الآية كقوله تعالى: " سبح اسم ربك الاعلى * الذي خلق فسوى * والذى قدر فهدى " أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه.
" قال فما بال القرون الاولى " يقول فرعون لموسى: فإذا كان ربك هو الخالق المقدر الهادى الخلائق لما قدره، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه، فلم عبد الاولون غيره ؟ وأشركوا به من الكواكب والانداد ما قد علمت ؟ فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الاولى ؟ " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى " أي هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك، ولا يدل على خلاف ما أقول لانهم (1) جهلة مثلك، وكل شئ فعلوه مستطر عليهم في الزبر، من صغير وكبير، وسيجزيهم على ذلك ربى عزوجل، ولا يظلم أحدا مثقال ذرة، لان جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شئ ولا ينسى ربي شيئا.
ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الاشياء، وجعله الارض مهادا والسماء سقفا محفوظا، وتسخيره السحاب والامطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم، كما قال: " كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لاولى النهى " أي لذوى العقول الصحيحة المستقيمة، والفطر القويمة غير السقيمة، فهو تعالى الخالق الرازق، وكما قال تعالى: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " (2).
__________
(1) ا: فإنهم.
(2) الآيتان: 21، 22 من سورة البقرة.
(*)
(2/41)
ولما ذكر إحياء الارض بالمطر، واهتزازها بإخراج نباتها فيه نبه به على المعاد فقال: " منها " أي من الارض " خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " كما قال تعالى: " كما بدأكم تعودون " وقال تعالى: " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (1) ".
* * * ثم قال تعالى: " ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى " (2).
يخبر تعالى عن شقاء فرعون وكثرة جهله وقلة عقله، في تكذيبه بآيات الله واستكباره عن اتباعها، وقوله لموسى إن هذا الذي جئت به سحر، ونحن نعارضك بمثله.
ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم ومكان معلوم.
وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام: أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس.
[ ولهذا (3) ] " قال: موعدكم يوم الزينة " وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم " وأن يحشر الناس ضحى " أي من أول النهار في وقت اشتداد ضياء الشمس، فيكون الحق أظهر وأجلى، ولم يطلب أن يكون ذلك ليلا في ظلام، كيما يروج عليهم محالا
__________
(1) الآية 27 من سورة الروم (2) الآيات: 56 - 59 من سورة طه (3) ليست في ا.
(*)
(2/42)
وباطلا، بل طلب أن يكون نهارا جهرة، لانه على بصيرة من ربه، ويقين بأن (1) الله سيظهر كلمته ودينه، وإن رغمت أنوف القبط ! * * * قال الله تعالى " فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى * قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ".
يخبر تعالى عن فرعون أنه فجمع من كان ببلاده (2) من السحرة، وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء، في فنهم غاية، فجمعوا له من كل بلد ومن كل مكان فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير، فقيل: كانوا ثمانين ألفا - قاله محمد بن كعب.
وقيل سبعين ألفا قاله القاسم بن أبي بردة (3)، وقال السدى: بضعة وثلاثين (4) ألفا، وعن أبي أمامة تسعة عشر ألفا، وقال محمد بن إسحق: خمسة عشر ألفا.
وقال كعب الاحبار: كانوا اثنى عشر ألفا.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: كانوا سبعين رجلا، وروى عنه أيضا أنهم كانوا أربعين غلاما من بني إسرائيل، أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء فيتعلموا السحر.
ولهذا قالوا: " وما أكرهتنا عليه من السحر " وفي هذا نظر.
__________
(1) ا: أن.
(2) ا: في بلاده.
(3) ا: ابن أبي بزة.
(4) ا: وثمانين.
(*)
(2/43)
وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بلده عن بكرة أبيهم.
وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم، فخرجوا وهم يقولون: " لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ".
وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة فوعظهم، وزجرهم عن تعاطى السحر الباطل، الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه فقال: " ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم ".
قيل: معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم، فقائل يقول: هذا كلام نبي وليس بساحر، وقائل [ منهم (1) ] يقول: بل هو ساحر: فالله أعلم.
وأسروا التناجي [ بهذ (1) ] وغيره.
" قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما " يقولون: إن هذا وأخاه هرون، ساحران عليمان مطبقان متقنان لهذه الصناعة، ومرادهما أن يجتمع الناس عليهما ويصولا على الملك وحاشيته، ويستأصلاكم عن آخركم، ويستأمرهما عليكم بهذه الصناعة.
" فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى " وإنما قالوا الكلام الاول ليتدبروا ويتواصوا، ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والسحر والبهتان.
وهيهات ! كذبت والله الظنون، وأخطأت الآراء، أنى يعارض البهتان،
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/44)
والسحر والهذيان خوارق العادات التي أجراها الديان، على يدي عبده الكليم، ورسوله الكريم المؤيد بالبرهان، الذي يبهر الابصار وتحار فيه
العقول والاذهان ! وقولهم: " فأجمعوا كيدكم " أي جميع ما عندكم " ثم ائتوا صفا " أي جملة واحدة، ثم حضوا بعضهم بعضا على التقدم في هذا المقام، لان فرعون كان قد وعدهم ومناهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
* * * " قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا، إنما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى ".
لما اصطف السحرة ووقف موسى وهرون عليهما السلام تجاههم - قالوا [ له (1) ] إما أن تلقى قبلنا، وإما أن نلقى قبلك " قال بل ألقوا " أنتم، وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصى، فأودعوها الزئبق وغيره، من الآلات التي تضطرب بسبها تلك الحبال والعصى اضطرابا يخيل للرائى أنها تسعى باختيارها، وإنما تتحرك بسبب ذلك، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وألقوا حبالهم وعصيهم، وهم يقولون: " بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ".
قال الله تعالى: " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/45)
بسحر عظيم ".
وقال تعالى: " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجش في نفسه خيفة موسى " أي خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم، قبل أن يلقى ما في يده، فإنه لا يصنع شيئا قبل أن يؤمر
فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة: " لا تخف إنك أنت الاعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا.
إنما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى " فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال: " ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ".
وقال تعالى: " وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهرون ".
وذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها، صارت حية عظيمة ذات قوائم، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف، وعنق عظيم وشكل هائل مزعج، بحيث إن الناس انحازوا منها وهربوا سراعا، وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه (1) من الحبال والعصى، فجعلت تلقفه واحدا واحدا في أسرع ما يكون من الحركة، والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها، وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم، واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ولا يدخل تحت صناعاتهم (2) وأشغالهم، فعند ذلك وهنالك
__________
(1) ا: على ما أقبلت.
(2) ا: صناعاتهم.
(*)
(2/46)
تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ولا شعوذة (1)، ولا محال ولا خيال، ولا زور ولا بهتان ولا ضلال، بل حق لا يقدر عليه إلا الحق، الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق.
وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة، وأنارها بما خلق فيها من الهدى وأراح عنها القسوة، وأنابوا إلى ربهم
وخروا له ساجدين، وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى: " آمنا برب موسى وهرون " كما قال تعالى: " فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هرون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولاصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها، وذلك جزاء من تزكى ".
قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة (2) والاوزاعي وغيرهم: لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم، وتزخرف لقدومهم ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده.
وذلك لان فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا
__________
(1) ا: شعبذة.
(2) ا: ابن أبي بزة.
(*)
(2/47)
ذكر موسى وهرون في الناس على هذه الصفة الجميلة، أفزعه ذلك، ورأى أمرا بهره، وأعمى بصيرته وبصره، وكان فيه كيد ومكر وخداع، وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله، فقال مخاطبا للسحرة بحضرة الناس: " آمنتم له قبل أن آذن لكم " أي هلا شاورتموني فيما صنعتم من الامر الفظيع بحضرة رعيتي ؟ ! ثم تهدد وتوعد وأبرق وأرعد، وكذب فأبعد قائلا:
" إنه لكبيركم الذي علمكم السحر "، وقال في الآية الاخرى: " إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون ".
وهذا الذي قاله من البهتان [ الذي (1) ] يعلم كل فرد عاقل (2) ما فيه من الكفر والكذب والهذيان، بل لا يروج مثله على الصبيان، فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوما من الدهر، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر ؟ ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم، حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم، واجتباهم من كل فج عميق، وواد سحيق، ومن حواضر بلاد مصر والاطراف، ومن المدن والارياف.
* * * قال الله تعالى في سورة الاعراف: " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين * وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق، قد جئتكم ببينة من ربكم، فأرسل معي بني إسرائيل *
__________
(1) من ا (2) ا: كل عاقل (*)
(2/48)
قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون * قالوا أرجئه (1) وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم * وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين ؟ * قال نعم، وإنكم لمن المقربين * قالوا يا موسى
إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا، فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم * وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهرون * قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم، إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون * لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم أجمعين * قالوا إنا إلى ربنا منقلبون * وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ".
وقال تعالى في سورة يونس: " ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا، وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال
__________
(1) ط: أرجه.
(*) " 4 - قصص الانبياء 2 "
(2/49)
فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر، إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ".
وقال تعالى في سورة الشعراء: " قال لئن اتخذت إلها غيري
لاجعلنك من المسجونين * قال أولو جئتك بشئ مبين ؟ * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملا ؟ ؟ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين ؟ * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهرون * قال آمنتم له قبل آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون * لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ".
والمقصود أن فرعون كذب وافترى وكفر غاية الكفر في قوله:
(2/50)
" إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " وأتى ببهتان يعلمه العالمون بل العالمون في قوله: " إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوق تعلمون "، وقوله: " لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " يعني يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه، " ولاصلبنكم أجمعين " أي ليجعلنهم (1) مثلة ونكالا لئلا يقتدى بهم [ أحد ] (2) من
رعيته وأهل ملته.
ولهذا قال: " ولاصلبنكم في جذوع النخل " أي على جذوع النخل، لانها أعلى وأشهر " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " يعني في الدنيا.
" قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات " أي لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات " والذي فطرنا ".
قيل معطوف، وقيل قسم " فاقض ما أنت قاض " أي فافعل ما قدرت عليه " إنما تقضى هذه الحياة الدنيا " أي إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله " إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى " أي ثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب (3) والترغيب، " وأبقى " أي وأدوم من هذه الدار الفانية.
وفي الآية الاخرى: " قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا " أي ما اجترمناه من المآثم والمحارم " أن كنا أول المؤمنين " أي من القبط، بموسى وهرون عليهما السلام.
__________
(1) ا: ليجعلهم.
(2) سقطت من ا.
(3) ا: الترهيب.
(*)
(2/51)
وقالوا له أيضا: " وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا (1 بما جاءنا به رسولنا، واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا " ربنا أفرغ علينا صبرا " أي ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد، والسلطان الشديد، بل الشيطان المريد، " وتوفنا مسلمين ".
وقالوا أيضا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم: " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا " يقولون له: فإياك أن تكون منهم.
فكان منهم.
" ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى " أي المنازل العالية، " جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى " فاحرص أن تكون منهم فحالت بينه وبين ذلك الاقدار التي لا تغالب ولا تمانع، وحكم العلى العظيم بأن فرعون - لعنه الله - من أهل الجحيم، ليباشر العذاب الاليم، يصب من فوق رأسه الحميم.
ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ، وهو المقبوح المنبوح والذميم اللئيم: " ذق إنك أنت العزيز الكريم ".
والظاهر من هذه السياقات أن فرعون - لعنه الله - صلبهم وعذبهم رضي الله عنهم.
قال عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير: كانوا [ من ] (2) أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة ! ويؤيد هذا قولهم: " ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ".
__________
(1) ا: إلا في إيماننا.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/52)
فصل ولما وقع ما وقع من الامر العظيم، وهو الغلب الذي غلبته القبط في ذلك الموقف الهائل، وأسلم السحرة الذين استنصروا بهم، لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا وبعدا عن الحق.
قال الله تعالى بعد قصص ما تقدم في سورة الاعراف: " وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك ؟ قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون * وقال موسى
لقومه استعينوا بالله واصبروا، إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون ".
يخبر تعالى عن الملا من قوم فرعون، وهم الامراء والكبراء، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى عليه السلام، ومقابلته بدل التصديق بما جاء به، بالكفر والرد والاذى.
قالوا: " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك " يعنون - قبحهم الله - أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهى عن عبادة ما سواه، فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط، لعنهم الله.
وقرأ بعضهم: " ويذرك وإلهتك " أي وعبادتك.
ويحتمل شيئين: أحدهما ويذر دينك، وتقويه القراءة الاخرى.
والثاني: ويذر أن يعبدك، فإنه كما يزعم أنه إله لعنه الله.
(2/53)
" قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم " أي لئلا يكثر مقاتلتهم.
" وإنا فوقهم قاهرون " أي غالبون.
" وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا " [ أي إذا هموا هم بأذيتكم والفتك بكم، فاستعينوا أنتم بربكم واصبروا على بليتكم (1) ] " إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " أي فكونوا أنتم المتقين لتكون لكم العاقبة، كما قال في الآية الاخرى: " وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ".
وقولهم: " قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " أي قد كانت الابناء تقتل قبل مجيئك وبعد مجيئك إلينا، " قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون ".
وقال الله تعالى في سورة حم المؤمن: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب ".
وكان فرعون الملك، وهامان الوزير، وكان قارون إسرائيليا من قوم موسى، إلا أنه كان على دين فرعون وملئه، وكان ذا مال جزيل جدا، كما ستأتي قصته فيما بعد إن شاء الله تعالى.
" فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال " وهذا القتل للغلمان من بعد
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/54)
بعثة موسى إنما كان على وجه الاهانة والاذلال، والتقليل لملا بني إسرائيل (1)، لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها، ويصولون على القبط بسببها وكانت القبط منهم يحذرون، فلم ينفعهم ذلك، ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشئ كن فيكون.
" وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد ".
ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم: " صار فرعون مذكرا ".
وهذا منه، فإن فرعون في زعمه خاف على الناس أن يضلهم موسى عليه السلام ! " وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " أي عذت بالله ولجأت إليه [ واستجرت ] (2) بجنابه (3)، من أن
يسطو فرعون وغيره علي بسوء.
وقوله: " من كل متكبر " أي جبار عنيد لا يرعوى ولا ينتهى، ولا يخاف عذاب الله وعقابه، لانه لا يعتقد معادا ولا جزاء.
ولهذا قال: " من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ".
* * * " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ وإن يك كاذبا فعليه كذبه، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب * يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض، فمن
__________
(1) ا: لبني إسرائيل.
(2) سقطت من المطبوعة.
(3) ا: بجانبه.
(*)
(2/55)
ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ؟ قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ".
وهذا الرجل هو ابن عم فرعون، وكان يكتم إيمانه من قومه خوفا منهم على نفسه.
وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظا ومعنى، والله أعلم.
قال ابن جريج قال ابن عباس: لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا، والذي جاء من أقصى المدينة، وامرأة فرعون.
رواه ابن أبي حاتم.
وقال الدار قطني لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون.
حكاه السهيلي.
وفي تاريخ الطبراني: أن اسمه " خير " فالله أعلم.
والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه، فلما هم فرعون - لعنه الله - بقتل موسى عليه السلام، وعزم على ذلك وشاور ملاه فيه، خاف هذا المؤمن على موسى، فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب، فقال على وجه المشورة والرأي.
وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " وهذا من أعلى مراتب هذا المقام، فإن فرعون لا أشد جورا منه، وهذا الكلام لا أعدل منه !
(2/56)
لان فيه عصمة نبي ويحتمل أنه كاشفهم (1) بإظهار إيمانه، وصرح لهم بما كان يكتمه.
والاول أظهر، والله أعلم.
" قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " أي من أجل أنه قال ربي الله [ فمثل (2) ] هذا لا يقابل بهذا، بل بالاكرام والاحترام أو الموادعة وترك الانتقام.
يعني لانه " قد جاءكم بالبينات من ربكم " أي بالخوارق التي دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله، فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة، لانه " إن يك كاذبا فعليه كذبه " ولا يضركم ذلك " وإن يك صادقا " وقد تعرضتم له " يصبكم بعض الذي يعدكم "، أي وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به، فكيف بكم إن حل جميعه عليكم ؟ وهذا الكلام في هذا المقام، من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام.
وقوله: " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض " يحذرهم أن
يسلبوا هذا الملك العزيز، فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم !.
وكذا وقع لآل فرعون، ما زالوا في شك وريب، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والاملاك والدور والقصور، والنعمة والحبور، ثم حولوا إلى البحر مهانين، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين.
__________
(1) ا: كاشرهم.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/57)
ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق، البار الراشد، التابع للحق، الناصح لقومه، الكامل العقل: " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض " أي عالين على الناس حاكمين عليهم، " فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ؟ " أي لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة، والقوة والشدة لما نفعنا ذلك، ولا رد عنا بأس مالك الممالك.
" قال فرعون " أي في جواب هذا كله: " ما أريكم إلا ما أرى " أي ما أقول لكم إلا ما عندي " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ".
وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين، فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة، وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا وعتوا وكفرانا.
قال الله تعالى إخبارا عن موسى: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر، وإني لاظنك يا فرعون مثبورا * فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا * وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض، فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ".
وقال تعالى: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ".
وأما قوله: " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " فقد كذب أيضا، فإنه لم يكن على رشاد من الامر، بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال،
(2/58)
فكان أولا ممن يعبد الاصنام والامثال، ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه (1) وصدقوه، فيما زعم من الكفر والمحال، في دعواه أنه رب، تعالى الله ذو الجلال ! قال الله تعالى: " ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتي أفلا تبصرون ؟ * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ".
وقال تعالى " فأراه الآية الكبرى * فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الاعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والاولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ".
وقال تعالى: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ".
والمقصود [ بيان (2) ] كذبه في قوله: " ما أريكم إلا ما أرى " وفي قوله:
" وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ".
* * * وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب * مثل
__________
(1) ا: وطاعوه.
(2) سقطت من ا.
(*)
(2/59)
دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وما الله يريد ظلما للعباد * ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم، ومن يضلل الله فماله من هاد * ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به، حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا، كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (1) ".
يحذرهم ولي الله إن كذبوا برسول الله [ موسى (1) ] أن يحل بهم ما حل بالامم من قبلهم، من النقمات والمئلات، مما تواتر عندهم وعند غيرهم، مما حل بقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك، مما أقام به الحجج على أهل الارض قاطبة، في صدق ما جاءت به الانبياء، لما أنزل (2) من النقمة بمكذبيهم من الاعداء، وما أنجى الله من اتبعهم من الاولياء وخوفهم يوم القيامة، وهو يوم التناد، أي حين ينادي الناس بعضهم بعضا، حين يولون إن قدروا على ذلك، ولا إلى ذلك سبيلا " يقول الانسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر " وقال تعالى: " يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان * فبأي آلاء ربكما تكذبان *
يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان ".
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: نزل.
(*)
(2/60)
وقرأ بعضهم: " يوم التناد " بتشديد الدال، أي يوم الفرار.
ويحتمل أن يكون يوم القيامة، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس، فيودون (1) الفرار ولات حين مناص " فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون (2) ".
ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر، وما كان منه من الاحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم.
وهذا من سلالته وذريته، ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته، وأن لا يشركوا به أحدا من بريته، وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان، وأن من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل.
ولهذا قال: " فما زلتم في شك مما جاءكم به، حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا " أي وكذبتم في هذا.
ولهذا قال: " كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم " أي يردون حجج وبراهينه ودلائل توحيده، بلا حجة ولا دليل عندهم من الله، فإن هذا أمر يمقته (3) الله غاية المقت، أي يبغض من تلبس به من الناس، ومن اتصف به من الخلق، " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " قرئ بالاضافة والنعت، وكلاهما متلازم: أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق - ولا تخالفه إلا بلا برهان - فان الله يطبع عليها، أي يختم عليها [ بما فيها (4) ].
* * *
__________
(1) ا: فيريدون.
(2) الآيتان: 12، من سورة الانبياء (3) ا: يمقت الله عليه.
(4) سقط من المطبوعة.
(*)
(2/61)
" وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الاسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ".
كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن الله أرسله، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه في قوله [ لهم (1) ] " ما علمت لكم من إله غيري، فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا ".
وقال هاهنا: " لعلي أبلغ الاسباب أسباب السموات " أي طرقها ومسالكها " فأطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا " ويحتمل هذا معنيين: أحدهما وإني لاظنه كاذبا في قوله إن للعالم ربا غيري، والثاني في دعواه أن الله أرسله.
والاول أشبه بظاهر حال فرعون، فإنه كان ينكر ظاهرا إثبات الصانع والثاني أقرب إلى اللفظ حيث قال: " فأطلع إلى إله موسى " [ أي (1) ] فأسأله هل أرسله أم (2) لا ؟ " وإني لاظنه كاذبا " أي في دعواه ذلك.
وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام، وأن يحثهم على تكذيبه.
قال الله تعالى: " وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل " وقرئ: " وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ".
قال ابن عباس ومجاهد: يقول: إلا في خسار، أي باطل، لا يحصل له شئ من مقصوده الذي رامه، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى
نيل السماء أبدا - أعني السماء الدنيا - فكيف بما بعدها من السموات العلى ؟
__________
(1) ليست في ا (2) ا: أولا (*)
(2/62)
وما فوق ذلك من الارتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عزوجل ؟ وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان [ له (1) ] لم ير بناء أعلى منه، وأنه كان مبنيا من الآجر المشوي بالنار ولهذا قال: " فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا ".
وعند أهل الكتاب: أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شئ مما يحتاجون إليه فيه، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه، ويطلب منهم كل يوم قسط معين، إن لم يفعلوه ضربوا (2) وأهينوا غاية الاهانة وأوذوا غاية الاذية.
ولهذا قالوا لموسى: " أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعلمون ".
فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط، وكذلك وقع، وهذا من دلائل النبوة.
* * * ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه.
قال الله تعالى: " وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار * من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ".
يدعوهم رضي الله عنه إلى طريق الرشاد الحق، وهي متابعة نبي الله
موسى وتصديقه فيما جاء به من عند ربه.
ثم زهدهم في الدنيا الدنية [ الفانية (3) ]
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: وإلا ضربوا.
(3) سقطت من ا.
(*)
(2/63)
المنقضية لا محالة، ورغبهم في طلب الثواب عند الله الذي لا يضيع عمل عامل لديه، القدير الذي ملكوت كل شئ بيديه.
الذي يعطي على القليل كثيرا، ومن عدله لا يجازي على السيئة إلا مثلها، وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار، التي من وافاها - مؤمنا قد عمل الصالحات - فله الدرجات (1) العاليات، والغرف الآمنات، والخيرات الكثيرة الفائقات، والارزاق الدائمة التي لا تبيد، والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد.
ثم شرع في إبطال ما هم عليه، وتخويفهم مما يصيرون إليه، فقال: " ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لاكفر بالله واشرك به ما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، وأن مردنا إلى الله، وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ".
كان يدعوهم إلى عبادة رب السموات والارض، الذي يقول للشئ كن فيكون، وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون ! ولهذا قال لهم على سبيل الانكار: " ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ".
__________
(1) ط: فلهم الجنات العاليات.
(*)
(2/64)
ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الانداد والاوثان، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار (1)، فقال: " لا جرم أن تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار " أي لا تملك تصرفا ولا حكما في هذه الدار، فكيف تملكه يوم القرار ؟ وأما الله عزوجل فإنه الخالق الرازق للابرار والفجار، وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم، فيدخل طائعهم الجنة، وعاصيهم إلى النار.
ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله: " فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " قال الله: " فوقاه الله سيئات ما مكروا " أي بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله، ومكرهم في صدهم عن سبيل الله، مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات، التي ألبسوا (2) بها على عوامهم وطغامهم.
ولهذا قال: " وحاق " أي أحاط " بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " أي تعرض أرواحهم في برزخهم صباحا ومساء على النار.
" ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ".
وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في التفسير، ولله الحمد.
* * * والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم، وإرسال الرسول إليهم، وإزاحة الشبه عنهم، وأخذ الحجة عليهم منهم،
__________
(1) ا: لا تملك نفعا ولا ضرا.
(2) ا: ليسوا.
(*) (م 5 - قصص الانبياء 2)
(2/65)
بالترهيب (1) تارة والترغيب أخرى، كما قال تعالى: " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون و [ هم ] (2) قومه من القبط، بالسنين وهي أعوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع.
وقوله: " ونقص من الثمرات " وهي قلة الثمار من الاشجار " لعلهم يذكرون " أي فلم ينتفعوا ولم يرتدعوا، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم.
" فإذا جاءتهم الحسنة " والخصب ونحوه " قالوا لنا هذه " أي هذا الذي نستحقه، وهذا الذي يليق بنا " وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " أي يقولون هذا بشؤمهم أصابنا هذا، ولا يقولون في الاول إنه ببركتهم وحسن مجاورتهم [ لهم (3) ] ولكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق، إذا جاء الشر أسندوه إليه، وإن رأوا خيرا ادعوه لانفسهم.
قال الله تعالى: " ألا إنما طائرهم عند الله " أي [ الله (3) ] يجزيهم على هذا أوفر الجزاء.
" ولكن أكثرهم لا يعلمون ".
" وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين " أي مهما جئتنا به من الآيات - وهي الخوارق للعادات - فلسنا نؤمن بك
__________
(1) ا: فبالترهيب (2) من ا.
(3) ليست في ا.
(*)
(2/66)
ولا نتبعك ولا نطيعك، ولو جئتنا بكل آية.
وهكذا أخبر الله عنهم في قوله: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم ".
قال الله تعالى: " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " أما الطوفان فعن ابن عباس: هو كثرة الامطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والسدى [ والضحاك (1) ] وعن ابن عباس وعطاء: هو كثرة الموت، وقال مجاهد: الطوفان الماء والطاعون على كل حال، وعن ابن عباس: أمر طاف بهم.
وقد روى ابن جرير وابن مردويه من طريق يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن الحجاج، عن الحكم بن ميناء، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه قال (1) ]: " الطوفان الموت " وهو غريب.
وأما الجراد فمعروف، وقد روى أبو داود عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي، قال: سئل رسول الله عن الجراد، فقال: " أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه ".
وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له، كما ترك أكل الضب، وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد.
وقد تكلمنا على ما ورد فيه من الاحاديث والآثار في التفسير.
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/67)
والمقصود أنه استاق خضراءهم فلم يترك لهم زرعا ولا ثمارا ولا سبدا ولا لبدا (1).
وأما القمل فعن ابن عباس: هو السوس الذي يخرج من (2) الحنطة.
وعنه أنه الجراد الصغار الذي لا أجنحة له، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة.
وقال سعيد بن جبير والحسن: هو دواب سود صغار.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم القمل (3) [ هي (4) ] البراغيث.
وحكى ابن جرير عن أهل العربية: أنها الحمنان وهو صغار القردان فوق القمامة (5) فدخل معهم البيوت والفرش، قلم يقر لهم قرار، ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش.
وفسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف.
وقرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف.
وأما الضفادع فمعروفة، لبستهم حتى كانت تسقط في أطعمتهم وأوانيهم.
حتى إن أحدهم إذا فتح فاه (6) لطعام أو شراب سقطت فيه ضفدعة من تلك الضفادع.
وأما الدم فكان قد مزج ماؤهم كله [ به (7) ] فلا يستقون من النيل شيئا إلا وجدوه دما عبيطا (8)، ولا من نهر ولا بئر ولا شئ إلا كان دما في الساعة الراهنة.
هذا كله ولم ينل بني إسرائيل من ذلك شئ بالكلية.
وهذا من تمام المعجزة الباهرة، والحجة القاطعة، أن هذا كله يحصل لهم عن (9)
__________
(1) السبد: القليل.
واللبد: الكثير.
(2) ا: في.
(3) ليست في ا.
(4) من ا.
(5) ط: القمقامة، وهي صغار القردان.
(6) ط: فمه.
(7) ليست في ا (8) الدم العبيط: الطرى.
(9) ط: من فعل موسى.
(*)
(2/68)
فعل موسى عليه السلام، فينالهم عن آخرهم، ولا يحصل هذا لاحد من بني إسرائيل، وفي هذا أدل دليل.
* * * قال محمد بن إسحق: فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا، ثم أبى إلا الاقامة على الكفر والتمادى في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، فأخذه بالسنين: فأرسل عليه الطوفان [ ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات، فأرسل الطوفان (1) ] - وهو الماء - ففاض على وجه الارض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعا.
فلما بلغهم ذلك " قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ".
فدعا موسى ربه فكشفه عنهم.
فلما لم يفوا له بشئ [ مما قالوا (1) ] أرسل الله عليهم الجراد، فأكل الشجر فيما بلغني، حتى إن كان ليأكل مسامير الابواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل، فذكر لي أن موسى عليه السلام، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم، فضربه بها، فانثال عليهم قملا، حتى غلب على البيوت والاطعمة، ومنعهم النوم والقرار
__________
(1) سقط من ا (*)
(2/69)
فلما جهدهم قالوا [ له (1) ] مثل ما قالوا له، فدعا ربه فكشف عنهم فلم (2) يفوا له بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملات
البيوت والاطعمة والآنية، فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما، إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه.
فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دما، لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا يغترفون من إناء، إلا عاد دما عبيطا.
وقال زيد بن أسلم: المراد بالدم الرعاف، رواه ابن أبي حاتم.
* * * قال الله تعالى: " ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون * فانتقمنا منهم فأغرقناهم، في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ".
يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل، والاستكبار عن اتباع آيات الله، وتصديق رسوله، مع ما أيده به من الآيات العظيمة الباهرة، والحجج البليغة القاهرة، التي أراهم الله إياها عيانا، وجعلها عليهم دليلا وبرهانا.
وكلما شاهدوا آية وعاينوها، وجهدهم وأضنكهم، حلفوا وعاهدوا
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ط: فلما لم يفوا له بشئ مما قالوا أرسل الله عليهم.
(*)
(2/70)
موسى لئن كشف (1) عنهم هذه ليؤمنن به، وليرسلن معه من هو من حزبه، فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه،
وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ولم يلتفتوا إليه، فيرسل الله عليهم آية أخرى هي أشد مما كانت قبلها وأقوى، فيقولون ويكذبون (2)، ويعدون ولا يفون: " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل، ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل.
هذا، والعظيم الحليم القدير، ينظرهم ولا يعجل عليهم، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم.
ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم، والاعذار (3) إليهم، أخذ عزيز مقتدر، فجعلهم عبرة ونكالا وسلفا لمن أشبههم من الكافرين، ومثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين.
كما قال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين، في سورة حم والكتاب المبين: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين * فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون * وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها، وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون * فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون * ونادى فرعون في قومه، قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي ؟ أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقى عليه
__________
(1) ا: كشفت.
(2) ط: فيكذبون.
(3) ط: والانذار.
(*)
(2/71)
أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ".
يذكر تعالى إرساله عبده الكليم [ الكريم (1) ] إلى فرعون الخسيس اللئيم، وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات، تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق، وأن يرتدعوا عماهم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم، فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزئون، وعن سبيل الله يصدون وعن الحق ينصرفون (2).
فأرسل الله عليهم الآيات تترى يتبع بعضها بعضا، وكل آية أكبر من التي تتلوها، لان التوكيد أبلغ مما قبله.
" وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون " لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصا ولا عيبا، لان علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة، ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه، وضراعتهم لديه، قال الله تعالى: " فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ".
[ ثم (1) ] خبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه، وعظمة بلده وحسنها، وتخرق الانهار فيها، وهي الخلجانات التي يكسرونها أيام (3) زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته، وأخذ يتنقص رسول الله موسى عليه السلام، ويزدريه بكونه " لا يكاد يبين " يعني كلامه، بسبب ما كان في لسانه من [ بقية تلك (1) ] اللثغة، التي هي شرف له وكمال وجمال، ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى وأوحى إليه، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه.
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: يصدون.
(3) ط: أمام.
(*)
(2/72)
وتنقصه فرعون - لعنه الله - بكونه لا أساور في يديه، ولا زينة عليه ! وإنما ذلك من حلية النساء، لا يليق بشهامة الرجال، فكيف بالرسل الذين هم أكمل (1) عقلا، وأتم معرفة، وأعلى همة وأزهد في الدنيا، وأعلم
بما أعد الله لاوليائه في الاخرى ؟ وقوله: " أو جاء معه الملائكة مقترنين " لا يحتاج الامر إلى ذلك، فإن كان المراد (2) أن تعظمه الملائكة فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى عليه السلام بكثير، كما جاء في الحديث: " إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع " فيكف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم ! وإن كان (3) المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوي الالباب، ولمن قصد إلى الحق والصواب، ويعمى عما جاء به من البينات والحجج والواضحات من نظر إلى القشور، وترك لب اللباب، وطبع على قلبه رب الارباب، وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب، كما هو حال فرعون القبطى العمي الكذاب.
* * * قال الله تعالى: " فاستخف قومه فأطاعوه " أي استخف عقولهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية، لعنه الله وقبحهم " إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا " أي أغضبونا " انتقمنا منهم " أي بالغرق والاهانة وسلب العز، والتبدل بالذل وبالعذاب بعد النعمة،
__________
(1) ا: أتم.
(2) ا: إن كان إنما المراد.
(3) وإن كان إنما.
(*)
(2/73)
والهوان بعد الرفاهية، والنار بعد طيب العيش، عياذا بالله العظيم، وسلطانه القديم [ من ذلك (1) ].
" فجعلناهم سلفا " أي لمن اتبعهم في الصفات " ومثلا " أي لمن اتعظ بهم وخاف من وبيل مصرعهم، ممن بلغه جلية خبرهم وما كان من أمرهم،
كما قال الله تعالى: " فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين * وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون * وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لاظنه من الكاذبين * واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق وظنو أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين " (2).
يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق، وادعى ملكهم الباطل ووافقوه عليه وأطاعوه فيه، اشتد غضب الرب القدير العزيز، الذي لا يغالب ولا يمانع عليهم، فانتقم منهم أشد الانتقام، وأغرقه هو وجنوده في صبيحة واحدة فلم يفلت منهم أحد، ولم يبق منهم ديار، بل كل قد غرق فدخل النار، وأتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين، ويوم القيامة بئس الرفد المرفود، ويوم القيامة هم من المقبوحين.
__________
(1) ليست في ا (2) الآيات 36 - 41 من سورة القصص (*)
(2/74)
ذكر هلاك فرعون وجنوده لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم، متابعة لملكهم فرعون، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الابصار وحير العقول، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون،
ولا ينزعون ولا يرجعون.
ولم يؤمن منهم إلا القليل.
قيل ثلاثة: وهم امرأة فرعون، ولا علم لاهل الكتاب بخبرها، ومؤمن آل فرعون الذي تقدمت حكاية موعظته ومشورته وحجته عليهم، والرجل الناصح الذي جاء يسعى من أقصى المدينة، فقال: " يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ".
قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه [ ومراده غير السحرة، فإنهم كانوا من القبط (1) ].
وقيل بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون، والسحرة كلهم وجميع شعب بني إسرائيل.
ويدل على هذا قوله تعالى: " فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين (2) ".
فالضمير في قوله: " إلا ذرية من قومه " عائد على فرعون لان السياق يدل عليه، وقيل على موسى لقربه، والاول أظهر كما هو مقرر في التفسير
__________
(1) سقطت من ا.
(2) الآية: 83 من سورة يونس.
(*)
(2/75)
وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته، وجبروته وسلطته، ومن ملئهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم.
قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيدا: " وإن فرعون لعال في الارض " أي جبار عنيد مشتغل بغير الحق، " وإنه لمن المسرفين " أي في جميع أموره وشئونه وأحواله.
ولكنه جرثومة قد حان انجعافها (1) وثمرة خبيثة قد آن قطافها، ومهجة ملعونة قد حتم إتلافها.
وعند ذلك قال موسى: " يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن
كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين " فأمرهم بالتوكل على الله، والاستعانة به، والالتجاء إليه، فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا.
" وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ".
أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط، ليكونوا على أهبة الرحيل إذا أمروا به، ليعرف بعضهم بيوت بعض.
وقوله: " واجعلوا بيوتكم قبلة ".
قيل مساجد، وقيل معناه كثرة الصلاة فيها.
قاله مجاهد وأبو مالك وإبراهيم النخعي والربيع والضحاك وزيد ابن أسلم وابنه عبد الرحمن وغيرهم.
__________
(1) الانجعاف: الاقتلاع والاستئصال.
(*)
(2/76)
ومعناه على هذا: الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة [ الصلاة ] (1)، كما قال تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة "، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
وقيل معناه: أنهم لم يكونوا [ حينئذ ] (1) يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ومعابدهم، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، عوضا عما فاتهم من إظهار شعائر الدين الحق في ذلك الزمان، الذي اقتضى حالهم إخفاءه خوفا من فرعون وملئه والمعنى الاول أقوى لقوله: " وبشر المؤمنين ".
وإن كان لا ينافي الثاني أيضا والله أعلم.
وقال سعيد بن جبير: " واجعلوا بيوتكم قبلة ": أي متقابلة.
* * * " وقال موسى: ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " (2).
هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون، غضبا لله [ عليه ] (1) لتكبره عن اتباع الحق، وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده، واستمراره على الباطل، ومكابرته الحق الواضح الجلى الحسى والمعنوي، والبرهان القطعي، فقال: " ربنا إنك آتيت فرعون وملاه " [ يعني قومه من القبط، ومن كان على ملته ودان بدينه (3) ]
__________
(1) سقطت من ا.
(2) سورة يونس 88، 89.
(3) ليست في ا.
(*)
(2/77)
" زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك " أي وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا، فيحسب الجاهل أنهم على شئ، لكن هذه الاموال وهذه الزينة، من اللباس والمراكب الحسنة الهنية، والدور الانيقة والقصور المبنية، والمآكل الشهية والمناظر البهية، والملك العزيز والتمكين، والجاه العريض في الدنيا لا الدين.
" ربنا اطمس على أموالهم "، قال ابن عباس ومجاهد: أي أهلكها.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والضحاك: اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت، وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة وقال محمد بن كعب: جعل سكرهم حجارة، وقال أيضا: صارت أموالهم كلها حجارة ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له [ قم (1) ]
ائتنى بكيس.
فجاءه بكيس، فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة ! رواه ابن أبي حاتم.
وقوله " واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم " قال ابن عباس: أي اطبع عليها.
وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه.
فاستجاب الله تعالى لها (2)، وحققها وتقبلها، كما استجاب لنوح في قومه حيث قال: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " ولهذا قال تعالى، مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملئه، وأمن أخوه هارون على دعائه
__________
(1) ليست في: ا (2) ا: لهما.
(*)
(2/78)
فنزل ذلك منزلة الداعي أيضا: " قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ".
* * * قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له، وإنما كان في نفس الارض (1) مكيدة بفرعون وجنوده، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم.
وأمرهم الله تعالى - فيما ذكره أهل الكتاب - أن يستعيروا حليا منهم، فأعاروهم شيئا كثيرا، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد الشام.
فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم.
قال الله تعالى: " وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون * فأرسل فرعون في المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل * فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى
__________
(1) كذا ولعلها: في نفس الامر.
(*)
(2/79)
ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " (1).
قال علماء التفسير: لما ركب فرعون في جنوده طالبا بني إسرائيل يقفو أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم، حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف، فالله أعلم.
وقيل إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية، وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستا وعشرين سنة شمسية.
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود، فأدركهم عند شروق الشمس، وتراءى الجمعان، ولم يبق ثم ريب ولا لبس، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة (2) والمحاماة.
فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون: " إنا لمدركون " وذلك لانهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه،
وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة، وفرعون قد غالقهم وواجههم، وعاينوه في جنوده وجيوشه (3) وعدده وعدده، وهم منه في غاية الخوف والذعر، لما قاسوا في سلطانه من الاهانة والمكر (4).
فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه.
فقال لهم
__________
(1) الآيات.
52 - 68 من سورة الشعراء (2) ا: والمحاولة.
(3) ا: في جيوشه وجنوده.
(4) ا: والمنكر (*)
(2/80)
الرسول الصادق المصدوق: " كلا إن معي ربي سيهدين " وكان في الساقة، فتقدم إلى المقدمة، ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه، وهو يقول: ها هنا أمرت.
ومعه أخوه هرون، ويوشع ابن نون، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار، وقد أوحى الله إليه وجعله نبيا بعد موسى وهرون عليهما السلام، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله، ومعهم [ أيضا (1) ] مؤمن آل فرعون، وهم وقوف، وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف.
ويقال إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر، هل يمكن سلوكه ؟ فلا يمكن، ويقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله هاهنا أمرت ؟ فيقول: نعم.
فلما تفاقم الامر وضاق الحال واشتد الامر، واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم، وغضبهم وحنقهم، وزاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر، عند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير، رب العرش الكريم، إلى موسى الكليم: " أن اضرب بعصاك البحر ".
فلما
ضربه، يقال إنه قال له: انفلق بإذن الله.
ويقال: إنه كناه بأبي خالد، فالله أعلم.
قال الله تعالى: " فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ".
ويقال إنه انفلق اثنى عشر طريقا، لكل سبط طريق يسيرون فيه، حتى قيل إنه صار فيه أيضا
__________
(1) ليست في ا.
(*) (6 - قصص الانبياء 2)
(2/81)
شبابيك ليرى بعضهم بعضا ! وفي هذا نظر، لان الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه.
وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال، مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشئ كن فيكون، وأمر الله تعالى ريح الدبور فلفحت حال (1) البحر فأذهبته، حتى صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب.
قال الله تعالى: ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا * لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى (2) " والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال، بإذن الرب العظيم الشديد المحال، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين، وقد شاهدوا من الامر العظيم ما يحير الناظرين.
ويهدى قلوب المؤمنين.
فلما جازوه (3) وجاوزوه وخرج آخرهم منه، وانفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه،
ووفودهم عليه.
فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما (4) كان عليه، لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه، ولا سبيل عليه، فأمره (5) القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال وهو
__________
(1) الحال: الطين الاسود.
(2) الآيات: 77 - 79 من سورة طه.
(3) المطبوعة: جاوزوه.
محرفة.
(4) ا: عما (5) ا: فأمر (*)
(2/82)
الصادق في المقال: " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين * وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون * فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون * فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون * واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون * كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين * ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين * وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين (1) ".
فقوله تعالى: " واترك البحر رهوا " أي ساكنا على هيئته، لا تغيره عن هذه الصفة.
قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الاحبار وسماك بن حرب و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم.
فلما تركه على هيئته وحالته (2) وانتهى فرعون، فرأى ما رأى وعاين
ما عاين، هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم، فأحجم ولم يتقدم، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم، لكنه أظهر لجنوده تجلدا وعاملهم معاملة العدا، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على
__________
(1) الآيات: 17 - 23 من سورة الدخان.
(2) ا: وحاله.
(*)
(2/83)
أن قال لمن استخفهم فأطاعوه، وعلى باطله تابعوه (1): انظروا كيف انحسر [ البحر (2) ] لي لادرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين على (3) طاعتي وبلدي ؟ وجعل يورى في نفسه أن يذهب خلفهم، ويرجو أن ينجو وهيهات، ويقدم تارة ويحجم تارات ! فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة حائل (4) فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله، فحمحم إليها وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه فاقتحم البحر، واستبق الجواد وقد أجاد، فبادر مسرعا، هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضرا ولا نفعا، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين، حتى هم أولهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر.
فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان، فلم ينج منهم إنسان.
قال الله تعالى: " وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
" أي في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد، آية عظيمة، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة، وصدق
رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة، والمناهج المستقيمة.
وقال تعالى: " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده
__________
(1) ا: بايعوه.
(2) سقطت من.
(3) ا: عن طاعتي.
(4) الرمكة: الفرس.
والحائل: التي لم تلقح.
(*)
(2/84)
بغيا وعدوا، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ".
يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط، وأنه لما جعلت الامواج تخفضه تارة وترفعه أخرى (1)، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده، ماذا أحل الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم، ليكون أقر لاعين بني إسرائيل، وأشقى لنفوسهم.
فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به، وباشر سكرات الموت أناب حينئذ وتاب، وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها، كما قال تعالى: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم (2) ".
وقال تعالى: " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (3) ".
وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه، أن يطمس على أموالهم، ويشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم، أي حين لا ينفعهم ذلك، ويكون حسرة عليهم.
وقد قال تعالى لهما - أي لموسى وهرون - حين
دعوا بهذا: " قد أجيبت دعوتكما " فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هرون عليهما السلام.
__________
(1) ا: ترفعه تارة وتخفضه أخرى.
(2) سورة يونس 96، 97 (3) سورة غافر 84، 85.
(*)
(2/85)
ومن ذلك الحديث الذي رواه الامام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمه، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما قال فرعون: " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل " قال لي جبريل: لو رأيتنى وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه، مخافة أن تناله الرحمة ! ".
ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عند هذه الآية من حديث حماد بن سلمة، وقال الترمذي حديث حسن.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عدى بن ثابت، وعطاء ابن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تناله (1) الرحمة ".
ورواه الترمذي وابن جرير من حديث شعبة، وقال الترمذي حسن غريب صحيح وأشار ابن جرير في رواية إلى وقفه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثنا أبو خالد الاحمر، عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته: " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل " قال فخاف جبريل أن تسبق
رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه، فيضرب به وجهه فيرمسه (2).
ورواه ابن جرير من حديث أبي خالد به.
__________
(1) ا: أن تدركه (2) يرمسه: يدفنه (*)
(2/86)
وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان وليس بمعروف (1)، وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل عليه السلام: يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له ! " يعني فرعون.
وقد أرسله غير واحد من السلف كإبراهيم التيمي وقتادة وميمون بن مهران، ويقال إن الضحاك بن قيس خطب به الناس، وفي بعض الروايات أن جبريل قال: ما بغضت أحدا بغضى لفرعون حين قال: " أنا ربكم الاعلى " ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال.
وقوله تعالى: " الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " استفهام إنكار، ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك، لانه - والله أعلم - لو رد إلى الدنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه، كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا النار وشاهدوها أنهم يقولون: " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " قال الله: " بل بدالهم ما كانوا يخفون من قبل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ".
وقوله " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ": قال ابن عباس وغير واحد: شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون، حتى قال بعضهم إنه لا يموت، فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع، قيل على وجه الماء، وقيل على نجوة من الارض، وعليه درعه التي يعرفونها
__________
(1) ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 3 / 403 وقال: له حديث منكر.
قال أبو زرعة وأبو حاتم: مجهول.
وقال ابن معين: لا أعرفه.
(*)
(2/87)
من ملابسه، ليتحققوا بذلك هلاكه، ويعلموا قدرة الله عليه.
ولهذا قال: " فاليوم ننجيك ببدنك " أي مصاحبا درعك المعروفة بك، " لتكون " أي أنت آية " لمن خلفك " أي من بني إسرائيل، ودليلا على قدرة الله الذي أهلكك، ولهذا قرأ بعض السلف: " لتكون لمن خلقك آية ".
ويحتمل أن يكون المراد: ننجيك بجسدك مصاحبا درعك، لتكون علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وأنك هلكت، والله أعلم.
وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء.
كما قال الامام البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: " ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ " فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " أنتم أحق بموسى [ منهم (1) ] فصوموا ".
وأصل هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما.
والله أعلم.
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/88)
فصل فيما كان من أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون قال الله تعالى: " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين * وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض
ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون * وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كمالهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين * وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (1) " يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده في غرقهم، وكيف سلبهم عزهم وما لهم وأنفسهم، وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم، كما قال: " كذلك وأورثناها بني إسرائيل (2) " وقال: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (3) " وقال هاهنا: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ".
__________
(1) سورة الاعراف 136 - 141.
(2) الآية: 59 من سورة الشعراء.
(3) الآية: 5 من سورة القصص.
(*)
(2/89)
أي أهلك ذلك جميعه، وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا، وهلك الملك وحاشيته وأمراؤه وجنوده، ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا.
ذكر ابن عبد الحكم في تاريخ مصر: أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر (1) على رجالها، بسبب أن نساء الامراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة، فكانت لهن السطوة عليهم.
واستمرت هذه
سنة نساء مصر إلى يومنا (2) هذا ! وعند أهل الكتاب: أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر جعل الله ذلك الشهر أول سنتهم وأمروا أن يذبح كل أهل بيت حملا من الغنم، فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل فليشترك الجار وجاره فيه.
فإذا ذبحوه فلينضحوا من دمه على أعتاب أبوابهم، ليكون علامة لهم على بيوتهم، ولا يأكلونه مطبوخا، ولكن مشويا برأسه وأكارعه وبطنه، ولا يبقوا منه شيئا، ولا يكسروا له عظما، ولا يخرجوا منه شيئا إلى خارج بيوتهم.
وليكن خبزهم فطيرا سبعة أيام، ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الاول من سنتهم، وكان ذلك في فصل الربيع فإذا أكلوا فلتكن أوساطهم مشدودة، وخفافهم في أرجلهم، وعصيهم في أيديهم، وليأكلوا بسرعة قياما، ومهما فضل عن عشائهم فما بقى إلى الغد فليحرقوه بالنار.
وشرع لهم هذا عيدا لاعقابهم ما دامت التوراة معمولا بها، فإذا نسخت بطل شرعها.
وقد وقع.
قالوا: وقتل الله عزوجل في تلك الليلة أبكار القبط وأبكار دوابهم،
__________
(1) المطبوعة: مصرى.
محرفة.
(2) ا: إلى يومك هذا.
(*)
(2/90)
ليشتغلوا عنهم.
وخرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار، وأهل مصر في مناحة عظيمة على أبكار أولادهم وأبكار أموالهم، ليس من بيت إلا وفيه عويل.
وحين جاء الوحي إلى موسى خرجوا مسرعين، فحملوا العجين قبل اختماره، وحملوا الازواد في الاردية وألقوها على عواتقهم، وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا، فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل
سوى الذرارى بما معهم من الانعام، وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة.
هذا نص كتابهم.
وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ، وهذا العيد عيد الفسخ، ولهم عيد الفطر (1)، وعيد الحمل وهو أول السنة، وهذه الاعياد الثلاثة آكد أعيادهم، منصوص عليها في كتابهم.
ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، وخرجوا على طريق بحر سوف (2)، وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم فيه عمود نور، والليل أمامهم عمود نار، فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر فنزلوا هنالك، وأدركهم فرعون وجنوده من المصريين، وهم هناك حلول على شاطئ اليم، فقلق كثير من بني إسرائيل، حتى قال قائلهم: كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية.
فقال موسى عليه السلام لمن قال هذه المقالة: لا تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا.
__________
(1) ط: الفطير.
(2) ا: بحر سون.
(*)
(2/91)
قالوا: وأمر الله موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، وأن يقسمه ليدخل بنو إسرائيل في البحر واليبس.
وصار الماء من هاهنا وهاهنا كالجبلين، وصار وسطه يبسا، لان الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم.
فجاز بنو إسرائيل البحر وأتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه، فرجع الماء كما كان عليهم لكن عند أهل الكتاب: أن هذا كان في الليل، وأن البحر ارتطم عليهم عند الصبح.
وهذا من غلطهم وعدم فهمهم في تعريبهم، والله أعلم.
قالوا: ولما أغرق الله فرعون وجنوده حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب، وقالوا: " نسبح الرب [ البهي (1) ]، الذي قهر الجنود، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود " وهو تسبيح طويل.
قالوا وأخذت مريم النبية - أخت هارون - دفا بيدها، وخرج النساء في أثرها كلهن بدفوف وطبول.
وجعلت مريم ترتل لهن وتقول: سبحان الرب القهار، الذي قهر الخيول وركبانها إلقاء في البحر.
هكذا رأيته في كتابهم.
ولعل هذا [ هو من (1) ] الذي حمل محمد ابن كعب القرظى على زعمه: أن مريم بنت عمران أم عيسى، هي أخت هرون وموسى، مع قوله: " يا أخت هرون ".
وقد بينا غلطه في ذلك، وأن هذا لا يمكن أن يقال، ولم يتابعه أحد عليه، بل كل واحد (2) خالفه فيه.
ولو قدر أن هذا محفوظ،
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: كل أحد.
(*)
(2/92)
فهذه مريم بنت عمران أخت موسى وهرون عليهما السلام.
وأم عيسى عليها السلام وافقتها في الاسم واسم الاب واسم الاخ، لانهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة، لما سأله أهل نجران عن قوله: يا أخت هرون فلم يدر ما يقول لهم، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم " رواه مسلم.
وقولهم: " النبية " كما يقال للمرأة من بيت الملك ملكة، ومن بيت الامرة أميرة، وإن لم تكن مباشرة [ شيئا ] (1) من ذلك، فكذا
هذه استعارة لها، لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها.
وضربها بالدف في مثل هذا اليوم الذي هو أعظم الاعياد عندهم دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد، وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء، لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة يضربان بالدف في أيام منى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع مول ظهره إليهم، ووجهه إلى الحائط فلما دخل أبو بكر زجرهن وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: " دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا ".
وهكذا يشرع عندنا في الاعراس ولقدوم الغياب، كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم.
وذكروا أنهم لما جازوا البحر وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام مكثوا
__________
(1) سقطت من ا (*)
(2/93)
ثلاثة أيام لا يجدون ماء، فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك، فوجدوا ماء زعافا أجاجا لم يستطيعوا شربه، فأمر الله موسى فأخذ خشبة فوضعها فيه، فحلا وساغ شربه.
وعلمه الرب هنالك فرائض وسننا، ووصاه وصايا كثيرة.
* * * وقد قال الله تعالى في كتابه [ العزيز (1) ] المهيمن على ما عداه من الكتب: " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ماهم فيه، وباطل ما كانوا يعملون (2) " قالوا هذا الجهل والضلال، وقد عاينوا من آيات الله وقدرته، ما دلهم
على صدق ما جاءهم به رسول ذي الجلال [ والاكرام (3) ] وذلك أنهم مروا على قوم يعبدون أصناما، قيل كانت على صور البقر، فكأنهم سألوهم: لم يعبدونها ؟ فزعموا لهم أنها تنفعهم وتضرهم، ويسترزقون بها عند الضرورات، فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك، فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم، أن يجعل لهم آلهة كما لاولئك آلهة، فقال لهم مبينا لهم أنهم لا يعقلون ولا يهتدون: " إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ".
ثم ذكرهم نعمة الله عليهم، في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم والشرع، والرسول الذي بين أظهرهم، وما أحسن به إليهم وما
__________
(1) ليست في ا (2) سورة الاعراف 138، 139.
(3) سقطت من ا.
(*)
(2/94)
امتن به عليهم من إنجائهم من قبضة فرعون الجبار العنيد، وإهلاكه إياه وهم ينظرون، وتوريثه إياهم ماكان فرعون وملؤه يجمعونه من الاموال والسعادة، وما كانوا يعرشون، وبين لهم أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده لا شريك له، لانه الخالق الرازق القهار، وليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال، بل [ هذا (1) ] الضمير عائد على الجنس في قوله: " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " أي قال بعضهم كما في قوله: " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا (2) " فالذين زعموا هذا بعض الناس لاكلهم.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الديلى عن أبي واقد الليثى، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط.
وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر ! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنكم تركبون سنن الذين [ من (3) ] قبلكم " ورواه النسائي عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق به.
ورواه الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومى، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري به، ثم قال: حسن صحيح.
__________
(1) سقطت من ا.
(2) سورة الكهف 47، 48.
(3) ليست في ا.
(*)
(2/95)
وقد روى ابن جرير من حديث محمد بن إسحق ومعمر وعقيل، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثى، أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها " ذات أنواط " قال فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
قال: " قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ماهم فيه وباطل ما كانوا يعملون " * * * والمقصود أن موسى عليه السلام، لما انفصل من بلاد مصر وواجه
بلاد بيت المقدس وجد فيها قوما من الجبارين، من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين وغيرهم.
فأمرهم موسى عليه السلام بالدخول عليهم ومقاتلتهم، وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس، فإن الله كتبه لهم، ووعدهم إياه على لسان إبراهيم الخليل، وموسى الكليم الجليل، فأبوا ونكلوا عن الجهاد، فسلط الله عليهم الخوف، وألقاهم في التيه، يسيرون ويحلون ويرتحلون ويذهبون ويجيئون، في مدة من السنين طويلة هي من العدد أربعون، كما قال الله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا، وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين * يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين *
(2/96)
قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون * وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون * قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين (1) ".
يذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم بالنعم الدينية والدنيوية، ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله ومقاتلة أعدائه فقال: " يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم " أي تنكصوا على أعقابكم، وتنكلوا عن قتال أعدائكم " فتنقلبوا خاسرين " أي فتخسروا
بعد الربح، وتنقصوا بعد الكمال.
" قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين " أي عتاة كفرة متمردين " وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " خافوا من هؤلاء الجبارين وقد عاينوا هلاك فرعون، وهو أجبر من هؤلاء وأشد بأسا، وأكثر جمعا وأعظم جندا.
وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة، ومذمومون على هذه الحالة، من الذلة عن مصاولة الاعداء، ومقاومة المردة الاشقياء.
وقد ذكر كثير من المفسرين [ هاهنا (2) ] آثارا فيها مجازفات كثيرة
__________
(1) الآيات: 20 - 26 من سورة المائدة.
(2) ليست في ا.
(*) (م - 7 قصص الانبياء 2)
(2/97)
باطلة، يدل العقل والنقل على خلافها من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما [ جدا (1) ] حتى إنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل لما قدموا عليهم تلقاهم رجل من رسل الجبارين، فجعل يأخذهم واحدا واحدا، ويلفهم في أكمامه وحجرة سراويله، وهم اثنا عشر رجلا، فجاء بهم فنثرهم بين يدي ملك الجبارين، فقال: ما هؤلاء ؟ ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه.
وكل هذه هذيانات وخرافات لا حقيقة لها.
وأن الملك بعث معهم عنبا كل عنبة تكفى الرجل، وشيئا من ثمارهم ليعلموا ضخامة أشكالهم.
وهذا ليس بصحيح.
وذكروا هاهنا أن عوج بن عنق خرج من عند الجبارين إلى بني إسرائيل ليهلكهم، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة [ ذراع (2) ]
وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع.
هكذا ذكره البغوي وغيره، وليس بصحيح، كما قدمنا بيانه عند قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم [ طوله (1) ] ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن ".
قالوا: فعمد عوج إلى قمة (3) جبل فاقتلعها، ثم أخذها بيديه ليلقيها على جيش موسى، فجاء طائر فنقر تلك الصخرة فخرقها فصارت طوقا في عنق عوج بن عنق.
ثم عمد موسى إليه فوثب في الهواء عشرة
__________
(1) ليست في ا (2) من ا.
(3) ا: قلة (*)
(2/98)
أذرع وطوله عشرة أذرع، وبيده عصاه وطولها عشرة أذرع، فوصل إلى كعب قدمه فقتله.
يروى هذا عن نوف (1) البكالى، ونقله ابن جرير عن ابن عباس وفي إسناده إليه نظر.
ثم هو مع هذا كله من الاسرائيليات، وكل هذه من وضع جهال بني إسرائيل، فإن الاخبار الكاذبة قد كثرت عندهم، ولا تمييز لهم بين صحتها وباطلها.
ثم لو كان هذا صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم، وقد ذمهم الله على نكولهم، وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم ومخالفتهم رسولهم.
وقد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالاقدام، ونهياهم عن الاحجام، ويقال: إنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا.
قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطية والسدى والربيع بن أنس، وغير واحد.
" قال رجلان من الذين يخافون " أي يخافون الله، وقرأ بعضهم " يخافون " أي يهابون " أنعم الله عليهما " أي بالاسلام والايمان
والطاعة والشجاعة " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون * وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " أي إذا توكلتم على الله، واستعنتم به ولجأتم إليه، نصركم على عدوكم [ وأيدكم عليهم ] (2) وأظفركم بهم.
" قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " فصمم ملؤهم على النكول عن الجهاد، ووقع أمر عظيم ووهن كبير، فيقال إن يوشع وكالب لما سمعا هذا الكلام
__________
(1) المطبوعة: عوف.
محرفة.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/99)
شقا (1) ثيابهما، وإن موسى وهرون سجدا إعظاما لهذا الكلام وغضبا لله عزوجل، وشفقة عليهم من وبيل هذه المقالة.
" قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " قال ابن عباس: اقض بيني وبينهم.
" قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين " عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الارض، يسيرون إلى غير مقصد، ليلا ونهارا وصباحا ومساء.
ويقال إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله، بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة، ولم يبق إلا ذراريهم، سوى يوشع وكالب عليهما السلام.
لكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر لم يقولوا له كما قال قوم (2) موسى لموسى، بل لما استشارهم في الذهاب إلى النفير تكلم الصديق فأحسن، وتكلم غيره (3) من المهاجرين.
ثم جعل يقول: " أشيروا علي "، حتى قال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله ؟ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر
فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره ان تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك.
__________
(1) ا: فتقاء (2) ا أصحاب موسى (3) ا: وغيره (*)
(2/100)
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن مخارق بن عبد الله الاحمسي، عن طارق - هو ابن شهاب - أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون.
وهذا إسناد جيد من هذا الوجه، وله طرق أخرى.
قال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد شهدت من المقداد مشهدا، لان أكون أنا صاحبه، أحب إلى مما عدل به.
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال (1): والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون "، ولكننا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك.
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك.
رواه البخاري في التفسير، والمغازى من طرق عن مخارق به.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا علي بن الحسين بن علي،
حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري، حدثنا حميد عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر، استشار المسلمين فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقالت الانصار: يا معشر الانصار
__________
(1) ا: قال.
(*)
(2/101)
إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: إذا لا نقول له كما قال بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون "، والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك (1) الغماد لاتبعناك.
رواه الامام أحمد عن عبيدة بن حميد، عن حميد الطويل، عن أنس به، ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميد، عن أنس به نحوه.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى، عن عبد الاعلى ابن حماد عن معتمر (2) عن حميد عن أنس به نحوه.
__________
(1) برك الغماد: موضع باليمن أو وراء مكة بخمس ليال، أو أقصى معمور الارض.
(2) ط: عن معمر (*)
(2/102)
فصل في دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الامور العجيبة قد ذكرنا نكول بني إسرائيل عن قتال الجبارين، وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه، وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة.
ولم أر في كتاب أهل الكتاب قصة نكولهم عن قتال الجبارين، ولكن فيها: أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار، وأن موسى وهرون وخور جلسوا على رأس أكمة، ورفع موسى عصاه، فكلما رفعها
انتصر يوشع عليهم، وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك وجعل هرون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس، فانتصر حزب يوشع عليه السلام.
وعندهم أن " يثرون " كاهن مدين وختن موسى عليه السلام بلغه [ ما كان (1) من ] أمر موسى وكيف أظفره الله بعدوه فرعون، فقدم على موسى مسلما، ومعه ابنته " صفورا " زوجة موسى، وابناها منه، جرشون، وعازر، فتلقاه موسى وأكرمه، واجتمع به شيوخ بني إسرائيل وعظموه وأجلوه.
وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بني إسرائيل على موسى في الخصومات التي تقع بينهم، فأشار على موسى أن يجعل على الناس [ رجالا (1) ] أمناء أتقياء أعفاء، يبغضون الرشاء والخيانة، فيجعلهم على الناس رءوس ألوف، ورؤوس مئين، ورؤوس خمسين، ورؤوس عشرة، فيقضوا بين الناس،
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/103)
فإذا أشكل عليهم أمر جاءوك ففصلت بينهم ما أشكل عليهم، ففعل ذلك موسى عليه السلام.
قالوا: ودخل بنو إسرائيل البرية عند سيناء، في الشهر الثالث من خروجهم من مصر.
وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم، وهي أول فصل الربيع، فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف، والله أعلم.
قالوا: ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء، وصعد موسى الجبل فكلمه ربه، وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم به عليهم، من إنجائه إياهم من فرعون وقومه، وكيف حملهم على مثل جناحى نسر من
يده وقبضته، وأمره أن يأمر بني إسرائيل بأن يتطهروا ويغتسلوا ويغسلوا ثيابهم وليستعدوا إلى اليوم الثالث، فإذا كان في اليوم الثالث فليجتمعوا حول الجبل، ولا يقتربن أحد منهم إليه، فمن دنا منه قتل، حتى ولا شئ من البهائم، ما داموا يسمعون صوت القرن (1) فإذا سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه.
فسمع بنو إسرائيل ذلك وأطاعوا (2) واغتسلوا وتنظفوا وتطيبوا.
فلما كان اليوم الثالث ركب الجبل غمامة عظيمة، وفيها أصوات وبروق، وصوت الصور شديد جدا.
ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعا
__________
(1) القرن: ما ينفخ فيه، ومنه حديث الترمذي: قال رسول الله (ص): " كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جبهته ؟ ؟، يعني إسرافيل.
(2) ا: فأطاعوه (*)
(2/104)
شديدا، وخرجوا فقاموا في سفح الجبل، وغشي الجبل دخان عظيم في وسطه عمود نور (1) [ زلزل الجبل كله زلزلة شديدة، واستمر صوت الصور، وهو البوق (2) ] واشتد، وموسى عليه السلام فوق الجبل، والله يكلمه ويناجيه.
وأمر الرب عزوجل موسى أن ينزل، فيأمر (3) بني إسرائيل أن يقتربوا من الجبل ليسمعوا وصية الله، وأمر الاحبار، وهم علماؤهم، أن يدنوا فيصعدوا الجبل، ليتقدموا (4) بالقرب.
وهذا نص في كتابهم على وقوع النسخ [ لا محالة (5) ].
فقال موسى: يا رب إنهم لا يستطيعون أن يصعدوا، وقد نهيتهم عن ذلك فأمره الله [ تعالى ] أن يذهب فيأتي معه بأخيه هرون، وليكن الكهنة وهم العلماء، والشعب وهم بقية بني إسرائيل، غير بعيد، ففعل موسى.
وكلمه ربه عزوجل، فأمره حينئذ بالعشر الكلمات.
وعندهم أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله، ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى، وجعلوا يقولون لموسى: بلغنا أنت عن الرب عزوجل، فإنا نخاف أن نموت.
فبلغهم عنه فقال هذه العشر الكلمات: وهي: الامر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الحلف بالله كاذبا.
والامر بالمحافظة على السبت ومعناه تفرغ يوم من الاسبوع للعبادة، وهذا حاصل بيوم الجمعة الذي نسخ الله به السبت، أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الارض.
الذي
__________
(1) ا: نار.
(2) سقطت من ا.
(3) المطبوعة: فأمر.
(4) المطبوعة، ليتقدموا.
(5) ليست في ا.
(*)
(2/105)
يعطيك الله ربك.
لا تقتل.
لا تزن.
لا تسرق.
لا تشهد على صاحبك شهادة زور.
لا تمد عينك إلى بيت صاحبك، ولا تشته امرأة صاحبك، ولا عبده ولا أمته ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئا من الذي لصاحبك.
ومعناه النهي عن الحسد.
وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم: مضمون هذه العشر الكلمات في آيتين من القرآن، وهما قوله تعالى في سورة الانعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا
ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ".
وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة وأحكاما متفرقة عزيزة، كانت فزالت، وعمل بها حينا من الدهر ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها، ثم عمدوا إليها فبدلوها وحرفوها، ثم بعد ذلك كله سلبوها فصارت منسوخة مبدلة، بعدما كانت مشروعة مكملة.
فلله الامر من قبل ومن بعد، وهو الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ألا له الخلق والامر، تبارك الله رب العالمين.
(2/106)
وقد قال الله تعالى: " يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي، ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى * وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " (1) يذكر تعالى منته وإحسانه إلى بني إسرائيل بما أنجاهم من أعدائهم وخلصهم من الضيق والحرج وأنه وعدهم صحبة نبيهم إلى جانب الطور الايمن أي منهم، لينزل عليه أحكاما عظيمة فيها مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وأنه تعالى أنزل عليهم في حال شدتهم وضرورتهم في سفرهم (2) في الارض التي ليس فيها زرع ولا ضرع، منا من السماء، يصبحون فيجدونه خلال بيوتهم، فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى مثله من الغد، ومن ادخر منه لاكثر من ذلك فسد، ومن أخذ منه قليلا كفاه، أو كثيرا لم يفضل عنه، فيصنعون منه مثل الخبز، وهو في غاية البياض
والحلاوة، فإذا كان من آخر (3) النهار غشيهم طير السلوى، فيقتنصون منها (4) بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشائهم.
وإذا كان فصل الصيف ظلل الله عليهم الغمام، وهو السحاب الذي يستر عنهم حر الشمس وضوءها الباهر، كما قال تعالى في سورة البقرة: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون "
__________
(1) الآيات: 80 - 82 من سورة طه.
(2) ا: وسفرهم (3) ا: في آخر.
(4) ط: منه.
(*)
(2/107)
إلى أن قال: " وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون * وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة.
ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون * وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون * وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم * وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون * وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم، وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ".
إلى أن قال: " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين * وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون "
(2/108)
فذكر تعالى إنعامه عليهم، وإحسانه إليهم، بما يسر لهم من المن والسلوى، طعامين شهيين بلا كلفة ولا سعى لهم فيه، بل ينزل الله المن باكرا، ويرسل عليهم طير السلوى عشيا، وأنبع الماء لهم، يضرب موسى عليه السلام حجرا كانوا يحملونه معهم بالعصا، فتفجر منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين منه تنبجس، ثم تتفجر ماء زلالا فيستقون [ فيشربون (1) ] ويسقون دوابهم، ويدخرون كفايتهم، وظلل عليهم الغمام من الحر.
وهذه نعم من الله عظيمة، وعطيات جسيمة، فما رعوها حق رعايتها، ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها.
ثم ضجر كثير [ منهم (1) ] منها وتبرموا بها، وسألوا أن يستبدلوا منها ببدلها، مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها.
فقرعهم الكليم ووبخهم وأنبهم (2) على هذه المقالة وعنفهم قائلا: " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ اهبطوا مصرا فإن لكم
ما سألتم " أي هذا الذي تطلبونه وتريدونه بدل هذه النعم التي أنتم فيها حاصل لاهل الامصار الصغار والكبار موجود بها، وإذا هبطتم إليها، أي ونزلتم عن هذه المرتبة التي لا تصلحون لمنصبها - تجدون بها ما تشتهون وما ترومون مما ذكرتم من المآكل الدنية والاغذية الردية، ولكني لست أجيبكم إلى سؤال ذلك هاهنا، ولا أبلغكم ما تعنتم به من المنى.
وكل هذه الصفات المذكورة عنهم الصادرة منهم، تدل على أنهم لم
__________
(1) من ا.
(2) ا: ونبههم.
(*)
(2/109)
ينتهوا عما نهوا عنه، كما قال تعالى: " ولا تطغوافيه فيحل عليكم غضبي، ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى " أي فقد هلك وحق له والله الهلاك والدمار، وقد حل عليه غضب الملك الجبار.
ولكنه تعالى مزج هذا الوعيد الشديد، بالرجاء لمن أناب وتاب ولم يستمر على متابعة الشيطان المريد، فقال: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ".
(2/110)
سؤال الرؤية (1) قال تعالى: " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وقال موسى لاخيه هرون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه، قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين * قال
يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين * وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ، فخذها بقوة، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها، سأريكم دار الفاسقين * سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين * والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (2) ".
قال جماعة من السلف منهم ابن عباس ومسروق ومجاهد: الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله، وأتمت أربعين ليلة بعشر من ذي الحجة.
فعلى هذا يكون كلام الله (3) له يوم عيد النحر، وفي مثله أكمل
__________
(1) ليس في ا (2) الآيات: 142 - 147 من سورة الاعراف.
(3) ا: كلامه له.
(*)
(2/111)
الله عزوجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه، وأقام (1) حجته وبراهينه.
والمقصود أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات، وكان فيه صائما يقال إنه لم يستطعم الطعام، فلما كمل الشهر أخذ لحاء شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه، فأمره الله أن يمسك عشرا أخرى، فصارت أربعين ليلة.
ولهذا ثبت في الحديث: أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هرون، المحبب المبجل الجليل.
وهو ابن أمه وأبيه، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه، فوصاه، وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة.
قال الله تعالى: " ولما جاء موسى لميقاتنا " أي في الوقت الذي
أمر بالمجئ فيه " وكلمه ربه " أي كلمه الله من وراء حجاب، إلا أنه أسمعه الخطاب، فناداه وناجاه، وقربه وأدناه.
وهذا مقام رفيع ومعقل منيع، ومنصب شريف ومنزل منيف، فصلوات الله عليه تترى، وسلامه عليه في الدنيا والاخرى.
ولما أعطى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية، وسمع الخطاب، سأل رفع الحجاب، فقال للعظيم الذي لا تدركه الابصار القوى البرهان: " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني " ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى، لان الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا وأشد ثباتا من الانسان، لا يثبت عند التجلى من الرحمن، ولهذا قال: " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " وفي الكتب المتقدمة: أن الله تعالى قال له: " يا موسى إنه لا يرانى حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده (2) ".
__________
(1) ا: وإقامة.
(2) تدهده: تدحرج.
(*)
(2/112)
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حجابه النور - وفي رواية النار - لو كشفه لاحرقت سبحات (1) وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ".
وقال ابن عباس في قوله تعالى: " لا تدركه الابصار " ذاك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى لشئ لا يقوم له شئ.
ولهذا قال تعالى: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ".
قال مجاهد: " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف
تراني " فإنه أكبر منك وأشد خلقا، " فلما تجلى ربه للجبل " فنظر إلى الجبل لا يتمالك، وأقبل الجبل فدك على أوله، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا.
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الامام أحمد والترمذي، وصححه ابن جرير والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، زاد ابن جرير وليث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " قال هكذا بإصبعه، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الابهام على المفصل الاعلى من الخنصر، فساخ الجبل.
لفظ ابن جرير.
وقال السدى عن عكرمة، عن ابن عباس: ما تجلى - يعنى من العظمة - منه إلا قدر الخنصر فجعل الجبل دكا، قال: ترابا، " وخر
__________
(1) السبحات: الانوار.
(*) " 8 - قصص الانبياء 2 "
(2/113)
موسى صعقا أي مغشيا عليه.
وقال قتادة: ميتا.
والصحيح الاول لقوله: " فلما أفاق " فإن الافاقة إنما تكون عن غشى " قال سبحانك " - تنزيه وتعظيم وإجلال أن يراه بعظمته أحد، " تبت إليك " أي فلست أسأل بعد هذا الرؤية، " وأنا أول المؤمنين " أنه لا يراك [ أحد (1) ] حي إلا مات، ولا يا بس إلا تدهده.
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمار بن أبي حسن المازني الانصاري، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تخيروني من بين الانبياء، فإن الناس يصعقون يوم
القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلى أم جوزي بصعقة الطور ؟ " لفظ البخاري.
وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الانصاري حين قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر.
فقال رسول الله: " لا تخيروني من بين الانبياء ".
وفي الصحيحين من طريق الزهري عن ابي سلمة و عبد الرحمن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وفيه: " لا تخيروني على موسى " وذكر تمامه.
وهذا من باب الهضم والتواضع، أو نهي عن التفضيل بين الانبياء على وجه الغضب والعصبية، أو ليس هذا إليكم بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وليس ينال هذا بمجرد الرأي، بل بالتوقيف.
__________
(1) من ا.
(*)
(2/114)
ومن قال إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل، ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم، ففي قوله نظر، لان هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخرا، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا.
والله أعلم.
ولا شك أنه، صلوات الله وسلامه عليه، أفضل البشر بل الخليقة، قال الله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وما كملوا إلا بشرف نبيهم.
وثبت بالتواتر عنه، صلوات الله وسلامه عليه، أنه قال: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ".
ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبطه به الاولون والآخرون، الذي تحيد عنه الانبياء والمرسلون، حتى أولو
العزم الاكملون: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش - أي آخذا بها - فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة، حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده، فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلاء، فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الانبياء، ومصطفى رب الارض والسماء على سائر الانبياء، فيجد موسى باطشا بقائمة العرش.
قال الصادق المصدوق: " أفلا أدري أصعق فأفاق قبلى ؟ " أي وكانت (1) صعقته خفيفة، لانه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق، " أو جوزي بصعقة الطور ؟ " يعني فلم يصعق بالكلية.
__________
(1) ا: وكانت.
(*)
(2/115)
وهذا فيه شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية، ولا يلزم تفضيله بها مطلقا من كل وجه.
ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة، لان المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه السلام، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته (1) وشرفه.
وقوله تعالى: " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " أي في ذلك الزمان، لاما (2) قبله، لان إبراهيم الخليل أفضل منه، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم، ولا ما بعده لان محمدا صلى الله عليه وسلم
أفضل منهما، كما ظهر شرفه ليلة الاسراء على جميع المرسلين والانبياء، وكما ثبت أنه قال: " سأقوم مقاما يرغب إلي الخلق حتى إبراهيم ".
وقوله تعالى: " فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين " أي فخذ ما أعطيتك من الرسالة والكلام، ولا تسأل زيادة عليه، وكن من الشاكرين على ذلك.
وقال الله تعالى: " وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " وكانت الالواح من جوهر نفيس، ففي الصحيح: أن الله كتب له التوراة بيده، وفيها مواعظ عن الآثام، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام.
" فخذها بقوة " أي بعزم ونية صادقة قوية " وأمر قومك يأخذوا
__________
(1) ا: فضله (2) ا: فيما قبله.
(*)
(2/116)
بأحسنها " أن يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها " ساريكم دار الفاسقين " أي سترون عاقبة الخارجين عن طاعتي، المخالفين لامري، المكذبين لرسلي.
" سأصرف عن آياتي " [ أي عن فهمها وتدبرها، وتعقل معناها الذي أريد منها، ودل عليه مقتضاها (1) ] " الذين يتكبرون في الارض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " أي ولو شاهدوا مهما شاهدوا (2) من الخوارق والمعجزات، لا ينقادون لاتباعها، " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا " [ أي لا يسلكوه ولا يتبعوه (1) ] " وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا " أي صرفناهم عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا، وتغافلهم عنها، وإعراضهم عن التصديق بها والتفكير في معناها، وترك العمل بمقتضاها.
" والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت
أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ".
__________
(1) سقطت من ا (2) ا: شاهدوه.
(*)
(2/117)
قصة عبادتهم العجل في غيب كليم الله عنهم قال الله تعالى: " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ! اتخذوه وكانوا ظالمين * ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين * ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم ؟ وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه، قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين * قال رب اغفر لي ولاخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين * إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين * والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " (1) وقال تعالى: " وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا، أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل
__________
(1) الآيات: 148 - 154 من سورة الاعراف.
(*)
(2/118)
عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي * قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها، فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار، فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى * أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا * ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ؟ ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى * قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن أفعصيت أمري ؟ * قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي * قال فما خطبك يا سامري ؟ * قال بصرت بما لم يبصروا به، فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي * قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس، وإن لك موعدا لن تخلفه، وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا، لنحرقنه، ثم لننسفنه في اليم نسفا * إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما " (1) يذكر تعالى ماكان من أمر بني إسرائيل، حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه فمكث على الطور يناجيه ربه ويسأله موسى عليه السلام عن أشياء كثيرة [ وهو تعالى (2) ] يجيبه عنها.
فعمد رجل منهم يقال له هرون السامري، فأخذ ما كانوا استعاروه من الحلي، فصاغ منه عجلا وألقى فيه قبضة من التراب، كان أخذها
__________
(1) الآيات: 83 - 98 من سورة طه.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/119)
من أثر فرس جبريل، حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه.
فلما ألقاها فيه خاركما يخور العجل الحقيقي.
ويقال إنه استحال عجلا جسدا أي لحما ودما حيا يخور، قاله قتادة وغيره.
وقيل بل كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة، فيرقصون حوله ويفرحون.
" فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى " أي فنسى موسى ربه عندنا، وذهب يتطلبه وهو هاهنا ! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وتقدست أسماؤه وصفاته، وتضاعفت آلاؤه وهباته (1).
قال الله تعالى مبينا بطلان ما ذهبوا إليه، وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيوانا بهيما أو شيطانا رجيما: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ؟ " وقال: " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ".
فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جوابا، ولا يملك ضرا ولا نفعا، ولا يهدى إلى رشد، اتخذوه وهم ظالمون لانفسهم، عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال.
" ولما سقط في أيديهم " أي ندموا على ما صنعوا " ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ".
* * *
__________
(1) ا: وعداته.
(*)
(2/120)
ولما رجع موسى عليه السلام إليهم، ورأى ما هم عليه من عبادة العجل، ومعه الالواح المتضمنة التوراة، ألقاها، فيقال إنه كسرها.
وهكذا هو عند أهل الكتاب، وإن الله أبدله غيرها، وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك، إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين.
وعند أهل الكتاب: أنهما كانا لوحين، وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة.
ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل، فأمره بمعاينة ذلك.
ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الامام أحمد وابن حبان عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الخبر كالمعاينة " ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم [ وهجنهم ] (1) في صنيعهم هذا القبيح فاعتذروا إليه، بما ليس بصحيح، " قالوا إنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري " تحرجوا من تملك حلى آل فرعون وهم أهل حرب، وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم، ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار، مع الواحد الاحد الفرد الصمد القهار ! ثم أقبل على أخيه هرون عليهما السلام قائلا له: " يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن " أي هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فاعلمتني بما فعلوا.
فقال: " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " أي تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم.
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/121)
" قال رب اغفر لي ولاخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " وقد كان هرون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهى، وزجرهم عنه أتم الزجر.
قال الله تعالى: " ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به " أي إنما قدر الله أمر هذا العجل وجعله يخور فتنة واختبارا لكم، " وإن ربكم الرحمن " أي لا هذا " فاتبعوني " أي فيما أقول لكم " وأطيعوا أمري * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى " يشهد (1) الله لهرون عليه السلام " وكفى بالله شهيدا " أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك فلم يطيعوه ولم يتبعوه.
ثم أقبل موسى على السامري " قال فما خطبك يا سامري ؟ " أي أي ما حملك على ما صنعت ؟ " قال بصرت بما لم يبصروا به أي رأيت جبرائيل وهو راكب فرسا " فقبضت قبضة من أثر الرسول " أي من أثر فرس جبريل.
وقد ذكر بعضهم أنه رآه، وكلما وطئت بحوافرها على موضع اخضر وأعشب، فأخذ من أثر حافرها، فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع (2) من الذهب كان من أمره ما كان.
ولهذا قال: " فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي " قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس " وهذا دعاء عليه بأن لا يمس أحدا، معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه، هذا معاقبة له في الدنيا، ثم توعده في الاخرى فقال: " وإن لك موعدا لن تخلفه " وقرئ: " لن نخلفه " " وانظر إلى
__________
(1) ا: فشهد.
(2) ا: المصوغ.
(*)
(2/122)
إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " قال: فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل، فحرقه [ قيل ] (1) بالنار، كما قاله قتادة وغيره.
وقيل بالمبارد، كما قاله علي وابن عباس وغيرهما، وهو نص أهل الكتاب، ثم ذراه في البحر، وأمر بني إسرائيل فشربوا،
فمن كان من عابديه علق على شفاههم من ذلك الرماد ما يدل عليه، وقيل بل اصفرت ألوانهم.
ثم قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لهم: " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما ".
وقال تعالى: " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين " وهكذا وقع.
وقد قال بعض السلف: " وكذلك نجزي المفترين " مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة ! ثم أخبر تعالى عن حلمه (2) ورحمته بخلقه، وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه، بتوبته عليه، فقال: " والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ".
لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل، كما قال تعالى: " وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب
__________
(1) من ا.
(2) ا: حكمته (*)
(2/123)
عليكم إنه هو التواب الرحيم (1) " فيقال إنهم أصبحوا يوما وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف، وألقى الله عليهم ضبابا حتى لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه، ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا ! ثم قال تعالى: " ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " استدل بعضهم بقوله:
" وفي نسختها " على أنها تكسرت، وفي هذا الاستدلال نظر، وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت، والله أعلم.
وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي: أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر.
وما هو ببعيد، لانهم حين خرجوا " قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ".
وهكذا عند أهل الكتاب، فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس.
وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبدالعجل، قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف، ثم ذهب موسى يستغفر لهم، فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الارض المقدسة.
" واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا، فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة
__________
(1) سورة البقرة 54 (*)
(2/124)
إنا هدنا إليك، قال عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شئ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يحدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (1) ".
ذكر السدى وابن عباس وغيرهما أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرائيل، ومعهم موسى وهرون ويوشع وناذاب (2) وأبيهو، ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل عن عبادة من عبد منهم العجل.
وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا، فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعمود النور ساطع صعد (3) موسى الجبل.
فذكر بنو إسرائيل أنهم (4) سمعوا كلام الله.
وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين، وحملوا عليه قوله تعالى: " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (5) ".
وليس هذا بلازم، لقوله تعالى: " فأجره حتى يسمع كلام الله (6) " أي مبلغا، وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغا من موسى عليه السلام.
وزعموا أيضا أن السبعين رأوا الله، وهذا غلط منهم، لانهم لما
__________
(1) الآيات: 155 - 157 من سورة الاعراف (2) ا: وياذاب (3) ا: وصعد.
(4) ا: فذكر أن بني إسرائيل سمعوا.
(5) الآية: 75 من سورة البقرة.
(6) الآية: 6 من سورة التوبة (*)
(2/125)
سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة، كما قال تعالى: " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ".
وقال هاهنا " فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ".
قال محمد بن إسحق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا: الخير فالخير، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه بما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم.
فخرج بهم إلى طور سيناء، لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم.
فطلب (1) منه السبعون أن يسمعوا كلام الله، فقال: أفعل.
فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل في الغمام، وقال للقوم: ادنوا.
وكان موسى إذا كلمه الله، وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل.
فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم فقالوا: " يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " فأخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة فأتلفت (2) أرواحهم فماتوا جميعا.
فقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول: " رب لو شئت أهلكتهم من قبل
__________
(1) ا: فقال له وطلب منه.
(2) ا: فأثلبت وفي ط: فالتقت.
وما أثبته أرى أنه الصواب.
(*)
(2/126)
وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ " أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا فإنا براء مما عملوا.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج: إنما أخذتهم الرجفة لانهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل.
وقوله: " إن هي إلا فتنتك " أي اختبارك وابتلاؤك وامتحانك.
قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس، وغير واحد من علماء السلف والخلف، يعني أنت الذي قدرت هذا، وخلقت ما كان من أمر العجل اختبارا تختبرهم به كما: " قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به " أي اختبرتم.
ولهذا قال: " تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " أي من شئت أضللته باختبارك إياه، ومن شئت هديته، لك الحكم والمشيئة [ ولا مانع (1) ] ولا راد لما حكمت وقضيت.
" أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا اليك " أي تبنا إليك ورجعنا وأنبنا.
قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية وإبراهيم التيمي والضحاك والسدى وقتادة وغير واحد.
وهو كذلك في اللغة.
" قال عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شئ " أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الامور التي أخلقها وأقدرها.
" ورحمتي وسعت كل شئ " كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/127)
صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله لما فرغ من خلق السموات والارض كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي (1) " " فسأكتبها الذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " أي فسأوجبها حتما لمن يتصف بهذه الصفات: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي " الآية.
وهذا فيه تنويه بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من الله لموسى عليه السلام، في جملة ما ناجاه به وأعلمه وأطلعه عليه.
وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع، ولله الحمد والمنة.
وقال قتادة: قال موسى يا رب إني أجد في الالواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رب اجعلهم أمتي،
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الالواح أمة هم الآخرون في الخلق، السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الالواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه، وإن الله أعطاهم (2) من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الامم، قال: رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الالواح أمة يؤمنون بالكتاب الاول وبالكتاب
__________
(1) سقط من ا.
(2) ا: وإن الله أعطاكم أيتها الامة.
(*)
(2/128)
الآخر، ويقاتلون فضول (1) الضلالة حتى يقاتلوا الاعور الكذاب، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الالواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ويؤجرون عليها.
وكان من قبلهم [ من الامم (2) ] إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها، وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير، وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم (3)، قال: رب فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب فإني أجد في الالواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
قال: رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الالواح أمة هم المشفعون المشفوع لهم، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.
قال قتادة: فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الالواح، وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد (4).
وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام، وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الاحاديث والآثار بعون الله وتوفيقه، وحسن هدايته ومعونته وتأييده.
__________
(1) الرواية في الوفا لابن الجوزي: 1 / 40 أهل الضلالة.
(2) ليست في ا.
(3) ا: من غنيكم لفقيركم.
(4) ا: من أمة محمد.
(*) (9 - قصص الانبياء 9)
(2/129)
قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في صحيحه: " ذكر سؤال كليم الله ربه عزوجل عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة " أخبرنا عمر بن سعيد الطائي ببلخ (1)، حدثنا حامد بن يحيى البلخي، حدثنا سفيان، حدثنا مطرف بن طريف و عبد الملك بن أبحر شيخان صالحان، قالا سمعنا الشعبي يقول: سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن موسى عليه السلام سأل ربه عزوجل: أي أهل الجنة أدنى منزلة ؟ فقال: رجل يجئ (2) بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال [ له (3) ] ادخل الجنة.
فيقول: كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا إخاذاتهم ؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول: نعم أي رب، فيقال: لك هذا ومثله معه (4) فيقول: أي رب رضيت، فيقال له: لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
وسأل ربه: أي أهل الجنة أرفع منزلة ؟ قال سأحدثك عنهم، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر ".
ومصداق ذلك في كتاب الله عزوجل: " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ".
وهكذا رواه مسلم والترمذي كلاهما عن ابن أبي عمر، عن سفيان - [ وهو (3) ] ابن عيينة - به.
ولفظ مسلم: " فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك [ ملك (3) ] من ملوك الدنيا ؟ فيقول رضيت رب.
فيقال له: لك ذلك
__________
(1) ط: بمنبج.
(2) المطبوعة: يحيا.
محرفة (3) سقطت من ا.
(4) المطبوعة: ومثله ومثله.
(*)
(2/130)
ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت رب.
فيقال هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول رضيت رب قال رب فأعلاهم منزلة ؟ قال أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ".
قال: ومصداقه من كتاب الله: " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ".
وقال الترمذي حسن صحيح: قال: ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة فلم يرفعه، والمرفوع أصح.
وقال ابن حبان: " ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع ": حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم ببيت المقدس، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن أبا السمح حدثه ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سأل موسى ربه عزوجل عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة، والسابعة لم يكن موسى يحبها:
قال: يا رب أي عبادك أتقى ؟ قال: الذي يذكر ولا ينسى.
قال: فأي عبادك أهدى ؟ قال: الذي يتبع الهدى.
قال فأي عبادك أحكم ؟ قال: الذى يحكم للناس كما يحكم لنفسه.
قال: فأى عبادك أعلم ؟ قال: عالم لا يشبع من العلم، يجمع علم الناس إلى علمه.
قال: فأي عبادك أعز ؟ قال الذي إذا قدر غفر.
قال: فأي عبادك أغنى ؟ قال: الذي يرضى بما يؤتى.
قال: فأي عبادك أفقر ؟ قال: صاحب منقوص ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن ظهر (1)، إنما الغنى
__________
(1) الظهر: كثرة المال.
(*)
(2/131)
غنى النفس، وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه، وإذا أراد بعبد شرا جعل فقره بين عينيه ".
قال ابن حبان: قوله " صاحب منقوص " يريد بن منقوص حالته، يستقل ما أوتي ويطلب الفضل.
وقد رواه ابن جرير في تاريخه عن ابن حميد، عن يعقوب التميمي، عن هرون بن هبيرة، عن أبيه، عن ابن عباس قال: سأل موسى ربه عزوجل فذكر نحوه.
وفيه " قال: أي رب فأي عبادك أعلم ؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يجد (1) كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى.
قال: أي رب فهل في الارض أحد أعلم منى ؟ قال: نعم الخضر فسأل السبيل إلى لقيه، فكان (2) ما سنذكره [ بعد (3) ] إن شاء الله، وبه الثقة (4).
ذكر حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحق، حدثنا ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " إن موسى قال: أي رب عبدك المؤمن مقتر عليه في الدنيا ! قال: ففتح له باب من الجنة فنظر إليها، قال: يا موسى هذا ما أعددت له.
فقال موسى: يا رب وعزتك وجلالك لو كان مقطع اليدين والرجلين يسحب على وجهه منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة، وكان هذا مصيره لم ير بؤسا قط.
[ قال (3) ] ثم قال: أي رب عبدك الكافر موسع عليه في الدنيا، قال: ففتح له
__________
(1) ا: يصبب.
(2) ا: كما سنذكره.
(3) ليست في ا.
(4) ا.
وله المنة.
(*)
(2/132)
باب إلى النار فقال (1): يا موسى هذا ما أعددت له.
فقال [ موسى (2) ] أي رب وعزتك وجلالك لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة وكان هذا مصيره لم ير خيرا قط ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وفي صحته نظر.
والله أعلم.
وقال ابن حبان: " ذكر سؤال كليم الله ربه جل وعلا أن يعلمه شيئا يذكره به ": حدثنا ابن سلمة، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به.
قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله.
قال: يا رب كل عبادك يقول هذا.
قال: قل لا إله إلا الله.
قال: إنما أريد شيئا تخصني به.
قال: يا موسى لو أن أهل السموات السبع والارضين [ السبع (3) ] في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا الله " ويشهد لهذا الحديث حديث البطاقة، وأقرب شئ إلى معناه الحديث المروى في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل الدعاء
دعاء عرفة.
وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ".
وقال ابن أبي حاتم عند تفسير آية الكرسي: حدثنا أحمد بن القاسم ابن عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدسكي (4)، حدثني أبي عن أبيه، حدثنا أشعث بن إسحق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل ينام ربك ؟ قال:
__________
(1) ط: فيقول.
(2) ليست في ا.
(3) سقطت من ا.
(4) ا الدسيكى.
ولم أجد هذه النسبة.
(*)
(2/133)
اتقوا الله ! فناداه ربه عزوجل: يا موسى سألوك هل ينام ربك، فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل، ففعل موسى.
فلما ذهب من الليل ثلثه نعس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما، حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا، فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والارض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك ! قال: وأنزل الله على رسوله آية الكرسي.
وقال ابن جرير: حدثنا إسحق بن أبي إسرائيل، حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل (1) عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكى عن موسى عليه السلام على المنبر قال: " وقع في نفس موسى عليه السلام هل ينام الله عزوجل ؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما.
قال: فجعل ينام وكادت يداه تلتقيان، فيستيقظ فيحبس إحداهما على الاخرى، حتى نام نومة فاصطفقت
يداه فانكسرت القارورتان، قال: ضرب الله له مثلا: أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والارض ".
وهذا حديث غريب رفعه.
والاشبه أن يكون موقوفا، وأن يكون أصله إسرائيليا.
* * * وقال الله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا
__________
(1) الاصل: ابن سبل.
محرفة ر التصويب من ميزان الاعتدال 1 / 276 وقال عنه: يماني له حديث منكر رواه عن الحكم بن أبان، عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا: قال: " وقع في نفس موسى..الحديث ".
(*)
(2/134)
ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (1) " وقال تعالى: " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (2) ".
قال ابن عباس وغير واحد من السلف: لما جاءهم موسى بالالواح فيها التوراة أمرهم بقبولها والاخذ بها بقوة وعزم.
فقالوا: انشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها.
فقال: بل اقبلوها بما فيها، فراجعوه مرارا، فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رؤوسهم حتى صار كأنه ظلة، أي غمامة، على رؤوسهم.
وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلا سقط هذا (3) الجبل عليكم [ فقبلوا ذلك (4) ] وأمروا بالسجود فسجدوا، فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم، فصارت سنة لليهود إلى اليوم، يقولون لا [ سجدة (4) ] أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب.
وقال سنيد بن داود عن حجاج بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله قال: فلما نشرها لم يبق على وجه الارض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس على وجه الارض يهودي صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه.
قال الله تعالى: " ثم توليتم من بعد ذلك " أي [ ثم (4) ] بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم والامر الجسيم نكثتم عهودكم ومواثيقكم " فلولا فضل الله عليكم ورحمته " بأن تدارككم بالارسال إليكم وإنزال الكتب عليكم.
" لكنتم من الخاسرين ".
__________
(1) سورة البقرة 63، 64.
(2) سورة الاعراف 171.
(3) ا: ذلك الجبل.
(4) سقطت من ا.
(*)
(2/135)
قصة بقرة بني إسرائيل قال الله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزوا ؟ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر، عوان بين ذلك، فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ إن البقر تشابه علينا، وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث، مسلمة لاشية فيها، قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون * وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (1) ".
قال ابن عباس وعبيدة السلماني وأبو العالية ومجاهد والسدى، وغير واحد من السلف: كان رجل في بني إسرائيل كثير المال، وكان شيخا كبيرا، وله بنو أخ، وكانوا يتمنون موته ليرثوه، فعمد أحدهم فقتله في الليل وطرحه في مجمع الطرق، ويقال على باب رجل منهم.
فلما أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم، فقالوا: ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله ؟ فجاء ابن أخيه فشكا أمر عمه
__________
(1) سورة البقرة 67 - 73.
(*)
(2/136)
إلى رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم.
فقال موسى عليه السلام: " أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به " فلم يكن عند أحد منهم علم منه.
وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه عزوجل.
فسأل ربه عزوجل في ذلك، فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة.
فقال " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزوا ؟ " يعنون نحن نسألك عن أمر هذا القتيل، وأنت تقول [ لنا (1) ] هذا ؟ " قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " أي أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي، وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سالتموني (2) أن أساله فيه.
قال ابن عباس وعبيدة ومجاهد وعكرمة والسدى وأبو العالية وغير واحد: فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم.
وقد ورد فيه حديث مرفوع، وفي إسناده ضعف.
فسألوا عن صفتها، ثم عن لونها، ثم عن سنها، فأجيبوا بما عز وجوده عليهم.
وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في التفسير.
والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان، وهي الوسط النصف بين الفارض وهي الكبيرة، والبكر وهي الصغيرة.
قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والحسن وقتادة وجماعة.
ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها، فأمروا بصفراء فاقع لونها، أي مشرب بحمرة، تسر
__________
(1) من ا.
(2) ط: عما سألتموني عنه.
(*)
(2/137)
الناظرين، وهذا اللون غزيز.
ثم شددوا أيضا " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ".
ففي الحديث المرفوع الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه: " لولا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا " وفي صحته نظر.
والله أعلم.
" قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لاشية فيها، قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون " وهذه الصفات أضيق مما تقدم، حيث أمروا بذبح بقرة ليست بالذلول، وهي المذللة بالحراثة وسقى الارض (1) بالساقية، مسلمة، وهي الصحيحة التي لا عيب فيها، قاله أبو العالية وقتادة.
وقوله: " لاشية فيها " أي ليس فيها لون يخالف لونها، بل هي مسلمة من العيوب، ومن مخالطة سائر الالوان غير لونها.
فلما حددها بهذه الصفات، وحصرها بهذه النعوت والاوصاف " قالوا الآن جئت بالحق ".
ويقال إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه، فطلبوها منه فأبى عليهم، فأرغبوه في ثمنها حتى أعطوه، فيما ذكره السدى، بوزنها ذهبا فأبى عليهم، حتى أعطوه بوزنها عشر مرات، فباعها منهم.
فأمرهم نبي الله موسى بذبحها " فذبحوها وما كادوا يفعلون " أي وهم يترددون في أمرها.
ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها قيل بلحم فخذها، وقيل بالعظم الذي يلى الغضروف (2)، وقيل بالبضعة
__________
(1) ا: وسقى الحرث.
(2) ا: الذي في الغضروف.
(*)
(2/138)
التي بين الكتفين، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى، فقام وهو يشخب (1) أوداجه، فسأله نبي الله [ موسى (2) ] من قتلك ؟ قال قتلني ابن أخي.
ثم عاد ميتا كما كان.
قال الله تعالى: " كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون " أي كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن أمر الله له، كذلك أمره في سائر الموتى، إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة كما قال: " وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة (3) ".
__________
(1) يسخب: يسيل.
(2) من ا.
(3) سورة لقمان 28.
(*)
(2/139)
قصة موسى والخضر عليهما السلام قال الله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجبا * قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا *
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ؟ * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها، قال أخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله، قال أقتلت نفسا زاكية (1) بغير نفس ؟ لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا *
__________
(1) ط: زكية.
(*)
(2/140)
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردت أن أعيبها، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع
عليه صبرا ".
قال بعض أهل الكتاب: إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر هو موسى بن منسا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم وينقل عن كتبهم، منهم نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالى.
ويقال إنه دمشقي، وكانت أمه زوجة كعب الاحبار.
والصحيح الذي دل عليه ظاهر سياق القرآن ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه: أنه موسى بن عمران صاحب بني إسرائيل.
قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، قال: أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالى
__________
(1) الآيات: 60 - 82 من سورة الكهف.
(*)
(2/141)
يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله: حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال أنا.
فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال موسى: يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، واتخذ سبيله في البحر سربا.
وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق
فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما.
حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: " آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال له فتاه: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجبا " قال: فكان للحوت سربا، ولموسى [ ولفتاه (1) ] عجبا فقال له موسى: " ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا ".
قال: فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام ؟
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/142)
قال أنا موسى.
قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا " قال إنك لن تستطيع معي صبرا " يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه.
فقال موسى: " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا " فقال له الخضر (1): " فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا " يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة فكلموهم (2) أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول (3) فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها " لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ".
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكانت الاولى من موسى نسيانا.
قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقره، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل مانفص هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر ! ثم خرجا من السفينة، فبينماهما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: " أقتلت نفسا زكية (4) بغير نفس لقد جئت شيئا
__________
(1) ا: قال الخضر.
(2) ا: فكلمهم.
(3) النول: الاجر.
(4) ط: زكية.
(*)
(2/143)
نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ؟ " قال: وهذه أشد من الاولى " قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ".
" فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض " [ قال: مائل.
فقام الخضر (1) ] " فأقامه " بيده، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا " لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك " إلى قوله: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما ".
قال سعيد بن جبير: فكان (2) ابن عباس يقرأ: " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا " وكان يقرأ: " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ".
ثم رواه البخاري أيضا عن قتيبة عن سفيان بن عيينة بإسناده نحوه.
وفيه: " فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها، قال: فوضع موسى رأسه فنام ".
قال سفيان: وفي حديث غير عمرو قال: وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة، لا يصيب من مائها شئ إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال: فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ " قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا " الآية " (3) وساق الحديث.
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: كان.
(3) في ا زيادة: كذا قال.
(*)
(2/144)
وقال: ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره، وذكر تمام الحديث.
* * * وقال البخاري (2): حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف: أن ابن جريج أخبرهم، قال أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، يزيد أحدهما على صاحبه، وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد ابن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال سلوني، فقلت: أي أبا عباس - جعلني الله فداك - بالكوفة رجل قاص يقال له نوف، يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل.
أما عمرو فقال لي: قال: قد كذب عدو الله.
وأما يعلى فقال لي: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موسى رسول الله [ قال ] (1) ذكر الناس يوما حتى إذا
فاضت العيون، ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله ! هل في الارض أحد أعلم منك ؟ قال لا.
فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل بلى.
قال أي رب فأين ؟ قال بمجمع البحرين، قال: أي رب اجعل لي علما أعلم ذلك به.
قال لي عمرو: قال حيث يفارقك الحوت، وقال لي يعلى: قال خذ نونا ميتا حيث ينفخ فيه الروح.
فأخذ حوتا فجعله في مكتل، فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال ما كلفت كثيرا، فذلك قوله جل ذكره " وإذ قال موسى لفتاه " يوشع بن نون، ليست عن سعيد بن جبير،
__________
(1) ليست في ا.
(2) صحيح البخاري 2 / 334 كتاب التفسير.
(*) (م 10 - قصص الانبياء 2)
(2/145)
قال بينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان (1) إذ تضرب (2) الحوت وموسى نائم، فقال فتاه لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسى أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر، قال لي عمرو: هكذا، كأن أثره في حجر وحلق بين إيهاميه واللتين تليانهما.
" لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " قال: قد قطع الله عنك النصب ليست هذه عن سعيد.
أخبره فرجعا فوجدا خضرا - قال لي عثمان بن أبي سليمان - على طنفسة خضراء على كبد البحر، قال سعيد بن جبير مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فلم عليه موسى فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضى من سلام ؟ من أنت ؟ قال: أنا موسى.
قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم.
قال:
فما شأنك ؟ قال: جئتك لتعلمني مما علمت رشدا، قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحى يأتيك ؟ يا موسى إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه.
فأخذ طائر بمنقاره من البحر، فقال: والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر.
" حتى إذا ركبا في السفينة " وجد معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر، عرفوه فقالوا: عبد الله الصالح.
قال فقلنا لسعيد: خضر ؟ قال: نعم.
لا نحمله بأجر، فخرقها ووتد فيها
__________
(1) الثريان: (2) تضرب: تحرك.
(*)
(2/146)
وتدا " قال " موسى: " أخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئا إمرا " قال مجاهد: منكرا.
" قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " كانت الاولى نسيانا، والوسطى شرطا، والثالثة عمدا " قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا.
فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله " قال يعلى قال سعيد: وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا ظريفا فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين " قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس " لم تعمل بالخبيث.
وكان ابن عباس قرأها: زكية زاكية مسلمة، كقولك غلاما زكيا.
" فانطلقا فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه " قال سعيد بيده هكذا، ورفع يده فاستقام.
قال يعلى: حسبت أن سعيدا قال: فمسحه بيده فاستقام " قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا " قال سعيد: أجرا نأكله.
" وكان وراءهم " وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: أمامهم ملك يزعمون عن غير سعيد.
أنه " هدد بن بدد " والغلام المقتول اسمه يزعمون " جيسور " " ملك يأخذ كل سفينة غصبا " فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها.
ومنهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول بالقار.
" وكان أبواه مؤمنين " وكان كافرا " فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا " أي يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه، " فأردنا أن يبدلهما
(2/147)
ربهما خيرا منه زكاة " لقوله: " أقتلت نفسا زكية " " وأقرب رحما " هما به أرحم منهما بالاول الذي قتل [ خضر (1) ].
وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية، وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد: إنها جارية.
وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطب موسى بني إسرائيل، فقال ما أحد أعلم بالله وبأمره مني، فأمر أن يلقى هذا الرجل، فذكر نحو ما تقدم.
وهكذا رواه محمد بن إسحق عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنحو ما تقدم أيضا.
ورواه العوفي عنه موقوفا.
وقال الزهري عن عبيدالله بن عبد الله ابن عتبة [ بن مسعود (1) ] عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحر بن قيس ابن حصن الفزارى في صاحب موسى، فقال ابن عباس هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا
في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت من رسول الله فيه شيئا ؟ قال نعم، وذكر الحديث.
وقد تقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه في تفسير سورة الكهف ولله الحمد.
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/148)
وقوله: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة " قال السهيلي: وهما أصرم وصريم ابنا كاشح " وكان تحته كنز لهما " قيل كان ذهبا، قاله عكرمة.
وقيل علما، قاله ابن عباس.
والاشبه أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه علم.
قال البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر ابن المنذر، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس الغساني عن ابن حجيرة، عن أبي ذر رفعه قال: " إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من الذهب مصمت مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب ! وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك ؟ وعجبت لمن ذكر الموت كيف (1) غفل ؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
وهكذا روى عن الحسن البصري وعمر مولى غفرة وجعفر الصادق نحو هذا.
وقوله: " وكان أبوهما صالحا "، قيل إنه كان الاب السابع وقيل العاشر.
وعلى كل تقدير: فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته والله المستعان.
وقوله: " رحمة من ربك - " دليل على أنه كان نبيا، وأنه ما فعل شيئا من تلقاء نفسه بل بأمر ربه فهو نبي، وقيل رسول [ وقيل ولى (2) ]
وأغرب من هذا من قال إنه كان ملكا.
قلت وقد أغرب جدا من قال هو ابن فرعون، وقيل إنه ابن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة.
قال ابن جرير: والذي عليه جمهور أهل الكتاب أنه كان في زمن
__________
(1) ا: لم غفل.
(2) سقطت من ا.
(*)
(2/149)
" أفريدون "، ويقال إنه كان على مقدمة ذي القرنين، الذي قيل إنه كان أفريدون، وذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل.
وزعموا أنه شرب من ماء الحياة فخلد وهو باق إلى الآن.
وقيل إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم، وهاجر معه من أرض بابل.
وقيل اسمه ملكان، وقيل أرميا بن حلقيا، وقيل كان نبيا في زمن سباسب بن بهراسب.
قال ابن جرير: وقد كان بين أفريدون وبين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالانساب قال ابن جرير: والصحيح أنه كان في زمن أفريدون، واستمر حيا إلى أن أدركه موسى عليه السلام.
وكانت نبوة موسى في زمن " منوشهر " الذي هو من ولد أبرج بن أفريدون أحد ملوك الفرس، وكان إليه الملك بعد جده أفريدون لعهده وكان عادلا.
وهو أول من خندق الخنادق، وأول من جعل في كل قرية دهقانا (1)، وكانت مدة ملكه قريبا من مائة وخمسين سنة.
ويقال إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم.
وقد ذكر عنه من الخطب الحسان والكلم البليغ النافع الفصيح ما يبهر العقل، ويحير السامع، وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل.
والله أعلم.
وقد قال الله تعالى.
" وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من
كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه،
__________
(1) الدهقان: زعيم فلاحى العجم ورئيس الاقليم.
(2) سورة آل عمران 84.
(*)
(2/150)
قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى ؟ قالوا أقررنا.
قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (1) " فأخذ الله ميثاق كل نبي على أن يؤمن بمن يجئ بعده من الانبياء وينصره [ واستلزم ذلك الايمان وأخذ الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم لانه خاتم الانبياء فحق على كل نبي أدركه أن يؤمن به وينصره (2) ] فلو كان الخضر حيا في زمانه، لما وسعه إلا اتباعه والاجتماع به والقيام بنصره، ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر، كما كان تحتها جبريل وسادات من الملائكة.
وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبيا، وهو الحق، أو رسولا كما قيل، أو ملكا فيما ذكر.
وأياما كان فجبريل رئيس الملائكة، وموسى أشرف من الخضر، ولو كان حيا لوجب عليه الايمان بمحمد ونصرته، فكيف إن كان الخضر وليا كما يقوله طوائف كثيرون ؟ فأولى ان يدخل في عموم البعثة وأحرى.
ولم ينقل في حديث حسن بل ولا ضعيف يعتمد أنه جاء يوما واحدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا اجتمع به وما ذكر من حديث التعزية فيه، وإن كان الحاكم قد رواه، فإسناده ضعيف، والله أعلم [ وسنفرد لخضر ترجمة على حدة بعد هذا (3) ].
__________
(1) سورة آل عمران 84.
(2) سقط من المطبوعة وأثبته من ا.
(3) ليست في ا.
(*)
(2/151)
ذكر الحديث الملقب بحديث الفتون المتضمن قصة موسى مبسوطة من أولها إلى آخرها قال الامام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب التفسير من سننه، عند قوله تعالى في سورة طه: " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا " " حديث الفتون ".
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله ابن عباس عن قول الله تعالى لموسى: " وفتناك فتونا " فسألته عن الفتون ماهي ؟ فقال استأنف النهار يابن جبير، فإن لها حديثا طويلا.
فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لا تنجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون ؟ فاتمروا وأجمعوا أمرهم [ على أن يبعث رجالا معهم الشفار، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه (1) ] ففعلوا ذلك.
فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار
__________
(1) سقطت من ا (*)
(2/152)
يذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الاعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر
واتركوا بناتهم (1)، ودعوا عاما فلا تقتلوا (2) منهم أحدا، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم.
فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يقتل فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة.
فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام، فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون، يابن جبير ! ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به.
فأوحى الله إليها: أن " لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ".
فأمرها إذا ولدت (3) أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم.
فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها: ما فعلت بابني ؟ لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلى من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه ؟ فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة (4) تستقى منها جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالا، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها.
فلما فتحنه رأت فيه
__________
(1) ا: فيقل بناتهم.
(2) ا: فلا يقتل (3) ا: إذا ولدته.
(4) الفرضة: الثغرة يستقى منها في النهر.
(*)
(2/153)
غلاما، فألقى [ الله (1) ] عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا " من ذكر كل شئ إلا من ذكر موسى.
فلما سمع الذباحون بأمره، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه.
وذلك من الفتون يابن جبير ! فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتى فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه منى كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم.
فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك " فقال فرعون: يكون لك، فأما لي فلا حاجة لي فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له، كما أقرت امرأته لهداه الله كماهداها، ولكن حرمه ذلك ".
فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لان تختار له ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك.
فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها، فلم يقبل.
وأصبحت أم موسى والها (2)، فقالت لاخته: قصى أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرا ؟ أحي ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه.
" فبصرت به " أخته " عن جنب وهم لا يشعرون " والجنب: أن يسمو بصر الانسان إلى شئ بعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به.
فقالت من الفرح
__________
(1) ليست في ا (2) الواله: ا لذاهلة المتحيرة (*)
(2/154)
حين أعياهم الظئرات: أنا " أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم له ؟ هل تعرفينه ؟ حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون يابن جبير ! فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك.
فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرهانزا (1) إلى ثديها
فمصه حتى امتلا جنباه ريا، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها فأتت بها وبه.
فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثى ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئا حبه قط، قالت أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي، فيكون معى لا آلوه خيرا، فعلت، فإني غير تاركة بيتي وولدي وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، وأنبته الله نباتا حسنا، وحفظه لما قد قضى فيه.
فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم.
* * * فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لام موسى: أزيريني ابني (2)، فوعدتها يوما تزيرها (3) إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظئورها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة.
لارى ذلك فيه.
__________
(1) نزا: وثب.
(2) ط: أريني ابني.
(3) ط تريها إياه فيه.
(*)
(2/155)
وأنا باعثة أمينا يحصى [ كل (1) ] ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون.
فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به، وأنحلت أمه لحسن أثرها عليه.
ثم قالت: لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه.
فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الارض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله
إبراهيم نبيه ؟ إنه زعم أنه يرثك ويعلوك ويصرعك ! فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يابن جبير بعد كل بلاء ابتلى به وأريد به (2).
فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت ما بدالك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني ؟ فقالت: اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أن يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل.
فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان هم به، وكان الله بالغا فيه أمره.
فلما بلغ أشده وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل [ معه (3) ] بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: أريد به فتونا.
(3) ليست في ا.
(*)
(2/156)
كل الامتناع.
فبينما (1) موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الاسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى غضبا شديدا، لانه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل، وحفظه لهم [ لا يعلم الناس إلا أنه من الرضاع إلا أم موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ] (2) ما لم يطلع عليه غيره.
فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عزوجل والاسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: " هذا من عمل الشيطان
إنه عدو مضل مبين " ثم قال: " رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين * فأصبح في المدينة خائفا يترقب " الاخبار.
فأتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال ابغونى قاتله ومن يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة من قومه (3)، لا ينبغي له أن يقتل (4) بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم.
فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الاسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الاسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه وكره الذي رأى، فغضب الاسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للاسرائيلي لما
__________
(1) ا: فبينما.
(2) سقطت من المطبوعة وأثبتها من ا.
(3) ا: وإن كان صفوة له مع قومه.
(4) ا: لا يستقيم له أن يقيد.
(*)
(2/157)
فعل بالامس واليوم: " إنك لغوي مبين "، فنظر الاسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالامس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له: " إنك لغوي مبين " أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، إنما أراد الفرعوني، فخاف الاسرائيلي وقال: " يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس ؟ " وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا.
وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الاسرائيلي من الخبر حين (1) يقول: " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس " فأرسل فرعون
الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون في الطريق الاعظم يمشون على هينتهم، يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره.
وذلك من الفتون يابن جبير ! فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عزوجل، فإنه قال: " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان " يعني بذلك حابستين غنمهما، فقال لهما: " ما خطبكما " معتزلتين الناس ؟ قالتا: ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما ننتظر فضول حياضهم.
فسقى لهما فجعل يغترف من الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى فاستظل بشجرة، وقال: " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير "
__________
(1) ا حيث.
(*)
(2/158)
واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا (1) فقال إن لكما اليوم لشأنا، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته.
فلما كلمه " قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين " ليس لفرعون ولا لقومه علينا من سلطان ولسنا في مملكته (2)، فقالت إحداهما: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الامين " فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته وما أمانته ؟ فقالت: أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقى منه، وأما الامانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت
له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك.
ثم قال لي: امشي خلفي وانعتى لي الطريق، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين.
فسرى عن أبيها وصدقها، وظن به الذي قالت.
فقال له: هل لك " أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشرا فمن عندك، وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين " ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة، وكانت السنتان عدة منه، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا.
قال سعيد - وهو ابن جبير - لقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم، فقال: هل تدري أي الاجلين قضى موسى ؟ قلت لا، وأنا [ يومئذ ] (3) لا أدري.
فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال:
__________
(1) الحفل: الممتلئة الضروع باللبن.
والبطان: الشباع.
(2) ا: ملكه (3) ليست في ا.
(*)
(2/159)
أما علمت أن ثمانية كانت على نبي الله واجبة، لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا ؟ وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده، فإنه قضى عشر سنين.
فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك، قلت: أجل وأولى.
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده، ما قص الله عليك في القرآن.
فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل (1) وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل
ربه أن يعينه بأخيه هارون، يكون له ردءا، يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه.
فآتاه الله عزوجل [ سؤله (3) ]، وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون فأمره أن يلقاه.
فاندفع موسى بعصاه حتى لقى هارون، فانطلقا جميعا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما.
ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا: " إنا رسولا ربك " قال: " فمن ربكما ؟ " فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن.
قال: فما تريدان ؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت، قال أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال: " ائت بآية إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي " حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم (4) عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل
__________
(1) ا: في القتل (2) ا: يكون عنه ردءا (3) ليست في ا (4) ا: واقتحم (*)
(2/160)
ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الاول.
فاستشار الملا [ من (1) ] حوله فبما رأى فقالوا له: " إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى " يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب، وقالوا له: اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير، حتى تغلب بسحرك سحرهما.
فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا: يعمل بالحيات.
قالوا: فلا والله ما أحد في
الارض يعمل السحر بالحيات (2) والحبال والعصى الذي نعمل، فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي، وأنا صانع إليكم كل شئ أحببتم.
فتواعدوا " يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ".
قال سعيد: فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة، اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، هو يوم عاشوراء.
فلما اجتمعوا في صعيد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الامر: لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين " يعنون موسى وهرون استهزاء بهما، فقالوا يا موسى، بعد تريثهم بسحرهم " إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين " قال بل ألقوا، " فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون " فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه: " أن ألق عصاك " فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة
__________
(1) ليست في ا (2) ا: يعمل بالسحر والحيات.
(*) " 11 - قصص الانبياء 2 "
(2/161)
فاغرة فاها، فجعلت العصا تلتبس بالحبال، حتى صارت حرزا للثعابين (1) تدخل فيه حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته.
فلما عرف السحرة ذلك، قالوا لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكنه أمر من الله تعالى، آمنا بالله وبما جاء به موسى ونتوب إلى الله مما كنا عليه.
فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه وظهر الحق " وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ".
وامرأة فرعون بارزة مبتذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون
وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى.
* * * فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده (2) وقال هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ أرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ليوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده ونكث عهده، حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلا.
فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن [ حاشرين (3) ]
__________
(1) الاصل إلى الثعابين (2) ا: أخلف من غده (3) ليست في ا (*)
(2/162)
فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر: إذا ضربك موسى عبدي بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه.
فنسى موسى أن يضرب البحر بالعصى وانتهى إلى البحر وله قصيف (1) مخافة (2) أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله عزوجل !.
فلما تراءى الجمعان وتقاربا " قال أصحاب موسى: إنا لمدركون " افعل ما أمرك به ربك، فإنه لم يكذب ولم تكذب.
قال وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى فلما [ أن (3) ]
جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما امر فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
* * * ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم " قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ماهم فيه وباطل ما كانوا يعملون " قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم.
__________
(1) القصيف: أي تكسر أمواج البحر حتى يسمع لها صوت كالرعد.
(2) ا: فخاف.
(3) من ا.
(*)
(2/163)
ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال: أطيعوا هرون فإن الله قد استخلفه عليكم، فإني ذاهب إلى ربي.
وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها.
فلما أتى ربه عزوجل وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما، وقد صامهن ليلهن ونهارهن، كره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم، فتناول موسى شيئا من نبات الارض فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت ؟ - وهو أعلم بالذي كان - قال يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح.
قال: أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ! ارجع فصم عشرا ثم ائتنى، ففعل موسى ما أمره به ربه.
فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الاجل ساءهم ذلك، وكان هرون قد خطبهم فقال: إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم
عواري وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لانفسنا.
فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم.
وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة فمر بهرون فقال له هرون: يا سامري ألا تلقى ما في يديك ؟ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال
(2/164)
ذلك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشئ إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هرون.
فقال: أريد أن تكون عجلا، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلا أجوف، ليس فيه روح وله خوار.
قال ابن عباس: لا والله ما كان فيه صوت قط، إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك.
فتفرق بنو إسرائيل فرقا، فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به ؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق ! وقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعكفنا عليه حين رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى.
وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا عدم التكذيب به.
فقال لهم هرون عليه السلام: " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن " ليس هذا.
قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا ؟ هذه أربعون يوما قد مضت.
وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويبتغيه.
(2/165)
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقى قومه من بعده، " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا " فقال لهم ما سمعتم مما في القرآن " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " وألقى الالواح من الغضب.
ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له، وانصرف (1) إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم " فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي * قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس، وإن لك موعدا لن تخلفه، وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه.
فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأى هرون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا [ ربك (2) ] أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فتكفر عنا ما عملنا.
فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لذلك، لا يألو الخير من خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في الحق، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الارض.
فاستحيا نبي الله عليه السلام من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال: " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ " وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به، فلذلك رجفت بهم الارض فقال: " ورحمتي وسعت كل شئ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا
__________
(1) ا: فانصرف.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/166)
يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل ".
فقال: يا رب سألتك التوبة لقومي، فقلت: إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم.
فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد، فيقتله بالسيف ولا يبالى من قتل في ذلك الموطن.
وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهرون [ أمرهم ]، واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول.
ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجها نحو الارض المقدسة، وأخذ الالواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها، فنتق (1) الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم.
ثم مضوا حتى أتوا الارض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمرا عجبا (2)
من عظمها، فقالوا: " يا موسى إن فيها قوما جبارين " لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، " فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ".
" قال رجلان من الذين يخافون " قيل ليزيد: هكذا قرأه ؟ قال نعم، من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه، فقالوا: نحن أعلم بقومنا
__________
(1) نتق: رفع.
: وفي ا: ونتق.
(2) ا: عجيبا.
(*)
(2/167)
إن كنتم إثما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون.
ويقول أناس: إنهم من قوم موسى.
فقال الذين يخافون من بني إسرائيل: " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " فأغضبوا موسى، فدعا عليهم وسماهم فاسقين.
ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ فاستجاب الله له، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، فحرمها (1) عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ؟ ؟ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا.
وأمر موسى فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من محلة إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه [ بالمنزل الاول (2) ] بالامس.
* * * رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق
ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل.
فقال: كيف يفشى عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الاسرائيلي الذي حضر
__________
(1) ط: وحرمها.
(2) من ا.
(*)
(2/168)
ذلك ؟ فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية وانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري، فقال له: يا أبا إسحق، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الاسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الاسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره.
هكذا ساق هذا الحديث الامام النسائي، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما من حديث يزيد بن هرون.
والاشبه والله أعلم أنه موقوف، وكونه مرفوعا فيه نظر.
وغالبة متلقى من الاسرائيليات وفيه شئ يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام.
وفي بعض ما فيه نظر ونكارة، والاغلب أنه [ من (1) كلام كعب الاحبار.
وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك، والله أعلم.
__________
(1) من ا.
(*)
(2/169)
ذكر بناء قبة الزمان قال أهل الكتاب: وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاز وجلود الانعام وشعر الاغنام، وأمر بزينتها بالحرير المصبغ والذهب
والفضة على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب، ولها عشر سرادقات، طول كل واحد ثمانية وعشرون (1) ذراعا، وعرضه أربعة أذرع ولها أربعة أبواب وأطناب من حرير ودمقس (2) مصبغ، وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة ولكل زاوية بابان وأبواب أخر كبيرة، وستور من حرير مصبغ وغير ذلك مما يطول ذكره.
وبعمل تابوت من خشب الشمشاز يكون طوله ذراعين ونصفا، وعرضه ذراعين وارتفاعه ذراعا ونصفا، ويكون مضببا بذهب خالص [ من (3) ] داخله وخارجه، وله أربع حلق في أربع زواياه، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب - يعنون صفة ملكين بأجنحة، وهما متقابلان صنعة (4) رجل اسمه: " بصليال ".
وأمره أن يعمل مائدة من خشب الشمشاز طولها ذراعان وعرضها ذراعان (5) ونصف، لها ضباب ذهب وإكليل ذهب، بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب، وأربع حلق من نواحيها من ذهب، مغرزة في مثل الرمان من خشب ملبس ذهبا.
وأن يعمل صحافا ومصافي وقصاعا على المائدة،
__________
(1) ا: مائة وعشرون.
(2) ا: ونقش.
(3) ليست في ا.
(4) ا: صفة.
(5) ط: طولها ذراع وعرضها ذراع ونصف.
(*)
(2/170)
ويصنع منارة من الذهب دلى فيها ست قصبات من ذهب، من كل جانب ثلاثة، على كل قصبة ثلاث سرج.
وليكن في المنارة أربع قناديل، ولتكن هي وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب.
صنع ذلك " بصليال " أيضا، وهو الذي عمل المذبح أيضا.
ونصبت (1) هذه القبة أول يوم من سنتهم، وهو أول يوم من الربيع
ونصب تابوت الشهادة، وهو - والله أعلم - المذكور في قوله تعالى: " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن إن كنتم مؤمنين ".
وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولا جدا، وفيه شرائع لهم وأحكام وصفة قربانهم، وكيفيته.
وفيه أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجيئهم (2) بيت المقدس، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها، ويتقربون عندها، وأن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها (3)، وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجدا لله عزوجل.
ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه، ويأمره وينهاه، وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيين فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عزوجل إليه من الاوامر والنوهي.
__________
(1) ط: ونصب.
(2) ط: مجئ.
(3) ا: حولها.
(*)
(2/171)
وإذا تحاكموا إليه في شئ ليس عنده من الله فيه شئ يجئ إلى قبة الزمان، ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبيين، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة.
وقد كان هذا مشروعا لهم في زمانهم، أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ واللآلى، في معبدهم وعند مصلاهم، فأما في شريعتنا فلا، بل قد
نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها، لئلا تشغل المصلين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما وسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، للذي وكله على عمارته: ابن للناس ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
وقال ابن عباس: لا نزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم.
وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه، فهذه الامة غير مشابهة من كان قبلهم من الامم، إذ جمع الله هممهم (1) في صلاتهم على التوجه إليه والاقبال عليه، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده (2)، من العبادة العظيمة.
فلله الحمد والمنة.
وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه، يصلون إليها وهي قبلتهم وكعبتهم، وإمامهم كليم الله موسى عليه السلام، ومقدم القربان أخوه هارون عليه السلام.
فلما مات هارون ثم موسى عليهما السلام استمر بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم، من أمر القربان وهو فيهم إلى الآن.
__________
(1) ط: همهم.
(2) ا: في غير ما هم فيه.
(*)
(2/172)
وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الامر (1) بعده فتاه يوشع بن نون عليه السلام، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس كما سيأتي بيانه.
والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت القدس فكانوا يصلون إليها.
فلما بادت صلوا إلى محلتها وهي الصخرة، فلهذا كانت قبلة الانبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وكان يجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت
المقدس فصلى إليها ستة عشر - وقيل سبعة عشر - شهرا.
ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهي قبلة إبراهيم في شعبان سنة ثنتين في وقت صلاة العصر وقيل الظهر، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: " سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.
إلى قوله: " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنوليك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام (2) " الآيات.
__________
(1) ا: الامور.
(2) سورة البقرة.
(*)
(2/173)
قصة قارون مع موسى عليه السلام قال الله تعالى: " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم، وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما أوتيته على علم عندي، أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ؟ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون * فخرج على قومه في زينته، قال الذين يريدون الحياة الدنيا، يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم، ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا، ولا يلقاها إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الارض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين * وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس، يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لولا أن من الله علينا لخسف بنا، ويكأنه لا يفلح الكافرون
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (1) ".
قال الاعمش عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
__________
(1) الآيات: 76 - 83 من سورة القصص.
(*)
(2/174)
قال: كان قارون ابن عم موسى، وكذا قال إبراهيم النخعي و عبد الله بن الحارث بن نوفل، وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وزاد فقال: هو قارون بن يصهب بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث.
قال ابن جرير (1) وهذا قول أكثر أهل العلم: أنه كان ابن عم موسى، ورد قول ابن إسحاق إنه كان عم موسى.
قال قتادة: وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله.
وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبرا طولا ترفعا على قومه.
وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه، حتى إن مفاتحه كان يثقل حملها على الفئام (2) من الرجال الشداد، وقد قيل إنها كانت [ من الجلود وإنها كانت (3) ] تحمل على ستين بغلا، فالله أعلم.
* * * وقد وعظه (4) النصحاء من قومه قائلين: " لا تفرح " أي لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك، " إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة " يقولون: لتكن همتك مصروفة لتحصيل (5) ثواب الله في الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا " لا تنس نصيبك من الدنيا " أي وتناول منها بمالك ما أحل الله لك، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال،
" وأحسن كما أحسن الله إليك " أي وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله
__________
(1) المطبوعة: قال ابن جريج وهو تحريف.
(2) الفئام: الجماعة من الناس.
(3) من ا (4) ا: نصحه.
(5) ا: إلى تحصيل (*)
(2/175)
خالقهم وبارئهم إليك، " ولا تبغ الفساد في الارض " أي ولا تسئ إليهم ولا تفسد فيهم، فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم فيعاقبك ويسلبك ما وهبك، " إن الله لا يحب المفسدين ".
فما كان جواب قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن " قال إنما أوتيته على علم عندي " يعني أنا لا أحتاج إلى استماع (1) ما ذكرتم، ولا [ إلى (2) ] ما إليه أشرتم، فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أنى أستحقه، وأنى أهل له، ولولا أني حبيب إليه وحظي عنده لما أعطاني ما أعطاني.
قال الله تعالى ردا عليه فيما (3) ذهب إليه: " أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ؟ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " أي قد أهلكنا من الامم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلو كان ما قال صحيحا لم نعاقب أحدا ممن كان أكثر مالا منه، ولم يكن ماله دليلا على محبتنا له واعتنائنا به، كما قال تعالى: " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا (4) "، وقال تعالى: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (1) " وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله: " إنما أوتيته على علم عندي ".
وأما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء،
__________
(1) ط: إلى استعمال (2) ليست في ا.
(3) المطبوعة: وما ذهب (4) سورة (5) الآيتان: 55، 56 من سورة المؤمنون.
(*)
(2/176)
أو أنه كان يحفظ الاسم الاعظم فاستعمله في جمع الاموال، فليس بصحيح، لان الكيمياء تخييل وصنعة، لا تحيل الحقائق، ولا تشابه صنعة الخالق (1).
والاسم الاعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به، وقارون كان كافرا في الباطن منافقا في الظاهر.
ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير، ولا يبقى بين الكلامين تلازم، وقد وضحنا هذا في كتابنا التفسير، ولله الحمد.
* * * قال الله تعالى: " فخرج على قومه في زينته " ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم، من ملابس ومراكب وخدم وحشم.
فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه بما عليه وله، فلما سمع مقالتهم العلماء، ذوو الفهم الصحيح الزهاد الالباء، قالوا لهم: " ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا " أي ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى.
قال الله تعالى: " ولا يلقاها إلا الصابرون " أي وما يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة، وهذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العلية، عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية [ إلا من هدى الله قلبه وثبت فؤاده، وأيد لبه وحقق مراده (2) ].
وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات ! قال الله تعالى: " فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ".
__________
(1) ط: الخلاق.
(2) ليست في ا (*) (م 12 - قصص الانبياء 2)
(2/177)
لما ذكر تعالى خروجه في زينته واختياله فيها، وفخره على قومه بها قال: " فخسفنا به وبداره الارض " كما روى البخاري من حديث الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الارض إلى يوم القيامة ".
ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد، عن سالم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقد ذكر [ عن (1) ] ابن عباس والسدى: أن قارون أعطى امرأة بغيا مالا على أن تقول لموسى عليه السلام وهو في ملا من الناس: إنك فعلت بي كذا وكذا، فيقال إنها قالت له ذلك، فأرعد من الفرق وصلى ركعتين، ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك، وما حملك عليه، فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك، واستغفرت الله وتابت إليه.
فعند ذلك خر موسى لله ساجدا، ودعا الله على قارون.
فأوحى الله إليه: أني قد أمرت الارض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الارض أن تبتلعه وداره، فكان ذلك، فالله أعلم.
وقد قيل إن قارون لماخرج على قومه في زينته مر بجحفله وبغاله وملابسه على مجلس موسى عليه السلام، وهو يذكر قومه بأيام الله.
فلما رآه الناس انصرفت وجوه كثير منهم (2) ينظرون إليه، فدعاه موسى عليه السلام فقال له: ما حملك على هذا ؟ فقال: يا موسى أما لئن كنت فضلت علي بالنبوة، فقد فضلت عليك بالمال، ولئن شئت لتخرجن فلتدعون علي ولادعون عليك.
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) ا: كثير من الناس.
(*)
(2/178)
فخرج [ موسى ] (1) وخرج قارون في قومه، فقال له موسى.
تدعو أو أدعو أنا ؟ قال: أدعو أنا، فدعا قارون فلم يجب له في موسى، فقال موسى: أدعو ؟ قال نعم.
فقال موسى: اللهم مر الارض فلتطعنى اليوم، فأوحى الله إليه إني قد فعلت.
فقال موسى: يا أرض خذيهم.
فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم.
ثم قال: أقبلي بكنوزهم وأموالهم، فأقبلت بها حتى نظروا إليها، ثم أشار موسى بيده فقال: اذهبوا بني لاوى فاستوت بهم الارض.
وقد روى عن قتادة أنه قال: يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة.
وعن ابن عباس أنه قال: خسف بهم إلى الارض السابعة.
وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا إسرائيليات كثيرة، أضربنا عنها صفحا وتركناها قصدا.
وقوله تعالى: " فما كان من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين " لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره كما قال: " فماله من قوة ولا ناصر ".
ولما حل به ما حل من الخسف وذهاب الاموال وخراب الدار، وإهلاك النفس والاهل والعقار، ندم من كان تمنى مثل ما أوتى، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون، ولهذا قالوا: " لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون "
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/179)
وقد تكلمنا على لفظ ويكأن في التفسير، وقد قال قتادة: ويكأن بمعنى ألم تر أن.
وهذا قول حسن من حيث المعنى، والله أعلم.
ثم أخبر تعالى: أن " الدار الآخرة " وهي دار القرار، وهي الدار التي يغبط من أعطيها وبعزى من حرمها إنما هي معدة " للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا ".
فالعلو [ هو (1) ] التكبر والفخر والاشر والبطر.
والفساد هو عمل المعاصي اللازمة والمتعدية، من أخذ أموال الناس وإفساد معايشهم، والاساءة إليهم وعدم النصح لهم.
ثم قال تعالى: " والعاقبة للمتقين ".
وقصة قارون هذه قد تكون قبل خروجهم من مصر، لقوله: " فخسفنا به وبداره الارض " فإن الدار ظاهرة في البنيان، وقد تكون بعد ذلك في التيه، وتكون الدار عبارة عن المحلة التي تضرب فيها الخيام، كما قال عنترة: يا دار عبلة بالجواء تكلمي * وعمى صباحا دار عبلة واسلمى والله أعلم.
وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن، قال الله: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (2) ".
__________
(1) ليست في ا.
(2) الآيتان: 23، 24 من سورة غافر.
(*)
(2/180)
وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود: " وقارون
وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات، فاستكبروا في الارض وما كانوا سابقين * فكلا أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الارض، ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (1) ".
فالذي خسف به الارض قارون كما تقدم، والذي أغرق فرعون وهامان وجنودهما إنهم كانوا خاطئين.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف ".
انفرد به أحمد رحمه الله.
__________
(1) الآيتان: 39، 40 (*)
(2/181)
باب ذكر فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفاته قال الله تعالى: " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا * وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا * ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (1) ".
وقال تعالى: " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي (2) فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين " وتقدم في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول
من يفيق، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش، فلا أدري أصعق فأفاق قبلي ؟ أم جوزي بصعقة الطور ؟ " وقد قدمنا أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الهضم والتواضع، وإلا فهو - صلوات الله وسلامه عليه - خاتم الانبياء وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، [ قطعا (3) ] جزما لا يحتمل النقيض.
وقال تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط " إلى أن قال: " رسلا قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلا لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليما (4) ".
وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيها (5) ".
__________
(1) الآيات: 51 - 52 من سورة مريم (2) الآية: 144 من سورة الاعراف (3) ليست في ا (4) الآية: 164 من سورة النساء (5) الآية: 69 من سورة الاحزاب (*)
(2/182)
قال الامام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحق بن إبراهيم بن روح ابن عبادة، عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى [ من (1) ] جلده شئ استحياء منه.
فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة (2) وإما آفة، وإن الله عزوجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على
ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله، وبرأه [ الله (3) ] مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا.
فذلك قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ".
وقد رواه الامام أحمد من حديث عبد الله بن شقيق وهمام بن منبه عن أبي هريرة به.
وهو في الصحيحين من حديث عبد الرزاق [ عن معمر (4) ] عن همام عنه به.
ورواه مسلم من حديث عبد الله بن شقيق العقيلي عنه.
قال بعض السلف: كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله،
__________
(1) سقطت من الاصل وأثبتها من صحيح البخاري 2 / 18 ط الاميرية.
(2) الادرة: انتفاخ الخصية.
(3) من ا.
ورواية البخاري: وأبرأه مما يقولون.
(4) سقطت من ا: (*)
(2/183)
وطلب منه أن يكون معه وزيرا، فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه طلبته [ وجعله نبيا (1) ]، كما قال: " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا " ثم قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن الاعمش (2) قال سمعت أبا وائل، قال سمعت عبد الله، قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما، فقال رجل: إن هذه لقسمة (3) ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فغضب، حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: " يرحم الله موسى قد أوذى (4) بأكثر من
هذا فصبر ".
وكذا رواه مسلم من غير وجه عن سليمان بن مهران الاعمش به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد بن حجاج، سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشم مولى لهمدان، عن زيد بن أبي زائد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ".
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه، قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة، فثبت حتى سمعت ما قالا، ثم أتيت رسول الله فقلت يا رسول الله ! إنك قلت لنا لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي [ شيئا (1) ] وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا.
فاحمر
__________
(1) سقطت من ا (2) ا: حدثنا الاعمش (3) ط: قسمة.
وما أثبته عن ا موافق لرواية البخاري 2 / 118 (4) ا: لقد أوذى.
(*)
(2/184)
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه، ثم قال: " دعنا منك فقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر ! " وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل عن الوليد ابن أبي هاشم به.
وفي رواية للترمذي ولابي داود من طريق ابن عبد عن إسرائيل عن السدى عن الوليد به.
وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه.
وقد ثبت في الصحيحين في أحاديث الاسراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مر بموسى وهو قائم يصلي في قبره، ورواه مسلم عن أنس.
وفي الصحيحين من رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر ليلة أسرى به بموسى في السماء السادسة، فقال له جبريل: هذا موسى، فسلم عليه.
قال: " فسلمت عليه فقال: مرحبا بالنبي الصالح والاخ الصالح، فلما تجاوزت بكى.
قيل له ما يبكيك ؟ قال أبكي لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ! ".
وذكر إبراهيم في السماء السابعة، وهذا هو المحفوظ.
وما وقع في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس، من أن إبراهيم في السادسة وموسى في السابعة، بتفضيل كلام الله - فقد ذكر غير واحد من الحفاظ: أن الذي عليه الجادة: أن موسى في السادسة وإبراهيم في السابعة، وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
(2/185)
واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته خمسين صلاة في اليوم والليلة - مر (1) بموسى، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لامتك، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وأفئدة.
فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عزوجل، ويخفف عنه في كل مرة، حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
وقال الله تعالى: هي خمس وهي خمسون أي بالمضاعفة، فجزى الله عنا محمدا صلى الله عليه وسلم خيرا، وجزى الله عنا موسى عليه السلام خيرا.
وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا حصين بن نمير عن حصين ابن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: " عرضت علي الامم ورأيت سوادا كثيرا سد الافق، فقيل هذا موسى في قومه ".
هكذا روى البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرا.
وقد رواه الامام أحمد مطولا فقال: حدثنا شريح، حدثنا هشام، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي أنقض البارحة ؟ قلت أنا، ثم قلت: إني لم أكن في صلاة ولكن لدغت.
قال: وكيف فعلت ؟ قلت: استرقيت قال وما حملك على ذلك ؟ قال قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الاسلمي أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة "، فقال سعيد - يعني ابن جبير - قد أحسن من أنهى إلي ما سمع.
__________
(1) ا: فمر.
(*)
(2/186)
ثم قال: حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عرضت علي الامم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي معه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فقلت هذه أمتي ؟ فقيل هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الافق، فإذا سواد عظيم، ثم قيل انظر إلى هذا الجانب، فإذا سواد عظيم، فقيل: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل، فخاض القوم في ذلك، فقالوا: من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ؟
فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الاسلام ولم يشركوا بالله شيئا قط، وذكروا أشياء.
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه ؟ فأخبروه بمقالتهم فقال: " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم " يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن (1) الاسدي فقال: أنا منهم يا رسول الله ؟ قال: أنت منهم.
ثم قام آخر فقال: أنا منهم يا رسول الله ؟ فقال سبقك بها عكاشة ! ".
وهذا الحديث له طرق كثيرة جدا وهو في الصحاح والحسان وغيرها وقد أوردناها في باب صفة الجنة عند ذكر أحوال القيامة وأهوالها (2).
* * *
__________
(1) المطبوعة: ابن محيصن.
وهو خطأ.
(2) وذلك في كتاب النهاية للمؤلف.
(*)
(2/187)
وقد ذكر الله تعالى موسى عليه السلام في القرآن كثيرا، وأثنى عليه وأورد قصته في كتابه العزيز مرارا، وكررها كثيرا، مطولة ومبسوطة ومختصرة، وأثنى عليه [ ثناء ] بليغا.
وكثيرا ما يقرنه الله ويذكره، ويذكر كتابه مع محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه، كما قال في سورة البقرة: " ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ".
وقال تعالى: " آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك
الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه، وأنزل التوراة والانجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان، إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ".
وقال تعالى في سورة الانعام: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ، قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس، تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا، وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ".
فأثنى الله تعالى على التوراة، ثم مدح القرآن العظيم مدحا عظيما.
وقال تعالى في آخرها: " ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي
(2/188)
أحسن وتفصيلا لكل شئ، وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ".
وقال تعالى في سورة المائدة: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " إلى أن قال: " وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون * وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " الآية.
فجعل القرآن حاكما على سائر الكتب غيره، وجعله مصدقا لها
ومبينا ما وقع فيها من التحريف والتبديل، فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب، فلم يقدروا على حفظها ولا على ضبطها وصونها، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم، لسوء فهمهم (1) وقصورهم في علومهم، ورداءة قصودهم وخيانتهم لمعبودهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسوله - مالا يحد ولا يوصف، وما لا يوجد (2) مثله ولا يعرف.
وقال تعالى في سورة الانبياء: " ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكر للمتقين * الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون * وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ".
__________
(1) ا: لسوء فهو مهم.
(2) ا: ولا يوجد.
(*)
(2/189)
وقال الله تعالى في سورة القصص: " فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى، أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ؟ قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون * قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (1) ".
فأثنى الله على الكتابين وعلى الرسولين عليهما السلام.
وقالت الجن لقومهم: " إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ".
وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى من أول الوحى وتلا عليه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الانسان من علق * اقرأ وربك الاكرم * الذي علم بالقلم * علم الانسان ما لم يعلم " قال: سبوح سبوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران.
وبالجملة فشريعة موسى عليه السلام كانت [ شريعة (2) ] عظيمة، وأمته
كانت أمة كثيرة، ووجد فيها أنبياء وعلماء، وعباد وزهاد وألباء، وملوك وأمراء، وسادات وكبراء، لكنهم كانوا فبادوا، وتبدلوا كما بدلت شريعتهم ومسخوا قردة وخنازير، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم، وجرت عليهم خطوب وأمور يطول ذكرها.
ولكن سنورد ما فيه مقنع لمن أراد أن يبلغه خبرها إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
__________
(1) سورة الاحقاف 3 (2) سقطت من المطبوعة.
(*)
(2/190)
ذكر حجه عليه السلام إلى البيت العتيق [ وصفته (1) ] قال الامام أحمد: حدثنا هشام، حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الازرق فقال: أي واد هذا ؟ " قالوا: وادي الازرق، قال: كأني أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية، وله جؤار إلى الله عزوجل بالتلبية "، حتى أتى على ثنية هرشاء فقال: " أي ثنية هذه ؟ " قالوا هذه ثنية هرشاء، قال: " كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة " - قال هشيم: يعني ليفا - وهو يلبى.
أخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند به.
وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: " إن موسى حج على ثور أحمر "، وهذا غريب جدا.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عون، عن مجاهد قال: كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال، فقال: إنه مكتوب بين عينيه " ك ف ر " قال: ما يقولون ؟ قال يقولون مكتوب بين عينيه " ك ف ر "
فقال ابن عباس: لم أسمعه.
قال ذلك ولكن قال: " أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فرجل آدم جعد [ الشعر (2) ] على جمل أحمر مخطوم بخلبة، كأني أنظر إليه وقد انحدر من الوادي يلبى "، قال هشيم: الخلبة: الليف.
__________
(1) من ا.
(2) ليست في ا (*)
(2/191)
ثم رواه الامام أحمد عن أسود، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم: فأما عيسى فأحمر (1) جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم سبط، قالوا فإبراهيم ؟ قال: انظر إلى صاحبكم ".
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا شيبان قال: حدث قتادة عن أبي العالية، حدثنا ابن عم نبيكم (2) ابن عباس قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ليلة أسرى بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم مربوع (3) الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط (4) الرأس.
وأخرجاه من حديث قتادة به.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرازق حدثنا معمر قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسرى به: " لقيت موسى، قال فنعته، فإذا رجل - حسبته قال - مضطرب (5)، رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى - فنعته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس، يعني الحمام، قال: ورأيت
إبراهيم وأنا أشبه ولده به.
" الحديث.
وقد تقدم غالب هذه الاحاديث في ترجمة الخليل.
__________
(1) ا: فأبيض.
(2) ا: ابن عمكم.
(3) المربوع: الوسط بين الطويل والقصير.
(4) السبط: المسترسل، نقيض الجعد.
(5) المضطرب: الطويل مع رخاوة.
(*)
(2/192)
ذكر وفاته عليه السلام قال البخاري في صحيحه: " وفاة موسى عليه السلام " حدثنا يحيى ابن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه (1) فرجع إلى ربه عزوجل، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة.
قال: أي رب ثم ماذا ؟ قال: ثم الموت، قال فالآن.
قال: فسأل الله عزوجل أن يدنيه من الارض المقدسة رمية بحجر قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلو كنت ثم لاريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الاحمر ".
قال: وأنبأنا معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه قد روى مسلم الطريق الاول من حديث عبد الرزاق به - ورواه الامام أحمد من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة مرفوعا وسيأتي.
وقال الامام أحمد: حدثنا الحسن، حدثنا لهيعة، حدثنا أبو يونس
يعني سليم بن جبير - عن أبي هريرة، قال الامام أحمد لم يرفعه، قال: " جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فقال أجب ربك، فلطم
__________
(1) صكه: قعه.
(*) (م 13 - قصص الانبياء 2)
(2/193)
موسى عين ملك الموت ففقأها، فرجع الملك إلى الله فقال: إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت، قال: وقد فقأ عينى.
قال فرد الله عينه وقال: ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة.
قال ثم مه ؟ قال: ثم الموت.
قال فالآن يا رب من قريب " تفرد به أحمد، وهو موقوف بهذا اللفظ.
وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال معمر: وأخبرني من سمع الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذكره.
ثم استشكله ابن حبان وأجاب عنه بما حاصله: أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام كما جاء جبريل في صورة أعرابي، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط في صورة شباب، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولا.
وكذلك موسى لعله لم يعرفه، لذلك لطمه ففقأ عينه لانه دخل داره بغير إذنه، وهذا موافق لشريعتنا في جواز فق ء عين من نظر إليك في دارك بغير إذن.
ثم أورد الحديث من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جاء ملك الموت
إلى موسى ليقبض روحه، قال له أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأ عينه ".
وذكر تمام الحديث كما أشار إليه البخاري.
ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه، قال له أجب ربك، وهذا
(2/194)
التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ، من تعقيب قوله أجب ربك بلطمه.
ولو استمر على الجواب الاول لتمشى له، وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة.
ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق، إذ لم يتحقق في [ تلك (1) ] الساعة الراهنة أنه ملك كريم، لانه كان يرجو أمورا كثيرة كان يحب وقوعها في حياته، من خروجهم من التيه، ودخولهم الارض المقدسة.
وكان قد سبق في قدرة (2) الله أنه عليه السلام يموت في التيه بعد هرون أخيه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وقد زعم بعضهم: أن موسى عليه السلام هو الذي خرج بهم من التيه ودخل بهم الارض المقدسة.
وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين.
و [ مما ] (3) يدل على ذلك قوله لما اختار الموت: رب أدنني إلى الارض المقدسة رمية حجر، ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك ولكن لما كان مع قومه بالتيه وحانت وفاته عليه السلام أحب أن يتقرب إلى الارض التي هاجر إليها، وحث قومه عليها.
ولكن حال بينهم وبينها القدر، رمية بحجر.
ولهذا قال سيد البشر، ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر: " فلو كنت ثم لاريتكم قبره عند الكثيب الاحمر ".
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت وسليمان
__________
(1) من ا.
(2) المطبوعة: دورة محرفة.
وما أثبته من ا.
(3) ليست في ا.
(*)
(2/195)
التيمى عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما أسرى بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الاحمر " ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وقال السدى عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة قالوا: ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هرون فائت به جبل كذا وكذا.
فانطلق موسى وهرون نحو ذلك الجبل، فإذا هم بشجرة لم تر شجرة مثلها، وإذا هم ببيت مبني، وإذا هم بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة.
فلما نظر هرون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال يا موسى: إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال له موسى: فنم عليه، قال إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي، قال له: لا ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم.
قال: يا موسى [ بل (1) ] نم معى فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعا.
فلما ناما أخذ هرون الموت، فلما وجد حسه قال: يا موسى خدعتني، فلما قبض رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء.
فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هرون قالوا إن موسى قتل هرون، وحسده على حب بني إسرائيل له، وكان هرون أكف عنهم وألين لهم من موسى، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم.
فلما بلغه ذلك قال لهم: (1) من ا (*)
(2/196)
ويحكم ! كان أخي أفتروني أقتله ؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين، ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والارض.
ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشى ويوشع فتاه إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله ؟ فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع.
فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بنو إسرائيل وقالوا قتلت نبي الله.
فقال: لا والله ما قتلته، ولكنه استل مني، فلم يصدقوه وأرادوا قتله.
قال: فإذا لم تصدقوني فأخروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وإنا قد رفعناه إلينا.
فتركوه.
ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات ولم يشهد الفتح.
وفي بعض هذا السياق نكارة وغرابة، والله أعلم.
وقد قدمنا أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى، سوى يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، وهو زوج مريم أخت موسى وهرون، وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم، اللذان أشارا على ملا بني إسرائيل بالدخول عليهم.
وذكر وهب بن منبه.
أن موسى عليه السلام مر بملا من الملائكة يحفرون قبرا، فلم ير أحسن منه ولا أنضر ولا أبهج، فقال يا ملائكة الله: لمن تحفرون هذا القبر ؟ فقالوا: لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب
(2/197)
أن تكون هذا العبد فادخل هذا القبر، وتمدد فيه وتوجه إلى ربك، وتنفس أسهل تنفس، ففعل ذلك، فمات صلوات الله وسلامه عليه، فصلت عليه الملائكة ودفنوه.
وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أمية بن خالد ويونس، قالا حدثنا حماد ابن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال يونس: رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان ملك الموت يأتي الناس عيانا، قال فأتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه، فأتى ربه فقال يا رب عبدك موسى فقأ عينى، ولولا كرامته عليك لعتبت عليه وقال يونس، لشققت عليه - قال له اذهب إلى عبدى، وقل (1) له فليضع يده على جلد أو مسك ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة، فأتاه فقال له: فقال: ما بعد هذا ؟ قال الموت.
قال: فالآن.
قال فشمه شمة فقبض روحه ".
قال يونس فرد الله عليه عينه وكان يأتي الناس خفية.
وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب، عن مصعب بن المقدام عن حماد بن سلمة به، فرفعه [ أيضا (2) ].
__________
(1) ا: فقل له.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/198)
ذكر نبوة يوشع وقيامه بأعباء بني إسرائيل بعد موسى وهرون عليهما السلام.
هو الخليل يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب، بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، وأهل الكتاب يقولون: يوشع ابن عم هود.
وقد ذكره الله تعالى في القرآن (1) غير مصرح باسمه في قصة الخضر كما تقدم من قوله: " وإذ قال موسى لفتاه " " فلما جاوزا قال لفتاه " وقدمنا ما ثبت في الصحيح من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أنه يوشع بن نون.
وهو متفق على نبوته عند أهل الكتاب، فإن طائفة منهم وهم السامرة، لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون، لانه مصرح به في التوراة، ويكفرون بما وراءه وهو الحق [ مصدقا لما معهم (2) ] [ من ربهم (3) ] فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ! وأما ما حكاه ابن جرير وغيره من المفسرين عن محمد بن إسحق: من أن النبوة حولت من موسى إلى يوشع في آخر عمر موسى، فكان موسى يلقى يوشع فيسأله ما أحدث الله [ إليه (4) ] من الاوامر والنواهي، حتى قال له: يا كليم الله إني كنت لا أسألك عما يوحى الله إليك حتى تخبرني
__________
(1) ا: في الكتاب (2) من ا (3) سقطت من ا (4) من ا (*)
(2/199)
أنت ابتداء من تلقاء نفسك.
فعند ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت.
ففي هذا نظر، لان موسى عليه السلام لم يزل الامر والوحي والتشريع والكلام من الله إليه من جميع أحواله، حتى توفاه الله عز وجل.
ولم يزل معززا مكرما مدللا وجيها عند الله، كما قدمنا في الصحيح من قصة فقئه عين ملك الموت، ثم بعثه الله إليه إن كان يريد الحياة فليضع يده على جلد ثور فله بكل شعرة وارت يده سنة يعيشها، قال ثم ماذا ؟ قال الموت، قال فالآن يا رب.
وسأل الله أن يدنيه إلى بيت المقدس رمية بحجر،
وقد أجيب إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا الذي ذكره محمد بن إسحق إن كان إنما يقوله من كتب أهل الكتاب، ففي كتابهم الذي يسمونه التوراة: أن الوحى لم يزل ينزل على موسى في كل حين (1) يحتاجون إليه إلى آخر مدة موسى، كما هو المعلوم من سياق كتابهم عند تابوت الشهادة في قبة الزمان.
ولقد ذكروا في السفر الثالث: أن الله أمر موسى وهرون أن يعدا بني إسرائيل على أسباطهم، وأن يجعلا على كل سبط من الاثنى عشر أميرا وهو النقيب، وما ذاك إلا ليتأهبوا للقتال، قتال الجبارين عند الخروج من التيه، وكان هذا عند اقتراب انقضاء الاربعين سنة.
ولهذا قال بعضهم: إنما فقأ موسى عليه السلام عين ملك الموت، لانه لم يعرفه في صورته تلك، ولانه كان قد أمر بأمر كان يرتجى وقوعه في زمانه، ولم يكن في قدر الله أن يقع ذلك في زمانه، بل في زمان [ فتاه (2) ] يوشع بن نون عليه السلام.
__________
(1): في كل أمر.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/200)
كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أراد غزو الروم بالشام فوصل إلى تبوك ثم رجع عامه ذلك في سنة تسع ثم حج في سنة عشر، ثم رجع فجهز جيش أسامة إلى الشام طليعة بين يديه، ثم كان على عزم الخروج إليهم امتثالا لقوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (1) " ولما جهز رسول الله جيش أسامة، توفى عليه الصلاة والسلام وأسامة
مخيم بالجرف، فنفذه صديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم لما لم شعث جزيرة العرب، وما كان دهى من أمر أهلها، وعاد الحق إلى نصابه، جهز الجيوش يمنة ويسرة إلى العراق أصحاب كسرى ملك الفرس، وإلى الشام أصحاب قيصر ملك الروم، ففتح الله لهم ومكن لهم وبهم، وملكهم نواصي أعدائهم.
وهكذا موسى عليه السلام: كان الله قد أمره أن يجند بني إسرائيل وأن يجعل عليهم نقباء كما قال تعالى: " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم أثنى عشر نقيبا، وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيأتكم، ولادخلنكم جنات تجري من تحتها الانهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل (2) " يقول لهم: لئن قمتم بما أوجبت عليكم، ولم تنكلوا عن القتال كما نكلتم أول مرة، لاجعلن ثواب هذه
__________
(1) سورة التوبة 29 (2) سورة المائدة 12 (*)
(2/201)
مكفرا (1) لما وقع عليكم من عقاب تلك، كما قال تعالى لمن تخلف من الاعراب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية " قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد، تقاتلونهم أو يسلمون، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (2) ".
وهكذا قال تعالى لبني إسرائيل: " فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ".
ثم ذمهم تعالى على سوء صنيعهم ونقضهم مواثيقهم كما ذم من بعدهم من النصارى على اختلافهم في دينهم وأديانهم.
وقد ذكرنا
ذلك في التفسير مستقصى ولله الحمد.
والمقصود أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يكتب أسماء المقاتلة من بني إسرائيل ممن يحمل السلاح ويقاتل ممن بلغ عشرين سنة فصاعدا، وأن يجعل على كل سبط نقيبا منهم.
السبط الاول: سبط روبيل لانه بكر يعقوب، وكان عدة المقاتلة منهم ستة وأربعين ألفا وخمسمائة، ولقيهم منهم وهو اليصور بن شديئور (3).
السبط الثاني: سبط شمعون، وكانوا تسعة وخمسين ألفا وثلاثمائة، ونقيبهم شلوميئيل بن هوريشداى (4)، السبط الثالث: سبط يهوذا، وكانوا أربعة وسبعين ألفا وستمائة، ونقيبهم نحشون بن عمينا ذاب.
السبط الرابع سبط إيساخر وكانوا أربعة وخمسين ألفا وأربعمائة ونقيبهم نشائيل بن صوعر (5)، السبط الخامس: سبط يوسف عليه السلام، وكانوا أربعين ألفا وخمسمائة، ونقيبهم يوشع بن نون [ السبط (5) ] السادس:
__________
(1) ا: كفر.
(2) سورة الفتح 16.
(3) ا: النصون بن ساذون (4) ا: شاموال بن صور شدى (5) ا: صاعون.
(*)
(2/202)
سبط ميشا - وكانوا أحدا وثلاثين ألفا ومائتين (1)، ونقيبهم جمليئيل بن فدهصور.
السبط السابع: سبط بنيامين، وكانوا خمسة وثلاثين ألفا وأربعمائة، ونقيبهم أبيدن بن جد عون.
السبط الثامن: سبط حاد، وكانوا خمسة وأربعين ألفا وستمائة وخمسين رجلا، ونقيبهم الياساف بن رعوئيل.
السبط التاسع: سبط أشير، وكانوا أحدا وأربعين ألفا وخمسمائة، ونقيبهم فجعيئيل بن عكرن.
السبط العاشر: سبط دان، وكانوا اثنين وستين ألفا وسبعمائة، ونقيبهم أخيعزر بن عمشداى (2).
السبط الحادى عشر: سبط نفتالى، وكانوا ثلاثة وخمسين ألفا وأربعمائة، ونقيبهم الباب بن حيلون
هذا نص كتابهم الذي بأيديهم، والله أعلم.
وليس منهم (3) " بنو لاوى " فقد أمر الله موسى أن لا يعدهم معهم، لانهم موكلون بحمل قبة الشهادة وضربها [ وخزنها (4) ] ونصبها وحملها إذا ارتحلوا، وهم سبط موسى وهرون عليهما السلام، وكانوا اثنين وعشرين ألفا، من ابن شهر فما فوق ذلك، وهم في أنفسهم قبائل من (5) كل قبيلة طائفة من قبة الزمان يحرسونها ويحفظونها ويقومون بمصالحها ونصبها وحملها، وهم كلهم حولها، ينزلون ويرتحلون أمامها ويمنتها وشمالها ووراءها.
وجملة ما ذكر من المقاتلة غير بني لاوى خمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفا وستمائة وستة وخمسون.
لكن قالوا: فكان عدد بني إسرائيل
__________
(1) ا: أربعمائة (2) ا: عميشذى.
(3) ا: فيهم.
(4) من ا (5) ط: عهد إلى كل قبيلة طائفة (*)
(2/203)
ممن عمره عشرون سنة فما فوق ذلك، ممن حمل السلاح، ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وخمسين رجلا، سوى بنى لاوى.
وفي هذا نظر، فإن جميع الجمل المتقدمة إن كانت كما وجدنا في كتابهم، لا تطابق الجملة التي ذكروها، والله أعلم.
فكان بنو لاوى الموكلون بحفظ قبة الزمان يسيرون في وسط بني إسرائيل، وهم القلب، ورأس الميمنة بنو روبيل، ورأس الميسرة بنو دان وبنو نفتالى (1) يكونون ساقة.
وقرر موسى عليه السلام - بأمر الله تعالى له - الكهانة في بنى هرون، كما كانت لابيهم من قبلهم، وهم: ناداب وهو بكره، وأبيهو والعازر، ويثمر، والمقصود أن بني إسرائيل لم يبق
منهم أحد ممن كان نكل عن دخول مدينة الجبارين لذين قالوا: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " قاله الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس، وقاله قتادة وعكرمة، ورواه السدى عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة، حتى قال ابن عباس وغيره من علماء السلف والخلف: ومات موسى وهرون قبله كلاهما في التيه جميعا.
وقد زعم ابن إسحق أن الذي فتح بيت المقدس هو موسى، وإنما كان يوشع على مقدمته.
وذكر في مروره إليها قصة بلعام بن باعوراء الذي قال تعالى فيه: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه
__________
(1) ا: وبنو ثالى يلفون.
(*)
(2/204)
يلهث: ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون * ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (1) " وقد ذكرنا قصته في التفسير، وأنه كان - فيما قاله ابن عباس وغيره - يعلم الاسم الاعظم، وأن قومه سألوه أن يدعو على موسى وقومه - فامتنع عليهم، ولما ألحوا عليه ركب حمارة له، ثم سار نحو معسكر بني إسرائيل، فلما أشرف عليهم ربضت به حمارته فضربها حتى قامت، فسارت غير بعيد وربضت، فضربها ضربا أشد من الاول فقامت ثم ربضت، فضربها فقالت له يا بلعام: أين تذهب ؟ أما ترى الملائكة أمامى تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم ؟ فلم ينزع عنها، فضربها حتى سارت به حتى أشرف عليهم من رأس جبل " حسبان " ونظر إلى معسكر
موسى وبنى إسرائيل فأخذ يدعو عليهم، فجعل لسانه لا يطيعه إلا أن يدعو لموسى وقومه، ويدعو على قوم نفسه، فلاموه على ذلك فاعتذر إليهم بأنه لا يجرى على لسانه إلا هذا، واندلع (2) لسانه حتى وقع على صدره، فقال لقومه: قد ذهبت الآن مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة.
ثم أمر قومه أن يزينوا النساء ويبعثوهن بالامتعة يبعن عليهم ويتعرضن لهم لعلهم يقعون في الزنا، فإنه متى زنى رجل منهم كفيتموهم، ففعلوا وزينوا نساءهم وبعثوهن إلى المعسكر، فمرت (3) امرأة منهم اسمها " كسبتي " برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو " زمرى بن شلوم " يقال إنه كان رأس سبط بني شمعون [ بن يعقوب (3) ] فدخل بها قبته، فلما خلابها
__________
(1) الآيات: 175 - 177 من سورة الاعراف.
(2) ط: واندفع.
(3) ا: حتى مرت (*)
(2/205)
أرسل الله الطاعون على بني إسرائيل، فجعل يجوس فيهم، فلما بلغ الخبر إلى " فنحاص " بن العيزار بن هرون، أخذ حربته وكانت من حديد، فدخل عليهما القبة فانتظمهما جميعا فيها، ثم خرج بهما على الناس والحربة في يده، وقد اعتمد على خاصرته وأسندها إلى لحيته، ورفعهما نحو السماء وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون.
فكان جملة من مات في تلك الساعة سبعين ألفا، والمقلل يقول عشرين ألفا، وكان فنحاص بكر أبيه العيزار بن هرون، فلهذا يجعل بنو إسرائيل لولد فنحاص من الذبيحة اللبة (1) والذراع واللحى، ولهم البكر من [ كل (2) ] أموالهم وأنفسها.
وهذا الذي ذكره ابن إسحق من قصة بلعام صحيح، وقد ذكره غير واحد من علماء السلف، لكن لعله لما أراد موسى دخول بيت
المقدس أول مقدمه من الديار المصرية، ولعله مراد ابن إسحاق، ولكنه غير ما فهمه بعض الناقلين عنه، وقد قدمنا عن نص التوراة ما يشهد لبعض هذا، والله أعلم.
ولعل هذه قصة أخرى كانت في خلال سيرهم في التيه، فإن في هذا السياق ذكر " حسبان " وهي بعيدة عن أرض بيت المقدس، أو لعله كان هذا الجيش موسى الذين عليهم يوشع بن نون، حين خرج بهم من التيه قاصدا بيت المقدس، كما صرح به السدى، والله أعلم.
وعلى كل تقدير فالذي عليه الجمهور: أن هرون توفى بالتيه قبل موسى
__________
(1) ا: القبة وط: الليلة.
محرفة.
(2) ليست في ا.
(3) ط: جعل عليهم لها.
(*)
(2/206)
أخيه بنحو من سنتين، وبعده موسى في التيه أيضا، كما قدمنا.
وأنه سأل [ ربه (2) ] أن يقربه إلى بيت المقدس فأجيب إلى ذلك.
فكأن الذي خرج بهم من التيه، وقصد بهم بيت المقدس، هو يوشع ابن نون عليه السلام.
فذكر أهل الكتاب وغيرهم من أهل التاريخ، أنه قطع ببني إسرائيل نهر الاردن وانتهى إلى أريحا، وكانت من أحصن المدائن سورا وأعلاها قصورا، وأكثرها أهلا، فحاصرها ستة أشهر.
ثم إنهم أحاطوا بها يوما وضربوا بالقرون - يعنى الابواق - وكبروا تكبيرة رجل واحد، فتفسخ سورها وسقط وجبة واحدة، فدخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم، وقتلوا اثنى عشر ألفا من الرجال والنساء، وحاربوا ملوكا كثيرة ويقال إن يوشع ظهر على أحد وثلاثين ملكا من ملوك الشام.
وذكروا أنه انتهى محاصرته إلى يوم جمعة بعد العصر، فلما غربت الشمس أو كادت تغرب، ويدخل عليهم السبت الذي جعل عليهم وشرع لهم ذلك الزمان، قال لها إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي فحبسها الله عليه حتى تمكن من فتح البلد، وأمر القمر فوقف عند الطلوع، وهذا يقتضي أن هذه الليلة كانت الليلة الرابعة عشر من الشهر الاول وهو قصة الشمس المذكورة في الحديث الذي سأذكره.
وأما قصة القمر فمن عند أهل الكتاب، ولا ينافي الحديث بل فيه زيادة تستفاد فلا تصدق ولا تكذب.
ولكن ذكرهم أن هذا في فتح أريحا فيه نظر، ولاشبه - والله أعلم - أن هذا كان في فتح بيت المقدس الذي هو المقصود الاعظم، وفتح أريحا كان وسيلة إليه، والله أعلم
(2/207)
قال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالى سار إلى بيت المقدس " انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط البخاري.
وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام، لا موسى، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا أريحا كما قلنا.
وفيه أن هذا كان من خصائص يوشع عليه السلام، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه: أن الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب [ صلاة (1) ] العصر، بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته، فسأل رسول الله أن يردها الله عليه حتى يصلى العصر فرجعت.
وقد صححه أحمد (2) ابن أبي صالح المصري ولكنه ليس في شئ من الصحاح ولا الحسان،
وهو مما تتوافر الدواعى على نقله.
وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " غزا نبي من الانبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل [ قد () ] ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبنى بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنيانا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد شترى غنما أو خلفات (3) وهو ينتظر (4) أولادها.
__________
(1) ليست في ا.
(2) المطبوعة: علي بن أبي صالح.
وهو خطأ، صوابه من ا.
(3) الخلفات: النوق الحوامل.
(4) وهو منتظر , (*)
(2/208)
[ قال (1) ]: فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور.
اللهم احبسها علي شيئا.
فحبست عليه حتى فتح الله عليه، قال: فجمعوا ما غنموا، فأتت النار لتأكله فأبت أن تطعمه، فقال فيكم غلول ؟ ؟، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه فلصقت يد رجل بيده، فقال فيكم الغلول فليبايعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، قال فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول أنتم غللتم.
[ قال (1): ] فأخرجوا [ له (1) ] مثل رأس بقرة من ذهب، قال: فوضعوه بالمال وهو بالصعيد، فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لاحد من قبلنا ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا ".
انفرد به مسلم من هذا الوجه.
وقد روى البزار من طريق مبارك ابن فضالة، عن عبيد الله عن سعيد المقبرى، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
قال ورواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبرى،
قال: ورواه قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أنه لما دخل بهم باب المدينة أمروا أن يدخلوها سجدا أي ركعا متواضعين شاكرين لله عزوجل على ما من به عليهم من الفتح العظيم، الذي كان الله وعدهم إياه، وأن يقولوا حال دخولهم: " حطة " أي حط عنا خطايانا التي سلفت، من نكولنا الذي تقدم منا.
ولهذا [ لما (1) ] دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها،
__________
(1) ليست في ا (*) (14 - قصص الانبياء 2)
(2/209)
دخلها وهو راكب ناقته، وهو متواضع حامد شاكر، حتى إن عثنونه - طرف لحيته - ليمس مورك (1) رحله، مما يطأطئ رأسه خضعانا لله عزوجل ومعه الجنود والجيوش ممن لا يرى منه إلا الحدق، ولا سيما الكتيبة الخضراء التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لما دخلها اغتسل وصلى ثمانى ركعات وهي صلاة الشكر على النصر، على المشهور (2) من قول العلماء.
وقيل إنها صلاة الضحى، وما حمل هذا القائل على قوله هذا إلا لانها وقعت وقت الضحى.
وأما بنو إسرائيل فإنهم خالفوا ما أمروا به قولا وفعلا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم [ وهم (3) ] يقولون: حبة في شعرة (4)، وفي رواية: حنطة في شعرة.
وحاصله أنهم بدلوا ما أمروا به واستهزءوا به، كما قال تعالى حاكيا عنهم في سورة الاعراف وهي مكية " وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية
وكلوا منها حيث شئتم، وقولوا حطة، وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم، فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (4) ".
وقال في سورة البقرة وهي مدنية مخاطبا لهم: " وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ".
__________
(1) المورك.
(2) ا: على المنصوص.
(3) من ا.
(4) ا في شعيرة.
(*)
(2/210)
وقال الثوري عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " وادخلوا الباب سجدا " قال: ركعا من باب صغير رواه الحاكم وابن جرير وابن أبي حاتم، وكذا روى العوفى عن ابن عباس، وكذا روى الثوري عن ابن إسحق عن البراء.
قال مجاهد والسدى والضحاك: والباب هو باب حطة من بيت إيلياء بيت المقدس.
قال ابن مسعود: فدخلوا مقنعي رؤوسهم ضد ما أمروا به، وهذا لا ينافي قول ابن عباس أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم.
وهكذا في الحديث الذي سنورده بعد، فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعوا رؤوسهم.
وقوله: " وقولوا حطة " الواو هنا حالية لا عاطفة، أي ادخلوا سجدا في حال قولكم حطة.
قال ابن عباس وعطاء والحسن وقتادة والربيع: أمروا أن يستغفروا.
قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قيل لبني إسرائيل: " ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم " فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة.
وكذا رواه النسائي من حديث ابن المبارك ببعضه، ورواه عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن ابن مهدى به موقوفا.
وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله
(2/211)
لبني إسرئيل: " ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم " فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة ".
ورواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث عبد الرزاق، وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا أتهم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون حنطة في شعيرة " وقال أسباط عن السدى عن مرة عن ابن مسعود قال في قوله: " فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم " قال قالوا " هطى سقاثا أزمة مزيا (1) " فهي في العربية: " حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء " وقد ذكر الله تعالى أنه عاقبهم على هذه المخالفة، بإرسال الرجز الذي أنزله عليهم، وهو الطاعون، كما ثبت في الصحيحين (2) من حديث الزهري
عن عامر بن سعد، ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم أبى النضر، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " إن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الامم قبلكم ".
وروى النسائي وابن أبي حاتم وهذا لفظه من حديث الثوري عن
__________
(1) ا: " هطى سمقانا " أدنه بزنا " (2) ا: في الصحيح.
(*)
(2/212)
حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم عن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم " وقال الضحاك عن ابن عباس: الرجز العذاب، وكذا قال مجاهد وأبو مالك والسدى والحسن وقتادة.
وقال أبو العالية: هو الغضب، وقال الشعبي: لرجز إما الطاعون وإما البرد، وقال سعيد بن جبير هو الطاعون.
ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس استمروا فيه، وبين أظهرهم نبي الله يوشع يحكم بينهم بكتاب الله التوراة حتى قبضه الله إليه، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة، فكانت مدة حياته بعد موسى سبعا وعشرين سنة.
(2/213)
ذكر قصتي الخضر والياس عليهما السلام أما الخضر: فقد تقدم أن موسى عليه السلام رحل إليه في طلب ما عنده من العلم [ اللدنى (1) ]، وقص الله [ من (1) ] خبرهما في كتابه العزيز في
سورة الكهف، وذكرنا في تفسير ذلك هنالك، وأوردنا هنا ذكر الحديث المصرح بذكر الخضر عليه السلام، وأن الذي رحل إليه هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام، الذي أنزلت عليه التوراة.
وقد اختلف في الخضر، في اسمه، ونسبه، ونبوته، وحياته إلى الآن - على أقوال - سأذكرها لك هاهنا إن شاء الله وبحوله وقوته.
قال الحافظ ابن عساكر: يقال إنه الخضر بن آدم عليه السلام لصلبه، ثم روى من طريق الدار قطني: حدثنا محمد بن الفتح القلانسي، حدثنا العباس بن عبد الله الرومي، حدثنا رواد بن الجراح، حدثنا مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الخضر ابن آدم لصلبه، ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال.
وهذا منقطع وغريب.
وقال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني: سمعت مشيختنا منهم أبو عبيدة وغيره قالوا: إن أطول بني آدم عمرا الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم.
قال: وذكر ابن إسحق: أن آدم [ عليه السلام (1) ] لما حضرته الوفاة
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/214)
أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس، وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة، وأن يدفنوه [ معهم (1) ] في مكان عينه لهم.
فلما كان الطوفان حملوه معهم، فلما هبطوا إلى الارض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى.
فقالوا إن الارض ليس بها أنيس وعليها وحشة، فحرضهم وحثهم على ذلك.
وقال إن آدم دعا لمن يلى دفنه بطول العمر،
فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، وأنجز الله ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله له أن يحيا.
وذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه: أن اسم الخضر " بليا " ويقال بليا بن ملكان ابن فالغ بن عامر ؟ ؟ بن شالخ بن أرفخشد ابن سام بن نوح عليه السلام.
وقال إسماعيل بن أبي أويس: اسم الخضر - فيما بلغنا والله أعلم - المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الازد.
وقال غيره: هو خضرون (2) ابن عمياييل بن اليفز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل.
ويقال هو أرميا بن حلقيا، فالله أعلم.
وقيل إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر.
وهذا غريب جدا.
قال ابن الجوزى: رواه محمد ابن أيوب عن ابن لهيعة، وهما ضعيفان.
وقيل: إنه ابن مالك وهو أخو إلياس، قاله السدى كما سيأتي.
وقيل
__________
(1) من ا.
(2) ا: خضروان.
(*)
(2/215)
إنه كان على مقدمة ذي القرنين.
وقيل كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه.
وقيل كان نبيا في زمن بشتاسب بن بهراسب.
قال ابن جرير: والصحيح أنه كان متقدما في زمن أفريدون بن اثفيان حتى أدركه موسى عليه السلام.
وروى الحافظ ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال: الخضر أمه رومية وأبوه فارسي.
[ وقد ورد ما يدل على أنه كان من بني إسرائيل في زمان فرعون أيضا.
قال أبو زرعة في دلائل النبوة: حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبى بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ليلة أسرى به وجد رائحة طيبة، فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة ؟ قال هذه ريح قبر الماشطة وابنيها وزوجها.
وقال: وكان بدء ذلك أن الخضر كان من أشرف بني إسرائيل، وكان ممره براهب في صومعته، فتطلع عليه الراهب فعلمه الاسلام فلما بلغ الخضر زوجه أبوه امرأة فعلمها الاسلام، وأخذ عليها أن لا تعلم أحد، وكان لا يقرب النساء ثم طلقها.
ثم زوجه أبوه بأخرى فعلمها الاسلام، وأخذ عليها أن لا تعلم أحدا ثم طلقها، فكتمت إحداهما وافشت عليه الاخرى.
فانطلق هاربا حتى أتى جزيرة في البحر، فأقبل رجلان يحتطبان فرأياه فكتم أحدهما وأفشى عليه الآخر.
قال قد رأيت الخضر (1)، قيل ومن رآه معك ؟ قال فلان، فسئل فكتم.
وكان من دينهم أنه من كذب قتل، فقتل،
__________
(1) الاصل: العز.
(*)
(2/216)
وكان قد تزوج الكاتم المرأة الكاتمة.
قال فبينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها، فقالت تعس فرعون، فأخبرت أباها، وكان للمرأة ابنان وزوج، فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما، فأبيا، فقال: إني قاتلكما، فقالا: إحسان منك إلينا إن أنت قتلتنا أن تجعلنا في قبر واحد.
فجعلهما في قبر واحد، فقال: وما وجدت ريحا اطيب منهما، وقد دخلت الجنة.
وقد تقدمت قصة مائلة بنت فرعون، وهذا المشط في أمر الخضر قد
يكون مدرجا من كلام أبي بن كعب أو عبد الله بن عباس والله أعلم ] (1) وقال بعضهم: كنيته أبو العباس، والاشبه والله أعلم.
أن الخضر لقب غلب عليه.
قال البخاري [ رحمه الله ] (1): حدثنا محمد بن سعيد الاصبهاني، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما سمى الخضر لانه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء ".
تفرد به البخاري، وكذلك رواه عبد الرزاق عن معمر به.
ثم قال عبد الرزاق: الفروة: الحشيش الابيض وما أشبهه يعني الهشيم اليابس.
وقال الخطابي: وقال أبو عمر: الفروة الارض البيضاء التي لا نبات فيها.
وقال غيره: هو الهشيم اليابس شبهه بالفروة، ومنه قيل فروة الرأس وهي جلدته بما عليها من الشعر، كما قال الراعي:
__________
(1) سقطت من ا.
(*)
(2/217)
ولقد (1) ترى الحبشى حول بيوتنا * جذلا إذا ما نال يوما مأ كلا صعلا (2) أصك كأن فروة رأسه * بذرت فأنبت جانباه فلفلا قال الخطابي: [ ويقال (3) ] إنما سمى الخضر خضرا لحسنه وإشراق وجهه، قلت: وهذا لا ينافى ما ثبت في الصحيح (4)، فإن كان ولا بد من التعليل بأحدهما، فما ثبت في الصحيح أولى وأقوى، بل لا يلتفت إلى ما عداه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر هذا الحديث أيضا من طريق إسماعيل بن حفص بن عمر الابلى: حدثنا عثمان وأبو جزي وهمام بن يحيى عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " إنما سمى الخضر خضرا لانه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء ".
وهذا غريب من هذا الوجه.
وقال قبيصة عن الثوري عن منصور عن مجاهد قال: إنما سمى الخضر لانه كان إذا صلى اخضر ما حوله.
وتقدم أن موسى ويوشع عليهما السلام لما رجعا يقصان الاثر، وجداه على طنفسة خضراء على كبد البحر، وهو مسجى بثوب قد جعل طرفاه من تحت رأسه وقدميه، فسلم موسى (3) عليه السلام فكشف عن وجهه فرد، وقال: أني بأرضك السلام ؟ من أنت ؟ قال أنا موسى.
قال:
__________
(1) المطبوعة: وقد.
(2) ا الصعل: الدقيق الرأس والعنق.
والاصك المضطرب الركبتين والعرقوبين.
وفي المطبوعة: جعدا أصك.
وما أثبته من ا (3) من ا (4) ا: في الحديث (*)
(2/218)
[ نبي (1) ] بني إسرائيل ؟ قال نعم.
فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه عنهما.
وقد دل سياق القصة على نبوته من وجوه: أحدها: قوله تعالى: " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ".
الثاني: قول موسى له: " هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا * قال فإن اتبعتنى فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا ".
فلو كان وليا وليس بنبي (2) لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد
على موسى هذا الرد، بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه.
فلو كان غير نبي، لم يكن معصوما، ولم تكن لموسى - وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة - كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة، ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عنه، ولو أنه يمضي حقبا من الزمان، قيل ثمانين سنة.
ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه، واتبعه في صورة مستفيد منه فدل (3) على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خص من العلوم اللدنية والاسرار النبوية بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم، نبي بني إسرائيل الكريم.
وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني (3) على نبوة الخضر عليه السلام.
__________
(1) من ا.
(2) ا: ولم يكن بنبي.
(3) ا: دل.
(4) ا: البلقاني.
(*)
(2/219)
الثالث: أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام، وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام.
وهذا دليل مستقل على نبوته، وبرهان ظاهر على عصمته، لان الولي لا يجوز له الاقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لان خاطره ليس بواجب العصمة، إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق.
ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم، علما منه بأنه إذا بلغ يكفر، ويحمل أبويه على الكفر لشدة محبتها له فيتابعانه عليه، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته، صيانة لابويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته، دل ذلك على نبوته، وأنه مؤيد من الله بعصمته.
وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه.
وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضا.
الرابع: أنه لما فسر الخضر تأويل الافاعيل لموسى ووضح له عن حقيقة أمره وجلي، قال بعد ذلك كله: " رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى " يعني ما فعلته من تلقاء نفسي، بل [ أمر (1) ] أمرت به وأوحى إلي فيه.
فدلت هذه الوجوه على نبوته.
ولا ينافي ذلك حصول ولايته، بل ولا رسالته، كما قاله آخرون.
وأما كونه ملكا من الملائكة [ فقول (1) ] غريب جدا، وإذا ثبتت نبوته - كما ذكرناه، لم يبق لمن قال بولايته
__________
(1) من: ا (*)
(2/220)
وأن الولى قد يطلع على حقيقة الامور دون أرباب الشرع الظاهر، مستند يستندون إليه، ولا معتمد يعتمدون عليه.
وأما الخلاف في وجوده إلى زماننا هذا، فالجمهور على أنه باق إلى اليوم، قيل لانه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة، وقيل لانه شرب من عين الحياة فحيى.
وذكروا أخبارا استشهدوا بها على بقائه إلى الآن.
وسنوردها [ مع غيرها (1) ] إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وهذه وصيته لموسى حين: " قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " روى في ذلك آثار منقطعة كثيرة: قال البيهقي: أنيأنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا جرير،
حدثني أبو عبد الله الملطى قال: لما أراد موسى أن يفارق الخضر قال له موسى: أوصني، قال: كن نفاعا ولا تكن ضرارا، كن بشاشا ولا تكن غضبان، ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة.
وفي رواية من طريق أخرى زيادة: ولا تضحك إلا من عجب.
وقال وهب بن منبه قال الخضر: يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها ! وقال بشر بن الحارث الحافى: قال موسى للخضر: أوصني، فقال: يسر الله عليك طاعته.
__________
(1) من ا (*)
(2/221)
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه ابن عساكر من طريق زكرياء ابن يحيى الوقاد - إلا أنه من الكذابين الكبار - قال قرئ على عبد الله بن وهب وأنا أسمع، قال الثوري، قال مجالد، قال أبو الوداك قال أبو سعيد الخدري، قال عمر بن الخطاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال أخي موسى يا رب وذكر كلمته - فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح حسن بياض الثياب مشمرها، فقال: السلام عليك ورحمة الله يا موسى ابن عمران، إن ربك يقرأ عليك السلام.
قال موسى: هو السلام وإليه السلام، والحمد لله رب العالمين، الذي لا أحصى نعمه، ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته.
ثم قال موسى: أريد أن توصيني بوصية ينفعني الله بها بعدك، فقال الخضر: يا طالب العلم إن القائل أقل ملالة من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك،
واعزف عن (1) الدنيا وانبذها وراءك، فإنها ليست لك بدار ولا لك فيها محل قرار، وإنما جعلت بلغة للعباد والنزود منها ليوم المعاد (2) ورض نفسك على الصبر تخلص من الاثم.
يا موسى تفرغ للعلم إن كنت تريده، [ فإنما العلم لمن تفرغ له، ولا تكن مكثارا للعلم مهذارا (3) ] فإن كثرة المنطق تشين العلماء وتبدى مساوئ السخفاء.
ولكن عليك بالافتصاد، فإن ذلك من التوفيق والسداد
__________
(1) المطبوعة: واغرف من الدنيا !.
وهو تحريف (2) ا: للمعاد (3) سقطت من ا (*)
(2/222)
وأعرض عن الجهال وماطلهم، واحلم عن السفهاء، فإن ذلك فعل الحكماء وزين العلماء.
وإذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلما، وجانبه حزما، فإن ما بقى من جهله عليك وسبه إياك أكثر وأعظم.
يابن عمران ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلا قليلا، فإن الاندلاث (1) والتعسف من الاقتحام والتكلف.
يابن عمران لا تفتحن بابا لا تدري ما غلقه، ولا تغلقن بابا لا تدرى ما فتحه.
يابن عمران من لا تنتهى من الدنيا نهمته، ولا تنقضي منها رغبته ومن يحقر حاله، ويتهم الله فيما قضى له كيف يكون زاهدا (2) ؟ هل يكف عن الشهوات من غلب عليه هواه ؟ أو ينفعه طلب العلم والجهل قد حواه ؟ لان سعيه إلى آخرته وهو مقبل على دنياه.
يا موسى تعلم ما تعلمت لتعمل به، ولا تعلمه لتحدث به، فيكون عليك بواره، ولغيرك نوره.
يا موسى بن عمران، اجعل الزهد والتقوى لباسك، والعلم والذكر كلامك، واستكثر من الحسنات فإنك مصيب (3)
السيئات، وزعزع بالخوف قلبك فإن ذلك يرضى ربك، واعمل خيرا فإنك لا بد عامل سوءا، قد وعظت إن حفظت.
قال: فتولى الخضر وبقي موسى محزونا مكروبا يبكى.
لا يصح هذا الحديث، وأظنه من صنعة زكريا بن يحيى الوقاد المصرى [ وقد (4) ] كذبه غير واحد [ من الائمة (2) ] والعجب أن الحافظ ابن عساكر سكت عنه.
__________
(1) الاندلاث: الانصباب.
(2) ا: عابدا (3) ا: تصيب (4) ليست في ا (*)
(2/223)
وقال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني: حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصى، حدثنا محمد بن الفضل بن عمران الكندى، حدثنا بقية بن الوليد، عن محمد ابن زياد، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ لاصحابه (1) ] " ألا أحدثكم عن الخضر ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: بينما هو ذات يوم يمشى في سوق بني إسرائيل، أبصره رجل مكاتب، فقال تصدق علي بارك الله فيك.
فقال الخضر: آمنت بالله، ما شاء الله من أمر يكون، ما عندي من شئ أعطيكه.
فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقت علي، فإني نظرت إلى السماء في وجهك، ورجوت البركة عندك.
فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي شئ أعطيكه، إلا أن تأخذني فتبيعني، فقال المسكين: وهل يستقيم هذا ؟ قال نعم، الحق أقول لك لقد سألتني بأمر عظيم، أما إني لا أخيبك بوجه ربي، بعنى.
قال فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عندي المشتري
زمانا لا يستعمله في شئ، فقال له: إنك [ إنما (2) ] ابتعتنى التماس خير فأوصني بعمل، قال: أكره أن أشق عليك، إنك شيخ كبير ضعيف قال: ليس تشق علي، قال: فانقل هذه الحجارة.
وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم.
فخرج الرجل لبعض حاجاته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة، فقال أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه.
ثم عرض للرجل سفر، فقال إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة
__________
(1) ليست في ا (2) من ا.
(*)
(2/224)
قال فأوصني بعمل، قال: إني (1) أكره أن أشق عليك، قال ليس تشق علي، قال فاضرب من اللبن لبيتي حتى أقدم عليك.
فمضى الرجل لسفره، فرجع وقد شيد بناؤه.
فقال أسألك بوجه الله ما سبيلك (2) وما أمرك ؟ فقال سألتني بوجه الله، والسؤال بوجه الله أوقعني في العبودية، سأخبرك من أنا ؟.
أنا الخضر الذي سمعت به، سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي من شئ أعطيه، فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي، فباعني.
وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر، وقف يوم القيامة جلده لا لحم له ولا عظم يتقعقع.
فقال الرجل: آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم ! فقال (3) لا باس أحسنت وأبقيت.
فقال الرجل بأبي وأمي يا نبي الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله، أو أخيرك فأخلي سبيلك، فقال أحب أن تخلى سبيلي، فأعبد ربي، فخلى سبيله.
فقال الخضر: الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ثم نجاني منها.
وهذا حديث رفعه خطأ، والاشبه أن يكون موقوفا، وفي رجاله من لا يعرف، فالله أعلم.
وقد رواه ابن الجوزى في كتابه " عجالة المنتظر في شرح حال الخضر " من طريق عبد الوهاب ابن الضحاك، وهو متروك، عن بقية.
__________
(1) ط: فإني (2) ا: ما سببك (3) ا: قال (*) (15 - قصص الانبياء 2)
(2/225)
وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناد إلى السدى: أن الخضر وإلياس كانا أخوين، وكان أبوهما ملكا، فقال إلياس لابيه: إن أخي الخضر لا رغبة له في الملك، فلو أنك زوجته لعله يجئ منه ولد يكون الملك له، فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر، فقال لها الخضر: إنه لا حاجة لي في النساء، فإن شئت أطلقت سراحك، وإن شئت أقمت معي تعبدين الله عزوجل وتكتمين علي سري.
فقالت نعم، وأقامت معه سنة.
فلما مضت السنة دعاها الملك، فقال إنك شابة وابني شاب فأين الولد ؟ فقالت: إنما الولد من عند الله، إن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن.
فأمره أبوه فطلقها وزوجه بأخرى ثيبا قد ولد لها، فلما زفت إليه قال لها كما قال للتي قبلها، فأجابت إلى الاقامة عنده.
فلما مضت السنة سألها الملك عن الولد، فقالت: إن ابنك لا حاجة له بالنساء، فتطلبه أبوه فهرب، فأرسل وراءه فلم يقدروا عليه.
فيقال إنه قتل المرأة الثانية لكونها أفشت سره، فهرب من أجل ذلك، وأطلق سراح الاخرى.
فأقامت تعبد الله في بعض نواحي تلك المدينة، فمر بها رجل يوما فسمعته يقول: بسم الله.
فقالت له أني لك هذا الاسم ؟ فقال إني من
أصحاب الخضر، فتزوجته فولدت له أولادا.
ثم صار من أمرها أن صارت ماشطة بنت فرعون، فبينما هي يوما تمشطها إذ وقع المشط من يدها فقالت: بسم الله.
فقالت ابنة فرعون: أبى ؟ فقالت: لا، ربي وربك ورب أبيك الله.
فأعلمت أباها فأمر بنقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها فألقيت فيها.
فلما عاينت ذلك تقاعست أن تقع فيها، فقال لها ابن معها صغير: يا أمه اصبري فإنك على الحق.
فألقت نفسها في النار فماتت، رحمها الله.
(2/226)
وقد روى ابن عساكر عن أبي داود الاعمى نفيع - وهو كذاب وضاع - عن أنس بن مالك، ومن طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف - وهو كذاب أيضا - عن أبيه عن جده: أن الخضر جاء ليلة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ويقول: اللهم أعنى على ما ينجيني مما خوفتني، وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه ".
فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك فسلم عليه فرد عليه السلام وقال قل له: إن الله فضلك على الانبياء كما فضل [ شهر (1) ] رمضان على سائر الشهور، وفضل أمتك على الامم كما فضل يوم الجمعة على غيره " الحديث.
وهو مكذوب لا يصح سندا ولا متنا، فكف لا يتمثل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجئ بنفسه مسلما ومتعلما ؟ ! وهم يذكرون في حكاياتهم وما يسندونه عن بعض مشايخهم: أن الخضر يأتي إليهم ويسلم عليهم، ويعرف أسماءهم ومنازلهم ومحالهم، وهو مع هذا لا يعرف موسى بن عمران كليم الله، الذي اصطفاه الله في ذلك الزمان على من سواه، حتى يتعرف إليه بأنه موسى بني إسرائيل.
وقد قال الحافظ أبو الحسين بن المنادى، بعد إيراده حديث أنس هذا:
وأهل الحديث متفقون على أنه حديث منكر الاسناد سقيم المتن، يتبين فيه أثر الصنعة.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي قائلا: أنبأنا (2) أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر ابن بالويه، حدثنا محمد بن بشر بن مطر، حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا عباد بن عبد الصمد، عن أنس بن مالك
__________
(1) ليست في ا (2) ط: أخبرنا.
(*)
(2/227)
قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه، فبكوا حوله واجتمعوا.
فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى.
ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فائت، وخلفا من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا، وقد نظر إليكم في البلاء فانظروا، فإن المصاب من لم يجبر، وانصرف.
فقال بعضهم لبعض: أتعرفون الرجل ؟ فقال أبو بكر وعلي: نعم، هو أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام.
وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن كامل بن طلحة به.
وفي متنه مخالفة لسياق البيهقي.
ثم قال البيهقي: عباد بن عبد الصمد ضعيف فهذا منكر بمرة.
قلت: عباد بن عبد الصمد هذا هو ابن معمر البصري، وروى عن أنس نسخة، قال ابن حبان والعقيلي: أكثرها موضوع، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث جدا منكره، وقال ابن عدى: عامة ما يرويه في فضائل على، وهو ضعيف غال في التشيع.
وقال الشافعي في مسنده: أنبأنا (1) القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جده على علي بن الحسين قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا،
__________
(1) ط: أخبرنا.
(*)
(2/228)
وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب.
قال علي بن الحسين: أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر.
شيخ الشافعي القاسم العمرى متروك.
قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: يكذب.
زاد أحمد: ويضع الحديث.
ثم هو مرسل ومثله لا يعتمد عليه هاهنا والله أعلم.
وقد روى من وجه آخر ضعيف، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن أبيه عن علي ولا يصح.
وقد روى عبد الله بن وهب عمن حدثه، عن محمد بن عجلان، عن محمد ابن المنكدر: أن عمر بن الخطاب بينما هو يصلى على جنازة إذ سمع هاتفا وهو يقول: لا تسبقنا يرحمك الله.
فانتظره حتى لحق بالصف، فذكر دعاءه للميت: إن تعذبه فكثيرا عصاك، وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك.
ولما دفن قال: طوبى لك يا صاحب القبر إن لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا.
فقال عمر: خذوا الرجل نسأله عن صلاته وكلامه عمن هو ؟ [ قال (1) ] فتوارى عنهم، فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع.
فقال عمر: هذا والله الخضر الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الاثر فيه مبهم، وفيه انقطاع ولا يصح مثله.
وروى الحافظ ابن عساكر عن الثوري عن عبد الله بن المحرر (2) عن يزيد بن الاصم، عن علي بن أبي طالب قال: دخلت الطواف في بعض الليل، فإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يمنعه
__________
(1) ليست في ا.
(2) ط: ابن محرز.
وهو تحريف صوابه من ا وانظر ميزان الاعتدال 2 / 500.
(*)
(2/229)
سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين ولا مسألة السائلين - ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك.
قال: فقلت أعد علي ما قلت، فقال لي: أو سمعته ؟ قلت نعم.
فقال لي: والذي نفس الخضر بيده - قال: وكان هو الخضر - لا يقولها عبد خلف صلاة مكتوبة إلا غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر وورق الشجر وعدد النجوم، لغفرها الله له وهذا ضعيف من جهة عبد الله بن المحرر، فإنه متروك الحديث، ويزيد بن الاصم لم يدرك عليا، ومثل هذا لا يصح ولله أعلم.
وقد رواه أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا صالح ابن أبي الاسود، عن محفوظ بن عبد الله الحضرمي، عن محمد بن يحيى قال: بينما علي بن أبي طالب يطوف بالكعبة، إذا هو برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا يغلطه السائلون، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك.
قال: فقال له علي: يا عبد الله أعد دعاءك هذا قال: أو قد سمعته ؟ قال نعم.
قال فادع به في دبر كل صلاة، فوالذي نفس الخضر بيده لو كان عليك من الذنوب عدد نجوم السماء ومطرها، وحصباء الارض وترابها، لغفر لك أسرع
من طرفة عين.
وهذا أيضا منقطع، وفي إسناده من لا يعرف، والله أعلم.
وقد رواه (1) ابن الجوزى من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا: حدثنا
__________
(1) ط: وقد أورد.
(*)
(2/230)
يعقوب بن يوسف، حدثنا مالك بن إسماعيل فذكر نحوه.
ثم قال: وهذا إسناد مجهول منقطع، وليس فيه ما يدل على أن الرجل الخضر.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا أبو القاسم ابن الحصين (1) أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد، أنبأنا أبو إسحق المزكى، حدثنا محمد بن إسحق بن خزيمة، حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد أملاه علينا بعبادان، أنبأنا عمرو بن عاصم، حدثنا الحسن بن رزين (2) عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس قال: ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: " يلتقى الخضر وإلياس كل عام في الموسم فيحلق كل [ واحد (3) ] منهما راس صاحبه، ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا يصرف السوء (4) إلا الله، ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ".
قال وقال ابن عباس: من قالهن حين يصبح وحين يمسى ثلاث مرات، آمنه الله من الغرق والحرق والسرق.
قال: وأحسبه قال: ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب.
قال الدار قطني في الافراد: هذا حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ [ عنه (5) ] يعنى الحسن بن رزين هذا (6).
وقد روى عن محمد بن كثير العبدى أيضا، ومع هذا قال فيه الحافظ أبو أحمد
ابن عدى: ليس بالمعروف.
__________
(1) ا: ابن الحسين.
(2) ط: ابن زريق.
وهو تحريف صوابه من ا.
وانظر ميزان الاعتدال 1 / 490.
(3) من ا.
(4) ط: الشر.
(5) ليست في ا (6) ط: عنه (*)
(2/231)
وقال الحافظ أبو جعفر العقيلى: مجهول وحديثه غير محفوظ.
وقال أبو الحسن بن المنادى: هو (1) حديث واه بالحسن بن رزين.
وقد روى ابن عساكر نحوه من طريق علي بن الحسن الجهضمى - وهو كذاب - عن ضمرة بن حبيب المقدسي، عن أبيه، عن العلاء بن زياد القشيرى، عن عبد الله بن الحسن، عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مرفوعا قال: يجتمع كل يوم عرفة بعرفات - جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر وذكر حديثا طويلا موضوعا تركنا إيراده قصدا ولله الحمد.
وروى ابن عساكر من طريق هشام بن خالد عن الحسن بن يحيى الخشنى، عن ابن أبي رواد قال: إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، ويحجان في كل سنة، ويشربان من ماء زمزم شربة [ واحدة (2) ] تكفيهما إلى مثلها من قابل.
وروى ابن عساكر: أن الوليد بن عبد الملك بن مروان - بانى جامع دمشق - أحب أن يتعبد ليلة في المسجد، فأمر القومة أن يخلوه له ففعلوا، فلما كان من الليل جاء في باب الساعات فدخل الجامع، فإذا رجل قائم يصلى فيما بينه وبين باب الخضراء، فقال للقومة: ألم آمركم أن تخلوه ؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين هذا الخضر يجئ كل ليلة يصلى هاهنا.
قال ابن عساكر أيضا: أنبأنا أبو القاسم ابن إسماعيل بن أحمد أنبأنا أبو بكر بن الطبري، أنبأنا أبو الحسين ابن الفضل، أنبأنا عبد الله بن
جعفر، حدثنا يعقوب - هو ابن سفيان الفسوى - حدثني محمد بن
__________
(1) ا: هذا حديث.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/232)
عبد العزيز، حدثنا ضمرة (1) عن السرى بن يحيى، عن رباح بن عبيدة، قال: رأيت رجلا يماشى عمر بن عبد العزيز معتمدا على يديه، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل حاف، قال فلما انصرف من الصلاة - قلت من الرجل الذي كان معتمدا على يدك آنفا ؟ قال وهل رأيته يا رباح ؟ قلت نعم.
قال: ما أحسبك إلا رجلا صالحا، ذاك أخي الخضر بشرني أني سألى وأعدل.
قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزى، الرملي مجروح عند العلماء.
وقد قدح أبو الحسين بن المنادى في ضمرة والسرى ورباح، ثم أورد من طرق أخر عن عمر بن عبد العزيز، أنه اجتمع بالخضر، وضعفها كلها.
وروى ابن عساكر أيضا أنه اجتمع بإبراهيم التيمى وبسفيان بن عيينة وجماعة يطول ذكرهم.
وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم.
وكل من الاحاديث المرفوعة ضعيفة جدا لا يقوم بمثلها حجة في الدين، والحكايات لا يخلو أكثرها عن ضعف الاسناد.
وقصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره، لانه يجوز عليه الخطأ، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أبا سعيد قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا طويلا عن الدجال: وقال فيما يحدثنا: " يأتي الدجال - وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة - فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس
أو من خيرهم، فيقول أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله
__________
(1) ط: جمرة.
محرفة.
(*)
(2/233)
صلى الله عليه وسلم بحديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الامر ؟ فيقولون لا، فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحيا: والله ما كنت أشد بصيرة فيك مني الآن.
قال فيريد قتله الثانية فلا يسلط عليه.
قال معمر: بلغني أنه يجعل على حلقه صحيفة من نحاس، وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري [ به (1) ].
وقال أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي عن مسلم: الصحيح أن يقال إن هذا الرجل الخضر، وقول معمر وغيره: بلغني - ليس فيه حجة.
وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث: فيأتي بشاب ممتلئ شبابا فيقتله، وقوله: الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يقتضى المشافهة، بل يكفى التواتر.
وقد تصدى الشيخ أبو الفرج ابن الجوزى رحمه الله في كتابه: " عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر " للاحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعة، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد.
وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات، ومنهم البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسين بن المنادى والشيخ أبو الفرج ابن الجوزى، وقد انتصر لذلك
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/234)
وألف (1) فيه كتابا أسماه " عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر " فيحتج لهم بأشياء كثيرة: منها قوله: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد "، فالخضر إن كان بشرا (2) فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح، والاصل عدمه حتى يثبت.
ولم يذكر فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله.
ومنها: أن الله تعالى قال: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصرى ؟ قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ".
قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق، لئن بعث محمدا وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
ذكره البخاري عنه.
فالخضر إن كان نبيا أو وليا، فقد دخل في هذا الميثاق، فلو كان حيا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الاعداء إليه، لانه إن كان وليا فالصديق أفضل منه، وإن كان نبيا فموسى أفضل منه.
وقد روى الامام أحمد في مسنده: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا
__________
(1) ا: وصنف (2) ا: بشريا (*)
(2/235)
هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ".
وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة، وقد دلت عليه هذه الآية الكريمة: أن الانبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء [ مكلفون ] (1) في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكانوا كلهم أتباعا له، وتحت أوامره وفي عموم شرعه.
كما أنه صلوات الله وسلامه عليه لما اجتمع بهم (2) ليلة الاسراء رفع فوقهم كلهم.
ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم، فصلى (3) بهم في محل ولايتهم ودار إقامتهم.
فدل على أنه الامام الاعظم، والرسول الخاتم المبجل المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
فإذا علم هذا - وهو معلوم عند كل (4) مؤمن - علم أنه لو كان الخضر حيا لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وممن يقتدى بشرعه لا يسعه إلا ذلك.
هذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة، لا يخرج منها ولا يحيد عنها، وهو أحد أولى العزم الخمسة المرسلين وخاتم أنبياء بني إسرائيل.
والمعلوم (5) أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه، أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد
__________
(1) ليست في ا (2) ط: معهم.
(3) ا: فيصلى (4) ا: لكل مؤمن.
(5) ا: ومعلوم.
(*)
(2/236)
وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به لربه عزوجل،
واستنصره واستفتحه على من كفره: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الارض "، وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له، في بيت يقال إنه أفخر بيت قالته العرب: وببئر (1) بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد فلو كان الخضر حيا، لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته وأعظم غزواته.
قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلى: سئل بعض أصحابنا عن الخضر: هل مات ؟ فقال نعم.
قال وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن الغبارى قال: وكان يحتج بأنه لو كان حيا لجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نقله ابن الجوزي في العجالة.
فإن قيل: فهل (2) يقال إنه كان حاضرا في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه ؟ فالجواب: أن الاصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العموميات بمجرد التوهمات.
ثم ما الحامل (3) له على هذا الاختفاء ؟ وظهوره أعظم لاجره وأعلى في مرتبته وأظهر لمعجزته ؟ ثم لو كان باقيا بعده، لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ا ومعلوم.
(2) المطبوعة: وثبير.
وهو تحريف (3) ا: فهلا.
(4) ا: الحاصل.
محرفة (*)
(2/237)
الاحاديث النبوية والآيات القرآنية، وإنكاره لما وقع من الاحاديث المكذوبة، والروايات المقلوبة والآراء البدعية والاهواء العصبية، وقتاله
مع المسلمين في غزواتهم وشهوده جمعهم وجماعاتهم، ونفعه إياهم ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم، وتسديده العلماء والحكام، وتقريره الادلة والاحكام، أفضل مما يقال عنه من كنونه في الامصار، وجوبه الفيافي والاقطار، واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم، وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم.
وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف فيه أحد فيه بعد التفهيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما - عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ليلة العشاء ثم قال: " أرأيتم ليلتكم هذه ؟ فإنه إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الارض اليوم أحد ".
وفي رواية " عين تطرف ".
قال ابن عمر: فوهل الناس (1) من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه، وإنما أراد انخرام (2) قرنه قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، أن عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة [ صلاة ] (3) العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: " أرأيتم ليلتكم هذه ؟ فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن على ظهر الارض أحد ".
وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري.
__________
(1) وهلوا: فزعو (2) الانخرام: الانقطاع.
(3) من ا.
(*)
(2/238)
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن سليمان التيمى، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل أو بشهر: " ما من نفس منفوسة - أو ما منكم من
نفس اليوم منفوسة - يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية ".
وقال أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بشهر: " يسألونني عن الساعة وإنما علمها عند الله، أقسم بالله ما على الارض نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة ".
وهكذا رواه مسلم من طريق أبي نضرة وأبي الزبير: كل منهما عن جابر بن عبد الله بن نحوه.
وقال الترمذي: حدثنا عباد، حدثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما على الارض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة ".
وهذا أيضا على شرط مسلم.
قال ابن الجوزى: فهذه الاحاديث الصحاح تقطع دابر دعوى حياة الخضر.
قالوا: فالخضر (1) إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو المظنون الذي يترقى في القوة إلى القطع، فلا إشكال، وإن كان
__________
(1) ا: والخضر.
(*) (2/239)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق