السبت، 23 يونيو 2018

المشاركة 19. النص والتاريخ: منظومة القيم القرآنية وقضايا التأويل والتفسير الدكتور طه جابر العلواني

قلت المدون : في هذا المقال يؤكد الدكتور طه جابر العلواني علي أن التأويل ليس هو بالمعني  الذي تداوله الفقهاء والمحاربون في قمم الخلاف والاختلاف بل هو نقل النص القراني من التنظير إلي التطبيق هو  هو كما جاء بحروفه وكلماته وعباراته المنزلة بطريق الوحي وانظر أيضا  الرابط 👤 حيث يقول :   ↧↧↧↧
..........
           ↧

{{حدد القرآن الكريم التأويل أدق تحديد، وذلك في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (الأعراف: 52)، 

ثم يفصل الكلام فيقول: فالتأويل في القرآن المجيد أن يبرز معنى القول في واقع الأمر فينتقل من دائرة المعرفة إلى دائرة الواقع المشاهد، فهناك مرتبة علم اليقين، ومرتبة عين اليقين، فيتضافر علم اليقين القطعي في ثبوته ودلالاته، ليبرز اليقين إلى ساحة الواقع، ذلك ما فتح الله به علينا، والله أعلى وأجل وأعلم.


ثم يؤكد : والخلاف جاء من اختراق لغوي مبكر، حيث إنَّ اللغة العربية قد اقتبس الجامعون لها أمثال الأصمعي وابن سلام ورؤبة وسواهم، اعتمدوا في جمعها على القاموس البدوي، وظنوا أن تأكيدات القرآن الكريم على أنه بلسان عربي مبين ناجمة عن اعتراف بهيمنة اللسان العربي على لسان القرآن، وليس الأمر كذلك؛ لأن كل تلك الآيات سيقت في معرض التنديد لبلادة المشركين وعدم إدراكهم لمعاني هذا القرآن، ولو عقلوا وتذكروا وتفكروا وتدبروا لتمكنوا من إدراك تحدي وتفوق لسانه على لسانهم، فمعجزته قائمة على اتصاله بلغة العرب، ولسانهم، وانفصاله في سموه وإعجازه وتحديه عنه. فالذين فهموا ذلك بهذا الشكل أدركوا خصوصية لسان القرآن وتفوقه الكامل على لسان العرب، وأنه المتصل المنفصل بذلك اللسان، والذين أخذوا الأمر على ظواهره ولم يلتفتوا إلى ما فيه جعلهم ذلك يُحكِّمون لغات ولهجات البدو في لسان القرآن ومعانيه، وقد أدى ذلك ببعضهم إلى انحرافات في غاية الخطورة، وذلك حين زعم بعضهم أن في القرآن لحنا وشذوذا وما إلى ذلك، مما يعتبر القرآن بريئا منه براءة تامة، وبعيدا عنه البعد كله، فتأمل ذلك وتتبعه فيما كتبناه في لسان القرآن الكريم عن النقاد الكبار أمثال الفخر الرازي وابن تيمية وأبي علي الفارسي والقاضي الباقلاني وأمثالهم.انتهي كلامه كعرض موجز وتفصيله آتٍ بعد أسطرٍ بمشيئة الله↧↧
...........
النص والتاريخ: منظومة القيم القرآنية وقضايا التأويل والتفسير
حوار مع فضيلة الدكتور طه جابر العلواني
حاوره: د. محمد الناصري

في هذا الحوار الفكري الشامل لفضيلة الدكتور طه جابر العلواني مع مجلة الإحياء أبرز كيف أن التفسير يدور حول البناء اللفظي للآيات الكريمة، أما التأويل فيدور حول المعاني، وأن التوحيد يؤسس للعدل والمساواة، والحرية، وعليه تقوم التزكية، فمن لم يؤمن بوحدانية الله تهون عليه نفسه، فيمكن أن يعظم أي شيء. وأن العمران حق أمنا الأرض علينا؛ فنحن منها خلقنا، وإليها نعود، ومنها سنخرج تارة أخرى، فمن حقها علينا أن نعمرها، وأن الدعوة تمنع تقسيم الأرض، فالأرض كلها مسجد وطهور. وأن المقاصد القرآنية العليا الحاكمة على كل شيء في نظرنا المتواضع خمسة هي: التوحيد، والتزكية، والعمران، والأمة، والدعوة، وأن الردة لو اقتصرت على تغيير إنسان فرد لمعتقده دون أن تتعداه إلى محاربة دين الجماعة؛ فلا إكراه في الدين، وأن التفسير الموضوعي قديم حديث؛ فالفقهاء هم الذين ابتكروا عملية التفسير الموضوعي، وجمعوا آيات الأحكام، ووزعوها مقسمة على شؤون وشجون الحياة. كما أبرز فضيلته كيف أن الرسول "ص" قد أسس أمة قائمة على إيمان ومنهاج وشرعة، وترك لها اختيار أشكال النظم التي تناسبها..

ـ احتل مفهوم التأويل حيزا معتبرا في المجال التداولي العربي الإسلامي، وارتبطت به المعارك الكلامية المعروفة، وجرّ المسلمين إلى كثير من الجدال والصراع، حتى إنّ ابن القيم رَد إليه ما أصاب المسلمين من فرقة وخِلاف! بل إن هناك من يعتبره من أكبر العُقد التي تقف حاجزا أمام تشكيل بناء فكري إسلامي متماسك. فما هو تحديدكم لمفهوم التأويل في ارتباطه بالخطاب القرآني؟ وما طبيعة الخلاف الحاصل في مضمونه في التراث الإسلامي؟ وما هي علاقته بمصطلح التفسير؟

حدد القرآن الكريم التأويل أدق تحديد، وذلك في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (الأعراف: 52)،
فالتأويل في القرآن المجيد أن يبرز معنى القول في واقع الأمر فينتقل من دائرة المعرفة إلى دائرة الواقع المشاهد، فهناك مرتبة علم اليقين، ومرتبة عين اليقين، فيتضافر علم اليقين القطعي في ثبوته ودلالاته، ليبرز اليقين إلى ساحة الواقع، ذلك ما فتح الله به علينا، والله أعلى وأجل وأعلم.


والخلاف جاء من اختراق لغوي مبكر، حيث إنَّ اللغة العربية قد اقتبس الجامعون لها أمثال الأصمعي وابن سلام ورؤبة وسواهم، اعتمدوا في جمعها على القاموس البدوي، وظنوا أن تأكيدات القرآن الكريم على أنه بلسان عربي مبين ناجمة عن اعتراف بهيمنة اللسان العربي على لسان القرآن، وليس الأمر كذلك؛ لأن كل تلك الآيات سيقت في معرض التنديد لبلادة المشركين وعدم إدراكهم لمعاني هذا القرآن، ولو عقلوا وتذكروا وتفكروا وتدبروا لتمكنوا من إدراك تحدي وتفوق لسانه على لسانهم، فمعجزته قائمة على اتصاله بلغة العرب، ولسانهم، وانفصاله في سموه وإعجازه وتحديه عنه.

فالذين فهموا ذلك بهذا الشكل أدركوا خصوصية لسان القرآن وتفوقه الكامل على لسان العرب، وأنه المتصل المنفصل بذلك اللسان، والذين أخذوا الأمر على ظواهره ولم يلتفتوا إلى ما فيه جعلهم ذلك يُحكِّمون لغات ولهجات البدو في لسان القرآن ومعانيه، وقد أدى ذلك ببعضهم إلى انحرافات في غاية الخطورة، وذلك حين زعم بعضهم أن في القرآن لحنا وشذوذا وما إلى ذلك، مما يعتبر القرآن بريئا منه براءة تامة، وبعيدا عنه البعد كله، فتأمل ذلك وتتبعه فيما كتبناه في لسان القرآن الكريم عن النقاد الكبار أمثال الفخر الرازي وابن تيمية وأبي علي الفارسي والقاضي الباقلاني وأمثالهم.
فالذين فهموا ذلك بهذا الشكل أدركوا خصوصية لسان القرآن وتفوقه الكامل على لسان العرب، وأنه المتصل المنفصل بذلك اللسان، والذين أخذوا الأمر على ظواهره ولم يلتفتوا إلى ما فيه جعلهم ذلك يُحكِّمون لغات ولهجات البدو في لسان القرآن ومعانيه، وقد أدى ذلك ببعضهم إلى انحرافات في غاية الخطورة، وذلك حين زعم بعضهم أن في القرآن لحنا وشذوذا وما إلى ذلك، مما يعتبر القرآن بريئا منه براءة تامة، وبعيدا عنه البعد كله، فتأمل ذلك وتتبعه فيما كتبناه في لسان القرآن الكريم عن النقاد الكبار أمثال الفخر الرازي وابن تيمية وأبي علي الفارسي والقاضي الباقلاني وأمثالهم.


 
علاقته بمصطلح التفسير، التفسير ببساطة شديدة يدور حول البناء اللفظي للآيات الكريمة، والتأويل يدور حول المعاني، فهما ينفصلان في هذه الناحية، فعلم يهتم باللفظ وأساليبه وطرائق التعبير وبناء الجمل، وعلم آخر يهتم بالمعاني والمغازي والعلاقة بين الحقائق الذهنية واللفظية والواقعية.

سر الغلبة الحاصلة لمفهوم التفسير في الفضاء التداولي داخل الثقافة العربية الإسلامية، ليست هناك أسرار فيما أرى وراء هذه الظاهرة سوى ما هو معروف من كثرة اهتمام الناس والباحثين والأدباء والنقاد بالمسائل اللفظية، وظنهم أن علوم البلاغة ومعارف البلاغيين قد استوفت ما يتعلق بالمعاني وكفت ووفت، فانصرفوا إلى البنى اللفظية، كما أن من سبقنا من أهل الكتب السابقة كانوا قد اهتموا بتفاسير كتبهم أكثر من الاهتمام بالمعاني وتركوا المعاني للغويين والبلاغيين.

والجدل الذي قاده بعض مشاهير الأدباء أمثال طه حسين وتلامذته منذ 1927 حتى يومنا هذا هو جدل مورد إلى الساحة العربية الإسلامية من جدل خارجي دار في المدارس اللاهوتية الغربية، وما يزال يدور منذ قرون.



ـ أكّد الأولون أنه لابد لمن يرغب في قراءة القرآن وتفسيره أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط بعضها يخص العلم، وبعضها يخص العمل. في مقابل هذا الرأي الذي لا يسمح بالتأويل إلا باستجماع شروطه، ويعترف بضرورة وجود قواعد تنظم فعل التأويل، نجد رأيا آخر يرفض البتة قوننة التأويل بحجة أن "النص مقدس والتأويل حر". أمام هذا التضارب في الآراء بخصوص قضية ضوابط وشروط التأويل، ما هو، في اعتقادكم، السبيل الأقوم لاستخراج المكنون القرآني، وتحقيق هدايته للناس عبر تنزيل قيمه إلى الواقع وتفعيلها فيه؟

أولًا: إنَّ القرآن المجيد وصف من منزله، جل شأنه، بأنَّه ميسر للذكر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17)، وأنه مبين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ (النساء: 173)، ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ (المائدة: 17)، وآياته بينات: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ..﴾ (يونس: 15) ومبينات: ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ (الطلاق: 11) وأنه نزل ليبين للناس الذي يختلفون فيه، وهدى ورحمة. وقال جل شأنه: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ (مريم: 98).

وأكد الله، تبارك وتعالى، تيسيره للقرآن الكريم؛ ولذلك فقد اختلف العلماء قديما وحديثا فيما إذا كان القرآن يحتاج التفسير أو لا يحتاجه، فهو المفسر لغيره، والمبين لسواه، لكن اختلافات المسلمين وظهور الفرق والطوائف، ومحاولة الكثيرين من رجالات الفرق الانتصار لأنفسهم وفرقهم على غيرها جعل الجميع يضعون شروطا يتشددون فيها في الكثير الأغلب ويتساهلون أحيانا ليحدوا من قدرة مخالفيهم على الرجوع إلى القرآن المجيد، والاستنصار به على الطوائف الأخرى، فظلوا يضعون في شروط المفسر والتفسير ويزيدون فيها، وينقصون منها تبعا لذلك.

وأوردت أحاديث وآثار وأخبار في التحذير من تدبر القرآن والتفكير به، حتى كادوا يحرمون أو يمنعون الرجوع إليه وتدبره وتلاوته إلا على أنفسهم وعلماء طوائفهم. وتجاهلوا الشروط التي وضعها القرآن نفسه لتيسير تدبره، وفهمه، ومنها؛ تطوير وتزكية قوى الوعي لدى القارئ، بحيث لا يكون في آذانه وقر، ولا على قلبه غشاوة، ولا على سمعه وبصره من أغطية الذنوب والمعاصي ما يحول بينه وبين فهم القرآن وتدبر آياته، فأهملوا ما أمروا به، وانشغلوا فيما ابتكروه وابتدعوه من شروط، وذلك قد حال دون العناية بتدبر القرآن المجيد حق التدبر ومحاولة الوصول إلى معانيه، والغوص وراء لآليه.


ـ في إطار الحديث عن ضوابط التأويل، ألا ترون أنه لا ينبغي اقتصار الحديث فيها على شروط المفسر فحسب، بل يجب أن يوجد إطار عام لممارسة التأويل، لأن الاقتصار على المفسر ووضع شروط له لا يضمن بالضرورة انضباط التأويل، إذا لم يلزم بمنهجية أصيلة تقوم على أصول راسخة وقواعد ثابتة، فينضبط بها التفسير من دون وقوع أخطاء تفسيرية؟

ليس هناك أحد لا في القديم ولا في الحديث اقتحم ساحة التفسير أو التأويل دون وجود أية مؤهلات لديه، أو دوافع، بقطع النظر عن اختلاف الآخرين معه أو اتفاقهم وإياه، فالتفسير والتأويل مثلهما مثل أي عمل فكري أو معرفي يتوقف على مؤهلات وطاقات ومقدمات تسمح له بممارسة محاولات التأويل والتفسير، والأمة لها مصاف كثيرة وغرابيل أكثر تستطيع بها أن تميز بين المقبول والمردود، وما يستحق أن يسلك في عداد تفسير أو تأويل، وما لا يستحق أن يدرج تحت أي منهما، لكن العقلية الذرائعية خلقت في الناس حذرا لبعضه ما يبرره وما لا يبرره، فجعلتنا دائما قبل أن نفعل شيئا نهرع إلى الشروط والضوابط لنوقف أي اتجاه يمكن أن يسمح أو يؤدي إلى ظهور أفكار تخالف آراءنا أو أفكارنا.

إن الأمة بفضل الله ذكية واعية، حتى في عصور الظلام، فحين يفسر مخبول من غلاة الروافض قول الله جل شأنه: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ (البقرة: 66)، بأن المراد أم المؤمنين عائشة، فالأمة كلها من أصغر جاهل وعامي فيها إلى أكبر عالم تستهجن هذا التفسير وترفضه ولا تقبله بحال من الأحوال. وحين يقول المفسر في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 142) أنه أراد وجعلناكم أئمة وسطا، لتكونوا شهداء على الناس، فإنَّ الأمة ترفض مثل هذا التفسير، وتلقي به خارجا بعيدا عن ساحة التداول المعرفي، دون حاجة إلى أن نقول إن هذا المفسر لم يكن مؤهلا ولا مستوفيا لشروط التفسير، أو ضوابطه.

إن كثرة الضوابط والشروط والذرائع وسد الذرائع أدت بنا في مراحل كثيرة إلى هجر القرآن الكريم والامتناع عن تدبره، والاتكال على المتدبرين بالوكالة من مفسرين ومؤولين ومن إليهم. وقد آن الأوان أن نخلي بين الناس وبين كتاب الله ربهم المبين البين، ذي الآيات المبينات البينات، ليتلوه حق تلاوته، ويتدبروه حق التدبر، فسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حين أخبره حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ..عدي بن حاتم الطائي أنه حين قرأ آية الصيام: ﴿ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ (البقرة: 186) قد اشترى حبلين أبيض وأسود ووضعهما تحت وسادته وصار ينظر إليهما بين الحين والآخر منتظرا أن يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ لكي يمسك عن الطعام والشراب والشهوة، ويبدأ الصيام. لم يقل له أكثر من: إنك لعريض الوسادة، ولم يقل له: ما دمت في هذا المستوى ولم تستوف شرائط المفسرين فلما تسمح لنفسك أن تقتحم ساحة لست من أهلها، ولم يمنعه ولم يفعل ذلك مع عمار في قضية التيمم ولا سواهم؛ لأن من المعلوم أن الفهم الفردي الخاص سيقف عند صاحبه لا يتجاوزه، ولكن الفهم المنسجم مع كتاب الله وفقه رسول الله في كتابه هو الفهم الباقي، الذي يستفيد الناس به ويبقى على الزمن، ويتأثر الناس به.

ـ هل ينظر المسلمون إلى القرآن باعتباره مطلقا وإلى تفاسير أسلافهم باعتبارها نسبية؟ وما الذي حدث طيلة القرون السابقة في علاقة المسلمين بقرآنهم وعلاقتهم بتفاسير أسلافهم؟ وما تأثير هذه العلاقة على فهم المسلم للقرآن؟
القرآن خطاب مطلق ولا شك، وكل تفاسيره تندرج تحت النسبي المتغير في الزمان والمكان، وإن كتب التفسير قد وقفت بين المسلمين وبين تدبر القرآن وكد أذهانهم في الوصول إلى معانيه؛ لأن شيوع اتجاهات التقليد منذ القرون الأولى جعل الناس يبحثون عن الراحة، وتجنب بذل الجهود اللازمة بتدبر القرآن المجيد، والغوص وراء معانيه، والاعتماد على أنه بين ذو آيات مبينات وميسر للذكر من كل من يقبل عليه.
هذه المسلمة التي صنعها القرآن لنفسه تجاوزها الناس، وأوجدوا لأنفسهم مسلمة أخرى بديلة وهي مسلمة العالم العلامة، والحبر الفهامة، والجهبذ الذي لم ير مثل نفسه، ولم ير الكون له نظيرا، لينوب هذا العلامة الفهامة عن الأمة بالتفسير والفهم والفقه والتأويل، فصار بذلك ما يقوله المفسر حاجزا وحائلا وعائقا يعوقهم عن تدبر القرآن والعناية المباشرة به، والاستنارة بأنواره.

من المعلوم بالضرورة أن للقرآن أنوارا، وتأثيرات لا يمنحها لأحد بحيث ينوب عن الآخرين بتدبره ومعرفته والعناية به، وحين حرم العامة من الاتصال بأنوار القرآن والاستضاءة بها زاد هؤلاء العامة جهلا، وقصورا، واستعدادا للتبعية، وللتعايش مع عقلية العوام وطبيعة القطيع، في حين أن الجيل الأول الذي رزقه الله، جل شأنه، الاستنارة المباشرة بأنوار القرآن قد بنى عقليته ونفسيته بناء آخر، كان له أثره البالغ في بناء الشخصية الإسلامية لدى السلف، فكانت شخصية قوية متوازنة، قادرة على مواجهة سائر التحديات، يستطيع أن يدرك ذلك كل ناظر في سيرة أولئك الذين قال الله فيهم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: 29)، ونحن في أيامنا هذه أحوج ما نكون إلى أن نوصل الناس بكتاب الله، ونحضهم على تدبر آياته، وعدم وضع أية حواجز بينهم وبينه.

ـ شهد الفكر الإسلامي الحديث انتقالا من مستوى التفسير النصي إلى مستوى تحليل الخطاب؛ فانتشر ما يعرف بالتفسير الموضوعي، كما شهد الفكر الإسلامي الحديث انتشار قراءات جديدة للقرآن الكريم معتمدة على مناهج حديثة تتغيا فهما جديدا للخطاب القرآني. ما هي الإضافات الحقيقية التي قدمتها القراءات المعاصرة للقرآن سواء من حيث المقاربات المنهجية أو من حيث الكشوفات المعرفية؟
https://3.bp.blogspot.com/-N4Y4jgt1fRg/VuohVB_YinI/AAAAAAAAAHE/eFBv2eQqcgwMoHPB6dmoI8YftK08bJ4BA/s1600/03.bmp
القراءات المعاصرة لا أستطيع أن أجد فيها، فيما اطلعت عليه، قراءات أصيلة خاصة، فهي قراءات اعتمدت تقليد أهل الكتاب الذين درسوا كتبهم السماوية بطرقهم، مخضعين قراءاتهم ودراساتهم إلى تلك الأساليب، فجاء كثير من أصحاب القراءات المعاصرة ليقلدوا بعض اللاهوتيين الذين وظفوا الهرمونيطقيا وما إليها في إعادة قراءة اللاهوت المسيحي واللاهوت اليهودي، فحاول بعض المطلعين على تلك القراءات تقليدهم وإخضاع الخطاب القرآني لمناهج تلك القراءات اللاهوتية، فضيعوا المشيتين؛ مشية المفسر التقليدي التراثي، ومشية الناقد اللاهوتي المعاصر؛ لذلك فإنني أستطيع أن أقول بطمأنينة تامة إن ما اطلعت عليه من تلك القراءات التي لا أريد أن أسمي أصحابها لم يزدني شيئا منها إلا قناعة بأن عقلية العوام وطبيعة القطيع والتقليد والتبعية ما تزال في بيئاتنا الثقافية والعلمية ذات كلمة عليا.

أما ما أشرتم إليه من التفسير الموضوعي فهو قديم حديث، فالفقهاء هم الذين ابتكروا عملية التفسير الموضوعي، وجمعوا آيات الأحكام، ووزعوها مقسمة على شؤون وشجون الحياة، فذكروا عددا معينا منها، باعتباره آيات تتعلق بأحكام الأسرة، وعددا آخر في قضايا العبادات، ونحوه في قضايا السير والجهاد، وهكذا، والذين تحدثوا في التفسير الموضوعي ما زادوا كثيرا عن ذلك إلا بأن وظفوا بعض رؤوس الموضوعات التي استفادوها من معارف المعلومات ونظم المكتبات وما إليها، ليتوسعوا في الموضوعات القرآنية التي ذكروا أن القرآن تناولها في معالجاته.

ـ يجمع أصحاب القراءات الجديدة أو ما يعرف بالقراءة الحداثية للنص القرآني على أن ما أصاب الكتب المقدسة من تحريف مصيب للقرآن؛ أي الحكم بتاريخية القرآن الكريم. ونزع القداسة عن النص القرآني ليصبح نصا كباقي النصوص الأدبية من نثر وشعر؛ أي أنسنة النص القرآني. ما هي الخلفيات الفكرية والإيديولوجية لهذه القراءات الجديدة؟

من المؤسف أن الخلفيات التي استند إليها هؤلاء لها جذور تراثية راسخة، تكمن في قضايا الناسخ والمنسوخ خاصة، ثم في المحكم والمتشابه وما إلى ذلك من أمور مر عليها المفسرون مرورا سريعا، ولم يولوها من العناية ما تستحق، لكي يفندوها ويخرجوها من ميادين التداول المعرفي، وفي مقدمة ذلك نجد النسخ بأنواعه الثلاثة: نسخ الحكم والتلاوة، ونسخ الحكم وبقاء التلاوة، ونسخ التلاوة وبقاء الحكم. وجميع الأمثلة التي ذكرها الأصوليون وأصحاب علوم القرآن في كتبهم، وكذلك قضايا الإحكام والتشابه، والمجمل والمبين، والحقيقة والمجاز، كل هذه الأمور شكلت منابع ثرية لأصحاب هذه القراءات المعاصرة جعلهم قادرين على أن يقولوا: إن في القرآن نسخا وفيه تشابه، وفيه لحن وشذوذ، وحذف وقطعي وظني، وما إلى ذلك.

وقد حاولنا في دراساتنا أن ننبه إلى هذه الكوارث التي سمحت لهؤلاء أن يرموا القرآن بمثل هذه الأكاذيب والافتراءات التي سوغتها روايات باطلة، بقيت كتبنا تتداولها حتى أيامنا هذه، وقد آن الأوان لنتحرر منها ونحرر القرآن المجيد من إيسارها، ولعل طلبة العلم الجادين يوجهون بعض رسائلهم ودراساتهم نحو هذه الأمور ليقتلعوها ويغلقوا هذه النوافذ المعيبة التي فتحها متقدمون بحسن نية أو سوء نية، فالمهم أن ننزه القرآن عن المطاعن، ونباعد بين هؤلاء وبين النيل منه بتلك الوسائل الرخيصة.

وهناك كتاب لأحد متأخري الشيعة مات في القرن الثالث عشر الهجري سماه (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب أو فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب الأرباب) جمع فيه كل تلك الأخبار والآثار العفنة، التي استدل بها المستدلون على جواز ووقوع أنواع النسخ الثلاثة، التي ذكرناها.


الحرية وأبعادها من منظور قرآني

ـ لاشك أن قضية الحرية تعد واحدة من أكثر المفاهيم الفلسفية أهمية في التطور العام للتاريخ البشري، إذ لا يكاد يوازيها في الأهمية والخطورة مفهوم آخر. ولخطورة المفهوم وأهميته فقد صار البحث فيه معقدا لحدود قصوى، وذلك راجع بالأساس لاختلاف أنظار الفلاسفة عبر التاريخ الإنساني الطويل حول حده وتعريفه وتعيين مستوياته ومجالاته وضوابطه وصوره المختلفة. وعليه، يهمنا تحديد فضيلتكم لمفهوم الحرية من منطلق قرآني؟
إنَّ تحديد مفهوم الحرية في مجالنا التداولي العربي الإسلامي، يختلف عنه في المجال التداولي الآخر، عنينا الغربي؛ فبينما يسعى هذا الأخير لمفصلة مفهوم الحرية في ضوء قوانين الطبيعة وإكراهاتها، وقوانين التاريخ والبحث عن مساره والتساؤل عن الحتمية والتقدم والهادفية، والعلاقة بين الفرد والمجتمع والبحث في علاقات السُلطة، ينظر المُسلم لمفهوم الحرية الإنسانية وهو يأخذ في اعتباره، إضافة لهذه المعاني، الفعالية الإلهية في الكون..

فحتّى الخلاف الشهير بين المعتزلة والأشاعرة في قضية خلق الأفعال لم يُلغِ فيه أي من الطرفين الفعالية الإلهية في الكون، كما أكدت جميع الفرق الكلامية على أهمية هذه النقطة. قصدنا بذلك أن تخريج مسألة الحرية إسلاميا ينبغي أن يؤطر ضمن عناية الله بالكون، وهذا فرق جوهري يتوضح في آيات القرآن التي تتحدث عن الاستخلاف والدعاء والأسماء الحُسنى. وكما نؤكد على مركزية هذه النقطة، نؤكد أنها قد تعرضت لتطرفات تأويلية من قِبل العديد من الفِرَق، وقد كان نقاشنا لمسألة الحاكمية، في أحد مؤلفاتنا، من أجل تبيين الأمر على أحسن وجه ظهر لنا.

من ثم يُعالج مفهوم الحرية في ضوء العلاقة الجدلية بين الفعالية الإلهية في الكون وإكراهات القوانين الطبيعية و"القوانين التاريخية" التي أكد عليها القصص القرآني وعرفتها البشرية من خلال تجربتها الطويلة؛ فحين نقول: "إنَّ الله قد استخلف الإنسان في الكون"، فهذا يعني وجود علاقة جدلية تفاعلية، وهو المستوى الجدلي المركزي في التعاطي مع هذه الإشكالية.

قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (النحل: 75-76).

في هاتين الآيتين يبين لنا كيف يحرر الله تعالى الإنسان بتوحيده والإيمان به اقتصاديًا، بحيث يتصرف في المال كسبًا وإنفاقًا وادخارًا وامتلاكًا وغير ذلك إذا كان عبدًا لله، وكيف يكون كسبه لنفسه لا لإلهه وربه، كما يبين لنا كيف تحرر العبودية لله الإنسان من كل ما يؤثر على حريته في التعبير، وليس كذلك يفعل المستبدون الذين إذا استسلم الإنسان لهم وأعطاهم زمام نفسه يتحول إلى أبكم تستأصل منه حرية التعبير تمامًا، فلا يقدر على شيء..

وكيف يتحول إلى كَلٍ على مولاه، وكيف يفقد إنسانيته، ويتحول إلى إنسان يمشي مكبًا على وجهه أينما يوجهه صاحبه لا يأتي بخير، وكيف يمنح الله، جل شأنه، عباده حريات التعبير فيأمر بالعدل، والقسط، ويعلي من شأن القيم، ويتمسك بها، ويستخدم سائر قوى وعيه من سمع وبصر وفؤاد، دون أية قيود.
وتتضافر مئات الآيات في كتاب الله، جل شأنه، لتكريس مفهوم الحرية، وحمايته، بما في ذلك حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، وبين الاستقامة والانحراف، وبين الطاعة والمعصية، وكيف يعلن، جل شأنه، أن: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 255)، ويكفي أن يبين للإنسان الرشد، ويوضح له الغي، ويؤمر بسلوك سبيل الرشد، وتنكب طريق الغي.
ورسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وجه الله، جل شأنه، إليه في آيات عديدة أن يضع خطًا فاصلًا بين حرصه على إيمان الناس وقبولهم لدعوته، وبين حريتهم، فيقول له جل شأنه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 255)، ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)، ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود: 28)، ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 22)، ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق: 45).

ولذلك حين تناول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قضية الحرية تناولها بحذر شديد، فضرب لها مثلا هو الوارد في قوله: "مثلُ القائمِ على حدودِ اللَّهِ والواقعِ فيها كمثلِ قومٍ استَهموا على سفينةٍ فأصابَ بعضُهم أعلاَها وبعضُهم أسفلَها فَكانَ الَّذينَ في أسفلِها إذا استقوا منَ الماءِ مرُّوا على من فوقَهم فقالوا لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا" .

وحين انحرف الفكر الإسلامي في بعض المراحل بترويج من القائمين على السلطة لإنماء وتعزيز اتجاهات الجبر؛ رد القرآن المجيد عليهم بكلمته الخالدة: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأنعام: 149-150).

فأوضحت أن الذين يحتجون بالجبر والذين يفسرون القدر به مشركون أو مقلدون للمشركين أمَّا المؤمنون فإنَّهم يؤمنون بأنَّ الله، جل شأنه، قد استودع أمانة الحرية لدى الناس، وخلقهم أحرارًا؛ ليستطيعوا الاختيار في حرية تامَّة بين الوفاء بالعهد الإلهي، أو عدم الوفاء به، وبين القيام بمهام الاستخلاف أو عدم القيام بها، وبين حفظ الأمانة أو التفريط بها، وبين اختيار الحسن والأحسن في عملية الابتلاء ليجاز الإنسان، بعد ذلك، الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة..

وتعبير سيدنا عمر بن الخطاب وهو يعنف عمر بن العاص على إهانة ابنه قبطي من عامة أقباط مصر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار" كان تعبيرًا دقيقًا عن اتجاهات الحريَّة، وتدعيمها بالكتاب الكريم، وفي هدي وسلوك وتعليم وتزكية النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم.

وكان على المسلمين أن يدركوا أنَّ الحرية مثل المعرفة بالواجب المقدم الذي يسبق سائر الواجبات ويؤسس للقيام بها لكل شأن من شؤون الدين، فهي قيمة عليا ومقصد أساس وصفة لا غنى عنها بحال من الأحوال، ولا يستطيع من لا يؤمن بالحرية ولا يبنى ويؤسس عليها أن يؤسس للتوحيد ويبني الإيمان أو يحكم الشريعة.
وحين يقوم الباحثون المسلمون، المدركون لطبيعة رسالة الإسلام بمراجعات جادة لتراثنا الفقهي والأصولي والتفسيري فسيجدون كثيرًا من الأمور تنافي هذه الرؤية وهذا الموقف وتتعارض معه، وعلينا أن ننزع من تراثنا ذلك كله ما يلقي بأي غبش على أصالة مفهوم الحرية وإعلاء شأنها في إطاره القرآني النبوي.

ـ انطلاقا من تحديدكم هذا، ما هي برأيكم نقاط الالتقاء والاختلاف لمفهوم الحرية من وجهة نظر القرآن مع مفهومها من وجهة نظر المرجعيات الوضعية الأخرى؟

كما ذكرتُ آنفًا لا يأخذ المُنظّر الغربي في اعتباره معالجة مسألة الحرية في ضوء العناية الإلهية ومفاهيم الاستخلاف، وهذا ما أدّى بكثير من الفلسفات الغربية إلى القول بهادفية الحياة من خلال نظرة حلولية، حيث يحل الإله في التاريخ، فكما أنَّ التاريخ في حالة تشكل دائم فالإله أيضا في حالة تشكل دائم وهذا التشكل نتيجته هي التقدم، وهو التصور الذي عبّر عنه الفيلسوف الألماني "فريدريش هيغل".

وهو التصور نفسه الذي تعرض لهزة عنيفة بعد الحرب العالمية حيث ظهرت المدارس الفلسفية العدمية والتيارات الأدبية العبثية التي رفضت فكرة هادفية الحياة واتجاهها للرقي والتقدم، وقد كان الفيلسوف الألماني "فريدريش نيتشه" قد وجّه النقد لأفكار "هيغل" قبل ذلك. ولو بحثنا في اتجاهات الفقهاء والأصوليين والمفسرين من مختلف الطوائف الإسلامية لوجدنا مقولات كثيرة في تراثنا تماثل تلك المقولات الفجة التي برزت في بعض المدارس الغربية حول ذلك المفهوم.


ـ ما موقف القرآن المجيد من حرية الاعتقاد؟ وما هي الضمانات التي أحاطها الإسلام بها لضمان سيرورتها الفعلية في المجتمع والحيلولة دون إهدارها واقعا بأي سبب من الأسباب وأي تأويل من التأويلات؟

أكد القرآن مسؤوليَّة الإنسان تجاه أفعاله، وجاء معنى التكليف من اعتقاد مسبق في المسؤوليَّة، وهذا مستوى جدلي آخر في فهم مُشكِل الحريَّة، من المنظور الإسلامي، فهي تشتبك مع المسؤوليَّة وكلاهما يدور عليه التكليف. وفي السياق الغربي يدور النقاش، في المساحة السائدة منه، على فكرة الحقوق الأساسيَّة، حرية الضمير والحق في التعبير..، المكتسبة من فكرة "القانون الطبيعي". وفي النقاش الفلسفي يمثّل كانط، في كتابه "نقد العقل العملي"، بداية لأغلب النقاشات المعاصرة في فلسفة الأخلاق والتشريع.

ووفقًا للكليَّات الخمس، التي استنبطناها من علاقتنا مع القرآن الكريم، والتي هي: التوحيد والتزكية والعِمران والدعوة والأمة، فإنّ مفهوم الحرية ينبغي أن يُخضع لهذه الكليات ويتخلّق بها؛ فمثلا، للإنسان الحرية في ابتكار الآلات التي تسمح له بتزويد الكشوفات العلمية، لكن عليه أن يدرك أنه مُستخلف ومُعمِّر وليس مُسيطرًا أو إلهًا أو مركزًا للكون، وأنَّ علاقته بالأرض علاقة تقوم على الإعمار والتزكية لا الإخضاع والهتك.

ـ إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن فهم دواعي التنافي والتضاد بين سمو المرجعية القرآنية المعصومة لتلك الضمانات والقواعد. وتدني الواقع المشخص في التاريخ السياسي للإسلام قديما وحاضرا، والذي يعكس موجات متكررة وحالات سلبية شائنة من الارتداد المزري عن تلك الضوابط والقواعد بمرجعيتها القرآنية، ونكوصا عنها، وترديا في ظلمات القهر والهيمنة والقسر والإكراه والعبث بكرامة الإنسان وهدر ستار حرماته حد الاستعباد؟ بتعبير آخر، كيف يمكن تجاوز حالة التنافر البغيض والتضاد المنكر بين المُثُل العليا القرآنية في مجال الحريات، وبين الواقع المضاد حد المنافاة لتلك المثل السامية؟

حصل فصام نكد بعد الفتنة الكبرى بين السلطة السياسيَّة وبين حملة الدعوة والرسالة أدت إلى صراع بين أهل السيف وأهل القلم، أو بين طرفي أولي الأمر كما هو معروف، وما يزال هذا الصراع قائمًا حتى يومنا هذا، والنتائج التي نجمت عن ذلك الانحراف المبكر في الواقع التاريخي كانت انحرافات خطيرة جدًا، أثرت في اختفاء مفاهيم الخلافة على منهاج النبوة لصالح سلطة تقوم على مدى التزام الخليفة أو صاحب السلطة بالتقوى، واختفاء مفهوم الدعوة لصالح الفتح والغزو، واختفاء مفهوم الأمة لصالح العائلة والطائفة والفرقة، أمويون عباسيون علويون طالبيون سلاجقة بوهيون عثمانيون.. واختفى مفهوم التزكية لصالح مفهوم الولاء لهذه العائلة أو تلك، وخدش مفهوم التوحيد حتى حق علينا قول ربنا: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف: 106)، ليحل محله تعظيم المستبد، والخضوع له، وقديمًا قالوا:

السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب

فلا يمكن أن يعتبر هذا الواقع التاريخي أو المعاصر واقعًا يمثل ما جاء في القرآن من مقاصد، أو قيم عليا بأي حال من الأحوال، على أنَّ منهج النبي في الدعوة منهج ما يزال معروفًا في سيرته التي اشتمل القرآن عليها، وهديه خلال اثنين وعشرين عامًا وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا، عاشها النبي الرسول البشر البشير النذير، يدعو إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه، ولعل الإمام مالك حين قال: "لا يصلح آخر هذه الأمَّة إلا بما صلح به أولها" كان يريد هذا الذي ذكرنا.

ـ عطفا على ما سبق أكدتم على أن الإسلام قد أعلى من شأن حرية الاعتقاد وأحاطها بضوابط تضمن سيرورتها الفعلية في المجتمع والحيلولة دون إهدارها. يصادمنا موقف الغرب اتجاه الإسلام في ارتباط بهذه القضية، فالغرب يعتبر الإسلام معتديا على أعلى قيمه، وهي قيمة الحرية انطلاقا من إقرار فقهائه لحد الردة، القاضي بإجبار المرتد بالقوة على العودة إلى الإسلام أو قتله إذا أصر على عدم الرجوع إليه، حماية للدين من أية محاولة للاستهانة به. فهل هناك تعارض بين الاعتراف بحرية التدين وأنه لا إكراه في الدين، وبين الاعتراف بشرعية حد الردة؟

إنَّ القرآن المجيد حصر حق التشريع بالله جل شأنه: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (الأنعام: 58)، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ (ءال عمران: 23)، وهناك مائتى آية واثنتى عشرة آية أخرى في القرآن المجيد تحمي حرية الكفر كما تعزز حرية الإيمان، وتسوي بينهما: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29).

والردة لو اقتصرت على تغيير إنسان فرد لمعتقده دون أن يتبع ذلك بجرائم ضد الجماعة، أو تصاحبها خيانة عظمى، أو محاربة لدين الجماعة؛ فلا إكراه في الدين: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 255)، وليس لنا أن نلزمه بالإسلام، ولا أن نحمله عليه، وربنا، جل شأنه، قد ذكر ذلك بصراحة ووضوح، وتضافرت الآيات على ذلك.

وهناك خلط قديم حديث حصل بين الردة بوصفها جريمة مركبة تصاحبها الخيانة العظمى ومفارقة الجماعة والانضمام إلى أعدائهم، وبين جريمة بسيطة تبقى بين الإنسان وربه إذا لم يرتكب الإنسان الذي تغير معتقده أيَّة جريمة أو جناية ضد الجماعة وحقوقها، وضد البلاد ومقوماتها ومقدراتها، فإذا لوحظ هذا الفرق نستطيع أن نفهم آنذاك أنَّ تلك الجريمة المركبة لا حد في الدين عليها إلا بالنظر لما يصحبها ويخالطها، أمَّا لو فرضنا وقوعها بدون شيء من ذلك فلا حد فيها، ولنا نقاش طويل عريض لهذا الموضوع لابد لمن يريد معرفة الموقف القرآني والإسلامي من قراءته من الغلاف إلى الغلاف؛ لكي يتفهم هذا الأمر على حقيقته، ومن مصدر قضينا في تأليفه ودراسة جوانبه المختلفة ما يزيد عن اثني عشر عامًا، وعنوانه: لا إكراه في الدين إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى يومنا هذا.

ـ يؤسس الخطاب القرآني لعلاقة التعارف والتعايش بين الأمة الإسلامية، أو لنقل تجاوزا الدولة الإسلامية، وغيرها من الدول التي لا تدين بالإسلام،علاقة مبنية على الأمن والسلم والتسامح، في آيات عديدة منها قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...﴾ (الحجرات: 13).

فما هي المبادئ والأسس المحددة لعلاقة التعارف التي تستوحونها من الخطاب القرآني؟ وما هي الضوابط التي تنظم هذه العلاقة وترسم حدودها وتضبط حركتها وتوجه وفقا للقرآن الكريم؟

بداية، اختر بين أمة أو دولة، ولا يصح إدماج كل منهما في الآخر، فالأمة شيء والدولة شيء آخر، وعندنا أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد أسس أمة قائمة على إيمان ومنهاج وشرعة، وترك لها أي للأمة اختيار أشكال النظم التي تتبناها لحماية وحدتها، وتحقيق مقاصدها وغاياتها، فالأمة واحدة، والدول يمكن أن تتعدد.

إن المقاصد القرآنية العليا الحاكمة على كل شيء في نظرنا المتواضع خمسة هي: (التوحيد، والتزكية، والعمران، والأمة، والدعوة) أما التوحيد والتزكية والعمران فإن بينها جدلا طبيعيا يُوجد بين الثلاثة لحمة لا تنفصل، ويؤسس لرباط لا ينقطع، فالتوحيد يقود إلى التزكية، والتوحيد والتزكية يقودان إلى العمران، أما الأمة فهي الحارس الأمين، الذي يتكون بمقتضى هذه المقاصد ويقوم على دعائمها، ويستوي على ما أسست، فإذا تكامل الأربعة فلابد من الدعوة، لإيصال هذا الخير وهذا النور إلى الإخوة في الإنسانية، والرحم البشرية، وإلا فإن الإنسان يكون قد قطع رحمه، ولم يعد له بالبشرية صلة، فالتوحيد يؤسس للعدل والمساواة، والحرية، وعليه تقوم التزكية، فمن لم يؤمن بوحدانية الله تهون عليه نفسه، فيمكن أن يعظم أي شيء، السلطان، أو الشعب، أو الأرض (الوطن)، أو الدستور، أو أي شيء يتخذه رمزا، لصنم يقدسه أو يعظمه ويتجه نحوه بنوع من التقديس.

والتوحيد هو ما يجعلني أشعر بأنني مكافئ لكل إنسان، فليس هناك إنسان على وجه الأرض يستحق أن أحمده لأن الحمد لله رب العالمين، أو أستعين به؛ لأن المستعان هو الرحمن الرحيم، أو أضع بين يديه احتياجاتي لأن الاستعانة منحصرة بالله، جل شأنه، أو أتجه إليه بفاقتي وفقري واحتياجاتي إلا هو سبحانه، وبالتالي فإياه أعبد، وإليه أسعى وأحفد، لا أعبد سواه، ولا أعظم غيره، ولا أستعين إلا به، فيتحرر وجداني من كل أنواع القابلية للخضوع أو الذل أو الاستجداء، فضلا عن العبادة والتقديس لغير الله جل شأنه.

ـ تؤول كل المبادئ والأسس المؤسسة لعلاقة التعارف والتعايش بين المسلمين وغيرهم إلى أصل جامع ومبدأ كلي هو مبدأ التوحيد.



كيف يؤثر مبدأ التوحيد على رؤية العالم في المنظور القرآني؟ أو بتعبير آخر كيف يرسم مبدأ التوحيد حدود العلاقة مع الآخر المخالف عقيديا؟

حين نستحيي آثار التوحيد وما يمكن أن يقدمه لنا سوف ندرك تماما أننا لا نكون بشرا إلا بالتوحيد، ولا يكون لنا كرامة إلا به، ولن نتمكن من الوفاء بعهدنا مع الله أو المحافظة على الأمانة التي ائتمننا عليها إلا بالتوحيد، أو الوصول إلى هدف التزكية التي هي المؤهل الوحيد لعملية الاستخلاف والتكليف والمسؤولية إلا بالتوحيد أيضا، فالتوحيد حين ندرك أبعاده نستطيع أن نتبين آثاره وانعكاساته على حياتنا كلها، فبالتوحيد نكون وبالشرك ننعدم.

وأما التزكية فإنها تحمل المؤهلات الحقيقية التي تجعل الإنسان أهلا لحمل الأمانة الإلهية، والتمتع بالحرية والإحساس بالمساواة ورفض الذل والخضوع والانقياد لغير الله تبارك وتعالى، وأما العمران فهو حق أمنا الأرض علينا، فنحن منها خلقنا، وإليها نعود، ومنها سنخرج تارة أخرى، فمن حقها علينا أن نعمرها ماديا ومعنويا، نحيي مواتها بعمارتها وزرعها واستخراج أقواتنا المودعة فيها، وما أثقلها الله به من نعم تقوم به حياتنا، ويحتضن أجسادنا ورممنا بعد الموت، ثم يطلقنا من جديد للحياة الأخرى عندما يأذن الله بذلك.

والأمة هي الكيان الاجتماعي الذي اختاره الله لنا، لنعبر من خلاله عن انتمائنا إلى البشر، وانتسابنا إليهم، وليكون كيانا جامعا لنا نؤدي به ومعه ما عهد الله به إلينا من أمور، لا تتعلق بأفرادنا، بل بجماعتنا، وكياناتنا، وبهذه الأمة نرث الإرث، إن الأرض يرثها عبادي الصالحون، ويمكن الله لنا بها، ونشهد على الناس بما فعلوا ويفعلون، فنشجع المعروف، ونحمي الخلق، ونقيم دعائم العدل، ونحمي الحريات، ونحمي الخصوصيات، وما إلى ذلك، والدعوة وسيلة أساس لإيجاد أجواء حوار وتدافع بين الناس، للتأسيس للقيم، والمحافظة عليها، وحمايتها من عوامل القسوة في القلوب، والأعراض التي تأتي وتظهر نتيجة طول الأمد، والابتعاد عن المصادر الأصلية، وقسوة القلوب.

والدعوة تمنع تقسيم الأرض، فالأرض كلها مسجد وطهور، وترفض مبدأ التقسيم إلى دارين إلا على المستوى الشكلي النسبي المتحرك، فالأصل أن الأرض كل الأرض يرثها عباد الله الصالحون، والأصل أن يكون التمكين فيها ناجما عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والخيرية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 39)، والأمم آنذاك تجاه هذه الدعوة لا تقبل القسمة إلى أكثر من اثنين: (أمة دعوة، وأمة إجابة) على أمة الإجابة أن تواصل الدعوة بين أمة الدعوة، فأمة الإجابة يؤسس لها ويؤصل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (ءال عمران: 172)، ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (الشورى: 35)، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24)، فهي دعوة لممارسة الحياة، التي لا قوام للحياة إلا بها، ولا ينتسب الإنسان إلى الأحياء إلا إذا حملها، وينتمي إلى أمة الإجابة إذا استجاب لله ولرسوله، ووحد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وتزكى ومن يتزكى فإنما يتزكى لنفسه، ثم قام بالعمران للبيت الذي يسكنه وهو الأرض، وجنبه الفساد والتدمير، وأبعد عنه عوامل التخريب، والفساد المادي والمعنوي، فأمة الإجابة هي التي استجابت، وأمة الدعوة هي التي على أمة الإجابة أن تحمل الدعوة إليها، وتواصل في دعوتها بالحكمة والموعظة الحسنة الليل بالنهار، حتى توجد الوعي بتلك الأركان والدعائم، فإذا أسست للوعي انطلقت بعد ذلك إلى القبول، ثم إلى الإيمان واليقين، وبذلك تصبح جزءا من أمة الإجابة، وتستمر الدعوة باعتبارها الآلية الوحيدة الأساس المطلوبة في كل حين وزمن ما دام هناك من يصلح أن يُدعى ويُنادى، وبذلك تتكامل هذه المقاصد العليا الحاكمة، وسميناها العليا لأنها أعلى المقاصد، تندرج المقاصد الأخرى بمستوياتها المختلفة تحتها، وسميناها الحاكمة لأنها تحكم على غيرها، وتتحكم في سواها، فهي الأصل الذي نقيس به كل شيء، ونحكم به على كل شيء، وهي الميزان الذي نزن سائر الأمور به، وبالتالي فإن أي شيء يحدث صغيرا أو كبيرا فإن هذه المقاصد الخمسة عنها ينبثق الحكم، ومنها يصدر تجاه كل شيء.

وبالتالي فعندما تنظر نظرا دقيقا في هذا الذي ذكرناه تجد أن أسئلتك الأخرى لم تعد ذات موضوع، ولم تعد مناسبة لهذا التصور، فاحرص على التأمل والتفكر، والتدبر، في هذه المقاصد ومحاولة فهمها، وبناء وعيك بها، لتستغني بها عن غيرها من أقوال القائلين، وآراء أصحاب المقولات، ومذاهب أصحاب المذاهب.

أما التعارف:

أولا: أنا إنسان أبي آدم وأمي حواء، وإلى هذه الأسرة الممتدة التي شكلت البشرية كلها أنتسب، وبذلك ناداني الله حين ذكرني بعهده وبمهمتي في هذه الحياة: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (الأعراف: 33-34)، ﴿يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 26)، ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (يس: 59-60).

ثانيا: أنا أخ لكل إنسان ينتمي إلى هذين الوالدين، أحترم الكبير، وأحب أمثالي وأعطف على الصغار: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1).

ثالثا: أنا إنسان لا يفرّق بين أبناء أسرته الممتدة بأيّ فارق إلا بالتقوى، وهي صفة مهمة يستطيع كل إنسان أن يكتسبها بأن يبتعد عن الشرور والآثام وسائر الأفعال السيئة التي يمكن أن أقوم بها بالفضاء أو بالسماء أو في البر أو في البحر، فكل ذلك أمانة ائتمنني الله عليها، على أن أحافظ عليها وأحميها وأستمتع بها وأشكر الله عليها وأحبها وأقوم بعمارتها.

رابعا: أنا مسؤول عن كل مخلوق يشاركني العيش على هذه الأرض، فالكلاب والقطط والخيل والبغال والحمير والقردة والخنازير وغيرها كلها أمم مثل أمتنا نحن البشر؛ ولأن الله قد ائتمننا على الكون فنحن مؤتمنون عليها مسؤولون عن حمايتها، فإذا دمرناها دون حق أو أجعناها أو جعلنا العطش يقتلها فقد ضيعنا الأمانة وسنسأل عنها؛ ولذلك قال رسولنا الكريم: "دخلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربَطَتْها، فلم تَطعَمْها، ولم تَدَعْها تأكلُ من خَشاشِ الأرضِ" .

خامسا: أنا إنسان لديّ قيّم عليا أتمسك بها وتتفرع عنها قيّم كثيرة أخرى، القيم التي أعتبرها أعلى القيّم، لا أخضع لبشر مثلي أو أي قوة لقوى الطبيعة، بل أقر بوحدانية الإله، جل شأنه، وإليه وحده أتجه بالعبادة والحمد، وأؤمن بألوهيته، وأنا على يقين بربوبيته؛ فلا أخضع لسواه ولا أنظر لغيره على أنه مصدر النعم، فلا أقبل الذل من مخلوق مثلي واعتز بكرامتي وأعتبر إيماني بوحدانية الله، جل شأنه، حارسًا أمينًا على ذلك.

سادسا: أنا إنسان إذا امتلك المال فإنه يعرف أنه يمتلك حق الانتفاع، أما الملكية الحقيقية فإنها لله، تبارك وتعالى، فهو مالك السماوات والأرض، وخالق كل شيء ومالكه في هذه الدنيا وفي الدار الآخر.

سابعا: أنا إنسان أحرم على نفسي الاستعلاء على الآخرين من إخواني في الإنسانية أو الاستكبار عليهم أو الغرور، وأعلم أن ربي الذي أوحده وأفرده بالألوهية والربوبية وبالاستعانة قد حرم علىّ ذلك.

ثامنا: أنا إنسان أبيت لربي ذاكرًا شاكرًا ساجدًا قانتًا.

تاسعا: أنا إنسان أدعو ربي وأدعو للبشرية التي أنتمي إليها أن يجنبها العذاب والفتن والحروب والمحن ويرضى عنها ويمنّ عليها بعفوه ومغفرته.

عاشرا: أنا إنسان إذا خاطبني الجاهلون أرد عليهم بالسلام، وأحاول ألا أهبط لمستواهم.

حادي عشر: أنا إنسان أنفق مالي دون إسراف ودون تقطير، بل بتوازن دقيق بين مدخلاتي ونفقاتي، أنفق على نفسي وأسرتي.

اثني عشر: أنا إنسان لا يدعو مع الله إله آخر.

ثلاثة عشر: أنا إنسان لا يقتل النفس التي حرم الله، ولا يزني، ولا يشهد الزور، وإذا مرّ باللغو والعبث حافظ على كرامته ومرّ مسرعا، وإذا وجد فرصة للنصح نصح.

رابعة عشر: أنا إنسان أنظر إلى زوجتي وابني على أنهما هبة من الله لي، أشكره عليهما، وأجعلهما قرة عين لي، أفرح لفرحهما، وأقوم بواجباتهما، وأشاركهما الحياة. ذلك أنا في نفسي.

خامسة عشر: ثم بعد ذلك أنا إنسان أحب مجتمعي، وأحب الانتماء إليه، وأعمل على حمايته، وأكافح في سبيل مستضعفيه، ولا أرضى أن يحل الظلم بأي واحد منهم.

سادسة عشر: أنا إنسان أحب أن أرى جيراني وأهل مدينتي والشعب الذي أنتمي إليه سعيدًا بعيدًا عن الفتن والمشكلات، أواسي بقدر استطاعتي الفقير والمحتاج وأساعد من يطلب المساعدة، أفرح لمن يفرح منهم، وأعمل على مشاركته فرحته في المناسبات الإنسانية وأحزن إذا أصاب أحد منهم سوء، ذلك ما أوصاني به ربى وجعله مناط إنسانيتي وأخبرني بأنه لن يرضى عني إلا إذا كنت على هذه الشاكلة.

وأخيرا فإنني إنسان أحب أن يشاركني في هذا الخير جيراني وأبناء شعبي وكل أولئك الذي أعيش بينهم؛ لتسود هذه القيم بيننا وفي علاقاتنا؛ لذلك فإنني حريص على توصيل القيم التي أتبناها والأخلاق التي التزم بها ونمط السلوك الذي أتبناه إلى كل من حولي ليعيش الجميع في انسجام تام وليدخلوا في السلم كافة ويستمتعوا بالأمان بكل أنواعه وأشكاله. ذلكم هو أنا. وأتمنى أن أرى كل إنسان ذكر أو أنثى صغير أو كبير في مجتمعي يتبنى هذه القيم ويتصف بهذه الصفات.

ـ الاختلاف سنة إلهية في الخلق؛ ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود: 118).



كيف يمكن التعامل مع التنوع ليصبح أداة لإثراء التجربة الإنسانية وإغنائها؟ وكيف انعكست التأسيسات القرآنية لمبدأ التنوع والاختلاف في تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم والمجتمعات الأخرى؟

أما قولك الاختلاف سنة إلهية فهو خطأ شائع لا يليق بطالب علم مثلك أن يردده، وكيف يردده من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بهذا القرآن الذي يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام: 160)، وأما ما يستدل به بعض الجهلة من قوله تعالى: ﴿..وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..﴾ (هود: 118) فإن الإشارة إلى الرحمة لا إلى الاختلاف، فإنه يقول وللرحمة خلقهم، وأما الاختلاف فهو مذموم كله، وليس بسنة إلهية، فالسنة الإلهية أن يكون الناس أمة واحدة، لهم رب واحد، وأب واحد، "كلكم لآدم وآدم من تراب"، أما الفرقة والانقسام والاختلاف فهو شذوذ وخروج عن السنة الطبيعية سنة الائتلاف وعدم الاختلاف.

أما بعد أن قدمنا لك مقدمة شافية عن الموقف القرآني السليم فلا نظن أن الأسئلة الأخرى يمكن أن تثار إذا صححنا التصور بالشكل الذي عرضناه لأنها أسئلة أثيرت من خلال هيمنة النسق الغربي على العقول البشرية، وفرضت نفسها عليه، فأرجو أن تتأمل ما ذكرنا، وتفهمه حق الفهم، ثم تعيد صياغة أسئلتك لتوزع الإجابة التي ذكرنا عليها بشكل مناسب، وفقك الله لما يحبه ويرضاه.

الهوامش

[1]. الراوي: النعمان بن بشير المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 2493. خلاصة حكم المحدث: صحيح.
[2]. الراوي: عبدالله بن عمر المحدث : البخاري، المصدر: صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3318 خلاصة حكم المحدث: صحيح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق