدلتهم إن ساعد التوفيق ويجب على كل مؤمن بالله ورسوله أن يعتقد ذلك جملة وإن لم يحط به تفصيلا ولا يضع قدمه في أول درجة من درجات الإيمان إلا بذلك والمقصود أن مناقضة هذا الأصل الإيمان بالله ورسوله كمناقضة أحد الضدين للآخر وبالله التوفيق.
    (26/385)
    ص -1179- الوجه الثالث والعشرون بعد المائة: أن يقال كل ما أخبر به الرسول عن الله سبحانه إثباتا ونفيا فهو واجب عليه وممتنع عليه أو ما أثبته له فهو كمال والكمال كله واجب له وما نفاه عنه فهو نقص والنقائص كلها ممتنعة عليه وقد صرح هؤلاء بأن ما يجب لله ويمتنع عليه لا تمكن استفادته من الرسول لأنه إن أخبر بما يخالفه العقل من ذلك لم يجز إثباته ولم يلتفت إلى خبره فيه وإن أخبر بما يدل عليه العقل كان الاستدلال بخبره فضلة غير محتاج إليها لا سيما وقد صرحوا بأنه ليس في حق الرب ما يمكن أن يوصف به ومالا يمكن بل إما واجب وإما محال والعلم بوجوب الواجبات واستحالة المحالات لا يتوقف على السمع ولا يحتاج إليه فيه وهذا تصريح بأنه لا يحتج بكلام الله ورسوله على شيء من هذه المسائل.
    ولا يصدق بشيء من خبر الرسول في ذلك لكونه أخبر به بل لكون العقل دل عليه وذلك يستلزم الكفر والإلحاد والزندقة وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق لأنه إذا جوز المجوز أن يكون في الأدلة العقلية التي يجب اتباعها ما يناقض ما أخبر الله به ورسوله من ذكر صفاته سبحانه وصفات ملائكته وعرشه والجنة والنار والمعاد والعقوبات التي أخبر بها عن الأمم والمعجزات التي أيد بها أنبياءه ورسله لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء كما أخبر
    (26/386)
    ص -1180- به الرسول إذا لم يعلم انتفاء المعارض ولا طريق له إلى ذلك إلا أن يحيط علما بكل ما يخطر ببال بني آدم في كل وقت مما يظن أنه دليل عقلي وهذا أمر لا ينضبط وليس له حد فلا تزال الشبه العقلية تتولد في نفوسهم تولد الوساوس والخطرات وحديث النفس وقد اعترف هؤلاء بأنه لا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض على التفصيل وحينئذ فلا يمكن الجزم بانتفاء المعارض أبدا فلا يمكن الجزم بشيء مما أخبر به الرسول أبدا إن لم يكن في العقل الصريح ما يقتضي ثبوته وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه.
    فهذا الأصل الباطل الجائر الظالم مستلزم للزندقة والإلحاد فمن طرده أداه إلى الكفر والنفاق والزندقة ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح ومن هذا دخلت الملاحدة والقرامطة والباطنية على كل فرقة من الطوائف الذين وافقوهم على هذا الأصل أو على بعض شعبه حتى إن من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى طرده إن أمكنهم وإلا رضوا منه بما وافقهم فيه.
    الوجه الرابع والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء يعيبون أهل السنة والحديث المتمسكين بها التاركين لما خالفها بالتقليد وإنما يأخذون ما يعتقدونه
    (26/387)
    ص -1181- مسلما من غير قيام برهان عقلي على اعتقاده فإن كان تمسكهم بكلام المعصوم تقليدا واقتداؤهم بآثار أصحابه تقليدا فهم لا ينكرون هذا التقليد ولا ينفرون عن عيبهم به ولكن العيب كل العيب تقليد المشركين وعباد الأصنام والمجوس والهند والصابئين عبدة الكواكب والملاحدة الذين لا يؤمنون بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر فإن مقدمات هذه الأدلة العقلية التي عارضوا بها النصوص وقدموها عليها متلقاة عن هؤلاء فخلفهم مقلدون لسلفهم إذا حاققتهم عليها وطلبت منهم البرهان على صحتها قال هكذا قال العقلاء أرباب المعقولات وسلفهم ليسوا فيها على بصيرة بل على خرص وحدس وتخمين فالسلف خراصون والخلف عمي مقلدون وإذا تأملها اللبيب العاقل الفطن وجدها مبنية على ألفاظ مجملة ومعاني مشتبهة حتى إذا استفسرتهم عن معانيها وفصلت مجملها تجدها دعاوى كاذبة تتضمن الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات فيجمعون بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين لاشتراكهما في بعض الصفات ويفرقون بين المثلين من كل وجه بالدعاوى الكاذبات ويثبتون الشيء وينفون لازمه وينفون الشيء ويثبتون ملزومه ويقدحون في الضروريات بالقضايا
    (26/388)
    ص -1182- الوهميات ويجعلون الذهني خارجا ويصفون الوجود الخارجي بما ينافي وجوده وواجب الوجود بما يجعله ممتنع الوجود ويجردون الماهية عن صفاتها التي لا تحقق إلا بها ثم يجعلون الصفة هي الذات ويجعلون العاقل والمعقول والعقل شيئا واحدا ويجعلون العلم هو نفس المعلوم والفعل هو عين المفعول وواجب الوجود الذي يمتنع عدمه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بغير شرط الذي يمتنع وجوده إلى أضعاف أضعاف ذلك من مقالاتهم التي هي عند من فهمها وعرف مضمونها ضحكة للعاقل تارة وأعجوبة له تارة ومغضبة له تارة.
    ومثل هذه المعقولات لو تصرف بها الرجل في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسدت التجارة والصناعة فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات رب البرية ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وإنما عظمت الشبهة بذلك بأن أقواما لهم نوع ذكاء يميزون به في أنواع من العلوم ولم تكن لهم خبرة بالأمور الإلهية كخبرتهم بتلك العلوم فخاضوا فيها بعقولهم وظنوا أنهم يبرزون فيها كما برزوا في تلك العلوم وظن المقلدون لهم ذلك أيضا فركب من ظنهم وظن مقلدهم اعتقادها والدعوة إليها وإساءة الظن بما خالفها ثم إنهم رأوا النصوص واقفة في طريقها فقاموا لها وقعدوا وجدوا في
    (26/389)
    ص -1183- دفعها واجتهدوا فتارة سطوا عليها بالتأويل وتارة نسبوا من تكلم بها إلى قصد التخييل ووقفوا بجهدهم في الصدور منها والأعجاز وقالوا لا مقام لك عندنا ولا عبور لك علينا وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز وتارة قالوا هذه أخبار آحاد والمسألة من المسائل العلمية.
    وإن كان قرآنا أو خبرا متواترا قالوا تلك أدلة لفظية معزولة عن إفادة العلم واليقين وغايتها إفادة الظن والتخمين وإن أعجزهم ذلك أو طال عليهم طريقه لجأوا إلى القانون المجتث لقواعد الإيمان الكفيل بالإلحاد والكذب والبهتان الذي جعلوه أصلا لتقديم آرائهم الباطلة على السنة والقرآن وقالوا قد تعارض العقل والنقل ولا سبيل إلى الجمع وتقديم النقل قدح في العقل فتعين تقديم العقل بهذا البرهان والمقصود أنك إذا حققت الأمر على هؤلاء المعارضين لم يكن عندهم إلا رجوع إلى تقليد أسلافهم الماضين.
    وقولهم هذه أمور عقلية قد صقلتها الأذهان منذ دهر وزمان وإذا دعوتهم إلى كتاب الله وسنة رسوله دعوك إلى قول أرسطو عابد الأوثان وإلى ما أصله من منطق اليونان وإن أحسنوا دعوك إلى أصول جهم بن صفوان وقول الجعد بن درهم معلم مروان الذي ضحى به خالد بن عبدالله
    (26/390)
    ص -1184- القسري يوم ذبائح القربان وإن زادوا في الإحسان دعوك إلى قول أبي الهذيل العلاف ويعقوب الشحام وإبراهيم النظام وأبي علي وأبي هاشم الجبائيين فإنهم تلقوا كلمات هؤلاء يدرسونها لا كدرس القرآن ويحاربون بها أهل العلم والإيمان ويحرفون بها التنزيل عن مواضعه إذا عجزوا عن اللي والكتمان وآخر أمرهم أن يصلوا إلى هكذا قال فلان وهكذا قال فلان فإذا ذكرت لهم الحجة الصحيحة التي يقبلها العقل وفطرة الإنسان قالوا كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل وأبي علي وابنه وأمثالهم أن يخفى عليهم مثل هذا وهم أهل العقل والحجة والبرهان هذا وهم يرون تعصبا وجهلا تقليد من {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ومن قام الدليل على عصمته وعلمه ومعرفته وصدق اللهجة منه
    (26/391)
    ص -1185- واللسان فما أشبههم بإبليس أبي الجان حين استكبر عن السجود لآدم ورضي أن يكون قوادا لأهل الفسوق والعصيان وما أشبههم بأعداء الرسول إذ أنفوا أن ينقادوا لرسول من نوع الإنسان ثم رضوا بعبادة الشيطان والأوثان والصلبان والنيران وسلكوا سبيل هؤلاء في تنزيه الرب تعالى عن صفات كماله خشية التجسيم والتشبيه المستلزم عندهم للنقصان ثم شبهوه بالناقصات بل بالمعدومات بل بالممتنعات التي لا تدخل تحت قضايا الإمكان فنزهوه خشية الحصر عن استوائه على عرشه الذي هو فوق جميع الأكوان ثم قالوا هو في كل مكان فيا للعقول أي الأمكنة أشرف وأجل أعرش الوحي أم الآبار والأنجاس والمواطن التي يرغب عن ذكرها كل إنسان فاسأل مقلب القلوب أن يثبت قلبك على دينه الذي أرسل به رسوله وأنزل به الفرقان وأن لا يزيغه بعد أن هداه عن سبيل الهدى والإيمان وقل اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان.
    الوجه الخامس والعشرون بعد المائة: أن الدين تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر وكل منهما نوعان مطلق ومقيد.
    (26/392)
    ص -1186- فالمقيد مثل أن يقول لا أصدقه إلا فيما علمت صحته بعقلي أو فيما يخالف عقلي أو وافقه فيه شيخي وإمامي وأصحاب مذهبي والمقيد من طاعة الأمر أن يطيعه فيما وافق حظه وهواه فإن جاء أمره بخلاف ذلك قدم حظه وهواه عليه فهذا غير مطيع للرسول في الحقيقة بل هو متبع لهواه كما أن ذاك غير مصدق له في الحقيقة بل إن وافق قوله عقله أو قول شيخه وإمامه ومتبوعه قبله لا لكونه قاله كما أن مطيعه فيما وافق هواه إنما هو متبع لما يحبه ويهواه فإن جاء الأمر بما يهواه فعله وإلا لم يفعله وهذا حال أكثر الناس وأحسن أحوال هؤلاء أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم} [الحجرات14].
    ثم ذكر وصف أهل الإيمان فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات15].
    فالتصديق والطاعة لا يكون إيمانا حتى يكون مطلقا فإذا تقيد فأعلى أحواله إن سلم من الشك أن يكون إسلاما ويكون صاحبه من عوام المسلمين لا من خواص المؤمنين.
    (26/393)
    ص -1187- الوجه السادس والعشرون بعد المائة: أن السمع حجة الله على خلقه وكذلك العقل فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركب فيهم من العقل وبما أنزل إليهم من السمع والعقل الصريح لا يتناقض في نفسه كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه وكذلك العقل مع السمع فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض ولكن تتوافق وتتعاضد وأنت لا تجد سمعا صحيحا عارضه معقول مقبول عند كافة العقلاء أو أكثرهم ولا تجده ما دام الحق حقا والباطل باطلا بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ويشهد ببطلانه وهذا يظهر بالامتحان في كل مسألة عورض فيها السمع بالمعقول ونحن نذكر من ذلك مثالا واحدا يعلم به ما عداه.
    فنقول قالت الفرقة الجامعة بين التجهم ونفي القدر معطلة الصفات المكذبة بالقدر صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه وقيام المعجزة موقوف على العلم بأن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة والعلم بذلك موقوف على الصحة بقبحه وعلى أن الله لا يفعل القبيح وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على العلم بأنه غني عنه عالم بقبحه والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله وغناه عنه موقوف على أنه ليس بجسم وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به وهي الصفات والأفعال ونفي ذلك موقوف على ما دل على حدوث
    (26/394)
    ص -1188- الأجسام والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث ومالا يخلو عن الحوادث لا يسبقها ومالا يسبق الحوادث فهو حادث وأيضا فإنها لا تخلو عن الأعراض والأعراض لا تبقى زمانين فهي حادثة فإذا لم تخل الأجسام عنها لزم حدوثها وأيضا فإن الأجسام مركبة من الجواهر الفردة والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثا مخلوقا.
    وأيضا فالأجسام متماثلة كل ما صح على بعضها صح على جميعها وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها قالوا وبهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسما وإمكان المعاد فلو بطل الدليل على حدوث الجسم بطل الدليل الدال على إثبات الصانع وصدق الرسول فصار العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوف على نفي الصفات والأفعال فإذا جاء في السمع ما يدل على إثبات الصفات والأفعال لم يمكن القول بموجبه ويعلم أن الرسول لم يرد إثبات ذلك لأن إرادته لإثباته تنافي تصديقه ثم إما أن يكذب الناقل وإما أن يتأول المنقول وإما أن يعرض عن ذلك جملة كافة ويقول لا نعلم المراد.
    فهذا أصل ما بنى عليه القوم دينهم وإيمانهم ولم يقيض
    (26/395)
    ص -1189- لهم من يبين لهم فساد هذا الأصل وبطلانه ومخالفته لصريح العقل بل قيض لهم من المنتسبين إلى السنة من وافقهم عليه ثم أخذ يشنع عليهم القول بنفي الصفات والأفعال وتكليم الرب لخلقه ورؤيته في الدار الآخرة وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا فأضحكهم عليه وأغراهم به ونسبوه إلى ضعف العقل والحشو والبله والمصيبة مركبة من عدوان هؤلاء وبغيهم وظلمهم وتقصير أولئك وموافقتهم لهم في الأصل ثم تكفيرهم وتبديعهم في القول بفروعه ولوازمه.
    وهذه الطريق من الناس من يظنها من لوازم الإيمان وأن الإيمان لا يتم إلا بها ومن لم يعرف ربه بهذه الطريق لم يكن مؤمنا به ولا بما جاء به رسوله وهذا يقوله الجهمية والمعتزلة ومتأخرو الأشعرية بل أكثرهم وكثير من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وكثير من أهل الحديث والصوفية ومن
    (26/396)
    ص -1190- الناس من يقول ليس الإيمان موقوفا عليها ولا هي من لوازمه وليست طريقة الرسل ويحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وإن لم يعتقد بطلانها وهذا قول أبي الحسن الأشعري نفسه فإنه صرح بذلك في رسالته إلى أهل الثغر وبين أنها طريقة خطرة مذمومة محرمة وإن كانت غير باطلة.
    ووافقه على هذا جماعة من أصحابه من أتباع الأئمة وقالت طائفة أخرى بل هي طريق في نفسها متناقضة مستلزمة لتكذيب الرسول لا يتم سلوكها إلا بنفي ما أثبته وهي مستلزمة لنفي الصانع بالكلية كما هي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله وهي مستلزمة لنفي المبدأ والمعاد فإن هذه الطريقة لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلا عن نفي علوه على خلقه ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها ولا تتم إلا بنفي أفعاله جملة وأنه لا يفعل شيئا البتة
    (26/397)
    ص -1191- إذ لم يقم به فعل وفاعل بلا فعل محال في بدائه العقول فلو صحت هذه الطريق نفت الصانع وصفاته وأفعاله وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له فأنتم تثبتون ذلك وتصرحون بنفي لوازمه البينة التي لا ريب في لزومها فتثبتون مالا حقيقة له بل ما يخالف العقل الصريح كما تنفون ما دل العقل الصريح على إثباته فهي مستلزمة لإنكار جميع الصفات والأفعال والعلو والكلام وذلك يستلزم نفي الرسالة فحقيقتها جحد الرسالة والمرسل ولوازمها الباطلة اكثر من مائة لازم لا تحصى إلا بكلفة فأول لوازمها نفي الصفات ونفي الأفعال ونفي العلو ونفي الكلام ونفي الرؤية.
    ومن لوازمها القول بخلق القرآن وبهذه الطريق استجيز ضرب الإمام أحمد لما قال بما يخالفها من إثبات الصفات وتكلم الله بالقرآن ورؤيته في الدار الآخرة وكان أرباب هذه الطريقة هم المستولين على الخليفة فقالوا له اضرب عنقه فإنه كافر مشبه مجسم فقيل له إنك إن قتلته ثارت عليك العامة ولم تأمن معرتهم فأمسكوا عن قتله لذلك بعد الضرب الشديد.
    (26/398)
    ص -1192- ومن لوازمه أن الرب تعالى كان معطلا عن الفعل من الأزل والفعل ممتنع عليه ثم انتقل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بغير موجب في ذلك الوقت دون ما قبله وهذا مما اعترى الفلاسفة بالقول بقدم العالم ورأوا أنه خير من القول بذلك بل حقيقة هذا القول أن الفعل لم يزل ممتنعا منه أزلا وأبدا إذ يستيحل قيامه به وعن هذه الطريق قال جهم ومن وافقه بفناء الجنة وفناء أهلها وعدمهم عدما محضا وعنها قال أبو الهذيل العلاف بفناء حركاتهم دون ذواتهم فإذا رفع أحدهم اللقمة إلى فيه وفنيت الحركات بقيت يده ممدودة لا تتحرك وتبقى كذلك أبد الآبدين وإذا جامع الحوراء وفنيت الحركات يبقيان كذلك في تلك الحال أبد الآبدين فيبقون في سكون الأحجار وعن هذه الطريق قالت الجهمية إن الله في كل مكان بذاته وقال إخوانهم ليس في العالم ولا خارج العالم ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مباينا له ولا محادثا له ولا فوقه ولا خلفه
    (26/399)
    ص -1193- ولا أمامه ولا وراءه وعنها قال من قال إن ما شاهده من الأعراض الثابتة كالأكوان والمقادير والأشكال تتبدل في كل نفس ولحظة ويخلفها غيرها حتى قال من قال إن الروح عرض وإن الإنسان يستحدث في كل ساعة عدة أرواح تذهب له روح وتجيء غيرها.
    وعنها قال من قال إن جسم أنتن الرجيع وأخبثه مماثل لجسم أطيب الطيب في الحد والحقيقة لا فرق بينهما إلا بأمر عرض وإن جسم النار مساو لجسم الماء في الحد والحقيقة.
    وعنها قالوا إن الروائح والأصوات والمعارف والعلوم تؤكل وتشرب وترى وتسمع وتلمس وإن الحواس الخمس تتعلق بكل موجود وعنها قالوا إن الله سبحانه لم يكلم موسى تكليما ولا اتخذ إبراهيم خليلا ولا تجلى للجبل ولا يتجلى لعباده يوم القيامة وقالوا ليس له وجه يراه المؤمنون ولا يد خلق بها آدم وكتب بها التوراة وغرس بها جنة عدن ويقبض بها السماوات والأرض بيد أخرى ليس بشيء من ذلك حقيقة إن هو إلا مجازات واستعارات وتخيلات وعنها قالوا إن الله لا يحب ولا يحب ولا يغضب ولا يرضى ولا يضحك
    (26/400)
    ص -1194- ولا يفرح ولا له رحمة ولا رأفة في الحقيقة بل ذلك كله إرادة محضة أو ثواب منفصل مخلوق سمي بهذه الأسماء وعنها قالوا إن الكلام معنى واحد باعلين لا ينقسم ولا يتبعض ولا له جزء ولا كل وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي والخبر عن كل مخبر عنه والاستخبار عن كل مستخبر عنه كل ذلك حقيقة واحدة بالعين وكذلك قالوا في العلم إنه أمر واحد فالعلم بوجود الشيء هو عين العلم بعدمه لا فرق بينهما البتة وإنما يتعدد التعلق وكذلك قالوا إن إرادة إيجاد الشيء هو نفس إرادة إعدامه ليس هنا إرادات وكذلك رؤية زيد هي نفس رؤية عمرو ومعلوم أن هذا لا يعقل بل هو مخالف لصريح العقل وهذا كله وأمثاله نشأ عن هذه الطريق واعتقاد صحتها.
    ومن العجب أنهم لم يثبتوا بها في الحقيقة صانعا ولا صفة من صفاته ولا فعلا من أفعاله ولا نبوة ولا مبدأ ولا معادا ولا حكمة بل هي مستلزمة لنفي ذلك كله صريحا أو لزوما بينا أو متوسطا فالطريق التي جعلوها أصلا للدين هي أصل المناقضة للدين وتكذيب الرسول. وجاء آخرون فراموا إثبات الصفات والأفعال
    (26/401)
    ص -1195- وموافقتهم في هذه الطريق فتجشموا أمرا ممتنعا واشتقوا طريقة لم يمكنهم الوفاء بها فجاءوا بطريقة بين النفي والإثبات لم يوافقوا فيها المعطلة النفاة ولم يسلكوا فيها مسلك أهل الإثبات فجاءت طريقا بين الطريقتين ومقالة بين المقالتين لم يكونوا فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء وظنوا أنهم بذلك يجمعون بين المعقول والمنقول ويصلون في هذه الطريق إلى تصديق الرسول وصار كثير من الناس يحب النظر والبحث والمعقول وهو مع ذلك يريد أن يخرج عما جاء به الرسول ويرى أن هذا المسلك أصح من مسلك أولئك النفاة وأنه لا طريق غير الطريقين وتلك لا سبيل إلى المصير إليها فتعين المصير إلى هذه الطريق ولما أصل هؤلاء هذا الأصل وجاءوا إلى تفصيله ظهر سر تاصيلهم في تفصيلهم ودل بطلان تفصيلهم على فساد تأصيلهم فإنهم أصلوا تأصيلا مستلزما لبطلان التفصيل ثم فصلوا تفصيلا دل على بطلان الأصل وفساده فصاروا حائرين بين التأصيل والتفصيل وصار من طرد منهم هذا الأصل خرج عن العقل والسمع بالكلية وبالغ في التعطيل والإلحاد ومن لم يطرده تناقض واضطربت أقواله وقد سلك الناس في إثبات الصانع وحدوث العالم طرقا متعددة سهلة قريبة موصلة إلى المقصود لم يتعرضوا فيها لطريقة هؤلاء بوجه وذموا هذه
    (26/402)
    ص -1196- الطريقة قال الخطابي وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم وفي الأعراض اختلاف كثير منهم من ينكرها ولا يثبتها رأسا ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر قلت ومنهم من يقول بكمونها وظهورها ومنهم من يقول بعدم بقائها ثم سلك طرقا في إثبات الصانع منها الاستدلال بأحوال الإنسان من مبدئه إلى غايته والاستدلال بأحوال الحيوان والنبات والأجرام العلوية وغير ذلك ثم قال والاستدلال بطريق الأعراض لا يصح إلا بعد استبراء هذه الشبه وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب قال وقد سلك بعض مشايخنا في هذا طريق الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة التي دلائلها مأخوذة من طرق الحس لمن شاهدها
    (26/403)
    ص -1197- ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعى إليه النبي قال وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لم يتسع فهمه لإدراك وجوه الأدلة ولم يتبين معاني تعلق الأدلة بمدلولاتها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها قلت وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة ا لعقلية الصريحة بمدلولاتها فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل ودلالتها ضرورية بنفسها ولهذا يسميها الله سبحانه آيات بينات وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها فإن انقلاب عصا تقلها اليد ثعبانا عظيما يبتلع ما يمر به ثم يعود عصا كما كانت من أدل الدليل على وجود الصانع وحياته وقدرته وإرادته وعلمه بالكليات والجزئيات وعلى رسالة الرسول وعلى المبدأ والمعاد فكل قواعد الدين في هذه العصا وكذلك اليد وفلق البحر طرقا والماء قائم بينهما كالحيطان ونتق الجبل من موضعه ورفعه على قدر العسكر العظيم
    (26/404)
    ص -1198- فوق رؤوسهم وضرب حجر مربع بعصا فتسيل منه إثنتا عشرة عينا تكفي أمة عظيمة وكذلك سائر آيات الأنبياء فإخراج ناقة عظيمة من صخرة تمخضت بها ثم انصدعت عنها والناس حولها ينظرون وكذلك تصوير طائر من طين ثم ينفخ فيه النبي فينقلب طائرا ذا لحم ودم وريش وأجنحة يطير بمشهد من الناس وكذلك إيماء الرسول إلى القمر فينشق نصفين بحيث يراه الحاضر والغائب فيخبر به كما رآه الحاضرون وأمثال ذلك مما هو من أعظم الأدلة على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر وهذه من طرق القرآن التي أرشد إليها عباده ودلهم بها كما دلهم بما يشاهدونه من أحوال الحيوان والنبات والمطر والسحاب والحوادث التي في الجو وفي الأرض وأحوال المعلومات من السماء والشمس والقمر والنجوم وأحوال النطفة وتقلبها طبقا بعد طبق حتى صارت إنسانا سميعا بصيرا حيا متكلما عالما قادرا يفعل الأفعال العجيبة ويعلم العلوم العظيمة فكل طريق من هذه الطرق أصح وأقرب وأسهل وأوصل من طرق المتكلمين التي لو صحت لكان فيها من التطويل والتعقيد والتعسير ما يمنع الحكمة الإلهية والرحمة الربانية أن يدل بها عباده عليه وعلى صدق رسله وعلى اليوم الآخر
    (26/405)
    ص -1199- فأين هذه الطريق الطويلة العسرة الباطلة المستلزمة لتعطيل الرب عن صفاته وأفعاله وكلامه وعلوه على خلقه وإنكار وجهه الأعلى ويديه الكريمتين ورؤيته في الدار الآخرة وسائر ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله إلى طرق القرآن التي هي ضد هذه الطريق من كل وجه وكل طريق منها كافية شافية هادية وإن صرفها الله لعباده ونوعها: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال42].
    هذا وإن القرآن وحده لمن جعل الله له نورا أعظم آية ودليل وبرهان على هذه المطالب وليس في الأدلة أقوى ولا أظهر ولا أصح دلالة منه من وجوه متعددة جدا كيف وقد أرشد ذوي العقول والألباب فيه إلى أدلة هي للعقل مثل ضوء الشمس للبصر لا يلحقها إشكال ولا يغير في وجه دلالتها إجمال ولا يعارضها تجويز واحتمال تلج الأسماع بلا استئذان وتحل من العقول محل الماء الزلال من الصادي الظمآن فضلها على أدلة أهل العقول والكلام كفضل الله على الأنام لا يمكن أحدا أن يقدح فيها قدحا يوقع في اللبس إلا إن أمكنه أن يقدح بالظهيرة صحوا في طلوع الشمس ومن عجيب شأنها أنها تستلزم المدلول استلزاما
    (26/406)
    ص -1200- بينا وتنبه على جواب المعترض تنبيها لطيفا ففيها إقامة الدلالة والجواب عن المعارضة والشبهة وهذا الأمر إنما هو لمن نور الله بصيرته وفتح عين قلبه لأدلة القرآن وآتاه فهما في كتابه فلا يعجب من منكر أو معترض أو معارض.
    وقل للعيون العمي للشمس أعين سواك تراها في مغيب ومطلع
    وسامح نفوسا أطفأ الله نورها بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
    فأي دليل على الله سبحانه أصح من الأدلة التي تضمنها كتابه كقوله: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض} [إبراهيم10] وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة28].
    وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة22 , 21].
    (26/407)
    ص -1201- وقوله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة164].
    وقوله {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس32 , 31].
    وقوله {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد2]. {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد4 , 3].
    (26/408)
    ص -1202- وقوله {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية 3-6].
    وقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم20 -25]. وقوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً
    (26/409)
    مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ
    (26/410)
    ص -1203- كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف9-14]. وقوله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل59 , 64].
    وقوله {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
    (26/411)
    ص -1204- وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف54]. وقوله {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف57]. وقوله {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [يس33 -44 ].
    (26/412)
    ص -1205- وقوله {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق7-5].
    وقوله {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثم شققنا الأرض شقا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس31-24].
    وقوله {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ16-6] إلى أضعاف أضعاف ذلك كما ذكر في سورة ق والذاريات والطور والرحمن والمرسلات وسورة إبراهيم والحجر والنحل فتأمل أدلة سورة النحل من أولها إلى قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل83].
    وما ذكر في سورة لقمان والسجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى
    (26/413)
    ص -1206- الأِنْسَانِ} وآخر الغاشية وسورة البلد والشمس وضحاها وما ذكر في سورة الأنعام وسورة الصافات وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان من الأدلة التي هي للبصائر كالشمس للأبصار فأبى المتكلمون إلا دليل الجواهر والأعراض والحركة والسكون والاجتماع والافتراق ولعمر الله لم يزل إيمان الخلق صحيحا حتى حدثت هذه الأدلة المبتدعة الباطلة فأوقعت الأمة في العناء الطويل وفرقت الكلمة وعارضت بين العقل والوحي وألقت بينهم العداوة والتباغض والتلاعن حتى استحل بعضهم من بعض ما لم يستحل مثلها المحاربون للإسلام وأهله وحتى فتح على النصوص باب التحريف والتأويل ورميت بأنها أدلة لفظية لا تفيد اليقين وساءت ظنون أتباع هؤلاء بوحي رب العالمين وهذا كله ببركة هذه الطريق المخالفة للسمع والعقل فالله سبحانه نهج لعباده الطريق الموصلة إلى معرفته والإقرار بأسمائه وصفاته وأفعاله فأعرض عنها هؤلاء واشتقوا طريقا موصلة إلى تعطيل الخالق ونفي أسمائه وصفاته وأفعاله وقالوا للناس لا يتم إيمانكم ومعرفتكم بالصانع إلا بهذه الطريق فلما سلكها من سلكها أدت به إلى ما أسره الحيرة والشك والتأويل والتجهيل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
    انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله الوجه السابع والعشرون بعد المائة
    (26/414)
    الصواعق المرسلة - الجزء الرابع
    الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان (تابع)
    (27/1)
    ص -1207- الوجه السابع والعشرون بعد المائة: إن هذه المعارضة بين الوحي والعقل نتيجة جهلين عظيمين جهل بالوحي وجهل بالعقل.
    أما الجهل بالوحي فإن المعارض لم يفهم مضمونه وما دل عليه بل فهم منه خلاف الحق الذي دل عليه وأريد به ثم عارض ما دل عليه بالرأي والمعقول ونحن ننزل معه درجة ونبين أن المعقول الذي ذكره لا يصلح لمعارضة المعنى الباطل الذي فهمه من الوحي فضلا عن المعنى الصحيح الذي دل عليه الوحي فإنه يستحيل أن يعارض معارضة صحيحة البتة بل هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال والله تعالى هو الحق وكلامه حق ورسوله حق ودينه حق ووحيه حق وما خالف ذلك فهو الباطل المحض الذي لا يقوم على صحته دليل بل الأدلة الصحيحة التي تنتهي مقدماتها إلى الضروريات تدل على بطلانه.
    وأما الجهل بالعقل فإنه لا يتصور أن يعارض العقل الصحيح الوحي أبدا ولكن الجاهل يظن أن تلك الشبهة عقلية وهي جهلية خيالية من جنس شبه السوفسطائية فالحاصل أنه إن عارض ما فهمه من النص بما هو الباطل كان جاهلا بالوحي ومدلوله وإن عارض مدلوله وحقيقته
    (27/2)
    ص -1208- التي دل عليها فهو جاهل بالعقل فلا يتصور أن يجتمع لهذا المعارض علم بالوحي والعقل أصلا بل إما أن يكون جاهلا بهما وهو الأغلب على هؤلاء أو بأحدهما ولسنا ندفع معرفتهم ببعض العقليات المشتركة بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وعباد الأصنام بل ولا ندفع تبريزهم فيها وحذقهم بها وإنما نبين بالبراهين الواضحة أنهم من أجهل الناس بالعقليات المتعلقة بأسماء الرب وصفاته وأفعاله كما هم جهال بوحيه وبما جاءت به رسله وقد نفى الله سبحانه السمع والعقل عمن أعرض عن رسله فكيف بمن عارض ما جاءوا به وأخبر سبحانه أنه لا بد أن يظهر لهم في معادهم أنهم لم يكونوا من أهل السمع ولا من أهل العقل.
    الوجه الثامن والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين كما تقدم هم صنفان ملاحدة دهرية ومعطلة جهمية والملاحدة الدهرية أصل معارضتهم تكذيب الرسل والطعن فميا جاءوا به فهم خصوم الرسل في الأصل وهؤلاء الجهمية المعطلة قولهم مأخوذ من قول أولئك بعينه وطريقتهم مشتقة من طريقتهم بل كلماتهم واحدة ولكن أولئك سلكوا المعارضة بين العقل ونفس الرسالة وهؤلاء سلكوا المعارضة بين العقل وبين أشرف ما جاءت به الرسل وأفضله وأجله فتأمل موافقة الجهمية لفرعون خصم موسى وعدوه فإنه
    (27/3)
    ص -1209- أنكر الصانع وهؤلاء وافقوه على إنكار صفاته وأقروا بصانع لا صفة له ولا فعل ولهذا قال بعض الأئمة كان فرعون أعقل من هؤلاء فإنهم اشتركوا في مخالفة صريح العقل وتناقضت الجهمية فقالوا هو صانع للعالم من غير صنع يقوم به ولا وصف ولا مباينة للعالم ولا دخول فيه وجحد فرعون أن يكون الله فوق سماواته على عرشه وكذب موسى في ذلك ووافقته الجهمية على هذا النفي وبهذا احتج عليهم الأشعري في كتبه كلها والقاضي أبو بكر وأبو عمر بن عبدالبر وجمهور أئمة السنة وأنكر فرعون أن يكون الله كلم موسى ووافقه الجهمية على ذلك وأنكر أعداء الرسل من المشركين عباد الأصنام والكواكب والفلاسفة وغيرهم معاد الأبدان وخراب العالم وحقيقة الجنة والنار ووافقهم ابن سينا وأتباعه على ذلك وأخذ الجهمية بعض هذا الإنكار فقالوا تفنى الجنة والنار وهذا قول شيخهم جهم وكلهم أنكروا أشرف ما في الجنة وأجل نعيمها وأفضله على الإطلاق الذي ما طابت الجنة إلا به وهو النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى من فوقهم وسماع كلامه وتسليمه عليهم وخطابه لهم بل هذا حقيقة الجنة ورأس نعيمها فنفوه وكذبوا به وأثبتوا أكلا وشربا وجماعا ثم قالوا بنفاده وانقطاعه وهذا باب إذا
    (27/4)
    ص -1210- الوجه التاسع والعشرون بعد المائة: أن الكلام في الدين نوعان أمر وخبر فما عارض الأمر كان من باب الهوى الذي يأمر به الشيطان والنفس وما عارض الخبر كان من باب الظن والخرص الذي هو أكذب الحديث وهؤلاء لا تجدهم إلا وقد جمعوا بين الأمرين فهم في الإرادات تابعون لأهوائهم وفي الاعتقادات تابعون لظنونهم قال الله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم23].
    وقال تعالى {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُو} [التوبة69].
    (27/5)
    ص -1211- فالاستمتاع بالخلاق اتباع الهوى والشهوات والخوض اتباع الباطل والشبهات وقد نزه سبحانه رسوله عن طريقة هؤلاء فقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم2 , 1].
    فنزهه عن الضلال الذي هو نقيض الهدى وعن الغي الذي هو نقيض الرسد وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خلفائه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" والمقصود أن ما ناقض خبر الرسل كان كذبا وضلالا وقولا على الله غير الحق وقد نهى الله سبحانه
    (27/6)
    ص -1212- أن يقال عليه غير الحق وأخذ الميثاق على اتباع الرسل بذلك فقال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقّ} [الأعراف169] وقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء171] وأخبر سبحانه أنه لا بد أن ينال المفترين غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وأعظم الافتراء الفرية عليه سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب أهل الافتراء ولا يهديهم وأنه يستحتهم بعذابه أي يستأصلهم قال تعالى إخبارا عن كليمه موسى أنه قال لرؤوس المعطله وأئمتهم: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه62] وهذه الأصول التي عارضوا بها الكتاب والسنة تشتمل على الكذب والفرية في مسائلها ودلائلها كأصول الملاحدة من الفلاسفة والدهرية النافين لما أخبر الله به من
    (27/7)
    ص -1213- أصول الإيمان الخمسة وأصول الجهمية المناقضة لما أخبر به من اسمائه وصفاته وأفعاله وأصول القدرية المعارضة لما أخبر به من عموم قدرته ومشيئته وأصول الملاحدة الاتحادية التي رفعت العقل والنقل والحس وأبطلت الخلق والأمر والنبوة والرسالة الثواب والعقاب وأصول هؤلاء كلهم أصول الزندقة والاتحاد المناقضة للعقل والدين.
    الوجه الثلاثون بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين لا يتم لهم ما ادعوه من المعارضة إلا بأربعة أمور يستلزمها قولهم لبس الحق بالباطل فهذه أربعة مقامات تتضمنها أصولهم بل هذه الأربعة هي قواعدهم التي يبنون عليها أما لبس الحق بالباطل فأنتم تسمون ما أثبته الله لنفسه من الصفات والكلام والعلو والاستواء تركيبا وتجسيما وتشبيها وتسمون عرشه حيزا واستواءه عليه تحيزا وتسمون صفاته أعراضا وتنزهونه عنها وأفعاله حوادث وتنفونها عنه وحكمته أغراضا وتبطلونها ووجهه الكريم ويديه حوارح وينكرونها ويسمون نفيهم وتعطيلهم تنزيها وتقديسا وتوحيدا فيلتبس الحق بالباطل على من لم يعرف مرادهم من هذا التنزيه والتوحيد
    (27/8)
    ص -1214- والتقديس ولا من ذلك التجسيم والتشبيه والتمثيل فإذا وقعوا في هذا اللبس والتلبيس ترتب عليه ضرورة كتمان الحق والتكذيب به والتصديق بالباطل ولهذا جعل سبحانه كل اثنين من هذه الأربعة فريقين أما لأولان فقال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة42] وقد اختلف في قوله {وَتَكْتُمُوا} هل هو منصوب أو مجزوم على قولين مبنيين على الواو هل هي واو عطف أو واو صرف فمن جعلها واو عطف قال النهي تعلق بكل واحد من الأمرين على انفراده ولو كانت واو صرف لكان المنهي عنه جمعهما لا أفرادهما ومن جعلها واو صرف قال لبس الحق بالباطل مستلزم لكتمانه كما يكتم الحق من لبسه بما يستره ويغشيه فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فالنهي عن أحدهما نهي عن الآخر بطريق اللزوم ففي كون الواو واو جمع إفادة هذا المعنى وإن كتمان الحق ملازم للبسه بالباطل لا ينفك عنه ولا يمكن إيقاع أحدهما إلا بالآخر وهذا شأن كل متلازمين وهذا القول أميز من الأول وأعرب وأما القرينان الآخران فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت52].
    (27/9)
    ص -1215- وقال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت68].
    وقال {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [الزمر32].
    وهذان أيضا متلازمان فكل من صدق بالباطل كذب بضده وهو الحق وإذا عرف هذا فما أثبته الله لنفسه من صفاته وكلامه وتكليمه واستوائه على عرشه وعلوه على خلقه هو الحق عقلا وسمعا وما خالفه هو الباطل والله سبحانه قد فصل لنا هذا من هذا ولم يدعه ملتبسا. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال42].
    فلبس النفاة المعطلة هذا بهذا فاضطرهم اللبس إلى كتمان الحق والتكذيب به والتصديق بضده وإذا أردت معرفة هذا فامتحنه في مسائلهم ودلائلهم وكلماتهم المجملة الألفاظ المشتبهة المعاني وبالله التوفيق يوضحه:
    (27/10)
    ص -1216- الوجه الحادي والثلاثون بعد المائة: أنه ما من حق وباطل إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه ولو في أصل الوجود أو في أصل الإخبار أو في مجرد المعلومية بأن يكون هذا معلوما مذكورا وهذا معلوما مذكورا ولكل واحد منهما خصائص يتميز بها عن الآخر فأحظى الناس بالحق وأسعدهم به الذي يقع على الخصائص المميزة الفارقة ويلغي القدر المشترك فيحكم بالقدر الفارق على القدر المشترك ويفصله به وأبعدهم عن الحق والهدى من عكس هذا السير وسلك ضد هذه الطريق فألغى الخصائص الفارقة وأخذ القدر المشترك وحكم به على القدر الفارق وأضل منه من أخذ خصائص كل من النوعين فأعطاها للنوع الآخر فهذان طريقا أهل الضلالة اللتان يرجع إليهما جميع شعب ضلالهم وباطلهم مثال ذلك أن أعداء الرسل المكذبين لهم الجاحدين لما جاءوا به من الحق لما أرادوا تلبيس الحق الذي جاءوا به بالباطل أخذوا بينه وبين الباطل قدرا مشتركا ثم ألغوا القدر الفارق وما اختص به أحد النوعين فقالوا هذا الرسول شاعر وكاهن ومجنون وطالب ملك ورياسة وصيت في العالم فأخذوا قدرا مشتركا بين الشعر وبين كلامه الذي جاء به من الترغيب والترهيب وحسن التعبير عن المعاني باللفظ الذي يروق المسامع ويهز القلوب ويحرك النفوس فقالوا هو شاعر وهذا شعر وضربوا عن الخصائص الفارقة صفحا وقالوا هو كاهن لأن الكاهن كان عندهم معروفا بالإخبار عن الأمور الغائبة التي لا يخبر بها غيره وكذلك
    (27/11)
    ص -1217- هذا المدعي لذلك مثله وقالوا مجنون لأن المجنون يقول ويفعل خلاف ما اعتاده الناس وقالوا ساحر لأن الساحر يأخذ بالقلوب والعيون ويحبب تارة وينفر أخرى ولهذا قال لهم الوليد بن المغيرة وقد سألوه ماذا يقولون للناس في أمر محمد ففكر وقدر ورأى أن أقرب ما يقولون هو ساحر لأنه يفرق بين المرء وزوجه ومحمد يفعل ذلك فإن المرأة إذا أسلمت دون زوجها أو اسلم زوجها دونها وقعت الفرقة بينهما والعداوة.
    وكذلك قولهم عن القرآن أساطير الأولين أخذوا قدرا مشتركا بينهما وهو جنس الإخبار عما أخبر عنه الأولون وهكذا قولهم هو طالب ملك ورياسة وصيت والمقصود أن كل مبطل فإنه يتوصل إلى باطله بهذه الطريق ثم يلبس ما يدعو إليه خصائص الحق وما ينفر عنه خصائص الباطل وهذا شأن الساحر فكلامه يخرج الحق في صورة الباطل فينفر عنه والباطل في صورة الحق فيرغب فيه إذا عرف هذا فهؤلاء أخذوا قدرا مشتركا بين ما أثبته الله لنفسه من الصفات والأفعال وبين ما للمخلوقين من ذلك وحكموا بذلك القدر المشترك على خصائص الرب سبحانه ثم ألغوا حكم تلك الخصائص واعتبارها ثم جعلوا
    (27/12)
    ص -1218- حكمها حكم خصائص المخلوقين فأخطأوا من أربعة أوجه مثاله أنهم أخذوا قدرا مشتركا بين اليد القديمة والحادثة ثم حكموا بما فهموه من ذلك القدر المشترك على القديمة ثم ألغوا القدر الفارق بين اليد واليد ثم جعلوا خصائص أحدهما هي خصائص الأخرى واعتبر هذا منهم في كل صفة يريدون نفيها يوضحه:
    الوجه الثاني والثلاثون بعد المائة: إنك إذا أخذت لوازم المشترك والمميز وميزت هذا من هذا صح نظرك ومناظرتك وزال عنك اللبس والتلبيس وذلك أن الصفة يلزمها لوازم من حيث هي هي فهذه اللوازم يجب إثباتها ولا يصح نفيها إذ نفيها ملزوم كنفي الصفة مثاله الفعل والإدراك للحياة فإن كل حي فعال مدرك وإدراك المسموعات بصفة السمع وإدراك المبصرات بصفة البصر وكشف المعلومات بصفة العلم والتمييز لهذه الصفات فهذه اللوازم ينتفي رفعها عن الصفة فإنها ذاتية لها ولا يرتفع إلا برفع الصفة ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة للقديم مثل كونها واجبة قديمة عامة
    (27/13)
    ص -1219- التعلق فإن صفة العلم واجبة لله قديمة غير حادثة متعلقة بكل معلوم على التفصيل وهذه اللوازم منتفية عن العلم الذي هو صفة للمخلوق ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة له مثل كونها ممكنة حادثة بعد أن لم تكن مخلوقة غير صالحة للعموم مفارقة له فهذه اللوازم يستحيل إضافتها إلى القديم واجعل هذا التفصيل ميزانا لك في جميع الصفات والأفعال واعتصم به في نفي التشبيه والتمثيل وفي بطلان النفي والتعطيل واعتبره في العلو والاستواء تجد هذه الصفة يلزمها كون العالي فوق السافل في القديم والحديث فهذا اللازم حق لا يجوز نفيه ويلزمها كون السافل حاويا للأعلى محيطا به حاملا له والأعلى مفتقر إليه وهذا في بعض المخلوقات لا في كلها بل بعضها لا يفتقر فيه الأعلى إلى الأسفل ولا يحويه الأسفل ولا يحيط به ولا يحمله كالسماء مع الأرض فالرب تعالى أجل شأنا وأعظم أن يلزم من علوه ذلك بل لوازم علوه من خصائصه وهي حمله
    (27/14)
    ص -1220- للسافل وفقر السافل إليه وغناه سبحانه عنه وإحاطته عز وجل به فهو فوق العرش مع حمله العرش وحملته وغناه عن العرش وفقر العرش إليه وإحاطته بالعرش وعدم إحاطة العرش به وحصره للعرش وعدم حصر العرش له وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق وأصحاب التلبيس واللبس لا يميزون هذا التمييز ولا يفصلون هذا التفصيل ولو ميزوا وفصلوا لهدوا إلى سواء السبيل وعلموا مطابقة العقل الصريح للتنزيل ولسلكوا خلف الدليل ولكن فارقوا الدليل وضلوا عن سواء السبيل.
    الوجه الثالث والثلاثون بعد المائة: إن الأصل الذي قادهم إلى النفي والتعطيل واعتقاد المعارضة بين العقل والوحي أصل واحد هو منشأ ضلال بني آدم وهو الفرار من تعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه الدالة على صفاته وقيام الأمور المتجددة به وهذا لا محذور فيه وهو الحق الذي لا يثبت كونه سبحانه ربا وإلها وخالقا إلا به ونفيه جحد للصانع بالكلية وإنكار له وهذا القدر لازم لجميع طوائف أهل الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم حتى لمن جحد الصانع بالكلية وأنكره رأسا فإنه يضطر إلى الإقرار بذلك وإن قام عنده ألف شبهة
    (27/15)
    ص -1221- أو أكثر على خلافه أما من أقر بالصانع فإنه مضطر إلى أن يقر بكونه حيا عالما قادرا مريدا حليما فعالا ومع إقراه بهذا فقد اضطر إلى القول بتعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه وأفعاله فلو تكثرت بعد ما تكثرت لم يلزم من تكثرها وتعددها محذور بوجه من الوجوه وإن قال أنا أنفيها جملة ولا أثبت تعددها بوجه فقيل له فهل تثبته موجودا أم لا فإن قال أثبته موجودا قيل له فهو هذه الموجودات أم غيرها فإن قال غيرها قيل له فهل هو خالقها أم لا فإن قال هو خالقها قيل له فهل هو قادر عليها عالم بها مريد لها أم لا فإن قال نعم هو كذلك اضطر إلى تكثر صفاته وتعددها وإن نفى ذلك كان جاحدا للصانع بالكلية نافيا له فيستدل عليه بما يستدل على الزنادقة الدهرية المنكرين لربهم تعالى ويقال له ما قالت الرسل لأممهم {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم10].
    وهل يستدل عليه بدليل هو أظهر للعقول من إقرارها به وبربوبيته
    وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
    (27/16)
    ص -1222- وإن قال أنا أثبته موجودا واجب الوجود لا صفة له قيل له بل زعمت أنه معدوم ممتنع الوجود وكل موجود محقق أو مقدر أكمل منه على هذا التقدير فضلال اليهود والنصارى وعباد الأصنام أعرف به منك وأقرب إلى الحق والصواب منك وأما فرارك من قيام الأمور المتجددة به ففررت من أمر لا يثبت كونه إلها وربا وخالقا إلا به ولا يتقدر كونه صانعا لهذا العالم مع نفيه أبدا وهو لازم لجميع طوائف أهل الأرض على اختلافهم حتى للفلاسفة الذين هم أبعد الخلق من إثبات الصفات والأفعال هو لازم لهم لزوما لا انفكاك لهم عنه ولهذا قال بعض عقلاء الفلاسفة إنه لا يتقرر كونه ربا للعالمين إلا بإثبات ذلك ثم قال والإجلال من هذا الإجلال واجب والتنزيه من هذا التنزيه متعين قال بعض أهل العلم وهذه المسألة تقوم عليها رتب من ألف دليل عقلي وسمعي والكتب الإلهية والنصوص النبوية ناطقة بذلك وإنكاره لما علم بالضرورة من دين الرسل أنهم جاءوا به ونحن نقول إن كل سورة من سور القرآن تتضمن إثبات هذه المسألة وفيها أنواع من الأدلة عليها فأدلتها تزيد على عشرة آلاف دليل.
    فأول سورة من القرآن تدل عليها من وجوه كثيرة وهي سورة أم الكتاب فإن قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل عليها فإنه
    (27/17)
    ص -1223- سبحانه يحمد على أفعاله كما حمد نفسه عليها في كتابه وحمده عليها رسله وملائكته والمؤمنون من عباده فمن لا فعل له البتة كيف يحمد على ذلك فالأفعال هي المقتضية للحمد ولهذا نجده مقرونا بها كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف43] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر1]
    الثاني: قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه وتدبيره له ونفاذ أمره كل وقت فيه وكونه معه كل ساعة في شأن يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويصرف الأمور بمشيئته وإرادته وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه.
    الثالث: قوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وهو الذي يرحم بقدرته ومشيئته من لم يكن راحما له قبل ذلك.
    الرابع: قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} والملك هو المتصرف فيما هو ملك عليه ومالك له من لا تصرف
    (27/18)
    ص -1224- له ولا يقوم به فعل البتة لا يعقل له ثبوت ملك ولا مالك.
    الخامس: قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهذا سؤال لفعل يفعله بهم لم يكن موجودا قبل ذلك وهو الهداية التي هي فعله فيترتب عليها الاهتداء الذي هو مطاوع وهو فعلهم.
    السادس: قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ونعمته عليهم وفعله القائم به وهو الإنعام فلو لم يقم به فعل الإنعام لم يكن للنعمة وجود البتة.
    السابع: قوله {عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم الذين غضب الله عليهم بعدما أوجدهم وقام بهم سبب الغضب فالغضب على المعدوم محال وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن العبد إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول الله: حمدني عبدي فإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقول الله: أثنى علي عبدي فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله مجدني عبدي فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذه بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي فإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها قال الله: هذا
    (27/19)
    ص -1225- لعبدي ولعبدي ما سأل" فهذه أدلة من الفاتحة وحدها فتأمل أدلة الكتاب العزيز بعد على هذا الأصل تجدها فوق عد العادين وإحصاء المحصين حتى أنك تجد في الآية الواحدة على اختصار لفظها عدة أدلة كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس82] ففي هذه الآية عدة أدلة:
    أحدها: قوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ} وهذا أمر التكوين الذي لا يتأخر عنه أمر الكون بل يعقبه
    الثاني: قوله {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} وإذا تخلص الفعل للاستقبال
    الثالث: قوله {أَنْ يَقُولَ لَهُ} وإن تخلص المضارع للاستقبال
    الرابع: أن يقول فعل مضارع إما للحال وإما للاستقبال
    الخامس: قوله {كُنْ} وهما حرفان سبق أحدهما الآخر ويتعقبه الثاني
    (27/20)
    ص -1226- السادس: قوله {فَيَكُونُ} والفاء للتعقيب يدل على أنه يكون عقيب قوله له كن سواء لا يتأخر عنه السابع أن قوله {كُنْ} تكوين قائم به سبحانه والكون قد تعقبه ولم ينزح عنه وقوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}[الأعراف143] فهو سبحانه إنما كلمه ذلك الوقت وقوله {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم52] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ} [القصص62] وقوله {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف22] فالنداء إنما حصل ذلك الوقت وقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة210] {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر22] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف54] {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء16] {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج16] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة185] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء28]
    (27/21)
    ص -1227- {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء27] {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص6 , 5] {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب4] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة1] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه46] {بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء15] {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن29] وهذا عند النفاة لا حقيقة له بل الشؤون للمفعولات وأما هو فله شأن واحد قديم فهذه الأدلة السمعية وأضعاف أضعافها مما يشهد بها صريح العقل وشهد ببطلان ما خالفها.
    فإنكار ذلك وإنكار تكثر الصفات وتعدد الأسماء هو الذي أفسد العقل والنقل وفتح باب المعارضة
    (27/22)
    ص -1228- بينهما وتفصيل أدلة هذه المسألة وبيان بطلان الشبه المعارضة لها يستدعي مجلدا كبيرا ولعلنا إن ساعد القدر أن نكتبه والله المستعان.
    الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة: إن من أئمة هؤلاء المعرضين من يقول إنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن النقائص ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلا كما صرح به الرازي وتلقاه عن الجويني وأمثاله قالوا وإنما نفينا النقائص عنه بالإجماع وقد قدح الرازي وغيره من النفاة في دلالة الإجماع وبينوا أنها ظنية لا قطعية فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص بل غاية ما عندهم في ذلك الظن فيا للعقلاء ويا لأولي الألباب كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكليمه لموسى حقيقة بكلامه القائم به ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم في الجنة حتى تدعي أن الأدلة السمعية الدالة على ذلك قد عارضها صريح العقل وأما تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليل عقلي ولكن علمناه بالإجماع وقد قلتم دلالته ظنية فوالله لو قال المشبه المجسم بزعمكم ما قال ما رضي لنفسه بهذا ولكان رب العالمين وقيوم السماوات والأرض أكبر في صدره
    (27/23)
    ص -1229- وأجل في قلبه من أن لا يكون في عقله دليل ينزهه عن النقائص ولعل جاهلا أن يقول إنا قلنا عليهم ما لم يقولوا أو استجزنا ما يستجيزونه هم من حكاية مذاهب الناس عنهم فما يعتقدونه هم لازم لأقوالهم فيكذبون عليهم كذبا صريحا يقولون مذهب الحنابلة إن الله يجوز أن يتكلم بشيء ولا يعني به شيئا ومذهبهم أن الله لا يجوز أن يرى وأمثال ذلك مما هو كذب صريح وفرية مستندهم فيها ما فهموه من لازم قولهم فنحن لا نستجيز ذلك على أحد من الناس ولكن هذه كتب القوم فراجعها ولا تقلد الحاكي عنهم ويكفيك من فساد عقل يعارض الوحي أنه لم يقم عنده دليل عقلي ينزه ربه وخالقه عن العيوب والنقائص فلقد كشف لك صاحب هذا العقل عن حقيقة معقوله وأقر على نفسه وعقله أنه أقل وأحقر شأنا أن يعارض الوحي ونصوص الأنبياء ثم يتقدم عليها وبالله التوفيق.
    الوجه الخامس والثلاثون بعد المائة: أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم لا يمكنكم تنزيه الرب سبحانه عن النقائص والعيوب إلا أن يتحيزوا إلى أهل السنة ويصيروا أضيافا لهم ويستضيئوا بنورهم وإلا فلا يمكنكم على أصولكم تنزيه الرب عن العيوب البتة فإنكم نزهتموه عن صفات كماله وزعمتم
    (27/24)
    ص -1230- أنها تستلزم التجسيم وهو يستلزم الحدوث فبذلك نفيتم صفاته وأفعاله فلما قال لكم أهل الإثبات نفيكم لهذه الصفات يستلزم ثبوت ضدها له وهو نقص وهو محال على من له الكمال كله أجبتموه بأن هذا إنما يلزم في القابل للشيء وضده وأما الرب سبحانه فإنه لا يقبل هذه الصفات ولا أضدادها فلا يلزم من سلبها عنه ثبوت أضدادها كما لا يلزم من سلب الكلام والسمع والبصر والحياة عن الحجر وصفه بالخرس والطرش والعمى والموت فقال لكم أهل الإثبات لو جعلتموه قابلا لصفات الكمال وسلبتموها عنه لكان أكمل ممن لا يقبل صفات الكمال البتة فالأعمى والأخرس والأصم والعاجز أكمل من الحجر والتراب فنزلتم درجة أخرى وشبهتموه بأنقص الناقصات وهو مالا يقبل الكمال بوجه فلو أثبتم له صفات الكمال كلها على وجه التشبيه والتمثيل بخلقه لكان خيرا من تشبيهكم له بأنقص الناقصات من الجمادات التي لا تقبل الكمال فإن الحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة فيكون تارة سميعا وتارة أصم أكمل من الجماد
    (27/25)
    ص -1231- الذي لا يقبل هذا ولا هذا بل الحيوان الموصوف بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بهذا الكمال أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك فإذا قلتم إن الرب لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها جعلتموه أنقص من الحيوانات وكان من وصفه بهذه النقائص خيرا منكم وهم يشنعون بما يحكي عن ضلال اليهود والنصارى أن الله ندم على الطوفان حتى عض أصبعه وجرى الدم وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأمثال ذلك وهؤلاء مع كفرهم وضلالهم أحسن قولا فيه ممن يقول إنه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال بل من جعله يأكل ويشرب وينام ويألم خير ممن جعله بمنزلة الأحجار والجامدات التي لا تقبل هذه الصفات فالمشبهة المحضة خير منكم وأحسن قولا في ربهم وخالقهم وأما خصومكم من أهل السنة والحديث فهم لا يقولون بتشبيهكم ولا بتشبيه إخوانكم وإن كان تشبيهكم شرا من تشبيههم وإنما يصفون الله بصفات كماله ونعوت جلاله ويثبتون أفعاله حقيقة لا مجازا كما يثبتون ذاته وصفاته ولا يشبهون الله بخلقه ولا يمثلونه بهم والله سبحانه أجل في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يشبهوه بخلقه أو ينفوا عنه صفات كماله وأفعاله فيشبهونه بالجامدات العادمة للكمال وقبوله يوضحه:
    (27/26)
    ص -1232- الوجه السادس والثلاثون بعد المائة: وهو أن الله سبحانه عاب آلهة المشركين بنفس ما وصفتم الإله الحق سبحانه به فعابها بأنها لا تتكلم ولا تكلم عابديها وقلتم إن هذا من خصائص الربوبية وعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر وقلتم إن إثبات السمع والبصر للرب يقتضي التشبيه والتجسيم وعابها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تهدي السبيل فنفى عنها هذه الأفعال وقلتم ليس للقديم فعل يقوم به البتة فإنه لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث وعابها بأنها لا يد لها تبطش بها ولا رجل تمشي بها ولا عين تبصر بها وقلتم بأن الرب سبحانه كذلك فإنا لو وصفناه بذلك وصفناه بالجوارح والأبعاض وجميع ما عابها به إنما هو نفي وسلب لم يعبها بصفة ثبوتية البتة وعندكم أعظم التنزيه السلب والنفي الذي هو جماع ما عاب به آلهة المشركين.
    الوجه السابع والثلاثون بعد المائة: إن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه قديم أزلي لا يجوز عليه العدم ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه تنازعا لا يحصيه إلا رب العباد ولم تختلف مقالات أهل الأرض في شيء كاختلافهم في ربهم تعالى
    (27/27)
    ص -1233- وأحدث الأمم عهدا هذه الأمة وهذه مقالاتهم قد فاتت الحصر وقد حكى منها أهل المقالات ما بلغهم وأعظم من استوعبها الأشعري في مقالاته وقد حدث بعده مقالات لم يحكها ولم يودعها كتابه وكل يدعي أن العقل دله على تلك المقالة وصحتها وإذا جاء السمع بخلافها لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت الأربعة ومقالة النفاة المعطلة شر مقالات أهل الأرض على الإطلاق وأشدها مناقضة للمعقول والمنقول فإنهم يصفونه بصفات المعدوم الصرف بل بصفات الممتنع الوجود يعني بصفات المعدوم والممتنع ما يخبر به عنه ويحكم به عليه وإلا فليس هناك صفة ولا موصوف فيقولون ليس هو فوق خلقه ولا هو مستو على عرشه ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مباينا له ولا محايثا ولا مجاورا ولا فوق ولا تحت ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل من عنده ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا رفع المسيح إليه ولا عرج برسول إليه ودنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ولا يقرب منه شيء ولا يقرب من شيء ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام ولا يجيء للفصل بين عباده ولا ترفع إليه الأيدي ولا يشار إليه بالأصابع ولا يمكن
    (27/28)
    ص -1234- رؤيته البتة ولا قال ولا يقول ولا يكلم ولا يتكلم ولا نادى ولا ينادي ولا له علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا إرادة ولا وجه ولا يد ولا عين ولا إصبع وغلاتهم يقولون لا يسمى حيا عالما قادرا إلا بطريق المجاز ويقولون لو أثبتنا هذه الصفات لزم أن يكون جسما والجسم مركب والمركب ممكن والممكن محدث فإثبات هذه الصفات تنافي قدمه ووجوب وجوده وأما أهل الإثبات فيقولون الموصوف بهذه الصفات السلبية المنفي عنه الصفات الثبوتية لا يكون إلا ممتنعا والامتناع ينافي الوجود فضلا عن وجوبه والذين وصفوه بهذه السلوب وصفوه بما لا يتصف به إلا ما يمتنع وجوده ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود ويقولون للمعطلة النفاة أنتم فررتم من وصفه بما يستلزم الإنكار بزعمكم فوصفتموه بما يستلزم الامتناع من وصفه ومن وصف بما يستلزم الحدوث على ظنكم فوصفتموه بما يستلزم العدم والأجسام الجامدة خير من المسلوب عنه هذه الصفات فضلا عن الأجسام الحية الناقصة فضلا عن الأجسام الحية الكاملة قالوا ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين وجود حي كامل وبين معدوم أو ممتنع كان الموجود خيرا من المعدوم يوضحه.
    الوجه الثامن والثلاثون بعد المائة: أن اللوازم التي تلزم المعطلة النفاة شر من اللوازم التي تلزم المشبهة المحضة دع المثبتة لحقائق الأسماء والصفات المنزهين الله عن شبه المخلوقات فإنهم يلزمهم عشرة لوازم
    (27/29)
    ص -1235- أحدها: جحد الصانع ونفيه
    الثاني: سلب كماله عنه
    الثالث: وصفه بالنقائص والعيوب
    الرابع: تشبيهه بالجمادات الناقصة
    الخامس: تشبيهه بالمعدومات بل بالممتنعات
    السادس: الطعن فيما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله
    السابع: القدح في علم الرسول أو بيانه أو نصحه أو الجمع
    الثامن: إفساد الفطر والعقول وتغييرها عما فطرت عليه كإفساد الشياطين لها بالشرك واتباع الغي
    التاسع: إلقاء العداوة بين الوحي والعقل ودعوى تناقضهما وتعارضهما
    العاشر: القدح في شهادة العقل فإنهم إذا جوزوا معارضته ومناقضته لكلام الله ورسوله فقد قدحوا فيه أعظم القدح وجرحوه أبين الجرح ويكفي في جرحه والطعن في شهادته إقرارهم بأنه مضاد مناقض لما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وحينئذ فنقول في:
    (27/30)
    ص -1236- الوجه التاسع والثلاثين بعد المائة: إنكم أسأتم القول في العقل غاية الإساءة وقدحتم فيه أعظم القدح فإن الله سبحانه ركب العقول في عباده ليعرفوا بها صدقه وصدق رسله ويعرفوه بها ويعرفوا كماله وصفاته وعظمته وجلاله وربوبيته وتوحيده وأنه الإله الحق وما سواه باطل فهذا هو الذي أعطاهم العقل لأجله بالذات والقصد الأول وهداهم به إلى مصالح معاشهم التي تكون عونا لهم على ما خلقوا لأجله وأعطوا العقول له فأعظم ثمرة العقل معرفته لخالقه وفاطره ومعرفة صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وصدق رسله والخضوع والذل والتعبد له فإذا أقررتم على العقل بأنه لا يدرك ذلك ولا يصدق ذلك به بل يعارضه ويكذبه ويرده فقد نسبتموه إلى أقبح الجهل وأعظم شهادة الزور وما كان هكذا فلا تقبل له شهادة في شيء فضلا عن تقديم شهادته على ما شهد الله به لنفسه وشهدت له به رسله من أولهم إلى آخرهم وحينئذ فنقول في:
    الوجه الأربعين بعد المائة: أن الشهادة تعتمد على الشاهد وصدقه فإنها خبر ولا بد أن يكون المخبر به عالما صادقا وقد علم كذب العقل المعارض لما جاءت به الرسل قطعا وجملة فإنه لا يجتمع
    (27/31)
    ص -1237- صدقه وصدق الرسل ولا صحة ما أخبر به وصحة ما أخبرت به الرسل لاستحالة الجمع بين النقيضين وحينئذ فيلزم من قبول شهادته تكذيب شهادة الرسل هذا لو لم يعلم كذبه فيما شهد به إلا بمجرد مخالفته لما شهدت به الرسل فكيف إذا علم كذبه بشهادة عقل آخر أصح منه وأذكى وأصدق كيف وقد علم كذب العقل الشاهد بخلاف ما جاءت به الرسل بوجوه كثيرة من مناقضته واضطرابه وإثباته للشيء ثم نفيه للوازمه ونفيه للوازمه ثم إثباته لملزوماتها وتفريقه بين المتساويين وجمعه بين المختلفين فقد علم كذبه وجهله من هذه الوجوه الثلاثة فلا يصلح أن يستشهد به على مخالفة السمع بوجه من الوجوه يوضحه.
    الوجه الحادي والأربعون بعد المائة: وهو أن هؤلاء المعارضين ردوا حكم العقل الصريح المبني على المقدمات الضرورية الفطرية ونسبوه إلى البطلان وحينئذ فلا يمكنهم أن يقيموا معقولا صحيحا على خلاف ما دل عليه السمع البتة لأن حكم العقل الذي ردوه وأبطلوه أظهر وأبين وأصدق من حكم العقل الذي قدموه على كلام الله ورسوله بما لا نسبة بينهما فصاروا في ذلك بمثابة حاكم فاسق ظالم رد شهادة العدول المبرزين في العدالة وقبل شهادة المجهولين والمعروفين بالكذب والزور والفسق ثم لم يكفه ذلك حتى عارض شهادة أولئك العدول الصادقين بشهادة هؤلاء الفسقة الكاذبين ثم قدمها عليها
    (27/32)
    ص -1238- وطعن في أولئك العدول فارتكب أنواعا من الجهل والظلم جمع فيها بين إبطال الحق وتحقيق الباطل وتزكية شهود الزور والطعن في شهادة العدول فتوهوا العقول الصحيحة والنصوص الصريحة وضيقوها واستدعوا العقول الفاسدة والأقوال الكاذبة فولوها مكانها واستعملوها كما قال أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب إمام الأشعري وأصحابه في كتاب الصفات مما نقله عنه أبو بكر بن فورك فقال في الكتاب المذكور في باب القول في الاستواء وهذا لفظه ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه وخيرته من بريته وأعلمهم جميعا به يجيز السؤال بأين وبقوله ويستصوب قول القائل إنه في السماء ويشهد له بالإيمان عند ذلك.
    وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين
    (27/33)
    ص -1239- زعموا ويحيلون القول به ولو كان خطأكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له وكان ينبغي أن يقول لها لا تقولي ذلك فهو قسمان إنه عز وجل محدود في مكان دون مكان ولكن قولي إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه وأنه أصوب الأقاويل والأمر الذي يجب به الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته وكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق به وشاهد له قال ولو لم يشهد بصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف وقد غرس الله في الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك مالا شيء أبين منه ولا أوكد لا بل لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول أين ربك إلا قال في السماء إن أفصح أو أومأ بيده وأشار بطرفه إن كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا إلا رافعا يديه إلى السماء ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول في كل مكان كما يقولون وهم يزعمون أنهم أفضل الخلق كلهم فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وحده وخمسون
    (27/34)
    ص -1240- رجلا معه نعوذ بالله من الخذلان ومعضلات الفتن ثم ألزمهم ابن كلاب بمذهب الدهرية الملاحدة وأن يكونوا وهم بمنزلة واحدة فقال في هذا الكتاب يقال للجهمية أليست الدهرية كفارا ملحدين في قولهم إن الدهر هو واحد إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم عنه ولا يباين العالم ولا يباينه ولا يماس العالم ولا يماسه ولا يداخل شيئا من العالم ولا يداخله لأنه واحد والعالم غير مفارق له فإذا قالوا نعم قيل لهم صدقتم فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم هل تجدون بينكم وبينه فرقا أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به وقد قلتم إنه غير مفارق العالم ولا العالم مفارق له ولا هو داخل في العالم ولا العالم داخل فيه ولا مماس للعالم ولا العالم مماس له ولم رجعتم على من خالفكم بالتكفير وزعمتم أنهم كفروا لأنهم قالوا واحد منفرد بأين فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيهة منهم إذا زعمتم مثل زعم الملحدين وقلتم مثل مقالة الضالين وخرجتم من توحيد رب العالمين وقال في موضع آخر من هذا الكتاب وأخرج من
    (27/35)
    ص -1241- العقل والخبر من قال إنه سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه لأنه نفاه نفيا مستويا وألزم الجهمية في موضع آخر منه مفارقة صريح المعقول حيث زعموا بأنه سبحانه فعل الأشياء لا بائنة عنه ولا قائمة به حالة فيه وهذا لا يثبته عقل عاقل وأخذ هذا من حجة الإمام أحمد وأئمة السنة على هؤلاء المعطلة الجهمية.
    قال الإمام أحمد في كتابه الذي خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية وذكره الخلال في الجامع والقاضي أبو يعلى وسائر أصحاب أحمد قال في باب ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس الله كان ولا شيء فيقول نعم فقل له حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجا
    (27/36)
    ص -1242- من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء فإن قال خلقهم خارجا من نفسه ولم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع.
    فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينا له أو محايثا له ومع المحايثة إما أن يكون هو في العالم وإما أن يكون العالم فيه لأنه سبحانه قائم بنفسه إذا كان محايثا لغيره فلا بد أن يكون أحدهما حالا في الآخر بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات فإنها تكون قائمة بغيرها فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده وكذلك قول من يقول لا هو مباين ولا محايث لما كان صريح العقل يدل على بطلانه لم يدخله في التقسيم والمقصود أن أئمة الكلام وأئمة السنة متفقون على ان قول الجهمية مخالف لصريح العقل والنقل وفطرة الله التي فطر عليها عباده وأنه لا يمكن أحدا أن يقول بقولهم حتى يتوه العقل والسمع ويفارق حكمهما.
    (27/37)
    ص -1243- الوجه الثاني والأربعون بعد المائة: أن فحول الكلام وأئمة النظر والبحث الذين سبروا المقالات وتبحروا في المعقولات قد شهدوا لطريقة النفاة المعطلة بمناقضتها للسمع والعقل وأن السمع والعقل إنما يقتضيان الإثبات وعلو الرب على جميع المخلوقات واستواءه على عرشه فوق سبع سماوات.
    قال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة والموجز والمقالات وهذا لفظه في كتاب الموجز إذ هو من أجل كتبه المتوسطات إن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له نقول إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] وقد قال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر10] وقال {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء158]
    (27/38)
    ص -1244- وقال {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة5] وقال حكاية عن فرعون {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر37 , 36] كذب موسى في قوله أن الله عز وجل فوق السماوات وقال عز وجل {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك16] والسماوات فوقها العرش الذي هو فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السماوات وليس إذا قال أأمنتم من في السماء يعني جميع السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ألا ترى أن الله سبحانه ذكر السماوات فقال {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح16] ولم يرد أن القمر ملأهن جميعا وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله
    (27/39)
    ص -1245- عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز وجل مستو على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض قال وقال قائلون من الجهمية والمعتزلة والحرورية إن معنى قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] إنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة قال ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستو على العرش بمعنى الاستيلاء وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها كان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء ومستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها قال وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في
    (27/40)
    ص -1246- كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية وهذا خلاف الدين تعالى عن قولهم ثم قال ودليل آخر وهو قوله سبحانه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى51] فقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس هو من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول وما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكمله الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ويترك أجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم.
    ومقصود الأشعري بهذا الكلام أنه على قول النفاة لا فرق بين البشر وغيرهم فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحدا بحجاب منفصل عنه بل هو محتجب من جميع الخلق بمعنى أنه لا يمكن أحدا أن يراه فاحتجابه عن بعضهم دون بعض دليل على نقيض قولهم وذلك أن نفاة المباينة
    (27/41)
    ص -1247- يفسرون الاحتجاب بمعنى عدم الرؤية لامتناع قبول الذات لها لا لمانع منفصل يمنعها من حجاب منفصل عن المحجوب وإذا كانت الذات غير قابلة للرؤية بل حجابها عدم قبولها لتعلق الرؤية بها كان هذا الحجاب إلى جميع المخلوقات واحدا ولم يختص به البشر دون غيرهم فلما أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب دل على أنه قد يكلم غيرهم مع رفع ذلك الحجاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبدالله: "إن الله ما كلم أحدا إلا من وراء حجاب وإنه أحيا أباك وكلمه كفاحا" وكما في
    (27/42)
    ص -1248- الحديث "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان" فلا يناقض هذا ما دلت عليه الآية فإن هذا في الدنيا وما دلت عليه السنة في دار الآخرة وتكليم عبدالله بن حرام والد جابر كان بعد الموت لم يكن في الدنيا قال الأشعري دليل آخر قال الله عز وجل {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام62] وقال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأنعام30] وقال {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة12] وقال تعالى {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف48] قال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي يريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل.
    (27/43)
    ص -1249- ووجه استدلاله بهذه النصوص أنها صريحة في المباينة والمقابلة والوقوف بين يديه ولو كان غير داخل في العالم ولا خارجه لم يصح شيء من ذلك فهذه النصوص صريحة في مباينة العالم ومقابلته للواقف بين يديه حتى يكون ناكس الرأس قدامه فلو لم يكن فوق العرش بطلت هذه النصوص جملة.
    قال الأشعري وروت العلماء عن ابن عباس أنه قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك.
    وهذا الحديث قد رواه أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة من حديث عبدالوهاب الوراق ثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس" تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور وهو فوق" ذلك ثم قال عبدالوهاب الرجل الصالح العالم الذي سئل الإمام
    (27/44)
    ص -1250- أحمد من يسأل بعدك؟ فقال سلوا عبدالوهاب الوراق.
    قال من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة.
    قال الأشعري ومما يؤكد أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث النزول كقوله ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له حتى يطلع الفجر. قال ودليل آخر قال تعالى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل50] وقال تعالى {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج4] وقال {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت11]
    (27/45)
    ص -1251- وقال {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان59] وقال {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة4] وكل ذلك يدل على أنه في السماء مستو على عرشه قال ودليل آخر قوله عز وجل {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر22] وقال تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة210] وقال تعالى {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم12-8] وقال تعالى لعيسى {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران55]
    (27/46)
    ص -1252- وقال {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء. قال الأشعري ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم أن يقولوا جميعا يا ساكن العرش لا والذي احتجب بسبع سماوات.
    فقد حكى أبو الحسن الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات وهذا مناقض لقول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن هؤلاء يقولون ليس للعرش به اختصاص وليس شيء من المخلوقات يحجب عنه شيئا وقال لسان المتكلمين القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب الإبانة والتمهيد وغيرهما فإن قال قائل أتقولون إنه في كل
    (27/47)
    ص -1253- مكان قيل معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] وقال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر10] وقال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك16] ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان
    (27/48)
    ص -1254- وفي المواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها مالم يكن وينقص بنقصانها إذا أبطل منها ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.
    وقد ذكرنا في كتاب اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية أضعاف أضعاف هذه النقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة نصا صريحا عنهم نقله أصحابهم وغيرهم وأئمة التفسير وأئمة اللغة وأئمة النحو وأئمة الفقه وسادات الصوفية وشعراء الجاهلية والإسلام مما في بعضه كفاية لمن أراد الله هدايته ومن طبع الله على قلبه فإن آيات الله تتلى عليه وكلام رسوله ولا يزيده ذلك إلا مرضا على مرضه والله الموفق للصواب لا إله غيره ولا رب سواه.
    الوجه الثالث والأربعون بعد المائة: إن هؤلاء لم يكفهم أن سدوا على أنفسهم باب الرد على أعداء الإسلام بما وافقوهم فيه من النفي والتعطيل حتى
    (27/49)
    ص -1255- فتحوا لهم الباب وطرقوا لهم الطريق إلى محاربة القرآن والسنة فلما دخلوا من بابهم وسلكوا من طريقهم تحيزوا معهم وصاروا جميعا حربا للوحي وادعوا أن العقل يخالفه ولا يمكن الرد على أهل الباطل إلا مع أتباع السنة من كل وجه وإلا فإذا وافقها الرجل من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالفها فيه واحتجوا عليه بما وافقهم فيه من تلك المقدمات المخالفة للسنة ومن تدبر عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم وجد حجتهم إنما تقوى على من ترك شيئا من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه فيكون ما تركه من الحق أعظم حجة للمبطل عليهم ويجد كثيرا من أهل الكلام يوافقون خصومهم على الباطل تارة ويخالفونهم في الحق تارة فيتسلطون عليهم بما وافقوهم فيه من الباطل وبما خالفوهم من الحق وليس لمبطل بحمد الله حجة ولا سبيل بوجه من الوجوه على من وافق السنة ولم يخرج عنها حتى إذا خرج عنها قدر أنملة تسلط عليه المبطل بحسب القدر الذي خرج به عن السنة فالسنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين وصراطه المستقيم الذي من سلكه كان إليه من الواصلين وبرهانه المبين الذي من استضاء به كان من المهتدين فمن وافق مبطلا على شيء من باطله جره بما وافقه منه إلى نفي باطله.
    وقد ضرب بعض أهل العلم لذلك مثلا مطابقا فقال
    (27/50)
    ص -1256- مثل الحق مثل طريق مستقيم واسع وعلى جنبيه قطاع ولصوص وعندهم خواطئ قد ألبسوهن الحلي والحلل وزينوهن للناظرين فيمر الرجل بالطريق فيتعرضن له فإن التفت إليهن طمعن في حديثه فألقين إليه الكلام فإن راجعهن وأجابهن دعينه إلى الذبح فإذا دخل عرين الموت صار في قبضتهن أسيرا أو قتيلا فكيف يحارب قوما من هو أسير في قبضتهم قتيل سلاحهم بل يصير هذا عونا من أعوانهم قاطعا من قطاع الطريق ولا يعرف حقيقة هذا المثل إلا من عرف الطريق المستقيم وقطاع الطريق ومكرهم وحيلهم وبالله التوفيق وهو المستعان.
    وقد نصب الله سبحانه الجسر الذي يمر الناس من فوقه إلى الجنة ونصب بجانبيه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم فهكذا كلاليب الباطل من تشبيهات الضلال وشهوات الغي تمنع صاحبها من الاستقامة على طريق الحق وسلوكه والمعصوم من عصمه الله.
    الوجه الرابع والأربعون بعد المائة: أن يقال لهذه الفرقة المعارضة بين النقل والعقل أتدعون هذه المعارضة بين العقل وجميع النقل أو بعضه والأول
    (27/51)
    ص -1257- لا يقوله مسلم بل ولا عاقل ولا أحد من بني آدم فلا حاجة إلى الكلام على تقريره وإذا ادعيتم أن التعارض واقع بين العقل وبين بعض المنقول قيل لكم المنقول أنواع متعددة نوع يتعلق بالأمر والنهي والإباحة ونوع يتعلق بمبدأ الخليقة وتخليق العالم ومادته ومبدئه ونوع يتعلق بالمعاد وحشر الأجساد وطي العالم وخرابه وإنشاء الخلق نشأة أخرى ونوع يتعلق بالإخبار عن الأمم السالفة والقرون الماضية وأحوالهم وما أصابهم من نعمة ونقمة ونوع يتعلق بالإخبار عن عجائب المخلوقات وبدائع الآيات في الأرض والسماء ونوع يتعلق بأسماء الرب وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه فأي هذه الأنواع تدعون معارضة العقل لها حتى يقع الكلام معكم فيه ومعلوم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا وقد عارضه طائفة من شياطين الإنس بآرائهم وعقولهم وقد قدمنا معارضة شيخ القوم للأمر بمعقوله وأن العقل يقتضي أن لا يسجد الفاضل للمفضول وبينا سريان تلك المعارضة في
    (27/52)
    ص -1258- تلامذته وأتباعه حتى إن منهم من عارض الأمر كله بعقله وذكروا وجوها عقلية تدفع الأمر والنهي والله يعلم أن الوجوه العقلية التي ذكرها المعطلة النفاة لدفع علو الرب واستوائه على عرشه وصفات كماله أوهى منها أو من جنسها وطائفة أخرى عارضت نصوص المبدأ والمعاد بمعقولات هي من جنس معقولات نفاة الصفاة فهل يوافقون هؤلاء في صحة هذه المعارضة أم يخالفونهم وفي أي الأنواع تدعون المعارضة فإن قصرتموه على نوع الأسماء والصفات قيل لكم فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين سائر هذا النوع أم بينه وبين بعضه ولا ضابط لفرقة منكم في دعوى هذه المناقضة أصلا بل كل من نفى شيئا مما أثبته الرسول قال قد عارضه صريح العقل فإمامكم الذي تقدمون نصوص إشاراته على نصوص القرآن والسنة عنده إن صريح العقل معارض لنصوص المعاد وحدوث العالم وإثبات الصفات والقدرية المجوسية عندهم أن صريح العقل معارض للنصوص المثبتة للقدر والجهمية المعطلة عندهم أن العقل الصريح معارض لنصوص الرؤية والعلو والاستواء على العرش وصفة التكلم والتكليم وغير ذلك من الصفات فمع من أنتم من أرباب هذه المعارضات وأهل هذه المعقولات هل تصوبون جميعهم أم بعضهم ومن
    (27/53)
    ص -1259- البعض المصيب ومن المخطئ وفي أي شيء اصاب هؤلاء وأخطأ هؤلاء ولقد صدق القائل إنكم لا ترجعون في الحقيقة إلى شيء وإن منتهاكم الشك والحيرة وبالله التوفيق. وحينئذ فنقول في
    الوجه الخامس والأربعين بعد المائة: إن نهاية أمر هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بالرأي انتهاؤهم إلى الشك والتشكيك والحيرة في أمرهم فتجدهم يشكون في أوضح الواضحات وفيما يجزم عوام الناس به ويتعجبون ممن يشك فيه ولا تعطيك كتبهم وبحوثهم إلا الشك والتشكيك والحيرة والإشكالات وكلما ازددت فيها إمعانا ازددت حيرة وشكا حتى يؤول بك الأمر إلى الشك في الواضحات واعتبر هذا بإمام الشك والتشكيك أفضل متأخريهم وكتبه تجده شاكا في الزمان والمكان لم يعرف حقيقته وماهيته وشاكا في وجود الرب تعالى هل هو عين ماهيته أو زائد عليها وهل الوجود مقول على الواجب والممكن بالتواطؤ أو بالاشتراك اللفظي وهل
    (27/54)
    ص -1260- الوجود الواجب وجود محض لا يقارن شيئا من الماهيات أم وجود مقارن لماهية غير معلومة للبشر وشاكا في الرب سبحانه هل كان معطلا في الأزل والفعل ممتنع عليه ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا تجدد أمر حصل في الفاعل كما يقوله المتكلمون أو لم يزل فعله مقارنا له كما يقوله الفلاسفة وهو حائر بين هذين القولين معارض أدلة كل منهما بأدلة الآخر وتارة يرجح أدلة المتكلمين في كتبه الكلامية وتارة يرجح أدلة الفلاسفة في كتبه الفلسفية وتارة يصف الجيشين ويلقي الحرب بينهما ولا يتحيز إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما في كتبه الجامعة بين الطريقتين.
    وشاكا في الجوهر الفرد فمرة يثبته ويوقف الإيمان بالمبدأ والمعاد عليه وتارة ينفيه ويبطله.
    وشاكا في تماثل الأجسام فتارة يثبته ويحتج عليه وتارة ينفيه.
    وشاكا في مسألة حلول الحوادث فتارة ينفيها وتارة يقول بها ويقوي أمرها ويلزمها جميع الطوائف.
    (27/55)
    ص -1261- وشاكا في النبوات هل هي ثابتة على طريق الفلاسفة أو على طريق المعتزلة أم على طريق الأشعرية.
    وشاكا في مسألة التحسين والتقبيح فتارة يسلك فيها مسلك النفاة وتارة مسلك المثبتين.
    وشاكا في إثبات الصفات ففي كتبه الفلسفية ينفيها وفي الكتب الكلامية يثبتها إثباتا لا حقيقة له بل هو لفظ بلا معنى.
    وشاكا في الإنسان هل هو هذا البدن المشهود أم أمر آخر وراءه وهو الروح أم مجموع الأمرين
    وشاكا في الروح وحقيقتها وماهيتها وهل هي جسم أو جوهر مجرد لا داخل العالم ولا خارجه أو عرض من أعراض البدن
    وشاكا في مسألة الكلام والرؤية فمرة يقوي فيها قول المعتزلة ومرة قول الأشعرية إلى أضعاف ما ذكرنا من المسائل ولهذا تجد أتباعه أكثر الناس شكا وتشكيكا.
    والفاضل عندهم الشاك وكلما كان الرجل أعظم شكا كان عندهم أفضل فهذا شكهم في الدنيا وأما عند الموت
    (27/56)
    ص -1262- فقد قال العارف بحقيقة أمرهم أكثر الناس شكا عند الموت أرباب الكلام.
    وقد أقروا على أنفسهم بالشك وعدم اليقين في كتبهم وعند موتهم كما تقدم حكاية ذلك عن أفاضلهم ورؤوسهم حتى قال بعضهم عند موته والله ما أدري على ماذا أموت عليه ثم قال اشهدوا على أني على عقيدة أمي وقال الآخر اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا مسألة واحدة وهي أن الممكن مفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار أمر عدمي بل أموت وما عرفت شيئا.
    وقال الآخر أضع الإزار على وجهي ثم أقابل بين أقوال هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولا يتبين لي منها شيء.
    ويقول الآخر لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر10]
    (27/57)
    ص -1263- واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وقد حكينا كلامه فيما تقدم.
    وقال الآخر لعمري
    لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
    فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
    وهذا باب طويل من أراد الوقوف عليه فليطالع أخبار القوم وسيرتهم وما أقروا به على أنفسهم وحينئذ فنقول في
    الوجه السادس والأربعين بعد المائة: إن أئمة الإسلام وملوك السنة لما عرفوا أن طرق المتكلمين إنما تنتهي إلى هذا وما هو شر منه تنوعوا في ذمها والطعن فيها وعيب أهلها والحكم بعقوبتهم وإشهارهم والتحذير منهم.
    (27/58)
    ص -1264- قال أبو القاسم بن عساكر وقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم أهل الكلام ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى ثم ذكر بإسناده إلى الفريابي حدثني بشر بن الوليد قال سمعت أبا يوسف يقول من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غرائب الحديث كذب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس قال البيهقي وروي هذا الكلام عن مالك بن أنس ثم ذكر ابن عساكر عن الشافعي أنه قال لئن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك خير له من أن يبتلى بالكلام ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقوله.
    (27/59)
    ص -1265- وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن أصرم المزني قال قال أبو ثور سمعت الشافعي يقول ما تردى أحد بالكلام فأفلح وقال حدثنا الربيع قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا.
    وذكر أيضا عن ابن عبدالحكم قال سمعت الشافعي يقول لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد.
    وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة سمعت يونس بن عبدالأعلى يقول جئت الشافعي بعدما كلم حفصا الفرد فقال غبت عنا يا أبا موسى لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما توهمته قط ولأن يبتلى المرء بكل
    (27/60)
    ص -1266- ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام. وقال الإمام أحمد علماء الكلام زنادقة.
    قال شيخنا والكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وذم أصحابه والنهي عنه وتجهيل أربابه وتبديعهم وتضليلهم وهو هذه الطرق الباطلة التي بنوا عليها نفي الصفات والعلو والاستواء على العرش وجعلوا بها القرآن مخلوقا ونفوا بها رؤية الله في الدار الآخرة وتكلمه بالقرآن وتكليمه لعباده ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فإنهم سلكوا فيه طرقا غير مستقيمة واستدلوا
    (27/61)
    ص -1267- بقضايا متضمنة للكذب فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصريح المعقول وكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ورسائلهم وأحكامهم ودلائلهم.
    وكلام السلف والأئمة في ذلك مشهور وما من أحد قد شدا طرفا من العلم إلا وقد بلغه من ذلك بعضه لكن كثيرا من الناس لم يحيطوا علما بكثير من أقوال السلف والأئمة وقد أفرد الناس في ذلك مصنفات مثل أبي عبدالرحمن السلمي ومثل شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري وسمى كتابه ذم الكلام وأهله وممن ذكر اتفاق السلف على ذلك
    (27/62)
    ص -1268- أبو حامد الغزالي في أجل كتبه الذي سماه إحياء علوم الدين قال فيه فإن قلت فعلم الكلام والجدل مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه فاعلم أن الناس في هذا غلوا وإسرافا في الطرفين فمن قائل إنه بدعة وحرام وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل إنه واجب فرض إما على الكفاية أو على الأعيان وإنه أجل الأعمال وأعلى القربات وإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله. قال وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن
    (27/63)
    ص -1269- حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف ثم ذكر بعض نصوص الشافعي التي تقدمت. قال وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل قال وبالغ فيه حتى هجر الحارث المحاسبي قال وقال الإمام أحمد أيضا علماء الكلام زنادقة.
    قال وقال مالك أرأيت إن جاء رجل أجدل من
    (27/64)
    ص -1270- رجل يدع الرجل دينه كل يوم لدين جديد قال وقال مالك لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع قال بعض أصحابه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا وهذا الذي حكى عنه أبو حامد تأويل قول مالك هو محمد بن خويز منداد البصري المالكي.
    قال إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه الذين ترد شهادتهم هم أهل الكلام قال وكل متكلم هو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه أشعريا كان أو غير أشعري هكذا ذكره عنه أبو عمر بن عبدالبر في كتاب فضل العلم ثم ذكر أبو حامد كلام أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق قال وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر عنهم ما نقل من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة رضي الله عنهم مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد عنه ولذلك قال النبي صلى الله
    (27/65)
    ص -1271- عليه وسلم: "هلك المتنطعون هلك المتنطعون" أي المتعمقون في البحث والاستقصاء.
    قال واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به النبي ويعلم طريقه ويثني على أربابه فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلى حفظ الفرائض ونهاهم عن الكلام في القدر وعلى هذا استمر الصحابة فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة إلى أن قال وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود.
    (27/66)
    ص -1272- قال ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على سبيل الندور في أمور جليلة تكاد تفهم قبل التعمق في صناعة الكلام قل بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسدا ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة ثم قال وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون صاحبه كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر أن لا يضعه إلا في موضعه وعلى قدر الحاجة وقال إن فيه من المضرة من إثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم وفيه مضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ويمكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجهل.
    فهذا كلام أبي حامد مع معرفته بالكلام والفلسفة
    (27/67)
    ص -1273- وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام ويذكر أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول أمته وإذا لم يكن فيه فائدة إلا إلا الذب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضا لها فضلا عن أن يكون مقدما عليها فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول معارضا للكتاب والسنة وما كان معارضا لهما فهو من الكلام الباطل المردود المرذول الذي لا ينازع في ذمه أحد من أهل الإسلام لا من السلف ولا من أتباعهم من الخلف هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من العقليات والجدل والكلام مبتدعا وإن قصد به نصر السنة فكيف ذمهم لمن عارض السنة بالبدعة والوحي بالرأي وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق وهذا الذم من أبي حامد للكلام وأهله ذم متوسط بحسب ما اطلع عليه من غوائله وآفاته وبحسب ما بلغه من السلف ولم يكن جزمه بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول كجزمه بما سلكه من طريق الكلام والفلسفة فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره فإن ما ذكره من أن مضرته في إثارة الشبهات في العلم وإثارة التعصب في الإرادة إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقا بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة بل معلوماته فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبها وعداوة قيل فيه ذلك.
    (27/68)
    ص -1274- وأما السلف فلم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله بل كانوا أعلم الناس بذلك ولا حرموا نظرا صحيحا في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع ولا مناظرة في ذلك إما لهدى مسترشد وأما لقطع مبطل بل هم أكمل الناس نظرا واستدلالا واعتبارا وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها فإن القوم كان نظرهم في خير الكلام وأفضله وأصدقه وأدله على الحق وأوصله إلى المقصود بأقرب الطرق وهو كلام الله وكانوا ينظرون في آيات الله تعالى الأفقية والنفسية فيرون منها من الأدلة ما يبين أن القرآن حق فيتطابق عندهم السمع والعقل ويتصادق الوحي والفطرة كما قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت53] وقال {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقّ} [سبأ6] والإنسان له حالتان إما أن يكون ناظرا وإما أن يكون
    (27/69)
    ص -1275- مناظرا والناظر له حالتان أحدهما يحمد فيها والثانية يذم فيها والمناظر له حالتان أيضا قال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ46] فأشار بقيامهم إثنين إثنين إلى المناظرة وفرادى إلى النظر والتفكر. وكل منهما ينقسم إلى محمود ومذموم فالنظر المحمود النظر في الطريق الصحيح ليتوصل به إلى معرفة الحق والنظر المذموم نوعان
    أحدهما: النظر في الطريق الباطل وإن قصد به التوصل إلى الحق فإن الطريق الباطل لا يفضي إلى الحق.
    والثاني: النظر والفكر الذي يقصد به رد قول خصمه مطلقا حقا كان أو باطلا فهو ينظر نظرا يرد به قول من يبغضه ويعاديه بأي وجه كان.
    فأما المناظرة فتقسم إلى محمودة ومذمومة والمحمودة نوعان والمذمومة نوعان وبيان ذلك أن المناظر إما أن يكون عالما بالحق وإما أن يكون طالبا له وإما أن لا يكون عالما به ولا طالبا له وهذا الثالث هو المذموم وأما الأولان فمن كان عالما بالحق فمناظرته التي تحمد أن يبين لغيره الحجة التي
    (27/70)
    ص -1276- تهديه إن كان مسترشدا طالبا للحق أو تقطعه أو تكسره إن كان معاندا غير طالب للحق ولا متبع له أو توقفه وتبعثه على النظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه على الحق وقصده الحق.
    قال تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل125] فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو فإنه إما أن يكون طالبا للحق راغبا فيه محبا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال وإما أن يكون معرضا مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه عرفه وآثره واتبعه فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب وإما أن يكون معاندا معارضا فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن فلمناظرة المبطل فائدتان
    أحدهما: أن يرد عن باطله ويرجع إلى الحق
    الثانية: أن ينكف شره وعداوته ويتبين للناس أن الذي معه باطل وهذه الوجوه كلها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف فإنه كفيل بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره ورزق فهما فيه وحججه مع أنها في أعلى مراتب الحجج وهي طريقة أخرى غير طريقة المتكلمين وأرباب الجدل والمعقولات فهي أقرب شيء تناولا وأوضح دلالة وأقوى برهانا وأبعد من كل شبهة وتشكيك.
    (27/71)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق