السبت، 30 يونيو 2018

2. من أفعال المنافقين قول المنافقين للمؤمنين: غرَّ هؤلاء دينهم

من درر القرآن العظيم قول المنافقين للمؤمنين: غرَّ هؤلاء دينهم


﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49].
لما كان هذا القرآن العظيم يخاطب الإنسان من حيث هو إنسان، ولما كان ما ذكره تعالى من مواقفَ وأشخاصٍ في كتابه إنما هي "نماذج" بشرية مُكرَّرة، ولهذا كان القرآن كنزًا لا تَنتهي عجائبه.
إذا بنا نجد مَن ذكَرهم تعالى في كتابه من أشخاص، نماذج نراها في كل وقت، سواء كان مشاعر وكلامًا وأفعالاً ومواقف الصادقين، أم مشاعر وكلامًا وأفعالاً ومواقف الكفار والمنافقين، ولما كان الأمر كذلك وجدنا هذا الموقف المتكرِّر؛ أنه لما رأى المنافقون وضعاف الإيمان وأصحاب الشك والريبة، لمَّا رأوا قوى الكفر ظاهرة ومسيطرة، وجيوشهم جرّارة، ومخططاتهم نافذة؛ رأوا أن المنطقي أن يميل الجميع إلى الاستكانة إليهم، والانكسار لهم، ورأوا أن وقوف أحد أمام هذا الباطل (القوي) هو محاولة يائسة وفاشلة، بل لا يقْدم عليها إلا مخدوع مغرَّرٌ به.
ولما رأوا الحق غريبًا؛ كلما تكلَّم به مؤمن صاح به أهل الباطل وهاجوا عليه واستنكره السادة والأشراف، وأصحاب الجرافتات والياقات، وأصحاب ألقاب دكتور وبروفيسور، بل وبعض ممن له لقب شيخ وعلّامة، وحَبر فهَّامة!
فلما رأوا المؤمنين تقدموا لتغيير المسار، وإيقاف الباطل، ومواجهة الفساد، وتقرير عبودية الله تعالى في الأرض، كان هذا المشهد...
﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ﴾ [الأنفال: 49]؛ وهم مَن أظهر الإيمان وأبطن الكفر، ولما كان الإيمان هو تصديق الخبر وقبول الحكم وتعظيمه، وكان الكفر هو تكذيب الخبر أو رد الأمر، كان النفاق هو إظهار التصديق والقبول مع إبطان التكذيب أو الشك، أو إبطان الرد كراهةً للدِّين أو استهزاءً به أو استخفافًا بشأنه.
﴿ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ [الأنفال: 49] يعني شك وريبة؛ يقول الطبري: "شك في الإسلام، لم يصح يقينهم، ولم تُشرح بالإيمان صدورهم".
﴿ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49]، وهذا قول المنافقين وأصحاب مرض القلوب، ويعنون بهذا المؤمنين؛ إذ عابُوا عليهم موقفهم وإقدامهم؛ حتى رأى المنافقون أنَّ المؤمنين قد خدعتهم ثقتُهم في دينهم أنهم سينتصرون به في مواجهةٍ مُتفاوِتة القوة تفاوتًا ملحوظًا.
فقوله (غَرَّ) يعني خدَعَ، والمعنى أنَّ هؤلاء قد خدعهم دينُهم؛ يقول الطبري: "معناه: غرَّ هؤلاء الذين يُقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم دينُهم، وذلك الإسلام"، فقد نسبوا سبب الغرور - يعني الخداع - للدِّين، فالدين في الآية في محل الفاعل، والسبب في هذا أنهم نظروا إلى الأسباب فقط، بينما علم المؤمنون أن الأمور لا تتمُّ إلا بتقديم السبب وإحكامه مع التوكل على الله تعالى، وبهذا فقد تَغلِب القِلة الكثرة، وينتصر المستضعفون.
فأعدَّ المؤمنون من الأسباب ما استطاعوا، وأحكموا العُروة، واستفرغوا الوسع، ومدُّوا لله تعالى أيديهم: اللهم هذه عنك وهذه عن نبيِّك؛ إعذارًا إلى الله واستفراغًا للوسع، وبذلاً للجهد، وفراغًا من العهدة، ولكن لم يتوقَّفوا على هذا، بل تطلعوا إلى ربهم؛ فنظرت قلوبهم إلى الله تتوكَّل عليه، فتثق فيه وتطمئن إليه، وتُحسن الظنَّ به، وتعتمد عليه، وتُفوِّض أمرها إليه، موقنة به وبقدرِه تعالى، فإذا بهم يَخوضون غمار الصِّعاب ولجج الأهوال، ويصبرون على الأذى، ويعلمون أن في رحم الأيام وبطون الساعات أقدارًا، وأن تصاريف الأقدار يَجري مبدؤها من رب العرش العظيم، وأن إليه منتهى الأمور ومرجع الأحداث ومآلات الأقدار ومسارات السنين.
علموا أن إليه مرجع كل شكوى، وإليه تصل كل نجوى، وأنه يسمع بكاء الداعي، وأنين المتألِّم، ورغبة المتعجِّل، وإلحاح مَن يستحثُّ خُطى الأقدار.
وعلموا أنه يحبُّ يقين الثابت، ورسوخ الصادق، وأنه يضحك للمُقْدِم وقت إحجام المنهزمين.
وأنه تعالى يرسل قدره ليعمل عبر النفوس والساعات والأيام والقرون، ليصلح أممًا، ويُنجي خلقًا ويُقيم حجَّته، ويُحِق عذره، ليظهر الحق ويجلو، ويعلمَ الناس مرارة الباطل وبشاعة مذاقه وبؤس ثمرته.
وعلموا أنه يَصطفي هذا شهيدًا، وآخر صِدِّيقًا، وهذا تقيًّا، وآخر برًّا، هذا عالمًا وذاك مجاهدًا، يعدُّ لهم المنازل، ويُمهِّد لهم الفرش، تتفيأ لهم الظلال، وتتفنَّن لهم الأغصان، وتنتظرهم زوجاتهم ورفقاؤهم في الجنة، يعدُّ لهم تعالى منازل القُرب، ويُهيِّئهم لمُحاضرته والنظر إليه بعد قليل من العمر وسويعات قبيل الرحيل.
الآخرة جزء من حسبة المؤمنين، فلقد حَسِبوا (الحِسبة)، وأدخلوا الجنة والنار في المُعادلة، فاختلفت اختياراتُهم، وأصابت كبد الحقيقة وعين الصحَّة.
فلمَّا رأى المنافقون ومَن في قلوبهم مرضٌ حِسْبة المؤمنين وثباتهم، واقتحامهم معقل الباطل، واستبشارهم بالنصر، وثقتهم في قيمة ما يحملون من دين ورسالة، وتقديمهم للمال والنفس والغالي والرخيص في هذا السبيل، عندئذ قالوا: ﴿ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49]خدَعهم وظنوا أنهم ينتصرون به، يروي الطبري عن قتادة قال: (رأوا عصابة من المؤمنين تشرَّدت لأمر الله).
وعندئذ جاءهم رد رب العالمين يردُّ عليهم ويُقرِّر الحق؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49]؛ يعني: ومَن يَثِق في الله، ويفوِّض إليه أمره، ويعتمد عليه، ويحسن به الظن، ويقدِّم ما استطاع من سبب مفوضًا إلى الله الأمر؛ فإن الله تعالى عزيز يَغلِب ولا يُغلَب، لا يُنال جنابه، ولا يُهضم مَن لاذ به، ولا يذلُّ من تعزَّز به، وهو حكيم يضع النصر موضعه، ويقدِّر الخير لخَلقِه، ويَنصُر أولياءه.
يقول الطبري: "معناه: ومَن يُسلم أمره إلى الله، ويثق به، ويَرض بقضائه، فإن الله حافظه وناصره؛ لأنه "عزيز"، لا يَغلبه شيء، ولا يقهره أحد، فجاره منيع، ومن يتوكل عليه مكفي، وهذا أمر من الله جلَّ ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم؛ أن يفوضوا أمرهم إليه، ويُسلموا لقضائه، كيما يكفيهم أعداءهم، ولا يستذلهم من ناوأهم؛ لأنه "عزيز" غير مغلوب فجاره غير مَقهور، "حكيم"، يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه حكيم، لا يدخل تدبيره خلل".
إن هذه هي الحقيقة، وهذا الشعور صنع الأعاجيب، وأنقذ المُستضعفين وغيَّر مَجرى الأحداث، ولا زالت البشرية تنتظر مثل هؤلاء المنقذين المتوكلين.
فالحمد لله أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، ولو قال من قال: ﴿ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49] فليس لنا جواب إلا ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49] صدق الله الهادي والعاصم، والحافظ والناصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق