الآيات التي ذكر فيها النفاق بلفظ المنافقين
بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ
فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ
بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)/سورة النساء
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ
فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ
نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى
الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى
هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ
تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ
اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا
عَلِيمًا (147)/سورة النساء
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ
تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا
إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً
بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ
اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)/سورة التوبة
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ
رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
(5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ
مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ
(10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (11)/سورة المنافقون
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ
أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ
قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا
اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
(65)/سورة النساء
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ
أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ
كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ
حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا
نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ
يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى
الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا
(91) /سورة النساء
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا
إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ
خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي
الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
(74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي
قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ
وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ
لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)/سورة التوبة
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ
فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ
جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ
اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)/سورة العنكبوت
/يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
(1)/سورة الأحزاب
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ
تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي
اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا
وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)/سورة التحريم
الخُلاصةُ في
صفاتِ المنافقينَ جمع
وإعداد الباحث
في القرآن والسنَّة علي
بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد المرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
نبت النفاق في العهد المدني،حيث دخل أناس في الإسلام ظاهراً من أجل الحفاظ على مصالحهم،وكادوا له باطناً،والنفاق مرض يصاب به بعض الناس،وهم أشد الناس عداء للإسلام والمسلمين،حيث لا يكشف أمرهم معظم المسلمين لتظاهرهم بالإسلام،وكيدهم له خفية،ومن ثم كان جزاؤهم يوم القيامة في الدرك السفل من النار،قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (145) سورة النساء .
ومن ثم فقد أولاه القرآن المدني بالعناية والتفصيل حيث ذكر الله تعالى صفات المنافقين وبيَّن طبيعتهم،وحكم التعامل معهم،والتحذير من أباطليهم،وفصل القول فيهم رسول الله r ،وقد كتب عنهم الكثير الكثير قديما وحديثاً،وفي هذه الرسالة المختصرة بيان لطبيعتهم وأهم صفاتهم وحكم التعامل معهم،والتحذير منهم،وقد قسمتها للمباحث التالية :
المبحث الأول=المنافقون في القرآن الكريم ، وقد ذكرت كثيرا من الآيات التي تتحدث عن المنافقين وتفضحهم،وقمت بتفسيرها بشكل مختصر .
المبحث الثاني=المنافقون في السنة النبوية،ذكرت فيها صفات المنافقين والتحذير منهم ، المرفوعة والموقوفة،وجلها يدور بين الصحيح والحسن،وقد نافت على المائة .
وقد شرحت غريبها وخرجتها جميعاً بالهامش بشكل مختصر
المبحث الثالث=الخلاصة في أحكام المنافقين،ذكرت فيه أحكام المنافقين في الفقه الإسلامي بشكل مختصر .
المبحث الرابع=أهمُّ صفاتُ المنافقينَ،ذكرت فيه أهم صفات المنافقين التي جب أن نحذرها
المبحث الخامس=صفات المنافقين عند ابن القيم،ذكر ذلك أثناء كلامه عن طبقات الناس يوم القيامة .
المبحث السادس=طرق الوقاية من النفاق بشكل مختصر .
ثم خاتمة عن مضار النفاق
قال تعالى : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)}سورة النساء.
وأرجو من الله تعالى أن تكون هذه الخلاصة كافية لعامة المسلمين كي يحذروا النفاق والمنافقين .
كما أسأل الله تعالى رب العرش العظيم أن يقينا وإياكم من النفاق الأكبر والأصغر ، وأن ينفع بها كاتبها وقارئها وناشرها والدال عليها في الدارين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 25 شعبان 1430 هـ الموافق ل 17/ 8/2009 م
!!!!!!!!!!!!!!
المبحث الأول
المنافقون في القرآن الكريم
وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) } سورة البقرة
يَفْضَحُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ،وَيَكْشِفُ لِنَبِيِّهِ rأَمْرَهُمْ وَخَفَايَا نُفُوسِهِمْ.وَالمُنَافِقُونَ هُمُ الذِينَ آمَنُوا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ،وَيَتَظَاهَرُونَ بِالإِسْلاَمِ،وَهُمْ كُفَّارٌ،فَهَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ،وَلكِنَّهُمْ فِي الحَقِيقَةِ غَيْرُ مُؤْمِنينَ،وَلاَ مُخْلِصِين فِي إِيمَانِهِمْ.
وَهُمْ إِنَّما يُرِيدُونَ خِدَاعَ النَّبيِّ وَالمؤْمِنِينَ وَغِشَّهُمْ مِنْ وَرَاءِ تَظَاهُرِهِمْ أَمَامَ المسلِمينَ بِالإِسْلاَمِ.وَلكِنَّ الله يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُمْ،وَقَدْ نَبَّهَ رَسُولَه rوَالمُؤْمِنينَ إِلى ذلِكَ،وَلِهذا فَإِنَّهُمْ لا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ،وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ مَكْشُوفٌ .
فِي قُلوبِ هؤلاءِ المُنَافِقِينَ شَكٌّ وَنِفَاقٌ ( مَرَضٌ ) فَزَادَهُمُ اللهُ شَكّاً وَنِفَاقاً وَرِجْساً ( مَرَضاً )،وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً أليماً فِي الآخِرَةِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ عَلَى اللهِ وَعَلَى النَّاسِ .
فَإِذَا قِيلَ لِهؤلاءِ المُنَافِقِينَ:لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ،وَلاَ تُثِيرُوا فِيها الفِتَنَ وَالحُرُوبَ،وَلاَ تُحَرِّضُوا الأَعدَاءَ عَلَى المُؤْمِنِينَ،وَلاَ تُفْشُوا أَسْرارَ المُؤْمِنينَ لأَعْدَائِهِمْ،وَلاَ تَرتَكِبُوا المَعَاصِيَ وَغَيْرَ ذلِكَ مِنْ فُنُونِ الشَّرِّ...قَالُوا:إِنَّنا نُرِيدُ الإِصْلاَحَ،فَنَحْنُ بَعِيدُونَ عَنِ الإِفْسَادِ وَشَوَائِبِهِ.والمُفْسِدُونَ يَدَّعُونَ دَائماً أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الإِصْلاَحَ .
وَلكِنَّهُمْ فِي الحَقِيقَةِ هُمُ المُفْسِدُونَ،لأَنَّ مَا يَقُومُونَ بهِ هُوَ عَيْنُ الفَسَادِ،وَلكِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ لا يَشْعُرونَ بِأَنَّهُ فَسَادٌ،وَلاَ يُدْرِكُونَ سُوءَ العَاقِبَةِ الذِي سَيَصِيرُون إِليهِ .
وَإِذا قِيلَ لِهؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ:آمِنُوا بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ،وَبِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ،وَبِالحِسَابِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ كَمَا آمَنَ النَّاسُ المُؤْمِنُونَ،وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِي امتِثَالِ الأَوَامِرِ وَتَرْكِ الزَّوَاجِرِ،قَالُوا سَاخِرِينَ:كَيْفَ نُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ هؤلاَءِ السُّفَهَاءُ،وَنَصِيرُ مَعَهُمْ فِي مَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً:إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلكِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ،وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ لاَ يَعْلَمُونَ ذلِكَ .
كَانَ المُنَافِقُونَ إِذا التَقَوْا بِالمُؤمِنينَ أَظْهَرُوا لَهُمُ الإِيمَانَ نِفَاقاً وَمُصَانَعَةً وَتَقِيَّةً،وَلكِنَّهُمْ حِينَما كَانُوا يَذْهَبُونَ إلى شَيَاطِينِهِمْ - أَيْ سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ مِنْ أَحْبَارِ اليَهُودِ،وَرُؤُوسِ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ -،وَيَخْتَلُونَ بِهِمْ بَعِيداً عَنْ سَمْعِ المُؤْمِنينَ وَأَبْصَارِهِمْ،كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّهُمْ كَفَرَةٌ،وَإِنَّهُمْ مَا زَالُوا مُقِيمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ،وَلكِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ لِلْمُؤمِنينَ نِفَاقاً وَتَقِيَّةً وَمُصَانَعَةً،واسْتِهْزَاءً بِالمُؤْمِنينَ وَدِينِهِمْ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هؤُلاءِ المُنَافِقِينَ وَيَقُولُ لهُمْ:إِنَّهُ عَالِمٌ بِسَرَائِرِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ،وَإِنَّهُ يَمُدُّ لَهُمْ فِي الغِوَايَةِ وَالضَّلاَلِ،وَيَزيدُهُمْ مِنهُما،وَهُوَ الذِي يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَتْرُكُهُمْ حَيَارَى فِي ضَلاَلِهِمْ لاَ يَجِدُونَ إِلى الخُرُوجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ سَبِيلاً.فَهؤُلاءِ المُنَافِقُونَ هُمُ الذِينَ أَخَذُوا الضَّلاَلَةَ وَالكُفْرَ وَتَرَكُوا الهُدَى وَالإِيمَانَ،وَكَأَنَّهُمْ عَقَدُوا صَفْقَةً بِذَلِكَ،وَلكِنَّ هذِهِ الصَّفْقَةَ خَسِرَتْ وَلَمْ تَربَحْ لأَنَّهُمْ بَاعُوا مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنْ نُورٍ وَهُدىً،بِضَلاَلاَتِ البِدَعِ وَالأَهْوَاءِ،وَلَمْ يَهْتَدُوا فِي عَمَلِهِمْ هذا إِلى الحَقِّ وَالإِيمانِ والصَّوابِ .[1]
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا.نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح،أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح.وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس،وعلى تصورهم للأمور! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية،موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل.وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل.
إنهم يدّعون الإيمان باللّه واليوم الآخر.وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين.إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين.
وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم،فهم لا يخادعون المؤمنين،إنما يخادعون اللّه كذلك أو يحاولون:«يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا» ..
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة،وأمام تفضل من اللّه كريم ..تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها،وهي حقيقة الصلة بين اللّه والمؤمنين.إنه يجعل صفهم صفه،وأمرهم أمره.وشأنهم شأنه.يضمهم سبحانه إليه،ويأخذهم في كنفه،ويجعل عدوهم عدوه،وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم ..التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوي السامق والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق،والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها،وهو يرى اللّه - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته،ومعركته هي معركته،وعدوه هو عدوه،ويأخذه في صفه،ويرفعه إلى جواره الكريم ..فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير؟! وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم،وإيصال الأذى إليهم.
تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع اللّه القوي الجبار القهار.وأنهم إنما يحاربون اللّه حين يحاربون أولياءه،وإنما يتصدون لنقمة اللّه حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين،ولا خداع الخادعين،ولا أذى الشريرين.ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين ..
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون اللّه والذين آمنوا بقولهم:آمنا باللّه وباليوم الآخر.ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء ..ولكن يا للسخرية! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية:«وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ،وَما يَشْعُرُونَ» ..
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور! إن اللّه بخداعهم عليم والمؤمنون في كنف اللّه فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم.أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها.يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق،ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين.وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه،والنفاق الذي يظهرونه.وينتهون بها إلى شر مصير! 10 - ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة؟ ولما ذا يخادعون هذا الخداع؟
«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ..في طبيعتهم آفة.في قلوبهم علة.وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم.ويجعلهم يستحقون من اللّه أن يزيدهم مما هم فيه: «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً»
فالمرض ينشئ المرض،والانحراف يبدأ يسيرا،ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد.سنة لا تتخلف.سنة اللّه في الأشياء والأوضاع،وفي المشاعر والسلوك.فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم.المصير الذي يستحقه من يخادعون اللّه والمؤمنين :«وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» ..
وصفة أخرى من صفاتهم - وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد اللّه بن أبي بن سلول - صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد،والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون:«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ:لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ،قالُوا:إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ.أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ،وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» ..
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع،بل يضيفون إليهما السفه والادعاء:«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» ..لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد،بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير:«قالُوا:إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ» ..
والذين يفسدون أشنع الفساد،ويقولون:إنهم مصلحون،كثيرون جدا في كل زمان.يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم.ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم.
والذين لا يخلصون سريرتهم للّه يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم،لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية،ولا يثوب إلى قاعدة ربانية ..
ومن ثم يجيء التعقيب الحاسم والتقرير الصادق:«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ،وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» ..
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس،ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس:«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ:آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ،قالُوا:أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ،وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ» ..
وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء.إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة،وأسلموا وجوههم للّه،وفتحوا صدورهم لرسول اللّه - r- يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين ..هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم ..
وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول - r- ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام! ومن ثم قالوا قولتهم هذه:«أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟» ..ومن ثم جاءهم الرد الحاسم،والتقرير الجازم:«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ،وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ومتى علم السفيه أنه سفيه؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم؟!
ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين ..إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع،والسفه والادعاء،إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام:«وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا:آمَنَّا،وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا:إِنَّا مَعَكُمْ،إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» ..
وبعض الناس يحسب اللؤم قوة،والمكر السيئ براعة.وهو في حقيقته ضعف وخسة.فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا،ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا.وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة،ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين،ليتقوا الأذى،وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى ..هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم - وهم غالبا - اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته،كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا ..هؤلاء المنافقون كانوا «إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا:إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» - أي بالمؤمنين - بما نظهره من الإيمان والتصديق!
وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم،حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي:«اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ،وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..
وما أبأس من يستهزىء به جبار السماوات والأرض وما أشقاه!! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب،وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب.
وهو يقرأ:«اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ،وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته،واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته،كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ،غافلة عن المقبض المكين ..وهذا هو الاستهزاء الرعيب،لا كاستهزائهم الهزيل الصغير.
وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها.حقيقة تولي اللّه - سبحانه - للمعركة التي يراد بها المؤمنون.وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء اللّه،ومصير رعيب بشع لأعداء اللّه الغافلين،المتروكين في عماهم يخبطون،المخدوعين بمد اللّه لهم في طغيانهم،وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم،والمصير الرعيب ينتظرهم هنالك،وهم غافلون يعمهون!
والكلمة الأخيرة التي تصور حقيقة حالهم،ومدى خسرانهم:« أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى،فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..فلقد كانوا يملكون الهدى لو أرادوا.كان الهدى مبذولا لهم.كان في أيديهم.ولكنهم «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى »،كأغفل ما يكون المتجرون:«فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية ..
ذلك أن كلّا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء،وفيه بساطة على معنى من المعاني ..
الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها،والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها.أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقة.وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات،ومزيد من الخطوط كما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة ..
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة،ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم،ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم.[2]
وقال تعالى :{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) } [آل عمران:166 - 168]
مَا أَصَابَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ يَوْمَ أحُدٍ،حِينَمَا التَقَيْتُمْ بِعَدوكُمْ فِي مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ،وَمَا حَلَّ بِكُمْ مِنْ هَزِيمَةٍ وَقَتْلٍ،إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ،الذِي جَعَلَ المُسَببَاتِ نَتَائِجَ لأسْبَابِهَا،فَكُلُّ عَسْكَرٍ يَعْصِي قَائِدَهُ،وَيَكْشِفُ ظَهْرَهُ لِعَدُوِّهِ يُصَابُ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتُمْ بِهِ،وَأَكْثَر مِنْهُ،وَللهِ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي ذَلِكَ،لأنَّ الشَّدَائِدَ تَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ صَبَرُوا وَثَبَتُوا،وَلَمْ يَتَزَلْزَلُوا أَمَام العَدُوِّ .
وَالشَّدَائِدُ تُظهِرُ المَُاَفِقِينَ الذِينَ تَبَطَّنُوا بِالكُفْرِ،وَأَظْهَرُوا الإِيمَانَ،مِنْ جَمَاعَةِ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ،الذِينَ رَجَعُوا إلَى المَدِينَةِ قَبْلَ المَعْرَكَةِ،فَلَحِقَ بِهِمْ رِجَالٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَدْعُونَهُمْ لِلْعَوْدَةِ إلَى الصَّفِّ،وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى القِتَالِ وَمُسَاعَدَةِ المُسْلِمِينَ،وَإكْثَارِ عَدَدِهِمْ أمَامَ المُشْرِكِينَ ( أو ادْفَعُوا )،فَرَدُّوا مُتَعَلِّلِينَ:لَوْ نَعْلَمُ أنَّكُمْ سَتَلْقَونَ حَرْباً لاتَّبَعْنَاكُمْ،وَلَكِنَّنَا فِي قُلُوبِهِمْ يَعْتَقِدُونَ غَيْرَهُ.وَهُمْ حِينَما قَالُوا هَذَا القَوْل كَانُوا فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ أقرْبَ لِلْكُفْرِ مِنْهُمْ إلَى الإِيمَانِ،وَاللهُ أعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ فِي قُلُوبِهِمْ وَفِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ،وَسَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيهِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
وَهَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ الذِين قَعَدُوا عَنِ الجِهَادِ،هُمُ الذِينَ قَالُوا عَنْ إِخْوَانِهِم الذِينَ قُتِلُوا فِي المَعْرَكَةِ:لَوْ سَمِعُوا مَشُورَتَنَا فِي القُعُودِ،وَعَدَمِ الخُرُوجِ لَمَا قُتِلُوا مَعَ مَنْ قُتِلَ .وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ مُسْتَنْكِراً قَوْلَهُمْ هَذَا:قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ:لَوْ كَانَ القُعُودُ يَسْلَمُ بِهِ الشَّخْصُ مِنَ القَتْلِ وَالمَوْتِ،فَيَنْبَغِي عَلَيْكُمْ إلاَّ تَمُوتُوا.وَلَكِنَّ المَوْتَ آتٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ،فَادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ [3].
لقد كتب اللّه على نفسه النصر لأوليائه،حملة رايته،وأصحاب عقيدته ..ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم وباستكمال العدة التي في طاقتهم،وببذل الجهد الذي في وسعهم ..فهذه سنة اللّه.وسنة اللّه لا تحابي أحدا ..فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور،فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير.فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس.فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن،ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس.
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرا كذلك،ولا يضيع هباء.فإن استسلامهم للّه،وحملهم لرايته،وعزمهم على طاعته،والتزام منهجه ..من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرا وبركة في النهاية - بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح - وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروسا وتجارب،تزيد في نقاء العقيدة،وتمحيص القلوب،وتطهير الصفوف وتؤهل للنصر الموعود وتنتهي بالخير والبركة ..
ولا تطرد المسلمين من كنف اللّه ورعايته وعنايته.بل تمدهم بزاد الطريق.مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق.
وبهذا الوضوح والصرامة معا يأخذ اللّه الجماعة المسلمة وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع ويكشف عن السبب القريب من أفعالها كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره - سبحانه - ويواجه المنافقين بحقيقة الموت،التي لا يعصم منها حذر ولا قعود:« أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
والمسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم،وهم المسلمون،وهم يجاهدون في سبيل اللّه،وأعداؤهم هم المشركون أعداء اللّه ..المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة،كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها:أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش.وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة،حينما كانوا مستقيمين على أمر اللّه وأمر رسوله - r- و قبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم.وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين! ويذكرهم اللّه هذا كله،وهو يرد على دهشتهم المتسائلة،فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب:«قُلْ:هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» ..
أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر.وأنفسكم هي التي أخلت بشرط اللّه وشرط رسوله - r- وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس.وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول اللّه وخطته للمعركة ..فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم،وتقولون:كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم،بانطباق سنة اللّه عليكم،حين عرّضتم أنفسكم لها.فالإنسان حين يعرّض نفسه لسنة اللّه لا بد أن تنطبق عليه،مسلما كان أو مشركا،ولا تنخرق محاباة له،فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة اللّه ابتداء! «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته،وأن يحكم ناموسه،وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته،وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث.
ومع هذا فقد كان قدر اللّه من وراء الأمر كله لحكمة يراها.وقدر اللّه دائما من وراء كل أمر يحدث،ومن وراء كل حركة وكل نأمة،وكل انبثاقة في هذا الكون كله:«وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ...» ..لم يقع مصادفة ولا جزافا،ولم يقع عبثا ولا سدى.فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون ومقدر لها علتها ونتائجها وهي في مجموعها - ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي - تحقق الحكمة الكامنة وراءها وتكمل «التصميم» النهائي للكون في مجموعه! إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية،ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية ..
هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية ..وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة.
وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها ..والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شي ء - ومن بينها الإنسان - والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة،وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره،فتنطبق عليه،وتؤثر فيه ..ولكن هذا كله يقع موافقا لقدر اللّه ومشيئته ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره ..وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن اللّه وناموسه يفعل بها ما يفعل،ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره.فليس شيء منها خارجا على السنن والناموس.ولا مقابلا لها ومناهضا لفعلها،كما يتصور الذين يضعون إرادة اللّه وقدره في كفة،ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة ..كلا.ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي ..فالإنسان ليس ندا للّه،ولا عدوا له كذلك.واللّه - سبحانه - حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض،لم يجعل شيئا من هذا كله متعارضا مع سنته - سبحانه - ولا مناهضا لمشيئته،ولا خارجا كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير ..ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر وأن يتحرك ويؤثر وأن يتعرض لسنة اللّه فتنطبق عليه وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملا من لذة وألم،وراحة وتعب،وسعادة وشقاوة ..وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته،قدر اللّه المحيط بكل شي ء،في تناسق وتوازن ..
وهذا الذي وقع في غزوة أحد،مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل.فقد عرف اللّه المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة.فخالفوا هم عن سنته وشرطه،فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له ..ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد،فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر اللّه في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف،وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور،ومن ضعف أو قصور ..
وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين - من وراء الألم والضر - وقد نالوه وفق سنة اللّه كذلك.فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج اللّه ويستسلمون له في عمومه،يعينهم اللّه ويرعاهم،ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي - ولو ذاقوا مغبتها من الألم - لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد.
وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم،بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة،وهم يواجهون قدر اللّه،ويتعاملون مع سنته في الحياة وهم يحسون أن اللّه يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده،وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها اللّه ما يشاء،وأن خطأهم وصوابهم - وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم - متساوق مع قدر اللّه وحكمته،وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق: «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ..وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ،وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا،وَقِيلَ لَهُمْ:تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا،قالُوا:لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ.هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ.يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ.وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» ..
وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد اللّه بن أبي بن سلول،ومن معه،ويسميهم:«الَّذِينَ نافَقُوا» ..
وقد كشفهم اللّه في هذه الموقعة،وميز الصف الإسلامي منهم.وقرر حقيقة موقفهم يومذاك:«هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ» ..وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين.فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر،وإنما هم:«يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» ..فقد كان في قلوبهم النفاق،الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة،وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها.فالذي كان برأس النفاق - عبد اللّه بن أبي - أن رسول اللّه - r- لم يأخذ برأيه يوم أحد.والذي كان به قبل هذا أن قدومه - r- إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم،وجعل الرياسة لدين اللّه،ولحامل هذا الدين! ..فهذا الذي كان في قلوبهم،والذي جعلهم يرجعون يوم أحد،والمشركون على أبواب المدينة،وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد اللّه بن عمرو بن حرام،وهو يقول لهم:«تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا» محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا! وهذا ما فضحهم اللّه به في هذه الآية:«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» ..
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس:«الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ - وَقَعَدُوا - لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» ..
فهم لم يكتفوا بالتخلف - والمعركة على الأبواب - وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس،وبخاصة أن عبد اللّه بن أبي،كان ما يزال سيدا في قومه،ولم يكشف لهم نفاقه بعد،ولم يدمغه اللّه بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم.بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة،وهم يقولون: «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» ..
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة،ويجعلون من طاعة الرسول - r- واتباعه مغرما ومضرة.وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر اللّه،ولحتمية الأجل،ولحقيقة الموت والحياة،وتعلقهما بقدر اللّه وحده ..ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع،الذي يرد كيدهم من ناحية،ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية:«قُلْ:فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
فالموت يصيب المجاهد والقاعد،والشجاع والجبان.ولا يرده حرص ولا حذر.ولا يؤجله جبن ولا قعود ..والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء ..وهذا الواقع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم،فيرد كيدهم اللئيم،ويقر الحق في نصابه،ويثبت قلوب المسلمين.ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين ..
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة،تأخيره ذكر هذا الحادث - حادث نكول عبد اللّه ابن أبي ومن معه عن المعركة - وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها ..تأخيره إلى هذا الموضع من السياق ..
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية ..فقد أخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها ..ثم يشير هذه الإشارة إلى «الَّذِينَ نافَقُوا».وفعلتهم وتصرفهم بعدها،وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح،وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح ..وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة،وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم،ووزن الأعمال والأشخاص،ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص - بعد ذلك - فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح،بذلك الحس الإيماني الصحيح ..
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد.فعبد اللّه بن أبيّ كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه - كما أسلفنا - وقد ورم أنفه لأن النبي rلم يأخذ برأيه - لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة - وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم،وبلبلة في الأفكار،كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر ..فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق.مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح:«الَّذِينَ نافَقُوا» والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة:«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا؟»،وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه،ليبقى نكرة في:«الَّذِينَ نافَقُوا» كما يستحق من يفعل فعلته،وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان ..ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق ..
وبعد أن تستريح القلوب،وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون،وعلى حقيقة قدر اللّه في الأمور،وعلى حقيقة حكمة اللّه من وراء التقدير والتدبير ..ثم على حقيقة الأجل المكتوب،والموت المقدور،الذي لا يؤجله قعود،ولا يقدمه خروج،ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير ..[4]
وقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) } [النساء:60 - 63]
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَدِّعِي الإِيمَانَ بِاللهِ،وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ،وَهُوَ مَعْ ذَلِكَ يُرِيدُ أنْ يَتَحَاكَمَ فِي فَصْل ِالخُصُومَاتِ إلى غَيْرِ كِتَابِ اللهِ،وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ .
وَإِذَا دُعِيَ هَؤُلاءِ - الذِينَ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ،ثُمَّ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إلى الطَّاغُوتِ - إلى رَسُولِ اللهِ لِلتَّحَاكُمِ لَدَيْهِ،وِفْقاً لِمَا شَرَعَ اللهُ،اسْتَكْبَرُوا وَأَعْرَضُوا وَرَغِبُوا عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللهِ إَعْرَاضاً مُتَعَمَّداً مِنْهُمْ
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إذَا سَاقَتْهُمُ المَقَادِيرُ إلَيكَ فِي مَصَائِبَ تَحِلُّ بِهِمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ،وَاحْتَاجُوا إِلَيْكَ فِي ذَلِكَ،ثُمَّ جَاؤُوكَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكَ،وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِذَهَابِهِمْ إلى غَيْرِكَ،وَبِتَحَاكُمِهِمْ إلَى أَعْدَائِكَ،إلا المُدَارَاةَ وَالمُصَانَعَةَ ( إحْسَاناً وَتَوْفِيقاً )،لاَ اعْتِقَاداً مِنْهُمْ بِصِحَّةِ تِلْكَ الحُكُومَةِ .
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ المُنَافِقٌُونَ،وَاللهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ مَبْلَغَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالحِقْدِ وَالكَيْدِ،وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ،فَإنَّهُ لاَ تَخْفَى عَلَيهِ مِنْهُمْ خَافِيةٌ.ثُمَّ يَدْعُو اللهُ نَبِيَّهُ rإلى مُعَامَلَتِهِمْ:
- أَوْلاً:بِالإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ الإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ،وَهَذَا النَّوعُ مِنَ المُعَامُلَةِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمُ الهَوَاجِسَ وَالشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ
- ثُمَّ بِالنُّصْحِ وَالتَّذْكِيرِ بِالخَيْرِ،عَلَى وَجْهٍ تَرِقُّ لَهُ قُلُوبُهُمْ،وَيَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّأمُّلِ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ العِظَاتِ .
- ثُمَّ بِالقَوْلِ البَلِيغِ،الذِي يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِهِمْ،كَالتَّوَعُّدِ بِالقّتْلِ،وَالاسْتِئْصَالِ إنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ نِفَاقٌ،وَأنْ يُخْبِرَهُمْ أنَّ اللهَ عَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ .[5]
إن هذا التصوير لهذه المجموعة التي تصفها النصوص،يوحي بأن هذا كان في أوائل العهد بالهجرة.يوم كان للنفاق صولة وكان لليهود - الذين يتبادلون التعاون مع المنافقين - قوة
وهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة اللّه - إلى الطاغوت - قد يكونون جماعة من المنافقين - كما صرح بوصفهم في الآية الثانية من هذه المجموعة - وقد يكونون جماعة من اليهود الذين كانوا يدعون - حين تجدّ لهم أقضية مع بعضهم البعض أو أهل المدينة - إلى التحاكم إلى كتاب اللّه فيها ..التوراة أحيانا،وإلى حكم الرسول أحيانا - كما وقع في بعض الأقضية - فيرفضون ويتحاكمون إلى العرف الجاهلي الذي كان سائدا
ولكننا نرجح الفرض الأول لقوله فيهم:«يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» ..واليهود لم يكونوا يسلمون أو يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول.إنما كان المنافقون هم الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله (كما هو مقتضى العقيدة الإسلامية من الإيمان بالرسل كلهم).
وهذا لم يكن يقع إلا في السنوات الأولى للهجرة.قبل أن تخضد شوكة اليهود في بني قريظة وفي خيبر.وقبل أن يتضاءل شأن المنافقين بانتهاء شأن اليهود في المدينة! على أية حال نحن نجد في هذه المجموعة من الآيات،تحديدا كاملا دقيقا حاسما لشرط الإيمان وحد الإسلام،ونجد شهادة من اللّه بعدم إيمان الذين «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» «وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» كما نجد قسما من اللّه سبحانه - بذاته العلية - أنهم لا يدخلون في الإيمان ولا يحسبون مؤمنين حتى يحكموا الرسول - r- في أقضيتهم.ثم يطيعوا حكمه،وينفذوا قضاءه.طاعة الرضى،وتنفيذ الارتياح القلبي الذي هو التسليم،لا عجزا واضطرارا.ولكن طمأنينة وارتضاء ..
« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ - وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ - وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» ..ألم تر إلى هذا العجب العاجب ..قوم ..يزعمون ..الإيمان.ثم يهدمون هذا الزعم في آن؟! قوم «يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ».ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك؟ إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر،وإلى منهج آخر،وإلى حكم آخر ..يريدون أن يتحاكموا إلى ..الطاغوت ..الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.ولا ضابط له ولا ميزان،مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ..ومن ثم فهو ..طاغوت ..طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية.وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضا! وهم لا يفعلون هذا عن جهل،ولا عن ظن ..إنما هم يعلمون يقينا ويعرفون تماما،أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه:«وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» ..فليس في الأمر جهالة ولا ظن.بل هو العمد والقصد.
ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم.زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب ..
«وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» ..فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت.وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت! هذا هو الدافع يكشفه لهم.لعلهم يتنبهون فيرجعوا.ويكشفه للجماعة المسلمة،لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك.
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل اللّه إلى الرسول وما أنزل من قبله ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به:« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ:تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ،رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً».يا سبحان اللّه! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري ..وإلا ما كان نفاقا ...
إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان،أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به،وإلى من آمن به.فإذا زعم أنه آمن باللّه وما أنزل،وبالرسول وما أنزل إليه.ثم دعي إلى هذا الذي آمن به،ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه كانت التلبية الكاملة هي البديهية الفطرية.فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية.ويكشف عن النفاق.وينبىء عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان! وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم اللّه - سبحانه - أولئك الذين يزعمون الإيمان باللّه ورسوله.ثم لا يتحاكمون إلى منهج اللّه ورسوله.بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدودا! ثم يعرض مظهرا من مظاهر النفاق في سلوكهم حين يقعون في ورطة أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت.ومعاذيرهم عند ذلك.وهي معاذير النفاق:«فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ - بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ - ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ:إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» ..
وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة - يومذاك - حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم.فما يطيق المجتمع المسلم أن يرى من بينه ناسا يزعمون أنهم آمنوا باللّه وما أنزل،وبالرسول وما أنزل إليه ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة اللّه أو يصدون حين يدعون إلى التحاكم إليها ..إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان.وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء! أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم نتيجة التحاكم إلى غير نظام اللّه العادل ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت في قضية من قضاياهم.
أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من اللّه لهم.لعلهم يتفكرون ويهتدون ..
وأياما كان سبب المصيبة فالنص القرآني،يسأل مستنكرا:فكيف يكون الحال حينئذ! كيف يعودون إلى الرسول - r-:«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» ...
إنها حال مخزية ..حين يعودون شاعرين بما فعلوا ...غير قادرين على مواجهة الرسول - r- بحقيقة دوافعهم.وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين:أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق! وهي دائما دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج اللّه وشريعته:أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب،التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة اللّه! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة ..إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين ..هي هي دائما وفي كل حين! واللّه - سبحانه - يكشف عنهم هذا الرداء المستعار.ويخبر رسوله - r-،أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم.ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق،والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء:«أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ.فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ،وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» ..
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم ويحتجون بهذه الحجج،ويعتذرون بهذه المعاذير.واللّه يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور ..ولكن السياسة التي كانت متبعة - في ذلك الوقت - مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم،وأخذهم بالرفق،واطراد الموعظة والتعليم ..
والتعبير العجيب:«وَقُلْ لَهُمْ ..فِي أَنْفُسِهِمْ ..قَوْلًا بَلِيغاً».تعبير مصور ..كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس،ويستقر مباشرة في القلوب.
وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف اللّه وكنف رسوله ..بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت ومن الصدود عن الرسول - r- حين يدعون إلى التحاكم إلى اللّه والرسول ..فالتوبة بابها مفتوح،والعودة إلى اللّه لم يفت أوانها بعد واستغفارهم اللّه من الذنب،واستغفار الرسول لهم،فيه القبول! ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية:وهي أن اللّه قد أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه - لا يخالف عن أمرهم.ولا ليكونوا مجرد وعاظ! ومجرد مرشدين! «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ.وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ،فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ،وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ،لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» ..
وهذه حقيقة لها وزنها ..إن الرسول ليس مجرد «واعظ» يلقي كلمته ويمضي.لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول «الدين».إن الدين منهج حياة.منهج حياة واقعية.بتشكيلاتها وتنظيماتها،وأوضاعها،وقيمها،وأخلاقها وآدابها.وعباداتها وشعائرها كذلك.وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان.سلطان يحقق المنهج،وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ ..
واللّه أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين.منهج اللّه الذي أراده لتصريف هذه الحياة.وما من رسول إلا أرسله اللّه،ليطاع،بإذن اللّه.فتكون طاعته طاعة للّه ..ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني،والشعائر التعبدية ..فهذا وهم في فهم الدين لا يستقيم مع حكمة اللّه من إرسال الرسل.وهي إقامة منهج معين للحياة،في واقع الحياة ..وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظا.لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي.يستهتر بها المستهترون،ويبتذلها المبتذلون!!!
ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان ..كان دعوة وبلاغا.ونظاما وحكما.وخلاقة بعد ذلك عن رسول اللّه - r- تقوم بقوة الشريعة والنظام،على تنفيذ الشريعة والنظام.لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول.وتحقيق إرادة اللّه من إرسال الرسول.وليست هنالك صورة أخرى يقال لها:الإسلام.أو يقال لها:الدين.إلا أن تكون طاعة للرسول،محققة في وضع وفي تنظيم.ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف ويبقى أصلها الثابت.وحقيقتها التي لا توجد بغيرها ..استسلام لمنهج اللّه،وتحقيق لمنهج رسول اللّه.وتحاكم إلى شريعة اللّه.وطاعة للرسول فيما بلغ عن اللّه،وإفراد للّه - سبحانه - بالألوهية (شهادة أن لا إله إلا اللّه) ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقا للّه،لا يشاركه فيه سواه.وعدم احتكام إلى الطاغوت.
في كثير ولا قليل.والرجوع إلى اللّه والرسول،فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة،والأحوال الطارئة حين تختلف فيه العقول ..
وأمام الذين «ظلموا أنفسهم» بميلهم عن هذا المنهج،الفرصة التي دعا اللّه المنافقين إليها على عهد رسول اللّه،r- ورغبهم فيها ..
« وَلَوْ أَنَّهُمْ - إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ - جاؤُكَ،فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ،وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ،لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» ..واللّه تواب في كل وقت على من يتوب.واللّه رحيم في كل وقت على من يؤوب.وهو - سبحانه - يصف نفسه بصفته.ويعد العائدين إليه،المستغفرين من الذنب،قبول التوبة وإفاضة الرحمة ..والذين يتناولهم هذا النص ابتداء،كان لديهم فرصة استغفار الرسول - r- وقد انقضت فرصتها.وبقي باب اللّه مفتوحا لا يغلق.ووعده قائما لا ينقض.فمن أراد فليقدم.ومن عزم فليتقدم ..
وأخيرا يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم.إذ يقسم اللّه - سبحانه - بذاته العلية،أنه لا يؤمن مؤمن،حتى يحكم رسول اللّه - r- في أمره كله.ثم يمضي راضيا بحكمه،مسلما بقضائه.ليس في صدره حرج منه،ولا في نفسه تلجلج في قبوله:«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ.ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ،وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» ..
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام.يقرره اللّه سبحانه بنفسه.ويقسم عليه بذاته.فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحدّ الإسلام،ولا تأويل لمؤول.اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام ..وهي أن هذا القول مرهون بزمان،وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا.فهذه حقيقة كلية
من حقائق الإسلام جاءت في صورة قسم مؤكد مطلقة من كل قيد ..وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول اللّه - r- هو تحكيم شخصه.إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه.وإلا لم يبق لشريعة اللّه وسنة رسوله مكان بعد وفاته - r- وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبي بكر - رضي اللّه عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين:بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير.وهو مجرد عدم الطاعة للّه ورسوله،في حكم الزكاة وعدم قبول حكم رسول اللّه فيها،بعد الوفاة! وإذا كان يكفي لإثبات «الإسلام» أن يتحاكم الناس إلى شريعة اللّه وحكم رسوله ..فإنه لا يكفي في «الإيمان» هذا،ما لم يصحبه الرضى النفسي،والقبول القلبي،وإسلام القلب والجنان،في اطمئنان! هذا هو الإسلام ..وهذا هو الإيمان ..فلتنظر نفس أين هي من الإسلام وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان![6]
وقال تعالى:{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)} [النساء:88 - 91]
فَمَا لَكُمْ أَصْبَحْتُمْ فِئَتَينِ فِي المُنَافِقِينَ،وَاخْتَلَفْتُمْ فِي كُفْرِهِمْ،مَعَ تَظَاهُرِ الأَدِلَّةِ عَلَيهِ،فَلَيْسَ لَكُمْ أنْ تَخْتَلِفُوا فِي شَأنِهِمْ،وَكَيْفَ تَفْتَرِقُونَ فِي شَأنِهِمْ وَقَدْ صَرَفَهُمُ اللهُ عَنِ الحَقِّ الذِي أَنْتُمْ عَلَيهِ،بِمَا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ،وَاجْتَرَحُوا مِنَ المَعَاصِي،وَقَدْ أَرْكَسَهُمُ اللهُ،وَجَعَلَهُمْ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ نَاكِسي الرُّؤُوس،بِسَبَبِ إيغَالِهِمْ فِي الضَّلالِ،وَبُعْدِهُمْ عَنِ الحَقِّ؟ وَأَنْتُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَيْسَ بِاسْتِطَاعَتِكُمْ أنْ تُبَدِّلُوا سُنَنَ اللهِ،لأنَّ مَنْ قَضَتْ سُنَنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أنْ يَكُونَ ضَالاً عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ،فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِسُلُوكِهَا إلى الحَقِّ
وَسَبيلُ الفِطْرَةِ أنْ يَعرضَ الإِنْسَانُ جَميعَ أَعْمَالِهِ عَلَى سُنَنِ العَقْلِ،وَيَتْبَعَ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ الحَقِّ الذِي فِيهِ مَنْفَعَتُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنيا.وَأكْثَرُ مَا يَصُدُّ الإِنْسَانَ عَنْ سَبيلِ الفِطْرَةِ هُوَ التَّقْلِيدُ وَالغُرُورُ وَظَنُّ الإِنَْسانِ أنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا هُوَ أكْمَلُ مِمَّا هُوَ فِيهِ،وَبِهَذَا يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ طَريقَ العَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ،وَالحَقِّ وَالبَاطِلِ .
وَهَؤُلاءِ لاَ يَقْنَعُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالغِوَايةِ،بَلْ يَطْمَعُونَ فِي أنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ،وَهُمْ يَوَدُّونَ لَكُمُ الضَّلاَلَةَ لِتَسْتَوُوا أَنْتُمْ وَإِيَّاهُمْ فِيهَا،وَمَا ذَلِكَ إلاَّ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَبُغْضِهِمْ لَكُمْ،فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ وَنُصَرَاءَ وَأَصَدِقاءَ،حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيُهَاجِرُوا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ،لِيُثْبِتُوا صِدْقَ إِيمَانِهِمْ،فَإِنْ رَفَضُوا الهِجْرَةَ ( تَولَّوا ) وَلَزِمُوا مَوَاضِعَهُمْ،وَأَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ،وَلاَ تُوَالُوهُمْ،وَلاَ تَسْتَنْصِرُوا بِهِمْ عَلَى عَدُوّ لَكُمْ مَا دَامُوا كَذَلِكَ .
اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ الذِينَ أَوْجَبَ قَتْلَهُمْ،حَيْثُ وَجَدَهُمُ المُسْلِمُونَ،الذِينَ لَجَؤُوا وَانْحَازُوا إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقُ مُهَادَنَةٍ،أَوْ عَقْدُ ذِمَّةٍ يَمْنَعُ قَتْلَ المُنْتَمِينَ لأحَدِ الفَرِيقَيْنِ،فَاجْعَلُوا حُكْمَهُمْ كَحُكْمِ هَؤُلاءِ.وَاستَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ القَتْلِ فِئَةً أُخْرَى مِنَ النَّاسِ جَاءَتْ إلى مَيْدَانِ الحَرْبِ وَصُدُورُهُمْ ضَيِّقَةٌ،وَهُمْ كَارِهُونَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ،وَلاَ يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضاً أَنْ يُقَاتِلوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ،بَلْ هُمْ لاَ لَكُمْ وَلاَ عَلَيْكُمْ،وَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عَنْكُمْ،فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ،وَأَرَادُوا مُسَالَمَتَكُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوهُمْ،مَا دَامَتْ حَالُهُمْ كَذَلِكَ .
وَقَالَ الرَّازِي:إنَّ النَّبِيَّ rوَادَعَ وَقْتَ خُرُوجِهِ إلى مَكَّةَ هِلاَلَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الأَسْلَمِيِّ عَلَى ألاَّ يُعِينَهُ وَلاَ يُعِينَ عَلَيهِ،وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلى هِلالٍ وَلَجأ إليهِ فَلَهُ مِنَ الجِوَارِ مِثْلُ مَا لِهِلالٍ .
وَهَؤُلاَءِ كَالجَمَاعَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ قُرَيشٍ فَحَضَرُوا القِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ،لِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ قَتْلِ العِبَّاسِ،وَأَمَرَ بِأسْرِهِ .
وَهُنَاكَ فِئَةٌ مُنَافِقَةٌ،يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ الإِسْلاَمَ،لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ،وَيُصَانِعُونَ الكُفَّارَ فِي البَاطِنِ،فَيَعْبُدُونَ مَعَهُمْ مَا يَعْبُدُونَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ،وَهُمْ فِي البَاطِنِ مَعْ أُولَئِكَ،وَكُلَّمَا دُعُوا إلى الشِّرْكِ ( الفِتْنَةِ ) أَوْغَلُوا فِيهِ وَانْهَمَكُوا،وَتَحَوَّلُوا إلَيهِ أَقْبَحَ تَحوُّلٍ،فَهَؤُلاَءِ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ rبِقِتَالِهِمْ إلى أنْ يَعْتَزِلُوا القِتَالَ،وَيَقْبَلُوا بِالصُّلْحِ وَالمُهَادَنَةِ،وَيُلْقُوا إلى المُسْلِمِينَ زِمَامَ المُسَالَمَةِ وَالمُهَادَنَةِ،وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِلمُؤْمِنِينَ سُلْطَاناً وَاضِحاً عَلَى قِتَالِهِمْ .[7]
إننا نجد في النصوص استنكارا لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين وتعجبا من اتخاذهم هذا الموقف وشدة وحسما في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته،وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك.
وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك - وفي كل موقف مماثل - التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين لأن فيها تميعا كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين.ذلك أن قول جماعة من المؤمنين:«سبحان اللّه! - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم،نستحل دماءهم وأموالهم؟» ..وتصورهم للأمر على هذا النحو،من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون! مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين:«إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس» ..وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم:«يظاهرون عدوكم» ..تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان،في ظروف تستدعي الوضوح الكامل،والحسم القاطع.فإن كلمة تقال باللسان مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين،لا تكون إلا نفاقا.ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء.لأنه تمييع للتصور ذاته ..
وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين.
ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة.فقد كان التصور واضحا ..هؤلاء منافقون ..ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم.هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين.وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين.لأنهم قالوا كلاما كالذي يقوله المسلمون.
وأدّوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه.بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين! من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين،ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم،كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية ..ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين:«وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا» ..
ما لكم فئتين في شأن المنافقين.واللّه أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم؟ وهي شهادة من اللّه حاسمة في أمرهم.بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء.
ثم استنكار آخر:«أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟» ..
ولعله كان في قول الفريق ..المتسامح!! ..ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا،ويتركوا اللجلجة! فاستنكر اللّه هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم اللّه في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم.
«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» ..فإنما يضل اللّه الضالين.أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة.وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية بما بعدوا عنها،وسلكوا غير طريقها ونبذوا العون والهدى،وتنكروا لمعالم الطريق! ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين ..إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب ولم يستحقوا أن يوقعهم اللّه في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب ..إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين:«وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» ..
إنهم قد كفروا ..على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون،ونطقوا بالشهادتين نطقا يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين ..وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد.فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين.ولا بد له من عمل وسعي،ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر.ليكونوا كلهم سواء.
هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين ..وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين.وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان،وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق:
والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم،وهو يقول لهم: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» ..
فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر.وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم،بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية ..ثم في الإسلام.وكان الفرق واضحا بارزا في مشاعرهم وفي واقعهم،تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط - سفح الجاهلية - الذي التقطهم منه الإسلام فسار بهم صعدا في المرتقى الصاعد،نحو القمة السامقة.
ومن ثم يتكىء المنهج القرآني على هذه الحقيقة فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء:«فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ،وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم ..أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها.كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته.كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة،أو روابط الدم والقرابة.أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة،أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة ..إنما تقوم الأمة على العقيدة وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة.
ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام،وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب ..ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول ..لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم للّه وفي سبيل اللّه.من أجل عقيدتهم،لا من أجل أي هدف آخر ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر ..بهذه النصاعة.
وبهذا الحسم.وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى،أو مصالح أخرى،أو أهداف أخرى ..
فإن هم فعلوا.فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم ..في دار الحرب ..وهاجروا إلى دار الإسلام،ليعيشوا بالنظام الإسلامي،المنبثق من العقيدة الإسلامية،القائم على الشريعة الإسلامية ..إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم،مواطنون في الأمة المسلمة.وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة،فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال:«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ (أي أسرى) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ،وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً».
وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا،أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة.إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى.
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته.ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام.في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين.فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا! وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته.وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام.
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة ..ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال.لا يتسامح مع من يقولون:إنهم يوحدون اللّه ويشهدون أن لا إله إلا اللّه.ثم يعترفون لغير اللّه بخاصية من خصائص الألوهية،كالحاكمية والتشريع للناس فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون،لأنهم اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم ..لا لأنهم عبدوهم.ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال،وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم! ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون.لأنهم شهدوا أن لا إله إلا اللّه،وأن محمدا رسول اللّه.ثم بقوا في دار الكفر،يناصرون أعداء المسلمين!
ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا.إنما هو تميع.والإسلام عقيدة التسامح.ولكنه ليس عقيدة «التميع».
إنه تصور جاد.ونظام جاد.والجد لا ينافي التسامح.ولكنه ينافي التميع.
وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى،بيان،وبلاغ ..
ثم استثنى من هذا الحكم - حكم الأسر والقتل - لهذا الصنف من المنافقين،الذين يعينون أعداء المسلمين - من يلجأون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد - عهد مهادنة أو عهد ذمة - ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون إليه،ويتصلون به:«إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» ..
ويبدو في هذا الحكم اختيار الإسلام للسلم،حيثما وجد مجالا للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي.من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار وعدم الوقوف في وجه الدعوة،بالقوة مع كفالة الأمن للمسلمين وعدم تعريضهم للفتنة،أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر.
ومن ثم يجعل كل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين - عهد ذمة أو عهد هدنة - شأنه شأن القوم المعاهدين.يعامل معاملتهم،ويسالم مسالمتهم.وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام.
كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى.هي الأفراد أو القبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد،فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال.إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم.كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين.فيكفوا أيديهم عن الفريقين بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء:«أَوْ جاؤُكُمْ،حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» ..
وواضح كذلك في هذا الحكم الرغبة السلمية في اجتناب القتال حيثما كف الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم.وهؤلاء الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم ..كانوا موجودين في الجزيرة وفي قريش نفسها ولم يلزمهم الإسلام أن يكونوا معه أو عليه.فقد كان حسبه ألا يكونوا عليه «1» ..كما أنه كان المرجو من أمرهم أن ينحازوا إلى الإسلام،حينما تزول الملابسات التي تحرجهم من الدخول فيه كما وقع بالفعل.
ويحبب اللّه المسلمين في انتهاج هذه الخطة مع المحايدين المتحرجين.فيكشف لهم عن الفرض الثاني الممكن في الموقف! فلقد كان من الممكن - بدل أن يقفوا هكذا على الحياد متحرجين - أن يسلطهم اللّه على المسلمين فيقاتلوهم مع أعدائهم المحاربين! فأما وقد كفهم اللّه عنهم على هذا النحو،فالسلم أولى،وتركهم وشأنهم هو السبيل:«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ.فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ،وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ.فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» ..
وهكذا يلمس المنهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين،الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق.يلمسه بما في هذا الموقف من فضل اللّه وتدبيره ومن كف لجانب من العداء والأذى كان سيضاعف لعبء على عاتق المسلمين.ويعلمهم أن يأخذوا الخير الذي يعرض فلا يرفضوه،ويجتنبوا الشر الذي يأخذ طريقه بعيدا عنهم،فلا يناوشوه ..طالما أن ليس في هذا كله تفريط في شيء من دينهم،ولا تمييع لشيء من عقيدتهم ولا رضى بالدنية في طلب السلم الرخيصة! لقد نهاهم عن السلم الرخيصة.لأنه ليس الكف عن القتال بأي ثمن هو غاية الإسلام ..إنما غاية الإسلام:
السلم التي لا تتحيف حقا من حقوق الدعوة،ولا من حقوق المسلمين ..لا حقوق أشخاصهم وذواتهم ولكن حقوق هذا المنهج الذي يحملونه ويسمون به مسلمين.
وإن من حق هذا المنهج أن تزال العقبات كلها من طريق إبلاغ دعوته وبيانه للناس في كل زاوية من زوايا الأرض.وأن يكون لكل من شاء - ممن بلغتهم الدعوة - أن يدخل فيه فلا يضار ولا يؤذى في كل زاوية من زوايا الأرض.وأن تكون هناك القوة التي يخشاها كل من يفكر في الوقوف في وجه الدعوة - في صورة من الصور - أو مضارة من يؤمن بها - أي لون من ألوان المضارة - وبعد ذلك فالسلم قاعدة.والجهاد ماض إلى يوم القيامة.
ولكن هناك طائفة أخرى،لا يتسامح معها الإسلام هذا التسامح.لأنها طائفة منافقة شريرة كالطائفة الأولى.
وليست مرتبطة بميثاق ولا متصلة بقوم لهم ميثاق.فالإسلام إزاءها إذن طليق.يأخذها بما أخذ به طائفة المنافقين الأولى:«سَتَجِدُونَ آخَرِينَ،يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ.كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها.فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ،وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ،وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ،وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً» ..
حكى ابن جرير عن مجاهد،أنها نزلت في قوم من أهل مكة،كانوا يأتون النبي - r- فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان،يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا،وهاهنا.
فأمر بقتلهم - إن لم يعتزلوا ويصلحوا - ولهذا قال تعالى:«فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ (المهادنة والصلح) وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ (أي عن القتال) فَخُذُوهُمْ (أسراء) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ (أي حيث وجدتموهم) وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً».
وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته،إلى جانب سماحته ونغاضيه ..هذه في موضعها،وتلك في موضعها.وطبيعة الموقف،وحقيقة الواقعة،هي التي تحدد هذه وتلك ..
ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفا وحماسة وشدة واندفاعا فليس هذا هو الإسلام! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام،كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! فيجعلون الأمر كله سماحة وسلما وإغضاء وعفوا ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين - وليس دفعا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة.وليس تأمينا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة.
وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله،من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء ..فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام.[8]
وقال تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) } سورة النساء
عَدَّ اللهُ تَعَالَى المُنْافِقِينَ مِنْ هَذَا الصَّنْفِ المُتَرَدِّدِ مِنَ النَّاسِ،آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا،فَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ،وَقَدْ بَشَرَّهُمُ اللهُ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الآخِرَةِ.( وَالبشَارَةُ تُسْتَعْمَلُ عَادَةً فِي الأَخْبَارِ السَّارَّةِ،فَاسْتِعْمَالُهَا هُنْا فِي الأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ هُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّهَكُّمِ وَالتَّوِبِيخِ )
ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ بِأنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ المُعَادِينَ للإِيمَانِ وَالمُؤْمِنِينَ،أَوْليَاءَ لَهُمْ يُلْقُونَ إليهِمْ بِالمَوَدَّةِ.وَيُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ هَذا المَسْلَكَ فِي مُوَالاَةِ الكَافِرِينَ.وَيَسْأَلُ اللهُ مُسْتَنْكِراً:هَلْ يَبْتَغِي هَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ العِزَّةَ وَالغَلَبَةَ وَالمَنَعَةَ عِنْدَ الكَافِرِينَ؟ ثُمَّ يُنَبِّهُهُمْ إلَى أنَّ العِزَّةَ كُلَّها للهِ وَحْدَهُ،وَلا شَرِيكَ لَهُ فِيها،ثُمَّ تَكُونُ العِزَّةُ لِمَنْ جَعَلَهَا اللهُ لَهُ.ثُمَّ يَحُثُّهُمُ اللهُ عَلى الإِقْبَالِ عَلَى إِعْلاَنِ عُبُودِيَّتِهِم للهِ وَحْدَهُ،وَالانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ لَهُمُ النَّصْرُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا،وَلَهُمُ الفَوْزُ بِرِضْوَانِ اللهِ وَجَنَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ .
كَانَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ يَجْلِسُونَ مَعَ المُشْرِكِينَ،وَهُمْ يَخُوضُونَ فِي الكُفْرِ وَذَمِّ الإِسْلاَمِ،وَالاسْتِهْزَاءِ بِالقُرْآنِ،وَلا يَسْتَطِيعُونَ الإِنْكَارَ عَلَيهِمْ لِضَعْفِهِمْ،وَلِقُوَّةِ المُشْرِكِينَ،فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالإِعْرَاضِ عَنْهُمْ .وَيَقُولُ تَعَالَى:إِنَّهُ أَنْزَلَ فِي القُرْآنِ أَمْراً إلى جَمِيعِ مَنْ يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ،أنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا أنَاسَاً يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ،أَوْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا فَعَلَيهِمْ ألاَّ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ إلى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ هَذَا المُنْكَرِ،وَيَأْخُذُوا فِي حُدِيثٍ آخَرَ،وَأنَّ المُؤْمِنِينَ إذَا قَعَدُوا مَعَ مَنْ يَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِ اللهِ،وَيَكْفُرُونَ بِاللهِ،فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ.وَكَمَا أَشْرَكُوهُمْ فِي الكُفْرِ،كَذَلِكَ يُشْرِكُهُمْ اللهُ مَعَهُمْ فِي الخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَبَداً،وَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ العُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى:أنَّ هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِالمُؤْمِنِينَ دَوَائِرَ السَّوْءِ،وَيَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَةِ الإِسْلاَمِ،وَظُهُورَ الكُفْرِ عَلَيهِمْ،وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ.فَإذَا نَصَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ،وَفَتَحَ عَلَيهِم،وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى الغَنَائِمِ،قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَوَدِّدِينَ إِلَيْهِمْ:ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإذاً فَنَحْنُ نَسْتَحِقُّ نَصِيباً مِنَ المَغْنَمِ الذِي حُزْتُمُوهُ.وَإذَا كَانَ النَّصْرُ وَالغَلَبَةُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ،قَالُوا لِلْكَافِرِينَ المُنْتَصِرِينَ:أَلَمْ نُسَاعِدْكُمْ فِي البَاطِنِ وَنَحْمِكُمْ،وَنُخَذِّلِ المُؤْمِنِينَ عَنْ قِتَالِكُمْ حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيهِم ( أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ) ؟ فَاعْرِفُوا لَنَا هَذَا الفَضْلَ،وَأَعْطُونَا نَصِيباً مِمَّا أَصَبْتُمْ مِنَ المَغْنَمِ .
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ حِسَاباً عَسِيراً عَلَى بَوَاطِنِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ،وَلَنْ يَنْفَعَهُمْ تَظَاهُرُهُمْ بِالإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَنِفَاقُهُمْ،وَأنَّهُ سَيَحْكُمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ،وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ،الذِينَ يُبْطِنُونَ الكُفْرَ،وَيُظْهِرُونَ الإِيمَانَ،وَيُجَازِي كُلا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.وَيَقُولُ تُعُالَى:إنَّهُ لَنْ يَجْعَلَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سُلْطَاناً وَسَبِيلاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا،مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ،قَائِمِينَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ،وَإنْ حَقَّقَ الكَافِرُونَ بَعْضَ الظَّفرِ،فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ،فَالعَاقِبَةُ لِلْحَقِّ دَائِماً،وَالبَاطِلُ إلى زَوَالٍ.كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَنْ يَجْعَلَ لِلْكَافِرِينَ سُلْطَاناً عَلَى المُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ .
يَعْتَقِدُ المُنَافِقُونَ،جَهْلاً مِنْهُمْ وَسَفْهاً،أنَّ أُمُورَهُمْ رَاجَتْ عِنْدَ النَّاسِ لِمَا أَظْهَرُوهُ لَهُمْ مِنَ الإِيمَانِ وَأَبْطَنُوهُ مِنَ الكُفْرِ،وَأنَّ نِفَقاَهُمْ سَيَرُوجُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَيْضاً،كَمَا رَاجَ عِنْدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا،وَقَدَ جَهَلَ هَؤُلاءِ المَخْدُوعُونَ أنَّ اللهَ عَالِمٌ بِمَسْلَكِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ،وَهُوَ يَخْدَعُهُمْ إذْ يَسْتَدْرِجُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ،وَضَلاَلِهِمْ،وَيَخْدَعُهُمْ عَنِ الحَقِّ وَالوُصُولِ إلَيْهِ،فِي الدُّنْيَا،وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ .
وَمِنْ صِفَةِ هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ حَتَّى فِي الصَّلاَةِ،التِي هِيَ أَعْظَمُ الفَرَائِضِ وَالقُرُبَاتِ إلَى اللهِ،لا يُؤَدُّونَها إلا وَهُمْ كُسَالَى،لاَ حَمَاسَةَ لَهُمْ فِيهَا،لأَنَّهُمْ لا نِيَّةَ لَهُمْ وَلا إِيمَانَ لَهُمْ،وَلاَ يَفْقَهُونَ مَعْنَى الصَّلاَةِ،وَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِالصَّلاَةِ أَمَامَ النَّاسِ،تَقِيَّةً وَمُصَانَعَةً،وَهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ لاَهُونَ لاَ يَخْشَعُونَ،وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلاً
المُنَافِقُونَ مُحَيَّرُونَ بَيْنَ الإِيمَانِ وَبَيْنَ الكُفْرِ،فَلاَ هُمْ مَعَ المُؤْمِنِينَ،ظَاهِراً وَبَاطِناً،وَلاَ هُمْ مَعَ الكَافِرِينَ،وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ،فَتَارَةً يَمِيلُ إلَى هَؤُلاَءِ،وَتَارَةً يَمِيلُ إلَى أُوْلَئِكَ.وَمَنْ صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ طَرِيقِ الهُدَى،فَلَنْ تَجِدَ لَهُ مُنْقِذاً وَلاَ مُرْشِداً،فَإِنَّهُ تَعَالَى لاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ،وَلاَ يَسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ،وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَتَخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ،مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ،يُصَاحِبُونَهُمْ وَيُصَادِقُونَهُمْ،وَيُنَاصِحُونَهُمْ،وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ،وَيُفْشُونَ إلَيْهِمْ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ البَاطِنَةَ .
وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ جَعَلُوا للهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً بَيِّنَةً وَعُذْراً فِي عُقُوبَتِهِ إِيّاهُمْ.( وَالمُرَادُ هُنَا النُّصْرَةُ بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرُ المُسْلِمِينَ ) .
يَقُولُ تَعَالَى إنَّ المُنَافِقِينَ سَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ فِي أَسْفَلِ طَبَقَاتِ ( دَرَكَاتِ ) نَارِ جَهَنَّمَ،وَلَنْ يَنْصُرَهُمْ أَحَدٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ .
أمَّا الذِينَ يَتُوبُونَ مِنَ المُنَافِقِينَ،وَيُقْلِعُونَ عَنِ النِّفَاقِ وَالكُفْرِ،وَيُخْلِصُونَ دِينَهُمْ وَعَمَلَهُمْ،فَإِنَّهُمْ يُصْبِحُونَ مَعَ المُؤْمِنِينَ،وَسَيَنَالُهُمُ الأَجْرَ العَظِيمَ الذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ .[9]
والكافرون المذكورون هنا هم - على الأرجح - اليهود الذين كان المنافقون يأوون إليهم ويتخنسون عندهم،ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.
واللّه - جل جلاله - يسأل في استنكار:لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع،ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر اللّه - عز وجل - بالعزة فلا يجدها إلا من يتولاه ويطلبها عنده ويرتكن إلى حماه.
وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين،وصفتهم الأولى،وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين،كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون.وتقرر أن العزة للّه وحده فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين! ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة،فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه.وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها ..العبودية للّه ..فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى وأشخاص شتى واعتبارات شتى،ومخاوف شتى.ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار ..وإنه إما عبودية للّه كلها استعلاء وعزة وانطلاق.وإما عبودية لعباد اللّه كلها استخذاء وذلة وأغلال ..ولمن شاء أن يختار ..
وما يستعز المؤمن بغير اللّه وهو مؤمن.وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء اللّه وهو يؤمن باللّه.وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين،وهم يستعينون بأعدى أعداء اللّه في الأرض،أن يتدبروا هذا القرآن ..إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين ..وإلا فإن اللّه غني عن العالمين! ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين:الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا،وحمية جاهلية ..
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ:مَنْ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَكَرَمًا،فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ.[10]
ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة.وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون باللّه منذ فجر التاريخ.
في كل أرض،وفي كل جيل.وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم،ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال.
وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسا يسمع فيه آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها،فيسكت ويتغاضى ..
يسمي ذلك تسامحا،أو يسميه دهاء،أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانا بحرية الرأي!!! وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله وهو يموه على نفسه في أول الطريق،حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسا بالضعف والهوان! إن الحمية للّه،ولدين اللّه،ولآيات اللّه.هي آية الإيمان.وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد وينزاح بعدها كل حاجز،وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار.وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدا.ثم تهمد.ثم تخمد.ثم تموت!
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس،فإما أن يدفع،وإما أن يقاطع المجلس وأهله.فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة.وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق! وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين - ذوي النفوذ - وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ.وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة ..حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها،هو أولى مراحل الهزيمة.وأراد أن يجنبهم إياها ..ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمرا بمقاطعة مجالس القوم إطلاقا.فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها ..وإلا فهو النفاق ..وهو المصير المفزع،مصير المنافقين والكافرين:
«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ:أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها،فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ،حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ.إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» ...
والذي تحيل إليه الآية هنا مما سبق تنزيله في الكتاب،هو قوله تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية - «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» ..
والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن:«إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» ..
والوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد:«إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» ..ولكن قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات اللّه ويستهزأ بها،وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين،يشي - كما أسلفنا - بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة - إذ ذاك - والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى - كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويدا رويدا ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع ..في عالم الواقع ..مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع! ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين،فيرسم لهم صورة زرية منفرة وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه ويمسكون العصا من وسطها،ويتلوون كالديدان والثعابين:«الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ،قالُوا:أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا:أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ..
وهي صورة منفرة.تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر،وما يتربصون بها من الدوائر.
وهم - مع ذلك - يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من اللّه ونعمة فيقولون:حينئذ:«أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟» ..
ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة - فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف:- أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم! «وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا:أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟» ..
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم وخذّلوا عنهم وخلخلوا الصفوف!!
وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين.في قلوبهم السم.وعلى ألسنتهم الدهان! ولكنهم بعد ضعاف صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين ..وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين.
ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول - r- بتوجيه ربه في مسألة المنافقين،هي الإغضاء والإعراض،وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين! فإنه يكلهم هنا إلى حكم اللّه في الآخرة حيث يكشف الستار عنهم،وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين:«فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» ..
حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور.
ويطمئن الذين آمنوا بوعد من اللّه قاطع أن هذا الكيد الخفي الماكر،وهذا التآمر مع الكافرين،لن يغير ميزان الأمور ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين:«وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ..
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة.حيث يحكم اللّه بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل.
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط اللّه الكافرين على المسلمين تسليط استئصال.وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين.
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب،لأنه ليس فيه تحديد.
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد ..أما بالنسبة للدنيا،فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا.ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق:
إنه وعد من اللّه قاطع.وحكم من اللّه جامع:أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة،ونظاما للحكم،وتجردا للّه في كل خاطرة وحركة،وعبادة للّه في الصغيرة والكبيرة ..فلن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ..
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها! وأنا أقرر في ثقة بوعد اللّه لا يخالجها شك،أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين،ولم تلحق بهم في تاريخهم كله،إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان.إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل اللّه وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون! ففي «أحد» مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول - r- وفي الطمع في الغنيمة.وفي «حنين» كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا ..نعرفه أو لا نعرفه ..أما وعد اللّه فهو حق في كل حين.
نعم.إن المحنة قد تكون للابتلاء ..ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة،هي استكمال حقيقة الإيمان،ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه اللّه على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه،جاء النصر وتحقق وعد اللّه عن يقين.
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك ..إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح،وكلال العزيمة.فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا.فأما إذا بعثت الهمة،وأذكت الشعلة،وبصرت بالمزالق،وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق ..فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد.ولو طال الطريق! كذلك حين يقرر النص القرآني:أن اللّه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ..فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر والفكرة المؤمنة هي التي تسود.وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا وفي حياتها واقعا وعملا.وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها.فالنصر ليس للعنوانات.إنما هو للحقيقة التي وراءها ..
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان،إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان.ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك ..ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة.ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء وألا نطلب العزة إلا من اللّه.
ووعد اللّه هذا الأكيد،يتفق تماما مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ..
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى،التي لا تضعف ولا تفنى ..وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها ..
ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية،أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا.
غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان ..إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية.ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل.وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها ..ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن «حقيقة» الكفر تغلبه،إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها ..لأن حقيقة أي شيء أقوى من «مظهر» أي شيء.
ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان! إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق.وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل.مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون ..«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» ..
«وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ..
ثم يمضي السياق بعد هذا الوعد القاطع المطمئن للمؤمنين،المخذّل للمنافقين الذين يتولون الكافرين يبتغون عندهم العزة ..يمضي فيرسم صورة زرية أخرى للمنافقين،مصحوبة بالتهوين من شأنهم،وبوعيد اللّه لهم:«إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ - وَهُوَ خادِعُهُمْ - وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ،وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا.مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ.لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ.وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا»..
وهذه لمسة أخرى من لمسات المنهج للقلوب المؤمنة.فإن هذه القلوب لا بد أن تشمئز من قوم يخادعون اللّه.
فإن هذه القلوب تعرف أن اللّه سبحانه - لا يخدع - وهو يعلم السر وأخفى وهي تدرك أن الذي يحاول أن يخدع اللّه لا بد أن تكون نفسه محتوية على قدر من السوء ومن الجهل ومن الغفلة كبير.ومن ثم تشمئز وتحتقر وتستصغر كذلك هؤلاء المخادعين! ويقرر عقب هذه اللمسة أنهم يخادعون اللّه «وهو خادعهم» ..أي مستدرجهم وتاركهم في غيهم لا يقرعهم بمصيبة تنبههم ولا يوقظهم بقارعة تفتح عيونهم ..تاركهم يمضون في طريق الهاوية حتى يسقطوا ..
وذلك هو خداع اللّه - سبحانه - لهم ..فالقوارع والمحن كثيرا ما تكون رحمة من اللّه،حين تصيب العباد،فتردهم سريعا عن الخطأ أو تعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ..وكثيرا ما تكون العافية والنعمة استدراجا من اللّه للمذنبين الغاوين لأنهم بلغوا من الإثم والغواية ما يستحقون معه أن يتركوا بلا قارعة ولا نذير حتى ينتهوا إلى شر مصير.
ثم يستمر السياق يرسم لهم صورا زرية شائنة لا تثير في قلوب المؤمنين إلا الاشمئزاز والاحتقار:«وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ.وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا»
فهم لا يقومون إلى الصلاة بحرارة الشوق إلى لقاء اللّه،والوقوف بين يديه،والاتصال به،والاستمداد منه ..إنما هم يقومون يراءون الناس.ومن ثم يقومون كسالى،كالذي يؤدي عملا ثقيلا أو يسخر سخرة شاقة! وكذلك هم لا يذكرون اللّه إلا قليلا.فهم لا يتذكرون اللّه إنما يتذكرون الناس! وهم لا يتوجهون إلى اللّه إنما هم يراءون الناس.
وهي صورة كريهة - ولا شك - في حس المؤمنين.تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز،ومن شأن هذا الشعور أن يباعد بينهم وبين المنافقين وأن يوهن العلائق الشخصية والمصلحية ..وهي مراحل في المنهج التربوي الحكيم للبت بين المؤمنين والمنافقين! ويستمر السياق في رسم الصور الزرية المنفرة:«مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ.لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ.وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» ..
وموقف الذبذبة،والأرجحة،والاهتزاز،وعدم الاستقرار والثبات في أحد الصفين:الصف المؤمن أو الصف الكافر ..موقف لا يثير إلا الاحتقار والاشمئزاز كذلك في نفوس المؤمنين.كما أنه يوحي بضعف المنافقين الذاتي.هذا الضعف الذي يجعلهم غير قادرين على اتخاذ موقف حاسم هنا أو هناك ..ولا على المصارحة برأي وعقيدة وموقف ..مع هؤلاء أو هؤلاء ..
ويعقب على هذه الصور الزرية،وهذه المواقف المهزوزة،بأنهم قد حقت عليهم كلمة اللّه واستحقوا ألا يعينهم في الهداية ومن ثم فلن يستطيع أحد أن يهديهم سبيلا.ولا أن يجد لهم طريقا مستقيما: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» ..
وإلى هنا يكون السياق قد بلغ من إثارة الاشمئزاز والاحتقار والاستضعاف للمنافقين في نفوس المؤمنين مبلغا عظيما ..فيلتفت بالخطاب للمؤمنين محذرا إياهم أن يسلكوا طريق هؤلاء المنافقين ..وطريق المنافقين - كما سبق - هو اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين.ويحذرهم بطش اللّه ونقمته،كما يصور لهم مصير المنافقين في الآخرة.وهو مصير مفزع رعيب،مهين كذلك ذليل:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً.إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا،وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ،وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ.فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» ..
إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا،بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم.والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم.والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات.
نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين،ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين ..
وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك.حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش - ولو من الناحية النفسية - ونقول «بعض المسلمين» لأن هناك البعض الآخر الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي - حتى مع الآباء والأنباء - وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم كما علمهم اللّه.
وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين - بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة - وتحذيره من التعرض لغضب اللّه وبطشه ونقمته: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟» ولا يفرق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقه وارتجافه من التعرض لبطش اللّه ونقمته ..ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام ..ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين! وطرقة أخرى عالية على هذه القلوب.غير موجهة إليها مباشرة.ولكن عن طريق التلويح ..طرقة تقرر المصير الرعيب المفزع المهين للمنافقين:«إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً».في الدرك الأسفل ..إنه مصير يتفق مع ثقلة الأرض التي تلصقهم بالتراب،فلا ينطلقون ولا يرتفعون.
ثقلة المطامع والرغائب،والحرص والحذر،والضعف والخور! الثقلة التي تهبط بهم إلى موالاة الكافرين ومداراة المؤمنين.والوقوف في الحياة ذلك الموقف المهين:«مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ.لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» ..
فهم كانوا في الحياة الدنيا يزاولون تهيئة أنفسهم وإعدادها لذلك المصير المهين «فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» ..
بلا أعوان هنالك ولا أنصار ..وهم كانوا يوالون الكفار في الدنيا،فأنى ينصرهم الكفار؟
ثم يفتح لهم - بعد هذا المشهد المفزع - باب النجاة ..باب التوبة لمن أراد النجاة:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا،وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ،وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ.فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» ..
وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقول:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» ..فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام باللّه،وإخلاص الدين للّه.ولكنه هنا ينص على الاعتصام باللّه،وإخلاص الدين للّه.لأنه يواجه نفوسا تذبذبت،ونافقت،وتولت غير اللّه.فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح،على التجرد للّه،والاعتصام به وحده وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة،وتلك الأخلاق المخلخلة ..ليكون في الاعتصام باللّه وحده قوة وتماسك،وفي الإخلاص للّه وحده خلوص وتجرد ..
بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض،وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار.
وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة اللّه وحده.المستعلين بالإيمان.المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان ..وجزاء المؤمنين - ومن معهم - معروف:«وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً».وبهذه اللمسات المنوعة،يكشف حقيقة المنافقين في المجتمع المسلم،ويقلل من شأنهم وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق،ويحذرهم مصيره.ويفتح باب التوبة للمنافقين ليحاول من فيه منهم خير،أن يخلص نفسه،وينضم إلى الصف المسلم في صدق وفي حرارة وفي إخلاص ..[11]
وقال تعالى:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) }[الأنفال:47 - 52]
وَعَلَيْكُمْ،أَيُّها المُؤْمِنُونَ،أَنْ تَمْتَثِلُوا لِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى،وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ r ،وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِمَا،وَلاَ تَكُونُوا كَأَعْدَائِكُمْ المُشْرِكِينَ الذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بَطَراً بِمَا أوتُوا مِنَ النَّعْمَةِ،وَمُرَاءَاةً لِلنَّاسِ لِيُعْجَبُوا بِهِمْ،وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالغِنَى وَالقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ..وَهُمْ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِخُرُوجِهِم الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ،وَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ،وَالحَدَّ مِنْ انْتِشَارِ الإِسْلاَمِ،وَاللهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ،وَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ،وَسَوْفَ يُجَازِيهِمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ إِذْ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَعْمَالَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ،وَإِذْ حَسَّنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا جَاؤُوا لَهُ،وَمَا هَمُّوا بِهِ،وَأَطْمَعَهُمْ بِأنَّهُمْ مَنْصُورُونَ،وَأَنَّهُمْ لاَ غَالِبَ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ،وَطَمْأَنَهُمْ إلَى أَنَّهُمْ لَنْ يُؤْتَوْا فِي دِيَارِهِمْ أَثْنَاءَ غَيْبَتِهِمْ فِي قِتَالِ المُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ،لأَنَّهُ جَارٌ لَهُمْ وَمُجِيرٌ،فَلَمَّا التَقَى المُسْلِمُونَ بِالمُشْرِكِينَ،وَرَأَى الشَّيْطَانُ مَلاَئِكَةَ اللهَ يَحْمُونَ المُسْلِمِينَ،وَلَّى هَارِباً { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ }،وَقَالَ لأَوْلِيَائِهِ مِنَ الكُفَّارِ:إِنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ يَرَوْنَ،إِنَّهَ يَرَى المَلاَئِكَةَ يِنْصُرُونَ المُسْلِمِينَ،وَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ وَقُوَّتِهِ وَسَطْوَّتِهِ،مَا لاَ يَعْلَمُهُ أَوْلِيَاؤُهُ،وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَخَافُ اللهَ،وَيَعْرِفُ أَنَّهَ تَعَالَى شَدِيدُ العِقَابِ .
لَمَّا اقْتَرَبَ المُسْلِمُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ،وَلاَحَظَ المُشْرِكُونَ قِلَّةَ عَدَدِ المُسْلِمِينَ،اسْتَخَفُّوا بِهِمْ،وَظَنَّوا أَنَّهُمْ هَازِمُوهُمْ لاَ مَحَالَةَ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينَهُمْ حَتَّى أَقْدَمُوا عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ مَعْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ.وَلكنَّ النَّصْرَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ العَدَدِ،فَإِنَّ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ،وَيُسَلِّمُ أَمْرَهُ إِلَيهِ،فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدِ الْتَجَأَ إِلَى جَانِبٍ عَزِيزٍ مَنيعٍ لاَ يُضَامُ.وَاللهُ حَكِيمٌ يَعْرِفُ وَضْعَ الأمُورِ فِي مَوَاضِعِهَا،فَيَنْصُرُ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ .
وَلَوْ عَايَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الكُفَّارَ حِينَمَا تَأْتِي المَلاَئِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ،إِذاً لَرَأَيْتَ أَمْراً عَظِيماً مَهُولاً،إِذْ يَضْرِبُونَ ( يَوْمَ بَدْرٍ ) وُجُوهَهُمْ بِالسُّيُوفِ إِذَا أَقْدَمُوا،وَيَضْرِبُونَ أَدْبَارَهُمْ إذا وَلَّوا،وَيَقُولُونَ لَهُمْ:ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ،بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ وَسُوءِ أَعْمَالِكُمْ .
وَيُتَابِعُ المَلاَئِكَةُ حَدِيثَهُمْ مَعَ الكُفَّارِ وَهُمْ يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ،فَيَقُولُونَ لَهُمْ:إِنَّ هَذَا العَذَابُ الذِي يَنْزِلُ بِكُمْ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ،وَمَا عَمِلْتُمْ مِنْ سَيِّئَاتٍ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيا،وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ،وَهُوَ الحَكَمُ العَدْلُ الذِي لاَ يَجُوزُ أَبَداً .هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ،يَا مُحَمَّدُ،إِنَّمَا يَفْعَلُونَ مَا فَعَلَهُ قَبْلَهُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ ( آل فِرْعَوْنَ )،وَنَحْنُ نَفْعَلُ بِهِمْ مَا كَانَ مِنْ دَأْبِنَا وَعَادَتِنَا أَنْ نَفْعَلَهُ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ المُكَذِّبِينَ الذِينَ سَبَقُوهُمْ،فَقَدْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ،وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ .[12]
وقال تعالى:{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) } سورة التوبة
يُوَبِّخُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ rفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ،مُعْتَذِرِينَ بِأَنَّهُمْ ذَوُو أَعْذَارٍ،وَلَمْ يَكُونُوا فِي الحَقِيقَةِ كَذَلِكَ،فَقَالَ:لَوْ كَانَ الأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِغَنِيمَةٍ قَرِيبَةٍ ( عَرَضاً قَرِيباً )،أَوْ سَفَرٍ قَرِيبٍ لاَ مَشَقَّةَ فِيهِ ( سَفَراً قَاصِداً ) لاَتَّبَعُوا رَسُولَ اللهِ،وَلَكِنَّ المَسَافَةَ بَيْنَ الشَّامِ وَالمَدِينَةِ ( الشُّقَّةُ ) قَدْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ.وَيُخْبِرُ اللهُ نَبيَّهُ أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ لَهُ بِاللهِ،بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الغَزْوَةِ،أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْذَارُ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الخُرُوجِ مَعَهُ لَخَرَجُوا،وَسَيُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالأَيْمَانِ وَالأَعْذَارِ لِيُرْضُوهُ،إِذْ أَنَّهُمْ بِهَذا النِّفَاقِ وَالكَذِبِ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ،وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِي حَلْفِهِمْ،وَفِي قَوْلِهِمْ:( لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ) وَلَنْ يَرْضَى اللهُ عَنْهُمْ .لَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْكَ،يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ،فِيمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُكَ مِنَ الإِذْنِ لَهُمْ بِالْقُعُودِ حِينَ اسْتَأَذَنُوكَ،فَهَلاَّ تَرَيَّثْتَ فِي الإِذْنِ لَهُمْ،وَتَوَقَّفْتَ عَنْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ أَمْرُهُمْ،وَيَنْجَلِيَ وَضْعُهُمْ،فَتَعْرِفَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ وَالكَاذِبِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ،فَتُعَامِلَ كُلاًّ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ؟
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ،فِي القُعُودِ عَنِ الجِهَادِ،أَحَدٌ يٌؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ،لأنَّهُمْ يَرَوْنَ الجِهَادَ قُرْبَةً إِلَى اللهِ،وَإِذَا نَدَبَهُمُ النَّبِيُّ إِلَيْهِ بَادَرُوا مُمْتَثِلِينَ،وَاللهُ يَعْلَمُ مَنْ هُمُ الْمُتَّقُونَ الذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ،وَيَطْلُبُونَ مَرْضَاتِهِ،وَيُعِدُّونَ لِلْجِهَادِ عُدَّتَهُ .
وَلَكِنَّ الذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ r ،فِي القُعُودِ عَنِ الجِهَادِ،وَلاَ عُذْرَ لَهُمْ،هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ،وَلاَ يَرْجُونَ ثَوَابَ اللهَ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَإِنْفَاقِهِم الْمَالَ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ الإِسْلاَمُ،وَقَدْ شَكَّتْ قُلُوبُهُمْ فِي صِحَّةِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ،فَهُمْ يَتَحَيَّرُونَ،وَيَتَرَدَّدُونَ مُتَشَكِّكِينَ .
وَلَوُ أَنَّهُمٍ أَرَادُوا الخُرُوجَ مَعَكَ إِلَى الجِهَادِ،وَصَحَّتْ نِيَّتُهُمْ لِلْخُرُوجِ مَعَكَ،لَكَانُوا تَأَهَّبُوا لَهُ،وَأَعَدُّوا الحَرْبَ وَالسَّفَر،وَلَكِنَّ اللهَ كَرِهَ خُرُوجَهُم مَعَكَ،فَثَبَّطَهُمْ،وَثَنَى عَزَائِمَهُمْ عَنْ ذَلِكَ،وَقِيلَ لَهُمْ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ مِنَ النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ وَالمَرْضَى وَالْعَجَزَةِ وَالشُّيُوخِ
يُبَيّنُ اللهُ تَعَالَى فِيِ هَذِهِ الآيَةِ أَسْبَابَ كَرَاهِيَتِهِ لِخُرُوجِ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ إِلَى الجِهَادِ مَعَ رَسُولِهِ r ،فَيَقُولُ:لَوْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ المُسْلِمِينَ لَزَادُوهُمُ اضْطِرَاباً وَضَعْفاً ( خَبَالاً ) لأَنَّهُمْ جُبَنَاءُ مَخْذُولُونَ،وَلأَخَذُوا بِالسَّعْيِ بَيْنَكُمْ فِي الدَّسِّ وَالنَّمِيمَةِ وَإِثَارَةِ الْفِتْنَةِ،وَيُوجَدُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ مَنْ يَتَأَثَّرُ بِهِمْ،وَيَسْتَمِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ،مِنْ ضِعَافِ الإِيمَانِ،وَضِعَافِ العَزَائِمِ،فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى وُقُوعِ الشَّرِّ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ.وَاللهُ يَعْلَمُ الظَّالِمِينَ،وَمَا يُبَيِّتُونَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ لَوْ خَرَجُوا مَعَهُمْ إِلَى الغَزَاةِ .
يُحَرِّضُ اللهُ رَسُولَهُ rعَلَى هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ فَيَقُولُ لَهُ:لَقَدْ أَعْمَلُوا رَأَيَهُمْ فِي الكَيْدِ لَكَ،وَلأَصَحَابِكَ وَلِدِينِكَ،مُدَّةً طَوِيلَةً،فِي بَدْءِ مَقْدَمِكَ إِلَى المَدِينَةِ،وَتَأَلَّبَ عَلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ،وَالمُنَافِقُونَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ،وَيَهُودُ الْمَدِينَةِ،فَلَمَّا نَصَرَكَ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ،وَأَعْلَى كَلِمَةِ الإِسْلاَمِ،قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ لِجَمَاعَتِهِ:هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ.فَدَخَلُوا فِي الإِسْلاَمِ ظَاهِراً،وَكَانُوا كُلَّمَا زَادَ اللهُ الإِسْلاَمَ عِزَّةً،زَادَهُمْ ذَلِكَ غَيْظاً وَحَنْقاً.وَقَدِ ابْتَغَى هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ إِثَارَةَ الفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ،وَتَفْرِيقَ شَمْلِهِمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الغَزْوَةِ،فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ،حِينَ اعْتَزَلَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ الجَيْشِ،وَصَارَ يَقُولُ:أَطَاعَ النَّبِيُّ الْوِلْدَان وَمَنْ لاَ رَأَيَ لَهُ،فَعَلاَمَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا؟
وَمِنَ المُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لَكَ ( وَهُوَ الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ المُنَافِقِينَ ):ائْذَنْ لِي فِي القُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ عَنِ الجِهَادِ،لأَنَّنِي إِذَا خَرَجْتُ مَعَكَ،أَخَافُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَفْتَتِنَ بِنِسَاءِ الرُّومِ ( بَنِي الأَصْفَرِ )،إِذَا رَأَيْتُهُنَّ.وَيَقُولُ تَعَالَى:لَقْدَ سَقَطَ هَؤُلاَءِ فِي فِتْنَةٍ أَعْظَمَ بِاعْتِذَارِهِمْ بِمَعَاذِيرَ كَاذِبَةٍ،وَبِسَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ،وَبِالرَّغْبَةِ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ.وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنَّ جَهَنَّمَ مُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ الذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ،وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ،وَهِيَ جَامِعَةٌ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا،وَلاَ مَحِيصَ وَلاَ مَهْرَبَ،وَكَفَى بِهَا نَكَالاً وَوَبَالاً .
وَهَؤُلاَءِ تَسُوؤُهُمْ أَيَّةُ حَسَنَةٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ فَتْحٍ يُصِيبُهُ الرَّسُولُ وَالمُسْلِمُونَ،وَإِذَا أَصَابَتِ الرَُّسولَ وَالمُؤْمِنِينَ مُصِيبَةٌ،أَوْ شِدَّةٌ،يَقُولُونَ قَدِ احْتَظْنَا لأَمْرِنَا،وَأَخَذْنَا حِذْرَنَا إِذْ تَخَلَّفْنَا عَنِ القِتَالِ،وَلَمْ نُلْقِ بَأَيْدِينَا إِلَى التَّهْلُكَةِ،وَيَنْقَلِبُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ فَرِحِينَ بِمَا اجْتَنَبُوهُ مِنَ المَصَائِبِ،وَبِالشَّمَاتَةِ بِالنَّبِيَِّ وَالمُسْلِمِينَ .
قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ الذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُ المُسْلِمِينَ مِنَ المَصَائِبِ،وَتَسُوؤُهُم النِّعْمَةُ الَّتِي تُصْيبُ المُسْلِمِينَ:نَحْنُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ وَقَدَرِهِ،وَمَا قَدّرَهُ لَنَا سَيَأْتِينَا،وَلَيْسَ لَهُ مَانِعٌ وَلاَ دَافِعٌ.وَنَحْنُ مُتَوَكّلُونَ عَلَى اللهِ،وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيلُ،فَلاَ نَيْأسُ عِنْدَ الشِّدَّةِ،وَلاَ نَبْطَرُ عِنْدَ النِّعْمَةِ .
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ:هَلْ تَتَرَبَّصُونَ بِنَا،وَتَنْتَظِرُونَ أَنْ يَقَعَ لَنَا،إِلاَّ وَاحِدَةٌ مِنِ اثْنَتَيْنِ:وَكِلْتَاهُمَا خَيْرٌ لَنَا وَفِيهِمَا حَسَنَةٌ:شَهَادَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ ظَفْرٌ.أَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا نَنْتَظِرُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ عَذَابُ اللهِ،أَوْ أَنْ يُسَلِّطَنَا عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ فَنُذِيقَكُمْ بَأْسَنَا .
وَقُلْ لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتُرُوا نِفَاقَهُمْ بِإِنْفَاقِ المَالِ فِي الجِهَادِ وَغَيْرِهِ:مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَة طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ،فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ذَلِكَ،لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ مُتَشَكِّكِينَ خَارِجِينَ عَنِ الإِيمَانِ،وَاللهُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الأَعْمَالَ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ
وَيُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ سَبَبَ عَدَمِ تَقَبُّلِهِ نَفَقَاتِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ،وَلاَ يُؤَدُّونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى لاَ حَمَاسَةَ لَهُمْ فِي أَدَائِهَا،وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً فِي مَصَالِحِ الجِهَادِ وَغَيْرِهَا إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ.وَبِمَا أَنَّ الأَعْمَالَ لاَ تَصِحُّ إلاَّ بِالإِيمَانِ،وَبِمَا أَنَّ هَؤُلاَءِ لاَ إِيمَانَ لَهُمْ،لِذَلِكَ لَنْ يَقْبَلَ اللهُ مِنْهُمْ نَفَقَةً وَلاَ عَمَلاً .
فَلاَ يُعْجِبْكَ مَا تَرَاهُمْ فِيهِ مِنْ وَفْرَةِ المَالِ،وَكَثْرَةِ الأَوْلاَدِ،وَرَفْهِ الحَيَاةِ،فَإِنَّ اللهَ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيمَا أَعْطَاهُمْ بِمَا يَنَالُهُمْ بِسَبَبِهَا مِنَ التَّنْغِيصِ وَالحَسْرَةِ،وَذَلِكَ بِالْكَدِّ وَالْعَنَاءِ فِي جَمْعِهَا،وَاكْتِسَابِهَا،ثُمَّ بِإِجْبَارِهِمْ عَلَى دَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْهَا،وَالإِنْفَاقِ فِي الجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُهُ الإِسْلاَمُ عَلَيْهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا،ثُمَّ يُمِيتُهُمْ عَلَى الكُفْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ نَكَالاً لَهُمْ،وَآلَمَ عَذَاباً فِي الدَّارِ الآخِرَةِ،فَتَكُونُ الأَمْوَالُ وَالأَوْلاَدُ اسْتِدْرَاجاً لَهُمْ .
يَتَظَاهِرُ هَؤُلاَءِ الْمُنَافِقُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْكُمْ،لِيَأْمَنُوا بَأْسَكَمُ،وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ كَذِباً أَنَّهُمْ مِنْكُمْ فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ،وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ،بَلْ هُمْ أَهْلُ شَكٍّ وَنِفَاقٍ،وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ،وَيَحْلِفُونَ لَكُمْ،خَوْفاً مِنْكُمْ وَفَرَقاً .
إِنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ يَكْرَهُونَ القِتَالَ مَعَكُمْ،وَيُبْغِضُونَ مُعَاشَرَتَهُمْ إِيَّاكُمْ،وَلَكِنَّهُمْ يَخَافُونَ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ لَكُمْ نِفَاقُهُمْ،وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الفِرَارَ مِنْكُمْ،وَالعَيْشَ فِي مَكَانٍ يَعْتَصِمُونَ فِيهِ مِنِ انْتِقَامِكُمْ مِنْهُمْ،فَلَوِ اسْتَطَاعُوا السُّكْنَى فِي الحُصُونِ وَالقِلاَعِ،أَوْ فِي كُهُوفِ الجِبَالِ وَمَغَارَاتِهَا،أَوْ فِي أَنْفَاقِ الأَرْضِ وَأَسْرَابِهَا،لَوَلَّوْا إِلَيْهَا مُسْرِعِينَ،كَالْفَرَسِ الجَمُوحِ لاَ يَرُدُّهُمْ شَيْءٌ،وَهُمْ قَدْ أَقَامُوا بَيْنَ أَظْهُرِ المُسْلِمِينَ،مَعَ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ،لأَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَرْكِ عَشِيرَتِهِمْ،وَدُورِهِمْ،وَأَمْوَالِهِمْ،فَصَانَعُوا المُسْلِمِينَ بِالنِّفَاقِ،وَادِّعَاءِ الإِسْلاَمِ .
وَمِنَ المُنَافِقِينَ مَنْ يَعِيبُ عَلَيْكَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ وَالمَغَانِمِ،إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُحَابِي فِيهَا،وَتُؤْتِي مَنْ تَشَاءُ مِنَ الأَقَارِبِ وَأَهْلِ الْمَوَدَّةِ،وَلاَ تُرَاعِي العَدْلَ فِي ذَلِكَ،وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سُخْطاً لِلدِّينِ،وَلاَ غَيْرَةً عَلَى مَصْلَحَةِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ،وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ سَعياً وَرَاءَ مَنْفَعَتِهِم الخَاصَّةِ،فَإِذَا أُعْطُوْا مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ،وَلَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ،رَضُوا القِسْمَةَ،وَاسْتَحْسَنُوهَا،وَأَثْنُوا عَلَى فِعْلِكَ،وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا مَا يُرْضِيهِمْ،سَخِطُوا،وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْعَطَاءِ
وَيُعَلِّمُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ أَدَبَ الإِيمَانِ،فَيَقُولُ لَهُمْ:إِنَّهُمْ لَوْ رَضُوا بِمَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ،وَقَنِعُوا بِذَلِكَ،وَفَرِحُوا بِهِ،وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَكِيلاً،وَرَازِقاً فِي كُلِّ حَالٍ،وَسَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ،وَرَسُولُهُ لاَ يَبْخَسُ أَحَداً مِنَّا شَيْئاً يَسْتَحِقُّهُ فِي شَرْعِ اللهِ،وَإِنَّا رَاغِبُونَ إِلَى اللهِ العَلِيِّ الْقَدِيرِ،لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ مِنَ الطَّمَعِ وَلَمْزِ الرَّسُولِ وَهَمْزِهِ[13]
وقال تعالى :{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) } سورة التوبة
وَمِنَ المُنَافِقِينَ قَوْمٌ يُؤْذًُونَ رَسُولَ اللهِ بِالكَلاَمِ فِيهِ،وَيَقُولُونَ:هُوَ أُذُنٌ يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحٍَ،وَمَنْ قَالَ لَهُ شَيْئاً صَدَّقَهُ،وَمَنْ حَدَّثَهُ بِشَيْءٍ صَدَّقَهُ،فَإِذَا جِئْنَا وَحَدَّثْنَاهُ وَحَلَفْنَا لَهُ صَدَّقَنَا .
فَقُلْ لَهُمْ:هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنَ الكَاذِبِ،وَلاَ يَقْبَلُ مِمَّا يَسْمَعُ إِلاَّ مَا يَعُدُّه حَقّاًُ،وَفِيهِ مَصْلَحَةُ الخَلْقِ،وَلَيْسَ هُوَ بِأُذُنٍ فِي سَمَاعِ البَاطِلِ وَالكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ،إِنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللهِ،وَيُصَدِّقُ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَثِقُ بِدِينِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ،وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا،وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الكَافِرِينَ.وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ بِالقَوْلِ أَوْ بِالعَمَلِ قَدْ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الآخِرَةِ .
قَالَ رَجُلٌ مِنَ المُنَافِقِينَ عَنْ رُؤَسَاءِ المُنَافِقِينَ،الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ،فَنَزَلَ فِيهِمْ مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ:( إِنَّ هَؤُلاَءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا،وَإِذَا كَانَ مَا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ حَقّاً،لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ ).فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَقَالَ:إِنَّ مُحَمَّداً لاَ يَقُولُ إِلاَّ حَقّاً،وَلأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الحِمَارِ ).ثُمَّ ذَهَبَ المُسْلِمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ يُحَدِّثُهُ بِمَا جَرَى.فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ إِلَى المُنَافِقِ وَسَأَلَهُ،وَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا قُلْتَ؟ فَأَخَذَ المُنَافِقُ يَحْلِفُ بِاللهِ إِنَّهُ مَا قَالَ ذَلِكَ.وَقَالَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ:اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ،وَكَذِّبْ الكَاذِبَ.فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ الْكَرِيمَةَ .
فَهَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَالُوا مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِمَّا يُورِثُ أَذَى النَّبِيِّ لِيُرْضُوكُمْ،فَلاَ تُخْبِرُوا النَّبِيَّ،مَعْ أَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ أَحَقُّ بِالإِرْضَاءِ مِنَ المُؤْمِنِينَ،لأنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ،وَيَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ.وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ .
أَلاَ يَعْلَمُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ أَنَّ مَن شَاقَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بِتَعَدِّي حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ،وَحَارَبَهُمَا وَخَالَفَهُمَا،وَلَمَزَ رَسُولَ اللهِ فِي أَعْمَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ،فَإِنَّهُ سَيَصْلَى نَارَ جَهَنَّمَ،وَيَبْقَى خَالِداً فِيهَا،وَهَذا هُوَ الذُّلُ العَظِيمُ،وَالشَّقَاءُ الكَبِيرُ .
كَانَ المُنَافِقُونَ يَقُولُونَ القَوْلَ بَيْنَهُمْ،ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى اللهُ أَنْ لاَ يَفْشِي عَلَيْنَا سِرَّنَا هَذَا بِإِنْزَالِ آيَةٍ عَلَى رَسُولِهِ،تَفْضَحُ مَا قُلْنَاهُ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً:إِنَّهُ سَيُخْرِجُ مَا يَحْذَرُونَ لِيَعْلَمَهُ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ،فَلْيَسْتَهْزِئُوا مَا شَاؤُوا .
وَخَوْفُ المُنَافِقِينَ مِنَ الْفَضِيحَةِ،وَمِنْ كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ،همُاَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الشَّكِّ وَالارْتِيَابِ،لأَنَّهُمْ مُذَبْذَبُونَ،لاَ هُمْ مَعَ المُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ،وَلاَ هُمْ بِالكَافِرِينَ الجَازِمِينَ بِصِحَّةِ الكُفْرِ .
حِينَمَا كَانَ الرَّسُولُ rمُنْطَلِقاً فِي الطَّرِيقِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ بَعْضُ المُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ:أَتَحْسَبُونَ جَلاَدَ بَنِي الأَصْفَر ( يَعْنِي الرُّوم ) كَقِتَالِ العَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً،وَاللهِ لَكَأَنَّنَا بِكُمْ غَداً مُقْرَّنِينَ فِي الحِبَالِ؟ وَكَانَ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ إِرْجَافاً،وَتَرْهِيباً لِلْمُسْلِمِينَ.فَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ:أَدْرِكِ القَوْمَ فَقَدِ احْتَرَقُوا،فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا،فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا..فَقَالَ لَهُمْ عَمَّارُ ذَلِكَ فَأَتَوْا إِلَى رَسُولِ اللهِ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ،وَقَالَ أَحَدُهُمْ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّمَا كَنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ.أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا جَادِّينَ فِيمَا يَقُولُونَ،وَإِنَّمَا قَالُوا مَا قَالُوا لِلتَّسَلِّيِ وَالتَّلَهِّي،وَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ هَذَا عُذْرٌ مَقْبُولٌ،وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اتِخَاذَ الدِّينِ هَزْواً وَلِعِباً كُفْرٌ مَحْضٌ،لأنَّ الخَوْضَ وَالَّلعِبَ فِي صِفَاتِ اللهِ،وَشَرْعِهِ وَآيَاتِهِ،المُنْزَّلَةِ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِهَا .
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ:لاَ تَعْتَذِرُوا عَمَّا قُلْتُمْ،فَقَدْ كَفَرْتُمْ بِهَذَا القَوْلِ الذِي اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِ بِآيَاتِ اللهِ.وَاعْتِذَارُكُمْ هُوَ إِقْرَارٌ بِذَنْبِكُمْ،فَإنْ يَعْفُ اللهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِكُمْ لِتَوْبَتِهِمْ،فَإِنَّهُ سَيُعَذِّبُ بَعْضاً آخَرَ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ بِهَذِهِ المَقَالَة الفَاجِرَةِ،وَلأَنَّهُمْ ظَلُّوا مُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ .
إِنَّ أَهْلَ النِفَاقِ رِجَالاً وَنِسَاءاً،يَتَشَابَهُونَ فِي صِفَاتِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ،يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِفِعْلِ المُنْكَرِ،كَالكَذِبِ وَالخِيَانَةِ،وَإِخْلافِ الوَعْدِ،وَنَقْضِ العَهْدِ..وَيَنْهَوْنَ عَنْ فِعْلِ الخَيْرِ وَالمَعْرُوفِ:كَالجِهَادِ،وَبِذْلِ المَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَيَضِنُّونَ بِالإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ البِرِّ وَالطَّاعَاتِ وَالإِحْسَانِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ..وَقَدْ نَسُوا أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ،وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ،وَاتَّبَعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ،فَجَازَاهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ لُطْفِهِ وَتَوْفِيِقِهِ فِي الدُّنْيَا،وَمِنَ الثَّوَابِ فِي الآخِرَةِ .
وَالمُنَافِقُونَ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ فُسُوقاً،وَخُرُوجاً عَنْ طَاعَةِ اللهِ،وَانْسِلاَخاً مِنَ الفَضَائِلِ الفِطْريَّةِ السَّلِيمَةِ .
وَقَدَ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارِ نَارَ جَهَنَّمَ،وَوَعَدَهُمْ بِهَا عَلَى سُوْءِ صَنِيعِهِمْ الذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ،وَسَيَمْكُثُونَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ أَبَداً،وَلَهُمْ فِيهَا مِنَ الجَزَاءِ وَالعَذَابِ مَا يَكْفِيهِمْ ( حَسْبُهُمْ )،وَلَعَنَهُمْ اللهُ،وَطَرَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ،وَلَهُمْ عَذَابُ مُقِيمٌ دَائِمٌ غَيْرَ عَذَابِ جَهَنَّمَ:كَالسَّمُومِ يَلْفَحَ وَجوهَهُمْ،وَالحَمِيمِ يَصْهَرُ مَا فِي بُطُونِهِمْ .
إِنَّ حَالَكُمْ أَيُّهَا المُنَافِقُونَ المُؤذُونَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ،كَحَالِ المُنَافِقِينَ السَّالِفِينَ مِنْ أَقْوَامِ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ،فُتِنْتُمْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ،وَغَرَّتْكُمُ الدُّنْيا كَمَا فُتِنُوا وَاغْتَرُّوا بِهَا،وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً،وَأَكَثْرَ مِنْكُمْ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً،وَقَدْ كَانَ هَمّهُمْ التَمَتُّعَ بِالحَيَاةِ،وَأَخْذَ نَصِيبِهِمْ مِنْ نَعِيمِهَا وَمَبَاهِجِهَا،فَأَطْغَتْهُمُ الدُّنْيا.وَغَرَّتُهْمْ لَذَّاتُهَا،وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ غَايَاتٌ سَامِيَّةٌ كَالَّتِي يَقْصِدُهَا المُؤْمِنُونَ:كَالإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ،وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ الحَقِّ،وَتَرْسِيخِ العَدْلِ،وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ،وَالنَّهِيِ عَنِ المُنْكَرِ..وَقَدْ سَلَكْتُمْ أَيُّهَا المُنَافِقُونَ سَبِيلَهُمْ فِي الاسْتِمْتَاعِ بِنَصِيبِكُمْ مِنَ الحَيَاةِ،وَلَمْ تُفَضَّلُوا عَلَى مَنْ سَبَقَكُمْ بِشَيءٍ،مَعْ أَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَا رَأَيْتُمْ،وَجَائَكُمُ الهُدَى فَلَمْ تَهْتَدُوا،فَكُنْتُمْ أَحَقَّ بِالعِقَابِ مِنْهُمْ،وَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي البَاطِلِ،وَخُضْتُمْ فِيهِ،كَمَا فَعَلَ مَنْ سَبَقُوكُمْ،مَعْ أَنَّ حَالَكُمْ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونُوا أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلاً .
وَهَؤُلاَءِ المُسْتَمْتِعُونَ بِخَلاَقِهِمْ فِي الدُّنْيَا،وَالخَائِضُونَ فِي البَاطِلِ،حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَبَطلَتْ،فَلاَ ثَوَابَ لَهُمْ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لأَنَّهَا فَاسِدَةٌ.وَمِثلُ هَؤُلاَءِ هُمُ الخَاسِرُونَ لأَنَّهُمْ لاَ ثَوَابَ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ .
يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظاً الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ المُكَذِّبِينَ:أَلَمْ تَصِلْهُمْ أَخْبَارُ َمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ الذِّينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ:قَوْمِ نُوحِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الغَرَقِ،وَقَوْمِ عَادٍ وَكَيْفَ أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ العَقِيمِ،وَقَوْمِ ثَمُودَ كَيْفَ أَخَذَتْهُمُ الصَّحْيَةُ،وَقُوْمِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ،وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ قَومِ شُعَيبٍ،وَكَيْفَ أَصَابَتْهُمْ الرَّجْفَةُ،وَعَذَابَ يَوْمِ الظُّلَّةِ،وَقَوْمِ لُوطٍ أَصْحَابِ المُؤْتَفِكَاتِ..أَهَلَكَهُمُ اللهُ بِأَنْ جَعَلَ عَالِيَ دِيَارِهِمْ سَافِلَهَا .
وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الأَقْوَامَ رُسُلُهُمْ بِالحَقِّ الوَاضِحِ مِنَ اللهِ ( البَيِّنَاتِ )،فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ،وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ وَكُفْرِهِمْ،فَدَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ،وَلَمْ يَظْلِمهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ العَذَابِ،وَإِنَّمَا جَازَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ جَزَاءً وِفَاقاً،وَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ .[14]
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) } سورة التوبة
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ rبِأَنْ يَبْذُلَ الْجَهْدَ فِي مُقَاوَمَةِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ،الذِينَ يَعِيشُونَ بَيْنَ ظَهْراني المُسْلِمِينَ،مِثْلَما تَبْذُلُهُ هَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَالمُسْلِمِينَ،كَمَا يَأْمُرُهُ بِمُعَامَلَتِهِمَا بِالشِّدَّةِ وَالغَلْظَةِ لِتَرْتَدِعَا،وَيَرْتَدِعَ مَنْ خَلْفَهُمَا.وَمُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ تَكُونُ بِِالسَّيْفِ،وَمُجَاهَدَةِ المُنَافِقِينَ تَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ،وَسَيَكُونُ مَصِيرُ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ،وَيَخْلُدُونَ فِيهَا أَبداً،وَبِذَلِكَ يَجْتَمِعُ لَهُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
نَزَلَتْ هَذِهِ الايَةُ بِحَقِّ رَئِيسِ المُنَافِقِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ،فَقَدِ اخْتَصَمَ غُلاَمٌ مِنْ جُهَيْنَةَ،وَغُلاَمٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُمَا عَلَى المَاءِ فِي بَعْضِ الغَزَوَاتِ،فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ لِلأَنْصَارِ:أَلاَ تَنْصُرُونَ أَخَاكُمْ؟ وَاللهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلٍ مُحَمَّدٍ إِلاَّ كَمَا قَالَ القَائِلُ:سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ.وَقَالَ:( وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعْزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ) .
فَسَعَى بِهَا غُلاَمٌ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ إَلَى النَّبِيِّ r ،فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ إَلَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ،فَجَعَلَ يَحْلُفُ بِاللهِ مَا قَالَهُ،فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ تَكْذِيباً لَهُ.وَفِيهَا عَدَّ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ قَدْ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ.كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ هَمَّ بِالفَتْكِ بِرَسُولِ اللهِ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ،وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنَالُوا ذَلِكَ لأَنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ،وَلَيْسَ لِلْرَّسُولِ rمِنْ ذَنْبٍ عِنْدَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ يَقْتَضِي مِنْهُمْ هَذِهِ الكَرَاهِيَةَ لِمُحَمَّدٍ rوَالإِسْلاَمِ،وَهَذِهِ الرَّغْبَةَ فِي الانْتِقَامِ،إِلاَّ أَنَّ اللهَ قَدْ أَغْنَاهُمْ بِبَرَكَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ،وَيُمْنِ سَعَادَتِهِ بِمَا أَصَابُوا مِنَ الغَنَائِمِ.ثُمَّ دَعَاهُمُ اللهُ تَعَالَى إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ النِّفَاقِ،وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ سَيءِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ،لأنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ.أَمَّا إِذَا أَصَرُّوا عَلَى مَسْلَكِهِمْ،وَرَفَضُوا التَّوْبَةَ فَإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا بِالقَتْلِ وَالهَمِّ وَالغَمِّ،وَيُعَذِّبُهُمْ فِي الآخِرَةِ بِالنَّكَالِ وَالهَوَانِ وَالصَّغَارِ وَالعَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ،وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِنْجَادَهُمْ وَنَصْرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَعَذَابِهِ،وَدَفْعِ السُّوءِ وَالمَذَلَّةِ عَنْهُمْ .
وَمِنَ المُنَافِقِينَ مَنْ أَعْطَى اللهَ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ لَئِنْ أَغْنَاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ،وَأَعْطَاهُ مَالاً وَثَرْوَةً لَيَشْكُرَنَّ اللهَ عَلَى نِعْمَتِهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْهَا،وَلَيَعْمَلَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الصَّلاَحِ،مِنَ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ .
فَلَمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ،وَأَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوا،لَمْ يُوفُوا بِالعَهْدِ،وَبَخِلُوا بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ،وَأَمْسَكُوهُ فَلَمْ يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيءٍ.وَتَوَلَّوْا وَانْصَرَفُوا عَنِ الاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالصَّلاَحِ،وَإِصْلاَحِ حَالِهِمْ وَحَالِ أُمَّتِهِمْ،كَمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ .
فَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ البُخْلِ وَالتَّوَلِي بَعْدَ العَهْدِ وَالْمِيثَاقِ أَنْ تَمَكَّنَ النِّفَاقُ مِنْ قُلُوبِهِمْ،وَلاَزَمَهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ،لأَنَّهُمْ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ مَعْ هَذَا النِّفَاقِ فِي التَّوْبَةِ،وَذَلِكَ لِتَمَكُّنِ صِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النِّفَاقِ فِي قُلُوبِهِمْ وَهُمَا:الكَذِبَ فِي اليَمِينِ،وَإِخْلاَفُ الْعَهْدِ
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَ وَالنَّجْوَى،وَأَنَّهُ أَعْلَمُ بِضَمَائِرِ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ يُسِرُّونَ غَيْرَ مَا يُعْلِنُونَ،وَإِنْ أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ إِنْ حَصَلَ لَهُمْ مَالٌ تَصَدَّقُوا وَشَكَرُوا عَلَيْهِ،فَاللهُ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،لأَنَّهُ تَعَالَى عَلاَّمُ الغُيُوبِ،فَكَيْفَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِمَا يُعَاهِدُونَهُ عَلَيْهِ؟
وَمِنْ صِفَاتِ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ أَيْضاً أَنَّهُمْ لاَ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ عَيْبِهِمْ،وَلَمْزِهِمْ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ.إِنْ جَاءَ أَحَدٌ يَتَصَدَّقُ بِمَالٍ جَزِيلٍ قَالُوا:هَذَا مُرَاءٍ.وَإِنْ جَاءَ بِشَيءٍ يَسِيرٍ،قَالُوا:إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا .
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ rحَضَّ يَوْماً عَلَى الصَّدَقَةِ وَرَغَّبَ فِيهَا،فَتَطَوَّعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَتَصَدَّقَ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ،فَقَالُوا هَذَا مُرَاءٍ.وَجَاءَ أَنْصَارِيٌّ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ،فَقَالُوا:إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذا .
وَسَخِرَ المُنَافِقُونَ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ الذِينَ اجْتَهَدُوا فِي التَّصَدُّقِ قَدْرَ طَاقَتِهِمْ،فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً:إِنَّهُ جَازَاهُمْ بِمِثْلِ ذَنْبِهِمْ،فَجَعَلَهُمْ سُخْرِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ،وَلِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ،بِفَضِيحَتِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِبَيَانِ مَخَازِيهِمْ وَعُيُوبٍِهِمْ،وَادَّخَرَ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ القِيَامَةِ
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ rبِأَنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ لَيْسُوا أَهْلاً لِلاسْتِغْفَارِ،وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَغْفَرَ لَهُم النَّبِيُّ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ،وَذَلِكَ لإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ بِوَاحْدَانِيًّةِ اللهِ،وَوَحْيهِ لِرَسُولِهِ،وَلِشَكِّهِمْ فِي أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى،وَغَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
وَيُرْوَى أَنَّهُ حِينَ مَرِضَ رَئِيسُ المُنَافِقِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ،انْطَلَقَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ r ،فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبِي يُحْتَضَرُ فَأُحِبُّ أَنْ تَشْهَدَهُ وَتُصَلِّي عَلَيْهِ.فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى شَهِدَهُ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ،وَصَلَّى عَلَيْهِ،فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ إِنَّ اللهَ قَالَ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ولأَسْتَغْفِرَنَّ لَهُمْ سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِينَ .
ذَمَّ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ rفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ،وَفَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ،وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ،إِغْرَاءً لَهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى المُنْكَرِ،وَتَثْبِيطاً لِعَزَائِمِ الْمُؤْمِنِينَ:لاَ تَخْرُجُوا إِلَى الجِهَادِ فِي الحَرِّ.فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ rبِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ:إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ الَّتِي سَيَصِيرُونَ إِلَيْهَا،هِيَ أَشَدُّ حَرّاً مِنْ قَيْظِ الصَّحْرَاءِ الذِي فَرُّوا مِنْهُ.وَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْرِكُونَ وَيَعْقِلُونَ لَمَا خَالَفُوا وَقَعَدُوا،وَلَمَا فَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ .
ثُمَّ تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ عَلَى فِعَالِهِمْ السَّيِّئَةِ،فَقَالَ لِنَبيِّهِ r :لِيَضْحَكُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيا الفَانِيَةِ قَلِيلاً،لأَنَّ الدُّنْيَا نَفْسَهَا شَيْءٌ قَلِيلٌ،فَإِذَا انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا،وَصَارُوا إِلَى اللهِ،عَزَّ وَجَلَّ،اسْتَأْنَفُوا بُكَاءً لاَ يَنْقَطِعُ أَبَداً بِسَبَبِ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ كُفْرٍ وَآثَامٍ،وَعَلَى مَا فَوَّتُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ فُرَصِ اكْتِسَابِ الحَسَنَاتِ،وَعَمَلِ مَا يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ .
فَإِذَا رَدَّكَ اللهُ تَعَالَى مِنْ غَزْوَتِكَ هَذِهِ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ المُنَافِقِينَ المُتَخَلِّفِينَ ( وَكَانُوا،فِيمَا قِيلَ،اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً ) فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ مَعَكَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى،فَقُلْ لَهُمْ:لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً،وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ وَتَعْزِيزٌ،وَلَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَرَفُ صُحْبَتِي إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ أَبَداً،لأَنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِخِزْيِ الْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ دُعِيتُمْ فِيهَا إِلَى الجِهَادِ،وَأَنْتُمْ لاَ عُذْرَ لَكُمْ يُبَرِّرُ هَذَا التَّخَلُّفَ،فَاقْعُدُوا مَعَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الجِهَادِ،مِنَ العَجَزَةِ وَالمَرْضَى .
وأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ rبِأَنْ يَتَبَرَّأَ مِنَ المُنَافِقِينَ،وَأَنْ لاَ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ،وَأَنْ لاَ يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ دَاعِياً مُسْتَغْفِراً لَهُ،لأنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ،وَمَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ.وَهَذا حُكْمٌ عَامٌ فِي كُلِّ نِفَاقٍ،وَإِنْ كَانَتِ الآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ هِي حَادِثَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ.وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ rبَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُنَافِقٍ أَبَداً .
فَلاَ يُثِرْ عَجَبَكَ مَا تَرَاهُمْ فِيهِ مِنْ وَفْرَةِ المَالِ،وَكَثْرَةِ الأَوْلاَدِ،فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيمَا أَعْطَاهُمْ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْهَا،وَفِي الإِنْفَاقِ فِي الجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،مِمَّا يُوجِبُهُ الإِسْلاَمُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا،ثُمَّ يُمِيتُهُم اللهُ عَلَى الكُفْرِ،لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ نَكَالاَ لَهُمْ،وَعَذَاباً فِي الدَّارِ الآخِرَةِ فَتَكُونَ الأَمْوَالُ وَالأَوْلاَدُ اسْتِدْرَاجاً لَهُمْ مِنَ اللهِ .
وَإِذَا أُنْزِلتَ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ فِيهَا دَعْوَةٌ إلَى الإِيمَانِ بِاللهِ،وَالإِخْلاَصِ فِي العَقِيدَةِ لَهُ،وَفِيهَا ذِكْرٌ لِلقِتَالِ،وَحَثٌّ عَلَى الجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ r ،حَاوَلَ ذَوُو القُدْرَةِ عَلَى الجِهَادِ،وَالسَّعَةِ فِي الإِنْفَاقِ،أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ القِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ،وَاسْتَأْذَنُوكَ فِي القُعُودِ مَعَ القَاعِدِينَ مِنَ العَجَزَةِ وَأَصْحَابَ الأَعْذَارِ .
رَضُوا لأَنْفُسِهِمْ بِالقُعُودِ،وَبِعَارِ البَقَاءِ مَعَ النِّسَاءِ المُتَخَلِّفَاتِ فِي البَلَدِ،بَعْدَ خُرُوجِ الْجَيْشِ ( الْخَوَالِفِ )،وَقَدْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ،وَخَتَمَ عَلَيْهَا،فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الأُمُورُ،وَأَصْبَحُوا لاَ يَفْقَهُونَ،وَلاَ يَعْرِفُونَ مَا فِي الجِهَادِ مِنْ خَيْرٍ لِلنَّفْسِ وَلِلجَمَاعَةِ،وَلاَ مَا فِي القُعُودِ عَنِ الجِهَادِ مِنْ مَضَرَّةٍ لِلنَّفْسِ وَلِلجَمَاعَةِ،فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
إذَا تَخَلَّفَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الجِهَادِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ r ،وَالمُؤْمِنِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ،وَهَؤُلاَءِ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالخَيْرَاتِ:فِي الدُّنْيَا بِتَحْقِيقِ النَّصْرِ،وَمَحُوِ الْكُفْرِ،وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ،وَالتَّمَتُّعِ بِالمَغَانِمِ،وَفِي الآخِرَةِ بِرِضَا اللهِ وَجَنَّاتِهِ .
وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ،جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ،جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا،وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
وَجَاءَ ذَوُو الأَعْذَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ r ،مِنَ القَبَائِلِ الَّتِي تَعِيشُ حَوْلَ المَدِينَةِ،يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي القُعُودِ،وَأَبْدَوْا أَعْذَاراً،مِنْهُمُ الصَّادِقُ،وَمِنْهُمُ الكَاذِبُ،وَلَمْ يَأْتِ آخَرُونَ مِمَّنْ قَعَدُوا لِيَعْتَذِرُوا،وَيُبَيِّنُوا أَسْبَابَ قُعُودِهِمْ عَنِ الجِهَادِ مَعَ الرَّسُولِ،وَسَيُصِيبُ الذِينَ قَعَدُوا مِنْهُمْ كُفْراً،وَجُرْأَةً مِنْهُمْ عَلَى اللهِ،عَذَابٌ أَلِيمٌ .[15]
وقال تعالى { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) }سورة التوبة
أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ rبِأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ بِالجَيْشِ إِلَى المَدِينَةِ،فًَإِنَّ المُنَافِقِينَ الذِينَ قَعَدُوا عَنِ الجِهَادِ،وَهُمْ أَغْنِيَاءُ أَصحَّاءُ،سَيَأْتُونَ إِلَيْهِ مُعْتَذِرِينَ.وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ:لاَ حَاجَةَ بِكُم لأنْ تَعْتَذِرُوا فَلَنْ نُصَدِّقَكُمْ،وَلَنْ نَثِقَ بِكُمْ،لأنَّ اللهَ أَعْلَمَنَا بِأَحْوَالِكُمْ وَأَخْبَارُِكْم،وَسَيَرَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَمَلَكُمْ فِيمَا بَعْدُ،وَهُوَ الذِي سَيُبَيِّنُ حَقِيقَةَ حَالِكُمْ:إِمَّا إِصْرَارٌ عَلَى النِّفَاقِ،وَإِمَّا تَوْبةٌ وَإِنَابةُ إِلَى اللهِ.أَمَّا قَولُكُمْ بِالِّلسَانِ فَلاَ يُعْتَدُ بِهِ مَهْمَا أَكَّدْتُمُوهُ بِالإِيمَانِ.ثُمَّ يَتَوَّلَى اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِخْبَارَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِها وَشَرِها،وَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهَا بٍِمَا تَسْتَحِقُونَ .
إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى المَدِينَةِ مِنْ غَزَاتِكُمْ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الذِينَ تَخَلَّفُوا مَعَ الخَوَالِفِ فِي المَدِينَةِ،وَقَعَدُوا عَنِ الجِهَادِ،وَهُمْ أَغْنِيَاءُ أَصِحَّاءُ،سَيَأْتُونَ إِلَيْكُمْ مُعْتَذِرِينَ،وَسَيُؤَكِّدُونَ اعْتِذَارَهُمْ بِالأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ،وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ تُعْرِضُوا عَنْهُمْ،وَتَكُفُّوا عَنْ تَوْبِيخِهِمْ،وَتَقْرِيعِهِمْ عَلَى قُعُودِهِمْ،فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِعْرَاضَ الاحْتِقَارِ وَالاسْتِصْغَارِ،لاَ إِعْرَاضَ الصَّفْحِ،وَقَبُولِ العُذْرِ،إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَدَنَسٌ مُؤْذٍ لِلنُّفُوسِ المُؤْمِنَةِ الكَرِيمَةِ،يَجِبُ الاحْتِرَاسُ مِنْهُمْ،وَالابْتِعَادُ عَنْهُمْ،لِكَيْلاً تَلْحَقَ عَدْواهُمْ بِالمُؤْمِنِينَ.وَسَتَكُونُ نَارُ جَهَنَّمَ مُسْتَقَرَّهُمْ،وَجَزَاءَهُمْ،وَمَأْوَاهُمُ الأَخِيرُ .
وَهُمْ إِنَّمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ،وَلَكِنْ إِذَا خُدِعْتُمْ أَنْتُمْ بِأَيْمَانِهِمْ،وَرَضِيتُمْ أَنْتُمْ عَنْهُمْ،فَهذا الرِّضَا لاَ يَنْفَعُهُمْ فِي شَيءٍ،لأنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ،الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ،وَطَاعَةِ رَسُولِهِ .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الأَعْرَابِ ( وَالأَعْرَابُ هُمْ رِجَالُ البَادِيَةِ مِنَ العَرَبِ ) كُفّاراً وَمُنَافِقِينَ،وَأَنَّ الكُفْرَ وَالنِّفَاقَ فِيهِمْ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ مِمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ المُدُنِ،نَظَراً لِجَفَاءِ طِبَاعِهِمْ،وَغِلْطَةِ قُلُوبِهِمْ،وَلِبُعْدِهِمْ عَنِ الحِكْمَةِ،وَمَنَابِعِ العِلْمِ،وَلِذَلِكَ فَحَرِيٌّ بِهِمْ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ،وَلاَ أَحْكَامَ الإِسْلاَمِ،لأَنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا،وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ النَّاسَ،حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ .
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَعُدُّونَ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْ مَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ غُرْماً وَخَسَاراً،يَحْتَمِلُونَهما مُكْرِهِينَ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ فِي ثَوَابِ اللهِ تَعَالَى عَنِ الجِهَادِ،وَأَعْمَالِ الخَيْرِ،وَيَنْتَظِرُونَ أَنْ تَحِلَّ بِكُمُ المَصَائِبُ وَالكَوَارِثُ،وَأَنْ تَدُورَ عَلَيْكُمُ الدَّوَائِرُ فِي الحَرْبِ.وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ قَائِلاً:عَلَيْهِمْ هُمْ دَائِرةُ السَّوْءِ وَالبَوَارِ،وَاللهُ سَمِيعٌ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ المُخْلِصِينَ،عَليمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الخِذْلاَنَ.[16]
وقال تعالى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (101) سورة التوبة
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ فِي أَحْيَاءِ العَرَبِ،مِمَّنْ هُمْ حَوْلَ المَدِينَةِ،مُنَافِقِينَ،كَمَا يُوجَدُ مُنَافِقُونَ بَيْنَ أَهْلِ المَدِينَةِ،وَقَدْ تَمَرَّنُوا عَلَى النِّفَاقِ،وَحَذَقُوهُ،حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الغَايَةَ فِي إِتْقَانِهِ،وَأَصْبَحَ مِنَ الصَّعْبِ العَسِيرِ كَشْفُهُمْ وَمَعْرِفَتُهُمْ ( مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ )،وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَعْرِفُهُمْ،وَلَكِنَّ اللهَ يَعْرِفُهُمْ،وَسَيُعَذِّبُهُمْ فِي الدًُّنْيَا مَرَّتِينِ:
أُولاهُمَا:- فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ المَصَائِبِ وَالخَوْفِ مِنَ الفَضِيحَةِ بِهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ .
وَثَانِيَتَهما - فِي آلاَمِ المَوْتِ،وَضَرْبِ المَلاَئِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ حِينَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ .[17]
وقال تعالى :{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)} سورة التوبة
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:إِنَّ هَؤُلاَءِ هُمْ أُنَاسٌ مِنَ الأَنْصَارِ بَنُوا مَسْجِداً،فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرِ الرَّاهِبُ ( وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الخَزْرَجِ تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ،وَأَبَي الإِسْلاَمَ،وَأَخَذَ يَكِيدُ لِلْمُسْلِمِينَ،وَيَتَآمَرُ عَلَيْهِمْ مَعَ قُرَيشٍ،وَمَعَ أَعْدَائِهِمْ،وَأَلَّبَ المُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ rفِي وَقْعَةِ أُحُدٍ،وَحَاوَلَ اسْتِمَالَةَ الأَنْصَارِ فِي المَعْرَكَةِ فَسَبُّوهُ ):ابْنُوا مَسْجِداً يَكُونُ مَرْصَداً لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ.ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَسْتَعِدُوا،وَأَنْ يَجْمَعُوا مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّةٍ وَسِلاَحٍ،وَقَالَ لَهُمْ:إِنَّهُ ذَاهِبٌ إِلى قَيْصَرِ الرُّومِ فَآتٍ بِجُنُودٍ مِنَ الرُّومِ لإِخْرَاجِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ،فَأَخَذُوا فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ قُرْبَ مَسْجِدِ قَباءٍ،وَلَمَّا انْتَهَوْا مِنْ بِنَائِهِ أَتَوْا إِلى الرَّسُولِ rفَقَالُوا لَهُ:لَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا فَنُحِبُّ أَنْ تَصَلِّيَ فِيهِ،وَتَدْعُو لَنَا بِالبَرَكَةِ.وَكَانَ الرَّسُولُ خَارِجاً إِلى غَزْوَةِ تَبُوك،فَأَرْجََأَ ذَلِكَ إِلى حينِ عَوْدَتِهِ.وَحِينَ عَادَ نَزَل عَلَيهِ جِبْرِيلُ،عَلَيْهِ السَّلاَمُ،يُخْبِرُهُ بِغَايَةِ بُنَاةِ المَسْجِدِ وَقَصَدِهِمْ،وَأَمَرَهُ بِأَنْ لاَ يُصَلِّيَ فِيهِ أَبَداً.وَيَقُولُ تَعَالَى:إِنَّ الذِينَ بَنُوا هَذا المَسْجِدِ سَيَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا بِبِنَائِهِ الخَيْرَ وَالإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ،وَاللهُ يَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا قَالُوهُ،وَفِيمَا قَصَدُوهُ،وَفِيمَا نَوَوْهُ؛ فَهُمْ إِنَّمَا بَنَوْهُ ضِرَاراً لِمَسْجِدِ قِبَاءٍ،وَكُفْراً بِاللهِ،وَتَفْرِيقاً لِلْمُؤْمِنِينَ ( الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ جَمِيعاً فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ هُوَ مَسْجِدُ قِبَاءٍ،وَفِي ذَلِكَ يَحْصُلُ التَّعَارُفُ وَالتَّآلُفُ،وَتُجْمَعُ الكَلِمَةُ )،وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهُ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ هَذا المَسْجِدِ .
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ rبِأَنْ لاَ يَقُومَ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ هَذا،وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ قِبَاءٍ الذِي أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى التَّقْوَى ( وَهِيَ طَاعَةُ اللهِ،وَطَاعَةُ رَسُولِهِ،وَجَمْعُ كَلِمَةِ المُؤْمِنِينَ )،وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الحَدِيثِ:" صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِ قِبَاءٍ كَعُمْرَةٍ "
وَيَقُولُ تَعَالَى:إِنَّ مَسْجِدَ قبَاءٍ فِيهِ رِجَالٌ يَعْمُرُونَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ،وَذِكْرِ اللهِ،وَتَسْبِيحِهِ؟،وَيُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ.وَيُثْنِي اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ فِي تَطَهُّرِهِمْ،وَفِي عِنَايَتِهِمْ بِنَظَافَةِ أَبْدَانِهِمْ،لأَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ .
لاَ يَسْتَوِي فِي عَقِيدَتِهِ،وَلاَ فِي عَمَلِهِ،مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوًى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ،مَعْ مَنْ بَنَى مَسْجِداً لِلضِّرَارِ وَالكُفْر وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ،فَهَذَا الأَخِيرُ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ يَبْنِي بُنْيَانَهُ عَلَى طَرَفِ حُفْرَةٍ فِي أَرْضٍ رِخْوَةٍ فِي جَانِبِ جَهَنَّمَ،انْهَارَتْ بِهِ،وَبِبُنْيَانِهِ،فِي نَارِ جَهَنَّمَ،وَاللهُ لاَ يَهْدِي إَلَى الحَقِّ وَالعَدْلِ،القَوْمَ الظَّالِمِينَ المُتَجَاوِزِينَ طَاعَةَ اللهِ.فَالإِيمَانُ ثَابِتٌ رَاسِخٌ قَوِيٌّ،وَأَهْلُهُ سُعَدَاء بِرِضْوَانِ رَبِّهِمْ،وَالبَاطِلُ مُضْمَحِلٌّ وَاهٍ سَرِيعُ الانْهِيَارِ،وَأَهْلُهُ أَشْقِيَاءُ مُتَرَدَّدُونَ حَائِرُونَ .وَسَيَظَلُّ البُنْيَانُ،الذِي بَنَاهُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ،يُورِثُهُمْ شَكّاً فِي قُلُوبِهِمْ،وَنِفَاقاً حَتَّى مَوْتِهِمْ،بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذا الفِعْلِ القَبِيحِ،وَاللهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ النَّاسِ،حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ .[18]
وقال تعالى :{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} [العنكبوت:10 - 11]
وَهُنَاكَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ بأَلسِنَتِهِمْ،فَإِذا آذاهُ المُشْرِكُونَ لإِيِمَانِهِ بِاللهِ،جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ في الدُّنيا كَعَذَابِ اللهِ في الآخِرَةِ،فَارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ،وَرَجَعَ عَن إيمَانِهِ إلى الكُفْرِ،مَعَ أَنَّهُ لو صَبَرَ لَكَانَ خَيراً لهُ،لأنَّ عَذَابَ النَّاسِ لهُ دافعٌ يدفَعُه عنهُ،ولهُ نِهايةٌ،ويُثَابُ المُؤِمنُ،عَليهِ.وعَذَابُ اللهِ ليسَ لهُ مَنْ يَدْفَعُهُ عنْهُ،ولا نِهَايةَ لَهُ،وَيَترتَّبُ عليهِ العِقَابُ الأَليمُ .
أَمَّا إِذا جَاءَ نَصْرُ مِنَ اللهِ لِلنَّبِيِّ rوَالمُؤْمِنينَ،وَفَتْحٌ وَمَغَانِمُ فَيَقُولُ هؤلاءِ المُتَظَاهِرُونَ بالإٍيمان:إِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ والمؤمنينَ يَنْصُرونَهُم،وإِنَّهُمْ إِخْوانُهُم في الدِّينِ،وطَالبُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنَ المَغْنَمِ.ثُمَّ يَقُولُ تَعَالى:إِنَّهُمْ لا يُمْكِنُ أَن يَخدَعُوا اللهَ بِهذَهِ الدَّعوَى فَهُوَ عَالمٌ بما في قُلُوبِهِمْ مِنْ نِفاقٍ،وَبما تُكِنُّهُ ضَمَائِرُهُمْ،وإِن أَظْهَرُوا الإِيمَانَ لِلمُؤْمِنينَ،فَهُوَ تَعالى لا تَخْفَى عَليهِ خَافِيَةٌ .
وَلَيَخْتَبِرَنَّ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بالسَّراءِ والضَّرَّاءِ،لِيُمَيِّزَ المُؤْمِنَ الصَّادِقَ فِي إِيمَانِهِ،مِنَ المُنَافِقِ المُتَشَكِّكِ،وَلِيُظْهِرَ مَنْ يُطيعُ الله فَيصْبِرُ على الأذى إِنْ مَسَّهُ في سَبيلِ اللهِ،وَمَنْ يَعصِيهِ،ويَنْكِصُ عَلى عَقِبَيهِ إِنْ مَسَّهُ ضَرّ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (11) سورة الحـج[19]
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) }[الأحزاب:1 - 3]
يَا أَيُّها النبيُّ اسْتَمِرَّ على ما أنْتَ عليهِ مِن تَقْوَى اللهِ،والعَمَلِ بِطَاعَتِهِ،رَجَاءَ ثَوَابِهِ،وَاجْتَنَبْ مَعْصِيَتَهُ مَخَافَةَ عِقَابِهِ وعذابِهِ،ولا تُطِعِ الكَافِرينَ والمُنافِقينَ فيمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْكَ،وَلاَ تَسْمَعْ مِنْهُمْ،ولا تَسْتَشِرْهُمْ،واللهُ تَعالى عَليمٌ بما تُضْمِرُهُ نُفوسُهُمْ،وما تَنْطَوِي عليهِ جَوانِحُهُمْ - وَهُمْ يُظْهِرُون لَك النُّصحَ - من الحِقْدِ والعَدَاوَةِ .واللهُ تَعَالى حِكَيمٌ في شَرْعِهِ وتَدْبِيرِهِ .
واعْمَلْ بِمَا يُوحِيهِ إليكَ رَبُّكَ،ولا تَلْتَفِتْ إِلى أقْوَالِ الكَافِرِينَ والمُنَافِقين وتَهْدِيدَاتِهِمْ،فاللهُ خبيرٌ بما تَعْمَلُهُ أنتَ وأَصْحَابُكَ،وبِما يَعْمَلُهُ،الكُفَّارُ والمُنَافِقُون،ولا يَخْفَى عليهِ شيءٌ منْهُ،ثُمَّ يَجْزِيكُم على أَعْمَالِكُمْ يومَ القِيَامَةِ،إِنْ خَيْراً فَخَيْراً وَإِنْ شَراً فَشَرّاً .
واتَّكِلْ عَلى اللهِ وَحْدَهُ،وَاعْتَمِدْ عَلَيهِ في جَمِيعِ أُمُورِكَ وَأَحْوَالِكَ،وَكَفَى باللهِ حَافِظاً لِمَنْ يُوكِلُ إليهِ شُؤُونَهُ .[20]
وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) [الأحزاب:9 - 20]
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ،وَبِعَدَمِ الخَوْفِ مِنْ سِوَاهُ،ذَكَّرَ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيِْهِمْ مِنْ نِعَمٍ،وَمِنْ تَحْقِيقِ مَا وَعَدَهُمْ بهِ مِنْ نَصْرٍ،وَذَلِكَ حِينَمَا جَاءَتْهُمْ جُنُودُ الأَحْزَابِ،فَأْرْسَلَ اللهُ عَلَيهِمْ رِيحاً كَفَأَتْ قُدُورَهُمْ،واقْتَلَعَتْ خِيَامَهُمْ،وأَرْسَلَ إِليهِمْ مَلائِكَةً مِنْ عِنْدِهِ - وَهُمْ جُنُودُهُ،وَلَمْ يَرَهُمْ المُسْلِمُونَ - يُوقِعُونَ الخَوْفَ والرُّعْبَ والخِذْلاَنَ في نُفُوسِ المُشْرِكينَ،فَارْتَحلُوا فِي ليلةٍ شَاتِيةٍ شَديدَةِ البَرْدِ،وَكَانَ اللهُ بَصِيراً بِأَعْمَالِ المُؤْمِنينَ،وَصِدْقِ نِيَّاتِهِمْ،فَتَوَلَّى الدِفاعَ عَنْهُمْ .
وَقِصَّةُ الأَحْزابِ كَمَا رَوَتْها كُتُبُ السِّيرَةِ كَانَتْ كَمَا يَلِي:إِنَّ نَفَراً مِنْ يَهُودِ المَدِينةِ جَاؤُوا إِلى قُرَيشٍ في مَكَّةَ،فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ لِلْهِجْرَةِ يُحَرِّضُونَ المُشْرِكِينَ عَلى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ r ،ثُمَّ جَاؤُوا إِلى قَبَائِل غَطْفَانَ وَقَيْسِ عَيْلاَنَ وَأَسَدٍ وَحَالَفُوهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عَلى الرِّسُولِ والمُسلِمينَ يَداً واحِدةً،فَخَرَجَتْ هذِهِ القَبَائِلُ إِلى المَدِينَةِ .
وَلَمَّا عَلِمَ الرَّسُولَ بِمَسِيرِهِمْ إِليهِ،اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ،فَأَشَارَ عَليهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ حَوْلَ المَدِينَةِ يُسَاعِدُ المُسْلِمينَ فِي مَنْعِ تَقَدَّمِ المُشركِينَ إلى دَاخِلها،فَقَامَ المُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.وَلَمّا وَصَلَتِ القَبَائِلُ المُتَحَالِفَةُ إلى المَدِينةِ وَجَدُوا الخَنْدَقَ،فَحَاصَرُوا المَدِينَة،وَنَشِبَتْ مُنَاوشَاتٌ بينَ المُسْلِمينَ والمُشْرِكينَ.وَفي أثناءِ الحِصَارِ نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ عَهْدَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ r ،بِمَسْعَى مِنْ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ سَيِّدِ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ الذِينَ أجْلاَهُمُ الرَّسُولُ إِلى خَيَبَر،فَشَّقَّ ذلكَ على المُسْلِمِينَ .
ثُمَّ جَاءَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ،وَهُوَ مِنْ غَطْفَانَ،إِلَىرَسُولِ اللهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَنَّ قَوْمَهُ لاَ يَعْلَمُونَ بإِسْلاَمِهِ،وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَا يَرَى فِيهِ،المَصْلَحَةَ لِلمُسْلِمِينَ.فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ إِنَّما أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ،والحَرْبُ خُدْعَةٌ فَخَذِّلْ عَنَّا مَنِ اسْتَطَعْتَ،فَذَهَبَ إِلى بَنِي قُرَيْظَةٍ - وَكَانَ يُخالِطُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ - فَقَالَ لَهُمْ:لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ قُريشاً وَمَنْ مَعَها مِنَ القَبَائِلِ لَيْسَ لَهُمْ مُقَامٌ فِي المَدِينَةِ،وأَنَّهُمْ إِذا مَا عَضَّتْهُمُ الحَرْبُ انْسَحَبُوا إِلى بِلادِهِمْ،وَتَبْقَوْنَ أَنْتُم وَحْدَكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ،وَأَنْتُمْ لاَ قِبَلَ لَكُمْ بِهِ وَحْدَكُمْ،وَالرَّأيُ أَنْ تَطْلُبُوا رَهَائِنَ مِنْ هذِهِ القَبَائِلِ التِي تُحَاصِرُ المَدِينَةَ لِكَيْلا يَنْسَحِبُوا وَيَتَرَاجَعُوا عَنْ قِتالِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ القَضَاءِ عَلَيْهِمْ،فَفَعَلُوا .
وَذَهَبَ إلى قُرَيشٍ وَغَطْفَانَ وَالقَبَائِلِ الأُخْرَى يَقُولُ لَهُمْ إِنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَدِمُوا عَلَى نَقْضِ عَهْدِهِمْ مَعَ مُحَمَّدٍ،وَإِنَّهُمْ وَعَدُوهُ بِأَنْ يُسَلِّمُوهُ وُجُوهَ القَبَائِلِ لِيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ،عَلَى أَنْ يَعُودَ الَعهْدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ مِنْ قَبْلُ.فَدَبَّ الخِلافُ والخِذْلانُ،وَسَادَ التَّشَكُّكُ بَيْنَ القَبَائِلِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ،وَاسْتَشْعَر كُلُّ فَريقٍ الحَذَرَ مِنَ الآخَرِ .
وفِي لَيلَةٍ شَاتِيةٍ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدةٌ بَارِدَةٌ أَخَذَتْ تَكْفَأُ القُدُورَ،وَتَقْتَلِعُ الخِيَامَ،فَنَادَى أَبُو سُفَيَانَ بِالرَّحِيلِ في النَّاسِ فَارْتَحَلُوا .
حِينَ جَاءَتْكُمْ الأَحْزَابُ مِنْ أَعْلَى الوَادِي ( مِنْ جِهَةِ المَشْرِقِ )،وَمِنْ أَسْفَلِهِ ( مِنْ جِهَةِ المَغْرِبِ )،وَحينَ زَاغَتِ الأَبْصَارُ واضْطَرَبَتِ الرُّؤيةُ مِنَ الخَوْفِ والفَزَعِ الذي اعْتَرى المُسْلِمينَ،وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ ( وَهُوَ تَعْبيرٌ عَنِ الضِّيقِ وشِدَّةِ الخَوْفِ وَالفَزَعِ واليَأْسِ الذي اعْتَرَى المُسْلِمِينَ ) وَنَشَطَ المُنَافِقُونَ يُرْجِفُونَ في المَدِينةِ،وَيُثِيرُونَ الشُّّكُوكَ بالإِشَاعَاتِ الكَاذِبَةِ المُثَبِّطَةِ التِي كَانُوا يَنْشُرُونَها لإِضْعَافِ ثِقةِ المُؤْمِنينَ بِأَنْفُسِهِمْ،وَبِقُدْرَتِهِمْ عَلى القِتَالِ،حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ ضِعَافِ النُّفُوسِ والإِيمَانِ أَنَّ الأًَحزَابَ سَيَسْتَأْصِلُونَ شَأْفَةَ المُسْلِمينَ.وَقَالَ مَعْتِبُ بَنْ قُشَيْرٍ:كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ،وأَحَدُنا لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ إِلى الغَائِطِ .
أَمَّا المُؤمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ،وَأَنَّ الله سَيَنْصُرُ المُسْلِمِين،وَسَيَنْصُرُ دِينَهُ وَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ .
وَفِي ذَلِكَ الحِينِ امْتَحَنَ اللهُ المُؤْمِنينَ وَمَحَّصَهُمْ أَشَدَّ التَّمْحِيصِ،فَظَهَرَ المُخْلِصُ الرَّاسِخُ الإِيمَانِ،مِنَ المُنَافِقِ المُتَزَلْزِلِ،واضْطَرَبُوا اضْطِراباً شَديداً مِنَ الخَوْفِ الذِي أَصَابِهُمْ .
أَمَّ المُنَافِقُونَ فَظَهَرَ نِفَاقُهُمْ،فَقَالَ مُعْتِبُ بْنُ قُشَيْرٍ مَا قَالَ،وَقَالَ ضِعَافُ الإِيمَانِ وَالذِينَ فِي أًنْفُسِهِمْ رِيبَةٌ وَشَكٌ،لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بالإِسْلامِ - { الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }:{ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }،أَيْ لَمْ يكَنْ مَا وَعَدَنا بِهِ اللهُ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفِرِ بِالعَدُوِّ إِلا وَعْداً يَغُرُّنَا وَيَخْدَعُنا .
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ حِينَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُنَافِقينَ ( كَعَبدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وأَصْحَابِه ):يَا أَهْلَ المَدينةِ ( يَثْرِبَ ) لَيْسَ هذا المُقَامُ،الذي تُقِيمُونَهُ مُرَابِطِينَ مَعَ النَّبِيِّ،بِمُقَامٍ صَالِحٍ لَكُمْ،فَارْجِعُوا إِلى مَنَازِلِكُمْ لِتَحْمُوهَا،وَلِتُدَافِعُوا عَنْها وعَنْ عِيَالِكُمْ.واسْتَأْذَنَ فَريقٌ منْهُمُ النَّبِيَّ rطَالِبينَ السَّمَاحَ لَهُمْ بِالعَوْدَةِ إِلى مَنَازِلِهِمْ ( وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ )،وَقَالُوا إِنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلى بُيُوتِهِمِ السُّرَّاقَ،وأَ،بُيُوتَهُمْ ليسَ لَهَا مَنْ يَحْمِيها ( عَوْرَةٌ ) .وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هؤُلاءِ قَائِلاً:إِنَّ بُيُوتِهم لَيْسَتْ عَوْرَةً،وَلاَ مُهَدَّدَةً مِنْ أَحَدٍ كَمَا يَزْعُمُونَ،وَإِنَّما يُريدُونَ الفِرَارَ وَالهَرَبَ مِنَ القِتَالِ،وَعَدَمِ إِعَانَةِ المُسْلِمِينَ فِي حَرْبِهِمْ أَعْدَاءَ اللهِ .وَلَوْ دَخَلَ عَلَيهِمُ الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوانِبِ المَدِينَةِ،وكُلِّ قُطْرِ مِنْ أَقْطَارِها ( وَقيلَ بَلِ المَقْصُودُ بُيُوتُهُمْ ) وَطَلبُوا إِليهِم الارْتِدَادَ عَنِ الإِسْلامِ،والعَوْدَةَ إِلى الشِّرْكِ،( لَو سُئِلُوا الفِتْنَةَ ) لَفَعَلُوا ذَلِكَ سَرِيعاً دُونَ تَرَدُّدِ مِنْ شِدَّةِ الهَلَعِ وَالجَزَعِ،وَهذا دَلِِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِمْ .
وَكَانَ هؤلاءِ المُسْتَأْذِنُونَ - وَهُمْ بَنُوا حَارِثَةَ - قَدْ هَرَبُوا مِنَ القِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ،وَفَرُّوا مِنْ لِقَاءِ العَدُوِّ،ثُمَّ تَابُوا وَعَاهَدُوا اللهَ عَلَى أَلاَّ يَعُودُواإِلى مِثْلِها،وَلاَ يَنْكُصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ،وَمَنْ عَاهَدَ اللهَ فإِنَّ اللهَ سَيَسْأَلُهُ عَنْ عَهْدِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ،وَيَجْزِيهِ بِه .
فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المُسْتَأْذِنِينَ الهَارِبينَ مِنْ قِتَالِ العَدُوِّ وَلِقَائِهِ:إِنَّ الفرَارَ مِنَ القِتَالِ لَنْ يَنْفَعَكُمْ وَلَنْ يَدْفَعَ عَنْكُمْ مَا قَضَاهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ مَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ،وَإِذا نَفَعَكُمْ الفِرَارُ فَلَمْ تُقْتَلُوا فِي سَاحَةِ الحَرْبِ،فَإِنَّ بَقَاءَكُمْ فِي الدُّنيا مَحْدُودُ الأًَجْلِ،وَمَتَاعَكُمْ فِيها مَتَاعٌ قَليلٌ،وَسَيَأْتي المَوْتُ في الموعِدِ المُحَدَّدِ لاً يَتَأَخَّرُ وَلاَ يَتَقَدَّمُ.
وَقُلْ لَهُمْ:لَيْسَ فِي الأَرْضِ أَحَدُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ قَضَاءَ اللهِ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِليكُمْ،فَإِنْ أَرَاد اللهُ بِكُمْ شَراً فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّهُ عَنْكُمْ،وَلاَ أَنْيَحُولَ دُونَ وَقُوعِهِ بِكُمْ:وَإِنْ أَرَادَ بِكُمْ خَيْراً وَرَحْمَةً،فَلا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ وَصُولِ ذلك إِلَيْكُمْ،فَالأَمْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللهِ،يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ.وَلَنْ يَجِدَ هؤلاءِ المُنَافِقُونَ وَلِيّاً لَهُمْ غيرَ اللهِ،وَلاَ نَاصِراً يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا قَضَاهُ اللهُ،وَمَا قَدَّرَهُ عَلَيهِمْ مِنْ سُوءٍ وَبَلاَء
إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ حَقَّ العِلْمِ الذينَ يَقُومُونَ بِتَثْبِيطِ هِمَمِ النَّاسِ عَنِ القِتَالِ والثَّبَاتِ مَعَ رَسُولِ اللهِ،وَيَصْرِفُونَهُمْ عَنْ شُهُودِ الحَربِ مَعَهُ،وَيَعْلَمُ الذينَ يَقُولُونَ لأَصْحَابِهِمْ وَعُشَرائِهِمْ:أَسْرِعُوا إِلينا،وأَقبِلُوا عَلَى مَا نَحْنُ فيهِ مِنْ طَيبِ المَقَامِ فِي الظِّلالِ والثِّمَارِ ( هَلُمَّ إِلينا )،وَهُمْ لاَ يَحْضُرُون إِلى مُعْسَكَرِ المُسْلِمِينَ إِلا وَقْتاً قَصِيراً يُثْبِتُونَ فيهِ وُجُودَهُم أمَامَ النَّاسِ،ثُمَّ يَخْتَفُونَ مُتَسَلِّلِينَ إِذا غَفَلَ النَّاسُ عَنْهُمْ .
وَهُمْ بُخَلاء شَحِيحُونَ،لا يَمُدُّونَ المُؤْمِنِينَ بِالنَّفَقَةِ وَالمَالِ،وَلا يُقَدِّمُونَ لَهُمُ العَوْنَ والنُّصْرَةَ بالنَّفْسِ.فَإِذا بَدَأَتِ الحَرْبُ،والتَحَمَ المُقَاتِلُونَ رَأَيْتَهُمْ وَقَدِ اعْتَراهُم الخَوْفُ والهَلَعُ يَنْظُرُونَ إِليكَ يَا مُحَمَّدُ وَأَعْيُنُهُمْ تَدُورَ خَوْفاً وَفَرقاً،كَدَوَرانِ عَيْنِ الذِي غَشِيَهُ المَوْتُ،وَقَرُبَ مِنْهُ،فَتَجْمدُ عَيْنُهُ وَلا تَطْرِفُ .
أَمَّا إِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ وَأَسْبَابُهُ،وَعَادَ الأَمْنُ إِلى النُّفُوسِ،فَإِنَّهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْواتَهُمْ،وَيَتَكَلَّمُونَ عَنِ النَّجْدَةِ والشَّهَامَةِ،والبُطُولاتِ التي أَظْهَرُوها في مَيدَانِ المَعْرَكَةِ،وَهُمْ في هذا كَاذِبُونَ.وَإِذا ظَهَرَ المُؤْمِنُونَ في الحَرْبِ فهُمْ بُخَلاَءُ حَرِيصُونَ عَلَى أَلاَّ يَفُوتَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المَغَانِمِ،فَهُمْ حِينَ البَأسِ جُبَنَاءُ،وَحِينَ الغَنِيمَةِ أَشِحَّاءٌ ( وَقيلَ بَلِ المَعْنَى هُو:فَإِذا ذَهَبَ الخَوْفُ بَالُوا في شَتْمِكُمْ وَذَمِّكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ مَشْحُوذَةٍ قَاطِعَةٍ ) .
وَهؤُلاءِ،الذِينَ بَسَطَ اللهُ تَعَالى أَوْصَافَهُمْ،لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ إِيمَاناً صَادِقاً،وَلَمْ يُخْلِصُوا العَمَلَ لأَنَّهُمْ أهْلُ نِفَاقٍ فَأَهْلَكَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ،وَأَبْطَلَها،وَأَذْهَبَ ثَوَابَها وأُجُورَها،وَجَعَلَهَا هَبَاءً مَنْثُوراً،وَكَانَ إِحْبَاطُ أَعْمَالِهِمْ أَمراً يَسِيراً عَلَى اللهِ .
وَهُمْ مِنْ شِدَّةِ دَهْشَتِهِمْ،وَضَعْفِ إِيمَانِهِمْ لاَ يَزَالُونَ يَظُنُّونَ أَنَّ الأَحزابَ مِنْ قُرَيشٍ وغَطْفَانَ..لَمْ يَرْحَلُوا عنِ المَدِينةِ،وَقَدْ هَزَمَهُمُ اللهُ وَرَحَلُوا.وإِذا عَاد الأَحْزَابُ مَرَّةً أُخْرى لِقتَالِ المُسْلِمِينَ فِي المَدينةِ وَحِصَارِها،تَمَنُّوا لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ فِي البَادِيةِ بينَ الأعرابِ بَعِيداً عن المَدينةِ،حَتَّى لا يَلْحَقَ بِهِمْ مَكْرُوهٌ،وَيَكْتَفُونَ بالسُّؤَالِ عنْ أًَخْبَارِكُمْ كُلَّ قَادِمٍ إِليهِمْ مِنْ جِهَةِ المَدينةِ.وَلَوْ أَنَّ هؤُلاءِ المُنَافِقِينَ كَانُوا بَيْنَكُمْ أَثْنَاءَ القِتَالِ لمَا قَاتَلُوا مَعَكُمْ إِلاَّ قِتَالاً يَسيراً رِيَاءً وَخَوْفاً مِنَ المَعْرَكَةِ،لا قِتَالاً يَرْجُونَ بِهِ ثَوابَ اللهِ في الآخِرَةِ .[21]
وقال تعالى:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24){ [الأحزاب:23،24]
لَمَّا ذَكَر اللهُ تَعَالى أَنَّ المُنَافِقينَ نَقَضٌوا العَهْدَ،وَصَفَ المُؤمنينَ بأَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلى المُحَافَظَةِ عَلَى العَهْدِ وَالمِيثَاق،وَأَنَّ مِنْهُمْ رِجَالاً أَوْفُوا بِمَا عَاهَدُوا الله عَلَيهِ مِنَ الصَّبْرِ في الشِّدَّةِ وَالبَأْسَاءِ،فَاسْتُشْهِدَ بَعْضُهُمْ في بَدْرٍ،وَبَعْضُهُمْ اسْتُشْهِدَ فِي أُحُدٍ،وَبَعْضُهُمْ لَقِيَ وَجْهَ رَبِّهِ فِي غَيرِ هذِينِ المَوْقِفَينِ،وَمِنْهُمْ مَنْ مَضَى عَلَى الوَفَاءِ للهِ بِالعَهْدِ،وَمَا غَيَّرُوا وَمَا بَدَّلُوا .
وَاللهُ تَعَالَى يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالخَوْفِ وَالزَّلْزَلَةِ لِيَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ،وَيُظْهِرَ أَمْرَ كُلٍّ مِنْهُما جَلِيّاً وَاضِحاً،فَيَجْزِي أَهْلَ الصِّدْقِ بِصِدْقِهِمْ بِما عَاهَدُوا الله عَلَيهِ،وَيُعَذِّبَ المَنَافِقِينَ النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ،المُخَالِفِينَ لأَوِامِرِ رَبِّهِمْ،إِذا اسْتَمَرُّوا عَلى نِفَاقِهِمْ،حَتَّى يَلْقَوْهُ،أَمَّا إِذا تَابُوا وَعِمِلُوا صَالِحاً فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ سَيِّئَاتٍ وَآثامٍ،وَاللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ،وَرَحْمَتُهُ لِعِبَادِهِ هِيَ الغَالِبَةُ لِغَضَبِهِ .[22]
وقال تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) } [الأحزاب:45 - 48]
يَا أَيُّها الرَّسُولُ إِن اللهَ تَعَالى بَعَثَكَ شَاهِداً عَلَى مَنْ أُرْسِلْتَ إِليهِمِ،تُرَاقِبُ أحْوَالَهُم،وَتَرَى أَعْمَالَهُمْ،وَتَشْهَدُ عَلَيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ،وَأَرْسَلَكَ مُبَشِّراً لَهُمْ بِالجَنَّةِ إِنْ صَدَّقُوكَ،وَعَمِلُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ،وَمُنْذِراً لَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ إِنْ هُمْ كَذَّبُوكَ وَخَالَفُوا مَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ،وَنَهَيْتَهُمْ عَنْهُ .
وَإِنَّهُ تَعَالَى بَعَثَكَ دَاعِياً الخَلْقَ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ،وَمُرَاقَبَتِهِ فِي السِّرِّ والعَلَنِ،وَجَعَلَ أَمْرَكَ ظَاهِراً كالشَّمْسِ في إِشْرَاقِها وَإِضَاءَتِها لاَ يَجْحَدُها إِلاَّ مَكَابِرٌ .
وَبَشِّرِ المُؤْمِنينَ بِأَنَّ لَهُمْ فَضَلاً كَبِيراً مِنَ اللهِ عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ،وَسَيُلْقِي اللهُ عَلَى عَاتِقِهِمْ مَهَمَّةَ نَشْرِ الإِيمَانِ فِي الأَرضِ،وَإِخْراجِ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ .
وَلاَ تُطِعْ قَوْلَ كَافِرٍ،وَلاَ قَوْلَ مُنَافِقٍ فِي أَمْرِ الدِّينِ والدَّعْوةِ،وَتَجَاوَزْ وَاصْفَحْ عَنْ أَذَاهُمْ،وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَنَالُكَ،مِنْهُمْ،وَفَوِّضْ أَمْرَكَ إِلى اللهِ وَثِقْ بِهِ فَإِنّهُ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَحَافِظُكَ[23] .
وقال تعالى:{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}[الأحزاب:60 - 62]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ الذِينَ يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ،وَيُبْطِنُونَ الكُفْرَ،وَأَهْلُ الرِّيَبِ والشُّكُوكِ والفُسُوقِ ( الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) الذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ باتِّباعِ نِسَائِهِمْ،والإِسَاءَةِ إِلَيهِنَّ،وَلئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُرْجِفُونَ الذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَالمُؤْمِنينَ بِنَشْرِ الشَّائِعَاتِ الكَاذِبَةَ المُثَبِّطَةِ لِهِمَمِ المُؤْمِنِينَ وَعَزَائِمِهِمْ ( كَقَوْلِهِمْ مُحَمَّدٌ غُلِبَ،وَجَاءَتْ جُيُوشٌ مُشْرِكَةٌ لِحَرِبِ المُسلِمينَ لا قِبلَ لَهُمْ بِهَا...) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ هؤلاءِ جَمِيعاً،فَإِنَّ الله سَُسَلِّطُ رَسُولَهُ عَلَيهِمْ،وَيُغْرِيهِ بِقَتَالِهِمْ وَإِجلائِهِمْ عَنْ المَدينةِ فَلا يَسْكُنُونَ مَعَهُ فِيها،وَلا يَمْضِي وَقْتٌ قَصِيرٌ حَتَّى تَخْلُوَ المَدِينَةُ مِنْهُمْ
وَسيَكُونُونَ خِلاَلَ هذل الوَقْتِ القَصِيرِ الذِي يَبْقونَ فِيهِ فِي المَدينةِ مَلْعُونِينَ،مَطْرُودِينَ مِنْ رَحْمَة اللهِ،وَإِذا خَرَجُوا تَبْقَى الذِّلَّةُ مُلازِمَةً لَهُمْ،وَلا يَجِدُونَ مَلْجأً يَعْصِمُهُمْ مِنْ بَأْسِ المُؤْمِنينَ،فَأْيْنَما وُجِدُوا كَانُوا فِي ذِلَّةٍ مُعَرَّضِينَ للأَخْذِ وَالقَتْلِ في كُلِّ حِينٍ .
وَهذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ،وَهذَا هُوَ شَرْعُهُ فِي المُنَافِقِينَ،وَفِي أَمْثَالِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكانٍ،إِذا اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ،وَلَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ غَيٍّ وَضَلاَلٍ،فَإِنَّ اللهُ يُسَلِّطُ عَليهِمْ أَهْلَ الإِيمَانِ،وَسُنَّةُ اللهِ لاَ يَسْتَطيعُ أَحَدٌ تبدِيلَهَا وَلاَ تَغْيِيرَهَا .[24]
وقال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) [الفتح:4 - 6] }
كَانَ مِنْ شُرُوطِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ شَرْطَانِ تَرَكَا أَثَراً فِي نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ:
1- أَنْ لاَ يَدْخُلَ المُسْلِمُونَ مَكَّةَ عَامَهُمْ ذَاكَ،وَأَنْ يَأتُوا مُعْتَِرينَ فِي العَامِ،الذِي يَلِيهِ .
2- أنْ يَرُدَّ المُسْلِمُونَ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ قُرَيشٍ مُسْلِماً إِلى قَوْمهِم،وَأَنْ لاَ تَرُدَّ قُرَيشٌ مَنْ جَاءَها مِنَ المُسْلِمِينَ مُرْتَداً عَنِ الإِسْلامِ .
وَظَنَّ بَعْضُ المُسْلِمِين أَنَّ في هذينِ الشَّرْطِينِ غبْناً لِلمُسْلِمِينَ،حَتّى إِن رَسُولَ اللهِ لَمَّا أَمرَ المُسْلِمِينَ بِنَحْرِ الهَدْيِ،وَبِحَلقِ شُعُورِهِمْ،لَمْ يَمْتَثِلوا لأَمْرِهِ في بَادئِ الأَمرِ،فَقَدْ ثَارَتْ في نُفُوسِهِمِ الحَمِيَّةُ للإِسْلامِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم،وَلِيَزْدَادُوا يَقِينا في دِينِهمْ بِطَاعَةِ اللهِ،وَطَاعَةِ رَسُولِهِ،وَاللهُ تَعَالى هُوَ الذِي يُدَبِّرُ أمرَ الكَوْنِ،فَيَجْعَلُ جَمَاعةً مِنْ جُنْدِهِ يُقَاتِلُون لإِعْلاَءِ كَلِمَةِ الحَقِّ،وَيَجْعَلُ غَيْرَهم يُقَاتِلُونَ في سَبيلِ الشَّيْطَانِ،وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَرْسَلَ عَلَيْهِم جُنْداً مِنَ السَّماء يَقْضُونَ عَلَيهم،لكِنَّهُ سُبْحَانَه وَتَعَالى شَرَعَ الجِهَادَ والقِتَالَ لما في ذلِكَ مِنَ المَصْلَحَةِ التِي لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ،وَاللهُ عَلِيمٌ بِالأُمُورِ،حَكِيمٌ في شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ
وَإِنما قَدَّرَ اللهُ تَعَالى ذَلِكَ لِيَعْرِفَ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ نِعْمَةَ اللهِ،وَيَشْكُرُوهَا فَيَدْخُلُوا الجَنَّةَ لِيَبْقَوْا فِيها خَالِدِينَ أَبداً،وَلِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ بِأَعْمَالِهم الصَّالِحةِ،وفي ذلِكَ ظَفَرٌ لَهُم بِما يَرْجُونَ،وَمَا يَسْعَوْنَ إِليهِ،وَهذا الظَّفَرُ بِالبْغِيةِ،وَدُخُولُ الجَنَّةِ،هُوَ الفَوزُ العَظيمُ .
وَلِيُعَذِّبَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ،وَالمُشْرِكِينَ بِرَبِّهمِ وَالمُشْرِكَاتِ،في الدُّنيا بالقَهْرِ والغَلَبةِ،وَبِتَسْلِيطِ النَّبِيِّ وَالمُسْلِمِينَ عَلَيهِمْ،وفي الآخِرَةِ بِالعَذَابِ الأَليمِ في نَارِ جَهَنَّمَ،وَقَدْ كَانَ هؤلاءِ المُنَافِقُونَ وَالمُشْرِكُونَ يَظُنُّونَ أَنَّ اللهَ لَنْ يَنْصُرَ الرَّسُولَ وَالمُؤْمِنينَ عَلَى الكَافِرينَ،وَكَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِمِ الدَّوائِر وَقَدْ دَعَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى هؤُلاءِ بِأَنْ تَدُورَ عَلَيهِمْ أَحْدَاثُ الزَّمَنِ بِالسَّوْءِ،وأَنْ تَنْزِلَ بِهِمِ النَّكَبَاتُ وَالمَصَائِبُ،ثُمَّ لَعَنَهم اللهُ وَغَضِبَ عَلَيهِمْ،وَأَنْذَرَهُم بِأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً في نَارِ جَهَنَّمَ،وَسَاءَتْ جَهَنَّمُ مَصِيراً يَصِيرُ إِليهِ المُنَافِقُونَ وَالمُشْرِكُونَ .[25]
وقال تعالى :{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)} [الحديد/12-15]
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَرَى المُتَصَدِّقِينَ،مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ،يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ،وَتَكُونُ كُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ،وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ:أَبْشِرُوا بِجَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا جَزَاءً لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ الصَّالِحَةِ،وَهَذَا الذِي فُزْتُمْ بِهِ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
وَيُنَادِي المُنَافِقُونَ المُؤْمِنينَ وَيَقُولُونَ لَهُمْ:إِنَّنَا كُنَّا مَعَكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا،نُصَلِّي مَعَكُمْ الجُمَعَ وَالجَمَاعَاتِ،وَنَشْهَدُ مَعَكُمْ الغَزَوَاتِ،وَنَقِفُ مَعَكُمْ فِي عَرَفَاتٍ..فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُونَ قَائِلِينَ:نَعَمْ لَقَدْ كُنْتُمْ مَعَنَا لَكِنَّكُمْ أَهْلَكْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي النِّفَاقِ،وَانْتَظَرْتُمْ لِلْمُؤْمِنينَ الحَوَادِثَ المُهْلِكَةَ،وَشَكَكْتُمْ فِي أُمُورِ البَعْثِ والنُّشُورِ،وَخَدَعَتْكُمُ الأَمَانِيُّ والآمَالُ،وَقُلْتُمْ سَيَغْفِرُ اللهُ لَنَا،وَأَخَّرْتُمُ التَّوْبَةَ إِلَى اللهِ،وَمَا زِلْتُمْ كَذَلِكَ حَتَّى حَضْرَكُمْ المَوْتُ،وَخَدَعَكُمْ الشَّيْطَانُ،فَقَالَ لَكُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لاَ يُعَذِّبُكُمْ .
فَاليَوْمَ لاَ مَهْرَبَ لَكُمْ،وَلاَ لِلْكَافِرِينَ،مِنْ عَذَابِ اللهِ،وَلاَ سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى الافْتِدَاءِ مِنْهُ وَلَوْ جَاءَ أَحدُكُمْ بِمِثْلِ الأَرْضِ ذَهَباً،وَسَتَصِيرُونَ جَمِيعاً إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ،وَسَتَكُونُ هِيَ مَأْوَاكُمْ وَمَثْوَاكُمْ وَمُتَقَلَّبَكُمْ،وَهِيَ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ كُلِّ مَنْزِلٍ آخَرَ،وَسَاءَتْ مَصِيراً[26]
وقال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) }[الحشر:11 - 17]
أَرْسَلَ رَئِيسُ المُنَافِقِينَ عَبدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَعَدَدٌ مِنَ المُنَافِقِينَ مَعَهُ إِلَى يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ يَعِدُونَهُمُ النُّصْرَةَ إِنْ قَاتَلهُم المُسْلِمُونَ،والخُرُوجَ مَعَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ إِنْ أُخْرِجُوا،وَعَدَّ اللهُ المُنَافِقِينَ كَفَرَةً،وَإِخْوَاناً لِلكَافِرِينَ مِنَ اليَهُودِ..ثُمَّ يُؤْكِّدُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَعِدُونَ بِهِ اليَهُودَ .
وَهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ،وَفِيمَا يَعِدُونَ بِهِ اليَهُودَ مِنَ النُّصْرَةِ،وَالخُرُوجِ مَعَهُمْ،لأَنَّهُمْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَ اليَهُودِ إِذَا أَرَادَ المُسْلِمُونَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ،وَلاَ يَقَاتِلُونَ مَعَهُمْ،إِنْ قَاتَلَهُمُ المُسْلِمُونَ،ثُمَّ إِنَّهُمْ إِذَا قَاتَلُوا مَعَ اليَهُودِ سَيَنْهَزِمُونَ مُتَخَلِّينَ عَنْ بَنِي النَّضيرِ،ثُمَّ لاَ يَنْصُرُ اللهُ بَنِي النَّضِيرِ .
وَيُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى السَّبَبَ فِي عَدَمِ جُرْأَةِ المُنَافِقِينَ عَلَى الانْضِمَامِ إِلَى اليَهُودِ،فِي قِتَالِ المُسْلِمِينَ،فَيُخْبِرُ تَعَالَى:أَنَّ المُسْلِمِينَ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ مِنَ اللهِ،فَهُمْ يَخَافُونَ بَأْسَ المُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُونَ اللهَ،لأَنَّهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ مِقْدَارَ عَظَمَةِ اللهِ،فَهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِمَعَاصِيهِ،وَلاَ يَرْهَبُونَ عِقَابَهُ،قَدْرَ رَهْبَتِهِم المُسْلِمِينَ وَسَطْوَتِهِمْ .
وَيُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى جُبْنَ اليَهُودِ وَالمُنَافِقِينَ فَيَقُولُ:إِنَّ اللهَ أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَلاَ يُوَاجِهُونَ المُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ مُجْتَمِعِينَ،بَلْ يُقَاتِلونَهُمْ فِي قُرًى حَصِينةٍ،أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدْرَانٍ وَهُمْ مُحَاصَرُونَ،وَعَدَاوَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ شَدِيدَةٌ.وَإِذَا رَآهُمُ الرَّائِي حَسِبَهُمْ مُتَّفِقِينَ،وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ مُخْتَلِفُونَ إِلَى أَبْعَدِ حُدُودِ الاخْتِلاَفِ لِمَا بَيْنَهُم مِنْ أَحْقَادٍ وَعَدَاوَاتٍ،فَهُمْ لاَ يَتَعَاضَدُونَ،وَلاَ يَتَسَانَدُونَ،وَلاَ يُخْلِصُونَ فِي القِتَالِ،وَقَدْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا لأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الوَحْدَةَ وَالتَّسَانُدَ المُخْلِصَ هُمَا سِرُّ النَّصْرِ وَالنَّجَاحِ .
وَمَثَلُ بَنِي النَّضِيرِ،مَثَلُ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ،الذِينَ كَانُوا حَوْلَ المَدِينَةِ،فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللهِ،وَأَجْلاَهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتِ الشَّامِ،فَذَاقُوا سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِهِمْ وَطُغَيَانِهِمْ .
وَمَثَلُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ وَعَدُوا اليَهُودَ بِالنُّصْرَةِ إِنْ قُوتِلُوا وَبِالخُرُوجِ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ،كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الذِي غَرَّ الإِنْسَانَ،وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيهِ،إِذَا أَطَاعَهُ وَكَفَرَ بِاللهِ،فَلَمَّا احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِليهِ،وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ،تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ،وَخَذَلَهُ وَتَرَكَهُ لِمَصْيرِهِ،وَقَالَ لَهُ:إِنِّي أَخَافُ اللهَ إِنْ نَصْرْتُكَ أَنْ يُشْرِكَنِي رَبُّ العَالَمِينَ مَعَكَ فِي العَذَابِ.
فَكَانَ عَاقِبَةَ الأَمْرِ بِالكُفْرِ أَنْ صَارَ الشَّيْطَانُ وَمَنْ أَغْرَاهُ بِالكُفْرِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ،جَزَاءُ كُلِّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ .[27]
وقال تعالى:{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) } [المنافقون:1 - 8]
إِذَا جَاءَ المُنَافِقُونَ إِلَى مَجْلِسِكَ يَا مُحَمَّدُ قَالُوا:نَشْهَدُ أَنَّكَ رُسُولُ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً،وَقَدْ أَرْسَلَكَ اللهُ تَعَالَى إِلَى الخَلْقِ كَافَّةً،وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ وَحْيَهُ وَقُرْآنَهُ،وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ إِلَى النَّاسِ لِتُبَلِّغَهُمْ مَا أَوْحَاهُ إِليكَ رَبُّكَ،وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ الذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ صِدَقَ مَا يَقُولُونَ .
جَعَلَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ أَيْمَانَهُم الكَاذِبَةَ وِقَايَةً لَهُمْ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ،وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ فَيِحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ،وَيَقُولُونَ نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لِيَغْتَرَّ بِهِمْ مَنْ لاَ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ،وَيَعْتَقدَ بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَيَطْمَئِنَّ إِلَيهِمْ،وَليَسْتَغِلُّوا هَذَا الاطْمئْنَانَ إِليهِمْ لِيَنْصِرفُوا إِلَى العَمَلِ عَلَى صَرْفِ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ،فَسَاءَ عَمَلُهُمْ وَقَبُحَ إِذْ آثرُوا الكُفْرِ عَلَى الإِيْمَانِ،وَأَظْهَرُوا خلاَفَ مَا يَعْتَقِدُونَ،وَسَيَلْقَوْنَ عِقَابَ ذَلِكَ العَمَلِ السَّيِّئِ فِي الآخِرَةِ .
وَذَلِكَ الذِي فَعَلُوهُ إِنَّمَا أَقْدَمُوا عََلَيْهِ لِسُوءِ سَرِيرَتِهِمْ،وَقُبْحِ طَوّيتِهِمْ،فَاسْتَهَانُوا بِمَا يَفْعَلُونَ،وَكُلُّ هَمِّهِم المُحَافَظَةُ عَلَى دِمَائِهِم وَأَمْوَالِهِمْ،لِذَلِكَ أَظْهَرُوا للنَّاسِ الإِيْمَانَ وأَبْطَنُوا الكُفْرَ،وَقَدْ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِليهَا الإِيمْانُ الحَقُّ،فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَفْقَهُونَ .
وَإِذَا رَأَيْتَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ تُعْجِبُكَ صُوَرُهُمْ،وَإِذَا تَكَلَّمُوا تُعْجِبُكَ أَقْوَالَهُمْ لأَنَّهُمْ ذَوُو صُورٍ مُتَنَاسِقَةٍ،وَذَوُو لَسَنٍ وَفَصَاحَةٍ،وَلَكِنَّهُمْ فِي الحَقِيقَةِ أَشْبَاحٌ بِلاَ أَرْوَاحٍ،وَقُلُوبُهُمْ فَارِغَةٌ مِنَ الإِيْمَانِ فَكَأَنَّهُمْ خُشُبٌ جَوْفَاءُ قَدْ نَخَرَ السُّوسُ دَاخِلَهَا،وَهُمْ فِي غَايةِ الهَلَعِ وَالجَزَعِ،يَحْسَبُونَ كُلَّ صَوْتٍ يَقَعُ أَنَّ البَلاَءَ قَدْ جَاءَهُمْ،وَأَنَّ أَمْرَهُمْ قَدِ افْتَضَحَ،وَأَنَّهُمْ هَالِكُونَ لاَ مَحَالَةَ .
وَهَؤُلاَءِ هُمُ الأَعْدَاءُ الحَقِيقِيًُّونَ لِلاِسْلاَم وَالمُسْلِمِينَ فَلاَ تَأْمَنْهُمْ عَلَى سِرٍّ،لأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُتَحَرِّقَةٌ حَسَداً وَبُغْضاً،لَعَنَهُمُ اللهُ وَطَرَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ،فَمَا أَقْبَحَ حَالَهُمْ،وَمَا أَشَدَّ غَفْلَتَهُمْ،فَكَيْفَ يُصْرِفُونَ عَنِ الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ،وَعَنِ الإِيْمَانِ إِلَى الكُفْرِ؟
وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ تَعَالَوا إِلَى رَسُولِ اللهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَكُمْ عَمَّا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ ذُنُوبٍ وَآثَامٍ وَنِفَاقٍ أَمَالُوا رُؤُسَهُمْ،وَأَعْرَضُوا اسْتِكْبَاراًَ وَأَنَفَةً أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ،وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ،قَالَ:كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ حَدِيثِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ،قَالُوا:بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ r أَنَّ بَنِيَ الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لَهُ،وَقَائِدُهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ r ؛فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ r ،خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِمْ يُقَالَ لَهُ الْمُرَيْسِيعُ مِنْ نَاحِيَةِ قُدَيْدٍ إِلَى السَّاحِلِ،فَتَزَاحَفَ النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا،فَهَزَمَ اللَّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ،وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ،وَنَفَّلَ رَسُولَ اللَّهِ r أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ،فَأَفَاءَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ،وَقَدْ أُصِيبَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ،يُقَالُ لَهُ هِشَامُ بْنُ صُبَابَةَ أَصَابَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ،وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ،فَقَتَلَهُ خَطَأً،فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَرَدَتْ وَارِدَةُ النَّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالَ لَهُ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ،يَقُودُ لَهُ فَرَسَهُ،فَازْدَحَمَ جَهْجَاهٌ وَسِنَانٌ الْجُهَنِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا،فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ:يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ .وَصَرَخَ جَهْجَاهُ:يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ،فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ،وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ،غُلَامٌ حَدِيثُ السِّنِّ،فَقَالَ:قَدْ فَعَلُوهَا ؟ قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا،وَاللَّهِ مَا أَعُدُّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ .أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ؛ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ قَوْمِهِ،فَقَالَ:هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ،وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ،أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوَّلُوا إِلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ؛فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r ،وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللَّهِ r مِنْ غَزْوِهِ،فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْ بِهِ عَبَّادَ بْنَ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ فَلْيَقْتُلْهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :" فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ،لَا،وَلَكِنْ أَذِّنْ بِالرَّحِيلِ " وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ r يَرْتَحِلُ فِيهَا،فَارْتَحَلَ النَّاسُ،وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلَغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ،فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قُلْتُ مَا قَالَ،وَلَا تَكَلَّمْتُ بِهِ؛وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا،فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ r مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ:يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ،وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرَّجُلُ،حَدَبًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ،وَدَفْعًا عَنْهُ؛فَلَمَّا اسْتَقَلَّ رَسُولُ اللَّهِ r وَسَارَ،لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ،فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ؛ثُمَّ قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِيهَا،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r " أَوْ مَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ ؟ " قَالَ:فَأَيُّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:" عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ " .قَالَ:وَمَا قَالَ ؟ قَالَ:" زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ " .قَالَ أُسَيْدٌ:فَأَنْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْرِجُهُ إِنْ شِئْتَ،هُوَ وَاللَّهِ الذَّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ؛ثُمَّ قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْفُقْ بِهِ،فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ وَإِنَّ قَوْمَهَ لَيَنْظِمُونُ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ،فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَلَبْتَهُ مَلَكًا .ثُمَّ مَشَى رَسُولُ اللَّهِ r بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى،وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ،وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى آذَتْهُمُ الشَّمْسُ،ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ،فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ وَقَعُوا نِيَامًا،وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لَيَشْغَلَ النَّاسَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ .ثُمَّ رَاحَ بِالنَّاسِ وَسَلَكَ الْحِجَازَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ فُوَيْقَ النَّقِيعِ،يُقَالَ لَهُ نَقْعَاءُ؛فَلَمَّا رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ r هَبَّتْ عَلَى النَّاسِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ آذَتْهُمْ وَتَخَوَّفُوهَا،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :" لَا تَخَافُوا فَإِنَّمَا هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفَّارِ " .فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ أَحَدَ بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَكَانَ مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ،وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ،فَنَزَلَتِ السُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهِ فِيهَا الْمُنَافِقِينَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ،وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِ،فَقَالَ:إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ r بِأُذُنِ زَيْدٍ فَقَالَ:" هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهَ بِأُذُنِهِ " وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَبِيهِ ""[28].
وقَالَ ابْنُ زَيْدٍ،فِي قَوْلِ اللَّهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ قَالَ:كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُسَمُّونَ الْمُهَاجِرِينَ:الْجَلَابِيبَ؛وَقَالَ:قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ:قَدْ أَمَرْتُكُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْجَلَابِيبِ أَمْرِي،قَالَ:هَذَا بَيْنَ أَمَجٍ وَعُسْفَانَ عَلَى الْكَدِيدِ تَنَازَعُوا عَلَى الْمَاءِ،وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ قَدْ غَلَبُوا عَلَى الْمَاءِ؛قَالَ:وَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ أَيْضًا:أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ:لَا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ،لَوْ تَرَكْتُمُوهُمْ مَا وَجَدُوا مَا يَأْكُلُونَ،وَيَخْرُجُوا وَيَهْرُبُوا؛فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أُبَيٍّ ؟ قَالَ:" وَمَا ذَاكَ ؟ " فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ:دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .قَالَ:" إِذًا تَرْعَدُ لَهُ آنَفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ" قَالَ عُمَرُ:فَإِنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ،فَمُرْ بِهِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ،وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَيَقْتُلَانِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :" إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ،ادْعُوا لِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ " .فَدَعَاهُ،فَقَالَ:" أَلَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُوكَ ؟ " قَالَ:وَمَا يَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ؟ قَالَ:" يَقُولُ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ "؛فَقَالَ:فَقَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَنْتَ وَاللَّهِ الْأَعَزُّ وَهُوَ الْأَذَلُّ،أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَإِنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ لَيَعْلَمُونَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَبَرَّ مِنِّي،وَلَئِنْ كَانَ يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنْ آتِيَهُمَا بِرَأْسِهِ لَآتِيَنَّهُمَا بِهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :" لَا " .فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ،قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَلَى بَابِهَا بِالسَّيْفِ لِأَبِيهِ؛ثُمَّ قَالَ:أَنْتَ الْقَائِلُ:لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ،أَمَا وَاللَّهِ لَتَعْرِفَنَّ الْعِزَّةُ لَكَ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ،وَاللَّهِ لَا يَأْوِيكَ ظِلُّهُ،وَلَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛فَقَالَ:يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي فَقَالَ:وَاللَّهِ لَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ؛فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ فَكَلَّمُوهُ،فَقَالَ:وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،فَأَتَوُا النَّبِيَّ r فَأَخْبَرُوهُ،فَقَالَ:" اذْهَبُوا إِلَيْهِ،فَقُولُوا لَهُ خِلِّهِ وَمَسْكَنَهُ "؛فَأَتَوْهُ،فَقَالَ:أَمَا إِذَا جَاءَ أَمْرُ النَّبِيِّ r فَنَعَمْ "[29].
وعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ r فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ،فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا،فَمُرْنِي بِهِ فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ،فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ فِيهَا رَجُلٌ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي،وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ،فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلَهُ،فَأُقْتَلَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ،فَأَدْخُلَ النَّارَ؛فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :" بَلْ نَرْفُقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا " وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمُ الَّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ،وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنِّفُونَهُ وَيَتَوَعَّدُونَهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ " كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ؛أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لَأَرْعَدَتْ لَهُ آنَفٌ،لَوْ أَمَرْتُهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ "؛قَالَ:فَقَالَ عُمَرُ:قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ r أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي " "[30].
وَسَوَاءٌ اسْتَغْفَرْتَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَهُمْ وَآثَامَهُمْ،لأَنَّ اللهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمِ الشَّقَاءَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الفِسْقِ،وَمَا رَانَ عَلَى قٌلقوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ .
وَهَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ هُمُ الذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ:لاَ تُنْفِقُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ فَيَتَحوَّلُوا عَنْكُمْ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ،وَيَنْفَضَّ عَنْ مُحَمَّدٍ مَنْ حَوْلَهُ إِذَا عَضَّهُمْ الجُوعُ.وَهَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ جَاهِلُونَ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ مَالِكُ جَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ،وَبِيدِهِ مَفَاتِيحُ أَرْزَاقِ العِبَادِ فَلاَ يَصِلُ شَيءٌ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ،وَلِذَلِكَ قَالُوا هَذَا القَوْلَ .
وَيَقَولُ هَؤُلاَءِ المَنَافِقُونَ:إِذَا رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ فَإِنَّنَا سَنُخْرِجُ المُؤْمِنِينَ مِنْهَا،لأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ هُم الأَقْوِيَاءَ الأَعِزَّاءَ فِيهَا لَكَثْرَةِ جَمْعِهِمْ،وَوَفْرَةِ مَالِهِمْ،وَأَنَّ المُؤْمِنِينَ ضِعَافٌ قَلِيلُو العَدَدِ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ قَائِلاً:إِنَّ العِزَّةَ للهِ وَحْدَهُ،فَهُوَ ذُو الجَلاَلِ والعِزَّةِ،ثُمَّ تَكُونُ العِزَّةُ مِنْ بِعْدِهِ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ r ،ثُمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الذِينَ يَسْتَغِزُّونَ بِعِزِّ اللهِ،وَبِنَصْرِهِ،فَهُمْ أَعِزَةٌ بِذَلِكَ،وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ العِزَّةَ بِوَفْرَةِ المَالِ وَكَثْرَةِ النَّاصِرِ .[31]
إن المنافقين كانوا يجيئون إلى رسول اللّه - r - فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان،لا يقصدون بها وجه الحق،إنما يقولونها للتقية،وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين.فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة،فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها،ويداروا أنفسهم بقولها.ومن ثم يكذبهم اللّه في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة : «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» ..«وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ».والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه.فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين.
ولو لا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة.وليس هذا هو المقصود.إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقا ولا يشهدون بها خالصي الضمير! «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» ..وهي توحي بأنهم كانوا يحلفون الأيمان كلما انكشف أمرهم،أو عرف عنهم كيد أو تدبير،أو نقلت عنهم مقالة سوء في المسلمين.كانوا يحلفون ليتقوا ما يترتب على افتضاح أمر من أمورهم،فيجعلون أيمانهم وقاية وجنة يحتمون وراءها،ليواصلوا كيدهم ودسهم وإغواءهم للمخدوعين فيهم.
«فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ..صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم مستعينين بتلك الأيمان الكاذبة : «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..وهل أسوأ من الكذب للخداع والتضليل!؟
ويعلل حالهم هذه من شهادة مدخولة كاذبة،وأيمان مكذوبة خادعة،وصد عن سبيل اللّه وسوء عمل ..يعلله بأنهم كفروا بعد الإيمان،واختاروا الكفر بعد أن عرفوا الإسلام : «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ،فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» ..
فهم عرفوا الإيمان إذن،ولكنهم اختاروا العودة إلى الكفر.وما يعرف الإيمان ثم يعود إلى الكفر قلب فيه فقه،أو تذوق،أو حياة.وإلا فمن ذا الذي يذوق ويعرف،ويطلع على التصور الإيماني للوجود،وعلى التذوق الإيماني للحياة،ويتنفس في جو الإيمان الذكي،ويحيا في نور الإيمان الوضي ء،ويتفيأ ظلال الإيمان الندية ..ثم يعود إلى الكفر الكالح الميت الخاوي المجدب الكنود؟ من ذا الذي يصنع هذا إلا المطموس الكنود الحقود،الذي لا يفقه ولا يحس ولا يشعر بهذا الفارق البعيد! «فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» ..
ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس،وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود.بل تنصبهم تمثالا وهدفا للسخرية في معرض الوجود : «وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ.وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ.يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.قاتَلَهُمُ اللَّهُ! أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟» ..
فهم أجسام تعجب.لا أناسي تتجاوب! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون ..فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة ..«تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ» ..ولكنها ليست خشبا فحسب.إنما هي «خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» ..لا حركة لها،ملطوعة بجانب الجدار! هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم : «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» ..
فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء.وهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف.والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف،يحسبونه يطلبهم،وقد عرف حقيقة أمرهم!!
وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان ..إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال! وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول - r - وللمسلمين : «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» ..هم العدو الحقيقي.العدو الكامن داخل المعسكر،المختبئ في الصف.وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح.«فَاحْذَرْهُمْ» ..ولكن الرسول - r - لم يؤمر هنا بقتلهم،فأخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم ..
«قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» ..فاللّه مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا.والدعاء من اللّه حكم بمدلول هذا الدعاء،وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه ..وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف.
ويستطرد السياق في وصف تصرفاتهم الدالة على دخل قلوبهم،وتبييتهم للرسول - r - وكذبهم عند المواجهة ..وهي مجموعة من الصفات اشتهر بها المنافقون : « وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) [المنافقون : 5 - 9] » .. فهذا هو الصف المسلم يندس فيه المنافقون ويعيشون فيه - في حياة الرسول - r - قرابة عشر سنوات.والرسول - r - لا يخرجهم من الصف،ولا يعرفهم اللّه له بأسمائهم وأعيانهم إلا قبيل وفاته.وإن كان يعرفهم في لحن القول،بالالتواء والمداورة.ويعرفهم بسيماهم وما يبدو فيها من آثار الانفعالات والانطباعات.ذلك كي لا يكل اللّه قلوب الناس للناس.فالقلوب له وحده،وهو الذي يعلم ما فيها ويحاسب عليه،فأما الناس فلهم ظاهر الأمر كي لا يأخذوا الناس بالظنة،وكي لا يقضوا في أمورهم بالفراسة! وحتى حينما عرف اللّه نبيه - r - بالنفر الذين ظلوا على نفاقهم إلى أواخر حياته،فإنه لم يطردهم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام ويؤدون فرائضه.إنما عرفهم وعرّف بهم واحدا فقط من رجاله هو حذيفة بن اليمان - رضي اللّه عنه - ولم يشع ذلك بين المسلمين.حتى إن عمر - رضي اللّه عنه - كان يأتي حذيفة ليطمئن منه على نفسه أن الرسول - r - لم يسمه له من المنافقين! وكان حذيفة يقول له : يا عمر لست منهم.ولا يزيد! وكان رسول اللّه - r - قد أمر ألا يصلي على أحد منهم مات أبدا.فكان أصحابه يعرفون عند ما يرون الرسول لا يصلي على ميت.فلما قبض - r - كان حذيفة لا يصلي على من عرف أنه منهم.وكان عمر لا ينهض للصلاة على ميت حتى ينظر.
فإن رأى حذيفة هناك علم أنه ليس من المجموعة وإلا لم يصل هو الآخر ولم يقل شيئا! وهكذا كانت تجري الأحداث - كما يرسمها القدر - لحكمتها ولغايتها،للتربية والعبرة وبناء الأخلاق والنظم والآداب.
وهذا الحادث الذي نزلت فيه تلك الآيات هو وحده موضع عبر وعظات جمة ..
هذا عبد اللّه بن أبي بن سلول .يعيش بين المسلمين.قريبا من رسول اللّه - r - تتوالى الأحداث والآيات من بين يديه ومن خلفه على حقيقة هذا الدين وصدق هذا الرسول.ولكن اللّه لا يهدي قلبه للإيمان،لأنه لم يكتب له هذه الرحمة وهذه النعمة.وتقف دونه ودون هذا الفيض المتدفق من النور والتأثير،تقف دونه إحنة في صدره أن لم يكن ملكا على الأوس والخزرج،بسبب مقدم رسول اللّه - r - بالإسلام إلى المدينة! فتكفه هذه وحدها عن الهدى.الذي تواجهه دلائله من كل جانب.وهو يعيش في فيض الإسلام ومده في يثرب! وهذا ابنه عبد اللّه - رضي اللّه عنه وأرضاه - نموذج رفيع للمسلم المتجرد الطائع.يشقى بأبيه ويضيق بأفاعيله ويخجل من مواقفه.ولكنه يكن له ما يكنه الولد البار العطوف.ويسمع أن رسول اللّه - r - يريد أن يقتل أباه هذا.فيختلج قلبه بعواطف ومشاعر متباينة،يواجهها هو في صراحة وفي قوة وفي نصاعة.
إنه يحب الإسلام،ويحب طاعة رسول اللّه - r - ويحب أن ينفذ أمره ولو في أبيه.ولكنه لا يطيق أن يتقدم أحد فيضرب عنق أبيه ويظل يمشي على الأرض بعده أمام ناظريه.وهو يخشى أن تخونه نفسه،وألا يقدر على مغالبة شيطان العصبية،وهتاف الثأر ..وهنا يلجأ إلى نبيه وقائده ليعينه على خلجات قلبه،ويرفع عنه هذا العنت الذي يلاقيه.فيطلب منه إن كان لا بد فاعلا أن يأمره هو بقتل أبيه.وهو لا بد مطيع.وهو يأتيه برأسه.كي لا يتولى ذلك غيره،فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض.فيقتله.فيقتل مؤمنا بكافر.فيدخل النار ..
وإنها لروعة تواجه القلب أينما اتجه وأينما قلب النظر في هذا الموقف الكريم.روعة الإيمان في قلب إنسان،وهو يعرض على رسول اللّه - r - أن يكل إليه أشق عمل على النفس البشرية - أن يقتل أباه - وهو صادق النية فيما يعرض.يتقي به ما هو أكبر في نظره وأشق ..وهو أن تضطره نوازعه البشرية إلى قتل مؤمن بكافر،فيدخل النار ..وروعة الصدق والصراحة وهو يواجه ضعفه البشري تجاه أبيه وهو يقول : «فو اللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني».وهو يطلب من نبيه وقائده أن يعينه على هذا الضعف ويخرجه من هذا الحرج لا بأن يرد أمره أو يغيره - فالأمر مطاع والإشارة نافذة - ولكن بأن يكل إليه هو أن يأتيه برأسه! والرسول الكريم يرى هذه النفس المؤمنة المحرجة،فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة : «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» ..ومن قبل هذا يكف عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عن رأيه : «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟».
ثم تصرف الرسول - r - في الحادث تصرف القائد الملهم الحكيم ..وأمره بالسير في غير أوان،ومتابعة السير حتى الإعياء،ليصرف الناس عن العصبية المنتنة التي أثارها صياح الرجلين المتقاتلين :
يا للأنصار! يا للمهاجرين! وليصرفهم كذلك عن الفتنة التي أطلقها المنافق عبد اللّه بن أبي بن سلول،وأرادها أن تحرق ما بين الأنصار والمهاجرين من مودة وإخاء فريدين في تاريخ العقائد وفي تاريخ الإنسان ..
وحديث الرسول - r - مع أسيد بن حضير،وما فيه من تعبئة روحية ضد الفتنة،واستجاشة للأخذ على يد صاحبها وهو صاحب المكانة في قومه حتى بعد الإسلام! وأخيرا نقف أمام المشهد الرائع الأخير.مشهد الرجل المؤمن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي.وهو يأخذ بسيفه مدخل المدينة على أبيه فلا يدعه يدخل.تصديقا لمقاله هو : «ليخرجن الأعز منها الأذل».ليعلم أن رسول اللّه هو الأعز.وأنه هو الأذل.ويظل يقفه حتى يأتي رسول اللّه - r - فيأذن له.فيدخلها بإذنه.ويتقرر بالتجربة الواقعة من هو الأعز ومن هو الأذل.في نفس الواقعة.وفي ذات الأوان.
ألا إنها لقمة سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال.رفعهم إلى هذه القمة،وهم بعد بشر،بهم ضعف البشر،وفيهم عواطف البشر،وخوالج البشر.وهذا هو أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة،حين يدركها الناس على حقيقتها،وحين يصبحون هم حقيقتها التي تدب على الأرض في صورة أناسيّ تأكل الطعام وتمشي في الأسواق.
ثم نعيش في ظلال النصوص القرآنية التي تضمنت تلك الأحداث : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (5) سورة المنافقون..فهم يفعلون الفعلة،ويطلقون القولة.فإذا عرفوا أنها بلغت رسول اللّه - r - جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالأيمان يتخذونها جنة.فإذا قال لهم قائل : تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه،وهم في أمن من مواجهته،لووا رؤوسهم ترفعا واستكبارا! وهذه وتلك سمتان متلازمتان في النفس المنافقة.وإن كان هذا التصرف يجيء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومقام.ولكنهم هم في ذوات أنفسهم أضعف من المواجهة فهم يستكبرون ويصدون ويلوون رؤوسهم ما داموا في أمان من المواجهة.حتى إذا ووجهوا كان الجبن والتخاذل والأيمان! ومن ثم يتوجه الخطاب إلى رسول اللّه - r - بما قضاه اللّه في شأنهم على كل حال.وبعدم جدوى الاستغفار لهم بعد قضاء اللّه : «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
ويحكي طرفا من فسقهم،الذي استوجب قضاء اللّه فيهم : «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا» ..وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع،ولؤم النحيزة.وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان،في حرب العقيدة ومناهضة الأديان.ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين.
إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول اللّه - r - ويسلموه للمشركين! وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول اللّه - r - عنه تحت وطأة الضيق والجوع! وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين،ليموتوا جوعا أو يكفروا باللّه،ويتركوا الصلاة! وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى اللّه وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام،بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق ..
وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان،من قديم الزمان،إلى هذا الزمان ..ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية : «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ» ..
ومن خزائن اللّه في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين،فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم.فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين! وهكذا يثبت اللّه المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخسيسة،التي يلجأ أعداء اللّه إليها في حربهم.ويطمئنهم إلى أن خزائن اللّه في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع.والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه.فقد شاءت رحمته ألا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق.
وقد علم أنهم لا يرزقون أنفسهم كثيرا ولا قليلا لو قطع عنهم الأرزاق! وهو أكرم أن يكل عباده - ولو كانوا أعداءه - إلى ما يعجزون عنه البتة.فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء!
ثم قولتهم الأخيرة : «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» ..
وقد رأينا كيف حقق ذلك عبد اللّه بن أبي! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز! «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..
ويضم اللّه - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه،ويضفي عليهم من عزته،وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا اللّه! وأي تكريم بعد أن يوقف اللّه - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره.ويقول : ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء.وهذا هو الصف العزيز! وصدق اللّه.فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن.العزة المستمدة من عزته تعالى.العزة التي لا تهون ولا تهن،ولا تنحني ولا تلين.ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان.فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة ..«وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟[32]
____________
عن أَنَس عَنِ النَّبِىِّ r قَالَ « آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ،وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ »[33].
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - r- قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » [34].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r:« مِنْ عَلامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ:إذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » .[35]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ r قال:« ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ،وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى،وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ،مَنْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » [36].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ:كَذُوبٌ إذَا حَدَّثَ،مُخَالِفٌ إذَا وَعَدَ،خَائِنٌ إِذَا اؤْتُمِنَ،فَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النَّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا .[37]
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ:اعْتَبِرُوا الْمُنَافِقَ بِثَلاثٍ:إذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ،ثُمَّ قرأ « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ.فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ.فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُون »( التَّوْبَةُ 9/75-77)[38] .
وعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ r قال:« فِي الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ،وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى،وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ:إذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ »[39] .
وعَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِىَ تُصَلِّى فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ،فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ،فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ.قُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا،أَىْ نَعَمْ،فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِى الْغَشْىُ،فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِى الْمَاءَ،فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِىُّ - r- وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ « مَا مِنْ شَىْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِى حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ،فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِى قُبُورِكُمْ،مِثْلَ - أَوْ قَرِيبًا لاَ أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ،يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوِ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِى بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى،فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا،هُوَ مُحَمَّدٌ.ثَلاَثًا،فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا،قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ،وَأَمَّا الْمُنَافِقُ - أَوِ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى،سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ »[40].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r :أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا،وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا:إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ[41]
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:ثَلاثٌ إِذَا كُنَّ فِي عَبْدٍ فَلا تَتَحَرَّجْ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ:إذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ،وَمَنْ إِذَا حَدَّثَ صَدَقَ،وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ أَدَى،فَلا تَتَحَرَّجْ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ .[42]
وعَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ خَطَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ابْنَتَهُ،فَقَالَ لَهُ:إِنِّي قَدْ قُلْتُ لَهُ فِيهِ قَوْلاً شَبِيهَاً بِالْعِدَةِ،وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنَّ أَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِثُلُثِ النِّفَاقِ .[43]
وعَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ:انْظُرُوا فُلانَاً - لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ - فَإِنِّي كُنْتُ قُلْتُ لَهُ فِي ابْنَتِي قَوْلاً كَشَبِيهِ الْعِدَةِ،وَمَا أُحَبُّ أَنْ أَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِثُلُثِ النِّفَاقِ،وَأُشْهِدُكُمْ أَنَّي قَدْ زَوَّجْتُهُ .[44]
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ:الْمُنَافِقُ الَّذِي إذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ،وَإِذَا غَنِمَ غَلَّ،وَإِذَا أُمِرَ عَصَى،وَإِذَا لَقِي جَبُنَ،فَمَنْ كُنَّ فِيهِ فَفِيهِ النِّفَاقُ كُلُّهُ،وَمَنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُهُنَ فَفِيهِ بَعْضُ النِّفَاقِ .[45]
وعَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ:مَنْ كَذَبَ فَهُوَ مُنَافِقٌ،ثُمَّ قَالَ:مَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَبْعَدُ غَوْرَاً _ يَعْنِي فِي النَّارِ _:الْكَذِبُ أَوْ الشُّحُّ .[46]
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: « إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي:كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ »[47] .
وعَنْ أبَيِ عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ:كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ:« أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي:كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ »[48].
وعَنْ أبَيِ عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ:حَذَّرَنَا رَسُولُ الله rكُلَّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ[49] .
وعنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ:سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ،وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ r أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ أَصَابِعِي هَذِهِ،وَهُوَ يَقُولُ:إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ الْمُنَافِقُ الْعَلِيمُ،قِيلَ:وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ الْعَلِيمُ ؟،قَالَ:عَالِمُ اللِّسَانِ،جَاهِلُ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ [50].
وعَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ:قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،فَاحْتَبَسَنِي عِنْدَهُ حَوْلاً،فَقَالَ:يَا أَحْنَفُ،إِنَّي قَدْ بَلَوْتُكَ وَخَبَرْتُكَ،فَرَأَيْتُ عَلانِيَتَكَ حَسَنَةً،وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُكَ عَلَى مِثْلِ عَلانِيَتِكَ،وَإِنَّا كُنَّا نَتَحَدَّثُ:إِنَّمَا يَهْلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمٍ .[51]
وعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ قَالَ:قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَحَدَ رَجُلَيْنِ:رَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَدْ تَبَيَّنَ إِيْمَانُهُ،وَرَجُلٌ كَافِرٌ قَدْ تَبَيَّنَ كُفْرُهُ،وَلَكَنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مُنَافِقَاً يَتَعَوَّذُ بِالإِيْمَانِ،وَيَعْمَلُ غَيْرَهُ .[52]
وعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ , قَالَ:قُلْتُ لِعَمَّارٍ:أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ فِي أَمْرِ عَلِىٍّ , أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ , أَوْ شَيْئًا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللهِ r؟ فَقَالَ:مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ rشَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً , وَلَكِنْ حُذَيْفَةُ أَخْبَرَنِي،عَنِ النَّبِيِّ r, قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ r:فِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا , فِيهِمْ ثَمَانِيَةٌ , لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ , حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ , ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ.[53]
وعَنِ أَبِي مَسْعُودٍ،قَالَ: " كُنَّا نَتَحَامَلُ،وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ صَاعٍ،فَيُقَالُ: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا،أَوْ يَتَصَدَّقُ الرَّجُلُ بِصَدَقَةٍ كَثِيرَةٍ،فَيُقَالُ: هَذَا مُرَاءٍ،فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79) سورة التوبة"[54]
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ r ،كَانَ إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ rإِلَى الْغَزْوِ وَتَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ،خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ r ،فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ rاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا،فَنَزَلَ { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (188) سورة آل عمران.[55]
وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r - قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r - قَالَ « بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ ».فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ.[56]
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا خَرَجَ النَّبِىُّ - r- إِلَى أُحُدٍ،رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ،وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ - r- فِرْقَتَيْنِ،فِرْقَةً تَقُولُ نُقَاتِلُهُمْ.وَفِرْقَةً تَقُولُ لاَ نُقَاتِلُهُمْ.فَنَزَلَتْ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (88) سورة النساء ،وَقَالَ « إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِى الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِى النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ » .[57]
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - r- « إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِى مِعًى وَاحِدٍ،وَإِنَّ الْكَافِرَ - أَوِ الْمُنَافِقَ - يَأْكُلُ فِى سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ »[58] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ النَّاسُ:يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ r :هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ قَالُوا:لاَ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ قَالُوا:لاَ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَيَقُولُ:مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ ،فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ،وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ،وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ،وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا،فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ،فَيَقُولُ:أَنَا رَبُّكُمْ،فَيَقُولُونَ:نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَقَامُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا،فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ،قَالَ:فَيَأْتِيهِمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ،فَيَقُولُ:أَنَا رَبُّكُمْ،فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا،وَيُضْرَبُ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ،قَالَ النَّبِيُّ r :فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُهُ،وَدَعْوَةُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ:اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ،وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ،هَلْ تَدْرُونَ شَوْكَ السَّعْدَانِ ؟ قَالُوا:نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ،فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ،فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ،وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ،ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ ،وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ،مَنْ أَرَادَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ،فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثَارِ السُّجُودِ،قَالَ:وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ،قَالَ:فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ،يُقَالُ لَهُ:مَاءُ الْحَيَاةِ،فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ،قَالَ:وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ،فَيَقُولُ:يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا،وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا،فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ،فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو،فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ:فَلَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ،فَيَقُولُ:لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ،فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ،ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ:يَا رَبِّ،قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ:أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ،فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ:فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ،فَيَقُولُ:لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ،وَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ،فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَلَمَّا قَرَّبَهُ مِنْهَا انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ،فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ،ثُمَّ يَقُولُ:يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ:أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ،وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ،فَيَقُولُ:يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ،قَالَ:فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ جَلَّ وَعَلاَ،فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ دُخُولِ الْجَنَّةِ،فَإِذَا دَخَلَ قِيلَ لَهُ:تَمَنَّ كَذَا وَتَمَنَّ كَذَا،فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِيُّ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ:هُوَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ،قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r ،يَقُولُ:هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ،فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:حَفِظْتُ:هُوَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً."[59]
وعَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِى دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الظُّهْرِ وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ.قَالَ فَصَلُّوا الْعَصْرَ.فَقُمْنَا فَصَلَّيْنَا فَلَمَّا انْصَرَفْنَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -r - يَقُولُ « تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَىِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً ».[60]
وعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ ،أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ لَقِيَ نَاسًا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ فَقَالَ:مِنْ أَيْنَ جَاءَ هَؤُلاَءِ ؟ قَالُوا:خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ الأَمِيرِ مَرْوَانَ قَالَ:وَكُلُّ حَقٍّ رَأَيْتُمُوهُ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ،وَأَعَنْتُمْ عَلَيْهِ،وَكُلُّ مُنْكَرٍ رَأَيْتُمُوهُ أَنْكَرْتُمُوهُ وَرَدَدْتُمُوهُ عَلَيْهِ،قَالُوا:لاَ وَاللَّهِ،بَلْ يَقُولُ:مَا يُنْكَرُ،فَنَقُولُ:قَدْ أَصَبْتَ،أَصْلَحَكَ اللَّهُ،فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ قُلْنَا قَاتَلَهُ اللَّهُ،مَا أَظْلَمَهُ وَأَفْجَرَهُ قَالَ عَبْدُ اللهِ:كُنَّا بِعَهْدِ رَسُولِ اللهِ rنَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا لِمَنْ كَانَ هَكَذَا."[61]
وعن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ،وَهُوَ كَاتَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ r ،وَالزُّبَيْرَ،وَطَلْحَةَ،وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ،فَقَالَ:انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ،فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ،فَخُذُوهُ مِنْهَا،فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا،حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ،فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ،فَقُلْنَا لَهَا:أَخْرِجِي الْكِتَابَ،فَقَالَتْ:مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ،فَقُلْنَا:آللَّهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ،فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا،فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ r ،فَإِذَا فِيهِ:مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ،يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ r ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r :يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟ قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ،وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينِ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ،يَحْمُونَ قَرَابَتَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ،وَلَمْ يَكُنْ لِي قَرَابَةٌ أَحْمِي بِهَا أَهْلِي،فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي وَأَهْلِي،وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ،مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي،وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r :إِنَّ هَذَا قَدْ صَدَقَكُمْ،فَقَالَ عُمَرُ:يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ،فَقَالَ r :إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا،وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ،فَقَالَ:اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ،وَأَنْزَلَ فِيهِ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1) سورة الممتحنة.[62]
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِيَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ rيَقُولُ فِي النَّجْوَى ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ rيَقُولُ: " إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: أَيْ عَبْدِي تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ،وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: إِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا،وَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ الْيَوْمَ.قَالَ: ثُمَّ أُعْطِيَ كِتَابَ حِسَابِهِ،وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: { الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (18) سورة هود"[63]
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ،فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ:يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ:يَا لَلْمُهَاجِرِينَ قَالَ:فَسَمِعَ النَّبِيُّ rذَاكَ،فَقَالَ:مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ،فَقَالَ:دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ،فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبَيِّ ابْنُ سَلُولٍ:قَدْ فَعَلُوهَا،لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ،فَقَالَ عُمَرُ:دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ،فَقَالَ:دَعْهُ،لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ[64]
وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ rفِي سَفَرٍ،أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ،فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ لأَصْحَابِهِ:لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ rحَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ.وَقَالَ:لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ،قَالَ:فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ r ،فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ،فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ،فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ،فَقَالَ:كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللهِ r ،قَالَ:فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ،حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقِي:{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (1) سورة المنافقون،قَالَ:ثُمَّ دَعَاهُمُ النَّبِيُّ rلِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ،قَالَ:فَلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ.وَقَوْلُهُ:(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) وَقَالَ:كَانُوا رِجَالاً أَجْمَلَ شَيْءٍ.[65]
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - r- قَالَ « الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ،وَتُوُلِّىَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ،أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ - r- فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ،أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ - قَالَ النَّبِىُّ - r- فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا - وَأَمَّا الْكَافِرُ - أَوِ الْمُنَافِقُ - فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى،كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ.فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ.ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ،فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ »[66]
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ « هَلْ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِى الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِى سَحَابَةٍ ».قَالُوا لاَ.قَالَ « فَهَلْ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِى سَحَابَةٍ ».قَالُوا لاَ.
قَالَ « فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا - قَالَ - فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أَىْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى.قَالَ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ فَيَقُولُ لاَ.فَيَقُولُ فَإِنِّى أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِى.ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِىَ فَيَقُولُ أَىْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى أَىْ رَبِّ.
فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ فَيَقُولُ لاَ.فَيَقُولُ فَإِنِّى أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِى.ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ.وَيُثْنِى بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ فَيَقُولُ هَا هُنَا إِذًا - قَالَ - ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ.وَيَتَفَكَّرُ فِى نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْهَدُ عَلَىَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ انْطِقِى فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ.وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِى يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ »[67].
وعَنْ عَائِشَةَ،زَوْجِ النَّبِيِّ rحِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا،فَبَرَّأَهَا اللهُ مِنْهُ،فَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ حَدِيثِهَا،وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ،وَأَثْبَتَ لَهَا اقْتِصَاصًا،وَقَدْ وَعَيْتُ مِنْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ،وَبَعْضُهُمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا،وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ،زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ rقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ rإِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ،فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللهِ rمَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا رَسُولُ اللهِ rفِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا،فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجَ بِي رَسُولُ اللهِ rفِي غَزْوَتِهِ تِلْكَ،أَذِنَ اللهُ بِالرَّحِيلِ فَخَرَجْتُ حِينَ أَذَّنُوا بِالرَّحِيلِ،فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ،فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي،فَلَمَسْتُ صَدْرِي،فَإِذَا عِقْدٌ لِي جَزْعِ ظِفَارَ،قَدِ انْقَطَعَ،فَخَرَجْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ،وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي،فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ،وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ،وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ،وَلَمْ يَحْمِلْنَ اللَّحْمَ،إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعَلَقَةَ مِنَ الطَّعَامِ،فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ حَمَلُوهُ،وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ،فَبَعَثُوا الْجَمَلَ فَسَارُوا،فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ،فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ،فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ،وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُوا إِلَيَّ،فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ إِذْ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ،وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ الصَّفْوَانِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ،فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي،فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ،فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي،فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي،وَوَاللهِ مَا كَلَّمْتُهُ كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي،أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا وَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ،وَهَلَكَ فِيَّ مَنْ هَلَكَ،وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبَرَ الْإِفْكِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ،فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَشَكَيْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يَفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ،وَأَنَا لَا أَشْعُرُ بِالشَّيْءِ حَتَّى نَقِهْتُ فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا لَا نَخْرُجُ إِلَيْهَا إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ،وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيوتِنَا،وَإِنَّمَا أَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي الْبَرِّيَّةِ قَبْلَ الْغَائِطِ،وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيوتِنَا،فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأَمُّ مِسْطَحٍ - قِيلَ: يَعْنِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا - وَأَمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ،وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَح