84.ب اوهو

قال الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِدُخُولِ الْجَنَّة بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَة فَقَالَ : يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ اِقْتِصَارًا مِنْ بَعْض الرُّوَاة نَشَأَ مِنْ تَقْصِيره فِي الْحِفْظ وَالضَّبْط لَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ مَجِيئِهِ تَامًّا فِي رِوَايَة غَيْرها قلت المدون/ اللهم اشفني شفاءا لا يغادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني رحمة واسعة مباركة طيبة واكفني همي كله وفرج كربي كله واكشف البأساء والضراء عني واعتقني من كل سوء في الدارين يا ربي

 الثانوية العامة ٣ثانوي. /عقوبة من قتل نفسه؟وصف الجنة والحور العين /المدونة التعليمبة الثانية أسماء صلاح ٣.ثانوي عام /الفتن ونهاية العالم /المقحمات ا. /قانون الحق الإلهي اا /القرانيون الفئة الضالة اوه /قواعد وثوابت قرانية /مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها اوهو /المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة /مدونة  /الصفحات المقتوحة /الخوف من الله الواحد؟ /قانون ثبات سنة الله في الخلق /اللهم ارحم أبي وأمي والصالحين /السيرة النبوية /مدونة {استكمال} مدونة قانون الحق الإلهي /مدونة الحائرين الملتاعين. /الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها /عياذا بالله الواحد./  لابثين فيها أحقابا /المدونة المفتوحة /نفحات من سورة الزمر/  /أمَاهُ عافاكِ الله ووالدي ورضي عنكما ورحمكما /ترجمة معان القران /مصنفات اللغة العربية /كتاب الفتن علامات القيامة لابن كثير /قانون العدل الإلهي /الفهرست /جامعة المصاحف /قانون الحق الإلهي /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا /تعلم للتفوق بالثانوية العامة /مدونات لاشين /الرافضة /قانون الحق الألهي ٣ /قانون الحق الإلهي٤. /حدود التعاملات /العقائدية بين المسلمين /المقحمات اا. /منصة الصلاة اا /مدونة تخفيف/https://nawweyof.blogspot.com/2023/09/blog-post_30.html        النفخ في الصور وموعد تصادم المجرات والافلاك  / /https://nawweyof.blogspot.com/2023/09/blog-post_30.html     النفخ في لصور وموعد تصادم المجرات والافلاك

الخميس، 3 ديسمبر 2020





 


 


 

 

  ..فصل وقد جاءت احاديث تنازع الناس في صحتها مِثْلُ قَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءِ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ كَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورِ } وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الطَّهُورَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا نَفَى الصَّلَاةَ لِانْتِفَاءِ وَاجِبٍ فِيهَا وَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُضُوءِ ؛ فَفِي وُجُوبِهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوجِبُونَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا الخرقي وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمَا . وَالثَّانِي : يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَن… قراءة المزيد
٦:٢٠ م



٣. فصل ومن هذا الباب لفظ " الكفر " و " النفاق " فَالْكُفْرُ إذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } . وَقَوْلِهِ : { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَقَوْلِهِ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } وَقَوْلِهِ : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَت… قراءة المزيد
٦:٢١ م



٤. فصل وكذلك لفظ " الصالح " و " الشهيد " و " الصديق " يُذْكَرُ مُفْرَدًا ؛ فَيَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْخَلِيلِ : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } . وَقَالَ : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } . وَقَالَ الْخَلِيلُ : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } . وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } . وَقَالَ سُلَيْمَانُ : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ { لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْ… قراءة المزيد
٦:٢٢ م



٥فصل وكذلك لفظ " المعصية " و " الفسوق " و " الكفر " فَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ دَخَلَ فِيهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } . فَأَطْلَقَ مَعْصِيَتَهُمْ لِلرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ عَصَوْا هُودًا مَعْصِيَةَ تَكْذِيبٍ لِجِنْسِ الرُّسُلِ فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ لِجِنْسِ الرُّسُلِ كَمَعْصِيَةِ مَنْ قَالَ : { فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } . وَمَعْصِيَةِ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ تَعَالَى : { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } أَيْ كَذَّبَ بِالْخَيْرِ … قراءة المزيد
٦:٢٣ م



٦ فصل ومن هذا الباب " ظلم النفس " فَإِنَّهُ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوُلُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ } . وَقَالَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } . وَقَالَتْ بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَم… قراءة المزيد



٧ فصل ومن هذا الباب لفظ " الصلاح " و " الفساد " فَإِذَا أُطْلِقَ الصَّلَاحُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَكَذَلِكَ الْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الصَّالِحِ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْمُصْلِحِ وَالْمُفْسِدِ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى : { أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إنْ تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } { وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } . وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِي… قراءة المزيد


لا يمكن مشاهدة هذه الرسالة في واتساب ويب. بدلاً من ذلك يمكنك مشاهدتها على هاتفك.



 



١٠ فصل قال الذين نصروا مذهب جهم في الايمان من المتاخرين كالقاضي ابي بكر وهذا لفظه فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا الْإِسْلَامُ عِنْدَكُمْ ؟ قِيلَ لَهُ : " الْإِسْلَامُ " : الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ ؛ فَكُلُّ طَاعَةٍ انْقَادَ الْعَبْدُ بِهَا لِرَبِّهِ وَاسْتَسْلَمَ فِيهَا لِأَمْرِهِ فَهِيَ إسْلَامٌ ، وَالْإِيمَانُ : خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ ؛ وَكُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا فَإِنْ قَالَ : فَلِمَ قُلْتُمْ : إنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ مَا وَصَفْتُمْ ؟ قِيلَ : لِأَجْلِ قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا أَثْبَتَهُ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ وَمِنْهُ : { وَأَلْقَوْا إلَيْ… قراءة المزيد
٦:٣٢ م



١١ فصل ومما يدل من القران على ان الايمان المطلق مستلزم للاعمال قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ كَانَ إذَا ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ لَا يَفْعَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَسُجُودُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَرْضٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ ؛ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يُوجِبُهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ… قراءة المزيد
٦:٣٣ م



١٢ فصل واما اذا قيد الايمان فقرن بالاسلام او بالعمل الصالح فانه قد يراد به ما في القلب من الايمان باتفاق الناس وَهَلْ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ لَا يَكُونُ حِينَ الِاقْتِرَانِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ ؟ بَلْ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضًا وَلَا لَازِمًا هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الْأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْمَعْرُوفِ " وَ " الْمُنْكَرِ " إذَا أُطْلِقَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلن… قراءة المزيد
٦:٣٣ م



١٣ فصل وعطف الشيء على الشيء في القران وساير الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما والمغايرة على مراتب اعلاها ان يكونا متباينين ليس احدهما هو الاخر ولا جزاه ولا يعرف لزومه له كَقَوْلِهِ { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ . وَيَلِيهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ… قراءة المزيد
٦:٣٤ م



١٤ فصل فاذا تبين هذا فلفظ " الايمان " اذا اطلق في القران والسنة يراد به ما يراد بلفظ " البر " وبلفظ " التقوى " وبلفظ " الدين " كَمَا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ " { الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } " فَكَانَ كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التَّقْوَى " وَكَذَلِكَ " الدِّينُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ " وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ الْإِيمَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } الْآيَةَ وَقَدْ فُسِّرَ الْبِرُّ بِالْإِيمَانِ وَفُسِّر… قراءة المزيد
٦:٣٥ م



١٥ فصل وهذا النوع من نمط " اسماء الله واسماء كتابه واسماء رسوله واسماء دينه " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ… قراءة المزيد
٦:٣٦ م



١٦ فصل الوجه الثاني من غلط " المرجية " ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ لَيْسَ إلَّا التَّصْدِيقَ فَقَطْ دُونَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ؛ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جهمية الْمُرْجِئَةِ . ( الثَّالِثُ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ ثَمَرَةَ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا لَازِمَةً لَهُ ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ لَا مَحَالَةَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ إيمَانٌ تَامٌّ بِدُونِ عَمَلٍ ظَاهِرٍ ؛ وَلِهَذَا صَارُوا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الْبَدَنِ و… قراءة المزيد
٦:٣٦ م



١٧ فصل فان قيل فاذا كان الايمان المطلق يتناول جميع ما امر الله به ورسوله فمتى ذهب بعض ذلك بطل الايمان فيلزم تكفير اهل الذنوب كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ أَوْ تَخْلِيدُهُمْ فِي النَّارِ وَسَلْبُهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِخَيْرِ وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مُطْبِقُونَ عَلَى ذَمِّهِمْ . قِيلَ : أَوَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُوَافِقْ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَ… قراءة المزيد
٦:٣٧ م



١٨ فصل وزيادة الايمان الذي امر الله به والذي يكون من عباده المومنين يعرف من وجوه أَحَدُهَا : الْإِجْمَالُ وَالتَّفْصِيلُ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ الْتِزَامُ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُهُمْ مُجْمَلًا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا وَجَبَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ غَيْرُهُ فَمَنْ عَرَفَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَمَعَانِيَهَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ بِذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَلَوْ آمَنَ الرَّجُلُ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ … قراءة المزيد
٦:٣٨ م



 



٢٠ فصل ومما ينبغي ان يعلم ان الالفاظ الموجودة في القران والحديث اذا عرف تفسيرها وما اريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك الى الاستدلال باقوال اهل اللغة ولا غيرهم ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : " الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " نَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ . فَاسْمُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ هُنَاكَ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِغَيْرِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهَا وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا فَذَاكَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ . وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَبَيَانُ حِكْمَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ بِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا . وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ؛ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانًا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِالِاشْتِقَاقِ وَشَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَى بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ شَافٍ كَافٍ ؛ بَلْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بَلْ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ وَيَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا كَافِرًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَنَا بِهِ بِقُلُوبِنَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ؛ وَنُقِرُّ بِأَلْسِنَتِنَا بِالشَّهَادَتَيْنِ إلَّا أَنَّا لَا نُطِيعُك فِي شَيْءٍ مِمَّا أَمَرْت بِهِ وَنَهَيْت عَنْهُ فَلَا نُصَلِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ وَلَا نُصَدِّقُ الْحَدِيثَ وَلَا نُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَلَا نَفِي بِالْعَهْدِ وَلَا نَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا نَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرْت بِهِ وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ ؛ وَنَنْكِحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالزِّنَا الظَّاهِرِ وَنَقْتُلُ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِك وَأُمَّتِك وَنَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ بَلْ نَقْتُلُك أَيْضًا وَنُقَاتِلُك مَعَ أَعْدَائِك ؛ هَلْ كَانَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُرْجَى لَكُمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ النَّارَ بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ أَكْفَرُ النَّاسِ بِمَا جِئْت بِهِ وَيَضْرِبُ رِقَابَهُمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ جَلْدَ الْقَاذِفِ وَالزَّانِي وَقَطْعَ السَّارِقِ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَقَتَلَهُمْ . فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَهْلُ الْبِدَعِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ الدَّاخِلُ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَصَارُوا يَبْنُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ يَظُنُّونَ صِحَّتَهَا . إمَّا فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ . وَإِمَّا فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ . وَلَا يَتَأَمَّلُونَ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلُّ مُقَدِّمَاتٍ تُخَالِفُ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ ضَلَالًا وَلِهَذَا تَكَلَّمَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِبَيَانِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجرجاني فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . لَا يَعْدِلُونَ عَنْ بَيَانِ الرَّسُولِ إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا ؛ وَمَنْ عَدَلَ عَنْ سَبِيلِهِمْ وَقَعَ فِي الْبِدَعِ الَّتِي مَضْمُونُهَا أَنَّهُ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَوْ غَيْرَ الْحَقِّ وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ : { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَهَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ : { مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " الْمُرْجِئَةَ " لَمَّا عَدَلُوا عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَخَذُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مُسَمَّى " الْإِيمَانِ " وَ " الْإِسْلَامِ " وَغَيْرِهِمَا بِطُرُقِ ابْتَدَعُوهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا : " الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ " هُوَ التَّصْدِيقُ وَالرَّسُولُ إنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ يُغَيِّرْهَا فَيَكُونُ مُرَادُهُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ ؛ ثُمَّ قَالُوا : وَالتَّصْدِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ فَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ ثُمَّ عُمْدَتُهُمْ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ قَوْلُهُ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ بِمُصَدِّقِ لَنَا . فَيُقَالُ لَهُمْ : " اسْمُ الْإِيمَانِ " قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَبِهِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ؛ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ وَمَنْ يُوَالِي وَمَنْ يُعَادِي وَالدِّينُ كُلُّهُ تَابِعٌ لِهَذَا ؛ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ؛ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ أَهْمَلَ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ . وَوَكَلَهُ إلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ؟ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ . وَنَقْلُ مَعْنَى الْإِيمَانِ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ تَوَاتُرِ لَفْظِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَيَنْقُلُونَهُ بِخِلَافِ كَلِمَةٍ مِنْ سُورَةٍ . فَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ أَصْلِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَلِهَذَا كَثُرَ النِّزَاعُ وَالِاضْطِرَابُ بَيْنَ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَسَلَكُوا السُّبُلَ وَصَارُوا مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا وَمِنْ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ مُطْلَقٌ . ثُمَّ يُقَالُ : " هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ " كِلَاهُمَا مَمْنُوعَةٌ فَمَنْ الَّذِي قَالَ : إنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ ؟ وَهَبْ أَنَّ الْمَعْنَى يَصِحُّ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلِمَ قُلْت : إنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ ؟ وَلَوْ قُلْت : مَا أَنْتَ بِمُسْلِمِ لَنَا مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا صَحَّ الْمَعْنَى لَكِنْ لِمَ قُلْت : إنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ مُؤْمِنٍ ؟ وَإِذَا قَالَ اللَّهُ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } . وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : أَتِمُّوا الصَّلَاةَ وَلَازِمُوا الصَّلَاةَ الْتَزِمُوا الصَّلَاةَ افْعَلُوا الصَّلَاةَ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا . لَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مَعْنَى : أَقِيمُوا . فَكَوْنُ اللَّفْظِ يُرَادِفُ اللَّفْظَ ؛ يُرَادُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ . ثُمَّ يُقَالُ : لَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ لِلْمُخْبِرِ إذَا صَدَّقْته : صَدَّقَهُ وَلَا يُقَالُ : آمَنَهُ وَآمَنَ بِهِ . بَلْ يُقَالُ : آمَنَ لَهُ كَمَا قَالَ : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } وَقَالَ : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } وَقَالَ فِرْعَوْنُ : { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } وَقَالُوا لِنُوحِ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } . فَقَالُوا : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } وَقَالَ : { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يُقَالُ : مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا . قِيلَ : اللَّامُ تَدْخُلُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إذَا ضَعُفَ عَمَلُهُ إمَّا بِتَأْخِيرِهِ أَوْ بِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ أَوْ مَصْدَرًا أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمَا فَيُقَالُ : فُلَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَخَافُهُ وَيَتَّقِيهِ ثُمَّ إذَا ذَكَرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ قِيلَ : هُوَ عَابِدٌ لِرَبِّهِ مُتَّقٍ لِرَبِّهِ خَائِفٌ لِرَبِّهِ وَكَذَلِكَ تَقُولُ : فُلَانٌ يَرْهَبُ اللَّهَ ثُمَّ تَقُولُ : هُوَ رَاهِبٌ لِرَبِّهِ وَإِذَا ذَكَرْت الْفِعْلَ وَأَخَّرْته تُقَوِّيهِ بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وَقَدْ قَالَ : { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } فَعَدَّاهُ بِنَفْسِهِ وَهُنَاكَ ذَكَرَ اللَّامَ فَإِنَّ هُنَا قَوْلَهُ : { فَإِيَّايَ } أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ : فَلِي . وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ { لِرَبِّهِمْ } أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ : رَبِّهِمْ فَإِنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمَنْصُوبَ أَكْمَلُ مِنْ ضَمِيرِ الْجَرِّ بِالْيَاءِ وَهُنَاكَ اسْمٌ ظَاهِرٌ فَتَقْوِيَتُهُ بِاللَّامِ أَوْلَى وَأَتَمُّ مِنْ تَجْرِيدِهِ ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ : { إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } وَيُقَالُ : عَبَرْت رُؤْيَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } وَإِنَّمَا يُقَالُ : غِظْته لَا يُقَالُ : غِظْت لَهُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فَيَقُولُ الْقَائِلُ : مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا أَدْخَلَ فِيهِ اللَّامَ لِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ وَإِلَّا فَإِنَّمَا يُقَالُ : صَدَّقْته لَا يُقَالُ : صَدَّقْت لَهُ وَلَوْ ذَكَرُوا الْفِعْلَ لَقَالُوا : مَا صَدَّقْتنَا وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الضَّمِيرِ بِاللَّامِ دَائِمًا ؛ لَا يُقَالُ : آمَنْته قَطُّ وَإِنَّمَا يُقَالُ : آمَنْت لَهُ كَمَا يُقَالُ : أَقْرَرْت لَهُ فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا . ( الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ : صَدَقْت كَمَا يُقَالُ : كَذَبْت . فَمَنْ قَالَ : السَّمَاءُ فَوْقَنَا قِيلَ لَهُ : صَدَقَ كَمَا يُقَالُ : كَذَبَ وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ؛ كَقَوْلِهِ : طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنَّهُ يُقَالُ : آمَنَّاهُ كَمَا يُقَالُ : صَدَّقْنَاهُ وَلِهَذَا ؛ الْمُحَدِّثُونَ وَالشُّهُودُ وَنَحْوُهُمْ ؛ يُقَالُ : صَدَّقْنَاهُمْ ؛ وَمَا يُقَالُ آمَنَّا لَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمْنِ . فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ كَالْأَمْرِ الْغَائِبِ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ إلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ ؛ وَالِاثْنَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ يُقَالُ : صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُقَالُ : آمَنَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَنْهُ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } . { آمَنْتُمْ لَهُ } . { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } فَيُصَدِّقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ . مِمَّا غَابَ عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَاللَّفْظُ مُتَضَمِّنٌ مَعَ التَّصْدِيقِ وَمَعْنَى الِائْتِمَانِ وَالْأَمَانَةِ ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِاشْتِقَاقُ وَلِهَذَا قَالُوا : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ لَا تُقِرُّ بِخَبَرِنَا وَلَا تَثِقُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَهُ مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ . فَلَوْ صَدَقُوا لَمْ يَأْمَنْ لَهُمْ . ( الثَّالِثُ : أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ يُقَالُ لَهُ : صَدَقْت أَوْ كَذَبْت وَيُقَالُ : صَدَّقْنَاهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ وَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُخْبِرٍ : آمَنَّا لَهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ ؛ وَلَا يُقَالُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ لَهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لَهُ ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ . يُقَالُ : هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ ؛ بَلْ لَوْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ إنَّك صَادِقٌ لَكِنْ لَا أَتَّبِعُك بَلْ أُعَادِيك وَأُبْغِضُك وَأُخَالِفُك وَلَا أُوَافِقُك لَكَانَ كُفْرُهُ أَعْظَمَ ؛ فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ الْمُقَابِلُ لِلْإِيمَانِ لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبُ فَقَطْ عُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ بَلْ إذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَيَكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً وَامْتِنَاعًا بِلَا تَكْذِيبٍ ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ تَصْدِيقًا مَعَ مُوَافَقَةٍ وَمُوَالَاةٍ وَانْقِيَادٍ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ ؛ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الِانْقِيَادِ مَعَ التَّصْدِيقِ جُزْءَ مُسَمَّى الْكُفْرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ . فَإِنْ قِيلَ : فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ . قِيلَ : فَالرَّسُولُ ذَكَرَ مَا يُؤْمِنُ بِهِ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُؤْمَنُ لَهُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيُؤْمِنَ لَهُ فَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُهُ غَيْبٌ عَنَّا أُخْبِرْنَا بِهِ وَلَيْسَ كُلُّ غَيْبٍ آمَنَّا بِهِ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ وَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ طَاعَتَهُ وَالرَّسُولُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ هَذَا وَأَيْضًا فَإِنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ . ( الرَّابِعُ : أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ ؛ فَآمَنَ أَيْ صَارَ دَاخِلًا فِي الْأَمْنِ وَأَنْشَدُوا وَأَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " فَيُقَالُ : إنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُمْ : إنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ ؛ عَنْهُ جَوَابَانِ . " أَحَدُهُمَا " : الْمَنْعُ بَلْ الْأَفْعَالُ تُسَمَّى تَصْدِيقًا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ؛ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ ؛ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ ؛ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى ذَلِكَ وَيَشْتَهِي ؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَالصِّدِّيقُ مِثَالُ الْفِسِّيقِ : الدَّائِمُ التَّصْدِيقَ . وَيَكُونُ الَّذِي يَصْدُقُ قَوْلُهُ بِالْعَمَلِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ الْحَسَنِ يُرْوَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا رَوَاهُ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ؛ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ النَّاجِي عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي ؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ . مَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَمَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ صَالِحًا رَفَعَهُ الْعَمَلُ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ . وَقَوْلُهُ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي - يَعْنِي الْكَلَامَ - وَقَوْلُهُ : بِالتَّحَلِّي . يَعْنِي أَنْ يَصِيرَ حِلْيَةً ظَاهِرَةً لَهُ فَيُظْهِرُهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ مِنْ قَلْبِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلِ وَلَا مِنْ الْحِلْيَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ فَالْعَمَلُ يُصَدِّقُ أَنَّ فِي الْقَلْبِ إيمَانًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ كَذَّبَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَمَلِ الظَّاهِرِ . وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ . وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المروزي بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . فَأَجَابَهُ عَنْهَا : سَأَلْت عَنْ الْإِيمَانِ فَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنْ يُصَدِّقَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَمَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَسَأَلْت عَنْ التَّصْدِيقِ . وَالتَّصْدِيقُ : أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِمَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا ضَعُفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَفَرَّطَ فِيهِ عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ هُوَ التَّصْدِيقُ . وَتَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ فَالدِّينُ هُوَ الْعِبَادَةُ فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ تَرَكَ عِبَادَةَ أَهْلِ دِينٍ ثُمَّ لَا يَدْخُلُ فِي دِينٍ آخَرَ إلَّا صَارَ لَا دِينَ لَهُ . وَتَسْأَلُ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ آثَرَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ فَرَّطُوا : { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } وَإِنَّمَا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ الشَّيْطَانَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُ فِي دِينِهِمْ . وَقَالَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ : الْإِيمَانُ فِي كِتَابِ اللَّهِ صَارَ إلَى الْعَمَلِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ . ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إلَى الْعَمَلِ فَقَالَ : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : وَسَمِعْت الأوزاعي يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ الْعَمَلُ . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : كُنَّا نَقُولُ الْإِسْلَامُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانُ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا يُوزَنُ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ أَوْزَنَ مِنْ قَوْلِهِ : صَعِدَ إلَى اللَّهِ ؛ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ أَوْزَنَ مِنْ عَمَلِهِ لَمْ يَصْعَدْ إلَى اللَّهِ . وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ . وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو : عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري عَنْ الأوزاعي قَالَ : لَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ إلَّا بِالْعَمَلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ إلَّا بِنِيَّةِ مُوَافِقَةٍ لِلسُّنَّةِ . وَكَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ ؛ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ الْعَمَلِ ؛ وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَدْيَانَ اسْمُهَا وَيُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ . فَمَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَعَرَفَ بِقَلْبِهِ وَصَدَّقَ بِعَمَلِهِ فَتِلْكَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا . وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِعَمَلِهِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ . وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْعَمَلَ مُصَدِّقًا لِلْقَوْلِ ؛ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ : حَدَّثَنَا الفضيل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ . فَقَالَ : الْإِيمَانُ : الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْعَمَلِ ؛ ثُمَّ تَلَا { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلَى قَوْلِهِ { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } } . قُلْت حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ هَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانُوا رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ : صَدَقَ قَوْلُهُ بِعَمَلِهِ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي : الْإِيمَانُ تَصْدِيقٌ كُلُّهُ . وَكَذَلِكَ " الْجَوَابُ الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقَ فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ وَالْحَجَّ قَصْدٌ مَخْصُوصٌ وَالصِّيَامَ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ ؛ وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَهُ لَوَازِمُ صَارَتْ لَوَازِمُهُ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ وَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا : هَلْ الْإِيمَانُ دَالٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ بِاللُّزُومِ ؟ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَإِلَّا فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ - كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ - مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ قَالُوا : إنَّ إيمَانَهُمْ كَامِلٌ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ فَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ بِدُونِ الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ وَمَعَ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ . وَيَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ الْفَاسِقِ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ . فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِدُخُولِهِ إلَيْهَا وَلَا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ وَلَا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ وَلَكِنَّ " الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَقَوْلُ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : مَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ ؛ بَلْ نَقِفُ فِي هَذَا كُلِّهِ . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ . وَيُقَالُ لِلْخَوَارِجِ : الَّذِي نَفَى عَنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَغَيْرِهِمْ الْإِيمَانَ ؛ هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ عَاقَبَ هَذَا بِالْجَلْدِ وَهَذَا بِالْقَطْعِ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَهَذَا يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فَأُولَئِكَ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ظَاهِرٍ . وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لَا فِي مَعْنَى الْأَسْمَاءِ ؟ . وَهَكَذَا قَالُوا فِي اسْمِ " الصَّلَاةِ " وَ " الزَّكَاةِ " وَ " الصِّيَامِ " " وَالْحَجِّ " إنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ لَكِنْ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا . وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً كَمَا يَسْتَعْمِلُ نَظَائِرَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } فَذَكَرَ حَجًّا خَاصًّا وَهُوَ حَجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } فَلَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ بَلْ لِقَصْدِ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ وَالشَّاعِرُ إذَا قَالَ : وَاشْهَدْ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِاللُّغَةِ وَقَدْ قَيَّدَ : لَفْظَهُ : بِحَجِّ سَبِّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الْمَخْصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ : فَإِذَا قِيلَ : الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْك كَانَتْ لَامُ الْعَهْدِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ حِجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ " الزَّكَاةُ " هِيَ اسْمٌ لِمَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ ؛ وَزَكَاةُ النَّفْسِ زِيَادَةُ خَيْرِهَا وَذَهَابُ شَرِّهَا وَالْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ مِمَّا تَزْكُو بِهِ . قَالَ تَعَالَى . { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } وَأَصْلُ زَكَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَهِيَ عِنْدُ الْمُفَسِّرِينَ التَّوْحِيدُ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ وَسَمَّاهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ؛ فَصَارَ لَفْظُ الزَّكَاةِ إذَا عُرِّفَ بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْعَهْدِ وَمِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ أَهْلُ الْعُرْفِ نَقَلُوهُ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ مِثْلَ لَفْظِ " التَّيَمُّمِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } فَلَفْظُ " التَّيَمُّمِ " اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ ثُمَّ أَمَرَ بِمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ ؛ فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا الْمَسْحُ ؛ وَلَيْسَ هُوَ لُغَةُ الشَّارِعِ بَلْ الشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَ تَيَمُّمِ الصَّعِيدِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَمَرَ بِهِ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِسْلَامِ " بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكُفْرِ " مُقَيَّدًا ؛ وَلَكِنْ لَفْظُ " النِّفَاقِ " قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ وَمِنْهُ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ : وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ } فَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ بَاطِنًا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ظَاهِرًا ؛ وَقَيَّدَ النِّفَاقَ بِأَنَّهُ نِفَاقٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ مُنَافِقًا عَلَيْهِ ؛ لَكِنَّ النِّفَاقَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ النِّفَاقُ عَلَى الرَّسُولِ . فَخِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كَخِطَابِ النَّاسِ بِغَيْرِهَا ؛ وَهُوَ خِطَابٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ لَا مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا . وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ تِلْكَ الْخَصَائِصَ ؛ وَالِاسْمُ دَلَّ عَلَيْهَا ؛ فَلَا يُقَالُ : إنَّهَا مَنْقُولَةٌ وَلَا إنَّهُ زِيدَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الِاسْمِ ؛ بَلْ الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارِعِ ؛ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُطْلَقًا وَهُوَ إنَّمَا قَالَ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمْ الصَّلَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا ؛ فَكَانَ التَّعْرِيفُ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا ؛ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الصَّلَاةِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ . وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ قَالَ فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ : إنَّهُ عَامٌّ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ؛ أَوْ إنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَأَقْوَالُهُمْ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا وَرَدَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا فَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } وَسُورَةُ { اقْرَأْ } مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ { وَكَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ إمَّا أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ نَهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَالَ : لَئِنْ رَأَيْته يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ . فَلَمَّا رَآهُ سَاجِدًا رَأَى مِنْ الْهَوْلِ مَا أَوْجَبَ نُكُوصَهُ عَلَى عَقِبَيْهِ } فَإِذَا قِيلَ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } فَقَدْ عَلِمْت تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاقِعَةَ بِلَا إجْمَالٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا عُمُومٍ . ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ بِمَوَاقِيتِهَا صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ جبرائيل يَؤُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } عَرَفُوا أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ وَقِيلَ : إنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَكَانَتْ أَيْضًا مَعْرُوفَةً فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا وَمُسَمَّاهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ . فَلَا إجْمَالَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى حَجًّا وَدُعَاءً وَصَوْمًا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ . وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " وَ " الْإِسْلَامُ " وَقَدْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَقَالَ : { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَقَائِقَهَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْصَدَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا } فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمِسْكِينَ وَأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فِيمَنْ يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ وَالنَّاسُ يُعْطُونَهُ تَزُولُ مَسْكَنَتُهُ بِإِعْطَاءِ النَّاسِ لَهُ وَالسُّؤَالُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِرْفَةِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَنْ غَيْرِهَا كِفَايَتُهُ فَهُوَ إذَا وَجَدَ مَنْ يُعْطِيهِ كِفَايَتَهُ لَمْ يَبْقَ مِسْكِينًا وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْعَطَاءِ فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ قَطْعًا وَذَاكَ مَسْكَنَتُهُ تَنْدَفِعُ بِعَطَاءِ مَنْ يَسْأَلُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ " يُرِيدُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَاجِبٌ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ؛ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ وَلِهَذَا وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِهَذَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا : أَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الْمَعَاصِيَ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَأَمَّا هَذِهِ الْمَبَانِي فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَعَنْ أَحْمَد : فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ : إنَّهُ يَكْفُرُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ حَبِيبٍ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا وَرَابِعَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ . وَخَامِسَةٌ : لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُنَّ . وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلسَّلَفِ . قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمَّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : لَا تُرْفَعُ الصَّلَاةُ إلَّا بِالزَّكَاةِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ . رَوَاهُنَّ أَسَدُ بْنُ مُوسَى . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى مُشْرِكًا فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النخعي : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ فِي كِتَابِهِ : مَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْحَجُّ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَعْنَاهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ مَعْنَاهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ " الْإِيمَانِ " أَوْ " الْإِسْلَامِ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ . قَالَ أَبُو داود السجستاني : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِي يَحْيَى قَالَ : سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ الْمُنَافِقِ . قَالَ : الَّذِي يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ . وَقَالَ أَبُو داود : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي البختري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ : قَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ وَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ؛ وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ ؛ فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ ؛ وَمَثَلُ النِّفَاقِ مَثَلُ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ ؛ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَلَبَ . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا ؛ وَهُوَ فِي " الْمُسْنَدِ " مَرْفُوعًا . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } فَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِمْ نِفَاقٌ مَغْلُوبٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ غَلَبَ نِفَاقُهُمْ فَصَارُوا إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ الْقَلْبُ بَيَاضًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ ابْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ . وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ وَلَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ . رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ شُعَبَ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ شُعَبَ النِّفَاقِ وَقَالَ : { مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا } وَتِلْكَ الشُّعْبَةُ قَدْ يَكُونُ مَعَهَا كَثِيرٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ لِلْأَعْرَابِ : { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } نَفَى حَقِيقَةَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ . وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ : مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : أَسْلَمْنَا أَيْ اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّيْفِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : هُوَ الْإِسْلَامُ . الْجَمِيعُ صَحِيحٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ الَّذِي قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوا التَّكْذِيبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ وَلَكِنْ الْإِيمَانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَحُبُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبُغْضُ مَا نَهَى عَنْهُ هَذَا مِنْ أَخَصِّ الْأُمُورِ بِالْإِيمَانِ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ : { مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَهَذَا يُحِبُّ الْحَسَنَةَ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيُبْغِضُ السَّيِّئَةَ وَيَسُوءُهُ فِعْلُهَا وَإِنْ فَعَلَهَا بِشَهْوَةِ غَالِبَةٍ وَهَذَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا ؛ لَمْ يَزْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْنِ وَإِنَّمَا يَزْنِي لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَلِهَذَا قِيلَ : هُوَ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَإِلَّا كَانَ مُنَافِقًا ؛ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ قَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلُ كَمَالِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِثْلُ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرَائِي بِأَعْمَالِهِ وَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ خُوطِبَ بِهَذَا الْمُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " فَقِيلَ لَهُمْ : { إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ؛ وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ لَمْ يَرْتَبْ وَجَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ تَقُمْ بِقَلْبِهِ الْأَحْوَالُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِيمَانِ فَهُوَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَإِلَّا فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ إيمَانًا أَلْبَتَّةَ بَلْ هُوَ كَتَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَإِبْلِيسَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَى الجهمية . قَالَ الحميدي : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ : أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ . والجهمية يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ : وَهَذَا كُفْرٌ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الكلابي : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ : الجهمية شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ قَالَ : وَقَالَ وَكِيعٌ : الْمُرْجِئَةُ : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِقْرَارُ يُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ ؛ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ هَلَكَ ؛ وَمَنْ قَالَ : النِّيَّةُ تُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ فَهُوَ كُفْرٌ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ . وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ شَعَائِرِ السُّنَّةِ وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي " الْأُمِّ " : وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِالْآخَرِ ؛ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - فِي " مَنَاقِبِهِ " - : سَمِعْت حَرْمَلَةَ يَقُولُ : اجْتَمَعَ حَفْصٌ الْفَرْدُ وَمَصْلَانِ الإباضي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي دَارِ الجروي فَتَنَاظَرَا مَعَهُ فِي الْإِيمَانِ فَاحْتَجَّ مَصْلَانِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَخَالَفَهُ حَفْصٌ الْفَرْدُ فَحَمِيَ الشَّافِعِيُّ وَتَقَلَّدَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَطَحَنَ حَفْصًا الْفَرْدَ وَقَطَعَهُ . وَرَوَى أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ قَالَ : أَمْلَى عَلَيْنَا إسْحَاقُ بْنُ راهويه أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا وَإِنَّمَا عَقَلْنَا هَذَا بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ الْعَامَّةِ الْمُحْكَمَةِ ؛ وَآحَادِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ الأوزاعي بِالشَّامِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ ؛ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ بِالْحِجَازِ وَمَعْمَرٍ بِالْيَمَنِ عَلَى مَا فَسَّرْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَقَالَ إسْحَاقُ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى ذَهَبَ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى الْمَغْرِبِ وَالْمَغْرِبِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَقَالَ تَرْكُهَا لَا يَكُونُ كُفْرًا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ - يَعْنِي تَارِكَهَا . وَقَالَ ذَلِكَ - وَأَمَّا إذَا صَلَّى وَقَالَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ قَالَ : وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ عَصْرِنَا هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ إلَّا مَنْ بَايَنَ الْجَمَاعَةَ وَاتَّبَعَ الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ لَمَّا بَايَنُوا الْجَمَاعَةَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْإِمَامُ - وَلَهُ كِتَابٌ مُصَنَّفٌ فِي الْإِيمَانِ قَالَ - : هَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ كَانَ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ : عُبَيْدُ بْن عُمَيْرٍ الليثي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرِ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ؛ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ؛ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ؛ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جَرِيحٍ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ داود بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزَّهْرِيُّ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمْرِيُّ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الماجشون - عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ : طَاوُوسٌ الْيَمَانِيُّ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ . وَمِنْ أَهْل مِصْرَ وَالشَّامِ : مَكْحُولٌ الأوزاعي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأيلي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ يَزِيدُ بْنُ شريح سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ حيوة ابْنُ شريح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ . وَمَنْ سَكَنَ الْعَوَاصِمَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْجَزِيرَةِ : مَيْمُونُ بْنُ مهران يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرقي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَالِكٍ المعافي بْنُ عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الحراني أَبُو إسْحَاقَ الفزاري مخلد بْنُ الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ بكار يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ : عَلْقَمَةُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو وَائِلٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الرَّبِيعُ بْنُ خيثم عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ إبْرَاهِيمُ النخعي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ سَلَمَةُ بْنُ كهيل مُغِيرَةُ الضبي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ مهران الْأَعْمَشُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ سُفْيَانُ بْنُ عيينة الفضيل بْنُ عِيَاضٍ أَبُو الْمِقْدَامِ ثَابِتُ بْنُ الْعَجْلَانِ ابْنُ شبرمة ابْنُ أَبِي لَيْلَى زُهَيْرٌ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أَبُو الْأَحْوَصِ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ أَبُو أُسَامَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ زَيْدُ بْنُ الحباب الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الجعفي مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ العبدي يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَمُحَمَّدٌ وَيَعْلَى وَعَمْرُو بَنُو عُبَيْدٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ : الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ سيرين قتادة ابْنُ دِعَامَةَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المزني أَيُّوبُ السختياني يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ سُلَيْمَانُ التيمي هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الدستوائي شُعْبَةُ ابْنُ الْحَجَّاجِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو الْأَشْهَبِ يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَبُو عَوَانَةَ وهيب بْنُ خَالِدٍ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التيمي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ يَزِيدُ بْنُ زريع الْمُؤَمِّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي . وَمِنْ أَهْلِ وَاسِطٍ : هشيم بْنُ بَشِيرٍ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ صَالِحُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ : الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ النَّضْرُ بْنُ شميل جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضبي . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَنَا . قُلْت : ذَكَرَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْإِرْجَاءَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ أَوَّلًا فِيهِمْ أَكْثَرَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَاحْتَاجَ عُلَمَاؤُهَا أَنْ يُظْهِرُوا إنْكَارَ ذَلِكَ فَكَثُرَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ كَمَا أَنَّ التَّجَهُّمَ وَتَعْطِيلَ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءَ حُدُوثِهِ مِنْ خُرَاسَانَ كَثُرَ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى الجهمية مَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي بَلَدِهِ وَلَا سَمِعَ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ : { إنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ يَكَادُ بِهَا الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِعَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ ؛ فَاغْتَنِمُوا تِلْكَ الْمَجَالِسَ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى أَهْلِهَا } أَوْ كَمَا قَالَ . وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ : إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالُوا : كَفَرُوا كُفْرًا لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المروزي فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ جبرائيل هَذَا فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ كَلَامٌ جَامِعٌ مُخْتَصَرٌ لَهُ غَوْرٌ وَقَدْ وَهَمَتْ الْمُرْجِئَةُ فِي تَفْسِيرِهِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ قِلَّةٌ مَعْرِفَةً مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَوْرُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَفَوَاتِحَهُ وَاخْتُصِرَ لَهُ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا . أَمَّا قَوْلُهُ : { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } فَأَنْ تُوَحِّدَهُ وَتُصَدِّقَ بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَتَخْضَعَ لَهُ وَلِأَمْرِهِ بِإِعْطَاءِ الْعَزْمِ لِلْأَدَاءِ لِمَا أَمَرَ مُجَانِبًا لِلِاسْتِنْكَافِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْمُعَانَدَةِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ لَزِمْت مُحَابَّهُ وَاجْتَنَبْت مساخطه . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَمَلَائِكَتِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَنْ سَمَّى اللَّهُ لَك مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سِوَاهُمْ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَعَدَدَهُمْ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَكُتُبِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ خَاصَّةً ؛ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ سِوَى ذَلِكَ كُتُبًا أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا وَعَدَدَهَا إلَّا الَّذِي أَنْزَلَهَا وَتُؤْمِنَ بِالْفُرْقَانِ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الْكُتُبِ . إيمَانُك بِغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ إقْرَارُك بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَإِيمَانُك بِالْفُرْقَانِ إقْرَارُك بِهِ وَاتِّبَاعُك مَا فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَرُسُلِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ رُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ اللَّهَ سَوَّاهُمْ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ إلَّا الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَتُؤْمِنَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الرُّسُلِ . إيمَانُك بِسَائِرِ الرُّسُلِ إقْرَارُك بِهِمْ وَإِيمَانُك بِمُحَمَّدِ إقْرَارُك بِهِ وَتَصْدِيقُك إيَّاهُ دَائِبًا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَإِذَا اتَّبَعْت مَا جَاءَ بِهِ أَدَّيْت الْفَرَائِضَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ وَوَقَفْت عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَسَارَعْت فِي الْخَيْرَاتِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } فَأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَأَنَّ مَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك وَلَا تَقُلْ : لَوْ كَانَ كَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَلَوْلَا كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا . قَالَ : فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .

٢٣
والناس في " الايمان والاسلام " على ثلاث مراتب
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ .
فَالْمُسْلِمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيمَانٌ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَلَا يَنْعَكِسْ وَكَذَلِكَ فِي الْآخَرِ .
وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَالْآيَاتُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دِينٌ غَيْرَهُ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ ؛ بَلْ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي حُجَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْوَعْدَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَحِينَئِذٍ فَمَدْحُهُ وَإِيجَابُهُ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْإِيمَانِ ؛ وَأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَكُلُّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْعَكْسِ ؛ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهَا وَيُوجِبُهَا وَيُثْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الصَّلَاةِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ بَلْ الصَّلَاةُ تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُصَلٍّ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ صَلَّى وَأَتَى الْكَبَائِرَ مُؤْمِنًا .
وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحُجَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا التَّفْرِيقَ بَيْن مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ إذَا ذُكِرَا جَمِيعًا كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ الْمُصَنَّفِ فِي " أُصُولِ الدِّينِ " : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَكَلَامُ أَحْمَد يَحْتَمِلُ رِوَايَتَيْنِ .
( إحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَالْإِيمَانِ .
( وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ .
وَهُوَ نَصُّهُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَذْهَبَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ : إنَّ الْإِسْلَامَ قَوْلٌ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرْطِهِ إذْ النَّصُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِهِ الصَّلَاةَ .
قَالَ : وَقَدْ قَضَيْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ : وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُمَا اسْمَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قَالَ : وَيُفِيدُ هَذَا أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ تَنْتَفِي عَنْهُ تَسْمِيَتُهُ مَعَ بَقَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ بِإِتْيَانِ الْكَبَائِرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْخَبَرِ فَيَخْرُجُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ مُسْلِمٌ ؛ فَإِذَا تَابَ مِنْ ذَلِكَ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ .
وَلَا تَنْتِفِي عَنْهُ تَسْمِيَةُ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الصَّغَائِرِ مِنْ الذُّنُوبِ بَلْ الِاسْمُ بَاقٍ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِيهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ : الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الْكَثِيرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ النُّصُوصُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ بِخِلَافِ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ الدِّينُ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسْلِمَ وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ لِلَّهِ فَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ إسْلَامٌ وَهَذَا غَيْرُ التَّصْدِيقِ ذَاكَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْقَلْبِ .
وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ اتَّبَعَ هنا الزُّهْرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إنَّهُ بِالْكَلِمَةِ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا قَرِيبٌ .
وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَمِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فَهَذَا غَلَطٌ قَطْعًا بَلْ قَدْ أَنْكَرَ أَحْمَد هَذَا الْجَوَابَ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُطْلِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ مُتَابَعَةً لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ أَحْمَد جَمِيعِهِ .
قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْت أَحْمَد فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَقَالَ : " الْإِيمَانُ " قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ الْإِقْرَارُ .
وَقَالَ : وَسَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ فِي الَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ قَائِلٌ : وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ أَيْضًا ؟ فَقَالَ : هَذَا مُعَانِدٌ لِلْحَدِيثِ .
فَقَدْ جَعَلَ أَحْمَد مَنْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْخَمْسِ مُعَانِدًا لِلْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ الْإِسْلَامَ الْإِقْرَارُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَاكَ أَوَّلُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْخَمْسِ وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ مَشْرُوطٌ بِهَا فَإِنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ حَدِيثَ جِبْرِيلَ .
وَأَيْضًا فَهُوَ فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ يُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالصَّلَاةِ ؛ بَلْ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَبَانِي وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا عَمَلٍ ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ فَهَذَا يَكُونُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَبَانِي الْأَرْبَعَةِ .
وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَاَلَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْمَبَانِي يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْإِسْلَامِ كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ فَكَيْفَ لَا يَجْعَلُهَا أَحْمَد مِنْ الْإِسْلَامِ وَقَوْلُهُ فِي دُخُولِهَا فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ حَدِيثَ سَعْدٍ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ عُمَرَ وَرَجَّحَ حَدِيثَ سَعْدٍ .
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ : سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِيمَانِ أَوْكَدُ أَوْ الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : جَاءَ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا وَحَدِيثُ سَعْدٍ أَحَبُّ إلَيَّ .
كَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مُسَمَّاهُ أَفْضَلَ .
وَحَدِيثُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَفْضَلُ وَلَكِنْ حَدِيثُ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ الْإِسْلَامَ إلَّا الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ فَقَطْ وَهَذِهِ لَا تَكُونُ إيمَانًا إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَفْضَلَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ : وَأَمَّا تَفْرِيقُ أَحْمَد بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَكَانَ يَقُولُهُ تَارَةً وَتَارَةً يَحْكِي الْخِلَافَ وَلَا يَجْزِمُ بِهِ .
وَكَانَ إذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا " تَارَةً " يَقُولُ الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ .
" وَتَارَةً " لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ التَّكْفِيرُ بِتَرْكِ الْمَبَانِي كَانَ تَارَةً يَكْفُرُ بِهَا حَتَّى يَغْضَبَ ؛ وَتَارَةً لَا يَكْفُرُ بِهَا .
قَالَ الميموني : قُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ ؟ قَالَ : عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قَالَ : وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ .
قَالَ : وَحَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ : قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ وَقَوْلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ : فَرْقٌ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ .
قَالَ أَحْمَد : قَالَ لِي رَجُلٌ : لَوْ لَمْ يَجِئْنَا فِي الْإِيمَانِ إلَّا هَذَا لَكَانَ حَسَنًا .
قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَتَذْهَبُ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ مَعَ السُّنَنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت : فَإِذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَوْلُ .
قَالَ : هُمْ يُصَيِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وَمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ .
قُلْت : فَمِنْ هَاهُنَا حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ الْفَرْقَ مُطْلَقًا وَاحْتِجَاجُهُ بِالنُّصُوصِ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد : سُئِلَ أَبِي عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ : قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ الْإِسْلَامُ : الْقَوْلُ وَالْإِيمَانُ : الْعَمَلُ .
قِيلَ لَهُ : مَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ حَدِيثَ سَعْدٍ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهُوَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَخْتَرْ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْإِسْلَامُ : الْقَوْلُ ؛ بَلْ أَجَابَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَعَ الْقُرْآنِ .
وَقَالَ حَنْبَلٌ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ بريدة : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ }
الْحَدِيثُ .
قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ .
فَمَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ [ فَقَدْ خَالَفَ ] قَوْلَهُ : مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ .
فَبَيَّنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْمُسْلِمِ وَرَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ : { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَيِّتٌ يَشُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ سَأَلْت : أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت : قَوْلُهُ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .
قَالَ : قَدْ تَأَوَّلُوهُ فَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ : يَتَنَحَّى عَنْهُ الْإِيمَانُ .
وَقَالَ طَاوُوسٌ : إذَا فَعَلَ ذَلِكَ زَالَ عَنْهُ الْإِيمَانُ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : إنْ رَجَعَ رَاجَعَهُ الْإِيمَانُ .
وَقَدْ قِيلَ : يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ .
وَرَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَالِحٌ فَإِنَّ مَسَائِلَ أَبِي الْحَارِثِ يَرْوِيهَا صَالِحٌ أَيْضًا .
وَصَالِحٌ سَأَلَ أَبَاهُ عِ ن هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ فِيهَا : هَكَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قَالَ : يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ فَالْإِيمَانُ مَقْصُورٌ فِي الْإِسْلَامِ فَإِذَا زَنَى خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ - يَعْنِي - لِمَا رُوِيَ حَدِيثُ سَعْدٍ : " أو مُسْلِمٌ " فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ قَالَ أَحْمَد : وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَأَوِّلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالَ التَّابِعِينَ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ حَقٌّ وَهُوَ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَحْمَد وَأَمْثَالُهُ مِنْ السَّلَفِ لَا يُرِيدُونَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ ؛ بَلْ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ اللَّفْظُ كَقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } وَإِلَّا فَمَا ذَكَرَهُ التَّابِعُونَ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ بَلْ يُوَافِقُهُ وَقَوْلُ أَحْمَد يَتَأَوَّلُهُ أَيْ يُفَسَّرُ مَعْنَاهُ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوَافِقُ ظَاهِرَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ مُبْتَدِعٌ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَارَ كَافِرًا لَا إيمَانَ مَعَهُ بِحَالِ ؛ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا .
وَاَلَّذِي نَفَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْإِيمَانَ كَانَ يَجْعَلُهُمْ مُسْلِمِينَ لَا يَجْعَلُهُمْ مُؤْمِنِينَ .
قَالَ المروذي : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : نَقُولُ نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ ؟ فَقَالَ : نَقُولُ : نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ .
قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : نَقُولُ : إنَّا مُؤْمِنُونَ .
قَالَ : وَلَكِنْ نَقُولُ : إنَّا مُسْلِمُونَ .
وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنَا بَرٌّ أَنَا تَقِيٌّ أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ ؛ كَمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا أَرَادَ : إنِّي مُصَدِّقٌ فَإِنَّهُ يَجْزِمُ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ ؛ وَلَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ ؛ وَكَمَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الْكُفْرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي قَلْبِهِ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الظَّاهِرِ ؛ فَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُجْزَمَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ ؛ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مَا كَرِهَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ إذْ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ شَيْءٌ مُتَمَاثِلٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ مِثْلَ كَوْنِ كُلِّ إنْسَانٍ لَهُ رَأْسٌ ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا وَأَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ : لِي رَأْسٌ حَقًّا وَأَنَا لِي رَأْسٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَقًّا : فَمَنْ جَزَمَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ عَنْهُ ؛ وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِلنَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " كَلَامٌ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ و ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هُنَا قَوْلَيْنِ مُتَطَرِّفَيْنِ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْكَلِمَةِ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدٌ ؛ وَكِلَاهُمَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَسَائِرِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِهَذَا لَمَّا نَصَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المروزي الْقَوْلَ الثَّانِيَ : لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ وَلَكِنْ احْتَجَّ بِمَا يُبْطِلُ بِهِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ؛ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِ : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قَالَ : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ " الْإِسْلَامَ " هُوَ الْإِيمَانُ .
فَيُقَالُ : بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا ؛ بَلْ قَالُوا : آمَنَّا وَاَللَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا ثُمَّ ذَكَرَ تَسْمِيَتَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فِي قَوْلِكُمْ : آمَنَّا وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانَ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ : { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَإِنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ : { أَسْلَمْنَا } مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ قَالَ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } أَيْ : يَمُنُّونَ عَلَيْك مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَهُمْ إسْلَامًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ إسْلَامًا ؛ وَإِنَّمَا قَالُوا : آمَنَّا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْمِنَّةَ تَقَعُ بِالْهِدَايَةِ إلَى الْإِيمَانِ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ الَّذِي لَا إيمَانَ مَعَهُ فَكَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ ؛ فَلَا مِنَّةَ لَهُمْ بِفِعْلِهِ وَإِذَا لَمْ يَمُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ كَانَ ذَلِكَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ .
فَأَمَّا إذَا كَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا فَاَللَّهُ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ أَوَّلًا وَهُنَا عَلَّقَ مِنَّةَ اللَّهِ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ صِدْقِهِمْ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ صَارُوا صَادِقِينَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقَالُ : الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَيُقَالُ : لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ مَا .
لَكِنْ مَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي وَصَفَهُ ثَانِيًا ؟ بَلْ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الْآيَةُ وَقَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } فَسَمَّى إقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ دِينًا قِيَمًا وَسَمَّى الدِّينَ إسْلَامًا فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ الدِّينِ الْقَيِّمِ - الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ الدِّينُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ - بَعْضًا .
قَالَ : وَقَدْ جَاءَ مُعَيِّنًا هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي فَرَّقَتْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمَّاهُمَا اللَّهُ دِينًا وَأَخْبَرَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ وَسَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ إذْ زَعَمَتْ أَنَّ الْإِيمَانَ إقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ .
فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مِنْ الدِّينِ وَالدِّينُ عِنْدَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَرَدِّهِ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْعَمَلَ خَارِجًا مِنْ الْإِسْلَامِ كَلَامٌ حَسَنٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا قَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِيمَانُ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الدِّينَ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ إذَا كَانَ مِنْهُ يَكُونُ هُوَ إيَّاهُ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُهُ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ وَقَوْلُهُ ؛ وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لِهَذَا الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقُ مُلَازِمٌ لَهُ وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِمَا .
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَمَلٌ مَحْضٌ مَعَ قَوْلٍ وَالْعِلْمُ وَالتَّصْدِيقُ لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ لَكِنْ يَلْزَمُهُ جِنْسُ التَّصْدِيقِ فَلَا يَكُونُ عَمَلٌ إلَّا بِعِلْمِ لَكِنْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْمُفَصَّلَ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
وَسَائِرُ النُّصُوصِ الَّتِي تَنْفِي الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِمَا ذَكَرَهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَعَهُ تَصْدِيقٌ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } وَقَالَ : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَلَمْ يَقُلْ : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَإِيمَانًا وَلَا قَالَ : رَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَامَ تَصْدِيقًا وَعِلْمًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ جِنْسِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ وَالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ ؛ فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مَعَهُ وَالْإِيمَانُ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ أَصْلُهُ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَمَعْرِفَةٌ وَالدِّينُ تَابِعٌ لَهُ يُقَالُ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَأَسْلَمْت لِلَّهِ .
قَالَ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } فَلَوْ كَانَ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدًا كَانَ هَذَا تَكْرِيرًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } كَمَا قَالَ : وَالصَّادِقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْخَاشِعِينَ : فَالْمُؤْمِنُ مُتَّصِفٌ بِهَذَا كُلِّهِ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا تُطَابِقُ الْإِيمَانَ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت } كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : فِي سُجُودِهِ : { اللَّهُمَّ لَك سَجَدْت وَبِك آمَنْت وَلَك أَسْلَمْت } وَفِي الرُّكُوعِ يَقُولُ : { لَك رَكَعْت وَلَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت } وَلِمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمَّنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ غَيْرُ كَوْنِهِ مَأْمُونًا عَلَى الدَّمِ وَالْمَالِ فَإِنَّ هَذَا أَعْلَى وَالْمَأْمُونُ يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْ ظُلْمِهِ وَلَيْسَ مَنْ سَلِمُوا مِنْ ظُلْمِهِ يَكُونُ مَأْمُونًا عِنْدَهُمْ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ .
قَالَ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ إذْ زَعَمَتْ أَنَّ الْإِيمَانَ إقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ .
فَيُقَالُ : بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ : الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامُ عِنْدَهُمْ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ أَكْمَلُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَيَقُولُونَ : النَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ بَعْضُ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ أَفْضَلُ : وَيَقُولُونَ إيمَانُ النَّاسِ مُتَسَاوٍ فَإِيمَانُ الصَّحَابَةِ وَأَفْجَرُ النَّاسِ سَوَاءٌ وَيَقُولُونَ : لَا يَكُونُ مَعَ أَحَدٍ بَعْضُ الْإِيمَانِ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَقَدْ أَجَابَ أَحْمَد عَنْ هَذَا السُّؤَالِ كَمَا قَالَهُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَإِنَّهُ تَارَةً يُوَافِقُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَتَارَةً لَا يُوَافِقُهُ بَلْ يَذْكُرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ ؛ فَلَمَّا أَجَابَ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ قَالَ لَهُ الْمَيْمُونِيَّ : قُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ قُلْت : بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ ؟ قَالَ : عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قُلْت لَهُ : فَتَذْهَبُ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ مَعَ السُّنَنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْت : فَإِذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ تَقُولُ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَوْلُ قَالَ : هُمْ يُصَيِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وَمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ ؛ قُلْت : فَمِنْ هَهُنَا حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فَقَدْ أَجَابَ أَحْمَد : بِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْفَاسِقَ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : يَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا فَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الدِّينُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الدِّينُ فَيَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ فِيمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا وَمَعَ هَؤُلَاءِ يُنَاظِرُونَ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْمُرْجِئَةِ : الْفَرْقُ بَيْنَ لَفْظِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ .
وَيَقُولُونَ : الْإِسْلَامُ بَعْضُهُ إيمَانٌ وَبَعْضُهُ أَعْمَالٌ وَالْأَعْمَالُ مِنْهَا فَرْضٌ وَنَفْلٌ وَلَكِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ كَانَ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ وَيَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا تَجِدُهُمْ فِي الجهمية ؛ إمَّا يَحْكُونَ عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ كالنجارية وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّهِمْ وَعُبَّادِهِمْ وَأَمَّا جُمْهُورُ نُظَّارِهِمْ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ والضرارية وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّمَا يَقُولُونَ : هُوَ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ .
وَكَذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي " الْقَدَرِيَّةِ " يَحْكُونَ عَنْهُمْ إنْكَارَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِمْ : إذَا لَقِيت أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ وَنَهَاهُمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيه وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِمَّنْ يَدْخُلُ النَّارَ حَتَّى فَعَلُوا ذَلِكَ فَعَلِمَهُ بَعْدَ مَا فَعَلُوهُ وَلِهَذَا قَالُوا : الْأَمْرُ أُنُفٌ أَيْ : مُسْتَأْنَفٌ ؛ يُقَالُ : رَوْضٌ أُنُفٌ إذَا كَانَتْ وَافِرَةً لَمْ تَرْعَ قَبْلَ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّهُ مُسْتَأْنَفُ الْعِلْمِ بِالسَّعِيدِ وَالشَّقِيِّ وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ بِذَلِكَ عِلْمٌ وَلَا كِتَابٌ فَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى مَا قَدْ قُدِّرَ فَيَحْتَذِي بِهِ حَذْوَ الْقِدْرِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ وَالْوَاحِدُ مِنْ النَّاسِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا قُدِّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ عَمَلَهُ ثُمَّ عَمِلَهُ كَمَا قُدِّرَ فِي نَفْسِهِ وَرُبَّمَا أَظْهَرَ مَا قَدَّرَهُ فِي الْخَارِجِ بِصُورَتِهِ وَيُسَمَّى هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي فِي النَّفْسِ خُلُقًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وبع ضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي يَقُولُ : إذَا قَدَّرْت أَمْرًا أَمْضَيْتَهُ وأنفذته بِخِلَافِ غَيْرِك فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إمْضَاءِ مَا يُقَدِّرُهُ وَقَالَ تَعَالَى { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّ مَا سَيَكُونُ وَهُوَ يَخْلُقُ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ يَعْلَمُهُ وَيُرِيدُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ مَا يُقَدِّرُهُ فِيمَا يَكْتُبُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ ثُمَّ قَالَ لِعِلْمِهِ : كُنْ كِتَابًا ؛ فَكَانَ كِتَابًا ثُمَّ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } وَقَالَ : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَالْمَلَائِكَةُ قَدْ عَلِمَتْ مَا يَفْعَلُ بَنُو آدَمَ مِنْ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ سَوَاءٌ عَلِمُوهُ بِإِعْلَامِ اللَّهِ - فَيَكُونُ هُوَ أَعْلَمَ بِمَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : - أَوْ قَالُوهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَهُ : طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ وَمَا أَوْحَاهُ إلَى أَنْبِيَائِهِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا سَيَكُونُ هُوَ أَعْلَمَ بِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءِ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَقَبْلَ أَنْ يَمْتَنِعَ إبْلِيسُ ؛ وَقَبْلَ أَنْ يَنْهَى آدَمَ عَنْ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيَكُونُ أَكْلُهُ سَبَبَ إهْبَاطِهِ إلَى الْأَرْضِ فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَسْتَخْلِفُهُ مَعَ أَمْرِهِ لَهُ ولإبليس بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِيهِ وَيَكُونُ الْخِلَافُ سَبَبَ أَمْرِهِ لَهُمَا بِالْإِهْبَاطِ إلَى الْأَرْضِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ .
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ فَإِنَّ إبْلِيسَ امْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ وَأَبْغَضَهُ فَصَارَ عَدُوَّهُ فَوَسْوَسَ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَيُذْنِبُ آدَمَ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ تَأَلَّى إنَّهُ لَيُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ سَأَلَ الْإِنْظَارَ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى إغْوَاءِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُ لَكِنَّ آدَمَ تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ بِتَوْبَتِهِ فَصَارَ لِبَنِي آدَمَ سَبِيلٌ إلَى نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ مِمَّا يُوقِعُهُمْ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِالْإِغْوَاءِ وَهُوَ التَّوْبَةُ قَالَ تَعَالَى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } .
وَقَدَرُ اللَّهِ قَدْ أَحَاطَ بِهَذَا كُلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَإِبْلِيسُ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَسَأَلَ الْإِنْظَارَ لِيُهْلِكَ غَيْرَهُ وَآدَمُ تَابَ وَأَنَابَ وَقَالَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ وَأَنْزَلَهُ إلَى الْأَرْضِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِطَاعَتِهِ ؛ فَيَرْفَعُ اللَّهُ بِذَلِكَ دَرَجَتَهُ وَيَكُونُ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ هَذَا أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ فَمَنْ أَذْنَبَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ فَاقْتَدَى بِأَبِيهِ آدَمَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ سَعِيدًا وَإِذَا تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ وَكَانَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ كَسَائِرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ .
وَمَنْ اتَّبَعَ مِنْهُمْ إبْلِيسَ فَأَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَأَرَادَ أَنْ يُغْوِيَ غَيْرَهُ كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الْقَدَرِ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ؛ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكُتِبَ فِي الذِّكْرِ كُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ : { أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ } .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : { أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَلَكًا بَعْدَ خَلْقِ الْجَسَدِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ } .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهَا .
فَهَذَا الْقَدَرُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ " الْقَدَرِيَّةُ " الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَهُ بِالْعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ : سيسويه مِنْ أَبْنَاءِ الْمَجُوسِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجهني وَيُقَالُ : أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْحِجَازِ لَمَّا احْتَرَقَتْ الْكَعْبَةُ فَقَالَ رَجُلٌ : احْتَرَقَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَقَالَ آخَرُ : لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ هَذَا .
وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ ؛ فَلَمَّا ابْتَدَعَ هَؤُلَاءِ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ : وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَقَلِيلٌ مِنْهُ بِالْحِجَازِ ؛ فَأَكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ فِي ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ : وَلِهَذَا قَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ : الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : الْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْكِتَابَةَ وَالْأَعْمَالَ ؛ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْقَوْلُ يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ ؛ والجهمية يَقُولُونَ : الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ .
قَالَ وَكِيعٌ : وَهُوَ كُلُّهُ كُفْرٌ وَرَوَاهُ ابْنُ .
وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَهَرَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ ؛ وَدَخَلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِبَادِ صَارَ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ يُقِرُّونَ بِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ رِوَايَتَانِ .
وَقَوْلُ أُولَئِكَ كَفَّرَهُمْ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ .
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ ؛ وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ كُتِبَ عَنْهُمْ الْعِلْمُ .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِجَمَاعَةِ مِنْهُمْ لَكِنْ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَيْهِ لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُجْتَهِدًا وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَرْتَبَةٌ فِي الدِّينِ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَقْضَى وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ لِمَنْ كَانَ دَاعِيَةً وَلَكِنْ رَوَوْا هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يَرَى فِي الْبَاطِنِ رَأْيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ .
وَقَالَ أَحْمَد : لَوْ تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ لَتَرَكْنَا أَكْثَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهَذَا لَأَنَّ " مَسْأَلَةَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ " مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ وَكَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ أَخْطَئُوا فِيهَا فَقَدْ أَخْطَأَ فِيهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ فَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرَهُ وَنَفَوْا رَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ وَنَفَوْا مَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ خَلْقًا وَأَمْرًا وَجَحَدُوا مِنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ مَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُفُورِ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا قَوْلَهُمْ عَمَّا يَظُنُّونَهُ السُّنَّةَ إذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ جَهْمٌ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " السَّلَفَ " فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ والجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَرُدُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُمْ وَمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِهِمْ .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَقَدْ يَكُونُ نَقْلًا مُغَيِّرًا .
فَلِهَذَا رَدُّوا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدًا ؛ وَيَقُولُونَ هُوَ الْقَوْلُ .
وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ حَدَثٌ فِي زَمَنِهِمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا تَصْدِيقٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ فِي الْقَلْبِ .
فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَحْدَثَهُ ابْنُ كَرَّامٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَرَّامٍ .
وَأَمَّا سَائِرُ مَا قَالَهُ فَأَقْوَالٌ قِيلَتْ قَبْلَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَشْعَرِيُّ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْكِي مَقَالَاتِ النَّاسِ عَنْهُ قَوْلًا انْفَرَدَ بِهِ إلَّا هَذَا .
وَأَمَّا سَائِرُ أَقْوَالِهِ فَيَحْكُونَهَا عَنْ نَاسٍ قَبْلَهُ وَلَا يَذْكُرُونَهُ .
وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ كَرَّامٍ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَلِهَذَا يَحْكُونَ إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا .
وَكَانَ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَبْلَهُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلُ جَهْمٍ : إنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ ؛ فَلَمَّا قَالَ ابْنُ كَرَّامٍ : إنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلُ اللِّسَانِ .
صَارَتْ أَقْوَالُ الْمُرْجِئَةِ ثَلَاثَةً لَكِنَّ أَحْمَد كَانَ أَعْلَمُ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ يَعْرِفُ قَوْلَ الجهمية فِي الْإِيمَانِ وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ .
فَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُرْجِئَةَ الْفُقَهَاءِ فَلِهَذَا حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الجهمية والكرامية .
قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ الطبري اللكائي وَغَيْرُهُ : عَنْ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَبَا ثَوْرٍ عَنْ الْإِيمَانِ وَمَا هُوَ أَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ؟ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ .
فَأَجَابَهُ أَبُو ثَوْرٍ بِهَذَا فَقَالَ : سَأَلْت رَحِمَك اللَّهُ وَعَفَا عَنَّا وَعَنْك عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ ؟ فَأُخْبِرُكَ بِقَوْلِ الطَّوَائِفِ وَاخْتِلَافِهِمْ .


٢٣




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق