الثلاثاء، 7 أغسطس 2018

3.[ الفوائد - ابن قيم الجوزية ] الكتاب : الفوائد المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله

الوجه الثامن:ان المدعو الي الايمان إذا قال لا أصدق ولا أكذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غيره كان كافرا بمجرد الترك والاعراض بخلاف ما اذا قال أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به وأفعل ما أمرني ولكن شهوتي وارادتي وطبعى حاكمة على لا تدعني أترك ما نهاني عنه وانا أعلم أنه قد نهاني وكره لى فعل المنهى ولكن لا صبر لى عنه فهذا لا يعد كافرا بذلك ولا حكمه حكم الأول فان هذا مطيع من وجه وتارك المأمور جملة لا يعد مطيعا بوجه يوضحه الوجه التاسع ان الطاعة والمعصية انما تتعلق بالأمر أصلا وبالنهى تبعا فالمطيع ممتثل المأمور والعاصي تارك المأمور قال تعالى لا يعصون الله ما أمرهم وقال موسى لأخيه ما منعك اذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمرى وقال عمرو بن العاص عند موته أنا الذى أمرتني فعصيت ولكن لا آله الا أنت وقال الشاعر أمرتك أمرا جازما فعصيتني
والمقصود من إرسال الرسل طاعة المرسل ولا تحصل الا بامتثال أوامره واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه ولهذا لو اجتنب المناهى ولم يفعل ما أمر به لم يكن مطيعا وكان عاصيا بخلاف ما لو أتي بالمأمورات وارتكب
المناهى فانه وان عد عاصيا مذنبا فانه مطيع بامتثال الأمر عاص بارتكاب النهى بخلاف تارك الامر فانه لا يعد مطيعا باجتناب المنهيات خاصة الوجه العاشر ان امتثال الامر عبودية وتقرب وخدمة وتلك العبادة التى خلق لاجلها الخلق كما قال تعالى وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون فاخبر سبحانه أنه انما خلقهم للعبادة وكذلك انما أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها ولم يخلقوا لمجرد الترك فانه أمر عدمى لا كمال فيه من حيث هو عدم بخلاف امتثال المأمور فانه أمر وجودي مطلوب الحصول وهذا يتبين بالوجه الحادي عشر وهو أن المطلوب بالنهى عدم الفعل وهو أمر عدمى والمطلوب بالأمر ايجاد فعل وهو أمر وجودى فمتعلق الامر الايجاد ومتعلق النهى الاعدام أو العدم وهو أمر لا كمال فيه الا اذا تضمن أمرا وجوديا فان العدم من حيث هو عدم لا كمال فيه ولا مصلحة الا اذا تضمن أمرا وجوديا مطلقا وذلك الامر الوجودى مطلوب مأمور به فعادت حقيقة النهى الي الامر وان المطلوب به ما فى ضمن النهى من الامر الوجودى المطلوب به وهذا يتضح بالوجه الثاني عشر وهو ان الناس اختلفوا فى المطلوب بالنهى علي أقوال احدها أن المطلوب به كف النفس عن الفعل وحبسها عنه وهو أمر وجودى قالوا لان التكليف انما يتعلق بالمقدور والعدم المحض غير مقدور وهذا قول الجمهور وقال أبو هاشم وغيره بل المطلوب عدم الفعل ولهذا يحصل المقصود من بقائه على العدم وان لم يخطر بباله الفعل فضلا ان يقصد الكف عنه ولو كان المطلوب الكف لكان عاصيا اذا لم يات به ولان الناس يمدحون بعدم فعل القبيح من لم يخطر بباله فعله والكف عنه وهذا أحد قولى القاضي ابي بكر ولاجله التزم أن عدم الفعل مقدور للعبد وداخل تحت الكسب قال والمقصود بالنهى الابقاء على العدم الأصلى وهو مقدور وقالت طائفة المطلوب بالنهى فعل الضد فانه هو المقدور وهو المقصود للناهى فانه انما نهاه عن الفاحشة طلبا
للعفة وهى المأمور بها ونهاه عن الظلم طلبا للعدل المأمور به وعن الكذب طلبا للصدق المامور به وهكذا جميع المنهيات فعند هؤلاء ان حقيقة النهى الطلب لضد لمنهى عنه فعاد الأمر الى ان الطلب انما تعلق بفعل المأمور
والتحقيق ان المطلوب نوعان مطلوب لنفسه وهو المأمور به ومطلوب اعدامه لمضادته المأمور به وهو المنهى عنه لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به فاذا لم يخطر ببال المكلف ولا دعته نفسه اليه بل استمر على العدم الأصلي لم يثب على تركه وان خطر بباله وكف نفسه عنه لله وتركه اختيار أثيب عل كف نفسه وامتناعه فانه فعل وجودى والثواب انما يقع علي الأمر الوجودي دون العدم المحض وان تركه مع عزمه الجازم على فعله لكن تركه عجزا فهذا وان لم يعاقب عقوبة الفاعل لكن يعاقب على عزمه وارادته الجازمة التى انما تخلف مرادها عجزا وقد دلت على ذلك النصوص الكثيرة فلا يلتفت الي ما خالفها كقوله تعالى وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقوله فى كاتم الشهادة فانه آثم قلبه وقوله ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وقوله يوم تبلى السرائر وقوله إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فى النار قالوا هذا القاتل فما بال المقتول قال انه أراد قتل صاحبه وقوله فى الحديث الآخر ورجل قال لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما فى الوزر سواء وقول من قال ان المطلوب بالنهى فعل الضد ليس كذلك فان المقصود عدم الفعل والتلبس بالضدين فان مالا يتم الواجب الا به فهو غير مقصود بالقصد الأول وأن كان المقصود بالقصد الأول المامور الذي نهى عما يمنعه ويضعفه فالمنهى عنه مطلوب اعدامه طلب الوسائل والذرائع والمأمور به مطلوب ايجاده طلب المقاصد والغايات وقول أبي هاشم ان تارك القبائح يحمد وان لم يخطر بباله كف النفس فان أراد
بحمده انه لا يذم فصحيح وان أراد انه يثني عليه بذلك ويحب عليه ويستحق الثواب فغير صحيح فان الناس لا يحمدون المحبوب على ترك الزنا ولا الأخرس على عدم الغيبة والسب وانما يحمدون القادر الممتنع عن قدرة وداع الي الفعل وقول القاضي الابقاء علي العدم الأصلى مقدور فان أراد به كف النفس ومنعها فصحيح وان أراد مجرد العدم فليس كذلك وهذا يتبين بالوجه الثالث عشر وهو أن الأمر بالشيء نهى عن ضده من طريق اللزوم العقلي لا القصد الطلبى فان الأمر انما مقصود فعل المأمور فاذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودا لغيره وهذا هو الصواب فى مسالة الأمر بالشيء هل هو نهى عن ضده أم لا فهو نهى عنه من جهة اللزوم لا من جهة القصد والطلب وكذلك النهى عن الشيء مقصود الناهى بالقصد الأول الانتهاء عن المنهى عنه وكونه مشتغلا بضده جاء من جهة اللزوم العقلى لكن انما نهى عما يضاد ما أمر به كما تقدم فكان المأمور به هو المقصود بالقصد الاول فى الموضعين
وحرف المسألة ان طلب الشيء طلب له بالذات ولما هو من ضرورته باللزوم والنهي عن الشيء طلب لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك باللزوم والمطلوب فى الموضعين فعل وكف وكلاهما أمر وجودي الوجه الرابع عشر ان الأمر والنهى فى باب الطلب نظير النفي والاثبات فى باب الخبر والمدح والثناء لا يحصلان بالنفى المحض ان لم يتضمن ثبوتا فان النفى كاسمه عدم لا كمال فيه ولا مدح فاذا تضمن ثبوتا صح المدح به كنفى النسيان المستلزم لكمال العلم وبيانه ونفى اللغوب والاعياء والتعب المستلزم لكمال القوة والقدرة ونفى السنة والنوم المستلزم لكمال الحياة والقومية ونفى الولد والصاحبة المستلزم لكمال الغنى والملك والربوبية ونفى الشريك والولى والشفيع بدون الاذن المستلزم لكمال التوحيد والتفرد بالكمال والآلهية والملك ونفى الظلم المتضمن لكمال العدل ونفى ادراك الابصار له المتضمن لعظمته وأنه أجل من أن يدرك وان رأته
الأبصار والا فليس فى كونه لا يرى مدح بوجه من الوجوه فان العدم المحض كذلك
واذا عرف هذا فالمنهى عنه ان لم يتضمن أمرا وجوديا ثبوتيا لم يمدح بتركه ولم يستحق الثواب والثناء بمجرد الترك الايستحق المدح والثناء بمجرد الوصف العدمى الوجه الخامس عشر ان الله سبحانه جعل جزاء المامورات عشرة أمثال نعلها وجزاء المنهيات مثل واحد وهذا يدل على أن فعل ما أمر به احب اليه من ترك ما نهى عنه ولو كان الأمر بالعكس لكانت السيئة بعشرة والحسنة بواحدة او تساويا الوجه السادس عشر ان المنهى عنه المقصود اعدامه وأن لا يدخل في الوجود سواء نوى ذلك أو لم ينوه وسواء خطر بباله أو لم يخطر فالمقصود أن لا يكون وأما المأمور به فالمقصود كونه ايجاد والتقرب به نية وفعلا
وسر المسألة أن وجود ما طلب ايجاده أحب اليه من عدم ما طلب اعدامه وعدم ما أحبه أكره اليه من وجود ما يبغضه فمحبته لفعل ما أمر به أعظم من كراهته لفعل ما نهى عنه يوضحه الوجه السابع عشر ان فعل ما يحبه والاعانة عليه وجزاؤه وما يترتب عليه من المدح والثناء من رحمته وفعل مايكره وجزاؤهما يترتب عليه من الذم والألم والعقاب من غضبه ورحمته سابقة على غضبه غالبة له وكل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب فانه سبحانه لا يكون إلا رحيما ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وإحسانه فيستحيل أن يكون على خلاف ذلك وليس كذلك غضبه فانه ليس من لوازم ذاته ولا يكون غضبانا دائما غضبا لا يتصور انفكاكه بل يقول رسله وأعلم الخلق به يوم القيامة إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ورحمته وسعت كل شيء وغضبه لم يسع كل شيء وهو سبحانه كتب علي نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب ووسع كل شيء رحمة وعلما ولم يسع كل شيء غضبا وانتقاما فالرحمة وما كان بها ولوازمها وآثارها غالبة على الغضب
وما كان منه وآثاره فوجود ما كان بالرحمة أحب اليه من وجود ما كان من لوازم الغضب ولهذا كانت الرحمة احب اليه من العذاب والعفو أحب اليه من الانتقام فوجود محبوبه أحب اليه من فوات مكروهه ولا سيما اذا كان فى فوات مكروهه فوات ما يحبه من لوازمه فانه يكره فوات تلك اللوازم المحبوبة كما يكره وجود ذلك الملزوم المكروه الوجه الثامن عشر ان أثار ما يكرهه وهو المنهيات أسرع زوالا بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه فآثار كراهته سريعة الزوال وقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز وتزول لتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب الكفرة والشفاعة والحسنات يذهبن والسيئات ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة وهو سبحانه يغفر الذنوب وان تعاظمت ولا يبالى فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعى من العبد وتوبة نصوح وندم علي ما فعل وما ذاك الا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده فدل علي أن وجود ذلك أحب اليه وأرضي له يوضحه الوجه التاسع عشر وهو انه سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات فأنه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد والعقيم الوالد والظمآن الوارد وقد ضرب رسول الله لفرحه بتوبة العبد مثلا ليس فى المفروح به أبلغ منه وهذا الفرح إنما كان بفعل المأمور به وهو التوبة فقدر الذنب لما يترتب عليه من هذا الفرح العظيم الذى وجوده أحب اليه من فواته ووجوده بدون لازمه ممتنع فدل على أن وجود ما يحب أحب اليه من فوات ما يكره وليس المراد بذلك أن كل فرد من أفراد ما يحب أحب اليه من فوات كل فرد مما يكره حتى تكون ركعتا الضحى أحب اليه من فوات قتل المسلم وانما المراد أن جنس فعل المأمورات افضل من جنس ترك المحظورات كما اذا فضل الذكر علي الأنثى والانسى على الملك فالمراد الجنس لا عموم الأعيان
والمقصود أن هذا الفرح الذى لا فرح يشبهه فعل مأمور التوبة يدل على أن هذا المأمور أحب اليه من فوات المحظور الذى تفوت به التوبة وأثرها ومقتضاها فان قيل انما فرح بالتوبة لانها ترك للمنهى فكان الفرح بالترك قيل ليس كذلك فان الترك المحض لا يوجب هذا الفرح بل ولا الثواب ولا المدح وليست التوبة تركا وان كان الترك من لوازمها وانما هى فعل وجودى يتضمن اقبال التائب على ربه وإنابته اليه والتزام طاعته ومن لوازم ذلك ترك ما نهى عنه ولهذا قال تعالى وأن استغفروا ربكم ثم توبوا اليه فالتوبة رجوع مما يكره الى ما يحب وليست مجرد الترك فان من ترك الذنب تركا مجردا ولم يرجع منه الى ما يحبه الرب تعالى لم يكن تائبا فالتوبة رجوع واقبال وانابة لا ترك محض الوجه العشرون ان المأمور به اذا فات فاتت الحياة المطلوبة للعبد وهى التي قال تعالى فيها
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم وقال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله فى الظلمات وقال فى حق الكفار أموات غير أحياء وقال انك لا تسمع الموتى وأما المنهى عنه فغايته أن يوجد المرض وحياة مع السقم خير من موت فان قيل ومن المنهى عنه ما يوجب الهلاك وهو الشرك قيل الهلك انما حصل بعدم التوحيد المأمور به الحياة فلما فقد حصل الهلاك فما هلك إلا من عدم اتيانه بالمأمور به وهو وهذا وجه حاد وعشرون فى المسألة وهو أن فى المأمورات ما يجب فواته الهلاك والشقاء الدائم وليس فى المنهيات ما يقتضي ذلك الوجه الثاني والعشرون ان فعل المأمور يتضى ترك المنهى عنه اذا فعل علي وجهه من الاخلاص والمتابعة والنصح لله فيه قال تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ومجرد ترك المنهى لا يقتضي فعل المأمور ولا يستلزمه الوجه الثالث والعشرون ان ما يحبه من المأمورات فهو متعلق بصفاته وما يكرهه من المنهيات فمتعلق بمفعولاته وهذا وجه دقيق يحتاج الى بيان فنقول
المنهيات شرور وتفضي الي شرور والمأمورات خير وتفضي الي الخيرات والخير بيديه سبحانه والشر ليس اليه فان الشر لا يدخل فى صفاته ولا فى أفعاله ولا فى أسمائه وانما هو من المفعولات مع أنه شر بالاضافة والنسبة الي العبد والا من حيث إضافته ونسبته الي الخالق سبحانه فليس بشر من هذه الجهة فغاية ارتكاب النهى ان يوجب شرا بالاضافة الي العبد مع انه فى نفسه ليس بشر وأما فوات المأمور فيفوت به والخير الذى بفواته يحصل ضده من الشر وكلما كان المأمور أحب الى الله سبحانه كان الشر الحاصل بفواته أعظم كالتوحيد والايمان وسر هذه الوجوه أن المأمور محبوبه والمنهى مكروهه ووقوع محبوبه أحب اليه من فوات مكروهه وفوات محبوبه أكره اليه من وقوع مكروهه والله أعلم
فصل مبنى الدين على قاعدتين الذكر والشكر قال تعالى
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون وقال النبي لمعاذ والله اني لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وليس المراد بالذكر مجرد الذكر اللسان بل الذكر القلبى واللسانى وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكره بكلامه وذلك يستلزم معرفته والايمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح وذلك لا يتم الا بتوحيده فذكره الحقيقى يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه الي خلقه
وأما الشكر فهو القيام بطاعته والتقرب اليه بأنواع محابه ظاهرا وباطنا وهذان الأمران هما جماع الدين فذكره مستلزم لمعرفته وشكره متضمن لطاعته وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والانس والسموات والارض ووضع لاجلها الثواب والعقاب وأنزل الكتب وارسل الرسل وهى الحق الذي به خلقت
السماوات والأرض وما بينهما وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه وهو ظن أعدائه به قال تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وان الساعة لآتية وقال بعد ذكر آياته في أول سورة يونس ما خلق الله ذلك إلا بالحق وقال أيحسب الإنسان إن يترك سدى وقال أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون وقال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وقال جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم فثبت بما ذكر أن غاية الخلق والأمر أن يذكر وأن يشكر يذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره شاكر لمن شكره فذكره سبب لذكره وشكره سبب لزيادته من فضله فالذكر للقلب واللسان والشكر للقلب محبة وإنابة وللسان ثناد وحمد وللجوارح طاعة وخدمة
فصل تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية
والإضلال فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثر لأثره وكذلك الضلال فأعمال البر تثمر الهدى وكلما ازداد منها ازداد هدى وأعمال الفجور بالضد وذلك أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازى عليها بالهدى والفلاح ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء وأيضا فانه البر ويحب أهل البر فيقرب قلوبهم منه بحسب ما قاموا به من البر
ويبغض الفجور وأهله فيبعد قلوبهم منه بحسب ما اتصفوا به من الفجور فمن الأصل الأول قوله تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وهذا يتضمن أمرين أحدهما انه يهدي به من اتقى ما خطه قبل نزول الكتاب فان الناس على اختلاف مللهم ونحلهم قد استقر عندهم أن الله سبحانه يكره الظلم والفواحش والفساد في الأرض ويمقت فاعل ذلك ويحب العدل والإحسان والجود والصدق والإصلاح في الأرض ويحب فاعل ذلك فلما نزل الكتاب أثاب سبحانه أهل البر بأن وفقهم للإيمان به جزاء لهم على برهم وطاعتهم وخذل أهل الفجور والفحش والظلم بأن حال بينهم وبين الاهتداء به والأمر الثاني أن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره كان ذلك سببا لهداية أخرى تحصل له على التفصيل فان الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ ففوق هدايته هداية أخرى وفوق تلك الهداية هداية أخرى إلى غير غاية فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى وكلما فوت خطا من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه فكلما اتقى زاد هداه وكلما اهتدى زادت تقواه قال تعالى قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم وقال تعالى الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وقال سيذكر من يخشى وقال وما يتذكر إلا من ينيب وقال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم فهداهم أولا للإيمان فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية ونظير هذا قوله ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وقوله تعالى يا أيها الذين أمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ومن الفرقان ما يعطيهم من لنور الذي يفرقون به بين الحق والباطل والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وكسر الباطل فسر الفرقان بهذا وبهذا وقال تعالى إن في ذلك لآية لكل عبد منيب وقال
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور في سورة لقمان وسورة إبراهيم وسبأ والشورى فأخبر عن آياته المشهودة العيانية أنها إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر كما أخبر عن آياته الإيمانية القرآنية أنها إنما ينتفع بها أهل التقوى والخشية والإنابة ومن كان قصده اتباع رضوانه وأنها يتذكر بها من يخشاه سبحانه كما قال طه أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى وقال في لساعة إنما أنت منذر من يخشاها وأما من لا يؤمن بها ولا يرجوها ولا يخشاها فلا تنفعه الآيات العيانية ولا القرآنية ولهذا لما ذكر سبحانه في سورة هود عقوبات الأمم المكذبين للرسل وما حل بهم في الدنيا من الخزي قال بعد ذلك إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة فأخبر أن عقوباته للمكذبين عبرة لمن خاف عذاب الآخرة وأما من لا يؤمن بها ولا يخاف عذابها فلا يكون ذلك عبرة وآية في حقه اذا سمع ذلك قال لم يزل في الدهر الخير والشر والنعيم والبؤس والسعادة والشقاوة وربما أحال ذلك على أسباب فلكية وقوى نفسانية وإنما كان الصبر والشكر سببا لانتفاع صاحبهما بالآيات ينبني على الصبر والشكر فنصفه صبر ونصفه شكر فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوة إيمانه وآيات الله إنما ينتفع بها من آمن بالله ولا يتم له الإيمان إلا بالصبر والشكر فإن رأس الشكر التوحيد ورأس الصبر ترك إجابة داعي الهوى فإذا كان مشركا متبعا هواه لم يكن صابرا ولا شكورا فلا تكون الآيات نافعة له ولا مؤثرة فيه إيمانا
فصل وأما الأصل الثاني وهو اقتضاء الفجور والكبر والكذب للضلال فكثير
أيضا في القرآن كقوله تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا
الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وقال تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء وقال تعالى فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا وقال تعالى وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون وقال تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة فأخبر أنه عاقبهم على تخلفهم عن الإيمان لما جاءهم وعرفوه وأعرضوا عنه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم وحال بينهم وبين الإيمان كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلم أن الله يحول بين المرء وقلبه فأمرهم بالأستجابة له ولرسوله حين يدعوهم الى ما فيه حياتهم ثم حذرهم من التخلف والتأخر عن الأستجابة الذي يكون سببا لأن يحول بينهم وبين قلوبهم قال تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وقال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فأخبر سبحانه أن كسبهم غطى على قلوبهم وحال بينها وبين الايمان بآياته فقالوا أساطير الأولين وقال تعالى في المنافقين نسوا الله فنسيهم فجازاهم على نسيانهم له أن نسيهم فلم يذكرهم بالهدى والرحمة وأخبر أنه أنساهم أنفسهم فلم يطلبوا كمالها بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق فأنساهم طلب ذلك ومحبته ومعرفته والحرص عليه عقوبة لنسيانهم له وقال تعالى في حقهم أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم فجمع لهم بين اتباع الهوى والضلال الذي هو ثمرته وموجبه كما جمع للمهتدين بين التقوى والهدى
فصل وكما يقره سبحانه بين الهدى والتقى والضلال والغي فكذلك يقرن بين
الهدى والرحمة والضلال والشقاء فمن الأول قوله أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقال أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون وقال عن المؤمنين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد ذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وقال أهل الكهف ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وقال لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وقال ما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي أختلفوا فيه وهدي ورحمة لقوم يؤمنون وقال أنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وقال يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ثم أعاد سبحانه ذكرهما فقال قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا
وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة والصحيح أنهما الهدى والنعمة ففضله هداه ورحمته نعمته ولذلك يقرن بين الهدى والنعمة كقوله في سورة الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ومن ذلك قوله لنبيه يذكره بنعمه عليه ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فجمع له بين هدايته له وإنعامه عليه بإيوائه وإغنائه ومن ذلك قول نوح يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده وقول شعيب أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وقال عن الخضر فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما وقال لرسوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا لغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك
الله نصرا عزيزا وقال وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد أبدا ففضله هدايته ورحمته وإنعامه وإحسانه إليهم وبره بهم وقال فأما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى والهدى منعه من الضلال والرحمة منعه من الشقاء وهذا هو الذي ذكره في أول السورة في قوله طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى فجمع له بين إنزال القرآن عليه ونفى الشقاء عنه كما قال في آخرها في حق اتباعه فلا يضل ولا يشقى فالهدى والفضل والنعمة ولرحمة متلازمات لا ينفك بعضها عن بعض كما أن الضلال والشقاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر قال تعالى إن المجرمين في ضلال وسعر والسعر جمع سعير وهو العذاب الذي هو غاية الشقاء وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون وقال تعالى عنهم وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
ومن هذا انه سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطيبة وبين الضلال وضيق الصدر والمعيشة والضنك قال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل له صدره ضيقا حرجا وقال أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وكذلك يجمع بين الهدى والإنابة وبين الضلال وقسوة القلب قال تعالى الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وقال تعالى فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين
فصل والهدى والرحمة وتوابعها من الفضل والإنعام كله من صفة العطاء
والإضلال
والعذاب وتوابعها من صفة المنع وهو سبحانه يصرف خلقه بين عطائه ومنعه وذلك كله صادر عن حكمة بالغة وملك تام وحمد تام فلا إله إلا الله
فصل إذا رأيت النفوس المبطله الفارغة من الإرادة والطلب لهذا الشان قد
تشبثت بها هذا العالم السفلي وقد تشبثت به فكلها إليه فأنه اللائق بها لفساد تركيبها ولا تنقش عليها ذلك فانه سريع الانحلال عنها ويبقى تشبثها به مع انقطاعه عنها عذابا عليها بحسب ذلك التعلق فتبقى شهوتها وإرادتها فيها وقد حيل بينها وبين ما تشتهي على وجه يئست معه من حصول شهوتها ولذتها فلو تصور العاقل ما في ذلك من الألم والحسرة لبادر إلى قطع هذا التعلق كما يبادر إلى حسم مواد الفساد ومع هذا فانه ينال نصيبه من ذلك وقلبه وهمه متعلق بالمطلب الأعلى والله المستعان
فصل إياك والكذب فانه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه ويفسد
عليك تصورها وتعليمها للناس فان الكاذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما والحق باطلا والباطل حقا والخير شرا والشر خيرا فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه ونفس الكاذب معرضه عن الحقيقة الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسرى حكم الكذب إليها فصار صدورها عنه كصدور الكذب عن اللسان فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح
فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم تدركه الله بدواء الصدق يقلع تلك من أصلها ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤة الصدق وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤة الكذب والله تعالى يعاقب الكذاب بأن ويقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ولا مفاسدها ومضارهما بمثل الكذب قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وقال تعالى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم وقال فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم وقال وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم
فصل في قوله تعالى
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد فان العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والمحبوب قد يأتي بالمكروه لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب فان الله يعلم منها مالا يعلمه العبد وأوجب له ذلك أمورا منها أنه لا انفع له من امتثال الأمر وان شق عليه في الابتداء لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وان كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع وكذلك لا شيء أضر عليه من
ارتكاب النهى وان هويته نفسه ومالت إليه وإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب وخاصة العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبه من الألم العظيم والشر الطويل فنظر الجاهل لا يجاوز المباديء إلى غاياتها والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل فكلما دعنه لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤول اعند الغاية فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك وإذا قوى يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة
ومن أسرار هذه الآية إنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة ومنها أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم فلعل مضرته وهلاكه فيه وهولا يعلم فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك ومنها انه إذا فوض إلى ربه ورضى بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه ومنها أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منه في عقبة وينزل في أخرى ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه فلو رضى باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه لأنه مع اختياره لنفسه ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في
المقدور العطف عليه اللطف به فيصير بين عطفه ولطفه فعطفه يقيه ما يحذره ولطفه يهون عليه ما قدره إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة فان السبع لا يرضى بأكل الجيف
فصل لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه ووقف بها
عند قدرها ولم يتجاوزه إلى ما ليس له ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي وتيقن أنه لله وبالله ومن الله فهو الإيمان به ابتداء وإدامة لا سبب من العبد ولا استحقاق منه فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرا البتة وان الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه فتحدث له النعم ذلا وانكسارا عجيبا لا يعبر عنه فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلا وانكسارا وخشوعا ومحبة وخوفا ورجاء وهذا نتيجة علمين شريفين علمه بربه وكماله وبره وغناه وجوده وإحسانه ورحمته وأن الخير كله في يديه وهو ملكه يؤتى منه من يشاء ويمنع منه من يشاء وله الحمد على هذا وهذا أكمل حمد وأتمه وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها وأنها لا خير فيها ألبته ولا لها ولا بها ولا منها وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس إليها ولا بها فإذا صار هذان العلمان صيغة لها لا صيغة على لسانها علمت حينئذ إن الحمد كله لله والأمر كله له والخير كله في يديه وانه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم ومن فاته التحقيق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله
وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له إلى الله فإيصال العبد بتحقيق هاتين المعرفتين علما وحالا وانقطاعه بفواتهما وهذا معنى قولهم من عرف نفسه عرف ربه فانه من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم عرف ربه بضد ذلك فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له وهذا هو حقيقة العبودية والله المستعان
ويحكى أن بعض الحكماء كتب على باب بيته أنه لن ينتفع بحكمتنا إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها فمن كان كذلك فليدخل وإلا فليرجع حتى يكون بهذه الصفة
فصل الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة فإنها أما
أن توجب ألما وعقوبة وإما أن تقطع لذة أكمل منها وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة وأما أن تثلم عرضا توفيره أنفع للعبد من ثلمه وأما أن تذهب مالا بقاؤه خير له من ذهابه وإما أن تضع قدرا وجاها قيامه خير من وضعه وأما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة وأما أن تطرق لوضيع إليك طريقا لم يكن يجدها قبل ذلك وأما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة وإما أن تنسى علما ذكره ألذ من نيل الشهوة وأما أن تشمت عدوا وتحزن وليا وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة وأما أن تحدث عيبا يبقى صفة لا تزول فان الأعمال تورث الصفات والأخلاق
فصل للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا ومتى قصرت عنه كان نقصا ومهانة
فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة والأنفة من الرذائل والنقائص وهذا كماله فإذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار وإن نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل وللحرص حد وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها فمتى نقص من ذلك كان مهانة وإضاعة ومتى زاد عليه كان شرها ورغبة فيما لا تحمد الرغبة فيه وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال والأنفة أن يتقدم عليه نظيرة فمتى تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود ويحرص على إيذائه ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر نفس قال النبي لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس فهذا حسد منافسة يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود لا حسد مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود وللشهوة حد وهو راحة القلب والعقل من كد الطاعة واكتساب الفضائل والاستعانة بقضائها على ذلك فمتى زادت على ذلك صارت نهمة وشبقا والتحق صاحبها بدرجة الحيوانات ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغا في طلب الكمال والفضل كانت ضعفا وعجزا ومهانة وللراحة حد وهو اجمام النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب ويضعف أثرها فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسلا وإضاعة وفات به اكثر مصالح العبد ومتى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها وربما انقطع به كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهر أبقى والجود له حد بين طرفين فمتى جاوز حده صار إسرافا وتبذيرا أو متى نقص عنه كان بخلا وتقتيرا وللشجاعة حد متي جاوزته صارت تهورا ومتي نقصت عنه صارت جبنا وخورا وحدها الأقدام في مواضع الأقدام والأحجام في مواضع الأحجام كما قال معاوية لعمرو بن العاص أعياني أن أعرف أشجاعا أنت أم جبانا تقدم حتى أقول من أشجع الناس وتجبن حتى أقول من أجبن الناس فقال
شجاع إذا ما امكنتني فرصة ... فان لم تكن لي فرصة فجبان
والغيرة لها حد إذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئا بالبريء وإن قصرت عنه كانت تغافلا ومبادىء دياثة وللتوضع حد إذا جاوزه كان ذلا ومهانة ومن قصر عنه انحرف إلى الكبر والفخر وللعز حد إذا جاوزه كان كبرا وخلقا مذموما وإن قصر عنه انحرف إلى الذل و المهانة
وضابط هذا كله العدل وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به فانه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا فمن أشرف العلوم وانفعها علم الحدود ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهى فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها مه هو داخل فيها قال تعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلا وبالله التوفيق
فصل قال أبو الدرداء رضي الله عنه يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف
يغبنون به قيام الحمقى وصومهم والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين وهذا من جواهر الكلام وأدلة على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضى الله عنهم
فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته ولا ببدنه والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح قال تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله
فانها من تقوى القلوب وقال لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقال النبي التقوى ههنا وأشار إلى صدره فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق فان العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام والإحسان
فاكمل الهدى هدى رسول الله وكان موفيا كل واحد منهما حقه فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى ترم قدماه ويصوم حتى يقال لا يفطر ويجاهد في سبيل الله ويخالط أصحاب ولا يحتجب عنهم ولا يترك شيئا من النوافل والاوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر والله تعالى أمر عباده إن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم وحقائق الإيمان على بواطنهم ولا يقبل واحدا منهما إلا بصاحبه وقرينه وفي المسند مرفوعا الإسلام علانية والإيمان في القلب فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار
وإذا عرف هذا فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان قسم صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها وأن لم يكونوا خالين من أصلها ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال وقسم صرفوا
ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم وعكوفها على الله وحده والجمعية عليه وحفظ الخواطر والإرادات معه وجعلوه قوة تعبده بأعمال القلوب من تصحيح المحبة والخوف والخوف والرجاء والتوكل والإنابة ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلوبهم من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية فإذا حصل لأحدهم جمعية ووارد أنس أو حب أو اشتياق أو انكسار وذل لم يستبدل به شيئا سواه البتة إلا أن يجيء الأمر فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد فإذا جاءت النوافل فههنا معترك التردد فإن أمكن القيام إليها به فذاك فذلك به وإلا نظر في الأرجح والأحب إلى الله هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف وإرشاد ضال وجبر مكسور واستفادة إيمان ونحو ذلك فههنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة ومتى قدمهما لله رغبة فيه وتقربا إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان في وقت آخر وإن كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه فإنه يفوت والنافلة لا تفوت وهذا موضع يحتاج إلى فضل فقه في الطريق ومراتب الأعمال وتقديم الأهم منها فالأهم والله الموفق لذلك لا إله غيره ولا رب سواه
فصل أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة وأصل الأخلاق
المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة فالفخر والبطر والأشر والعجب والحسد والبغي والخيلاء والظلم والقسوة والتجبر والأعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك كلها ناشئة من الكبر وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير الله واستبدال الذي هو
أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك فأنها من المهانة والدناءة وصغر النفس وأما الأخلاق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والصيانة والجود والحلم والعفو والصفح والاحتمال والإيثار وعزة النفس عن الدناآت والتواضع والقناعة والصدق والأخلاق والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل والتغافل عن زلات الناس وترك الانشغال بما لا يعنيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك فكلها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتأخذ زينتها وبهجتها فكذلك المخلوق منها إذا أصابه حظه من التوفيق وأما النار فطبعها العلو والإفساد ثم تخمد فتصير أحقر شيء وأذله وكذلك المخلوق منها فهي دائما بين العلو إذا هاجت واضطربت وبين الخسة والدناءة إذا خمدت وسكنت والأخلاق المذمومة تابعة للنار والخلوق منها والأخلاق الفاضلة تابعة للأرض والمخلوق منها فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل
فصل المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة فمن فقدهما
تعذر عليه الوصول إليه فان الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته وإذا كانت همته سافلة تعلقت بالسفليات ولم تتعلق بالمطلب الأعلى وإذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقة غير موصلة إليه فمدار الشان على همة العبد ونيته وهما مطلوبه ولا يتم له إلا بترك ثلاثة أشياء العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس الثاني هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقة
وقطعها الثالث قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب والفرق بنيها أن العوائق هي الحوادث الخارجية والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه والله المستعان
فصل من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رجل عنده
ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين أحب أن أكون من المقربين فقال عبد الله لكن ههنا رجل ود وأنه مات لم يبعث يعني نفسه وخرج ذات يوم فاتبعه ناس فقال لهم ألكم حاجة قالوا لا ولكن أردنا أن نمشي معك قال ارجعوا فإنه ذلة للتتابع وفتنة للمتبوع وقال لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي لحثوتم على رأسي التراب وقال حبذا المكروهان الموت والفقر وأيم الله إن هو إلا الغنى والفقر وما أبالي بأيهما بليت أرجو الله في كل واحد منهما إن كان الغنى إن فيه للعطف وأن كان الفقر أن فيه للصبر وقال أنكم في ممر الليل والنهار في آجل منقوصة وأعمال محفوظة والموت يأتي بغتة فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبته ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة ولكل زارع مثل ما زرع لا يسبق بطىء بحظه ولا يدرك حريص ما لم يقدر له من أعطى خيرا فالله أعطاه ومن وقى شرا فالله وقاه المتقون سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة إنما هما اثنتان الهدى والكلام فأفضل الكلام كلام الله وأفضل الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب الأوان البعيد ما ليس آتيا الأوان الشقي من شقي في بطن أمه وأن السعيد من وعظ
بغيره إلا وان قتال المسلم كفر وسبابه فسوق ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه ويعوده إذا مرض ألا وأن شر الروايا روايا الكذب ألا وأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صبيه شيئا ثم لا ينجزه ألا وأن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار والصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وأنه يقال للصادق صدق وبر ويقال للكاذب كذب وفجر وأن محمدا حدثنا أن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا إن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة التقى وخير الملة ملة إبراهيم وأحسن السنن سنة محمد وخير الهدى هدى الأنبياء وأشرف الحديث ذكر الله وخير القصص القرآن وخير الأمور عواقبها وشر الأمور محدثاتها وما قل وكفى خير مما كثر وألهى ونفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها وشر المعذرة حين يحضر الموت وشر الندامة ندامة يوم القيامة وشر الضلالة الضلالة بعد الهوى وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى وخير ما ألقى في القلب اليقين والريب من الكفر وشر العمى عمى القلب والخمر جماع الأثم والنساء حبائل الشيطان والشباب شعبة من الجنون والنوح من عمل الجاهلية ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا ولا يذكر الله إلا هجرا وأعظم الخطايا الكذب ومن يعف يعف الله عنه ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يغفر يغفر الله له ومن يصبر على الرزية يعقبه الله وشر المكاسب كسب الربا وشر المآكل مال اليتيم وإنما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه وإنما يصير إلى أربعة أذرع والأمر إلى آخره وملاك العمل خواتمه وأشرف الموت قتل الشهداء ومن يستكبر يضعه الله ومن يعص الله يطع الشيطان ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس
يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حكيما حليما سكينا ولا ينبغي لحامل القرآن ان يكون جافيا ولا غافلا ولا سخابا ولا صياحا ولا حديدا من تطاول تعظما حطه الله ومن تواضع تخشعا رفعه الله وأن للملك لمة وللشيطان لمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق فإذا رأيتهم ذلك فتعوذوا بالله أن الناس قد أحسنوا القول فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبخ نفسه لا ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار إني لا بغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ومن لم تأمره الصلاة بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها من الله بعدا من اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ولا تحمد أحدا على رزق الله ولا تلوم أحدا على ما لم يؤتك الله فأن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره وان الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل لهم والحزن في الشك والسخط ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك ومن يقرع باب الملك يفتح له أني لا حسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض إن للقلوب شهوة وأدبارا فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها ودعوها عند فتفرقها وأدبارها ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية أنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضه قلبا وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضه جسما وأيم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى والتواضع أحب إليه من الشرف وحتى يكون حامده وذامه وعنده سواه وان الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه منه شيء يأتي الرجل ولا
يملك له ولا نفسه ضرا ولا نفعا فيقسم له بالله أنك لذيت وذويت فيرجع وما حبى من حاجته بشيء ويسخط الله عليه لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا الأثم حواز القلوب ما كان من نظر فإن للشيطان فيها مطمعا مع كل فرحة ترحة وما ملىء بيت حبرة الاملئ عبرة وما منكم إلا ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مؤداة إلى أهلها يكون في آخر الزمان أقوم أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان إذا احب الرجل أن ينصف من نفسه فليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتي إليه الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبي رب شهوة تورث حزنا طويلا ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يأكله السوس ولا يناله السراق فليفعل فإن قلب الرجل مع كنزه لا يقلدون أحدكم دينه رجلا فأن آمن آمن وإن كفر كفر وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة لا يكن أحدكم إمعة قالوا وما الإمعة قال يقول أنا مع الناس ان اهتدوا اهتديت وإن ضلوا ضللت ألا ليوطن أحدكم نفسه على أنه ان كفر الناس لا يكفر وقال له رجل علمني كلمات جوامع نوافع فقال أعبد الله لا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال ومن جاءك بالحق فاقبل منه وان كان بعيدا بغيضا ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وان كان حبيبا قريبا يؤتي بالعبد يوم القيامة فيقال له أد أمانتك فيقول يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فتمثل على هيئتها يوم أخذها في قعر جهنم فيزل فيأخدها فيضعها على عاتقه فيصعد بها حتى إذا ظن أنه خارج بنها هوت وهوي في أثرها أبد الآبدين اطلب قلبك في ثلاثة مواطن عند سماع القرآن وفي مجالس الذكر وفي أوقات الخلوة فان لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن
يمن عليك بقلب فانه لا قلب لك قال الجنيد دخلت على شاب فسألني عن التوبة فأجبته فسألني عن حقيقتها فقلت أن تنصب ذنبك بين عينيك حتى يأتيك الموت فقال لي مه ما هذا حقيقة التوبة فقلت له فما حقيقة التوبة عندك يا فتى قال أن تنسى ذنبك وتركني ومضي فكيف هو عندك يا أبا قاسم فقلت القول ما قال الفتى قال كيف قلت إذا كنت معه في حال ثم نقلني من حال الجفا إلى حال الوفا فذكرني للجفا في حال الوفا جفا
فصل لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند
الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فاقبل على الطمع أولا فأذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص فأن قلت وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح قلت أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه الا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه وأما ازهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمة ويشين الا الله وحده كما قال ذلك الأعرابي للنبي ان مدحي زين وذمي شين فقال ذلك الله عز و جل فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشنيك ذم وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه ولن يقدر على ذلك الا بالصبر واليقين فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
فصل لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه فأشرف الناس نفسا
وأعلاهم همة وأرفعهم قدرا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال فلو عرضت عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا الالتفات إليه وربما تألمت من ذلك كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار والآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه فهذا ممن قال تعالى فيه قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة وأبخسهم حظا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات وافترقوا في وجه التمتع فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي إذن لهم فيه فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة وسواء إذن لهم فيه أم لا فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة فلا لذة الدنيا دامت لهم ولا لذة الآخرة حصلت لهم فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلا له إلى لذة الآخر بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله وإرادته وعبادته فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى وان كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في
لذة الآخرة ويجم نفسه ههنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة وكانت همه لما هناك وبئس القاطع لمن كانت هي مقصودة وهمته وحولها يدندن وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعا وإلا خسرهما جميعا سبحان الله رب العالمين لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الذي جعله الله قواما لمصالح الدنيا والآخرة ومحبة الخلق وجوار القول بينهم وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة القلب وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر والأمن من مخاوف الفساق والفجار وقلة الهم والغم والحزن وعز النفس عن احتمال الذل وصون نور القلب إن تطفئه ظلمة المعصية وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار وتيسر الرزق عليه من حيث لا يحتسب وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي وتسهيل الطاعات عليه وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس وكثرة الدعاء له والحلاوة التي يكتسبها وجهه المهابة التي تلقي له في قلوب الناس وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب وسرعة إجابة دعائه وزوال الوحشة التي بينه وبين الله وقرب الملائكة منه وبعد شياطين الإنس والجن منه وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه وخطبتهم لمودته وصحبته وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه وصغر الدنيا في قلبه وكبر الآخرة عنده وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها وذوق حلاوة الطاعة ووجد حلاوة الإيمان ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له وفرح الكاتبين به ودعائهم له كل وقت والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتويته وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه
فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة وبأنه لا خوف عليه ولا حزن وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضه من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق وهو في ظل العرش فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو فضل عظيم
فصل ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبد العزيز انه كان
إذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب قطعه وإذا كتب كتابا فخاف فيه العجب مزقه ويقول اللهم أني أعوذ بك من شر نفسي أعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي فيه مرضاة الله مطالعا فيه منة الله عليه به وتوفيقه له فيه وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته بل هو بالذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن فالذي من عليه بذلك هو الذي من عليه بالقول الفعل فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منة ربه وتوفيقه وإعانته فإذا غاب عن تلك الملاحظة وثبت النفس وقامت في مقام الدعوى فوقع العجب ففسد عليه القول والعمل فتارة يحال بينه وبين تمامه ويقطع عليه ويكون ذلك رحمة به حتى لا يغيب عن مشاهدة المنة والتوفيق وتارة يتم له ولكن لا يكون له ثمرة وإن أثمر أثمر ثمرة ضعيفة غير محصلة للمقصود وتارة يكون ضرره عليه أعظم من انتفاعه ويتولد له منه مفاسد شتى بحسب غيبته عن ملاحظة التوفيق والمنة ورؤية نفسه وإن القول والفعل به
ومن هذا الموضع يصلح الله سبحانه أقوال عبده وأعماله ويعظم له ثمرتها أو يفسدها عليه ويمنعه ثمرتها فلا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس فإذا أراد الله
بعده خيرا أشهده منته وتوفيقه وإعانته له في كل ما يقوله ويفعله فلا يعجب به ثم اشهده تقصيره فيه وأنه لا يرضى لربه به فيتوب إليه منه ويستغفره ويستحي أن يطلب عليه أجرا وإذا لم يشهده ذلك وغيبه عنه فرأى نفسه في العمل ورآه بعين الكمال والرضا لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرضا والمحبة فالعارف يعمل العمل لوجه مشاهدا فيه منته وفضله وتوفيقه معتذرا منه إليه مستحييا منه إذ لم يوفه حقه والجاهل يعمل العمل لحظه وهواه ناظرا فيه إلى نفسه يمن به على ربه راضيا بعمله فهذا لون وذاك لون آخر
فصل الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق فالعوائد
السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع بل هي عندهم أعظم من الشرع فانهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع وربما كفروه أو بدعوه وضللوه أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم وأماتوا لها السنن ونصبوها أندادا للرسول يوالون عليها ويعادون فالمعروف عندهم ما وافقهم والمنكر ما خالفها
وهذه الأوضاع والرسوم قد استولت على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفية والفقراء والمطوعين والعامة فربى فيها الصغير ونشأ عليها الكبير واتخذت سننا بل هي أعظم عند أصحابها من السنن الواقف معها محبوس والمتقيد بها منقطع عم بها المصاب وهجر لأجلها السنة والكتاب من استنصر بها فهو عند الله مخذول ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسوله فهو عند الله غير مقبول وهذه أعظم الحجب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله
فصل وأما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها فإنها تعوق
القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقة وهي ثلاثة أمور شرك وبدعة ومعصية فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد وعائق البدعة بتحقيق السنة وعائق المعصية بتصحيح التوبة وهذه العوائق لا تتبين للعبد يأخذ في أهبة السفر ويتحقق بالسير إلى الله والدار والآخرة فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويحسن بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرده للسفر وإلا فما دام قاعدا لا يظهر له كوامنها وقواطعها
فصل وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من
ملاذ الدنيا وشهواتها ورياستها وصحبة الناس والتعلق بهم ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه وآثر عندها منه وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره وكذا بالعكس والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه وذلك على قدر معرفته به وشرفه وفضله على ما سواه
فصل لما كمل الرسول مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج الخلائق
كلهم إليه في الدنيا والآخرة أما حاجتهم إليه في الدنيا فأشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم وأما حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله حتى يريحهم من ضيق مقامهم فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع لهم وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة
فصل من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في
تواضعه ورحمته وكلما زيد في خوفه وحذره وكلما زيد في عمره نقص من حرصه وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم
وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه وكلما زيد في عمره زيد قي حرصه وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشفى بها أقوام وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء كالملك والسلطان والمال قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور كما أن المحن بلوى منه سبحانه فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب قال تعالى فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا أي ليس كل من وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك إكراما مني له ولا كل من ضيقت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك إهانة مني له
فصل من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به
فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه فالأعمال والدرجات بنيان وأساسها الإيمان ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه وإذا تهدم شيء من
البنيان سهل تداركه وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد فالعارف همته تصحيح الأساس وإحكامه والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط قال تعالى أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم فالأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان فإذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت عنه كثيرا من الآفات وإذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء
فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان فإذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس وهذا الأساس أمران صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته والثاني تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه فهذا أوثق أساس أسس العبد عليه بنيانه وبحسبه يعتلى البناء ما شاء فأحكم الأساس واحفظ القوة ودم على الحمية واستفرغ إذا زاد بك الخلط والقصد القصد وقد بلغت المراد وإلا فما دامت القوة ضعيفة والمادة الفاسدة موجودة والاستفراغ معدوما
فاقر السلام على الحياة فإنها ... قد آذنتك بسرعة التوديع
فإذا كمل البناء فبيضه بحسن الخلق والإحسان إلى الناس ثم حظه بسور من الحذر لا يقتحمه عدو ولا تبدو منه العورة ثم أرخ الستور على أبوابه ثم اقفل الباب الأعظم بالسكوت عما تخشى عاقبته ثم ركب له مفتاحا من ذكر الله به تفتحه وتغلقه فإن فتحت فتحت بالمفتاح وإن أغلقت الباب أغلقته به فتكون حينئذ قد بنيت حصنا تحصنت فيه من أعدائك إذا طاف به العدو لم يجد منه مدخلا فييأس منك ثم تعاهد بناء الحصن كل وقت فإن العدو إذا لم يطمع في الدخول من الباب نقب عليك النقوب من بعيد بمعاول الذنوب فإن أهملت أمره وصل إليك النقب فإذا العدو معك في داخل الحصن فيصعب عليك إخراجه وتكون معه على
ثلاث خلال إما أن يغلبك على الحصن ويستولي عليه وإما أن يساكنك فيه وإما أن يشغلك بمقابلته عن تمام مصلحتك وتعود إلى سد النقب ولم شعث الحصن وإذا دخل نقبه إليك نالك منه ثلاث آفات إفساد الحصن والإغارة على حواصله وذخائره ودلالة السراق من بني جنسه على عورته فلا يزال يبلي منه بغارة حتى يضعفوا قواه ويوهنوا عزمه فيتخلى عن الحصن ويخلي بينهم وبينه
وهذه حال أكثر النفوس مع هذا العدو ولهذا تراهم يسخطون ربهم برضا أنفسهم بل برضا مخلوق مثلهم لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ويضيعون كسب الدين بكسب الأموال ويهلكون أنفسهم بما لا يبقى لهم ويحرصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم ويزهدون في الآخرة وقد هجمت عليهم ويخالفون ربهم باتباع أهوائهم ويتكلون على الحياة ولا يذكرون الموت ويذكرون شهواتهم وحظوظهم وينسون ما عهد الله إليهم ويهتمون بما ضمنه الله ولا يهتمون بما أمرهم به ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها ولا يحزنون على فوات الجنة وما فيها ولا يفرحون بالإيمان فرحهم بالدرهم والدينار ويفسدون حقهم وهداهم بضلالهم ومعروفهم بمنكرهم ويلبسوا إيمانهم بظنونهم ويخلطون حلالهم بحرامهم ويترددون في حيرة آرائهم وأفكارهم ويتركون هدى الله الذي أهداه إليهم ومن العجب أن هذا العدو يستعمل صاحب الحصن في هدم حصنه بيديه
فصل أركان الكفر أربعة الكبر والحسد والغضب والشهوة فالكبر يمنعه
الانقياد والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها والغضب يمنعه العدل والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة وزوال الجبال عن أماكنها
أيسر من زوال هذه الأربعة عمن بلى بها ولا سيما إذا صارت هيئات راسخه وملكات وصفات ثابتة فإنه لا يستقيم له معها عمل البتة ولا تزكو نفسه مع قيامها بها وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة وكل الآفات متولدة منها وإذا استحكمت في القلب أرته الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل والمعروف في صورة المنكر والمنكر في صورة المعروف وقربت منه الدنيا وبعدت منه الآخرة وإذا تأملت كفر الأمم رأيته ناشئا منها وعليها يقع العذاب وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها فمن فتحها على نفسه فتح عليه أبواب الشرور كلها عاجلا وآجلا ومن أغلقها على نفسه أغلق عنه أبوب الشرورفاتها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه
ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربه وجهله بنفسه فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدا على ما أتاه الله فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله وأحب زوالها عنه والله يكره ذلك فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة لأن ذنبه كان عن كبر وحسد فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضا به وعنه والإنابة إليه وقلع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها فإن ذلك إيثار لها بالرضا والغضب على خالقها وفاطرها وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب له سبحانه وترضي له فكلما دخلها شيء من الغضب والرضا له خرج منها مقابله من الغضب والرضا لها وكذا بالعكس
وأما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها إياها ومنعها منها وحميتها أعظم أسباب اتصالها إليها فكلما فتحت عليها باب الشهوات كنت ساعيا في حرمانها إياها وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعيا في إيصالها إليها على أكمل الوجوه
فالغضب مثل السبع إذا أفلته صاحبه بدأ بأكله والشهوة مثل النار إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه فإن لم يهلكك طردك عنه والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك والذي يغلب شهوته وغضبه يفرق الشيطان من ظله ومن تغلبه شهوته وغضبه يفرق من خياله
فصل عظيم النفع
الجهال بالله وأسمائه وصفاته المعطلون لحقائقها يبغضون الله إلى خلقه ويقطعون عليهم طريق محبته والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون ونحن نذكر من ذلك أمثلة تحتذي عليها فمنها أنهم يقررون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة وان طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها ظاهره وباطنه وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى الماخور ومن التوحيد والمسبحة إلى الشرك والمزمار ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر ويروون في ذلك آثار صحيحة لم يفهموها وباطلة لم يقلها المعصوم ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد ويتلون على ذلك قوله تعالى لا يسأل عما يفعل وقوله أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وقوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة وأنه كان طاووس الملائكة وأنه لم يترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة أو ركعة لكن جنى عليه جاني القدر وسطا عليه الحكم فقلب عينه الطيبة وجعلها أخبث شيء حتى قال بعض عارفيهم إنك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الذي يثب عليك بغير جرم منك ولا ذنب أتيته إليه ويحتجون بقول النبي إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ويروون عن بعض السلف أكبر الكبائر لا الله من مكر الله والقنوط من رحمة
وذكر الإمام أحمد عن عون بن عبد الله أو غيره أنه سمع رجلا يدعو الهم لا تؤمني مكرك فأنكر ذلك وقال قل اللهم لا تجعلني ممن يأمن مكرك وبنوا ذلك على أصلهم الباطل وهو إنكار الحكمة والتعليل والأسباب وأن الله لا يفعل لحكمة ولا سبب وإنما يفعل بمشيئة مجردة من الحكم والتعليل والسبب فلا يفعل لشيء ولا بشيء وأنه لا يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته أشد العذاب وينعم أعداءه وأهل معصيته بجزيل الثواب وأن الأمرين بالنسبة إليه سواء ولا يعلم امتناع ذلك إلا بخبر من الصادق أنه لا يفعله فحينئذ يعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنه لا يكون لا لأنه في نفسه باطل وظلم فإن الظلم في نفسه مستحيل فإنه غير ممكن بل هو بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد والجمع بين الليل والنهار في ساعة واحدة وجعل الشيء موجودا ومعدوما معا في آن واحد فهذا حقيقة الظلم عندهم فإذا رجع العامل إلى نفسه قال من لا يستقر له أمر ولا يؤمن له مكر كيف يوثق بالتقرب إليه وكيف يعول على طاعنه واتباع أوامره وليس لنا سوى هذه المدة اليسيرة فإذا هجرنا فيها اللذات وتركنا الشهوات وتكلفتا أثقال العبادات وكنا مع ذلك على غير ثقة منه أن يقلب علينا الإيمان كفرا والتوحيد شركا والطاعة معصية والبر فجورا ويديم علينا العقوبات كنا خاسرين في الدنيا والآخرة فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم وتخمر في نفوسهم صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللذات بمنزلة إنسان جعل يقول لولده معلمك إن كتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربما أقام لك حجة وعاقبك وإن كسلت وبطلت وتعطلت وتركت ما أمرك به ربما قربك وأكرمك فيودع بهذا القول قلب الصبي ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة ولا وعده على الإحسان وان كبر الصبي وصلح للمعاملات والمناصب قال له هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من الحبس فيجعله وزيرا أميرا ويأخذ الكيس المحسن لشغله فيخلده الحبس ويقتله ويصلبه فإذا قال له ذلك أو حشه سلطانه وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده وأزال محبته من قلبه وجعله يخافه مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة
والبريء بالعذاب فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة فلا بفعل الخير يستأنس ولا بفعل الشر يستوحش وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عبادة أكثر من هذا ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر ويرد على أهل البدع وينصر الدين ولعمر الله العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل وكتب الله المنزلة كلها ورسله كلهم شهادة بضد ذلك ولا سيما القرآن فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه لصلح العالم صلاحا لا فساد معه فالله سبحانه أخبر وهو الصادق الوفي أنه إنما يعامل الناس بكسبهم ويجازيهم بأعمالهم ولا يخاف المحسن ليده ظلما ولا هضما ولا يخاف بخسا ولا رهقا ولا يضيع عمل محسن أبدا ولا يضيع على العبد مثقال ذرة لا يظلمها وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها ولا يضيعها عليه وأنه يجزي بالسيئة مثلها ويحبطها بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات والمصائب ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وهو الذي أصلح الفاسدين وأقبل بقلوب المعرضين وتاب على المذنبين وهدى الضالين وأنقذ الهالكين وعلم الجاهلين وبصر المتحيزين وذكر الغافلين وآوى الشاردين وإذا أوقع عقابا أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه ودعوة العبد إلى الرجوع إلى إليه والإقرار بربوبيته وحقه مرة بعد مرة حتى إذا يأس من استجابته والإقرار بربوبيته ووحدانيته أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده بحيث يعذر العبد من نفسه ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه وأنه هو الظالم لنفسه كما قال تعالى عن أهل النار فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وقال عمن أهلكهم في الدنيا أنهم لما رأوا آياته وأحسوا حصيدا بعذابه قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين وقال أصحاب الجنة التي أفسدها عليهم لما رأوها
قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين قال الحسن لقد دخلوا النار وأن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا ولهذا قال تعالى نقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فهذه الجملة في موضع الحال أي قطع دابرهم حال كونه سبحانه محمودا على ذلك فقطع دابرهم قطعا مصاحبا لحمده فهو قطع وإهلاك يحمد عليه الرب تعالى لكما حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها فوضعها في الموضع الذي يقول من علم الحال لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل ولا يليق به إلا العقوبة ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاء إلى النار وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فحذف فاعل القول إشعارا بالعموم وأن الكون كله قال الحمد لله رب العالمين لما شاهدوا من حكمه الحق وعدله وفضله ولهذا قال في حق أهل النار قيل ادخلوا أبواب جهنم كأن الكون كله يقول ذلك حتى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم وهو سبحانه بخبر أنه إذا هلك أعداءه أنجى أولياءه ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة ولما سأله نوح نجاة ابنه أخبر أنه يغرقه بسوء عمله وكفره ولم يقل إني أغرقه بمحض مشيئتي وإرادتي بلا سبب ولا ذنب وقد ضمن سبحانه زيادة الهداية للمجاهدين في سبله ولم يخبر أنه يضلهم ويبطل سعيهم وكذلك ضمن زيادة الهداية للمتقين الذين يتبعون رضوانه وأخبر أنه لا يضل إلا الفاسقين الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه وأنه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه ورده فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده ودفعه لما تحققه وعرفه وأنه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيرا لأفهمها وهداها ولكنها لا تصلح لنعمته ولا تليق بها كرامته وقد أزاح سبحانه العلل وأقام الحجج ومكن من أسباب الهداية وأنه لا يضل إلا الفاسقين والظالمين ولا يطبع
إلا على قلوب المعتدين ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار وهو عين كسبهم وأعمالهم كما قال كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال عن أعدائه من اليهود وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم وأخبر أنه لا يضل من هداه حتى يبن له ما يتقي فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى والغي على الرشاد ويكون مع نفسه وشيطانه وعدو ربه عليه
وأما المكر الذي وصف به نفسه فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله فيقابل مكرهم السيء بمكره الحسن فيكون المكر منهم أقبح شيء ومنه أحسن شيءلأنه عدل ومجازاة وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله أوليائه فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه وقوله لم يبق بينه وبينها إلا ذراع يشكل على هذا التأويل فيقال لما كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خذل بها في آخر عمره فخانته تلك الآفة والداهية والباطنة في وقت الحاجة فرجع إلى موجبها وعملت عملها ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه لقد أورده مع صدقه فيه وإخلاصه بغير سبب منه يقتضي إفساده عليه والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض
وأما شأن إبليس فإن الله سبحانه قال للملائكة إني أعلم مالا تعلمون فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد مالا يعلمه الملائكة فلما أمروا بالسجود ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد فبادروا إلى الامتثال وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والحسد فأبى واستكبر وكان من الكافرين
وأما خوف أوليائه من مكره فحق فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته وقوله أفأمنوا مكر الله إنما هو في حق الفجار والكفار ومعنى الآية فلا يعصي ويأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره به إلا القوم الخاسرون والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال فيحصل منهم نوع اغترار فيأنسوا بالذنوب فيجيئهم العذاب على غرة وفترة وأمر آخر وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته فيسرع إليهم البلاء والفتنة فيكون مكره بهم تخليه عنهم وأمر آخر أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون وأمر آخر أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنون به وذلك مكر
فصل السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها
والأنفاس ثمرها فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ومن كانت في معصية فثمرته حنظل وإنما يكون الجداد يوم المعاد فعند الجداد يتبين حلو الثمار من مرها والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في لدنيا والخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم
فصل إذا بلغ العبد أعطى عهده الذي عهده إليه خالقه ومالكه فإذا أخذ
عهده بقوة وقبول
وعزم على تنفيذ ما فيه صلح للمراتب والمناصب التي يصلح لها الموفون بعهودهم فإذا هز نفسه عند أخذ العهد وانتحاها وقال قد أهلت لعهد ربي فمن أولى بقبوله وفهمه وتنفيذه مني فحرص أولا على فهم عهده وتدبره وتعرفه وصايا سيده له ثم وطن نفسه على امتثال ما في عهده والعمل به وتنفيذه حسبما تضمنه عهده فأبصر بقلبه حقيقة العهد وما تضمنه فاستحدث همة أخرى وعزيمة غير العزيمة التي كان فيها وقت الصبا قبل وصول العهد فاستقال من ظلمة غرة الصبا والانقياد للعادة والمنشأ وصبر على شرف الهمة وهتك ستر الظلمة إلى نور اليقين فأدرك بقدر صبره وصدق اجتهاده ما وهبه الله له من فضله فأول مراتب سعادته أن تكون له أذن واعية وقلب يعقل ما تعيه الأذن فإذا سمع وعقل واستبانت له الجادة ورأى عليها تلك الأعلام ورأى أكثر الناس منحرفين عنها يمينا وشمالا فلزمها ولم ينحرف مع المنحرفين الذين كان سبب انحرافهم عدم قبول العهد أو قبلوه بكره ولم يأخذوه بقوة ولا عزيمة ولا حدثوا أنفسهم بفهمه وتدبره والعمل بما فيه وتنفيذ وصاياه بل عرض غيهم العهد ومعهم ضراوة الصبا ودين العادة وما ألفوا عليه الآباء والأمهات فتلقوا العهد تلقي من هو مكتف بما وجد عليه آباءه وسلفه وعادتهم لا تكفي من يجمع همه وقلبه على فهم العهد والعمل به حتى كأن ذلك العهد أتاه وحده وقيل له تأمل ما فيه ثم اعمل بموجبه فإذا لم يتلق عهده هذا التلقي اخلد إلى سير القرابة وما استمرت عليه عادة أهله وأصحابه وجيرانه وأهل بلده فإن علت همته أخلد إلى ما عليه سلفه ومن تقدمه من غير التفات إلى تدبر العهد وفهمه فرضى لنفسه أن يكون دينه دين العادة فإذا شامة الشيطان ورأى هذا مبلغ همته وعزيمته رماه بالعصبية والحمية للآباء وسلفه وزين له أن هذا هو الحق وما خالفه باطل ومثل له الهدى في صورة الضلال والضلال في صورة الهدى بتلك العصبية والحمية التي أسست على غير علم فرضاه أن يكون مع عشيرته وقومه له ما لهم وعليه ما عليهم فخذل عن الهدى وولاه الله ما تولى فلو جاءه كل هدى يخالف قومه وعشيرته لم يره
إلا ضلالة وإذا كانت همته أعلى من ذلك ونفسه أشرف وقدره أعلى أقبل على حفظ عهده وفهمه وتدبره وعلم أن لصاحب العهد شأنا ليس كشأن غيره فأخذ نفسه بمعرفته من نفس العهد فوجده قد تعرف إليه وعرفه نفسه وصفاته وأسماءه وأفعاله وأحكامه فعرف من ذلك العهد قيوما بنفسه مقيما لغيره غنيا عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه مستو على عرشه فوق جميع خلقه يرى ويسمع ويرضي ويغضب ويحب ويبغض ويدبر أمر مملكته وهو فوق عرشه متكلم آمر ناه يرسل رسله إلى أقطار مملكته بكلامه الذي يسمعه من يشاء من خلقه وأنه قائم بالقسط مجاز بالإحسان والإساءة وأنه حليم غفور شكور جواد محسن موصوف بكل كمال منزه عن كل عيب ونقص وأنه لا مثل له ويشهد حكمته في تدبير مملكته وكيف يقدر مقاديره بمشيئة غير مضادة لعدله وحكمته وتظاهر عنده العقل والشرع والفطرة فصدق كل منهما صاحبيه وفهم عن الله سبحانه ما وصف به نفسه في كتابه من حقائق أسمائه التي بها نزل الكتاب وبها نطق ولها أثبت وحقق وبها تعرف إلا عبادة حتى أقرت به العقول وشهدت به الفطر فإذا عرف بقلبه وتيقن صفات صاحب العهد وأشرقت أنوارها على قلبه فصارت له كالمعاينة فرأى حينئذ تعلقها بالخلق والأمر وارتباطهما بها وسريان آثارهما في العالم الحسي والعالم الروحي ورأى تصرفها في الخلائق كيف عمت وخصت وقربت وأبعدت وأعطت ومنعت فشاهد بقلبه مواقع عدله سبحانه وقسطه وفضله ورحمته واجتمع له الإيمان بلزوم حجته مع نفوذ أقضيته وكمال قدرته مع كمال عدله وحكمته ونهاية علوه على جميع خلقه مع إحاطته ومعيته وعظمته وجلاله وكبريائه وبطشه وانتقامه مع رحمته وبره ولطفه وجوده وعفوه وحلمه ورأى لزوم الحجة مع قهر المقادير التي لا خروج لمخلوق عنها وكيف اصطحاب الصفات وتوافقها وشهادة بعضها لبعض وانعطاف الحكمة التي هي نهاية وغاية على المقادير التي هي أول وبداية ورجوع فروعها إلى أصولها ومبادئها إلى
غاياتها حتى كأنه مشاهد مباديء الحكمة وتأسيس القضايا على وفق الحكمة والعدل والمصلحة والرحمة والإحسان لا تخرج قضية عن ذلك إلى انقضاء الأكوان وانفصال الأحكام يوم الفصل بين العباد وظهور عدله وحكمته وصدق رسله وما أخبرت به عنه لجميع الخليقة إنسها وجنها مؤمنها وكافرها وحينئذ يتبين من صفات جلاله ونعوت كماله للخلق ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك حتى أن أعرف خلقه به في الدنيا يثني عليه يومئذ من صفات كماله ونعوت جلاله ما لم يكن يحسنه في الدنيا وكما يظهر ذلك لخلقه تظهر لهم الأسباب التي بها زاغ الزائغون وضل الضالون وانقطع المنقطعون فيكون الفرق بين العلم يومئذ بحقائق الأسماء والصفات العلم بها في الدنيا كالفرق بين العلم بالجنة والنار ومشاهدتهما وأعظم من ذلك وكذلك يفهم من العبد كيف اقتضت أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع وأن لا يترك خلقه سدى وكيف اقتضت ما تضمنته من الأوامر والنواهي وكيف اقتضت وقوع الثواب والعقاب والمعاد وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته بحيث ينزه عما زعم أعداؤه من إنكار ذلك ويرى شمول القدرة وإحاطتها بجميع الكائنات حتى لا يشذ عنها مثقال ذرة ويرى أنه لو كان معه إله آخر لفسد هذا العالم فكانت تفسد السماوات والأرض ومن فيهن وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم أو الموت لتدكدك هذا العالم بأسره ولم يثبت طرفة عين ويرى ذلك الإسلام والإيمان اللذين تعبد الله بهما جميع عباده كيف انبعاثهما من الصفات المقدسة وكيف اقتضيا الثواب والعقاب عاجلا وآجلا ويرى مع ذلك أنه لا يستقيم قبول هذا العهد والتزامه لمن جحد صفاته وأنكر علوه على خلقه وتكلمه بكتبه وعهوده كما لا يستقيم قبوله لمن أنكر حقيقة سمعه وبصره وحياته وإرادته وقوته وأن هؤلاء هم الذين ردوا عهده وأبوا قبوله وأن من قبلهم منهم لم يقبله بجميع ما فيه وبالله التوفيق
فصل خلق بدن ابن آدم من الأرض وروحه من ملكوت السماء وقرن بينهما
فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة وجدت روحه خفة وراحة فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه واشتاقت إلى عالمها العلوي وإذا أشبعه ونعمه ونومه واشتغل بخدمته وراحته أخلد البدن إلى الموضع الذي خلق منه فانجذبت الروح معه فصارت في السجن فلولا أنها ألفت السجن لاستغاثت من ألم وفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه كما يستغيث المعذب
وبالجملة فكما خف البدن لطفت الروح وخفت وطلبت عالمها العلوي وكلما ثقل وأخلد إلى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها وصارت أرضية سفلية فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عندك فيكون نائما على فراشه وروحه عند سدرة المنتهى تجول حول العرش وآخر واقف في الخدمة ببدنه وروحه في السفل تجول حول السفليات فإذا فارقت الروح البدن التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة ومعيشة ضنك قال تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا فذكره كلامه الذي أنزله على رسوله والإعراض عنه ترك تدبره والعمل به والمعيشة الضنك فأكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس وفيه حديث مرفوع وأصل الضنك في اللغة الضيق والشدة وكل ما ضاق فهو ضنك يقال منزل ضنك وعيش الضنك فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة فإن النفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكا وكلما ضيقت عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسخ فضنك المعيشة في
الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة فآثر أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومهما وأشق البدن بنعيم الروح ولا تشق الروح بنعيم البدن فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون والله المستعان
العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لا يقدرون على تركها ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم فترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم الفريضة فإن صعب عليهم ترك الذنوب فاجتهد أن تحبب الله إليهم بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وصفات كماله ونعوت جلاله فإن القلوب مفطورة على محبته فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والاستقلال منها والإصرار عليها وقد قال يحيى بن معاذ طلب العاقل للدنيا خير من ترك الجاهل لها العارف يدعو الناس إلى الله من دنياهم فتسهل عليهم الإجابة والزاهد يدعوهم إلى الله بترك الدنيا فتشق عليهم الإجابة فإن الفطام عن الثدي الذي ما عقل الإنسان نفسه إلا وهو يرتضع منه شديد ولكن بخير من المرضعات أزكاهن وأفضلهن فإن للبن تأثيرا في طبيعة المرتضع ورضاع المرأة الحمقى يعود بحمق الولد وأنفع الرضاعة ما كان من المجاعة فإن قويت على مرارة الفطام وإلا فارتضع بقدر فإن من البشم ما يقتل
فصل بين رعاية الحقوق مع الضر ورعايتها مع العافية بون بعيد أن عبدي
كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ليس العجب من صحيح فارغ واقف مع الخدمة إنما العجب من ضعيف سقيم تعتوره الأشغال وتختلف عليه الأحوال وقلبه واقف في الخدمة غير متخلف بما يقدر عليه
فصل معرفة الله سبحانه نوعان معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس
البر والفاجر والمطيع والعاصي والثاني معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه وهذه هي المعرفة الخالصة الجارية على لسن القوم وتفاوتهم فيهالا يحصيه إلا الذي عرفهم بنفسه وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم وكل أشار إلى هذه المعرفة بحسب مقامه وما كشف له منها وقد قال اعرف الخلق به لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأخبر أنه سبحانه يفتح عليه يوم القيامة من محامدة بما لا يحسنه الآن
ولهذه المعرفة بابان واسعان باب التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها والفهم الخاص عن الله ورسوله والباب الثاني التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه وجماع ذلك الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك وتعلقها بالخلق والأمر فيكون فقيها في أوامره ونواهيه فقيها في قضائه وقدره فقيها في أسمائه وصفاته فقيها في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فصل الدراهم أربعة دراهم اكتسب بطاعة الله وأخرج في حق الله فذاك خير
الدراهم ودرهم اكتسب بمعصية الله وأخرج في معصية الله فذاك شر الدراهم ودرهم اكتسب بأذى مسلم وأخرج في أذى مسلم فهو كذلك ودرهم اكتسب بمباح وأنفق في شهوة مباحة فذاك لا له ولا عليه هذه أصول الدراهم ويتفرع
عليها داهم أخر منها درهم اكتسب بحق وأنفق في باطل ودرهم اكتسب بباطل وأنفق في حق فإنفاقه كفارته ودرهم اكتسب من شبهة فكفارته أن ينفق في طاعة وكما يتعلق الثواب والعقاب والمدح والذم بإخراج الدرهم فكذلك يتعلق باكتسابه وكذلك يسأل عنه مستخرجه ومصروفه من أين اكتسبه وفيما أنفقه
فصل المواساة للمؤمن أنواع مواساة بالمال ومواساة الجاه ومواساة
بالبدن والخدمة ومواساة بالنصيحة والإرشاد ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم ومواساة بالتوجع لهم على قدر الإيمان تكون هذه المواساة فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة وكلما قوي قويت وكان رسول الله أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له ودخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض فقالوا ما هذا يا أبا نصر فقال ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم به فأحببت أن أواسيهم في بردهم
فصل الجهل بالطريق وآفاتها والمقصود يوجب التعب الكثير مع الفائدة
القليلة فإن صاحبه إما أن يجتهد في نافلة مع إضاعة الفرض أو في عمل بالجوارح لم يواطئه عمل القلب أو عمل بالباطن والظاهر لم يتقيد بالإقتداء أو همة إلى عمل لم ترق بصاحبها إلى ملاحظة المقصود أو عمل لم يتحرز من آفاته المفسدة له حال العمل وبعده أو عمل غفل فيه عن مشاهدة المنة فلم يتجرد عن مشاركة النفس فيه أو عمل لم يشهد تقصيره فيه فيقوم بعده في مقام الاعتذار منه أو عمل لم يوفه حقه من النصح والإحسان وهو يظن أنه وفاه فهذا كله مما ينقص الثمرة مع كثرة التعب والله الموفق
فصل إذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى وإرادته عرضت له الخوادع
والقواطع فينخدع أولا بالشهوات والرياسات والملاذ والمناكح والملابس فإن وقف معها انقطع وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتلي بوطء عقبه وتقبيل يده والتوسعة له في المجلس والإشارة إليه بالدعاء ورجاء بركته ونحو ذلك فإن وقف معه وانقطع به عن الله وكان حظه منه وإن قطعه ولم يقف معه ابتلى بالكرامات والكشوفات فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه إن لم يقف معها ابتلى بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الوحدة والفراغ من الدنيا فإن وقف مع ذلك انقطع المقصود وإن لم يقف معه وسار ناظرا إلى مراد الله منه وما يحبه منه بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت وكيف كانت تعب بها أو استراح تنعم أو تألم أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم لا يختار لنفسه غير ما يختاره له وليه وسيده واقف مع أمره ينفذه بحسب الإمكان ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره فهذا هو العبد الذي قد وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيء وبالله التوفيق
فصل النعم ثلاثة نعمة حاصلة يعلم بها العبد ونعمة منتظرة يرجوها ونعمة
وهو فيها لا يشعر بها فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرفة نعمته الحاضرة وأعطاه من شكره قيدا به حتى لا تشرد فإنها تشرد بالمعصية وتقيد بالشكر ورفقة لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة وبصره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها ورفقة لاجتنابها وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه وعرفه النعم التي
هو فيها فلا يشعر بها ويحكي أن أعرابيا دخل على الرشيد فقال أمير المؤمنين ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها فأعجبه ذلك منه وقال ما أحسن تقسيمه
قاعدة جليلة مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها
توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإيرادات والإيرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العدة فصلح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وألهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه فإنه سبحانه به كل صلاح ومن عنده كل هدى ومن توفيقه كل رشد ومن توليه لعبده كل حفظ ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء فيضفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضرا معه مشاهدا له ناظرا إليه رقيبا عليه مطلعا على خواطره وإرادته وهمه فحينئذ يستحي منه ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله أو يرى نفسه خاطرا يمقته عليه
فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه وقربه منه وأكرمه واجتباه وولاه وبقدر ذلك يبعد عن الأوساخ والدناآت والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة كما أنه بعد منه واعرض عنه وقرب من الأوساخ والدناآت والأقذار ويقطع عن جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائص فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه
وشر المخلوقات إذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته فمتى اختار التقرب إليه وآثره على نفسه وهواه فقد حكم قلبه عقله وإيمانه على نفسه وشيطانه وحكم رشده على غيه وهداه على هواه ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده
وأعلم أن الخاطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له وعلى رفع أقبحها وكراهته له نفرته منه كما قال الصحابة يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال أو قد وجدتموه قالوا نعم قال ذاك صريح الإيمان وفي لفظ الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة وفيه قولان أحدهما أن رده وكراهيته صريح الإيمان والثاني أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان فإنه إنما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة الإيمان و إزالته به وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحا الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه فإن وضع فيها حب طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصا طحنته فلأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحا ولا تبقى تلك الرحا معطلة قط بل لا بد لها من شيء يوضع فيها فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره وأكثرهم يطحن رملا وحصا وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه
فصل فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده وإن قبلته صار
فكرا جوالا فاستخدم الإرادة فتساعدت هي والفكر على استخدام الجوارح فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالمني والشهوة وتوجهه إلى جهة المراد ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل وتداركه أسهل من قطع العوائد فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون مالا يعنيك فالفكر فيما لا يعني باب كل شر ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك فمثالك معه مثال صاحب رحا يطحن فيها جيد الحبوب فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب و خرج الطحين كله فاسدا والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل الوجود لو كان على خلاف وذلك وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع
الفواحش والحرام أو في خيالات وهمية لاحقيقة لها وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوى عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه
وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك التوحيد وحقوقه وفي الموت وما بعده إلى الدخول إلى الجنة والنار وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته وعند العارفين أن تمني الخيانة واشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها فإن تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده وأنت تجد في الشاهد أن الملك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلىء منها وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله فإذا اطلع على سره وقصد مقته غاية المقت وابغضه وقابله بما يستحقه وكان أبغض إليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات وقلبه وسره مع الملك غير منطو على تمني الخيانة ومحبتها والحرص عليها فالأول يتركها عجزا واشتغالا بما هو فيه وقلبه ممتلىء بها والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه إضمار الخيانة ولا الإصرار عليها فهذا احسن حالا وأسلم عاقبة من الأول
وبالجملة فالقلب لا يخلو من الفكر وأما في واجب آخرته ومصالحها وإما في مصالح دنياه ومعاشه وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحا تدور بما يلقي فيها فإن ألقيت فيها حبا دارت به وإن ألقيت فيها زجاجا وحصا وبعرا دارت به والله سبحانه هو قيم تلك الرحا ومالكها ومصرفها وقد أقام لها ملكا يلقي فيها ما ينفعها فتدور به شيطانا يلقى فيها ما يضرها فتدور به فالملك يلم بها مرة والشيطان يلم بها مرة فالحب الذي يقيه
الملك ايعاد بالخير وتصديق بالوعد والحب الذي يلقيه الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالوعد والطحين على قدر الحب وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع وقيمها قد أهملها وأعرض عنها فحينئذ يبادر إلى إلقاء ما معه فيها
وبالجملة فقيم الرحا إذا تخلى عنها وعن إصلاحها وإلقاء الحب النافع فيها وجد العدو السبيل إلى إفسادها وإرادتها بما معه وأصل صلاح هذه الرحى بالاشتغال بما يعنيك وفسادها كله في الاشتغال بما لا يعنيك وما أحسن ما قال بعض العقلاء لما وجدت أنواع الذخائر منصوبة غرضا للمتألف ورأيت الزوال حاكما عليها مدركا لها انصرفت عن جميعها إلى ما لا ينازع فيه الحجا أنه أنفع الذخائر وأفضل المكاسب وأربح المتاجر والله المستعان
قال شقيق بن إبراهيم اغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء اشتغالهم بالنعمة عن شكرها ورغبتهم في العلم وتركهم العمل والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة والاغترار بصحبة الصالحين وترك الإقتداء بفعالهم وادبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها قلت وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة وأصله ضعف اليقين وأصله ضعف البصيرة واصله مهانة النفس ودناءتها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وإلا فلو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكبرها وأصل الشر خستها ودناءتها وصغرها قال تعالى قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها أي أفلح من كبرها وكثرها ونماها بطاعة الله وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله فالنفوس الشريفة لا ترضي من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة لأنها أكبر من ذلك وأجل والنفس المهينة
الحقيرة والخسيسة بالضد من ذلك فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها وهذا معنى قوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته أي على ما يشاكله ويناسبه فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعادته التي ألفها وجبل عليها فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن النعم والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر النعم ومحبته والثناء عليه والتودد إليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله فصل
من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه فأعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتا وهو القلب ووضع في صدره عرشا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستو على سرير القلب وعلى السرير بساط من الرضا ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره وفتح إليه بابا من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس وجعل في وسط البستان شجرة معرفة فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبير كلامه وفهمه والعمل بوصاياه وعلق في ذلك البيت قنديلا أسرجه بضياء معرفته والإيمان به وتوحيده فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ثم أحاط عليه حائطا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان فلا يلحقه إذا هم وأقام عليه حرسا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائما همه إصلاح السكن ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلا وإذا أحس بأدنى شعث في السكن
بادر إلى إصلاحه ولمه خشية انتقال الساكن منه فنعم الساكن ونعم المسكن فسبحان الله رب العالمين كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب وصار مأوى للحشرات والهوام ومحلا لإلقاء الأنتان والقاذورات فيه فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن فيها ولا حافظ لها وهي معدة لقضاء الحاجة مظلمة الأرجاء منتنة الرائحة قد عمها الخراب وملأتها القاذورات فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام الشيطان جالس على سريرها وعلى السرير بساط من الجهل وتخفق فيه الأهواء وعم يمينه وشماله مرافق الشهوات وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة والركون إلى الدنيا والطمأنينة بها والزهد في الآخرة وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع وما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات من الزوائد والتنديبات والنوادر والهزليات والمضحكات والأشعار الغزليات والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات وتزهد في الطاعات وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون والذهاب مع كل ريح واتباع كل شهوة ومن ثمرها العموم والغموم والأحزان والآلام ولكنها متوارية بإشغال النفس بلهوها ولعبها فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق ومعيشة ضنك وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من اتباع الهوى وطول الأمل والغرور ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان ولا مؤذ ولا قذر فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت فمن عرف بيته وقدر الساكن فيه وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه ومن جهل ذلك جهل نفسه وأضاع سعادته وبالله التوفيق
سأل سهل التستري الرجل يأكل في اليوم أكلة قال أكل الصديقين قيل له فأكلتين قال أكل المؤمنين قيل له فثلاث أكلات فقال قل لأهله يبنوا
له معلفا قال الأسود بن سالم ركعتين أصليهما لله أحب إلي من الجنة بما فيها فقيل له هذا خطأ فقال دعونا من كلامكم الجنة رضى نفسي والركعتان رضى ربي ورضى ربي أحب إلي من رضى نفسي العارف في الأرض ريحانه من رياحين الجنة إذا شمها المريد اشتاقت نفسه إلى الجنة قلب المحب بين جلال محبوبه وجماله فإذا لاحظ جلاله هابه وعظمه وإذا لاحظ جماله أحبه واشتاق إليه
فائدة من الناس من يعرف الله بالجود والإفضال والإحسان ومنهم من يعرفه
بالعفو والحلم والتجاوز ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة ومنه من يعرفه بالعزة والكبرياء ومنهم من يعرفه بالرحمة والبر واللطف ومنهم من يعرفه بالقهر والملك ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته وإغاثة لهفته وقضاء حاجته وأعم هؤلاء معرفة من عرفه من كلامه فإنه يعرف ربا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال منزه عن المثال برئ من النقائص والعيوب له كل اسم حسن وكل وصف كمال فعال لما يريد فوق كل شيء ومع كل شيء وقادر على كل شيء ومقيم لكل شيء آمرناه متكلم بكلماته الدينية والكونية أكبر من كل شيء وأجمل من كل شيء أرحم الراحمين وأقدر القادرين واحكم الحاكمين فالقرآن أنزل لتعريف عباده به وبصراطه الموصل إليه وبحال السالكين بعد الوصول إليه
فائدة من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها
عليه واختارها له فيملها العبد ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة وبعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه حتى إذا ضاق ذرعا
بتلك النعمة وسخطها وتبرم بها واستحكم ملكه لها سلبه الله إياها فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه فإذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضاه به وأوزعه شكره عليه فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته عاجز عنها مفوض إلى الله طالب منه حسن اختياره له وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة هذا وهي من أعظم نعم الله عليه فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمه وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلما فكم من سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساع في ردها بجهده وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله قال تعالى ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وقال تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فليس للنعم أعدى من نفس العبد فهو مع عدوه ظهير على نفسه فعدوه يطرح النار في نعمه وهو ينفخ فيها فهو الذي مكنه من طرح النار ثم أعانه بالنفخ فإذا اشتد ضرامها استغاث من الحريق وكان غايته معاتبة الأقدار
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
فصل ومن أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه بالجمال وهي معرفة خواص
الخلق وكلهم عرفه بصفة من صفاته وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته ولو فرضت الخلق كلهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس ويكفي في جماله أنه لو كشف الحجاب
عن وجهه لأحرقت سبحانه ما انتهى إليه بصره من خلقه ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال ويكفي في جماله أنه له العزة جميعا والقوة جميعا والجود كله والإحسان كله والعلم كله والفضل كله ولنور وجهه أشرقت الظلمات كما قال النبي في دعاء الطائف أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة وقال عبد الله بن مسعود ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والأرض من نور وجهه فهو سبحانه نور السموات والأرض ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء وتشرق الأرض بنوره ومن أسمائه الحسنى الجميل وفي الصحيح عنه إن الله جميل يحب الجمال
وجماله سبحانه على أربع مراتب جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال وجمال الأسماء فأسماؤه كلها حسنى وصفاته كلها صفات كمال وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة وأما جمال الذات وما هو عليه فأمر لا يدركه سواه ولا يعلمه غيره وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلي من أكرمه من عباده فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار محجوب بستر الرداء والإزار كما قال رسوله فيما يحكى عنه الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ولما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق باسم الرداء فإنه سبحانه الكبير المتعال فهو سبحانه العلي العظيم قال ابن عباس حجب الذات بالصفات وحجب الصفات بالأفعال فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال وستر بنعوت العظمة والجلال
ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استبدل بجمال الصفات على جمال الذات ومن ههنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله وأن أحدا من خلقه لا يحصي ثناء
عليه بل هو كما أثنى على نفسه وإنه يستحق أن يعبد لذاته ويحب لذاته ويشكر لذاته وأنه سبحانه يحب نفسه ويثني على نفسه ويحمد نفسه وأن محبته لنفسه وحمده لنفسه وثناءه وعلى نفسه وتوحيده لنفسه هو في الحقيقة الحمد والثناء والحب والتوحيد فهو سبحانه كما أثنى على نفسه وفوق ما يثنى به عليه خلقه وهو سبحانه كما يحب كما يحب ذاته يحب صفاته وأفعاله فكل أفعاله حسن محبوب وإن كان في مفعولاته ما يبغضه ويكرهه فليس في أفعاله ما هو مكروه مسخوط وليس في الوجود ما يحب لذاته ويحمد لذاته إلا هو سبحانه وكل ما يحب سواه فإن كانت محبته نابعة لمحبته سبحانه بحيث يحب لأجله فمحبته صحيحة وإلا فهي محبة باطلة وهذا هو حقيقة الإلهية فإن الإله الحق هو الذي يحب لذاته ويحمد لذاته فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه وإنعامه وحلمه وتجاوزه وعفوه وبره ورحمته فعلى العبد أن يعلم انه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله وان يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة إلا هو فيحبه لإحسانه وإنعامه ويحمده على ذلك فيحبه من الوجهين جميعا وكما أنه ليس كمثله شيء فليس كمحبته محبة والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خلق الخلق لأجلها فإنها غاية الحب بغاية الذل ولا يصلح ذلك إلا له سبحانه والإشراك به في هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ولا يقبل لصاحبه عملا
وحمده يتضمن أصلين الإخبار بمحامده وصفات كماله والمحبة له عليها فمن أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامدا ومن أحبه من غير إخبار بمحاسنه لم يكن حامدا حتى يجمع الأمرين وهو سبحانه يحمد نفسه بنفسه ويحمد نفسه بما يجريه على ألسنة الحامدين له من ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فهو الحامد لنفسه بهذا وهذا فإن حمدهم له بمشيئته وإذنه وتكوينه فإنه هو الذي جعل الحامد حامدا والمسلم مسلما والمصلي مصليا والتائب تائبا فمنه ابتدأت النعم وإليه انتهت فابتدأت بحمده وانتهت إلى حمده وهو الذي الهم عبده التوبة وفرح
بها أعظم فرح وهي من فضله وجوده وألهم عبده الطاعة وأعانه عليها ثم أثابه عليها وهي من فضله وجوده وهو سبحانه غني عن كل ما سواه بكل وجه وما سواه فقير إليه بكل وجه والعبد مفتقر إليه لذاته في الأسباب والغايات فإن مالا يكون به لا يكون وما لا يكون له لا ينفع
فصل وقوله في الحديث إن الله جميل يحب الجمال يتناول جمال الثياب
المسؤول عنه في نفس الحديث ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء كما في الحديث الآخر إن الله نظيف يحب النظافة وفي الصحيح إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وفي السنن إن الله يحب أن يرى اثر نعمته على عبده وفيها عن أبي الأحوص الجشمي قال رآني النبي وعلى أطمار فقال هل لك من مال قلت نعم قال من أي المال قلت من كل ما آتى الله من الإبل والشاه قال فلتر نعمته وكرامته عليك فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده فإنه من الجمال الذي يحبه وذلك من شكره على نعمه وهو جمال باطن فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباسا وزينة تجمل ظواهرهم وتقوى تجمل بواطنهم فقال يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خيرا وقال في أهل الجنة ولقاهم نظرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا فجمل وجوههم بالنظرة وبواطنهم بالسرور وأبدانهم بالحرير وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيأة يبغض القبيح من الأقوال والافعال والثياب والهيأة فيبغض القبيح وأهله ويحب الجمال وأهله ولكن ضل في هذا الموضوع فريقان فريق قالوا كل ما خلقه جميل فهو يحب كل ما خلقه ونحن نحب جميع
ما خلقه فلا نبغض منه شيئا قالوا ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة وأنشد منشدهم
وإذا رأيت الكائنات بعينهم ... فجميع ما يحوي الوجود مليح
واحتجوا بقوله تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه وقوله صنع الله الذي أتقن كل شيء وقوله ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت والعارف عندهم هو الذي يصرح بإطلاق الجمال ولا يرى في الوجود قبيحا وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله من قلوبهم والبغض في الله والمعاداة فيه وإنكار المنكر والجهاد في سبيله وإقامة حدوده ويرى جمال الصور من الذكور والإناث من الجمال الذي يحبه الله فيتعبدون بفسقهم وربما غلا بعضهم حتى يزعم أن معبوده يظهر في تلك الصورة ويحل فيها وأن كان اتحاديا قال هي مظهر من مظاهر الحق ويسميها المظاهر الجمالية
فصل وقابلهم في الفريق الثاني فقالوا قد ذم الله سبحانه جمال الصور
وتمام القامة والخلقة فقال عن النافقين وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وقال وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا أي أموالا ومناظر قال الحسن هو الصور وفي صحيح مسلم عنه إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم قالوا ومعلوم أنه لم ينف نظر الإدراك وإنما نفى نظر المحبة قالوا وقد حرم علينا لباس الحرير والذهب وآنية والذهب الفضة وذلك من أعظم جمال الدنيا وقال ولا تمدن عينك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه وفي الحديث البذاذة من الإيمان وقد ذم الله المسرفين والسرف كما يكون في الطعام والشراب يكون في اللباس
وفصل النزاع أن يقال الجمال في الصورة واللباس والهيأة ثلاثة أنواع منه ما يحمد ومنه ما يذم ومنه مالا يتعلق به مدح ولا ذم فالمحمود منه ما كان
لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له كما كان النبي يتجمل للوفود وهو نظير لباس آله الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه والمذموم منه ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه فإن كثيرا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك وأما مالا يحمد ولا يذم هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين
والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين فأوله معرفة وآخره سلوك فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل وجوارحه بالطاعة وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور والمكروهة والختان وتقليم الأظفار فيعرفه بصفات بالجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه فجمع الحديث قاعدتين المعرفة والسلوك
فصل ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق
العزيمة فيصدقه في عزمه وفي فعله قال تعالى فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوم فإذا صدقت عزيمته بقى عليه صدق الفعل وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه وأن لا يتخلف عنه بشيء من ظاهره وباطنه فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره
وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص وصدق التوكل فأصدق الناس من صح إخلاصه وتوكله
فائدة جليلة في القدر
رب ذو إرادة أمر عبدا ذا إرادة فإن وفقه وأراد من نفسه أن يعينه ويلهمه فعل ما أمر به وإن خذله وخلاه وإرادته ونفسه وهو من هذه الحثيثة لا يختار إلا ما تهواه نفسه وطبعه فهو من حيث هو إنسان لا يريد إلا ذلك ولذلك ذمة الله في كتابه من هذه الحثيثة ولم يمدحه إلا بأمر زائد على تلك الحثيثة وهو كونه مسلما ومؤمنا وصابرا ومحسنا وشكورا وتقيا وبرا ونحو ذلك وهذا أمر زائد على مجرد كونه إنسانا وإرادته صالحة ولكن لا يكفي مجرد صلاحيتها إن لم تؤيد بقدر زائد على ذلك وهو التوفيق كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرد صلاحية العين للإدراك إن لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عنها
فصل من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير من الناس وقلبك
خال من تعظيم الله وتوقيره فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها قال تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا أي لا تعاملونه معاملة من توقرونه والتوقير والعظمة ومنه قوله تعالى وتوقروه قال الحسن ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرونه وقال مجاهد لا تبالون عظمة ربكم وقال ابن زيد لا ترون لله طاعة وقال ابن عباس لا تعرفون حق عظمته وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد وهو أنهم لو عظموا الله وعرفوا حق عظمته وحدوه وأطاعوه وشكروه فطاعته سبحانه اجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره
في القلب ولهذا قال بعض السلف ليعظم وقار الله في قلب أحدكم أن يذكره عند ما يستحي من ذكره فيقرن اسمه به كما تقول قبح الله الكلب والخنزير والنتن ونحو ذلك فهذا من وقار الله ومن وقاره أن لا تعدل به شيئا من خلقه لا في اللفظ بحيث تقول والله وحياتك مالي إلا الله وأنت وما شاء الله وشئت ولا في الحب والتعظيم والإجلال ولا في الطاعة فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله بل أعظم كما عليه اكثر الظلمة والفجرة ولا في الخوف والرجاء ويجعله أهون الناظرين إليه ولا يستهين بحقه ويقول هو مبنى على المسامحة ولا يجعله على الفضلة ويقدم حق المخلوق عليه ولا يكون الله ورسوله في حد وناحية والناس في ناحية وحد فيكون في الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه الله ورسوله ولا يعطي الخلوق في مخاطبته قلبه ولبه ويعطى الله في خدمته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه ولا يجعل مراد نفسه مقدما على مراد ربه
فهذا كله من عدم وقار الله في القلب ومن كان كذلك فإن الله لا يلقى له في قلوب الناس وقارا ولا هيبة بل يسقط وقاره وهيبته في قلوبهم وإن وقروه مخافة شره فذاك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم ومن وقار الله أن يستحي من إطلاعه على سره وضميره فيرى فيه ما يكره ومن وقاره أن يستحي منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس
والمقصود أن من لا يوقر الله وكلامه وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره وتعظيمه القرآن والعلم وكلام الرسول صلات من الحق وتنبيهات وروادع وزواجر واردة إليك والشيب زاجر ورادع وموقظ قائم بك فلا ما ورد إليك وعظك ولا ما قام بك نصحك ومع هذا تطلب التوقير والتعظيم من غيرك فأنت كمصاب لم تؤثر فيه مصيبة وعظا وانزجارا وهو يطلب من غيره أن يتعظ وينزجر بالنظر إلى مصابه فالضرب لم يؤثر فيه زجرا وهو يريد الانزجار ممن نظر إلى ضربه من سمع بالمثلات والعقوبات
والآيات في حق غيره وليس الله كمن رآها عيانا في غيره فكيف بمن وجدها في نفسه سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم فآياته في الآفاق مسموعة معلومة وآياته في النفس مشهودة مرئية فعياذا بالله من الخذلان قال تعالى إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم وقال ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله
والعاقل المؤيد بالتوفيق يعتبر بدون هذا ويتم نقائص خلقته بفضائل أخلاقه وأعماله فكلما امتحى من جثمانه أثر زاد إيمانه وكلما نقص من قوى بدنه زاد في قوة إيمانه ويقينه ورغبته في الله والدار الآخرة وإن لم يكن هكذا فالموت خير له لأنه يقف به على حد معين من الألم والفساد بخلاف العيوب والنقائص مع طول العمر فإنها زيادة في ألمه وهمه وغمه وحسرته وإنما حسن طول العمر ونفع ليحصل التذكر والاستدراك واغتنام الغرض والتوبة النصوح كما قال تعالى أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاح معائبه وتدارك فارطه واغتنام بقية أنفاسه فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم وإلا فلا خير له في حياته فإن العبد على جناح سفر إما إلى الجنة وإما إلى النار فإذا طال عمره وحسن عمله كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة فإنه كلما طال السفر أيها كانت الصبابة أجل وأفضل وإذا طال عمره وساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه ونزولا له إلى أسفل فالمسافر إما صاعد وإما نازل وفي الحديث المرفوع خيركم من طال عمره وحسن عمله وشركم من طال عمره وقبيح عمله
فالطالب الصادق في طلبه كما خرب شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته وكلما منع شيئا من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته وكلما ناله هم أو حزن أو غم جعله في أفراح آخرته
فنقصان بدنه ودنياه ولذته وجاهه ورئاسته إن زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده كان رحمة به وخيرا له وإلا كان حرمانا وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنه أو ترك واجب ظاهر أو باطن فإن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة وبالله التوفيق فائده
الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار ومن المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة إنما ذلك بعد انتهاء السفر ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من آنات السفر غير واقفة ولا المكلف واقف وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير
فائدة عند العارفين إن الاشتغال بالمشاهدة عن البر في السير في السر
وقوف لأنه في زمن المشاهدة لو كان صاحب عمل ظاهر أو باطن أو ازدياد من معرفة وإيمان مفصل كان أولى به فإن اللطيفة الإنسانية تحشر على صورة عملها ومعرفتها وهمتها وإرادتها والبدن يحشر على صورة عمله الحسن أو القبيح وإذا انتقلت من هذه الدار شاهدت حقيقة ذلك وعلى قدر قرب قلبك من الله تبعد من الأنس بالناس ومساكنتهم وعلى قدر صيانتك لسرك وإرادتك يكون حفظه وملاك ذلك صحة التوحيد ثم صحة العلم بالطريق ثم صحة الإرادة ثم صحة العمل والحذر
كل الحذر من قصد الناس لك وإقبالهم عليك وأن يعثروا على موضع غرضك فإنها الآفة العظمى
فائدة كل ذي لب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث
جهات أحدها التزيد والإسراف فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضلة وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب وطريق الاحتراز من إعطاء النفس تمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه الثانية الغفلة فإن الذاكر في حصن الذكر فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو فيعسر عليه أو يصعب إخراجه الثالثة تكلف مالا يعنيه من جميع الأشياء
فائدة طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة بل وإلى كل علم وصناعة
ورئاسة بحيث يكون رأسا في ذلك مقتدى به فيه يحتاج إن يكون شجاعا مقداما حاكما على وهمه غير مقهور تحت سلطان تخيله زاهدا في كل ما سوى مطلوبه عاشقا لما توجه إليه عارفا بطريق الوصول إليه والطرق القواطع عنه مقدام الهمة ثابت الجأش لا يثنيه عن مطلوبه لوم لأثم ولا عذل عاذل كثير السكون دائم الفكر غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم قائما بما يحتاج إليه من أسباب معونته لا تستفزه المعارضات شعاره الصبر وراحته التعب محبا لمكارم الأخلاق حافظا لوقته لا يخالط الناس إلا على حذر كالطائر الذي يلتقط الحب بينهم قائما على نفسه بالرغبة والرهبة طامعا في نتائج الاختصاص على بني جنسه غير مرسل شيئا من حواسه عبثا ولا مسرحا
خواطره في مراتب الكون وملاك ذلك هجر العوائد وقطع العلائق الحائلة بينك وبين المطلوب وعند العوام أن لزوم الأدب مع الحجاب خير من اطراح الأدب مع الكشف
فائدة من الذاكرين من يبتديء بذكر اللسان وان كان على غفلة ثم لا
يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطئا على الذكر ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتدىء على غفلة بل يسكن حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه فإذا قوى استتبع لسانه فتواطئا جميعا فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه من غير أن يخلو قلبه منه بل يسكن أولا حتى يحس بظهور الناطق فيه فإذا أحس بذلك نطق قلبه ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرا وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده
فصل أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا أو
تصنع إليه معروفا فأنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه فإنه عون لك على مضرتك ونقصك
فصل اللذة المحرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها مثمرة للألم بعد
انقضائها فإذا اشتدت الداعية منك إليها ففكر في انقطاعها وبقاء قبحها وألمها ثم وازن بين الأمرين
وانظر ما بينهما من التفاوت والتعب بالطاعة ممزوج بالحسن مثمر للذة والراحة فإذا ثقلت على النفس ففكر في انقطاع تعبها وبقاء حسنها ولذتها وسرورها ووازن بين الأمرين وآثر الراجح على المرجوح فإن تألمت بالسبب فانظر إلى ما في المسبب من الفرحة والسرور واللذة يهن عليك مقاساته وإن تألمت بترك اللذة المحرمة فانظر إلى الألم الذي يعقبه ووازن بين الألمين وخاصية العقل تحصيل أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما واحتمال أصغر الألمين لدفع أعلاهما
وهذا يحتاج إلى علم بالأسباب ومقتضياتها وإلى عقل يختار به الأولى وإلا نفع به له منها فمن وفر قسمه من العقل والعلم واختار الأفضل وآثره ومن نقص حظه منهما أو من أحدهما اختار خلافه ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدا منهما إلا بمشقة فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما
فصل لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر وله عليه فيه
نهي وله فيه نعمة وله به منفعة ولذة فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدى شكر نعمته عليه فيه وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به وان عطل أمر الله ونهيه فيه عطله الله من انتفاعه بذلك العضو وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته وله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه تقربه منه فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه وان شغله بهوى أرواحه وبطالة تأخر فالعبد لا يزال في التقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق البتة قال تعالى لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر
فصل أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع
فافترقوا فرقتين فرقة قابلت أمره بالترك ونهيه بالارتكاب وعطاءه بالغفلة عن الشكر ومنعه
بالسخط وهؤلاء أعداؤه وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك وقسم قالوا إنما نحن عبيدك فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة وان نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه وان أعطيتنا حمدناك وشكرناك وان منعتنا تضر إليك وذكرناك فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا فإذا مزقه عليهم الموت صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم
فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر مع من تميل منهما ومع من تقاتل إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين فأنت مع أحدهما لا محالة فالفريق الأول استغشوا الهوى فخالفوه واستنصحوا العقل فشاوروه وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له وجوارحهم للعمل بما أمروا به وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها واهتموا بالله وطاعنه على قدر حاجتهم إليها وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها فعجل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها أن آنسهم بنفسه وأقبل بقلوبهم إليه وجمعها على محبته وشوقهم إلى لقائه ونعمهم بقربه وفرغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها والغم من خوف ذهابها فاستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدانهم والملأ الأعلى بأرواحهم
فصل التوحيد أصلف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه فأدنى شيء يخدشه ويدنسه
ويؤثر فيه فهو كأبيض ثوب يكون يؤثر فيه أدنى أثر وكالمرآة الصافية جدا أدنى شيء يؤثر فيها ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية فإن بادر صاحبه
وقلع ذلك الأثر بضده وإلا استحكم وصار طبعا يتعسر عليه قلعه
وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال ولكن من الناس من يكون توحيده كبيرا عظيما ينغمر فيه كثير من تلك الآثار ويستحيل فيه بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده فيظهر تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير وأيضا فإن المحل الصافي جدا يظهر لصاحبه مما يدنسه مالا يظهر في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه فيتداركه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به وأيضا فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جدا أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة وأيضا فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليست له مثل تلك المحاسن كما قيل
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وأيضا فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الانقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الانقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه كما يشاهد ذلك في الإخلاط الغالبة وإحالتها لصالح الأغذية إلى طبعها
فائدة ترك الشهوات لله وإن أنجى من عذاب الله وأوجب الفوز برحمته
فذخائر الله وكنوز البر ولذة الأنس والشوق إليه والفرح والابتهاج به لا يحصل في قلب فيه غيره وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم فإن سبحانه أبى أن يجعل
ذخائره في قلب فيه سواه وهمته ومتعلقة بغيره وإنما يودع ذخائره في قلب يرى الفقر غنى مع الله والغنى فقرا دون الله والعز ذلا دونه والذل عزا ومعه والنعيم عذابا دونه والعذاب نعيما معه وبالجملة فلا يرى الحياة إلا به ومع الموت والألم والهم والغم والحزن إذا لم يكن معه فهذا له جنتان جنة في الدنيا معجلة وجنة يوم القيامة
فائدة الإنابة هي عكوف القلب على الله عز و جل كاعتكاف البدن في المسجد
لا يفارقه وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الخنفاء لقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف فكان حظ قومه العكوف على التماثيل وكان حظه العكوف على الرب الجليل والتماثيل جمع تمثال وهو الصور الممثلة فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإرادتهم على تماثيلهم فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها فهو نظير عكوف الأصنام عليها ولهذا سماه النبي عبدا لها ودعا عليه بالتعس والنكس فقال تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش
الناس في هذه الدار على جناح سفر كلهم وكل مسافر فهو ظاعن إلى مقصده ونازل على من يسر بالنزول عليه وطالب الله والدار الآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره ونازل عليه عند القدوم عليه فهذه همته في سفره وفي
انقضائه يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي وقالت امرأة فرعون رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة فإن الجار قبل الدار من كلام الشيخ على
قيل لي في نوم كاليقظة أو يقظة كالنوم لا تبد فاقة إلى غيري فأضاعفها عليك مكافأة لخروجك عن حدك في عبوديتك ابتليتك بالفقر لتصير ذهبا خالصا فلا تزيفن بعد السبك حكمت بالفقر ولنفسي بالغنى فان وصلتها بي وصلتك بالغنى وان وصلتها بغيري حسمت عنك مواد معونتي طردا لك عن بابي لا تركن إلى شيء دوننا فإنه وبال عليك وقاتل لك إن ركنت إلى العمل رددناه عليك وإن ركنت إلى المعرفة نكرناها عليك وإن ركنت إلى الوجد استدرجناك فيه وان ركنت إلى العلم أو قفناك معه وان ركنت إلى المخلوقين وكلناك إليهم ارضنا لك ربا نرضاك لنا عبدا
فائدة الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره لها أسباب أحدها يلوح
له عند سماع درجة ليست له فيرتاح إليها فتحدث له الشهقة فهذه شهقة شوق وثانيها أن يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفا وحزنا على نفسه وهذه شهقة خشية وثالثها أن يلوح له نقص فيه لا يقدر على دفعه فيحدث له ذلك حزنا فيشهق شهقة حزن ورابعها أن يلوح له كمال محبوبه ويرى الطريق إليه مسدودة عنه فيحدث ذلك شهقة أسف وحزن وخامسها أن يكون قد توارى عنه محبوبه واشتغل بغيره فذكره السماع محبوبه فلاح له جماله ورأى الباب مفتوحا والطريق ظاهرة فشهق فرحا وسرورا بما لاح وبكل حال فسبب الشهقة قوة الوارد وضعف
المحل عن الاحتمال والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلا ولا يظهر عليه وذلك أقوى له وأدوم فإنه إذا أظهره ضعف أثره وأوشك انقطاعه هذا حكم الشهقة من الصادق فإن الشاهق إما صادق وإما سارق وإما منافق
قاعدة جليلة أصل الخير والشر من قبل التفكر فإن الفكر مبدأ الإرادة
والطلب في الزهد والترك والحب والبغض وانفع الفكر الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار ويليها أربعة فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما ولاهما وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت وهذه الأفكار تعلى همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد وبازاء هذه الأفكار الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه ولا أعطى الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه ومنها الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالا ولا شرفا كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي واكثر علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غايتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه ومنها الفكر في الشهوات
واللذات وطرق تحصيلها وهذا وإن كان لنفس فيه لذة لكن لا عاقبة له ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون كالفكر فيما إذا صار ملكا أو وجد كنزا أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفل ومنها الفكر في جزيئات أحوال الناس وما جراياتهم ومداخلهم ومخارجهم وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة ومنها الفكر في دقائق الحيل والمكر التي يتوصل بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها البتة وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها ويكتفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أولى به وأعود عليه بالنفع عاجلا وآجلا
قاعدة الطلب لقاح الإيمان فإذا اجتمع الإيمان والطلب أثمر العمل
الصالح وحسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه فإذا اجتمعا أثمر إجابة الدعاء والخشية لقاح المحبة فإذا اجتمعا أثمر امتثال الأوامر وأجتناب والنواهي والصبر لقاح اليقين فإذا اجتمعا أورثا الإمامة في الدين قال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الإخلاص فإذا اجتمعا أثمر قبول العمل والاعتداد به والعمل لقاح العلم فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة وإن انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئا والحلم لقاح العلم فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة وحصل الانتفاع بعلم العالم وإن انفرد
أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع والعزيمة لقاح البصيرة فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة وبلغت به همته من العلياء كل مكان فتخلف الكمالات إما من عدم البصيرة وإما من عدم العزيمة وحسن القصد لقاح لصحة الذهن فإذا فقدا فقدا الخير كله وإذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات وصحة الرأي لقاح الشجاعة فإذا اجتمعا كان النصر والظفر وإن قعدا فالخذلان والخيبة وإن وجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز وإن حصلت الشجاعة بلا رأي فالتهور والعطب والصبر لقاح البصيرة فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما قال الحسن إذا شئت أن ترى بصير إلا صبر له رأيته وإذا شئت أن ترى صابرا إلا بصيرة له رأيته فإذا رأيت صابرا بصيرا فذاك والنصيحة لقاح العقل فكلما قويت النصيحه قوى العقل واستنار والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر إذا اجتمعا انتجا الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والتقوى لقاح التوكل فإذا اجتمعا استقام القلب ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الأمل فإذا اجتمعا فالخير كله في اجتماعهما والشر في فرقتهما ولقاح الهمة العالية النية الصحيحة فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد
قاعدة للعبد بين يدي الله موقفان موقف بين يديه في الصلاة وموقف بين
يديه يوم لقائه فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف قال تعالى ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا
قاعدة اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان بل ولكل حي فلا تذم من
جهة كونها لذة وإنما تذم ويكون تركها خيرا من نيلها وانفع إذا تضمنت فوات لذة
أعظم منها وأكمل أو أعقبت ألما حصوله اعظم من ألم فواتها فههنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل ضمن عرف العقل بين فمتى علاف التفاوت بين اللذتين والألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر هان عليه ترك أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدوم ولذة الدنيا أصغر واقصر وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا والمعول في ذلك على الإيمان واليقين فإذا قوى اليقين وباشر القلب آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة واحتمل الألم الأسهل على الأصعب والله المستعان
فائدة قوله تعالى وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين
جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في المتملق له والإقرار له بصفة الرحمة وإنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته وهو فقره ومتى وجد المبتلى هذا كشف عنه بلواه وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره
فائدة قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال
أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستلام للرب وإظهار الافتقار إليه والبراءة من موالاة غيره سبحانه وكون الوفاة على الإسلام اجل غايات العبد وان ذلك بيد الله لا بيد العبد والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء
فائدة قول الله تعالى
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه متضمن لكنز من الكنوز وهو أن يطلب كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه وقوله وإن إلى ربك المنتهى متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه فهو غاية كل مطلوب وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه فاجتمع ما يراد منه كله في قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه واجتمع ما يراد له كله في قوله وان إلى ربك المنتهى فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى
وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد
العبد دائما متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرا وباطنا ناله اللطف
ظاهرا وباطنا وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل نصيبه من اللطف في الباطن فإن قلت وما اللطف الباطن فهو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع فيستخذى بين يدي سيده ذليلا له مستكينا ناظرا إليه بقلبه ساكنا إليه بروحه وسره قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له وأنه عبد محض يجري عليه سيده أحكامه رضى أو سخط فإن رضى نال الرضا وإن سخط فحظه السخط فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها
فائدة جليلة لا يزال منقطعا عن الله حتى تتصل إرادته ومحبته بوجه
الأعلى والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده فلا يحجبها شيء دونه وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك وأن يتصل ذكره به سبحانه فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره فحينئذ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه فيفعل الطاعة لا أنه أمر بها وأحبها ويترك المناهي لكونه نهى عنها وابغضها فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه وحقيقة زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة ويتصل التوكل والحب به بحيث يصير واثقا به سبحانه مطمئنا إليه راضيا بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون سواه ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده فلا يخاف غيره ولا يرجوه ولا يفرح به كل الفرح ولا يسر به غاية السرور وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون
القلب إلا به سبحانه وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها وأمر بالفرح بفضله ورحمته وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه ملبس عليه في معرفته وإرادته وسلوكه
قاعدة جليلة قد فكرت في هذا الأمر فإذا أصله أن تعلم أن النعم
كلها من الله وحده نعم الطاعات ونعم اللذات فترغب إليه أن يلهمك ويوزعك شكرها قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون وقال فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون وقال واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون وكما أن تلك النعم منه ومن ومجرد فضله فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده وتخليته بينه وبين نفسه وإن لم يكشف ذلك عن عبده فلا سبيل له الى كشفه عن نفسه فإذا هو مضطر إلى التضرع والابتهال إليه أن تدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه وإذا وقعت بحكم المقادير ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها فلا ينفك عن العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة ولا فلاح له إلا بها الشكر وطلب العافية والتوبة النصوح
ثم فكرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة وليسا بيد العبد بل بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء فإن وفق عبده اقبل بقلبه إليه وملأه رغبة ورهبة وأن خذله له تركه ونفسه ولم يأخذ بقلبه إليه ولم يسأله ذلك وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن
ثم فكرت هل للتوفيق والخذلان سبب أم هما بمجرد المشية لا سبب لهما فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحيوان وكذلك النوعان كل منهما متفاوت في القبول فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول لكن ليس بين النوع الواحد م ن التفاوت كما بين النوع الإنساني فإذا كان المحل قابلا للنعمة بحيث يعرفها ويعرف قدرها وخطرها ويشكر المنعم بها ويثني عليه بها ويعظمه عليها ويعلم أنها من محض الجود وعين المنة من غير أن يكون هو مستحقا لها ولا هي له ولا به وإنما هي لله وحده وبه وحده فوحده بنعمته إخلاصا وصرفها في محبته شكرا وشهدها من محض جوده منه وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجز أو ضعفا وتفريطا وعلم أنه أن أدامها عليه فذلك محض صدقته وفضله وإحسانه وإن سلبه إياها فهو أهل لذلك مستحق له وكلما زاده من نعمه ازداد زلالة وانكسارا وخضوعا بين يديه وقياما بشكره وخشيته له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيته شكرها كما سلب نعمته عمن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها فإن لم يشكر نعمته وقابلها بضد ما يلق أن يقابل به سلبه إياها ولا بد قال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وهم الذين عرفوا قدر النعمة وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المنعم بها وأحبوه وقاموا بشكره وقال تعالى وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته
فصل وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة بحيث لو
وافته النعم لقال هذا لي وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال تعالى قال إنما أوتيته على علم عندي أي على علم علمه عندي استحق به ذلك وأستوجبه واستأهله قال
الفراء أي على فضل عندي إني كنت أهله ومستحقا له إذ أعطيته وقال مقاتل يقول على خير علمه الله عندي وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل سليمان بن داود فيما أوتي من الملك ثم قرأ قوله تعالى هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ولم يقل هذا من كرامتي ثم ذكر قارون وقوله إنما أوتيته على علم عندي يعني أن سليمان رأى ما أوتيته من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلى به شكره وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه وكذلك قوله سبحانه ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي أي أنا أهله وحقيق به فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه والمؤمن يري ذلك ملكا لربه وفضلا منه من به على عبده من غير استحقاق منه بل صدقة تصدق بها على عبده وله أن لا يتصدق بها فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئا هو له يستحقه عليه فإذا لم يشهد ذلك رأي فيه أهلا ومستحقا فأعجبه نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها فكان حظها منها الفرح والفخر كما قال تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعتاها منه إنه ليؤس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشف عنه البلاء قوله ذهب السيئات عني لو أنه قال اذهب الله السيئات عني برحمته ومنه لما ذم على ذلك بل كان محمودا عليه ولكنه غفل عن المنعم بكشفها ونسب الذهاب إليها فرح وافتخر فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال تعالى إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فاخبر سبحانه أن محلهم غير قابل لنعمته ومع عدم القبول ففيهم مانع آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها
ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خلقت عليه في الأصل وإهمالها وتخليتها فأسباب الخذلان منها وفيها وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة فأسباب التوفيق منه ومن فضله وهو الخالق لهذه وهذه كما خلق أجزاء الأرض هذه قابلة للنبات وهذه غير قابلة له وخلق الشجر هذه تقبل الثمرة وهذه لا تقبلها وخلق النحلة قابلة لأن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه والزنبور غير قابل لذلك وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وحجته وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضده وهو الحكيم العليم قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس احمد بن تيمية رحمه الله
فصل قال الله تعالى
ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم احسن الذي كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين وقال الله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل
الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله من كفر بالله من بعد إيمانه قال بعد ذلك ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول أحدهم آمنا وإما أن لا يقول آمنا بل يستمر على عمل السيئات فمن قال آمنا امتحنه الرب عز و جل وابتلاه وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته فإن أحدا لن يعجز الله تعالى هذه سنته تعالى يرسل الرسل إلى الخلق فيكذبهم الناس ويؤذنهم قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الأنس والجن وقال تعالى كذلك ما أني الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون وقال تعالى ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه فابتلى بما يؤلمه وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم فلا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في بد من الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة والآخرة والكافر تحصل له النعمة ابتداء ثم يصير في الألم سال رجل الشافعي فقال يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلي فقال الشافعي لا يمكن حتى يبتلي فإن الله ابتلي نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة وهذا اصل عظيم فينبغي للعاقل أن يعرفه وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له من أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها وإن لم يوافقوهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتاره من غيرهم ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئا كثيرا كقوم يريدون الفواحش والظلم
ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وهم في مكان مشترك كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم وهم لا يتمكنون مما لا يريدون إلا بموافقة ألئك أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم فيطلبون من أولئك الموافقه أو السكوت فإن وافقوهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كما أولئك يخافونه ابتداء كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل إما في الخبر وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم فإن لم يجبهم آذوه وعادوه وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه وإلا عذب بغيرهم فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية ويروي موقوفا ومرفوعا من أرضي الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس وفي لفظ رضي الله عنه وأرضي عنه الناس ومن أرضي الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا وفي لفظ عاد حامده من الناس ذاما
وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم ثم تكون العاقبة في الدنيا والآخرة كما جرى للرسل واتباعهم مع من آذاهم وعاداهم مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاتها وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطان المخالفة كالمكره على الكفر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا أنه لا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس فلا خلاص لأحد مما يؤذيه البتة ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع
انه لا بد أن يبتلي الناس والابتلاء يكون بالسراء والضراء ولا بد أن يبتلى الإنسان بما يسره وبما يسوؤه فهو محتاج إلى أن يكون صابرا شكورا قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملا وقال تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون وقال تعالى فأما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين هذا في آل عمران وقد قال قبل ذلك في البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله إلا إن نصر الله قريب وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كبر الامتحان إذ كانت النفس جاهلة ظالمة وهي منشأ كل شر يحصل للعبد فلا يحصل له شر إلا منها قال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وقال تعالى أو لما أصابتكم مصيبة من مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيدكم ويعفو عن كثير وقال تعالى ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت وفي كل ذلك يقول إنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون وأول من اعترف بذلك أبواهم قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وقال لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وإبليس إنما اتبعه الغواة منهم كما قال فبما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وقال تعالى إن عبادي
ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين والغي اتباع هوى النفس وما زال السلف معترفون بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود أقول فيها برأبي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه وفي الحديث الإلهي حديث أبي ذر الذي يرويه الرسول عن ربه عز و جل يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وفي الحديث الصحيح حديث سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا آله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة وفي حديث أبي بكر الصديق من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو أن رسول الله علمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه اشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وان أقترف على نفسي سوأ أو أجرة إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك وكان النبي يقول في خطبته الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وقد قال النبي إني أخذ بحجركم عن النار وأنتم تهافتون تهافت الفراش شبههم بالفراش لجهله وخفة حركته وهي صغيرة النفس فإنها جاهلة سريعة الحركة وفي الحديث مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة وفي حديث آخر للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه أنه استخفه قال عن فرعون إنه استخف قومه فأطاعوه وقال تعالى فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون
فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش وصاحب اليقين ثابت يقال أيقن إذا كان مستقرا واليقين واستقرار لإيمان في القلب علما وعملا فقد يكون علم العبد جيدا لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش قال الحسن البصري إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك قال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ولهذا تشبه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادها وغضبها وشهوتها من النار والشيطان من النار وفي السنن عن النبي أنه قال الغضب من الشيطان والشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوظأ وفي الحديث الآخر الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام وفي الحديث المتفق على صحته إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وفي الصحيحين أن رجلين استبا عند النبي وقد اشتد غضب أحدهما فقال النبي إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقد قال تعالى ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم وقال تعالى خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم وقال تعالى ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون
تم الكتاب والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على رسولنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وتابعيه والمقتدين بآثارهم إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق