الاثنين، 5 نوفمبر 2018

1 عقوبتا الزاني والمرتد ودفع الشبهات في ضوء القرآن و السنة ودفع الشبهات

الكتاب : عقوبتا الزاني والمرتد ودفع الشبهات في ضوء القرآن و السنة ودفع الشبهات
المؤلف : عماد السيد محمد إسماعيل الشربينى
المحقق : عماد السيد محمد إسماعيل الشربينى
عدد الأجزاء : 1
مصدر الكتاب : www.offok.com
[ الكتاب مرقم آلياً ]
جمعه ورتبه وفهرسه الفقير إلى الله عبد الرحمن الشامي
ويسألكم الدعاء
هذا الكتاب
يتناول فيه المؤلف الرد علي أعداء السنة المطهرة ، ودعاة التغريب من خلال
عدة قضايا منها :
1- بيان مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حددها رب العزة في كتابه ، واستعراض شبهة أعداء السنة حول هذه المهمة والجواب عنها.
2- بيان أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيانية إنما تعني الحكمة وهي السنة النبوية ، واستعراض
شبهة أعداء السنة ، بأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقية ؛ هي القرآن فقط والجواب عنها.
3- بيان حقيقة وهدف أعداء السنة بإيمانهم ببيان نبوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته ! .
4- بيان وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة معاَ ، والرد علي أعداء السنة في
حصرهم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن فقط.
5- بيان أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة هي عين التوحيد لله تعالى، والرد علي
أعداء السنة في زعمهم أن الربط بين طاعة الله عز وجل في كتابه ، وطاعة رسوله في سنته
المطهرة شرك.
6- بيان السنة النبوية لعقوبة الزاني الواردة في القرآن الكريم ؛ ودفع شبهات المنكرين لهذا البيان النبوي.
7- بيان السنة النبوية لعقوبة المرتد الواردة في القرآن الكريم ؛ ودفع شبهات المنكرين لهذا البيان النبوي.
والله الهادي إلي سواء السبيل
صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم .
(1/1)
عقوبتا الزاني والمرتد في ضوء القرآن و السنة ودفع الشبهات
الدكتور عماد السيد الشربيني
مدرس الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
1424هـ- 2003 م
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (1)
{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (2)
{ ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج
فخلوا سبيله ، فإن الإمام إن يخطئ في العفو ؛
خير له من أن يخطئ في العقوبة } ( 3 ).
تقديم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد ،
وعلي آله ، وصحبه ، ورضي الله عمن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
ثم أما بعد
فإن السنة المطهرة ، كانت هدفَا لأعداء الإسلام منذ زمن بعيد ، لكنها قاومت وتقاوم ، وحطمت وتحطم محاولات أعداء الإسلام ، وأذيالهم بما رسخ في قلوب المؤمنين ، من إيمان وتقديس وحب وإقتداء.
إن الذين يحاولون النيل من السنة المطهرة تختلف مشاربهم وأهدافهم واتجاهاتهم ، وإن كثيراً منهم
يفتح له مجال واسع في الإعلام ، الذي يجري وراء المادة الغريبة المستحدثة والشاذة ، التي تجذب الجماهير.
فإن أراد العلماء أن يكشفوا الزيف ، ويردوا الشبهات ؛ لم يجدوا المجال الكافي المتكافئ مع نشر
السموم. ومن هنا يتهم العلماء والمتخصصون بالقصور أو التقصير.
__________
(1) 1 ) الآ ية 229 البقرة .
(2) الآية 65 النساء.
(1/2)
إن أملنا في عقيدة الأمة الراسخة التي لا تزعزعها العواصف ، ولولا قوة إيمانها في عقيدتها وشريعتها الإسلامية ، لكانت النتيجة خطيرة منذ زمن بعيد ، ولكنه وعد رب العزة { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) } (1) .ومساهمة متواضعة في التصدي لشراذم البغي قديمَا وحديثَا، ممن يطعنون في شريعتنا الغراء ويتهمونها بالقسوة لما فيها من الحدود ، وردَا علي أعداءالسنةالنبوية ؛ الذين ينكرون عقوبة الرجم للزانى المحصن ، وعقوبة القتل للمرتد ، بحجة مخالفتهما للقرآن الكريم.
أسطر هذه السطور حسبة لله تعالى ، وانتصارَا لشريعته الغراء ، في ستة مباحث هي :
المبحث الأول : في بيان مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حددها رب العزة في كتابه.
المبحث الثاني : في بيان أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلمالبيانية إنما تعني الحكمة ، وهي
السنة المطهرة.
المبحث الثالث : في بيان وجوب طاعة رسول صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة معَا.
المبحث الرابع : في بيان أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة هي عين التوحيد
الخالص لله عز وجل.
المبحث الخامس : في بيان السنة لعقوبة الزاني الواردة في القرآن ودفع الشبهات.
المبحث السادس : في بيان السنة لعقوبة الردة الواردة في القرآن ودفع الشبهات.
الخاتمة : في نتائج هذا البحث ، ومقترحات ، وتوصيات ، وفهرس الموضوعات.
منهجي في البحث :
1-كل ماعرضته في البحث من شبه ومطاعن أهل الزيغ والهوي قديمَا وحديثَا ، المتضمنة
الطعن في سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني قرنت ذلك بالرد الحاسم الذي يبين بطلان وزيف
تلك الشبه والمطاعن معتمداً في ذلك علي القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، والسيرة العطرة،
وكلام أهل السنة قديمَا وحديثَا.
2 - بينت مواضع الآيات التي وردت في البحث بذكر اسم السورة ، ورقم الآية في الهامش ، مع
__________
(1) الآية 9 من سورة الحجر .
(1/3)
وضع الآية بين قوسين.
3- عزوت الأحاديث التى أوردتها فى البحث إلي مصادرها الأصلية ، من كتب السنة المعتمدة ،
فإن كان الحديث فى الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما ، بذكر اسم الكتاب ، واسم
الباب ، وذكر الجزء والصفحة ورقم الحديث ، وأقدم فى التخريج من ذكرت لفظه ، مع البيان غالباً لدرجة الحديث ، من خلال أقوال أهل العلم بالحديث ، أو دراستى للسند ، إن كان الحديث فى غير الصحيحين ، وفيما عدا ذلك اقتصر على ما يفيد ثبوت الحديث أورده.
4 - اعتمدت فى التخريج من الصحيحين على طبعتى البخارى "بشرح فتح البارى" لابن حجر،
والمنهاج "شرح صحيح مسلم" للنووى ، لصحة متون الأحاديث فى الشرحين ، ولصحة
عرضهما على أصول الصحيحين ، وتسهيلاً للقارئ لكثرة تداول تلك الشروح ، وإتماماً
للفائدة بالإطلاع على فقه الحديث المخرَّج.
5 - التزمت عند النقل من أى مرجع ، أوالإستفادة منه الإشارة إلى رقم جزئه وصفحته
بالإضافة إلى ذكر طبعات المراجع فى الفهرست.
6 - عند النقل من فتح البارى ، أو المنهاج شرح مسلم للنووى ، أذكر رقم الجزء والصفحة
ورقم الحديث الوارد فيه الكلام المنقول ، تيسيراً للوصول إلى الكلام المنقول ، نظراً
لاختلاف رقم الصفحات تبعاً للطبعات المتعددة.
7 - اكتفيت فى تراجم الأعلام من الصحابة بذكر مصادر تراجمهم بذكر رقم الجزء والصفحة
ورقم الترجمة ، ولم أترجم لهم لعدالتهم جميعا ، ولم أخالف فى ذلك إلا فى القليل عندما
تقتضى الترجمة الدفاع عن شبهة.
8 - ترجمت لكثير من الأعلام الذين جرى نقل شئ من كلامهم ، مع ذكر مصادر تراجمهم ،
بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة.
9 - شرحت المفردات الغريبة التى وردت فى بعض الأحاديث مستعيناً فى ذلك بكتب غريب الحديث ، ومعاجم اللغة ، وشروح الحديث.
والله عز وجل أسال أن ينفع بما كتبت ، وأن يتقبله خالصَا لوجهه الكريم.
(1/4)
اللهم تقبل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم ، اللهم اجعلني جنداً من جنود كتابك ، جنداً من جنود سنة نبيك صلى الله عليه وسلم ، اللهم لا تجعلني شقياً ولا محروماً ، اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك ، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك ، ولا قدماً تمشى إلى طاعتك ، ولا يداً تكتب حديث رسولك وصفيك صلى الله عليه وسلم. اللهم لا تدخلنى النار، ولا تفضحنى فيها ، فقد علم أهلها أنى كنت أذب عن دينك ، وأدافع
عن شرعك ، وأظهر مكانة وحيك ، وأبين عظمة وعصمة نبيك وخليلك وصفيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلنى وما عملت من عمل صالح فى ميزان أبوىَّ
واغفر لهما ، وأكرمهما ، وارحمهما كما ربيانى صغيراً
وألبسهما حلة الكرامة ، وشفع فيهما كتابك ونبيك صلى الله عليه وسلم
... ... والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الراجى عفو ربه الغفور
أبو صلاح الدين
د/ عماد السيد الشربيني
مدرس الحديث وعلومه
بكلية أصول الدين القاهرة
جامعة الأزهر
(1/5)
المبحث الأول : في بيان مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته
كما حددها رب العزة في كتابه
...
طعن أعداء السنة المطهرة، في دور رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي، وحصروا بلاغه في الرسالة، على تبليغ القرآن الكريم فقط، وقالوا هى مهمته الوحيدة، وعدوا القول بخلاف قولهم اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه فرط فى تبليغ الوحى.
...
وجاءت أقوالهم فيما يفترون صريحة، وإليك نماذج منها :
قال رشاد خليفة(1) : "إن مهمة الرسول الوحيدة : هى تبليغ القرآن بدون أى تغيير، أو إضافة، أو اختزال ، أو شرح"(2).
وقال فى موضع آخر : "أمر محمد بتبليغ القرآن فقط بدون أى تغيير، وألا يختلق أى
شئ آخر".
ويقول : "محمد ممنوع من التفوه بأى تعالىم دينية سوى القرآن"(3).
ويقول محمد نجيب(4) : "نسبة أى شئ للرسول غير القرآن طعن فى أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم"(5)
__________
(1) هو : رشاد عبد الحليم محمد خليفة، حصل على بكالوريوس الزراعة من جامعة عين شمس، بمصر،
عمل خبيراً زراعياً بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان عميلاً للبهائية ويدعوا إليها، وينكر حجية
السنة النبوية، ادعى النبوة، ومات مقتولاً داخل مسجد قريب من جامعة أريزونا، حيث كان يقوم
بتدريس أفكاره البهائية التى تشكك فى الإسلام، وفى حجية السنة المطهرة، حبيشى،ينظر:رشاد
خليفة صنيعة الصليبية العالمية للدكتور خالد نعيم ص16 - 59 .
(2) القرآن والحديث والإسلام ص13، وينظر : من نفس المصدر ص17، 18، 33 .
(3) المصدر السابق ص2، 3، وينظر له أيضاً : قرآن أم حديث ص2، 16 .
(4) كاتب مصرى معاصر، من مؤلفاته "الصلاة" أنكر فيه السنة المطهرة، وزعم أن تفاصيل الصلاة واردة فى القرآن الكريم، وكتابه صادر عن ندوة أنصار القرآن، نشر دائرة المعارف العلمية الإسلامية.
(5) الصلاة ص271، 272 .
(1/6)
ويقول أحمد صبحى منصور (1): "إن إسناد قول ما للنبى وجعله حقيقة دينية هو اتهام للنبى بأنه فرط فى تبليغ الرسالة… بإيجاز كانت مهمة النبى مقتصرة على التبليغ دون الإفتاء والتشريع"(2).
ويقول إسماعيل منصور(3) : "إنه ليس لجبريل عليه السلام فى القرآن الكريم دور إلا النقل الأمين فحسب، كما أنه ليس لمحمد فيه دور كذلك إلا البلاغ الصادق وحده.
قال تعالى : { إن عليك إلا البلاغ } (4) وقال سبحانه : { وما على الرسول إلا البلاغ
المبين } (5).
ويقول جمال البنا(6) : "ونصوص القرآن الكريم واضحة، وصريحة، ومتعددة، وهى تحصر
__________
(1) هو : أحمد صبحي منصور ، تخرج من جامعة الأزهر ، وحصل علي العالمية في التاريخ من الجامعة ، وتبرأ من
السنة النبوية ،زاعماً أنها من عنل الشيطان ، ورواتها مجرمون خونة ، فتبرأت منه الجامعة.
(2) مشروع التعليم والتسامح لأحمد صبحى وغيره ص282 وينظر من نفس المصدر ص287، 293، وينظر له : الأنبياء فى القرآن ص26، ولماذا القرآن ص43 – 52، ولا ناسخ ولا منسوخ فى القرآن ص19، والمسلم العاصى ص13 .
(3) هو : إسماعيل منصور جودة، تخرج من جامعة القاهرة ، وحصل على العالمية فى الطب البيطرى من الجامعة، تبرأ من السنة، وزعم أنها أكذوبة كبيرة وخطيرة، وداهية كبرى، أريد بها التشويش على كلام الله تعالى. من آثاره : تبصير الأمة بحقيقة السنة، وشفاء الصدر بنفى عذاب القبر، وبلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين. وغير ذلك.
(4) جزء من الآية 48 الشورى.
(5) الآية 54 النور، وينظر : تبصير الأمة بحقيقة السنة ص267، 268 .
(6) هو : ابن العالم المحدث الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، صاحب الفتح الربانى فى ترتيب مسند أحمد، وشقيق الأستاذ حسن البنا، المرشد الأول لجامعة الإخوان المسلمين، من آثاره التى طعن فيها فى حجية السنة، الأصلان العظيمان، والسنة ودورها فى الفقه الجديد. وغير ذلك.
(1/7)
دور الرسول فى البلاغ ، وكثيراً ما تأتى الإشارة إلى البلاغ بصيغة الحصر، ولكنها فى
حالات أخرى تضيف إلى البلاغ صفة "المبين"
قال تعالى : { وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } (1) وقال سبحانه : { فإن توليتم فإنما على
رسولنا البلاغ المبين } (2).
ويجاب عن هذه المزاعم بما يلي :
أولاً : لكل مسلم أن يعجب من جراءة هؤلاء الأدعياء الذين يتسترون بعباءة القرآن الكريم ، فى جرأتهم وتطاولهم على الذات العليا من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
... إذ بعثة الرسول أو النبى، وتحديد دوره فى رسالته أمر لا يملك منه أحد شئ سوى الخالق
عز وجل؛ وتلك بديهة لا يخالفها عاقل.
فإذا جاء أعداء السنة المطهرة، وزعموا أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصرة على بلاغ القرآن
فقط، وأن نسبة أى شئ إليه سوى القرآن يعنى الطعن فى أمانته، وأنه فرط فى تبليغ
الرسالة، فقد تجرءوا وتطاولوا على ربهم - جل جلاله -. حاسبهم سبحانه بما يستحقون.
ثانياً : إذا كان أعداء السنة المطهرة والسيرة العطرة اتخذوا لأنفسهم شعار "القرآنيون" يستدلون به وحده على ما يزعمون؛ فهم يحرصون دائماً على الإيمان ببعض القرآن، والكفر ببعضه الآخر.
__________
(1) جزء من الآية 20 آل عمران.
(2) الآية 12 التغابن. وينظر : السنة ودورها فى الفقه الجديد ص190، وإعادة تقييم الحديث لقاسم أحمد ص152، والبيان بالقرآن لمصطفى المهدوى 1/12، 2/793، ومجلة المنار المجلد 9/521، 522 مقال : "الإسلام هو القرآن وحده" للدكتور توفيق صدقى، وينطر : المجلد 9/909، 913، وإنذار من السماء لنيازى عز الدين ص141، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص129، والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص40 كلاهما لصالح الوردانى.
(1/8)
حيث أنهم هنا فى افتراءاتهم يستدلون بظاهر وعموم بعض الآيات القرآنية التى تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم، على البلاغ ، وتركوا باقى نصوص القرآن الكريم التى تفصل حقيقة هذا البلاغ ، وتفصل أيضاً باقى أدوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى رسالته ! .
الأدلة من القرآن الكريم علي أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته مهمة غير بلاغ القرآن فقط.
... وإليك شواهد من الآيات القرآنية ترد على افتراءاتهم ، وتبين فى وضوح وجلاء أن دور
رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته ليس قاصراً على بلاغ القرآن الكريم فقط.
وإنما بيان هذا الكتاب الكريم ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتزكيتهم، والحكم بينهم فى كل شأن من شئون حياتهم.
وما كل ذلك إلا بالسنة المطهرة، والسيرة العطرة التى ينكرونها.
قال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } (1) والبلاغ الذى أمر المولى عز وجل به رسوله ، هو الوظيفة الأولى له صلى الله عليه وسلم وهو بلاغ عام وشامل لكل ما تحتاج إليه البشرية فى عاجلها وآجلها، ودنياها وأخراها.
وقد وصل إلينا هذا البلاغ فى وحيين :
أحدهما : متلو وهو القرآن الكريم.
وثانيهما : غير متلو وهو السنة المطهرة.
... ويدل على عموم البلاغ ، عموم الاسم الموصول "ما" فى الآية الكريمة، كما عمم من أراد تبليغهم ، حيث حذف المفعول الأول لـ "بلغ" ليعم الخلق المرسل إليهم.
والتقدير : بلغ جميع ما أنزل إليك من كتاب وسنة ، من يحتاج إلى معرفته من أمر الدين الموحى به إليك(2).
__________
(1) الآية 67 المائدة.
(2) التحرير والتنوير 6/260 بتصرف.
(1/9)
... أما كون رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص القرآن، ما عليه إلا البلاغ، والاستدلال بظاهر ذلك على حصر مهمته فى بلاغ القرآن فقط ، فإن ذلك فهم غير مراد؛ لأن قوله تعالى : { ما على الرسول إلا البلاغ } (1) معناه نفى الإكراه على الاعتقاد والإيمان، نحو قوله تعالى : { قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل } (2) وقال سبحانه : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ } (3) والمعنى : نفى الإكراه على الإعتقاد والإيمان.
ففى العقيدة والتصديق القلبى ، لا إكراه ، أى ليس هناك إلا البلاغ.
أما فى شريعة الدولة والسياسة والاجتماع والمعاملات ، فهناك السلطان والثواب والعقاب ، وليس هناك أدنى تناقض بين وقوف سلطان الرسول صلى الله عليه وسلم، فى العقيدة عند البلاغ؛ { لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى } (4) وبين وجود ووجوب الطاعة المتميزة له، فى إطار بيان وتطبيق الوحى الإلهى
بل إن القرآن الكريم يجمع بين الأمرين فى الآية الواحدة . وتأمل قوله تعالى : { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } (5) فالرسول الله صلى الله عليه وسلم، طاعة متميزة وسلطان وتشريع لإقامة الدين ، والإقامة تطبيق وتجسيد ، يزيد على مجرد البلاغ والتبليغ بدليل ما يلي :
قوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } (6) و"التبيين" هنا غير "التبليغ" الذى هو الوظيفة الأولى للنبى صلى الله عليه وسلم، { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } (7).
__________
(1) الآية 99 المائدة.
(2) الآية 108 يونس.
(3) الآية 48 الشورى.
(4) الآية 256 البقرة.
(5) الآية 54 النور.
(6) الآية 44 النحل.
(7) الآية 67 المائدة.
(1/10)
و"التبيين" و"التبليغ" وظيفتان موضوعهما واحد هو "القرآن الكريم" عبر عنه فى آية "التبليغ"
بهذا اللفظ : { ما أنزل إليك } وعبر عنه فى آية التبيين بلفظ مختلف : { ما نزل إليهم }
وبينهما فروق لها دلالتها. مردها إلى الفرق بين الوظيفتين.
"فالتبليغ" : تأدية النص، تأدية "ما أنزل" كما "أنزل" دون تغيير ما على الإطلاق، لا زيادة ولا نقصان ، ولا تقديم ولا تأخير.
و"التبيين" : إيضاح، وتفسير، وكشف لمراد الله من خطابه لعباده، كى يتسنى لهم إدراكه ، وتطبيقه ، والعمل به على وجه صحيح.
"والتبليغ" : مسئولية "المبلغ" وهو المؤتمن عليها، وهذا سر التعبير : { وأنزلنا إليك } حيث عدى الفعل "أنزل" بـ "إلى" إلى ضمير النبى صلى الله عليه وسلم المخاطب.
و"التبيين" : مهمة، فرضتها حاجة الناس لفهم ما خوطبوا به وبلغوه، وإدراك دلالته الصحيحة، ليطبقوه تطبيقاً صحيحاً.
ومن هنا كانت المخالفة فى العبارة … "نزل إليهم" حيث عدى الفعل "نزل" بـ "إلى" مضافاً إلى الضمير "هم" أى الناس، وعدى الفعل : "لتبين" إلى الناس بـ "اللام" أن كانت حاجتهم إلى "التبيين" هى السبب والحكمة من ورائه ، وهى توحى بقوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بحاجة إلى ما احتاج إليه الناس من هذا التبيين.
ولعمرى إنه لكذلك ، فقد أوحى إليه بيانه وألهمه ، فالتقى فى نفسه "البيان" و"المبين" معاً وأصبح مؤهلاً لأن يقوم بالوظيفتين : وظيفة البلاغ ، ووظيفة التبيين على سواء ! .
وكما أن محالاً أن يكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، شيئاً مما أمر بتبليغه ، فمحال أن يترك شيئاً مما أمر بتبليغه دون أن يبينه ، فكلا الأمرين : التبليغ والتبيين من صميم رسالته : { بلغ ما أنزل إليك } … { لتبين للناس ما نزل إليهم } .
(1/11)
واختلاف الناس فى فهم القرآن ما بين مصيب ومخطئ… واختلافهم فى درجات الإصابة، ودرجات الخطأ… برهان بين على حاجتهم إلى "تبيين" لكتاب ربهم ، ينهض به إمام الموقعين عن رب العالمين … رسول الله الذى أنزل عليه هذا الكتاب.
هنا يقع قول الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (1) موقعاً يسد كل ثغرة ، يحاول النفاذ منها من يرفض "سنة رسول الله" أو يهون من شأنها، أو يسعى للتشكيك فيها، وإسقاط حجيتها وإلزامها.
ويقع نفس الموقع قول النبى صلى الله عليه وسلم : "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول : لا أدرى؟ ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه"(2).
وهنا لى أن أقرر : أن إنكار مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، البيانية ، أو رفضها أو التشكيك فيها ينطوى على رفض وتكذيب للقرآن نفسه ؟.
{ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } (3).
كما ينطوى على الطعن فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى بلاغ وحى الله تعالى إليه ، لأن
ترك تبيين كلمة واحدة فى القرآن الكريم، تحتاج إلى تبيين دون أن يبينها تقصير، ككتمان
حرف واحد مما أمر بتبليغه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مبرأ من أن يخون فى التبليغ، أو يقصر فى
التبيين.
فمن المتهم إذن : باتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه فرط فى تبليغ رسالته ؟ من يؤمن بأن من
__________
(1) جزء من الآية 7 الحشر.
(2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب لزوم السنة 4/200 رقم 4605، والترمذى فى سننه كتاب العلم، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبى صلى الله عليه وسلم 5/36 رقم 2663 وقال : حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجة فى سننه المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه 1/20 رقم 13، والشافعى فى الرسالة ص89 رقم 295 من حديث أبى رافع رضى الله عنه.
(3) الآية 5 الكهف.
(1/12)
مهمته فى رسالته البيان أم من ينكر ذلك ؟! .
إن إنكار أعداء السنة المطهرة ، لهذه المهمة ، بحجة أن المولى عز وجل تكفل بهذا البيان والتفصيل فى قوله : { ثم إن علينا بيانه } (1) وقوله سبحانه : { وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلاً } (2) وقوله : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ } (3).
لا حجة لهم فى ذلك لما يلي :
أن مجئ لفظ البيان فى جانب الله تعالى : { ثم إن علينا بيانه } ، ومجئ لفظ "التبيين" فى جانب رسول الله ، { لتبين للناس ما نزل إليهم } لا يفسر بأنه تنويع فى اللفظ ، أو تفنن فى العبارة ، وإنما هو قصد مقصود ، وراءه دلالات يبحث عنها وهى :
أن "بيان" الله للقرآن إنما هو لنبيه صلى الله عليه وسلم .
ومصدره هو الله تعالى.
ومستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وطريقه : الوحى فى صورة ما من صورة.
أما "التبيين" فهو من رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس.
ومصدره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومستقبله المخاطبون بهذا القرآن.
وطريقه إنما هو "اللغة" وليس "الوحى".
...
والخلاصة : رسول الله يتلقى بيان القرآن عن ربه "وحياً" والناس يتلقون تبيينه عن رسول الله
"لغة وكلاماً".
إذن : هناك اختلاف بين "البيان" و"التبيين" من ثلاث جهات : من جهة المصدر، ومن جهة
__________
(1) الآية 19 القيامة.
(2) جزء من الآية 114 الأنعام.
(3) جزء من الآية 89 النحل. وينظر : ممن استشهد بذلك، توفيق صدقى فى مقاله "الإسلام هو القرآن وحده"، مجلة المنار المجلد 9/516، 907، وجمال البنا فى السنة ودورها فى الفقه الجديد ص33، ومحمود أبو ريه فى أضواء على السنة المحمدية ص404، والصلاة لمحمد نجيب ص23، وقاسم أحمد فى إعادة تقييم الحديث ص86، ومصطفى المهدوى فى البيان بالقرآن 1/10، 29، وأحمد صبحى فى الصلاة فى القرآن 32، 60، 61، وإسماعيل منصور فى تبصير الأمة ص10، 11، 15 وغيرهم.
(1/13)
المستقبل، ومن جهة الطريق أو الأداة، أو الوسيلة، التى يعبر خلالها "البيان" أو "التبيين"
إلى مستقبله.
هل يكفى هذا لبيان السبب فى اختصاص كل لفظ بموضعه ؟.
وهل يزعم زاعم بعد هذا أن بالإمكان التعبير عن كلا "البيانين" "بيان الله" و"تبيين رسوله"
للقرآن بلفظ واحد.
إن الفرق من السعة والوضوح والعمق ، بحيث يفرض اختلاف التعبير فى هذين المقامين
المختلفين(1).
إن المراد بتفصيل وتبيان الكتاب لكل شئ يعنى : تفصيل وتبيان القرآن لكل شئ من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجملة.
أما تفاصيل تلك القواعد ، وما أشكل منها، فالبيان فيها راجع إلى تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدل على ذلك قول ابن مسعود فى قوله تعالى : { تبياناً لكل شئ } قال : قد بين لنا فى
هذا القرآن ، كل علم ، وكل شئ. وقال مجاهد : كل حلال وحرام.
وقول ابن مسعود أعم وأشمل ؛ فإن القرآن اشتمل على كل نافع من خبر ما سبق ، وعلم ما سيأتى ، وكل حلال وحرام ، وما الناس إليه محتاجون فى أمر دنياهم ودينهم ، ومعاشهم ومعادهم.
وقال الأوزاعى "تبياناً لكل شئ" أى بالسنة(2).
...
ولا تعارض بين القولين – ابن مسعود والأوزاعى – فابن مسعود يقصد العلم الإجمالى الشامل،
والأوزاعى يقصد تفصيل وبيان السنة لهذا العلم الإجمالى.
ومن هنا؛ فالقول بأن القرآن الكريم تبيان لكل شئ قول صحيح فى ذاته بالمعنى الإجمالى السابق، ولكن الفساد فيما بنوه عليه من قصر مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بلاغ القرآن فقط ، وإنكار مهمته البيانية (السنة المطهرة) والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم ! .
__________
(1) السنة بياناً للقرآن للدكتور إبراهيم الخولى ص4،5،21،47، 48 .
(2) ينظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/513 .
(1/14)
وإلا فرب العزة هو القائل فى نفس سورة النحل ، وقبل هذه الآية قال : { ليبين لهم الذى اختلفوا فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } (1).
وقال سبحانه : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } (2).
وقال عز وجل : { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه } (3).
فتلك ثلاث آيات كريمات فى نفس سورة النحل ، وسابقة لآية { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ } والثلاث آيات تسند صراحة مهمة التبيين إلى نبيه صلى الله عليه وسلم .
فهل يعقل بعد ذلك أن يسلب الله عز وجل هذه المهمة - التبيين - التى هى من مهام الرسل جميعاً
كما قال عز وجل: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } (4).
ويوقع التناقض بقوله - جل جلاله - : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ } .
وقوله عز وجل : { وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلاً } ؟ ! .
إن كل الرافضين لمهمة رسول الله البيانية ، لابد أن يلتزموا بهذه النتيجة التى تعود بالنقض على الإيمان بالكتاب ، وبمن أنزل الكتاب جل جلاله ، سواء أقروا بلسانهم بهذا النقض أم لا ، وتنبهوا إلى ذلك أم لا ؟!! .
... ويجدر بى هنا أن أشير إلى ما قاله الحافظ ابن حجر مبيناً المراد من الأحاديث والآثار المؤذنة بالاقتصار على كتاب الله عز وجل. نحو قوله صلى الله عليه وسلم : "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله"(5).
__________
(1) الآية 39 النحل.
(2) الآية 44 النحل.
(3) الآية 64 النحل.
(4) الآية 4 إبراهيم.
(5) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الحج، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم 4/431، 432 رقم 1218 من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه.
(1/15)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده" فقال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله"(1).
وأشباه هذا مما روى مرفوعاً وموقوفاً، بالإقتصار على القرآن فقط.
...
يقول الحافظ : "الإقتصار على الوصية بكتاب الله ؛ لكونه أعظم وأهم ، ولأن فيه تبيان كل شئ ، إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب ، عملوا بكل ما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم، به لقوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (2) وهذا الذى قاله الحافظ رحمه الله، يؤكد ما سبق ذكره.
... ومما هو جدير بالذكر هنا. أن الكلام السابق للحافظ ، نقله مبتوراً جمال البنا حيث قال : "التمسك بالقرآن والعمل بمقتضاه ، إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم : "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله".
وترك جمال البنا، بيان أن العمل بالقرآن الكريم يقتضى العمل بالسنة كما صرح ابن حجر(3).
...
وهذا ما فعله أيضاً أحمد صبحى منصور. حيث نقل كلام الحافظ ابن حجر الذى نقلته ، وبتر منه لفظه (النبى صلى الله عليه وسلم).
فصارت العبارة : "فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به"(4).
__________
(1) أخرجه مسلم ( بشرح النووي ) كتاب الوصية ، باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوص فيه 6/ 100رقم 1637 ، والبخاري ( ببشرح فتح الباري ) في عدة أماكن منها كتاب العلم ، باب كتابةالعلم 1/251 رقم 114 .
(2) جزء من الآية 7 الحشر. وينظر : فتح البارى 5/425 رقم 2740 حديث عبد الله بن أبى أوفى رضى الله عنه، وينظر : الموافقات للشاطبى 3/274 – 276 .
(3) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص246 .
(4) حد الردة ص89 .
(1/16)
وإذا تقرر لك هناك أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فى رسالته مهمة غير التبليغ وهى تبيين القرآن الكريم، الملازم للمهمة الأولى وهى تبليغه. فاعلم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حُكمٌ فى رسالته، جعله ربه من مهام رسالته.
قال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } (1) فبين ربنا سبحانه أنه أنزل الكتاب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ليحكم بين الناس بما ألهمه الله وأرشده.
وإذا كان الحكم بالقانون ، غير سن القانون فإن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما جاء فى القرآن من
تشريعات ، فضلاً عن تبيينه بالسنة ، هو أمر زائد على مجرد البلاغ لهذه التشريعات. وتحكيمه صلى الله عليه وسلم فى كل شئون حياتنا ، والرضى بحكمه ، والتسليم به، جعله رب العزة علامة الإيمان كما قال : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسيلما } (2)
وما ذلك إلا لأن حكمه صلى الله عليه وسلم، وحى من الله واجب الاتباع لقوله { بما أراك الله }
وعلى هذا الفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم.
يدل على ذلك قول عمر رضي الله عنه وهو على المنبر : "يا أيها الناس إن الرأى إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً لأن الله عز وجل كان يريه ، وإنما هو منا الظن والتكلف"(3).
__________
(1) الآية 105 النساء.
(2) الآية 65 النساء.
(3) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الأقضية باب قضاء القاضى إذا أخطأـ 3/302 رقم 3556، والبيهقى فى السنن الكبرى 10/117، والمدخل له ص189 رقم 210، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/164، والبزار ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 6/145، 146، وسكت عنه الحافظ فى فتح البارى 5/408 رقمى 2731، 2732 .
(1/17)
لقد قال عمر ذلك على المنبر، ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين ، لا من الصحابة ، ولا من التابعين ، مما يدل على أنهم جميعاً يعلمون أن لرسول الله حُكم فى رسالته هو من ربه عز وجل، وهو أمر زائد على مجرد البلاغ ! .
وقال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين } (1)
إن الله عز وجل فى هذه الآية الكريمة ، يمتن على هذه الأمة ، ببعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من أنفسهم ، وأنه جاء ليس لمجرد بلاغ وتلاوة القرآن الكريم فقط - كما يزعم أعداء الإسلام !
وإنما جاء مع بلاغ القرآن وتلاوته ؛ جاء بتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة.
وهذه التزكية والتعليم من مهامه صلى الله عليه وسلم فى دعوته، مع بلاغه للقرآن وبيانه لما فيه، وحكمه به.
وبهذه المهمة (التزكية والتعليم) تكون هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } (2) أى من ظلمات الكفر والجهل والضلالة، إلى نور الإيمان والعلم والهداية(3)
وقال سبحانه : { وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم } (4) فأسند الهداية إليه صلى الله عليه وسلم، مما يدل
على أنه عليه الصلاة والسلام بكل ما جاء به من عند الله عز وجل، يهدى إلى صراط مسقيم.
...
وتأمل قوله "لتخرج" وقوله "تهدى" إنه سبحانه اسند الفعلين إليه صلى الله عليه وسلم وفى ذلك دلالة على أن
ذلك من مهام رسالته التى كلفه بها، مع بلاغه للقرآن وتبيينه لما فيه، وحكمه بين الناس
وتزكيته وتعليمه لأمته؛ وكل ذلك ينكره أعداء هذه الأمة ! .
__________
(1) الآية 164 آل عمران.
(2) الآية الأولى إبراهيم.
(3) فتح القدير 3/93 .
(4) الآية 52 الشورى.
(1/18)
إن زعم أعداء السيرة العطرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهمته الوحيدة، تبليغ القرآن فقط، وإنكارهم مهمته البيانية للقرآن الكريم ، يعد هذا الزعم منهم طعناً فى عصمته صلى الله عليه وسلم فيما بلغه من وحى السنة المطهرة ، وطعناً منهم أيضاً فى عصمته فى رجاحة عقله وكماله ، لأنهم فى كتاباتهم
المفتراه ، يقدمون رؤيتهم القرآنية بياناً ، وتفسيراً ، ومفهوماً لآيات القرآن الكريم.
فكيف ينكرون أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه ، وتفسيره وشرحه لآيات القرآن الكريم ؛
وهو أعلم الناس به ؛ حيث عليه أنزل ؟ ! .
ومن هنا لما قال رجل لمطرف بن عبد الله(1) : لا تحدثونا إلا بما فى القرآن قال مطرف: إن والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا"(2).
__________
(1) هو : مطرف بن عبد الله بن الشخير العمرى، أبو عبد الله، من كبار التابعين، ثقة، عابد، فاضل، مات سنة 95هـ له ترجمة فى : تقريب التهذيب 2/188 رقم 6728، ومشاهير علماء الأمصار ص113 رقم 645، والكاشف 2/269 رقم 5478، وخلاصة تهذيب الكمال ص249، والثقات للعجلى ص431 رقم 1586 .
(2) أخرجه أبو خيثمة فى العلم ص25 رقم 97، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/191، والحازمى فى الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ ص100 .
(1/19)
... ويقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه يصف حج النبى صلى الله عليه وسلم ، : "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فى المسجد ثم ركب القصواء(1) حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شئ عملنا به.." الحديث(2).
... فتأمل قول الصحابى : "ورسول الله بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله" إنه صلى الله عليه وسلم، هو الذى علمه الله القرآن، وكل ما من شأنه أن ييسر العمل به، فعلمه تأويله، وأراه ما به يتم الدين.
__________
(1) القصواء : الناقة التى قطع طرف أذنها، ولم تكن ناقته صلى الله عليه وسلم كذلك، وإنما كان هذا لقباً لها. ينظر : النهاية فى غريب الحديث 4/66 .
(2) جزء من حديث طويل، أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الحج، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم، 4/431 رقم 1218 .
(1/20)
... إن مقتضى إيمانهم برسالته صلى الله عليه وسلم، أن يسألوه ويحكموه عن كل ما بدا لهم ؛ إنهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأتيه الوحى فى أى وقت بالقرآن وتأويله ، وبكل ما يتصل ببيان الدين ، ومن هنا سألوا واستفسروا وأجابهم صلى الله عليه وسلم، بما به بين، ووضح، وأفاد وأجاد(1) حتى قال صلى الله عليه وسلم : "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيع عنها بعدى إلا هالك"(2).
...
إن تأويل وتفسير، رسول الله صلى الله عليه وسلم، للقرآن الكريم ، هو فريضة قرآنية ، وتكليف إلهى للنبى صلى الله عليه وسلم - زائد على مجرد بلاغه - وليس فضولاً ولا تزايداً ، ولا إضافة يمكن الإستغناء عنها.
لقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } (3).
فكيف ينكرون هذا التبيان النبوى للبلاغ القرآنى ، بينما يمارسون هم شرح وتفسير آيات القرآن ؟‍ أهذا معقول ؟ فضلاً عن أن يكون مقبولاً ؟‍‍‍!! .
... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنص الآيات الكريمات السابق ذكرها، مبلغ، ومبين، وحاكم، ومزكى، ومعلم ، وهادى إلى صراط مستقيم ، وليس مجرد ساعى بريد ؟! .
__________
(1) المدخل إلى السنة النبوية لفضيلة الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص129 .
(2) جزء من حديث طويل أخرجه ابن ماجه فى سننه المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين 1/29 رقم 43، وأحمد فى مسنده 4/126، والحاكم فى المستدرك 1/174 رقم 329 وقال : صحيح ليس له علة ووافقه الذهبى، وأخرجه ابن أبى عاصم فى كتابه السنة 1/26 رقم 48، والألكائى فى شرح أصول الاعتقاد 2/74،وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/221 من حديث العرباض بن سارية رضى الله عنه، وأورده الحافظ السيوطى فى الجامع الصغير 2/90 وصححه بعد أن عزاه لأحمد، وابن ماجه، والحاكم.
(3) الآية 44 النحل.
(1/21)
... وبعد : إذا تقرر أن من مهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى رسالته بيان القرآن الكريم، والمسلمون جميعاً يعلمون ذلك، ويسلمون به، يبقى توضيح أن البيان النبوى هو الحكمة ، وهى السنة المطهرة التى ينكرها أعداء الإسلام ، ويزعمون أن سنته الحقيقية هى القرآن فقط.
فإلى بيان شبهتهم فىالمبحث التالى والرد عليها
صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم
المبحث الثانى : في بيان أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيانية إنما تعني الحكمة
وهي السنة النبوية
...
زعم أعداء السنة النبوية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليست له سنة ، وأن سنته الحقيقية هى القرآن الكريم فقط ، وزعموا أن القول بأن له سنة نبوية ، تشويه لسيرته، وتجعله مشرعاً.
...
يقول إسماعيل منصور : "إن السنة الحقة، هى سنة واحدة، سنة الله عز وجل ، وليست هناك سنة أخرى غيرها، وإنما للرسول، بيان نبوى للقرآن، نرفعه على العين والرأس ، متى ثبت تحقيقاً، لا يخالف بأى حال أحكام ومدلولات القرآن الكريم ، فنقبله كبيان فحسب ، وليس تشريعاً مستقلاً"(1).
...
__________
(1) بلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمن ص21، 24 وينظر : مجلة المنار المجلد 9/908، 924 مقال الدكتور توفيق صدقى (الإسلام هو القرآن وحده}.
(1/22)
ويقول أحمد صبحى منصور : "إن تلك الأحاديث المذكورة فى كتب التراث ليست من الوحى، الذى نزل على النبى، وليس هناك فى الإسلام حديث إلا حديث الله تعالى فى القرآن، أما تلك الأحاديث التراثية ، وأسفارها ، فلا أول لها ولا آخر، وهى تتناقض حتى فى الكتاب الواحد، وربما فى الصفحة الواحدة وتخالف القرآن مثل الرجم وحد الردة"(1).
...
ويقول صالح الوردانى : "وإذا ما تبين لنا أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، هى تبليغ ما يوحى إليه من ربه، فلا يجوز للرسول أن يضيف أحكاماً فوق أحكام القرآن، فمهمته تنحصر فى تبليغ القرآن وتبيينه للناس، وتنتهى هذه المهمة بوفاته"(2).
ويقول أيضاً : "الروايات المنسوبة للرسول ، والتى تضيف على لسانه أحكاماً جديدة ، وتخترع أحكاماً لا وجود لها فى القرآن تضع الرسول فى دائرة المشرع"(3).
__________
(1) مشروع التعليم والتسامح لأحمد صبحى وغيره ص282، 287، 293 وينظر له أيضاً : لماذا القرآن ص68، 70 - 78، ولا ناسخ ولا منسوخ فى القرآن ص39، وعذاب القبر والثعبان الأقرع ص5، 16، وحد الردة ص40، 89، ومقدمة أحمد صبحى لكتاب إعادة قراءة القرآن لجاك بيرك ص25، 26 .
(2) الخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص40، 41، وينظر : له أيضاً أهل السنة شعب الله المختار ص79، 80 .
(3) دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص129، وينظر : المواجهة مع رسول الله لأحمد حسين يعقوب ص306،والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص253، 254، وينظر لها مقال فى جريدة الجيل العدد 33 بتاريخ 13/6/1999، والإسلام فى الأسر للصادق النيهوم ص138 -= =140، والصلاة لمحمد نجيب ص276، 662، وحقيقة السنة لأحمد حجازى السقا ص7، 9، 13، 14، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص568، والدولة والمجتمع ص232، كلاهما لمحمد شحرور، والإمام الشافعى لنصر أبو زيد ص83، 90، وجريدة الجيل العدد 35 مقال لمحمد شبل.
(1/23)
... ويجاب عن ما سبق بما يلي :
أولاً : سبق فى المبحث السابق تفصيل أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته مهمة ووظيفة ، زائدة على مجرد البلاغ ، وهى مهمة تبيان القرآن الكريم ، وهذه المهمة تضاربت فيها أقوال من يسمون أنفسهم "القرآنيون".
فبينما تجد بعضهم فيما سبق يجحد هذه المهمة من أصلها ، ترى هنا بعضهم يؤمن بها، وبمفهومه الخاص، القائم على إنكار أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته، وحى غير متلو - السنة المطهرة.
ثانياً : إذا تقرر لك بالدليل القاطع أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم تبياناً للقرآن الكريم ، فاعلم أن لهذا التبيان صفة المبين، من حيث وجوب قبوله ، ووجوب العمل به ، وصلاحيته لكل زمان ومكان؛
ويستلزم هذا ضرورة أن هذا التبيان النبوى، هو الحكمة وهى السنة النبوية التى عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : "ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه"(1).
...
وبناء الفعل للمجهول "أوتيت" يدل على أن الله تعالى، أعطى لرسوله صلى الله عليه وسلم، القرآن ومثله معه، فما هو المماثل الذى تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه ؟
يصرح القرآن الكريم بأن هذا المماثل هو "الحكمة" التى قرنها رب العزة فى كتابه مع القرآن الكريم فى آيات عدة منها :
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب السنة ، باب لزوم السنة 4/200 رقم 4604 ،والترمذي في سننه كتاب العلم ، باب مانهي عنه أن ييقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم 5/37 رقم 2664 وقال :حسن غريب من هذا الوجه ، وابن ماجة في سننه المقدمة ،باب تعظيم حديث رسول الله والتغليظ علي من عارضه 1/20 رقم 12 ، وابن حبان في صحيحه ( الإحسان بترتيب صحيح بن حبان )باب الإعتصام بالسنة 1/107 رقم 12 ، والحاكم في المستدرك 1/191 رقم371 وسكت عنه الحاكم والذهبي ، وصححه الشيخ أحمد شاكر في هامش الرسالة للشافعي ص 90 ،91 .
(1/24)
قوله تعالى : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً } (1) فالآية والحديث يفيدان أن الله تعالى ، أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، الكتاب والحكمة ، مثل القرآن، وهى معه، آتاهما الله له صلى الله عليه وسلم.
بل إن إحدى روايات هذا الحديث تتواءم مع الآية أكثر من هذه الرواية، ونصها : "أتانى الله
عز وجل القرآن، ومن الحكمة مثليه"(2).
وقال تعالى : { واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة } (3) فعطف الحكمة على آيات الله، لتندرج تحت ما أضيف إليها وهو "التلاوة".
وهذا يضفى على الحكمة – وهى السنة – أنها فى حجيتها، ووجوب تبليغها، كالقرآن سواء
بسواء(4).
وقال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } (5) قال الإمام الشافعى(6) : "فذكر الله الكتاب وهو القرآن ، وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول :
__________
(1) الآية 113 النساء.
(2) هذه رواية مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجها أبو داود فى مراسيله ص166 رقم 565 .
(3) الآية 34 الأحزاب.
(4) السنة بياناً للقرآن للدكتور إبراهيم الخولى ص44 .
(5) الآية 164 آل عمران.
(6) هو : أبو عبد الله، محمد بن أدريس بن العباس بن شافع القرشى المطلبى، الإمام الجليل صاحب المذهب المعروف، من أشهر مصنفاته : الأم، والرسالة، وأحكام القرآن، مات سنة 204هـ له ترجمة فى : طبقات الشافعية لابن السبكى 2/71 رقم 14، وشذرات الذهب 2/9، ووفيات الأعيان 4/164 رقم 558، وطبقات الفقهاء للشافعيين لابن كثير 1/3 – 93 .
(1/25)
الحكمة(1) سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم ؛ لأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة ، وذكر الله منته على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله ، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله"(2).
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : "الكتاب والحكمة" الكتاب والسنة(3).
وعن قتادة قال: والحكمة أى السنة(4). ونفس القول قال به غيرهما(5).
وعلى هذا الفهم سلفنا الصالح من أئمة المسلمين(6).
ثالثاً : إذا تقرر أن تبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم هو الحكمة ، وأن هذه الحكمة هى السنة النبوية ، وأنها متماثلة للقرآن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يعنى أنها مثل القرآن فى وجوب قبولها ، والعمل بها ، سواء بسواء؛ لأنها مثل القرآن وحى من عنده تعالى ، وإليك تفصيل أدلة ذلك :
__________
(1) الحكمة : تطلق فى اللغة على عدة معان سبق ذكر بعضها ص258، ولقد اقتصرت على المعنى المراد فى الآيات التى استدل بها.
(2) الرسالة للشافعى ص78، 79 فقرات رقم 252 – 257، والفقيه والمتفقه للخطيب 1/258 رقم 256، وينظر : مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة للسيوطى ص150 .
(3) أخرجه ابن المبارك فى زيادات الزهد ص22 رقم 89 .
(4) تفسير الطبرى 1/557، والفقيه والمتفقه للخطيب 1/260 رقم 258، وابن المبارك فى زيادات الزهد ص22 رقم 90 .
(5) ينظر : المدخل إلى السنن للبيهقى، حيث نقل بأسانيده عن الحسن البصرى، وقتادة، ويحيى بن أبى كثير، أنهم قالوا : الحكمة : هى السنة النبوية.
(6) ينظر : كلام الإمام الطبرى فى تفسيره 4/163، 22/ 9، وابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق المرسلة 2/511، وللاستزادة ينظر : السنة بياناً للقرآن للدكتور إبراهيم الخولى ص32 – 46، والمدخل إلى السنة للدكتور عبد المهدى عبد القادر ص50، 51 .
(1/26)
أ- الأدلة من القرآن الكريم على أن السنة وحى من الله تعالى :
قال تعالى : { وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى } (1) فأعلمنا ربنا سبحانه وتعالى، أن رسوله صلى الله عليه وسلم، لا ينطق عن هوى وغرض، وإنما ينطق حسبما جاءه الوحى من الله تعالى.
فكلمة "ينطق" فى لسان العرب تشتمل كل ما يخرج من الشفتين من قول أو لفظ(2) أى ما يخرج نطقه صلى الله عليه وسلم عن رأيه، إنما هو بوحى من الله عز وجل(3).
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفى والاستثناء، والفعل إذا وقع فى سياق النفى دل على العموم ،وهذا واضح فى إثبات أن كلامه صلى الله عليه وسلم ، محصور فى كونه وحياً لا يتكلم إلا به، وليس بغيره.
وقال سبحانه : { ثم إن علينا بيانه } (4) إنه وعد قاطع بأن بيان القرآن ، سوف يتولاه الله تعالى، كما تولى { إن علينا جمعه وقرآنه } (5) على حد سواء، ولا معنى لهذا سوى أن يوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا البيان، بصورة ما من صور الوحى.
وقال عز وجل : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } (6).
وقال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } (7) إن هاتين الآيتين تفيدان – أن الله تبارك وتعالى – أنزل على رسوله شيئين : الكتاب : وهو القرآن، والحكمة : وهى سنته صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الآيتان 3، 4 النجم.
(2) ينظر : القاموس المحيط 3/277، ومختار الصحاح ص666، ولسان العرب 10/354 .
(3) جامع أحكام القرآن 17/ 84، 85 .
(4) الآية 19 القيامة.
(5) الآية 17 القيامة.
(6) الآية 113 النساء.
(7) الآية 231 البقرة.
(1/27)
السنة المطهرة إذن "وحى من الله تعالى" أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أنزل القرآن الكريم، سواء بسواء(1) بشهادة القرآن البينة، وهى أيضاً وحى بشهادة السنة نفسها، وإليك شواهد ذلك :
ب- الأدلة من السنة النبوية على أنها وحى من الله تعالى :
قوله صلى الله عليه وسلم : "ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه" وقد سبق قريباً بيان دلالته على أن السنة وحى من الله عز وجل 0
قوله صلى الله عليه وسلم : لما سئل فى عام جدب : سعر لنا يا رسول الله. قال : "لا يسألنى الله عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرنى بها، ولكن اسألوا الله من فضله"(2).
إن فى الحديث دلالته الصريحة فى أنه صلى الله عليه وسلم، لا يحدث أى سنة ، وإنما يبلغ عن الله تعالى ، ما
أمره به عز وجل. مما يدل على أن السنة المطهرة، إنما تأتيه بوحى الله سبحانه.
وقوله صلى الله عليه وسلم : "رأيت ما تعمل أمتى بعدى فاخترت لهم الشفاعة يوم القيامة"(3).
__________
(1) وإن غايرت وحى القرآن الكريم بأمور إن شئت أنظرها فى : الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 4/331 .
(2) أخرجه الطبرانى فى الكبير بإسناد رجاله ثقات، سوى بكر بن سهل الدمياطى فإنه ضعفه النسائى، ووثقه غيره، كذا فى مجمع الزوائد 4/100 من حديث عبيد بن نضيلة، وللحديث شاهد عن أبى هريرة وأنس رضى الله عنهما أخرجهما أبو داود فى سننه كتاب البيوع، باب فى التسعير 3/272 رقمى 3450، 3451، وأحمد فى المسند 3/85 عن أبى سعيد الخدرى، ورجال أحمد رجال الصحيح كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 4/99 .
(3) أخرجه أبو يعلى فى مسنده ضمن مسند أم سلمة 12/ 382 رقم 6949، وسكت عنه الهيثمى فى مجمع الزوائد 10/371. قلت : لكن أصل حديث الشفاعة فى الصحيحين وغيرهما أهـ.
(1/28)
وقوله صلى الله عليه وسلم : "قمت على باب الجنة، فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد(1) محبوسون، إلا أصحاب النار، فقد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء"(2).
إن هذين الحديثين ، وما فى معناهما ، مما يفيد أن الله تعالى أرى نبيه صلى الله عليه وسلم، كذا وكذا، يأتى تأكيداً لقوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } (3).
فتأمل قوله تعالى : { بما أراك الله } وكل الأحاديث الصحيحة التى جاء فيها أن الله أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأراه ما أراه ، تعلم أن السنة النبوية وحى من الله تعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حديث جبريل المشهور الذى سأل فيه النبى صلى الله عليه وسلم، عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، والساعة، ففى نهايته قال صلى الله عليه وسلم : يا عمر! أتدرى من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"(4).
__________
(1) أى أصحاب الغنى، والحظوظ الدنيوية، وإنما حبسوا للحساب. ينظر : النهاية 1/237 .
(2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء 9/62 رقم 2736، والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب النكاح، باب رقم 87 جـ9/209 رقم 5196، من حديث أسامة بن زيد رضى الله عنه.
(3) الآية 105 النساء.
(4) أخرجه مسلم (بشرح النووي ) كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان --- إلخ 1/171 رقم 1 ، والبخاري (بشرح فتح الباري ) كتاب الإيمان ،باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام رقم50 .
(1/29)
عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ، ألقوا نعالهم ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال : "ما حملكم على إلقائكم نعالكم ؟ قالوا : رأيناك ألقيت نعليك ، فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن جبريل عليه السلام أتانى فأخبرنى أن فيها قذراً" وقال : إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى فى نعليه قذراً أو أذى فليمسحه، وليصل فيهما"(1).
وهكذا يراقبه الوحى، فإذا أصاب نعله شئ من النجاسة نبهه.
وبالجملة : فالأحاديث التى قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتحققت وفق ما أخبر، هذه يعترف العقل أنها لابد من وحى الله إليه صلى الله عليه وسلم(2).
والأحاديث التى تحدث فيها عن أخبار السابقين، وهو الصادق المصدوق ناطقة بأنها من وحى الله إليه، فما الذى أعلمه أخبار الأمم السابقة، وأنبيائها، إلا الوحى من الله تعالى إليه؟(3).
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة ، باب الصلاة في النعل 1/175 رقم 650 ، والدارمي في سننه كتاب الصلاة ، باب الصلاة في النعلين 1/370 رقم 1378 ، وفيه عمرو بن عيسي أبونعامة- صدوق- كما قال الحافظ في التقريب 1/743 رقم 5105 وبقية رجاله ثقات فالإسناد حسن.
(2) ينظر : أمثلة على ذلك فى : دلائل النبوة لأبى نعيم 2/464 – 536، ودلائل النبوة للبيهقى 6/312،والخصائص الكبرى للسيوطى 2/168، ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم التى ظهرت فى زماننا للدكتور عبد المهدى عبد القادر.
(3) ينظر : أمثلة على ذلك فى : صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب بدء الخلق 6/330، وكتاب الأنبياء 6/416، وغير ذلك من المصادر السابقة.
(1/30)
والأحاديث التى تحدث فيها عن سنن الله الكونية ، وأسرار الخليقة ، كتحدثة عن تكوين الجنين فى بطن أمه ، وأنه كيف يشبه أخواله أو أعمامه ، وتحدثه عن الكثير من أسباب الصحة،
فيحذر من امتلاء البطن ، ويحث على النظافة ، هذه مما يسلم العقل أنها من وحى الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم(1).
ومن أقوى الأدلة على أن السنة من وحى الله الخالق سبحانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن السنة على كثرة أحاديثها ، وذيوعها وانتشارها ، لا يجد فيها العقلاء إلا الحق الذى يسعد البشرية فى كل ناحية من نواحى الحياة ، فى صحتها ، فى اجتماعيتها ، فى اقتصادها ، فى نسلها ، فى عقلها ، فى كل شئون حياتها.
إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أن قالها إلى الآن تنهل البشرية من خيرها وصوابها، يعترف بذلك المسلمون، والمنصفون من غير المسلمين وهذا دليل قوى على أنها وحى الله سبحانه وتعالى ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
جـ- السلف يؤمنون بأن السنة وحى :
...
وإنى قد ذكرت الأدلة من كتاب ربنا عز وجل ، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، على أن السنة وحى من الله إلى رسوله ، فإنى أزيد ذلك توضيحاً ورسوخاً بإيراد أقوال بعض السلف ، بما يفيد أن السنة النبوية وحى من الله عز وجل ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ينظر : الطب فى السنة للدكتور محمد السنهورى فصل "القواعد الطبية العامة المستنبطة، ص154 - 196، وفصل "الطب الوقائى فى السنة" ص197، وفصل : :"سبق السنة إلى مفاهيم طبية سبقت بها لعصر" ص197 - 250، وينظر : الإبداعات الطبية لرسول الإنسانية للأستاذ مختار سالم، والطب الوقائى فى الإسلام للعميد الصيدلى عمر محمود عبد الله، والطب النبوى فى العلم الحديث للدكتور محمود النسيمى.
(2) المدخل إلى السنة النبوية للدكتور عبد المهدى عبد القادر ص61 .
(1/31)
فعن حسان بن عطية(1) قال : كان جبريل ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم بالسنة ، كما ينزل عليه
بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن(2).
ونحو هذا القول روى عن الأوزعى(3).
2- وعن عبد الله بن المبارك(4) قال : كان جبريل إذا نزل بالقرآن على النبى صلى الله عليه وسلم يأخذه كالغشوة، فيلقيه على قلبه ، فيسرى عنه وقد حفظه فيقرؤه ، وأما السنن فكان يعلمه جبريل ويشافهه بها(5).
__________
(1) هو : حسان بن عطية المعاربى، أبو بكر الدمشقى، ثقة، فقيه، عابد، ومن أفاضل أهل زمانه، مات بعد العشرين ومائة بعد الهجرة. له ترجمة فى : تقريب التهذيب 1/199 رقم 1028، والثقات للعجلى ص112 رقم 269، وحلية الأولياء 6/70 رقم 330، وصفوة الصفوة 4/222 رقم 755
(2) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب السنة قاضية على كتاب الله 1/153 رقم 588، والخطيب فى الفقيه والمتفقه 1/266 رقمى 268، 269، وابن المبارك فى زيادات الزهد ص23 رقم 91، والمروزى فى السنة ص32 رقم 102، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/191، وأبو داود فى المراسيل ص167 رقم 567، ورجال الخطيب فى أحد أسانيده برقم 268 كلهم ثقات – فالإسناد صحيح.
(3) أخرجه الخطيب فى الفقيه 1/267 رقم 270، وفيه إسحاق بن إبراهيم قال فيه الدارقطنى ليس بالقوى تاريخ بغداد 6/381 فالإسناد ضعيف لكن يعضده ما سبق من الروايات.
(4) هو : عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلى التميمى مولاهم، أبو عبد الرحمن، أحد الأئمة الأعلام، وكان ثقة، عالماً، متثبتاً صحيح الحديث. مات سنة 181هـ له ترجمة فى : تذكرة الحفاظ 1/274 رقم 260، والثقات لابن حبان 7/7، والديباج المذهب لابن فرحون ص212 رقم 261، 232 .
(5) أخرجه المروزى فى السنة ص34 رقم 112 .
(1/32)
3- وعن عمر بن عبد العزيز(1) قال فى إحدى خطبه : "يا أيها الناس، إن الله لم يبعث بعد نبيكم نبياً، ولم ينزل بعد هذا الكتاب الذى أنزله عليه كتاباً، فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، فهو حلال إلى يوم القيامة ، وما حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو حرام إلى يوم القيامة…"(2).
وقال أيضاً : "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها اتباع لكتاب الله عز وجل، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد من الخلق تغييرها ، ولا تبديلها ، ولاالنظر فى شئ خالفها ، من اهتدى بها فهو المهتد ، ومن انتصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولاه ، وأصلاه جهنم ، وساءت مصيراً"(3).
فتأمل ما قاله خامس الخلفاء الراشدين على ملأ من الحاضرين لخطبته : "فما أحل الله
على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم… الخ.
وقوله : "الأخذ بما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم… إتباع لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله…الخ.
__________
(1) هو : عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبى العاص الأموى، أمير المؤمنين، أمه : أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولى إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولى الخلافة بعده، فعد من الخلفاء الراشدين، مدة خلافته سنتان ونصف، مات سنة 101هـ له ترجمة فى : طبقات الحفاظ للسيوطى ص53 رقم 101، وتقريب التهذيب 1/722 رقم 4956، ومشاهير علماء الأمصار ص209 رقم 1411 .
(2) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب ما يتقى من تفسير حديث النبى صلى الله عليه وسلم وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم 1/126 رقم 433 .
(3) الشريعة للآجرى ص48، 65، وجامع بيان العلم لابن عبد البر 2/186، 187 .
(1/33)
تأمل ذلك تعلم عن يقين إيمان السلف جميعاً ، بأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحى من عند الله عز وجل ، واجبة الإتباع إلى يوم الدين.
وهكذا توضح الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وأقوال السلف ، أن السنة النبوية وحى من الله تعالى، إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهى صالحة لكل زمان ومكان ، وواجبة الإتباع ، كالقرآن سواء بسواء.
وعلى ذلك إجماع الأمة(1) منذ عهد نبيها صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، دون اعتبار لقول من شذ ، من المرجفين في دين الله عز وجل ، العاملين على هدم كيان السنة المطهرة ، والسيرة العطرة.
رابعاَ : إذا تقرر لك أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة ، هي وحى من ربه عز وجل ، واجب قبولها وإتباعها ، فقد حان الوقت لبيان حقيقة وهدف تمسح أعداء السنة ، بإيمانهم ببيان نبوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته.
...
إن من يتسترون بعباءة القرآن ، ويستدلون بظاهره ، على أن مهمة الرسول الوحيدة هي تبليغ القرآن فقط ، وجدوا أنفسهم فى مأزق من القرآن الكريم ، حيث يصرح بتبيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى
رسالته زائد على مجرد البلاغ ، فاعترف بعضهم بهذا التبيان ، إلا أنهم لا يعترفون بأن هذا التبيان، المراد به الحكمة ، والتى فسرت بأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها بوحى من الله تعالى على ما سبق قريباً ومن هنا كان إيمانهم بهذا التبيان النبوى إيماناً كاذباً من وجهين :
__________
(1) ينظر : إرشاد الفحول للشوكانى 1/158، وتيسير التحرير لمحمد أمين 3/22، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/225، ، وفواتح الرحموت لعبد العلى الأنصارى 1/16، 17 .
(1/34)
الوجه الأول : أنهم يشترطون لهذا البيان النبوى أن يوافق القرآن الكريم بمفهومهم هم ، القائم على إنكار السنة المطهرة؛ بدليل أنهم ينكرون جميع أنواع بيان السنة للقرآن؛ من تأكيد السنة لما جاء فى القرآن الكريم، وتفصيل لمجمله، وتقييد لمطلقه ، وتخصيص لعامه ، وتوضيح لمشكله ، سواء كان هذا البيان فى العبادات من طهارة ، وصلاة ، وزكاة ، وحج ، أو فى المعاملات من بيع وشراء ، ورهن، وسلم… الخ أو فى الحدود من قطع ، ورجم،… الخ ، أو فى الأحوال الشخصية من نكاح ، وطلاق ، ورضاع ، وميراث. وغير ذلك(1).
وبالجملة : ينكرون جميع أنواع بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما اشتمل عليه القرآن الكريم،
من عقائد وأحكام فى الدين والدنيا(2).
والوجه الثانى : أنهم حتى مع تظاهرهم بالإيمان بالبيان النبوى ؛ فقيمة هذا الإيمان كعدمه.
وتأمل كلام إسماعيل منصور بعد قوله السابق : "أن لرسول الله ، بيان نبوى للقرآن، نرفعه على العين والرأس ، متى ثبت تحقيقاً ، لا يخالف بأى حال، أحكام ومدلولات القرآن الكريم…الخ(3).
قال فى وصف قيمة هذه السنة البيانية : "إنها للاستئناس لا للاستدلال ، وللبيان لا للإثبات ، الأمر الذى يجعل الآخذين بها والرافضين لها ، أمام الشرع على حد سواء. فلا إلزام لأى طرف منهما على قبول رأى الآخر، فالأخذ بها فعله مقبول، والرافض لها فعله مقبول كذلك"(4).
... قلت : فإذا كان هذا البيان لكتاب الله ، الآخذ به والرافض له سواء! فأى قيمة لهذا البيان، حتى لو اعترفوا بأن هذا البيان هو السنة ؟! .
__________
(1) ينظر : تفصيل كل ما سبق بأمثلته فى : منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص125 – 466، والمدخل إلى السنة النبوية للدكتور عبد المهدى عبد القادر ص135 – 148، ومنزلة السنة فى التشريع الإسلامى للدكتور محمد الجامى ص22 – 30 .
(2) يراجع : مصادرهم السابقة ص 9 .
(3) يراجع : ص 24 . 0
(4) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص663 .
(1/35)
وتأمل أيضاً ما قاله عبد العزيز الخولى : "وأما ما ورد فى السنة من أحكام ، فإن كان مخالفاً لظاهر القرآن ، فالقرآن مقدم عليه ، ويعتبر ذلك طعناً فى الحديث من جهة متنه ولفظه، وإن صح سنده ، فإن الحديث لا يكون حجة إلا إذا سلم سنده ومتنه من الطعن ، ولذلك أجاز بعض المسلمين(1) نكاح المرأة على عمتها أو خالتها… إلى أن قال: "وإن كل ما فى السنة لا يخالف ظاهر القرآن، فهو اجتهاد من الرسول ، يرجع إلى أصل قرآنى عرفه الرسول ، وجهلناه نحن أو عرفناه"(2).
فتأمل قوله فى البيان النبوى : "وجهلناه نحن أو عرفناه" إذ العبرة عنده فى أول الأمر وآخره، هى : ظاهر القرآن، سواء عرف السنة البيانية أم جهلها ، فهى فى حالة معرفته بها، لم تضف جديداً ، وفى هذه الحالة العبرة بالقرآن، وفى حالة استقلالها بتشريع أحكام جديدة ، تكون السنة مخالفة لظاهر القرآن؛ فلا حجة فيها. هكذا حال لسانه!
ولا أدرى من أين فهموا قيمة هذا البيان النبوى للقرآن الكريم ؟
حيث أن آيات القرآن الكريم السابق ذكرها ، والتى تسند مهمة البيان، تصرح بأن هذا البيان وحى من الله عز وجل : { ثم إن علينا بيانه } (3) { إن أنزلنا إليك الكتاب بالحق
لتحكم بين الناس بما أراك الله } (4) وغير ذلك من الآيات(5).
...
فهل فى الإسلام، وحى واجب الإتباع؛ ووحى الآخذ به ، فعله مقبول والرافض له ، فعله مقبول أيضاً؟!! .
...
__________
(1) صرح فى هامش كتابه مفتاح السنة ص7، بأنهم الخوارج، والشيعة، والروافض فهل هؤلاء مسلمون؟!! ينظر : نيل الأوطار للشوكانى 6/148 حيث نقل عن الإمام القرطبى إجماع المسلمين على التحريم، واستثنى الخوارج. قال : ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين أهـ.
(2) مفتاح السنة ص6 - 11 .
(3) الآية 19 القيامة.
(4) الآية 105 النساء.
(5) يراجع : ص 27 .
(1/36)
وإذا كان هذا البيان النبوى يحل مشاكل الإختلاف التى يمكن أن تحدث بين العباد ، فى فهم وتطبيق ، المراد من مجمل القرآن ، وعامة ، ومطلقة ، ومشكلة… الخ كما صرح بذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى : { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } (1).
...
فهل يعقل أو يقبل بعد ذلك أن يكون هذا البيان النبوى غير ملزم ؛ ولا واجب الإتباع ؟!
وما فائدة تنويه القرآن إلى هذا البيان النبوى حينئذ ؟! وما قيمة المبين (القرآن) مع عدم حجية البيان (السنة) ؟ ! .
إن البيان النبوى (السنة المطهرة) متى صح تكون منزلته ، ومنزلة القرآن ، سواء بسواء فى حجيته ، ووجوب العمل به ؛ وعلى هذا انعقد إجماع من يعتد به من علماء الأمة قديماً وحديثاً(2).
خامساً : زعم بعضهم أن ما استقلت به السنة المطهرة من أحكام ، مرفوض بحجة مخالفته للقرآن الكريم ، وفيه تشويه لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجعله مشرعاً(3) ويضربون أمثلة بحد المحصن "الرجم" وحد الردة "القتل".
...
وهذه المزاعم يجاب عنها بما يلي :
يتفق العلماء أجمع على وجود أحكام ، لم ترد فى القرآن ، لا نصاً ولا صراحة ، ولكنهم يختلفون خلافاً لفظيا ً، حول تسمية تلك الأحكام الواردة فى السنة.
فالجمهور من العلماء يقولون: إن هذا هو الاستقلال فى التشريع بعينه ؛ لأنه إثبات لأحكام لم
ترد فى القرآن ، وأن هذه الأحكام واجبة الإتباع ، عملاً بعشرات الآيات التى تأمر بطاعة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعه ، وتحذر من مخالفته.
__________
(1) الآية 640 النحل مع آية 39 من نفس السورة { ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } .
(2) ينظر : منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص469، 470، وحجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص444، 445 .
(3) يراجع : كلام صالح الوردانى ص 24 .
(1/37)
وهذه الآيات جميعها(1) تستلزم أن تكون هناك أمور من الدين تأتى بها السنة ، وهى حجة ،
وإلا فلا معنى للأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم.
أما الإمام الشاطبى(2) ومن نحا نحوه : فإنهم مع إقرارهم بوجود أحكام لم ترد فى القرآن إلا أنهم يقولون : إنها ليست زيادة على شئ ليس فى القرآن، وإنما هى زيادة الشرح ، المستنبط من المشروح بإلهام إلهي ، ووحي رباني ، وتأييد سماوي.
وبعبارة أخري : هي داخلة تحت أي نوع من أنواع السنة البيانية ، أوداخلة تحت قاعدة
من قواعد القرآن الكريم.
وأنت ترى هنا أن الخلاف بين العلماء فى الأحكام الجديدة الواردة فى السنة المطهرة، الخلاف بينهم لفظى ، فالكل يعترف بوجود أحكام فى السنة المطهرة ، لم تثبت فى القرآن الكريم، ولكن بعضهم لا يسمى ذلك استقلالاً ، والبعض الآخر يسميه. والنتيجة واحدة ؛ وهى حجية تلك الأحكام الزائدة ، ووجوب العمل بها.
ليس فى الأحكام الزائدة على كتاب الله عز وجل ، ما يشوه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بجعله مشرعاً ؛ كما يزعم أعداء السنة المطهرة !
لأن الله تعالى قد جعل من جملة صفات رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن مهامه الكبار، أنه يحلل ويحرم،
وهكذا جاء وصفه صلى الله عليه وسلم فى الكتب السماوية السابقة ، وهو عليه الصلاة والسلام ، لا يشرع
__________
(1) سيأتى تفصيل تلك الآيات فى المبحث التالى ص 51 .
(2) هو إبراهيم بن موسى الغرناطى، الشهير بالشاطبى، أبو إسحاق، مفسر، أصولى، لغوى، محدث، ورع زاهد، من مؤلفاته النفيسة : الموافقات فى أصول الفقه، والاعتصام فى الحوادث والبدع، مات سنة= =790هـ له ترجمة فى : شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف 231 رقم 828، والمجددون فى الإسلام لعبد المتعال الصعيدى ص305، والفتح المبين لعبد الله المراغى 2/204، وأصول الفقه وتاريخه للدكتور شعبان إسماعيل ص384 .
(1/38)
من عند نفسه، إنما يشرع حسب ما يريه الله تعالى ويوحيه إليه، لأنه لا ينطق عن الهوى.
وتأمل قوله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون } (1).
... فقوله تعالى : "يحل، يحرم، يضع" هذه من خصائص المشرع الحقيقى ، ولكنه صلى الله عليه وسلم، لا يفعل من عند نفسه كما قلت ، إنما يوحى الله تعالى إليه. فأطايب اللحم ، كان محرماً على بنى إسرائيل : { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } (2) فقد أباحه النبى صلى الله عليه وسلم ، كلحم الإبل ، وشحم البقر، والغنم، على التفصيل المذكور فى قوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } (3).
... وقوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } كالميتة، والخنزير، والخمر، والربا… الخ وقوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } أى ثقلهم { والأغلال } أى القيود التى كانت عليهم، كوجوب قتل النفس فى التوبة ، بينما فى ديننا هو الاستغفار والندم ، وغسل النجاسة بالماء ، بينما كانت تقرض بالمقراض، فهذا كله تخفيف من الله تعالى ورحمة، أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلينا السمع والطاعة والامتثال.
... وبالجملة : إذا قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، له حق التشريع ، فمرد هذا التشريع عند من يقول بذلك إلى الله عز وجل .
__________
(1) الآية 157 الأعراف.
(2) جز من الآية 93 آل عمران.
(3) الآية 146 الأنعام.
(1/39)
لأن ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبيانه لكتاب الله ، لا يخلو عن أن يكون هذا البيان النبوى - حتى ولو كان بأحكام زائدة - أوحى الله تعالى بمعناه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه رسول الله، بألفاظ من عنده ، وهذا هو الأعم الأغلب فى السنة النبوية ، فيجب قبوله ، لما تقرر من عصمته صلى الله عليه وسلم فى بلاغه لوحى الله تعالى - قرآناً وسنة - .
وإما أن يقول رسول الله تبياناً أو حكماً باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى ، فإن وافق قوله أو فعله أو حكمه مراد الله عز وجل ، فالأمر كما أخبر به عليه الصلاة والسلام. وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح ؛ أوحى الله تعالى إلى نبيه بالتصحيح. وهذا هو الأقل النادر فى السنة النبوية.
... وبهذا التصحيح تصبح السنة فى هذه الحالة ؛ حكم الله فى النهاية ، حجة على العباد إلى يوم الدين ، وتجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فى هذه السنة ، بيانية كانت ، أو زائدة على كتاب الله عز وجل. يدل على ذلك عشرات الآيات القرآنية التى تحض على طاعته صلى الله عليه وسلم وتحذر من مخالفته.
... وإذا كان أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة ، ينكرون ذلك. ويزعمون أن طاعته صلى الله عليه وسلم تنحصر في القرآن فقط.
فإلى بيان شبهتهم في المبحث التالي والرد عليها
(1/40)
المبحث الثالث : في بيان وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في القرآن والسنة معاً
...
في الوقت الذي يتمسح فيه من يسمون أنفسهم (القرآنيون) بظاهر القرآن ويستدلون به على أن مهمة الرسول الوحيدة في رسالته هي تبليغ القرآن فقط ؛ إذ بهم يجدون أنفسهم في مأزق من كتاب الله عز وجل الذي يصرح بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بياناً للقرآن الكريم ، وهو بيان حجة، وواجب الإتباع ، بنص عشرات الآيات القرآنية، التي تحض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، طاعة مطلقة؛ في كل ما يأمر به ، وينهى عنه ، وتحذر من مخالفته.
... ولأن هذه الآيات تفضح إفكهم وتبطل شبهاتهم من جذورها، فقد تعسفوا في تأويل تلك الآيات، بما يتفق وإنكارهم لأن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، سنة مطهرة ، واجبة الإتباع .
فزعموا : أن كلمة (الرسول) في القرآن تعنى القرآن، وأن طاعة الرسول الواردة في القرآن إنما تعنى : طاعة القرآن فقط ، أو بعبارة أخرى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغه من القرآن فقط.
... يقول أحمد صبحى منصور : "كلمة الرسول فى بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد كقوله تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } (1).
... يقول أحمد صبحى : فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد. فالهجرة فى سبيل الله ، وفى سبيل رسوله أى القرآن ، قائمة ومستمرة بعد وفاة النبى محمد وبقاء القرآن أو الرسالة.
وأحياناً - ولازال الكلام له - تعنى كلمة "الرسول" القرآن فقط ، وبالتحديد دون معنى آخر
كقوله تعالى : { لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً } (2) فكلمة "ورسوله" هنا : تدل على كلام الله فقط ، ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد.
__________
(1) الآية 100 النساء.
(2) الآية 9 الفتح.
(1/41)
والدليل أن الضمير فى كلمة "ورسوله" جاء مفرداً ، فقال تعالى : { وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً } .
والضمير المفرد يعنى : أن الله ورسوله أو كلامه، ليسا اثنين، وإنما واحد، فلم يقل : "وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا".
ويقول تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه } (1) ولو كان الرسول فى الآية يعنى : شخص النبى محمد لقال تعالى : "أحق أن يرضوهما" ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله ، لذا جاء التعبير بالمفرد ، الذى يدل على الله تعالى وكلامه.
ويقول فى موضع آخر : "أما أقوال الرسول، فهى القرآن دين الله ، وقد أبلغه الرسول دون زيادة ولا نقصان ، وفيه الكفاية ، وفيه التفصيل ، وفيه البيان ، إن طاعة الرسول هى طاعة القرآن الذي أنزله الله على الرسول ، ولا يزال الرسول أو القرآن بيننا"(2).
وقال قاسم أحمد(3) : "يبدو جلياً أن طاعة الرسول تعنى طاعة الله، لأن الرسول ليس سلطة مستقلة، فهو كرسول له حق التبليغ، تبليغ الرسالة، وطاعته من طاعة الله، وكما ذكر فى القرآن فى مرات عديدة { ما على الرسول إلا البلاغ } (4) يعنى : ملاحظة أن القرآن استخدم كلمة الرسول ، ولم يقل "محمد" إذن فالطاعة للرسول أى الرسالة التى أرسل بها من قبل الله
__________
(1) الآية 62 التوبة.
(2) لماذا القرآن أو القرآن وكفي ص33 ، 34 .
(3) كاتب ماليزي معاصر، ورئيس الحزب الإشتراكي الماليزي – سابقاً – من مؤلفاته : إعادة تقييم الحديث ، أنكر فيه حجية السنة النبوية ، وحجية السيرة العطرة الواردة فى السنة المطهرة.
(4) الآية 99 المائدة.
(1/42)
فمثل هذه الآيات التى تتضمن أن طاعة الله مقترن بها طاعة الرسول، تفسرها آيات أخرى تتضمن أن الطاعة واجبة فقط لله"(1).
ويجاب عن ما سبق بما يلي :
أولاً : تعسف أعداء رسول الله، فى تأويل كلمة "الرسول" فى كتاب الله عز وجل بأنها القرآن الكريم، دون شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم، أمر برفضه القرآن الكريم.
وتأمل معى الآيات التالية:
1- قال تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } ( (2) ).
فهل يصح من عاقل أن يفسر كلمة الرسول فى الآية بأنها القرآن ؟! .
ويكون المعنى : وما محمد إلا قرآن قد خلت من قبله القرآن أو الرسل ؟! .
2- وقال عز وجل { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً } (3).
فهل يصح من أعداء الإسلام تأويل "ورسوله" بمعنى "وقرآنه" وبالتالى ينكرون ما هو ثابت بالتواتر من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ؟! .
تلك الهجرة التى كانت واجبة قبل فتح مكة ، حتى أن الله سبحانه وتعالى نهى عن اتخاذ من لم يهاجر ولياً حتى يهاجر، كما قال عز وجل : { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا } (4) فهل حديث القرآن عن الهجرة فى هذه الاية وغيرها، يعنى : الهجرة إلى القرآن ؟! .
...
__________
(1) إعادة تقييم الحديث ص80، وينظر : الإمام الشافعى وتأسيس الأيدلوجية الوسطية لنصر حامد أبو زيد ص83، 84، والدولة والمجتمع لمحمد شحرور ص155، والحقيقة من الحقائق المسكوت عنها لنيازى عز الدين ص348، وغيرهم ممن زعم أن مهمة الرسول فى رسالته قاصرة على بلاغ القرآن فقط. يراجع : ص 9 .
(2) 2 ) الآية 144 آل عمران.
(3) الآية 100 النساء.
(4) الآية 72 الأنفال.
(1/43)
كيف وقوله تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجراً } صريح فى أنها هجرة حقيقية ، من مكان إلى مكان ، وهو الثابت تاريخيا ً؛ من هجرة رسول الله من مكة إلى المدينة ، وهجرة الصحابة بعد ذلك إليه صلى الله عليه وسلم وهو ما يؤكد أن قوله "ورسوله" تعنى شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
3- وقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل } (1).
فهل يصح أو يعقل أن يكون المراد بالآية : آمنوا بالله وكتابه – والكتاب الذى نزل على قرآنه؟! .
4- وقال تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } (2).
... إن هاتين الآيتين تفيدان مع سابقتهما ، أن كلمة "الرسول" مراداً بها شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح بحال أن تفسر كلمة "الرسول ، بأنها القرآن، كما يزعم الأدعياء. فتكون الآية هكذا : "الذين يتبعون القرآن النبي الأمي" و"قل يا أيها الناس إني قرآن الله إليكم جميعاً" و"فآمنوا بالله وقرآنه النبي الأمي"(3).
__________
(1) الآية 136 النساء.
(2) الآيتان 157، 158 الأعراف مع الآية 81 آل عمران { ثم جاءكم رسول لما معكم } .
(3) وللإستزادة ينظر : ما ذكره الفيروز آبادى فى بصائر ذوى التمييز 2/72 فقد قال : الرسول فى القرآن ؛ ورد على اثنى عشر وجهاً وعدها، وليس منها القرآن أهـ.
(1/44)
إن الآيات السابقة كلها تصرح فى وضوح وجلاء لمن عنده عقل ، أن كلمة "الرسول" إنما تعنى شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم .
وفى الآيات أيضاً الدلالة الواضحة على وجوب إتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة فى كل ما يأمر به ، وينهى عنه ، حتى ولو كان خارجاً عن القرآن الكريم بدلالة (ويحل، ويحرم، ويضع) فى قوله : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم } .
وتصرح الآيات بأن فى هذا الإتباع والطاعة له صلى الله عليه وسلم الفلاح والهداية إلى طريق مستقيم : { واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون } { واتبعوه لعلكم تهتدون } .
كما تصرح الآيات بأن الإيمان بشخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته ، جزء لا يتجزأ من الإيمان بوجود الله تعالى ، وبإفراده بالعبودية والألوهية { فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى } وبدلالة هذا الإيمان كانت طاعته صلى الله عليه وسلم، طاعة لله عز وجل { من يطع الرسول فقد أطاع الله } (1).
وتأمل إفراد الضمير فى قوله : "واتبعوه" بعد أن فرق وغاير بواو العطف بين الإيمان به تعالى ، والإيمان به صلى الله عليه وسلم، ليدل على أن إتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم، اتباع وطاعة له عز وجل. لأن المشكاة واحدة – فى القرآن والسنة – وهى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى } (2).
وبالتالى : فإفراد الضمير فى قوله : "واتبعوه" لا يعنى كما يزعم أعداء عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه اتباع وطاعة للقرآن فقط . لأن زعمهم هذا بنوه على تفسير كلمة "الرسول" فى الآيات بمعنى القرآن ، وقد تبين لك فساد وبطلان هذا التفسير.
__________
(1) الآية 80 النساء.
(2) الآيتان 3، 4 النجم.
(1/45)
ثانياً : زعم أدعياء العلم والفتنة ؛ بأنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط ، أمر يرفضه ويبطله القرآن الكريم الذى بين فى مواضع عدة أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامر ونواهى، وأحكام ، خارج القرآن الكريم ، وهى واجبة الإتباع مثل القرآن الكريم سواء بسواء.
من ذلك ما يلي :
1- قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم } (1) فهذه الآية الكريمة تدلنا على أن التوجه إلى بيت المقدس ، كان مشروعاً من قبل ، وكان ذلك التوجه حقاً وصواباً واجباً عليهم قبل التحول إلى الكعبة.
فأين ذلك كله فى القرآن الكريم ؟
ألا يدلك ذلك على أن النبى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه كانوا عاملين بحكم وأمر، لم ينزل بوحى القرآن، وأن عملهم هذا كان حقاً وواجباً عليهم الطاعة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! .
ولا يصح أن يقال : إن عملهم هذا كان بمحض عقولهم واجتهادهم. إذ العقل لا يهتدى إلى وجوب التوجه إلى قبلة "ما" فى الصلاة ، فضلاً عن التوجه إلى قبلة معينة ، وفضلاً عن أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان أثناء صلاته إلى بيت المقدس راغباً كل الرغبة فى التوجه إلى الكعبة المشرفة : { قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام } (2)
إذن : كان التوجه إلى بيت المقدس بوحى غير القرآن وهو وحى السنة المطهرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مطاعاً فى ذلك الوحى. بل : { وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } (3) فتدبر.
__________
(1) الآية 142 البقرة.
(2) الآية 144 البقرة.
(3) جزء من الآية 143 البقرة. وينظر : حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص336 بتصرف.
(1/46)
2- وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } (1).
أفادت هذه الآية أن أمر النبى هو أمر الله، ولو كان خارج القرآن ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم، رأى أن يزوج زينب لزيد ، على ما رواه الطبرانى بسند صحيح عن بن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم، خطب زينب وهو يريدها لزيد ، فظنت أنه يريدها لنفس ه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت، واستنكفت ، وقالت : أنا خير منه حسباً. فأنزل الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } فرضيت وسلمت"(2).
... فتأمل : كيف أن المولى عز وجل ، جعل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمره تعالى وأتى بصيغة عامة تشمل جمع أوامره صلى الله عليه وسلم.
فالآية تصفع أولئك المبتدعة الذين يقصرون طاعة النبى صلى الله عليه وسلم على ما كان فى القرآن ، ومتعلقاً بالدين! وزواج زينب بزيد لم يأمر به القرآن، ولا علاقة له بالدين.
فإن تمسكوا بقول النبى صلى الله عليه وسلم فى مسألة تأبير النخل! "أنتم أعلم بأمور دنياكم"(3) فلا حجة لهم فيه؛
__________
(1) الآية 36 الأحزاب.
(2) رواه الطبراني بأسانيد ، ورجال بعضها رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/91 ، 92 .
(3) أخرحه مسلم (بشرح النووي ) كتاب الفضائل ، باب وجوب امتثال ماقاله النبي صلى الله عليه وسلم شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا علي سبيل الرأي 8/128 رقم 2363 .
(1/47)
لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر بترك التأبير، وإنما قال : "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فأبدى رأياً مجرداً وليس كلامنا فيه ، إنما كلامنا فيما أفادته الآية من وجوب اتباع أمره صلى الله عليه وسلم دينياً كان أو دنيوياً ، مع تذييلها بقوله تعالى : { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } (1).
وقال تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم } (2).
أفادت هذه الآية أن أمر النبى صلى الله عليه وسلم ، هو أمر الله عز وجل ، ولو كان خارج القرآن.
لأن النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، أخبر أصحابه بنصر الله لهم فى المعركة ، وأمر الرماة يومئذ بألا يتحركوا من مكانهم بأى حال من الأحوال سواء هزموا أو انتصروا، وذلك فى قوله صلى الله عليه وسلم : "لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا"(3)
وفى رواية : "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا"(4)
ولكن الرماة ما إن رأوا هزيمة أهل الشرك وجمع المسلمين الغنائم إلا تركوا مكانهم، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للغنيمة ، فكانت نتيجة مخالفة الأمر الهزيمة بعد النصر.
__________
(1) الآية 36 الأحزاب. وينظر : دلالة القرآن المبين لعبد الله الغمارى ص116، 117 .
(2) الآية 152 آل عمران.
(3) جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب غزوة أحد 7/405 رقم 4043 من حديث البراء بن عازب رضى الله عنه.
(4) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد فى مسنده 1/287، 288 من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.
(1/48)
وتأمل قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم } يتبين لك أن عدم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة ، ومخالفته فى أوامره ونواهيه ، عصيان ، عاقبته الفشل فى الدنيا ، والعذاب الأليم فى الآخرة.
وقال تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين } (1).
فالآية الكريمة تصرح بأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل بنى النضير وتحريقها، إنما هو
بإذن الله تعالى.
فأين هذا الإذن والأمر فى كتاب الله عز وجل؟! .
أليس فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وأن تلك السنة يجب طاعته صلى الله عليه وسلم فيها ، حيث وصفت بأنها بإذن الله تعالى ؟.
على ما روى فى سبب نزول هذه الآية عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : "حرق
رسول الله صلى الله عليه وسلم، نخل بنى النضير وقطع، وهى : البويرة(2) فنزلت : { ما قطعتم من
لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } (3)
فهل بقى للمتنطعين القاصرين طاعته صلى الله عليه وسلم على القرآن فقط من حجة ؟! .
__________
(1) الآية 5 الحشر.
(2) تصغير البئر الذى يستقى منها الماء، وهو موضع منازل بنى النضير اليهود.معجم البلدان1/512 .
(3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب حديث بنى النضير 7/383 رقم 4030 ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها 6/293 رقم 1746 .
(1/49)
وقال عز وجل : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } (1) فتأمل كاف الخطاب المراد بها شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يفسرها الأدعياء هنا بالقرآن؟ وتأمل كيف أن بيعة الرضوان ، وكل ما حدث فيها من أوامر ونواهى ، من رسول الله صلى الله عليه وسلم، خارج القرآن ، وطاعة الصحابة رضى الله عنهم لتلك الأوامر والنواهى! (2).
وكيف وصفت تلك البيعة البيعة بأنها مبايعة لله تعالى، وأن يده فوق أيدي أصحاب البيعة!
مما يفيد أن مبايعة رسول الله ، مبايعة لله ، وطاعته طاعته ، وأن كل ما يصدر عن النبى صلى الله عليه وسلم، خارج القرآن ، هو بإذن الله؛ بوحى غير متلو فى السنة المطهرة ، مما يجب الإمتثال له، حيث يرضاه الله تعالى.
وتأمل : { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } (3) فإنها تؤيد ما سبق ، حيث أن رضاه عز وجل عم الأشخاص الذين أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى البيعة ، كما عم رضاه سبحانه مكان مبايعتهم.
وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما آراك الله } (4)
فالآية صريحة فى توجيه الخطاب إلى شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم، "إليك" "لتحكم" "أراك"
فهل يزعم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الخطاب فى الآية للقرآن وليس لشخصه الكريم؟! .
ثم تأمل ما فى الآية من التصريح بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً بين الناس ، والحكم أمر
__________
(1) الآية 10 الفتح.
(2) ينظر : قصة البيعة فى : صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الشروط، باب الشروط فى الحرب، والمصالحة مع أهل الحرب … الخ 5/390 رقمى 2731، 2732، ومسلم (بشرح= =النووى) كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية 6/377 رقم 1785 من حديث سهل بن حنيف رضى الله عنه.
(3) الآية 18 الفتح. وينظر : دلالة القرآن المبين لعبد الله الغمارى ص132، 133 .
(4) الآية 105 النساء.
(1/50)
زائد على مجرد القانون الذى يحكم به !
وهذا الحكم النبوى وصف بأنه وحى إلهى { بما أراك الله } .
أليس فى الآية تصريح بأن لهذا النبى الكريم طاعة واجبة خارج القرآن، فيما يحكم به مما
جاء فى سنته ؟! .
وقال سبحانه : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد
وهو الحق من ربهم } (1) فهذه الآية الكريمة تصرح فى وضوح وجلاء ، بوجوب
الإيمان بكل ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه شيئان (الكتاب والحكمة) كما صرح رب العزة بقوله : { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } (2).
وقال تعالى : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } (3) وقد سبق قريباً تفسير الكتاب والحكمة ، وتفصيل الأدلة على أن الحكمة فى الآيتين وغيرهما بأنها السنة النبوية.
إذن بصريح الآية الثانية من سورة محمد فإن له صلى الله عليه وسلم طاعة خارج القرآن ، وذلك فيما أنزل عليه من السنة المطهرة.
وتأمل : ذكر اسمه (محمد) مجرداً وصريحاً ليكون أبلغ رد على المتنطعين المتأولين كلمة
"الرسول" بمعنى القرآن! .
وقال تعالى : { ثم إن علينا بيانه } (4) وقال : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } (5).
فهاتان الآيتان تصرحان بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تبياناً لكتاب الله عز وجل ، وهو تبيان إلهى بنص آية القيامة ، وهذا البيان إنما جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم فتجب طاعته فيه ، لأنه أمر زائد على مجرد بلاغ المبين وهو القرآن الكريم على ما سبق تفصيله فى المبحث السابق.
__________
(1) الآية 2 محمد.
(2) الآية 231 البقرة.
(3) الآية 113 النساء.
(4) الآية 19 القيامة.
(5) الآية 44 النحل.
(1/51)
وبعد : فإذا ثبت لك بصريح القرآن الكريم ، أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوامر ونواهى وأحكام، خارج كتاب الله عز وجل ، وأن هذه الأوامر والنواهى والأحكام هى بيانه للقرآن، وهو بيان
منزل من عند الله عز وجل دل ذلك على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، طاعة واجبة لهذا البيان مع طاعته لكتاب الله تعالى.
كما دل ذلك على أن عشرات الآيات القرآنية التى تتحدث عن طاعته صلى الله عليه وسلم إنما تعنى إطاعة شخصه الكريم فيما يبلغ من وحى الله تعالى قرآناً وسنة ؛ وليس كما يزعم أعداء عصمته صلى الله عليه وسلم، طاعته فى القرآن فقط.
وإليك نماذج من تلك الآيات.
ثالثاً : الأدلة من القرآن الكريم على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم :
... اشتدت عناية القرآن الكريم بتلك المسألة ، فوجه إليها آيات كثيرة ، تنوعت بين آيات تأمر فى وضوح بوجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم ، وبين آيات أخرى تأمر بوجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، طاعة مطلقة، فيما يأمر به وينهى عنه ، وبين آيات أخرى ، تنهى عن مخالفته صلى الله عليه وسلم، وتحذر من ذلك.
... واستعراض تلك الآيات أمر يطول ، ولذا سوف أكتفى ببعض هذه الآيات فقط ، مع بيان دلالتها على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل } (1).
وقال سبحانه : { فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } (2).
قال الإمام الشافعى : "فجعل كمال ابتداء الإيمان ، الذى ما سواه تبع له ، الإيمان بالله ثم برسوله ، فلو آمن عبد به تعالى ولم يؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم : لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً ،
__________
(1) الآية 136 النساء.
(2) الآية 158 الأعراف.
(1/52)
حتى يؤمن برسوله معه(1) ، وبمقتضى هذا الإيمان وجبت طاعته صلى الله عليه وسلم ، فى كل ما يبلغه عن ربه ، سواء ورد ذكره فى القرآن أم لا.
وتأمل كيف جاء الأمر بإتباعه { واتبعوه لعلكم تهتدون } عقب الأمر بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، تأكيداً على وجوب إتباع.
وإلا فإن الإتباع داخل في الإيمان، ولكن أفرد بالذكر هنا : تنبيهاً على أهميته وعظم منزلته؛ وإذا كانت المتابعة بالإتيان بمثل فعل الغير، ثبت أن الانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل ، طاعة له وانقياد لحكم الله تعالى(2).
ومن أهم الآيات دلالة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } (3).
يقول ابن قيم الجوزية : " أقسم سبحانه بنفسه ، وأكده بالنفى قبله على نفى الإيمان عن العباد،
حتى يحكموا رسوله فى كل ما شجر بينهم ، من الدقيق والجليل ، ولم يكتف فى إيمانهم بهذا
لتحكيم بمجرده ، حتى ينتفى عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ، ولم يكتف
منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا تسليماً ، وينقادوا انقياداً " (4).
ويقول أيضاً : "وفرض تحكيمه ، لم يسقط بموته ، بل ثابت بعد موته ، كما كان ثابتاً فى حياته، وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد"(5).
وقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً } (6).
__________
(1) الرسالة ص75 فقرة رقم 239، 240 .
(2) ينظر : شرح الزرقانى على المواهب اللدنية 8/506 .
(3) الآية 65 النساء.
(4) أعلام الموقعين 1/51 .
(5) مختصر الصواعق المرسلة 2/520 .
(6) الآية 59 النساء.
(1/53)
ودلالة الآية على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه :
الوجه الأول : النداء بوصف الإيمان في مستهل الآية : { يا أيها الذين آمنوا } ومعنى ذلك : أن المؤمنين لا يستحقون أن ينادوا بصفة الإيمان ، إلا إذا نفذوا ما بعد النداء ، وهو طاعة الله تعالى ، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأولى الأمر.
الوجه الثانى : تكرار الفعل "أطيعوا" مع الله تعالى ، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتكرار ذلك فى آيات كثيرة كقوله : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } (1) وقوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون } (2).
... يقول الإمام الشاطبى : "تكراره الفعل "وأطيعوا" يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما فى الكتاب ، ومما ليس فيه مما هو من سنته"(3).
وقال العلامة الألوسى : "وأعاد الفعل : و"أطيعوا" وإن كان طاعة الرسول مقرونة بطاعة الله تعالى ، اعتناءَ بشأنه صلى الله عليه وسلم ، وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن ، وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم، استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره ، ومن ثم لم يعد في قوله : { وأولى الأمر منكم } إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم(4).
بل طاعتنا لهم مرتبطة بطاعتهم هم لله ورسوله ، فإن هم أطاعوا الله ورسوله فلهم علينا حق السمع والطاعة ، وإلا فلا. لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(5).
...
__________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق