الاثنين، 13 أغسطس 2018

5.قصص الانبياء من 240/2 .الي 2 / 473

==قد أدرك زمانه، فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة، فيكون الآن مفقودا لا موجودا، لانه داخل في هذا العموم، والاصل عدم المخصص له حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله، والله أعلم.
وقد حكى الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتابه: " التعريف والاعلام " عن البخاري وشيخه أبي بكر بن العربي: أنه أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم
ولكن مات بعده لهذا الحديث.
وفي كون البخاري رحمه الله يقول بهذا وأنه بقي إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم، نظر ورجح السهيلي بقاءه، وحكاه عن الاكثرين.
قال: وأما اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لاهل البيت بعده فمروى من طرق صحاح، ثم ذكر ما تقدم مما ضعفناه، ولم يورد أسانيدها والله أعلم. 

 [ وأما ] (1) إلياس عليه السلام قال الله تعالى بعد قصة موسى وهرون من سورة الصافات: " وإن إلياس لمن المرسلين * إذ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الاولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إلياسين * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين (2) ".
قال علماء النسب هو: إلياس النشبى، ويقال: ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون.
وقيل: إلياس بن العازر بن العيزار ابن هارون بن عمران.
قالوا وكان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق، فدعاهم إلى الله عزوجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه " بعلا ".
وقيل كانت امرأة اسمها " بعل " والله أعلم.
[ والاول أصح (2) ] ولهذا قال لهم: " ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الاولين ".
فكذبوه وخالفوه وأرادوا قتله.
فيقال إنه هرب منهم واختفى عنهم قال أبو يعقوب الاذرعي، عن يزيد بن عبد الصمد، عن هشام بن عمار قال: وسمعت من يذكر عن كعب الاحبار أنه قال: إن إلياس اختفى من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم عشر سنين، حتى أهلك الله
__________
(1) من ا (2) الآيات، 123 - 132 (3) ليست في ا (*) (16 - قصص الانبياء 2)
(2/241)
الملك وولى غيره، فأتاه إلياس فعرض عليه الاسلام فأسلم، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم.
فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو محمد القاسم بن هاشم، حدثنا عمر ابن سعيد الدمشقي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن بعض مشيخة دمشق قال: أقام إلياس عليه السلام هاربا من قومه في كهف جبل عشرين ليلة - أو قال أربعين ليلة - تأتيه الغربان برزقه.
وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي: أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه قال: أول نبي بعث إدريس، ثم نوح ثم إبراهيم، ثم إسماعيل وإسحق، ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم إلياس النشبى بن العازر بن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
هكذا قال: وفي هذا الترتيب نظر.
وقال مكحول عن كعب: أربعة (1) أنبياء أحياء، اثنان في الارض إلياس والخضر، واثنان في السماء: إدريس وعيسى عليهم السلام.
وقد قدمنا قول من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كل عام في
شهر رمضان ببيت المقدس، وأنهما يحجان كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل.
وأوردنا الحديث الذي فيه أنهما يجتمعان بعرفات كل سنة.
__________
(1) ا: أنبياء أربعة.
(*)
(2/242)
وبينا أنه لم يصح شئ من ذلك، وأن الذي يقوم عليه الدليل: أن الخضر مات، وكذلك إلياس عليهما السلام.
وما ذكره وهب بن منبه وغيره: أنه لما دعا ربه عزوجل أن يقبضه إليه لما كذبوه وآذوه، فجاءته دابة لونها لون النار فركبها، وجعل الله له ريشا وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار ملكيا بشريا سماويا أرضيا، وأوصى إلى اليسع بن أخطوب، ففي هذا نظر.
وهو من الاسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، بل الظاهر أن صحتها بعيدة، والله تعالى أعلم.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني [ أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني ببخارى، حدثنا عبد الله بن محمود، حدثنا عبدان بن سنان ] (1) حدثني أحمد بن عبد الله البرقى، حدثنا يزيد بن يزيد البلوى، حدثنا أبو إسحاق الفزارى، عن الاوزاعي، عن مكحول، عن أنس بن مالك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة المغفورة المتاب لها قال: فأشرفت على الوادي فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فقال لي من أنت ؟ فقلت: أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: فأين هو ؟ قلت هوذا يسمع كلامك، قال: فأته فأقرئه [ مني (2) ] السلام، وقل له (3) أخوك إلياس يقرئك السلام.
قال: فأتيت النبي
__________
(1) سقطت من ا.
(2) من ا.
(3) ا: إن أخاك.
(*)
(2/243)
صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء حتى لقيه فعانقه وسلم، ثم قعدا يتحادثان فقال له: يارسول الله إني ما آكل في السنة إلا يوما، وهذا يوم فطرى (1) فآكل أنا وأنت.
قال: فنزلت عليهما مائدة من السماء، عليها خبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني وصلينا العصر، ثم ودعه ورأيت مره في السحاب نحو السماء: فقد كفانا البيهقي أمره، وقال: [ هذا (1) ] حديث ضعيف بمرة.
والعجب أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في مستدركه على الصحيحين، وهذا مما يستدرك به على المستدرك: فإنه حديث موضوع مخالف للاحاديث الصحاح من وجوه ومعناه لا يصح أيضا، فقد تقدم في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا في السماء إلى أن قال: ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن " وفيه أنه لم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان هو الذي ذهب إليه، وهذا لا يصح، لانه كان أحق بالسعي إلى بين يدي خاتم الانبياء.
وفيه أنه يأكل في السنة مرة، وقد تقدم عن وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب، وفيما تقدم عن بعضهم: أنه يشرب من زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر.
وهذه أشياء متعارضة وكلها باطلة لا يصح شئ منها.
وقد ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى واعترف بضعفها
__________
(1) ا: فطر.
(2) من ا (*)
(2/244)
وهذا عجب منه، كيف تكلم عليه ؟ فإنه أورده من طريق حسين بن عرفة عن هانئ بن الحسن عن بقية، عن الاوزاعي، عن مكحول، عن واثلة عن ابن الاسقع، فذكر نحو هذا مطولا.
وفيه أن ذلك (1) كان في غزوة تبوك، وأنه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان، قالا: فإذا هو أعلى جسما [ منا (2) ] بذراعين أو ثلاثة، واعتذر بعدم قدرته لئلا تنفر الابل.
وفيه أنه لما اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلا من طعام الجنة، وقال: إن لي في كل أربعين يوما أكلة، وفي المائدة خبز ورمان وعنب وموز ورطب وبقل، ما عدا الكراث.
وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن الخضر فقال: عهدي به عام أول، وقال لي: إنك ستلقاه قبلى فأقرئه مني السلام.
وهذا يدل على أن الخضر وإلياس، بتقدير وجودهما وصحة هذا الحديث لم يجتمعا به إلى سنة تسع من الهجرة، وهذا لا يسوغ (3) شرعا.
وهذا موضوع أيضا.
وقد أورد ابن عساكر طرفا فيمن اجتمع إلياس من العباد، وكلها لا يفرح بها، لضعف إسنادها أو لجهالة المسند إليه فيها.
ومن أحسنها ما قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني بشر بن معاذ، حدثنا حماد بن واقد، عن ثابت قال: كنا مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة، فدخلت حائطا أصلي فيه ركعتين فافتتحت: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز
__________
(1) ا: أنه كان (2) من ا.
(3) ا: لا يجوز.
(*)
(2/245)
العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب * ذي الطول " فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء، عليه مقطعات يمنية فقال لي: إذا قلت " غافر الذنب " فقل: يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، وإذا قلت " قابل التوب " فقل يا قابل التوب تقبل توبتي، وإذا قلت " شديد العقاب " فقل يا شديد العقاب لا تعاقبني، وإذا قلت " ذي الطول " فقل يا ذا الطول تطول علي برحمة، فالتفت فإذا لا أحد.
وخرجت فسألت: مر بكم رجل على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية ؟ فقالوا: ما مر بنا أحد.
فكانوا لا يرون إلا أنه إلياس.
وقوله تعالى: " فكذبوه فإنهم لمحضرون " أي للعذاب، إما في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة.
والاول أظهر على ما ذكره المفسرون والمؤرخون وقوله: " إلا عباد الله المخلصين " أي إلا من آمن منهم.
وقوله: " وتركنا عليه في الآخرين " أي أبقينا بعده (1) ذكرا حسنا له في العالمين فلا يذكر إلا بخير، ولهذا قال: " سلام على إلياسين " [ أي سلام على إلياس (2) ] والعرب تلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها كما قالوا: إسماعيل وإسماعين [ وإسرائيل وإسرائين، وإلياس وإلياسين ] (2) وقد قرئ: سلام على آل ياسين، أي على آل محمد، وقرأ ابن مسعود وغيره: سلام على إدراسين، ونقل عنه من طريق إسحاق عن عبيدة ابن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال: الياس هو إدريس.
وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم، وحكاه قتادة ومحمد بن إسحاق.
والصحيح أنه غيره كما تقدم.
والله أعلم.
__________
(1) ا: أبقينا له.
(2) سقطت من ا.
(*)
(2/246)
باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام ثم نتبعهم بذكر داود وسليمان عليهما السلام قال ابن جرير في تاريخه: لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور السالفين من أمتنا وغيرهم أن القائم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنا، يعني أحد أصحاب موسى عليه السلام وهو زوج أخته مريم، وهو أحد الرجلين اللذين ممن يخافون الله، وهما يوشع وكالب، وهما القائلان لبني إسرائيل حين نكلوا عن الجهاد: " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ".
قال ابن جرير: ثم من بعده كان القائم بأمور بني إسرائيل حزقيل ابن بوذى (2) وهو الذي دعا الله فأحيا الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.
__________
(1) كذا في ا موافقا للطبري، وفي ا: نودى.
(*)
(2/247)
قصة حزقيل قال الله تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ".
قال محمد بن إسحق عن وهب بن منبه إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه [ بعد يوشع (1) ] خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذى (2) وهو ابن العجوز وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا.
" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال ابن إسحاق: فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الارض فقال لهم الله موتوا فماتوا جميعا فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، فمضت عليهم دهور طويلة فمر بهم حزقيل عليه السلام فوقف عليهم متفكرا فقيل له: أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر ؟ فقال: نعم.
فأمر أن يدعوا تلك العظام أن تكتسي لحما وأن يتصل العصب بعضه ببعض.
فناداهم عن أمر الله له بذلك، فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.
وقال أسباط عن السدى عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس (3) من الصحابة في قوله.
" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم
__________
(1) ليست في ا.
(2) كذا في ا موافقا للطبري، وفي ا: نودى.
(3) ا: ناس ا.
(*)
(2/248)
الله موتوا ثم أحياهم " قالوا: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها فهلك من بقى في القرية وسلم الآخرون فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا بقينا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم.
فوقع في قابل، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا حتى نزلوا ذلك المكان وهو واد أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا.
فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقيه وأصابعه، فأوحى الله إليه: تريد أن أريك كيف أحييهم ؟ قال: نعم، وإنما كان تفكره [ أنه تعجب (1) ]
من قدرة الله عليهم، فقيل له: ناد.
فنادى: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي.
فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض، حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه.
أن ناد: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما [ فاكتست لحما (2) ] ودما وثيابها التي ماتت فيها.
ثم قيل له: ناد.
فنادى: أيتها الاجساد إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا.
قال أسباط: فزعم منصور عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا " سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت " فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد رسما، حتى ماتوا لآجالهم (3) التي كتبت لهم.
__________
(1) ليست في ا (2) ا: بآجالهم.
(*)
(2/249)
وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه ثمانية آلاف، وعن أبي صالح تسعة آلاف، وعن ابن عباس أيضا كانوا أربعين ألفا.
وعن سعيد بن عبد العزيز كانوا من أهل أذرعات.
وقال ابن جريج عن عطاء: هذا مثل.
يعني أنه سيق مثلا مبينا أنه لن يغنى حذر من قدر ! وقول الجمهور [ أقوى (1) ] أن هذا وقع.
وقد روى الامام أحمد وصاحبا الصحيح من طريق الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن الحارث ابن نوفل، عن عبد الله بن عباس، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الاجناد أبو عبيدة ابن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء وقع بالشام.
فذكر الحديث.
يعني في مشاورته المهاجرين
والانصار فاختلفوا عليه، فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا ببعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه.
فحمد الله عمر ثم انصرف.
وقال الامام: حدثنا حجاج ويزيد المفتى قالا حدثنا ابن أبي ذؤيب (2) عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، أن عبد الرحمن ابن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا *
__________
(1) ليست في ا (2) ا: ابن أبي ذئب.
(*)
(2/250)
السقم عذب به الامم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه.
قال: فرجع عمر من الشام.
وأخرجاه من حديث مالك عن الزهري بنحوه.
قال محمد بن إسحاق (1) ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل ثم إن الله قبضه إليه، فلما قبض نسى بنو إسرائيل عهد الله إليهم وعظمت فيهم الاحداث وعبدوا الاوثان وكان في جملة ما يعبدونه من الاصنام صنم يقال له بعل، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن قنحاص ابن العيزار بن هارون بن عمران.
قلت: وقد قدمنا قصة إلياس تبعا لقصة الخضر لانهما يقرنان في الذكر غالبا، ولاجل أنها بعد قصة موسى في سورة الصافات فتعجلنا قصته لذلك والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه قال: ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصيه اليسع بن أخطوب عليه السلام.
وهذه:
__________
(1) ا: قال ابن اسحق.
(*)
(2/251)
قصة اليسع عليه السلام وقد ذكره الله تعالى مع الانبياء في سورة الانعام [ في قوله (1) ] " وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين " وقال تعالى في سورة ص: " واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار " قال ابن إسحق: حدثنا بشر أبو حذيفة، أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال كان بعد إلياس اليسع عليهما السلام، فمكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى الله مستمسكا بمنهاج إلياس وشريعته حتى قبضه الله عزوجل إليه ثم خلف فيهم الخلوف وعظمت فيهم الاحداث والخطايا وكثرت الجبابرة وقتلوا الانبياء، وكان فيهم ملك عنيد طاغ، ويقال إنه الذي تكفل له ذوالكفل إن هو تاب ورجع دخل الجنة فسمى ذا الكفل.
قال محمد بن إسحاق هو اليسع بن أخطوب.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في حرف الياء من تاريخه: اليسع وهو الاسباط بن عدى بن شوتلم بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
ويقال هو ابن عم إلياس النبي عليهما السلام ويقال كان مستخفيا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك ثم ذهب معه إليها فلما رفع الياس خلفه اليسع في قومه ونبأه الله بعده.
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/252)
ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس [ بن سنان (1) ] عن أبيه، عن
وهب بن منبه.
قال وقال غيره وكان [ الاسباط (2) ] ببانياش.
ثم ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ اليسع بالتخفيف والتشديد ومن قرأ والليسع وهو إسم واحد لنبي من الانبياء.
قلت: قد قدمنا قصة ذالكفل بعد قصة أيوب عليه السلام لانه قد قيل إنه ابن أيوب فالله تعالى أعلم.
فصل قال ابن جرير وغيره: ثم مرج أمر بني إسرائيل وعظمت منهم (3) الخطوب والخطايا وقتلوا من قتلوا من الانبياء وسلط الله عليهم بدل الانبياء ملوكا جبارين يظلمونهم ويسفكون دماءهم وسلط الله عليهم الاعداء من غيرهم أيضا، وكانوا إذ قاتلوا أحدا من الاعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان في قبة الزمان.
كما تقدم ذكره.
فكانوا ينصرون ببركته وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.
فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم، فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه فمات كمدا.
__________
(1) من ا (2) من ا (3) ا: وعظمت فيهم الاحداث.
(*)
(2/253)
وبقى بنو إسرائيل كالغنم بلا راع حتى بعث الله فيهم نبيا من الانبياء يقال له شمويل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا ليقاتلوا معه الاعداء، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه.
قال ابن جرير: فكان من وفاة يوشع بن نون إلى أن بعث الله
عزوجل شمويل بن بالى أربعمائة سنة وستون سنة.
ثم ذكر تفصيلها بمدد الملوك الذين ملكوا عليهم وسماهم واحدا واحدا تركنا ذكرهم قصدا.
(2/254)
قصة شمويل عليه السلام وفيها بدء أمر داود عليه السلام هو شمويل ويقال أشمويل بن بالى بن علقمة بن يرخام بن اليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا.
قال مقاتل: وهو من ورثة هارون.
وقال مجاهد هو أشمويل بن هلفاقا (1) ولم يرفع في نسبه أكثر من هذا، فالله أعلم.
حكى السدى بإسناده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة والثعلبي وغيرهم أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل وقتلوا منهم خلقا كثيرا وسبوا من أبنائهم جمعا كثيرا وانقطعت النبوة من سبط لاوى ولم يبق فيهم إلا امرأة حبلى، فجعلت تدعو الله عزوجل أن يرزقها ولدا ذكرا، فولدت غلاما فسمته أشمويل، ومعناه بالعبرانية إسماعيل، أي سمع الله دعائي.
فلما ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته عند رجل صالح فيه يكون عنده ليتعلم من خيره وعبادته، فكان عنده فلما بلغ أشده بينما هو ذات ليلة نائم إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد فانتبه مذعورا فظنه الشيخ يدعوه فسأله: أدعوتني ؟ فكره أن يفزعه فقال: نعم نم.
فنام.
__________
(1) ا: ابن ملقاتا.
(*)
(2/255)
ثم ناداه الثانية فكذلك ثم الثالثة فإذا جبريل يدعوه.
فجاءه فقال
إن ربك قد بعثك إلى قومك.
فكان من أمره معهم ما قص الله في كتابه.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: " الم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ؟ قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ! فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين.
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا.
قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال.
قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم.
وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.
قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.
(2/256)
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت
وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء.
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذوفضل على العالمين ".
قال أكثر المفسرين: كان نبي هؤلاء [ القوم (1) ] المذكورين في هذه القصة هو شمويل.
وقيل شمعون وقيل هما واحد.
وقيل يوشع، وهذا بعيد لما ذكره الامام أبو جعفر ابن جرير في تاريخه أن بين موت يوشع وبعثة شمويل أربعمائة سنة وستين سنة فالله أعلم.
والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم (2) الاعداء سألوا نبي الله في ذلك الزمان وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكا يكونون تحت طاعته ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الاعداء.
فقال لهم: " هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ؟ قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " أي وأي شئ يمنعنا من القتال " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " يقولون نحن محروبون موتورون، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المنهورين (3) المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم.
قال الله تعالى: " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال.
__________
(1) ليست في ا (2) ا.
وقهرتهم (3) ا: المنهوبين.
(*) (م 17 - قصص الانبياء 2)
(2/257)
" وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " قال الثعلبي وهو طالوت بن قيش بن أفيل (1) بن صارو (2) بن تحورت بن أفيح ابن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
قال عكرمة والسدى: كان سقاء ! وقال وهب بن منبه: كان دباغا وقيل غير ذلك.
والله أعلم.
ولهذا " قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " وقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوى وأن الملك كان في سبط يهوذا، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا في إمارته عليهم وقالوا نحن أحق بالملك منه و [ قد (3) ] ذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه فكيف يكون مثل هذا ملكا.
" قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ".
قيل كان الله قد أوحى إلى شمويل أن أي بني إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا وإذا حضر عندك يفور هذا القرن الذي فيه من دهن القدس فهو ملكهم.
فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن فدهنه منه وعينه للملك (4) عليهم وقال لهم: " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم " قيل في أمر الحروب وقيل بل مطلقا " والجسم " قيل الطول وقيل الجمال، والظاهر من السياق أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم
__________
(1) ا: ابن أسال.
(2) ا: ابن صرار.
(3) من ا.
(4) المطبوعة: وعينه الملك.
(*)
(2/258)
عليه السلام " والله يؤتى ملكه من يشاء " فله الحكم وله الخلق والامر " والله واسع عليم ".
" وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك
لآية لكم إن كنتم مؤمنين " وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم وقهرهم الاعداء عليه وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه " فيه سكينة من ربكم " قيل طست من ذهب كان يغسل فيه صدور الانبياء، وقيل السكينة مثل الريح الخجوح.
وقيل صورتها مثل الهرة إذا صرخت في حال الحرب أيقن بنو إسرائيل بالنصر " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قيل كان فيه رضاض الالواح وشئ من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه " تحمله الملائكة " أي تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عيانا ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم.
ولهذا قال: " إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ".
وقيل إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية [ المباركه (1) ] وقيل كان فيه التوراة أيضا فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته فلما كان اليوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم، فلما
__________
(1) ليست في أ.
(*)
(2/259)
تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى فأخرجوه من بلدهم وجعلوه في قرية من قراهم، فأخذهم داء في رقابهم فلما طال عليهم هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما، فيقال إن الملائكة ساقتهما حتى جاءوا بهما ملا بني إسرائيل وهم ينظرون كما أخبرهم نبيهم بذلك، فالله أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة، والظاهر أن الملائكة كانت
تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم (1) من الآية والله أعلم * وإن كان الاول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم.
" فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ".
قال ابن عباس وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الاردن، وهو المسمى بالشريعة فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له عن أمر الله له اختبارا وامتحانا: أن من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة، ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة بيده.
قال الله تعالى: " فشربوا منه إلا قليلا منهم ".
قال السدى: كان الجيش ثمانين ألفا فشرب منه ستة وسبعون ألفا، فبقى معه أربعة آلاف.
كذا قال.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث إسرائيل وزهير والثوري، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب.
قال: كنا أصحاب محمد
__________
(1) المطبوعة: كما هو المفهوم بالجنود من الآية.
ولا معنى لها.
(*)
(2/260)
صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا (1) معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن.
وقول السدى أن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفا فيه نظر، لان أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين ألفا والله أعلم.
قال الله تعالى: " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا
اليوم بجالوت وجنوده " أي استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم " قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " يعني ثبتهم الشجعان منهم (2) والفرسان أهل الايمان والايقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان.
" ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ومعترك الابطال وحومة الوغى والدعاء إلى النزال فسألوا التثبيت الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا (3) وأنالهم ما إليه [ فيه ] (4) رغبوا.
__________
(1) ا: جازوا.
(2) ط يعنى بها الفرسان منهم.
ولعله محريف وما أثبته من ا.
(3) ا: إلى ما طلبوا.
(4) ليست في ا.
(*)
(2/261)
ولهذا قال " فهزموهم بإذن الله " أي بحول الله [ وقوته (1) ] لابحولهم، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم، كما قال تعالى: " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ".
وقوله تعالى: " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام وأنه قتله قتلا أذل به جنده وكسر (2) جيشه، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم
بسبب ذلك الآموال الجزيلة ويأسر الابطال والشجعان [ والاقران (3) ] وتعلو كلمة الايمان على الاوثان (4) ويدال لاولياء الله على أعدائه، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه.
وقد ذكر السدى فيما يرويه أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه وكانوا ثلاثة عشر ذكرا، كان سمع طالوت ملك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده وهو يقول من قتل جالوت زوجته بابنتي وأشركته في ملكي، وكان داود عليه السلام يرمى بالقذافة وهو المقلاع رميا عظيما، فبينا هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني فإن بي تقتل جالوت.
فأخذه ثم حجر آخر كذلك ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة في مخلاته فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه فتقدم إليه داود فقال له: ارجع فإني أكره قتلك.
فقال: لكني
__________
(1) من ا.
(2) ط: وكسره.
(3) ليست في ا (4) ا: كلمة الله على الاديان.
(*)
(2/262)
أحب قتلك.
وأخذ تلك الاحجار الثلاثة فوضعها في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجرا واحدا.
ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه وفر جيشه منهزما، فوفى له طالوت بما وعده فزوجه ابنته وأجرى حكمه في ملكه وعظم داود عليه السلام عند بني إسرائيل وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على ذلك فلم يصل إليه، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم فقتلهم (1) حتى لم يبق منهم إلا القليل.
ثم حصل له توبة وندم وإقلاع عما سلف منه وجعل يكثر من البكاء ويخرج إلى الجبانة فيبكى حتى بيل الثرى
بدموعه فنودى ذات يوم من الجبانة: أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء وآذيتنا ونحن أموات.
فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله ثم جعل يسأل عن عالم يسأل عن أمره وهل له من توبة، فقيل له: وهل أبقيت عالما ؟ ! حتى دل على امرأة من العابدات فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام.
قالوا: فدعت الله فقام يوشع من قبره فقال: أقامت القيامة ؟ فقلت لا ولكن هذا طالوت يسألك: هل له من توبة ؟ فقال: نعم ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل.
ثم عاد ميتا.
فترك الملك لداود عليه السلام وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا.
قالوا: فذلك قوله " وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ".
هكذا ذكره ابن جرير في تاريخه من طريق السدى باسناده (2).
وفي بعض هذا نظر ونكارة.
والله أعلم.
__________
(1) * ا: يقتلهم.
(2) ا: وإسناده.
(*)
(2/263)
وقال محمد بن إسحق: النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع ابن أخطوب.
حكاه ابن جرير أيضا.
وذكر الثعلبي أنها أتت به إلى قبر شمويل فعاتبه على ما صنع بعده من الامور، وهذا أنسب.
ولعله إنما رآه في النوم لا أنه قام من القبر حيا، فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي، وتلك المرأة لم تكن نبية والله أعلم.
[ قال (1) ابن جرير ]: وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون سنة.
فالله أعلم.
__________
(1) من ا (*)
(2/264)
قصة داود عليه السلام وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وأعلامه هو داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عوينادب ابن ارم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس.
قال محمد بن إسحق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام قصيرا أزرق العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه.
تقدم أنه لما قتل جالوت وكان قتله له فيما ذكر ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر، فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر فاجتمعا في داود هذا.
وهذا كما قال تعالى: " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذوفضل على العالمين " أي لولا إقامة الملوك حكاما على الناس لاكل قوى الناس ضعيفهم.
ولهذا جاء في بعض الآثار " السلطان ظل مالله ؟ ؟ في أرضه ".
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ".
(2/265)
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له خرج إلي وأخرج إليك فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت
قال وهب بن منبه: فمال الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر، وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود.
وقيل إن ذلك عن أمر شمويل حتى قال بعضهم إنه ولاه قبل الوقعة.
قال ابن جرير: والذي عليه الجمهور أنه إنما ولى ذلك بعد قتل جالوت والله أعلم.
وروى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم وأن النهر الذي هناك هو المذكور في الآية فالله أعلم.
* * * وقال تعالى " ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير " وقال تعالى: " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين.
وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون " أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن (1) المقاتلة من الاعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال: " وقدر في السرد " أي لا تدق المسمار فيفلق ولا تغلظه فيفصم.
قاله مجاهد وقتادة والحكم وعكرمة.
قال الحسن البصري وقتادة والاعمش: كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يقتله بيده لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة.
قال قتادة: فكان
__________
(1) ا: لتحصين.
(*)
(2/266)
أول من عمل الدروع من زرد وإنما كانت قبل ذلك من صفائح.
قال ابن شوذب: كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم.
وقد ثبت في الحديث أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن نبي الله
داود كان يأكل من كسب يده.
وقال تعالى: " واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ".
قال ابن عباس ومجاهد: الايد القوة في الطاعة.
يعني ذا قوة في العبادة والعمل الصالح.
قال قتادة: أعطى قوة في العبادة وفقها في الاسلام قال: وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى ".
وقوله: " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له أواب " كما قال: " يا جبال أوبي معه والطير " أي سبحي معه.
قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق " أي عند آخر النهار وأوله، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحد بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه
(2/267)
وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الاوزاعي: حدثني عبد الله بن عامر قال: أعطى داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى إن كان الطير والوحش ينعكف حوله
حتى يموت عطشا وجوعا وحتى إن الانهار لتقف ! وقال وهب بن منبه: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص، وكان يقرأ لزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله فيعكف (1) الجن والانس والطير والدواب على صوته حتى يهلك بعضها جوعا.
وقال أبو عوانة الاسفرايينى: حدثنا أبو بكر ابن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن منصور الطوسى سمعت صبيحا أبا تراب رحمه الله (2) قال أبو عوانة: وحدثني أبو العباس المدنى، حدثنا محمد بن صالح العدوى حدثنا سيار هو ابن حاتم عن جعفر، عن مالك، قال: كان داود عليه السلام إذا أخذ في قراءة الزبور تفتقت العذارى [ وهذا غريب (3) ].
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج، سألت عطاء عن القراءة على الغناء فقال: وما بأس بذلك ؟ سمعت عبيد بن عمر يقول: كان داود عليه السلام يأخذ المعزفة فيضرب بها فيقرأ عليها فترد عليه صوته يريد بذلك أن يبكى وتبكى.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت
__________
(1) ا: لتعتكف (2) كذا في ا.
وفي المطبوعة محرفة: أنبئنا برادح (3) ليست في ا.
(*)
(2/268)
أبي موسى الاشعري وهو يقرأ فقال لقد أوتي أبو موسى من مزامير (1) آل داود.
وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمر،
عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد أعطى أبو موسى من مزامير داود.
على شرط مسلم.
وقد روينا عن أبي عثمان النهدي (2) أنه قال: لقد سمعت البربط والمزمار، فما سمعت صوتا أحسن من صوت أبي موسى الاشعري.
وقد كان مع هذا الصوت الرخيم سريع القراءة لكتابة الزبور، كما قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خفف على داود القراءة، فكان يأمر بدابته فتسرج فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه.
وكذلك رواه البخاري منفردا به عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق به.
ولفظة: " خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يديه.
__________
(1) ا: من مزامر (2) المطبوعة: الترمذي، محرفة.
وما أثبته من ا.
(*)
(2/269)
ثم قال البخاري: ورواه موسى ابن عقبة (1)، عن صفوان، هو ابن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أسندء ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام في تاريخه من طرق عن إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، ومن طريق أبي عاصم عن أبي بكر السبرى، عن صفوان بن سليم به.
والمراد بالقرآن هاهنا الزبور الذي أنزله عليه وأوحاه إليه، وذكر
رواية (2) أشبه أن يكون محفوظا فإنه كان ملكا له أتباع، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغنى به على وجه التخشع، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد قال الله تعالى: " وآتينا داود زبورا " والزبور كتاب مشهور وذكرنا في التفسير الحديث الذي رواه أحمد وغيره أنه أنزل في شهر رمضان، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه.
* * * وقوله: " وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " أي أعطيناه ملكا عظيما وحكما نافذا.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه.
فأنكر المدعى عليه فأرجأ أمرهما إلى الليل، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعى، فلما أصبح قال له داود: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك
__________
(1) ا: ابن عيينة.
محرفة.
وانظر صحيح البخاري 2 / 120 ط الاميرية.
(2) كذا بالاصل ولعله: وذكره له أشبه.
(*)
(2/270)
فأنا قاتلك لا محالة، فما خبرك فيما ادعيته على هذا ؟ قال: والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه، ولكني كنت اعتلت أباه قبل هذا.
فأمر به داود فقتل.
فعظم أمر داود في بني إسرائيل جدا وخضعوا له [ خضوعا (1) ] عظيما.
قال ابن عباس وهو قوله تعالى " وشددنا ملكه " وقوله تعالى " وآتيناه الحكمة " [ أي النبوة (1) ] " وفصل الخطاب " قال شريح والشعبى وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمى وغيرهم: فصل الخطاب
الشهود والايمان يعنون بذلك: " البينة على المدعى واليمين على من أنكر " وقال مجاهد: والسدى هو إصابة القضاء وفهمه.
وقال مجاهد: هو الفصل في الكلام وفي الحكم.
واختاره ابن جرير.
وهذا لا ينافى ما روى عن أبي موسى أنه قول: " أما بعد ".
وقال وهب بن منبه: لما كثر الشر وشهادات الزور في بني إسرائيل أعطى داود سلسلة لفصل القضاء.
فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس، وكانت من ذهب، فإذا تشاجر الرجلان في حق فأيهما كان محقا نالها والآخر لا يصل إليها.
فلم تزل كذلك حتى أودع رجل رجلا لؤلؤة فجحدها منه وأخذ عكازا وأودعها فيه، فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعى فلما قيل للآخر خذها بيدك عمد إلى العكاز فأعطاه المدعى وفيه تلك اللؤلؤة وقال: اللهم أنك تعلم أنى دفعتها إليه.
ثم تناول السلسلة فنالها.
فأشكل أمرها على بني إسرائيل.
ثم رفعت سريعا من بينهم ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين.
وقد رواه إسحق بن بشر عن إدريس بن سنان عن وهب به بمعناه
__________
(1) سقطت من ا (*)
(2/271)
" وهل أتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط.
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب.
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، وظن داود أنما فتناه فاستغفر
ربه وخر راكعا وأناب.
فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصا وأخبارا أكثرها إسرائيليات ومنها ما هو مكذوب لا محالة.
تركنا إيرادها في كتابنا قصدا اكتفاء واقتصارا على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقد اختلف الائمة في سجدة " ص ": هل هي من عزائم السجود أو إنما هي سجدة شكر ليست من عزائم السجود ؟ على قولين.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسى، عن العوام، قال سألت مجاهدا عن سجدة " ص " فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت ؟ قال أو ما تقرأ: " ومن ذريته داود وسليمان " " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل هو ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: في السجود في " ص " ليست من عزائم السجود.
وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.
(2/272)
وكذا رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أيوب وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال النسائي: أخبرني إبراهيم بن الحسن المقسمى، حدثنا حجاج بن محمد، عن عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في " ص " وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكرا.
تفرد به أحمد ورجاله ثقات.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وهو (1) ] على المنبر " ص " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن (2) الناس للسجود فقال: إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزنتم فنزل وسجد.
(3) تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد، حدثنا بكر، هو ابن عمر، وأبو الصديق الناجى، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب " ص " فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى
__________
(1) ليست في ا (2) كذا في ا موافقا لسنن أبي داود 1 / 223.
ومعنى تشزن: انتصب وتهيأ.
وفي المطبوعة: تشرف.
محرفة.
(3) المطبوعة تشرفتم.
محرفة.
وما أثبته من ا (*) (م 18 - قصص الانبياء 2)
(2/273)
الدواة والقلم وكل شئ بحضرته انقلب ساجدا.
قال: فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد.
تفرد به أحمد.
وروى الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن (1) خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيدالله بن أبي يزيد، قال: قال لي ابن جريج حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلى خلف شجرة، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها تقول وهي ساجدة: " اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها عندك ذخرا وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود ".
قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة.
ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه عليه السلام مكث ساجدا أربعين يوما وقاله مجاهد والحسن وغيرهما وورد في ذلك حديث مرفوع، لكنه من رواية يزيد الرقاشى وهو ضعيف متروك الرواية.
قال الله تعالى: " فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " أي إن له يوم القيامة لزلفى، وهي القربة التي يقربه الله بها ويدنيه من
__________
(1) ا: وخنيس (*)
(2/274)
حظيرة قدسه بسببها، كما ثبت في حديث: " المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون في أهليهم وحكمهم وما ولوا ".
وقال الامام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا فضيل، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر ".
وهكذا رواه الترمذي من حديث فضيل بن مرزوق الاغر به وقال
لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان، سمعت مالك بن دينار في قوله: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " قال: يقوم (1) داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش فيقول (2) الله: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني في الدنيا، فيقول: وكيف وقد سلبته فيقول: إني أرده عليك اليوم.
قال فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان (3).
" يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم
__________
(1) ا: يقام (2) ا: ثم يقول (3) ا: الجنة (*)
(2/275)
عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " هذا خطاب من الله تعالى مع داود، والمراد ولاة الامور وحكام الناس، وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله، لا ما سواه من الآراء والاهواء، وتوعد من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك، وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به في ذلك الزمان (1) في العدل، وكثرة العبادة وأنواع القربات، حتى إنه كان لا يمضى ساعة من آناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلا ونهارا كما قال تعالى: " اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور " قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، حدثنا صالح المري (2) عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد، قال قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل
إلى شكرك إلا بنعمتك ؟ قال: فأتاه الوحى: " أن يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني ؟ قال: بلى يا رب.
قال فإني أرضى بذلك منك " وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن بابويه، حدثنا محمد بن يونس القرشى، حدثنا روح بن عبادة، حدثني عبد الله ابن لاحق، عن ابن شهاب قال قال داود: " الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
فأوحى الله إليه: إنك أتعبت الحفظة يا داود ! " ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن علي بن الجعد، عن الثوري مثله
__________
(1) ط: الوقت.
(2) المطبوعة المزى.
محرفة.
وهو صالح بن بشير المرى، مولاهم، البصري نسب إلى مرة ابن الحارث بن عبد القيس.
اللباب 3 / 129 (*)
(2/276)
وقال عبد الله بن المبارك في في كتاب الزهد: أنبأنا سفيان الثوري، عن رجل، عن وهب بن منبه، قال: إن في حكمة آل داود: حق (1) على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضى فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام للقلوب، وحق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه ويقبل على شأنه، وحق على العاقل أن لا يظعن إلا في إحدى ثلاث: زاد لمعاده ومرمة لمعاشه، ولذة في غير محرم.
وقد رواه أبو بكر ابن أبي الدنيا، عن أبي بكر بن أبي خيثمة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي الاغر، عن وهب بن منبه.
فذكره.
ورواه أيضا عن علي بن الجعد، عن عمر بن الهيثم الرقاشى [ عن أبي
الاغر (2) ] عن وهب بن منبه فذكره.
وأبو الاغر هذا هو الذي أبهمه ابن المبارك في روايته.
قاله ابن عساكر.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا بشر بن رافع، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد الله، قال سمعت وهب بن منبه، فذكر مثله.
وقد أورد (3) الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام أشياء كثيرة مليحة منها قوله: كن لليتيم كالاب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد.
وروى بسند غريب مرفوعا قال داود: يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها.
__________
(1) ا: وحق.
(2) سقطت من ا (3) ط: روى.
(*)
(2/277)
وعن داود عليه السلام أنه قال: مثل الخطيب الاحمق في نادى القوم كمثل المغنى عند رأس الميت.
وقال أيضا: ما أقبح الفقر بعد الغنى وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى.
وقال: انظر ما تكره أن يذكر عنك في نادى القوم فلا تفعله إذا خلوت.
وقال: لا تعدن (1) أخاك بما لا تنجزه له فإن ذلك عداوة ما بينك وبينه.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر الواقدي، حدثنى هشام ابن سعد، عن عمر مولى عفرة، قال قالت يهود، لما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج النساء ! انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام ولا والله ماله همة إلا إلى النساء: حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك فقالوا لو كان نبيا ما رغب في النساء.
وكان أشدهم في ذلك حيى ابن أخطب فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه فقال: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله "
يعني بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما " يعني ما آتى الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة.
سبعمائة مهرية (2) وثلاثمائة سرية، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة هذا أكثر مما لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الكلبى نحو هذا وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة، منهن ثلاثمائة سرية.
وروى الحافظ في تاريخه في ترجمة صدقة الدمشقي الذي يروى عن
__________
(1) ا: لا تواعد.
(2) ا: مهيرة.
(*)
(2/278)
ابن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصى، عن أبي هريرة الحمصى، عن صدقة الدمشقي، أن رجلا سأل ابن عباس عن الصيام فقال: لاحدثنك بحديث كان عندي في البحث مخزونا، إن شئت أنبأتك بصوم داود فإنه كان صواما قواما وكان شجاعا لا يفر إذا لاقى، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصيام صيام داود.
وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا يكون فيها، وكانت له ركعة من الليل يبكى فيها نفسه ويبكى ببكائه كل شئ ويصرف بصوته المهموم والمحموم.
وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام ومن وسطه ثلاثة أيام ومن آخره ثلاثة أيام يستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه بصيام.
وإن شئت أنبأتك يصوم ابن العذراء البتول عيسى بن مريم، فإنه كان يصوم الدهر ويأكل الشعير ويلبس الشعر، يأكل ما وجد ولا يسأل
عما فقد، ليس له ولد يموت ولا بيت يخرب، وكان أينما أدركه الليل صف بين قدميه وقام يصلى حتى يصبح، وكان راميا لا يفوته صيد يريده، وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضى لهم حوائجهم.
وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران، فإنها كانت تصوم يوماوتفطر يومين.
وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الامي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ويقول إن ذلك صوم الدهر.
(2/279)
وقد روى (1) الامام أحمد عن أبي النضر، عن فرج بن فضالة، عن أبي هرم عن صدقة عن ابن عباس مرفوعا في صوم داود.
ذكر كمية حياته وكيفية وفاته قد تقدم في ذكر الاحاديث الواردة في خلق آدم أن الله لما استخرج ذريته من ظهره فرأى فيهم الانبياء عليهم السلام ورأى فيهم رجلا يزهر فقال: أي رب من هذا ؟ قال: هذا ابنك داود.
قال: أي رب كم عمره ؟ قال: ستون عاما.
قال: أي رب زد في عمره.
قال: لا إلا أن أزيده من عمرك.
وكان عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاما فلما انقضى عمر (2) آدم جاءه ملك الموت فقال: بقى من عمرى أربعون سنة ونسى آدم ما كان وهبه لولده داود فأتمها الله لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة.
رواه أحمد عن ابن عباس، والترمذي وصححه عن أبي هريرة، وابن خزيمة وابن حبان.
وقال الحاكم: على شرط مسلم.
وقد تقدم ذكر طرقه وألفاظه في قصة آدم.
قال ابن جرير: وقد زعم أهل الكتاب أن عمر داود كان سبعا
وسبعين سنة.
قلت: هذا غلط مردود عليهم، قالوا: وكانت مدة ملكه أربعين سنة، وهذا قد يقبل نقله لانه ليس عندنا ما ينافيه ولا ما يقتضيه.
وأما وفاته عليه السلام فقال الامام أحمد في مسنده: حدثنا قبيصة (2) حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب،
__________
(2) ا: عمره.
(2) ا: قتيبة (1) كذا.
ولعلها: رواه.
(*)
(2/280)
عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلق الابواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع.
قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة، والله لنفتضحن بداود.
فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود: من أنت ؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع (1) من الحجاب.
فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت مرحبا بأمر الله.
ثم مكث حتى قبضت (2) روحه فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلى على داود.
فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الارض، فقال سليمان للطير: اقبضي جناحا.
قال أبو هريرة: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية.
انفرد بإخراجه الامام أحمد وإسناده جيد قوى رجاله ثقات، ومعنى قوله: " وغلبت عليه يومئذ المضرحية " أي وغلبت على التظليل عليه [ المضرحية وهي (3) ] الصقور الطوال الاجنحة واحدها مضرحي.
قال الجوهرى: وهو
الصقر الطويل الجناح.
وقال السدى عن أبي مالك، عن ابن مالك، عن ابن عباس قال: مات داود عليه السلام فجأة وكان بسبت، وكانت الطير تظله.
وقال السدى
__________
(1) ا: ولا أمتنع.
(2) ا: فزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه.
(3) ليست في ا (4) من ا (*)
(2/281)
أيضا، عن أبي مالك وعن سعيد بن جبير قال: مات داود عليه السلام يوم السبت فجأة.
وقال إسحاق بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، قال مات داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة ومات يوم الاربعاء فجأة.
وقال أبو السكن الهجرى: مات إبراهيم الخليل فجأة وداود فجأة وابنه سليمان فجأة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
رواه ابن عساكر.
وروى عن بعضهم أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه فقال له: دعني أنزل أو أصعد.
فقال يا نبي الله قد نفدت السنون والشهور والآثار والارزاق.
قال: فخر ساجدا على مرقاة من تلك المراقى فقبضه وهو ساجد.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا وافر بن سليمان، عن أبي سليمان الفلسطيني عن وهب بن منبه قال: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام فجلسوا في الشمس في يوم صائف قال: وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس، ولم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهرون أحد كانت بنو إسرائيل أشد جزعا عليه
منهم على داود.
قال: فأذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل (1) لهم وقاية لما أصابهم من الحر، فخرج سليمان فنادى الطير فأجابت فأمرها أن تظل (1) الناس، فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه، حتى استمسكت
__________
(1) ا: يعجل (2) ا: فأظلت.
(*)
(2/282)
الريح فكاد الناس أن يهلكوا غما فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم، فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلى الناس من ناحية الشمس وتنحى ؟ ؟ عن ناحية الريح.
ففعلت فكان الناس في ظل تهب (1) عليهم الريح، فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثنى الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حيمد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر ابن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قبض الله داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سننه وهديه مائتي سنة.
هذا حديث غريب وفي رفعه نظر، والوضين بن عطاء كان ضعيفا في الحديث.
والله أعلم.
__________
(1) ط: وتهب.
(*)
(2/283)
قصة سليمان بن داود عليهما السلام قال الحافظ ابن عساكر: وهو سليمان بن داود بن ايشا بن عويد ابن عابر بن سلمون بن تخشون ؟ ؟ بن عمينا اداب (1) بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم أبي الربيع نبي الله بن نبي الله.
جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق.
قال ابن ماكولا: فارص بالصاد المهملة، وذكر نسبه قريبا مما ذكره ابن عساكر.
قال الله تعالى: " وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين (2) " أي ورثه في النبوة والملك، وليس المراد ورثه في المال، لانه قد كان له بنون غيره، فما كان ليخص بالمال دونهم، ولانه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا فهو صدقة " وفي لفظة: " نحن معاشر الانبياء لا نورث " فأخبر الصادق المصدوق أن الانبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم، بل تكون أموالهم صدقة من بعدهم على الفقراء والمحاويج لا يخصون بها أقرباؤهم، لان الدنيا كانت أهون عليهم وأحقر عندهم من ذلك كما هي عند الذي أرسلهم واصطفاهم وفضلهم.
وقال: " يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ " يعني أنه عليه السلام كان يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها.
__________
(1) تقدم في نسب داود: ابن عمينا دب.
(2) سورة النمل (*)
(2/284)
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا على بن حشاد، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا على بن قدامة، حدثنا أبو جعفر الاسواني، يعنى محمد بن عبد الرحمن، عن أبي يعقوب العمى، حدثني أبو مالك، قال مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة فقال لاصحابه: أتدرون ما يقول ؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله ؟ قال: يخطبها إلى نفسه ويقول زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت ! قال
سليمان عليه السلام: لان غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد ولكن كل خاطب كذاب ! [ رواه ابن عساكر عن أبي القاسم زاهر بن طاهر، عن البيهقي به (1) ] وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات، والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات: " وأوتينا من كل شئ " أي من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات والجنود والجيوش والجماعات من الجن والانس والطيور والوحوش والشياطين السارحات والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات ثم قال: " إن هذا لهو الفضل المبين " أي من بارئ البريات وخالق الارض والسموات كما قال تعالى: " وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون.
فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ".
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/285)
يخبر تعالى عن عبده ونبيه وابن نبيه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أنه ركب يوما في جيشه جميعه من الجن والانس والطير، فالجن والانس يسيرون معه والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة أي نقباء يردون أوله على آخره، فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه ولا يتأخر ؟ ؟ [ عنه (1) ] قال الله تعالى " حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم
سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " فأمرت وحذرت واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور.
وقد ذكر وهب أنه مر وهو على البساط بواد بالطائف وأن هذه النملة كان اسمها جرسا، وكانت من قبيلة يقال لهم بنو الشيصبان وكانت عرجاء وكانت بقدر الذئب.
وفي هذا كله نظر، بل في هذا السياق دليل على أنه كان في موكبه راكبا في خيوله وفرسانه، لا كما زعم بعضهم من أنه كان إذ ذاك على البساط لانه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شئ ولا وطئ، لان البساط كان (2) عليه جميع ما يحتاجون إليه من الجيوش والخيول والجمال والاثقال والخيام والانعام والطير من فوق ذلك كله، كما سنبينه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
والمقصود أن سليمان عليه السلام فهم ما خاطبت به تلك النملة لامتها من الرأى السديد والامر الحميد وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله عليه دون غيره، وليس كما يقوله بعض الجهلة من
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: يكون.
(*)
(2/286)
أن الدواب كانت تنطق قبل سليمان وتخاطب الناس حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد وألجمها فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك، فإن هذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون، ولو كان هذا هكذا لم يكن لسليمان في فهم مقالها (1) مزية على غيره إذ قد كان الناس كلهم يفهمون ذلك، ولو كان قد أخذ عليها العهد أن لا تتكلم مع غيره وكان هو يفهمها لم يكن في هذا أيضا فائدة يعول عليها، ولهذا قال " رب أوزعني " [ أي ألهمني وأرشدني (2) ] " أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي
وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " فطلب من الله أن يقيضه للشكر على ما أنعم به عليه وعلى ما خصه به من المزية على غيره وأن ييسر عليه العمل الصالح وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصالحين وقد استجاب الله تعالى له.
والمراد بوالديه داود عليه السلام وأمه، وكانت من العابدات الصالحات كما قال سنيد بن داود، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت أم سليمان بن داود، يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيرا يوم القيامة.
رواه ابن ماجه عن أربعة من مشايخه عنه به نحوه.
[ وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، أن سليمان بن داود عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها
__________
(1) ط: لغاتها.
وما أثبته من ا.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/287)
تستسقى، فقال لاصحابه: ارجعوا فقد سقيتم إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها ! قال ابن عساكر: وقد روى مرفوعا ولم يذكر فيه سليمان.
ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز، عن سلامة بن روح بن خالد، عن عقيل، عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرج نبي من الانبياء بالناس يستسقون الله فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال النبي: ارجعوا فقد ستجيب لكم من أجل هذه النملة.
وقال السدى: أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه السلام، فأمر الناس فخرجوا فإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول: " اللهم أنا خلق من خلقك ولا غناء بنا عن فضلك ".
قال: فصب الله عليهم المطر ] (1).
* * * وقال الله تعالى: " وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لاعذبنه عذابا شديدا أو لاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/288)
فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السموات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون.
الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم، قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.
اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون.
قالت يا أيها الملا إني ألقي إلي كتاب كريم.
إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين * قالت يا أيها الملا أفتوني ؟ ؟ في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر إليك فانظري ماذا تأمرين.
قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون.
وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني
الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون.
ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ".
يذكر تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد، وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون يقدمون بما يطلب منهم ويحضرون عنده بالنوبة كما هي عادة الجنود مع الملوك، وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الاسفار يجئ فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء، وفيه من القوة التي أودعها الله تعالى فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الارض، فإذا دلهم عليه حفروا عنه (1) واستنبطوه وأخرجوه [ واستعملوه (2) ] لحاجتهم.
فلما تطلبه سليمان عليه السلام ذات يوم فقده ولم يجده في موضعه من محل
__________
(1) ا: له.
(2) ليست في ا.
(*) (م 19 - قصص الانبياء 2)
(2/289)
خدمته " فقال مالى لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " أي ماله مفقود من هاهنا أو قد غاب عن بصرى فلا أراه بحضرتي " لاعذبنه عذابا شديدا " توعده بنوع من العذاب اختلف المفسرون فيه، والمقصود حاصل على كل تقدير " أو لاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " أي بحجة تنجيه من هذه الورطة.
قال الله تعالى: " فمكث غير بعيد " أي فغاب (1) الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها " فقال " لسليمان " أحطت بما لم تحط به " أي اطلعت على ما لم تطلع عليه " وجئتك من سبأ بنبأ يقين " أي بخبر صادق " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش
عظيم " يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة والتبابعة المتوجين، وكان الملك ؟ ؟ قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم لم يخلف غيرها فملكوها عليهم.
وذكر الثعلبي [ وغيره (2) ] أن قومها ملكوا عليهم بعد أبيها رجلا فعم به الفساد، فأرسلت إليه تخطبه فتزوجها فلما دخلت عليه سقته خمرا ثم حزت رأسه ونصبته على بابها، فأقبل الناس عليها وملكوها عليهم وهي بلقيس بنت السيرح وهو الهدهاد.
وقيل شراحيل بن ذي جدن ابن السيرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، وكان أبوها من أكابر الملوك وكان قد تأبى (3) أن
__________
(1) ا: غاب (2) ليست ؟ ؟ في ا.
(3) ط: وكان يأبى أن يتزوج.
وما أثبته من ا.
(*)
(2/290)
يتزوج من أهل اليمن، فيقال إنه تزوج بامرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن، فولدت له هذه المرأة واسمها تلقمة ويقال لها بلقيس.
وقد روى الثعلبي من طريق سعيد بن بشير عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان أحد أبوى بلقيس جنيا.
وهذا حديث غريب وفي سنده ضعف.
وقال الثعلبي: أخبرني أبو عبد الله بن قبحونة، حدثنا أبو بكر بن حرجة، حدثنا ابن أبي الليث، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال ذكرت بلقيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " إسماعيل بن مسلم هذا هو المكى ضعيف.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ".
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حميد، عن الحسن عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ بمثله (1) ] وقال الترمذي حسن صحيح.
وقوله: " وأوتيت من كل شئ " أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك " ولها عرش عظيم " يعنى سرير مملكتها كان مزخرفا بأنواع الجواهر واللآلئ والذهب والحلى الباهر.
__________
(1) من ا.
(*)
(2/291)
ثم ذكر كفرهم بالله وعبادتهم الشمس من دون الله وإضلال الشيطان لهم وصده إياهم عن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، الذي يخرج الخب ء في السموات والارض ويعلم ما يخفون وما يعلنون، أي يعلم السرائر والظواهر من المحسوسات والمعنويات " الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " أي له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات.
فعند ذلك بعث معه سليمان عليه السلام كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله والانابة والاذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه ولهذا قال لهم: " ألا تعلوا علي " أي لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري (2) " وأتوني مسلمين " أي واقدموا علي سامعين مطيعين بلا معاودة ولا مراودة، فلما جاءها الكتاب مع الطير، ومن ثم اتخذ الناس البطائق، ولكن أين الثريا من الثرى، تلك البطاقة كانت مع طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له.
فذكر غير واحد من
المفسرين وغيرهم أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها وهي في خلوة لها ثم وقف ناحية ينتظر [ ما يكون من (2) ] جوابها عن كتابها، فجمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دواتها إلى مشورتها " قالت يا أيها الملا إني ألقى إلي كتاب كريم " ثم قرأت عليهم عنوانه أولا " إنه من سليمان " [ ثم قرأته (2) ] " وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين " ثم شاورتهم (3) في أمرها وما قد حل بها وتأدبت معهم وخاطبتهم وهم يسمعون " قالت يا أيها الملا أفتوني في أمري ما كنت
__________
(1) ا: أمرى.
(2) ليست في ا.
(3) ا: ثم أمرتهم في أمرها.
(*)
(2/292)
قاطعة أمرا حتى تشهدون " تعني ماكنت لابت أمرا إلا وأنتم حاضرون " قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد " يعنون لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الابطال، فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين " و " مع هذا " الامر إليك فانظري ماذا تأمرين " فبذلوا لها السمع والطاعة وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة، وفوضوا إليها في ذلك الامر لترى فيه ما هو الارشد لها ولهم.
فكان رأيها أتم وأشد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف ولا يخادع " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " تقول برأيها السديد: إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الامر من بينكم إلا إلي ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البليغة إلا علي " وإني مرسلة إليهم فناظرة بم يرجع المرسلون " أرادت أن تصانع عن نفسها.
وأهل مملكتها بهدية ترسلها وتحف تبعثها، ولم تعلم أن سليمان عليه السلام
لا يقبل منهم والحالة هذه صرفا ولا عدلا، لانهم كافرون، وهو وجنوده عليهم قادرون.
" و " لهذا " لما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتانى الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة، ذكره المفسرون.
ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون " ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم
(2/293)
صاغرون " يقول ارجع بهديتك التي قدمت بها إلى من قد من بها فإن عندي مما قد أنعم الله علي وأسداه إلي من الاموال والتحف والرجال ما هو أضعاف هذا وخير من هذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه " فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها " أي فلابعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ولانزالهم ؟ ؟ ولا ممانعتهم ولا قتالهم ولاخرجنهم من بلدهم وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم أذلة " وهم صاغرون " عليهم الصغار و [ العار ] (1) والدمار.
فلما بلغهم ذلك عن نبي الله لم يكن لهم بد من السمع والطاعة، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة وأقبلوا صحبة الملكة أجمعين سامعين مطيعين خاضعين.
فلما سمع بقدومهم عليه [ ووفودهم إليه (1) ] قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان ما قصه الله عنه في القرآن: " قال يا أيها الملا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين.
قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين.
قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.
فلما رآه
مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو، وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين.
قيل
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/294)
لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ".
لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها، قبل قدومها عليه " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " يعني قبل أن ينقضي مجلس حكمك وكان فيما يقال من أول النهار إلى قريب الزوال يتصدى لمهمات بني اسرائيل وما لهم من الاشغال " وإني عليه لقوي أمين " أي وإني لذو قدرة على إحضاره إليك وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك " قال الذي عنده علم من الكتاب " المشهور أنه آصف ابن برخينا وهو ابن خالة سليمان.
وقيل هو رجل من مؤمني الجان، كان فيما يقال يحفظ الاسم الاعظم.
وقيل رجل من بني إسرائيل من علمائهم وقيل: إنه سليمان، وهذا غريب جدا.
وضعفه السهيلي بأنه لا يصح في سياق الكلام.
قال وقد قيل فيه قول رابع وهو: جبريل.
" أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " قيل معناه قبل أن تبعث رسولا
إلى أقصى ما ينتهى إليه طرفك من الارض ثم يعود إليك.
وقيل قبل أن يصل إليك أبعد من تراه من الناس.
وقيل قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك.
وقيل قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته.
وهذا أقرب ما قيل.
" فلما رآه مستقرا عنده " أي فلما رأى عرش بلقيس مستقرا عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين
(2/295)
" قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر " أي هذا من فضل الله علي وفضله على عبيده ليختبرهم على الشكر أو خلافه " ومن شكر فإنما يشكر لنفسه " أي إنما يعود نفع ذلك عليه " ومن كفر فإن ربي غني كريم " أي غنى عن شكر الشاكرين ولا يتضرر بكفر الكافرين.
ثم أمر سليمان عليه السلام أن يغير حلى هذا العرش وينكر لها ليختبر فهمها وعقلها ولهذا قال: " ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون.
فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو " وهذا من فطنتها وغزارة فهمها، لانها استبعدت أن يكون عرشها لانها خلفته وراءها بأرض اليمن، ولم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب.
قال الله تعالى إخبارا عن سليمان وقومه: " وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين.
وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين " أي ومنعها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها من دون الله اتباعا لدين آبائهم وأسلافهم لا لدليل قادهم إلى ذلك ولا حداهم على ذلك.
وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج وعمل في ممره ماء، وجعل عليه سقفا من زجاج، وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب
الماء، وأمرت بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره [ فيه (2) ] " فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " وقد
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/296)
قيل إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر فينفره ذلك منها، وخشوا أن يتزوجها لان أمها من الجان فتتسلط عليهم معه.
وذكر بعضهم أن حافرها كان كحافر الدابة.
وهذا ضعيف وفي الاول أيضا نظر.
والله أعلم.
إلا أن سليمان قيل إنه لما أراد إزالته حين عزم على تزوجها سأل الانس عن زواله فذكروا له الموسى، فامتنعت من ذلك فسأل الجان فصنعوا له النورة ووضعوا له الحمام، فكان أول من دخل الحمام.
فلما وجد مسه قال أوه من عذاب أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه.
وقد ذكر الثعلبي وغيره أن سليمان لما تزوجها أقرها على مملكة اليمن وردها إليه، وكان يزورها في كل شهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام ثم يعود على البساط، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور باليمن، غمدان وسالحين وبيتون.
فالله أعلم.
وقد روى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه أن سليمان لم يتزوجها بل زوجها بملك همدان وأقرها على ملك اليمن وسخر زوبعة ملك اليمن فبنى لها القصور الثلاثة التي ذكرناها باليمن.
والاول أشهر وأظهر، والله أعلم.
* * * وقال تعالى في سورة ص: " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد.
فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب.
قال رب اغفر لي
(2/297)
وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب.
فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب.
والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد.
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ".
يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان عليهما السلام، ثم أثنى الله تعالى عليه فقال: " نعم العبد إنه أواب " أي رجاع مطيع لله.
ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، الجياد وهي المضمرة السراع.
فقال: " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب " يعني الشمس.
وقيل الخيل على ما سنذكره من القولين.
" ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق " قيل مسح عراقيبها وأعناقها بالسيوف.
وقيل مسح عنها العرق لما أجراها وسابق بينها بين يديه على القول الآخر.
والذي عليه أكثر السلف الاول، فقالوا اشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس.
روى هذا عن علي بن أبي طالب وغيره.
والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمدا من غير عذر، اللهم إلا أن يقال إنه كان سائغا في شريعتهم، فأخر الصلاة لاجل أسباب الجهاد وعرض الخيل من ذلك.
وقد ادعى طائفة من العلماء في تأخير [ النبي صلى الله عليه وسلم (1) ]
صلاة العصر يوم الخندق أن هذا كان مشروعا إذ ذاك حتى نسخ بصلاة
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/298)
الخوف، قاله الشافعي وغيره.
وقال مكحول والاوزاعي: بل هو حكم محكم [ إلى اليوم (1) ] أنه (2) يجوز تأخيرها بعذر القتال الشديد.
كما ذكرنا تقرير ذلك في سورة النساء عند صلاة الخوف.
وقال آخرون: بل كان تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق نسيانا وعلى هذا فيحمل فعل سليمان عليه السلام على هذا والله أعلم.
وأما من قال: الضمير في قوله: " حتى توارت بالحجاب " عائد على الخيل وأنه لم تنته وقت صلاة وأن المراد بقوله " ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق " يعني مسح العرق عن عراقيبها وأعناقها، فهذا القول اختاره ابن جرير ورواه الوالبي عن ابن عباس في مسح العرق.
ووجه هذا القول ابن جرير بأنه ما كان ليعذب الحيوان بالعرقبة ويهلك مالا بلا سبب ولا ذنب لها.
وهذا الذي قاله فيه نظر لانه قد يكون هذا سائغا في ملتهم وقد ذهب بعض علمائنا إلى أنه إذا خاف المسلمون أن يظفر الكفار على شئ من الحيوانات من أغنام ونحوها جاز ذبحها وإهلاكها لئلا يتقووا بها.
وعليه حمل صنيع جعفر بن أبي طالب يوم عقر فرسه بمؤتة.
وقد قيل إنها كانت خيلا عظيمة.
قيل كانت عشرة آلاف فرس.
وقيل [ كانت (3) ] عشرين ألف فرس.
وقيل كان فيها عشرون فرسا من ذوات الاجنحة.
وقد روى أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد ابن أبي مريم، أنبأنا يحيى بن أيوب، حدثني عمارة بن غزية، أن محمد ابن إبراهيم حدثه عن محمد بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت:
__________
(1) ليست في ا (2) ا: إذ يجوز.
(3) من ا.
(*)
(2/299)
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها (1) ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب (2) فقال: ماهذا يا عائشة ؟ فقالت: بناتي.
ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع.
فقال: ما هذا الذي أرى وشطهن ؟ قالت: فرس.
قال: وما الذي عليه ؟ هذا قالت جناحان.
قال: فرس له جناحان ! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة.
قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
قال (3) بعض العلماء لما ترك الخيل لله عوضه الله عنها بما هو خير له منها، وهو الريح التي كانت غدوها شهر ورواحها شهر، كما سيأتي الكلام عليها.
كما قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عزوجل وقال إنك لا تدع شيئا اتقاء الله عزوجل إلا أعطاك الله خيرا منه ".
* * * وقوله تعالى: " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب " ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين ها هنا آثارا كثيرة عن جماعة من السلف، وأكثرها أو كلها متلقاة من الاسرائيليات،
__________
(1) السهوة: الكوة (2) المطبوعة: تلعب وما أثبته من ا موافقا لسنن أبي داود
2 / 305.
(3) المطبوعة.
وقال.
(*)
(2/300)
وفي كثير منها نكارة شديدة، وقد نبهنا على ذلك في كتابنا التفسير واقتصرناها هنا على مجرد التلاوة.
ومضمون ما ذكروه أن سليمان عليه السلام غاب عن سريره أربعين يوما ثم عاد إليه، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس فبناه بناء محكما.
وقد قدمنا أنه جدده وأن أول من جعله مسجدا إسرائيل عليه السلام، كما ذكرنا ذلك عند قول أبي ذر: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال: المسجد الحرام.
قلت: ثم أي ؟ قال: مسجد بيت المقدس، قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة.
ومعلوم أن بين إبراهيم الذي بنى المسجد الحرام وبين سليمان بن داود عليهما السلام أزيد من ألف سنة دع أربعين سنة، وكان سؤاله الملك الذي لا ينبغي لاحد من بعده بعد إكماله البيت المقدس ؟ قال الامام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانيدهم عن عبد الله بن فيروز الديلمى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عزوجل خلالا ثلاثا، فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله حكما يصادف حكمه.
فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه ؟ فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها.
فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى فقد أثنى الله تعالى عليه
(2/301)
وعلى أبيه في قوله: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " وقد ذكر شريح القاضي وغير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كان لهم كرم فنفشت فيه غنم قوم آخرين، أي رعته بالليل فأكلت شجره بالكلية، فتحاكموا إلى داود عليه السلام فحكم لاصحاب الكرم بقيمته فلما خرجوا على سليمان قال: بم حكم لكم نبي الله ؟ فقالوا: بكذا وكذا فقال أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب الكرم فيستغلونها نتاجا ودرا حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما كان عليه، ثم يتسلموا غنمهم، فبلغ داود عليه السلام ذلك فحكم به.
وقريب من هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما فتنازعتا في الآخر فقالت الكبرى: إنما ذهب بابنك ؟ وقالت الصغرى: بل إنما ذهب بابنك.
فتحاكمتا إلى داود فحكم به للكبرى، فخرجتا على سليمان فقال: ائتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه ؟ فقالت الصغرى يرحمك الله هو ابنها.
فقضى به لها ".
ولعل كلا من الحكمين كان سائغا في شريعتهم، ولكن ما قاله سليمان أرجح، ولهذا أثنى الله عليه بما ألهمه إياه ومدح بعد ذلك أباه فقال: " وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن
(2/302)
والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل
أنتم شاكرون ".
ثم قال: " ولسليمان الريح عاصفة " أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة " تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين " وقال في سورة ص: " فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " لما ترك الخيل ابتغاء وجه الله عوضه الله منها الريح التي هي أسرع سيرا وأقوى وأعظم ولا كلفة عليه لها " تجري بأمره رخاء حيث أصاب " أي حيث أراد من أي البلاد، كان له بساط مركب من أخشاب بحيث إنه يسع جميع ما يحتاج إليه من الدور المبنية والقصور والخيام والامتعة والخيول والجمال والاثقال والرجال من الانس والجان، وغير ذلك من الحيوانات والطيور فإذا أراد سفرا أو مستنزها أو قتال ملك أو أعداء من أي بلاد الله شاء، فإذا حمل هذه الامور المذكورة على البساط أمر الريح فدخلت تحته [ فرفعته (1) ] فإذا استقل بين السماء والارض أمر الرخاء فسارت به، فإن أراد أسرع من ذلك أمر العاصفة [ فحملته (1) ] أسرع ما يكون فوضعته في أي مكان شاء، بحيث إنه كان يرتجل في
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/303)
أول النهار من بيت المقدس فتغدو به الريح فتضعه بإصطخر مسيرة شهر فيقيم هناك إلى آخر النهار، ثم يروح من آخره فترده إلى بيت المقدس.
كما قال تعالى: " ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا
له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ".
قال الحسن البصري: كان يغدو من دمشق فينزل بإصطخر فيتغدى بها ويذهب رائحا منها فيبيت بكابل وبين دمشق وبين إصطخر مسيرة شهر وبين إصطخر وكابل مسيرة شهر.
قلت: قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان أن اصطخر بنتها الجان لسليمان وكان فيها قرار مملكة (2) الترك قديما، وكذلك غيرها من بلدان شتى كتدمر وبيت المقدس وباب جيرون وباب البريد اللذان بدمشق على أحد الاقوال.
وأما القطر فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد: هو النحاس.
قال قتادة وكانت باليمن أنبعها الله له.
قال السدى ثلاثة أيام فقط أخذ منها جميع ما يحتاج إليه للبنايات وغيرها.
وقوله: " ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير " أي وسخر الله له من الجن عمالا
__________
(1) ا: ملك.
(*)
(2/304)
يعملون له ما يشاء لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته ومن خرج منهم عن الامر عذبه ونكل به " يعملون له ما يشاء من محاريب " وهي الاماكن الحسنة وصدور المجالس " وتماثيل " وهي الصور في الجدران، وكان هذا سائغا في شريعتهم وملتهم " وجفان كالجواب ".
قال ابن عباس: الجفنة
كالجوبة من الارض.
وعنه كالحياض.
وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم.
وعلى هذه الرواية يكون الجواب جمع جابية وعى ؟ ؟ الحوض الذي يجبى فيه الماء، قال الاعشى: تروح على آل المحلق جفنة * كجابية الشيخ العراقى تفهق (1) وأما القدور الراسيات فقال عكرمة: أثافيها منها، يعني أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن، وهكذا قال مجاهد وغير واحد.
ولما كان هذا بصدد إطعام الطعام والاحسان إلى الخلق من إنسان وحيوان قال تعالى: " اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور " وقال تعالى: " والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد " يعني أن منهم من قد سخره في البناء ومنهم من يأمره بالغوص في الماء لاستخراج ما هنالك من الجواهر واللآلئ وغير ذلك مما لا يوجد إلا هنالك.
وقوله: " وآخرين مقرنين في الاصفاد " أي قد عصوا فقيدوا مقرنين اثنين اثنين في الاصفاد وهي القيود، وهذا كله من جملة ما هيأه الله وسخر له من الاشياء التي [ هي (2) ] من تمام الملك الذي لا ينبغي لاحد من بعده ولم يكن أيضا لمن كان قبله.
__________
(1) تفهق: تفيض من امتلائها.
(2) ليست في ا (*) (م 20 - قصص الانبياء 2)
(2/305)
وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سوارى المسجد حتى
تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان: " رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي، فرددته خاسئا ".
وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح، حدثني ربيعة بن يزيد (1) عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى (2) فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله ثلاثا، وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله [ قد (3) ] سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهى فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات.
ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة.
فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لاصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة.
وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به.
__________
(1) ا: ابن شريك وهو تحريف (2) ط: فصلى.
وما أثبته من ا.
وهذه الكلمة ليست في صحيح مسلم.
(3) سقطت من المطبوعة وأثبتها من ا.
(*)
(2/306)
وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا مرة بن معبد، حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان، قال: رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي، فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال: حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه
عليه القراءة.
فلما فرغ من صلاته قال: " لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين (1) الابهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لاصبح مربوطا بسارية من سوارى المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل ".
روى أبو داود منه " فمن استطاع " إلى آخره عن أحمد بن سريج عن أحمد الزبيري به.
وقد ذكر غير واحد من السلف أنه كانت لسليمان من النساء ألف امرأة سبعمائة بمهور وثلاثمائة سرارى.
وقيل بالعكس ثلاثمائة حرائر وسبعمائة من الاماء، وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمرا عظيما جدا.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال سليمان بن داود: لاطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله.
فقال له صاحبه: إن شاء الله.
فلم يقل فلم
__________
(1) ا: ما بين.
(*)
(2/307)
تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قالها لجاهدوا في سبيل الله.
وقال شعيب وابن أبي الزناد: تسعين وهو أصح.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد، عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال سليمان بن داود لاطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة منهن تلد غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله، فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن امرأة إلا امرأة ولدت نصف إنسان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لولدت كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله عزوجل ".
إسناده على شرط الصحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال قال سليمان بن داود: لاطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ولم يستثن.
فما ولدت إلا واحدة منهن بشق إنسان.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو استثنى لولد له مائة غلام كلهم يقاتل في سبيل الله عزوجل ".
تفرد به أحمد أيضا.
(2/308)
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا (1) معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال سليمان بن داود، لاطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله [ قال (2) ] ونسى أن يقول إن شاء الله فأطاف بهن قال: فلم تلد منهن امرأة إلا (3) واحدة نصف إنسان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته ".
وهكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به مثله.
قال إسحاق بن بشر: أنبأنا مقاتل، عن أبي الزناد، وابن أبي الزناد عن أبيه، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن سليمان بن داود كان له
أربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يوما: لاطوفن الليلة على ألف امرأة فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله.
ولم يستثن فطاف عليهن فلم تحمل واحدة منهن إلا امرأة واحدة منهن جاءت بشق إنسان.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو استثنى فقال إن شاء الله لولد له ما قال فرسان ولجاهدوا في سبيل الله عزوجل ".
وهذا إسناد ضعيف لحال إسحاق بن بشر، فإنه منكر الحديث ولا سيما وقد خالف الروايات الصحاح.
وقد كان له عليه السلام من أمور الملك واتساع الدولة وكثرة الجنود وتنوعها ما لم يكن لاحد قبله ولا يعطيه الله أحدا بعده كما قال: " وأوتينا
__________
(1) ا: أخبرنا (2) ليست في ا.
(3) ا: إلا إمرأة واحدة (*)
(2/309)
من كل شئ " " وقال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب " وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه وأسداه من النعم الكاملة العظيمة إليه قال: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " أي أعط من شئت واحرم من شئت، فلا حساب عليك أي تصرف في المال كيف شئت فإن الله قد سوغ لك ما تفعله من ذلك ولا يحاسبك على ذلك، وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول، فإن من شأنه أن لا يعطى أحدا إلا بإذن الله له في ذلك.
وقد خير نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بين هذين المقامين فاختار أن يكون عبدا رسولا.
وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل
في ذلك فأشار إليه أن تواضع.
فاختار أن يكون عبدا رسولا صلوات الله وسلامه عليه وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين حتى تقوم الساعة.
فلله الحمد والمنة.
ولما ذكر تعالى ما وهبه لنبيه سليمان عليه السلام من خير الدنيا نبه على ما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل والاجر الجميل والقربة التي تقربه إليه والفوز العظيم والاكرام بين يديه، وذلك يوم المعاد والحساب حيث يقول تعالى: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ".
(2/310)
ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته قال الله تبارك وتعالى: " فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من حديث إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك ؟ فتقول كذا.
فيقول لاي شئ أنت ؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء أنبتت.
فبينما هو يصلى ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها ما اسمك: قالت الخروب.
قال: لاي شئ أنت ؟ قالت لخراب هذا البيت.
فقال سليمان: اللهم عم على الجن موتى حتى تعلم الانس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا والجن تعمل، فأكلتها الارضة فتبينت الانس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين.
قال:
وكان ابن عباس يقرؤها كذلك.
فشكرت الجن للارضة فكانت تأتيها بالماء.
لفظ ابن جرير.
وعطاء الخراساني في حديثه نكارة.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس موقوفا.
وهو أشبه بالصواب والله أعلم.
وقال السدى في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن
(2/311)
عباس، وعن أناس من الصحابة: كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل طعامه وشرابه.
فأدخله في المرة التي توفى فيها فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة فيأتيها فيسألها ما اسمك ؟ فتقول الشجرة: اسمى كذا وكذا.
فإن كانت لغرس غرسها وإن كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا.
فيجعلها كذلك حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة (1) فسألها ما اسمك ؟ فقالت: أنا الخروبة.
فقال: ولاي شئ نبت ؟ فقالت: نبت لخراب هذا المسجد فقال (2) سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس.
فنزعها وغرسها في حائط له.
ثم دخل المحراب فقام يصلى متكئا على عصاه فمات ولم تعلم به الشياطين.
وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب.
فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر.
فدخل شيطان من أولئك
فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق، فلم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتا، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة، قد أكلتها الارضة ولم يعلموامنذ كم مات فوضعوا
__________
(1) ا: الخروب.
(2) ا: قال.
(*)
(2/312)
الارضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا [ كاملا (1) ] فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له [ ذلك (2) ] وذلك قول الله عزوجل: " ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للارضة: لو كنت تأكلين الطعام لاتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين.
قال: فإنهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت.
قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشيطان تشكرا لها.
وهذا فيه من الاسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.
وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا قبيصه، حدثنا سفيان، عن الاعمش، عن خيثمة، قال: قال سليمان
ابن داود عليهما السلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني قال: ما أنا أعلم بذاك منك إنما هي كتب يلقى إلى فيها تسمية من يموت.
وقال أصبغ بن الفرج و عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال:
__________
(1) ليست في ا (2) من ا (*)
(2/313)
يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة.
فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلى فاتكأ على عصاه قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوكئ على عصاه ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت.
قال: والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي.
قال: فبعث الله دابة الارض يعني إلى منسأته فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر، فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا.
قال: فذلك قوله: " ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته.
فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
قال أصبغ: وبلغني عن غيره أنها مكثت سنة تأكل من منسأته حتى خر.
وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم والله تعالى أعلم.
قال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق، عن الزهري وغيره أن سليمان عليه السلام عاش اثنتين وخمسين سنة وكان ملكه أربعين سنة.
وقال إسحاق: أنبأنا أبو روق، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ملكه كان عشرين سنة.
والله أعلم.
وقال ابن جرير: فكان جميع عمر سليمان بن داود عليهما السلام نيفا وخمسين سنة.
وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر ثم ملك بعده ابنه رحبعام (1) [ مدة (2) ] سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير.
وقال: ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل.
__________
(1) ا: رخعم.
(2) ليست في ا (*)
(2/314)
باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام ممن لا يعلم وقت زمانهم على التعيين إلا أنهم بعد داود عليهما السلام وقبل زكريا ويحيى عليهما السلام فمنهم شعيا (1) بن أمصيا.
قال محمد بن إسحاق: وكان قبل زكريا ويحيى وهو ممن (2) بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام.
وكان في زمانه ملك اسمه حزقيا على بني إسرائيل ببلاد بيت المقدس، وكان سامعا مطيعا لشعيا فيما يأمره به وينهاه عنه من المصالح، وكانت الاحداث قد عظمت في بني إسرائيل، فمرض الملك وخرجت في رجله قرحة، وقصد بيت المقدس ملك بابل في ذلك الزمان وهو سنحاريب.
قال ابن إسحاق: في ستمائة ألف راية.
وفزع الناس فزعا عظيما شديدا.
وقال الملك للنبي شعيا: ماذا أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده ؟ فقال: لم يوح إلى فيهم شئ بعد ثم نزل عليه الوحى بالامر للملك حزقيا بأن يوصى ويستخلف على ملكه من يشاء، فإنه قد اقترب أجله.
فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى فقال وهو يبكى ويتضرع إلى الله عزوجل بقلب مخلص وتوكل وصبر: اللهم رب الارباب وإله الآلهة يا رحمن يا رحيم، يا من
__________
(1) في القاموس: وسعيا بن مصيا، نبي بشر بعيسى عليه السلام والشين لغة.
(2) ا: وهو الذي يشر.
(*)
(2/315)
لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعلمي وفعلى وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك فأنت أعلم به من نفسي سرى وإعلاني لك.
قال: فاستجاب الله له ورحمه وأوحى الله إلى شعيا أن يبشره بأنه قد رحم بكاءه وقد أخر في أجله خمس عشر سنة وأنجاه من عدوه سنحاريب فلما قال له ذلك ذهب منه الوجع وانقطع عنه الشر والحزن وخر ساجدا وقال في سجوده: اللهم أنت الذي تعطى الملك من تشاء وتنزعه ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، عالم الغيب والشهادة، فأنت الاول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين.
فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا [ أن يأمره (1) ] أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح قد برئ.
ففعل ذلك فشفى.
وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت فأصبحوا وقد هلكوا كلهم سوى سنحاريب وخمسة من أصحابه منهم بختنصر فأرسل ملك بني إسرائيل فجاء بهم فجعلهم في الاغلال وطاف بهم في البلاد على وجه التنكيل بهم والاهانة لهم سبعين يوما، ويطعم كل واحد منهم كل يوم رغيفين من شعير، ثم أودعهم السجن وأوحى الله تعالى إلى شعيا أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم لينذروا قومهم ما قد حل بهم، فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخبرهم بما قد كان من أمرهم فقال له السحرة والكهنة: إنا أخبرناك عن شأن ربهم وأنبيائهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم فكان أمر سنحاريب مما خوفهم الله به.
ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين.
__________
(1) سقطت من ا.
(*)
(2/316)
قال ابن إسحاق: ثم لما مات حزقيا ملك بني إسرائيل مرج أمرهم واختلطت أحداثهم، وكثر شرهم، فأوحى الله تعالى إلى شعيا فقام فيهم فوعظهم وذكرهم وأخبرهم عن الله بما هو أهله وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه.
فلما فرغ من مقالته عدوا عليه وطلبوه ليقتلوه، فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها فلما رأوا ذلك جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها، فإنا لله وإنا إليه راجعون (1).
__________
* (1) وهذا من الاسرائيليات التي لا سند لها من الروايات الاسلامية، فلا تصدق ولا تكذب إلا إن خالفت الحق.
(*)
(2/317)
ومنهم أرميا بن حلقيا من سبط لاوى بن يعقوب وقد قيل إنه الخضر.
رواه الضحاك عن ابن عباس.
وهو غريب وليس بصحيح.
قال ابن عساكر: جاء في بعض الآثار أنه وقف على دم يحيى بن زكريا وهو يفور بدمشق فقال: أيها الدم فتنت الناس فاسكن.
فسكن ورسب حتى غاب.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني علي بن أبي مريم، عن أحمد ابن حباب، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال أرميا: أي رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال: أكثرهم لي ذكرا، الذين يشتغلون بذكرى عن ذكر الخلائق، الذين لا تعرض لهم وساوس الفناء ولا يحدثون
أنفسهم بالبقاء، الذين إذا عرض لهم عيش الدنيا قلوه وإذا زوى عنهم سروا بذلك، أولئك أنحلهم محبتى وأعطيهم فوق غاياتهم.
(2/318)
ذكر خراب بيت المقدس وقوله تعالى: " وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا.
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا.
فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا.
ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا.
إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا.
عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي: أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوبا ولا يفقهون، وأعينا ولا يبصرون وآذانا ولا يسمعون وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم.
فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي، وهل شقى أحد ممن أطاعني بطاعتي ؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها وإن هؤلاء القوم تركوا الامر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها، أما أحبارهم فأنكروا حقى وأما قراؤهم فعبدوا غيري، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا، وأما ولاتهم فكذبوا علي وعلى
(2/319)
رسلي، خزنوا المكر في قلوبهم وعودوا الكذب ألسنتهم [ وإني أقسم بجلالي وعزتي لاهيجن عليهم جيولا لا يفقهون ألسنتهم (1) ] ولا يعرفون وجوههم ولا يرحمون بكاءهم، ولابعثن فيهم ملكا جبارا قاسيا له عساكر كقطع السحاب ومواكب كأمثال الفجاج كأن خفقان راياته طيران النسور وكأن حمل فرسانه كر العقبان يعيدون العمران خرابا ويتركون القرى وحشة، فياويل إيليا وسكانها كيف أذللهم للقتل وأسلط عليهم السبا وأعيد بعد لجب الاعراس صراخا، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد شرفات القصور مساكن السباع وبعد ضوء السرج وهج العجاج وبالعز الذل (2) وبالنعمة العبودية وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب، وبالمشى على الزرابى الخبب، ولاجعلن أجسادهم زبلا للارض وعظامهن ضاحية للشمس، ولادوسنهم بألوان العذاب، ثم لآمرن السماء فتكون طبقا من حديد والارض سبيكة من نحاس فإن أمطرت لم تنبت الارض، وإن أنبتت شيئا في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم، ثم أحبسه في زمان الزرع وأرسله في زمان الحصاد فإن زرعوا في خلال ذلك شيئا سلطت عليه الآفة فإن خلص منه شئ نزعت منه البركة، فإن دعوني لم أجبهم، وإن سألوا لم أعطهم، وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم.
رواه ابن عساكر بهذا اللفظ.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا إدريس، عن وهب بن منبه، قال إن الله تعالى لما بعث أرميا إلى بني إسرائيل وذلك حين عظمت الاحداث
__________
(1) سقطت من ا (2) ط: وبالعز ذلا.
(*)
(2/320)
فيهم فعملوا بالمعاصي وقتلوا الانبياء طمع بختنصر فيهم وقذف الله في قلبه وحدث نفسه بالمسير إليهم لما أراد الله أن ينتقم به منهم فأوحى الله إلى أرميا: إني مهلك بني إسرائيل ومنتقم منهم فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري ووحيى.
فقام أرميا فشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وخر ساجدا وقال: يا رب وددت أن أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي.
فقال له ارفع رأسك.
فرفع رأسه فبكى ثم قال: يا رب من تسلط عليهم ؟ فقال: عبدة النيران لا يخافون عقابي ولا يرجون ثوابي قم يا أرميا فاستمع وحيى أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل: من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك.
ومن قبل أن تبلغ نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الاشد اخترتك (1) ولامر عظيم اجتبيتك، فقم مع الملك تسدده وترشده فكان مع الملك يسدده (2) ويأتيه الوحى من الله حتى عظمت الاحداث ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده فأوحى الله إلى أرميا: قم فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم.
فقال أرميا: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخطئ إن لم تسددنى، مخذول إن لم تنصرني ذليل إن لم تعزني.
فقال الله تعالى: أو لم تعلم أن الامور كلها تصدر عن مشيئتي وأن الخلق والامر كله لي، وأن القلوب والالسنة (3) كلها بيدي فأقلبها كيف شئت [ فتطيعني (4) ] فأنا الله الذي ليس شى، مثلي، قامت
__________
(1) في تاريخ الطبري 658 ط أوربا: " اختبرتك ".
(2) كذا في ط وفي ا: فكان يرشده ويأتيه الوحى.
(3) الطبري: والالسن.
(4) ليست في ا.
(*)
(2/321)
السموات والارض وما فيهن بكلمتي، وإنه لا يخلص التوحيد ولم تتم القدرة إلا لي، ولا يعلم ما عندي غيرى، وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي وأمرتها ففعلت أمرى، وحددت عليها حدودا فلا تعدو حدى، وتأتى بأمواج كالجبال فإذا بلغت حدى ألبستها مذلة لطاعتي وخوفا واعترافا لامري (1)، وإني معك ولن يصل إليك شئ معى، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي فتستوجب لذلك أجر من اتبعك ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
انطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم إن الله [ قد (1) ] ذكركم بصلاح آبائكم فلذلك استبقاكم، يا معشر أبناء الانبياء، وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي وكيف وجدتم مغبة معصيتي، وهل وجدوا أحدا عصاني فسعد بمعصيتي وهل علموا أحدا أطاعني فشقي بطاعتي ؟ إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الامر الذي أكرمت به آباءهم وابتغوا الكرامة (2) من غير وجهها.
فأما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم ويعملون فيهم بغير كتابي [ حتى (2) ] أجهلوهم أمري وأنسوهم ذكري [ وسنتي (1) ] وغروهم عنى فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتى.
وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي وأمنوا مكرى وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي ونسوا عهدي، فهم يحرفون كتابي ويفترون على رسلي جرأة منهم علي وغرة بي، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي ؟ وهل ينبغي ليشر أن يطاع في معصيتي ؟
__________
(1) الطبري: ألبستها مذلة طاعتي خوفا واعترافا لامرى.
(2) ليست في ا (3) ا: واتبعوا.
(*)
(2/322)
وهل ينبغي لي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني أو آذن لاحد بالطاعة لاحد وهي لا تنبغي إلا لي ؟ ! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في دينى ويطيعونهم في معصيتى، وبوفون لهم بالعهود الناقضة لعهدي، فهم جهلة بما يعلمون لا ينتفعون بشئ مما علموا من كتابي.
وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون، يخوضون مع الخائضين يتمنون مثل نصرى آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم بغير صدق منهم ولا تفكر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمرى وظهر دينى.
فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون (1) منى ويرجعون، فتطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم في العمر وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون.
وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الارض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو ولا يزدادون إلا طغيانا وبعدا منى [ فحتى (2) ] متى هذا ؟ أبى ؟ ؟ يسخرون أم بى يتحرشون أم إياي يخادعون أم على يجترئون.
فإني أقسم بعزتي لاتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحليم (3) ويضل فيها رأى ذوى الرأى وحكمة الحكيم ثم لاسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه [ الرأفة (2) ] والرحمة وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل الليل المظلم، له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج، وكأن خفيق (4) راياته طيران
__________
(1) ا: يسنخفون.
(2) سقطت من ا.
(3) المطبوعة: الحكيم.
وما اثبته من ا.
(4) كذا في ا موافقا للطبري وفي المطبوعة.
حفيف.
(*)
(2/323)
النسور وحمل فرسانه كريد (1) العقبان، يعيدون العمران خرابا والقرى وحشا ويعثون في الارض فسادا ويتبرون ما علوا تتبيرا، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ولا يرحمون ولا يبصرون ولا يسمعون، يجولون في الاسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الاسد تقشعر من هيبتها الجلود وتطيش من سمعها الاحلام بألسنة لا يفقهونها ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها.
فوعزتي لاعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي ولاخلين مجالسهم من حديثها ودروسها ولاوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير الدين ويتعلمون فيها لغير العمل، لابدلن ملوكها بالعز الذل وبالامن الخوف وبالغني الفقر وبالنعمة الجوع وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء، وبالارواح الطيبة والادهان جيف القتلى، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والاغلال، ثم لاعيدن فيهم بعد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد ضوء السراج دخان الحريق، وبعد الانس الوحشة والقفار.
ثم لابدلن نساءها بالاسورة الاغلال وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد، وبألوان الطيب والادهان النفع والغبار، وبالمشى على الزرابى عبور الاسواق والانهار والخبب إلى الليل في بطون الاسواق وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه والسوق والاسفار والارواح السموم ثم لادوسنهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حالق لوصل ذلك إليه، إني إنما أكرم من أكرمني وإنما أهين من هان عليه أمرى.
__________
(1) الاصل: كسرب العقبان.
وما أثبته من تاريخ الطبري 661 ط أوربا.
(*)
(2/324)
ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقا من حديد ولآمرن الارض فلتكونن سبيكة من نحاس فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت.
فإن أمطرت خلال ذلك شيئا سلطت عليهم الآفة، فإن خلص منه شئ نزعت منه البركة وإن دعوني لم أجبهم ؟ ؟ وإن سألوني لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم وإن تضرعوا إلى صرفت وجهي عنهم، وإن قالوا اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك ثم مكنت لنا في البلاد واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغارا وحفظتنا وإياهم برحمتك كبارا فأنت أوفي المنعمين وإن غيرنا، ولا تبدل وإن بدلنا وأن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك (1).
فإن قالوا ذلك قلت لهم إني أبتدئ عبادي برحمتي ونعمتي، فإن قبلوا أتممت وإن استزادوا زدت وإن شكروا ضاعفت وإن غيروا غيرت، وإذا غيروا غضبت [ وإذا غضبت عذبت وليس يقوم شئ بغضبي (2) ].
قال كعب: فقال أرميا: بوجهك أصبحت أتعلم بين يديك [ وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغى لي أن أتكلم بين يديك (2) ] ولكن برحمتك أبقيتنى لهذا اليوم وليس [ أحد (2) ] أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد منى بما رضيت به منى طولا والاقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا تغيير مني، فإن تعذبني فبذنبي وإن ترحمني فذلك ظنى بك.
ثم قال: يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت، أتهلك هذه القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك
__________
(1): وأن يتم نعمته وفضله وطوله وإحسانه.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/325)
يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد ومن البيوت التي رفعت لذكرك، يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمقتل هذه الامة وعذابك إياهم وهم من ولد إبراهيم خليلك وأمة موسى نجيك وقوم داود صفيك، يا رب أي القرى تأمن عقوبتك بعد، وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولد خليلك إبراهيم وأمة نجيك موسى وقوم خليفتك داود تسلط عليهم عبدة النيران.
قال الله تعالى: يا أرميا من عصاني فلا يستنكر نقمتى، فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي، ولو أنهم عصوني لانزلتهم دار العاصين، إلا أن أتداركهم برحمتي.
قال أرميا: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا وحفظتنا به، وموسى قربته نجيا فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا ولا تسلط علينا عدونا.
فأوحى الله إليه يا أرميا إني قدستك في بطن أمك وأخرتك إلى هذا اليوم، فلو أن قومك حفظوا اليتامى والارامل والمساكين وابن السبيل لكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طاهر ماؤها ولا يغور ماؤها ولا تبور ثمارها ولا تنقطع، ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل: إني كنت لهم بمنزلة الراعى الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عسرة وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشا ينطح بعضها بعضا، فياويلهم ثم يا ويلهم، إنما أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمرى، إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعا فيظهرونها في المساجد والاسواق وعلى رءوس الجبال وظلال الاشجار حتى عجت السماء إلي منهم وعجت الارض والجبال ونفرت منها الوحوش بأطراف الارض
وأقاصيها، وفي كل ذلك لا ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب.
(2/326)
قال: فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب عصوه وكذبوه واتهموه وقالوا: كذبت وأعظمت على الله الفرية فتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته وتوحيده ؟ فمن يعبده حين لا يبقى له في الارض عابد ولا مسجد ولا كتاب ؟ ! لقد أعظمت الفرية على الله واعتراك الجنون.
فأخذوه وقيدوه وسجنوه، فعند ذلك بعث الله عليهم بختنصر فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم فكان كما قال تعالى: " فجاسوا خلال الديار " قال: فلما طال بهم الحصر نزلوا على حكمه ففتحوا الابواب وتخللوا الازقة وذلك قوله: " فجاسوا خلال الديار " وحكم فيهم حكم الجاهلية وبطش الجبارين، فقتل منهم الثلث وسبي الثلث وترك الزمنى والشيوخ والعجائز، ثم وطئهم بالخيل وهدم بيت المقدس وساق الصبيان وأوقف النساء في الاسواق حاسرات، وقتل المقاتلة وخرب الحصون وهدم المساجد وحرق التوراة، وسأل عن دانيال الذي كان قد كتب له الكتاب فوجدوه قد مات وأخرج أهل بيته الكتاب إليه وكان فيهم دانيال بن حزقيل الاصغر وميشائيل وعزرائيل وميخائيل، فأمضى لهم ذلك الكتاب.
وكان دانيال بن حزقيل خلفا من دانيال الاكبر ودخل بختنصر بجنوده بيت المقدس ووطئ الشام كلها وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، فلما فرغ منها انصرف راجعا وحمل الاموال التي كانت بها وساق السبايا فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الاحبار والملوك تسعين ألف غلام، وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير وكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن
يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط ايشى بن يعقوب، وأربعة
(2/327)
عشر ألفا من سبط زبالون ونفتالى ابني يعقوب، وأربعة عشر ألفا من سبط دان بن يعقوب، وثمانية آلاف من سبط يستاخر بن يعقوب، وألفين من سبط زيكون بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوى، واثنى عشر ألفا من سائر بني إسرائيل.
وانطلق حتى قدم أرض بابل.
قال إسحاق بن بشر: قال وهب بن منبه: فلما فعل ما فعل قيل له كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم ويصفك وخبرك لهم ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتهدم مساجدهم وتحرق كنائسهم، فكذبوه واتهموه وضربوه وقيدوه وحبسوه.
فأمر بختنصر فأخرج أرميا من السجن فقال له: أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم ؟ قال نعم: قال فإني علمت ذلك.
قال: أرسلني الله إليهم فكذبوني قال كذبوك وضربوك وسجنوك ؟ قال نعم: قال: بئس القوم قوم كذبوا نبيهم وكذبوا رسالة ربهم، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك وأواسيك وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك.
قال له أرميا: إني لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه ساعة قط، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك ولم يكن لك عليهم سلطان.
فلما سمع بختنصر هذا القول منه تركه فأقام أرميا مكانه بأرض إيليا.
وهذا سياق غريب، وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة، وفيه من جهة التعريب غرابة.
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبى: كان بختنصر اصفهبذا لما بين الاهواز إلى الروم للملك على الفرس وهو لهراسب، وكان قد بنى
مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء، وقاتل الترك وألجأهم إلى أضيق الاماكن وبعث بختنصر لقتال بني إسرائيل [ بالشام (1) ] فلما قدم الشام صالحه
__________
(1) سقطت من ا.
(*)
(2/328)
أهل دمشق، وقد قيل إن الذي بعث بختنصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب، وذلك لتعدى بني إسرائيل على رسله إليهم وقد روى ابن جرير عن يونس بن عبد الاعلى، عن ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الانصاري ؟ ؟، عن سعيد بن المسيب، أن بختنصر لما قدم دمشق وجد بها دما يغلى على كبا، يعنى القمامة، فسألهم ماهذا الدم ؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر.
قال: فقتل على ذلك سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم فسكن.
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا، وهذا لا يصح لان يحيى بن زكريا بعد بختنصر بمدة، والظاهر أن هذا دم نبي متقدم أو دم لبعض الصالحين أو لمن (1) شاء الله ممن الله أعلم به.
قال هشام بن الكلبى: قدم بختنصر بيت المقدس فصالحه ملكها وكان من آل داود وصانعه عن بني إسرائيل وأخذ منه بختنصر رهائن ورجع، فلما بلغ طبرية بلغه أن بني إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه لاجل أنه صالحه، فضرب رقاب من معه من الرهائن ورجع إليهم فأخذ المدينة عنوة، وقتل المقاتلة وسبي الذرية.
قال: وبلغنا أنه وجد في السجن أرميا النبي فأخرجه وقص عليه ما كان من أمره إياهم وتحذيره لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه [ فقال
بختنصر: بئس القوم قوم عصوا رسول الله وخلى سبيله وأحسن إليه (2) ] واجتمع إليه من بقى من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا
__________
(1) ا: أو من شاء الله.
(2) من ا.
(*)
(2/329)
ونحن نتوب إلى الله عزوجل مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا، فدعا ربه فأوحى الله إليه أنه غير فاعل، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة.
فأخبرهم ما أمره الله تعالى به، فقالوا: كيف نقيم بهذه البلدة وقد خربت [ وقد (1) ] غضب الله على أهلها ! فأبوا أن يقيموا.
قال ابن الكلبى: ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد فنزلت طائفة منهم الحجاز وطائفة يثرب وطائفة وادى القرى، وذهبت شرذمة منهم إلى مصر، فكتب بختنصر إلى ملكها يطلب منه من شرد منهم إليه فأبى عليه، فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه وسبى ذراريهم ثم ركب إلى بلاد المغرب حتى بلغ أقصى تلك الناحية.
قال: ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب ومصر وأهل بيت المقدس وأرض فلسطين والاردن وفي السبي دانيال.
قلت: والظاهر أنه دانيال بن حزقيل الاصغر لا الاكبر.
على ما ذكره وهب بن منبه.
والله أعلم.
__________
(1) من ا (*)
(2/330)
ذكر شئ من خبر دانيال عليه السلام قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن عبد الاعلى الشيباني قال: إن لم أكن سمعته من شعيب بن صفوان فحدثني بعض أصحابنا عنه، عن
الاجلح الكندى عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال ضرا بختنصر أسدين فألقاهما في جب، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه، فمكث ما شاء الله ثم اشتهى ما يشتهى الآدميون من الطعام والشراب، فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام: أن أعدد طعاما وشرابا لدانيال فقال يا رب أنا بالارض المقدسة ودانيال بأرض بابل من أرض العراق.
فأوحى الله إليه أن أعدد ما أمرناك به فإنا سنرسل من يحملك ويحمل ما أعددت.
ففعل وأرسل إليه من حمله وحمل ما أعده حتى وقف على رأس الجب فقال دانيال من هذا ؟ قال: أنا أرميا.
فقال: ما جاء بك ؟ فقال: أرسلني إليك ربك.
قال: وقد ذكرني ربي ؟ قال نعم.
فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي يجيب من رجاه، والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره، والحمد لله الذي يجزى بالاحسان إحسانا.
[ والحمد لله الذي يجزى بالصبر نجاة (1) ] والحمد لله الذي هو يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي يقينا حين يسوء ظننا بأعمالنا والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحق عن أبي خالد بن دينار، حدثنا أبو العالية قال: لما افتتحنا تستر وجدنا في مال بيت الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/331)
عمر بن الخطاب فدعا له كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب (1) قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا.
فقلت لابي العالية: ما كان فيه ؟ قال: سيركم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد.
قلت: فما
صنعتم بالرجل ؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس فلا ينبشونه قلت: فما يرجون منه، قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون قلت من (2) كنتم تظنون الرجل ؟ قال: رجل يقال له دانيال.
قلت: منذ كم وجدتموه قد مات ؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة.
قلت: ما تغير منه شئ قال: إلا شعرات (3) من قفاه، إن لحوم الانبياء لا تبليها الارض ولا تأكلها السباع.
وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية، ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظا من ثلاثمائة سنة فليس بنبي بل هو رجل صالح، لان عيسى بن مريم ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي بنص الحديث الذي في البخاري، والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة، وقيل ستمائة وقيل ستمائة وعشرون سنة، وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة وهو قريب من وقت دانيال، إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الامر، فإنه قد يكون رجلا آخر إما من الانبياء أو الصالحين، ولكن قربت الظنون أنه دانيال لان دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجونا كما تقدم.
__________
(1) ا من العراب.
(2) ا: كم كنتم.
(3) ا: إلا شعيرات.
(*)
(2/332)
وقد روى بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر، وعن أنس بن مالك بإسناد جيد أن طول أنفه ذراع، فيحتمل على هذا أن يكون رجلا من الانبياء الاقدمين قبل هذه المدد.
والله تعالى أعلم.
وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا في كتاب أحكام القبور: حدثنا
أبو بلال محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري حدثنا أبو محمد القاسم بن عبد الله، عن أبي الاشعث الاحمري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دانيال دعا ربه عزوجل أن تدفنه أمة محمد فلما افتتح أبو موسى الاشعري نستر وجده في تابوت تضرب عروقه ووريده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دل على دانيال فبشروه بالجنة.
فكان الذي دل عليه رجل يقال له حرقوص فكتب أبو موسى إلى عمر بخبره فكتب إليه عمر: أن أدفنه وابعث إلي حرقوص فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة.
وهذا مرسل من هذا الوجه وفي كونه محفوظا نظر والله أعلم.
ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو بلال، حدثنا قاسم بن عبد الله عن عنبسة بن سعيد، وكان عالما، قال: وجد أبو موسى مع دانيال مصحفا وجرة فيها ودك ودراهم وخاتمه، فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: أما المصحف فابعث به إلينا، وأما الودك فابعث إلينا منه ومر من قبلك من المسلمين يستشفون به واقسم الدراهم بينهم، وأما الخاتم فقد نفلنا كه.
(2/333)
وروى ابن أبي الدنيا (1) من غير وجه أن أبا موسى لما وجده وذكروا له أنه دانيال التزمه وعانقه وقبله، وكتب إلى عمر يذكر له أمره وأنه وجد عنده مالا موضوعا قريبا من عشرة آلاف درهم، وكان من جاء اقترض منها فإن ردها وإلا مرض (2) وإن عنده ربعة (3) فأمر عمر بأن يغسل بماء وسدر ويكفن ويدفن ويخفى قبره فلا يعلم به أحد، وأمر بالمال أن يرد إلى بيت المال وبالربعة فتحمل إليه ونفله خاتمه.
وروى عن أبي موسى أنه أمر أربعة من الاسراء فسكروا (4) نهرا وحفروا في وسطه قبرا فدفنه فيه، ثم قدم الاربعة الاسراء فضرب أعناقهم فلم يعلم موضع (5) قبره غير أبي موسى الاشعري رضي الله عنه.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: رأيت في يد ابن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري خاتما نقش فصه أسدان بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل، قال أبو بردة: وهذا خاتم ذلك الرجل الميت الذي زعم أهل هذه البلدة أنه دانيال أخذه أبو موسى يوم دفنه.
قال أبو بردة: فسال أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم فقالوا: إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له: إنه يولد كذا وكذا غلام يعور (6)
__________
(1) ط: عن ابن أبي الدنيا.
وما أثبته عن.
(2) ا: وإلا برص.
(3) الربعة: الصندوق.
(4) سكروا النهر: سدوه.
(5) ا: فلم يعلم مكان موضع قبره.
(6) يعور: يذهب به أو يتلفه.
(*)
(2/334)
ملكك ويفسده، فقال الملك: والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته.
إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الاسد فبات الاسد ولبؤته يلحسانه ولم يضراه.
فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه فنجاه الله بذلك حتى بلغ ما بلغ قال أبو بردة: قال أبو موسى: قال علماء تلك القرية: فنقش دانيال صورته وصورة الاسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك.
إسناد حسن.
(2/335)
وهذا ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها واجتماع الملا من بني إسرائيل بعد تفرقهم في بقاع الارض وشعابها قال الله تعالى في كتابه المبين وهو أصدق القائلين: " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت ! قال: لبثت يوما أو بعض يوم.
قال: بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير ".
قال هشام بن الكلبى: ثم أوحى الله تعالى إلى أرميا عليه السلام فيما بلغني: إني عامر بيت المقدس فاخرج إليها فانزلها.
فخرج حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله أمرنى الله أن أنزل هذه البلدة وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمرها ومتى يحييها الله بعد موتها ! ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة من طعام فمكث في نومه سبعين سنة حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه وهو لهراسب، وكان ملكه مائة وعشرين سنة وقام بعده ولده بشتاسب بن لهراسب، وكان موت بختنصر في دولته فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين فلم يبق بها من الانس أحد، فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: أن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع.
وملك عليهم رجلا من آل داود وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبنى مسجدها
(2/336)
فرجعوا فعمروها وفتح الله لارميا عينيه فنظر إلى المدينة كيف تبنى وكيف
تعمر، ومكث في نومه ذلك حتى تمت له مائة سنة.
ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة وقد عهد المدينة خرابا فلما نظر إليها عامرة آهلة قال: أعلم أن الله على كل شئ قدير.
قال: فأقام بنو إسرائيل بها ورد الله عليهم أمرهم فمكثوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم في زمن ملوك الطوائف، ثم لم يكن لهم جماعة ولا سلطان يعنى بعد ظهور النصارى عليهم.
هكذا حكاه ابن جرير في تاريخه عنه (1) وذكر ابن جرير أن لهراسب كان ملكا عادلا سائسا لمملكته قد دانت له العباد والبلاد والملوك والقواد وأنه كان ذا رأى جيد في عمارة الامصار والانهار والمعاقل، ثم لما ضعف (2) عن تدبير المملكة بعد مائة سنة ونيف نزل عن الملك لولده بشتاسب، فكان في زمانه ظهور دين المجوسية وذلك أن رجلا اسمه زردشت (3) كان قد صحب أرميا عليه السلام فأغضبه فدعا عليه أرميا عليه السلام فبرص زردشت فذهب فلحق بأرض أذربيجان وصحب بشتاسب فلقنه دين المجوسية الذي اخترعه من تلقاء نفسه فقبله منه بشتاسب وحمل الناس عليه وقهرهم وقتل منهم خلقا كثيرا ممن أباه منهم.
ثم كان بعد بشتاسب بهمن بن بشتاسب وهو من ملوك الفرس المشهورين والابطال المذكورين وقد ناب بختنصر لكل واحد من هؤلاء الثلاثة وعمر دهرا طويلا قبحه الله.
__________
(1) ا: عنهم (2) ا: عجز (3) ا: زرادشت (22 قصص الانبياء 2) (*)
(2/337)
والمقصود أن هذا الذي ذكره ابن جرير من أن هذا المار على هذه القرية هو أرميا عليه السلام، قاله (1) وهب بن منبه و عبد الله بن عبيد
ابن عمير وغيرهما.
وهو قوى من حيث السياق المتقدم، وقد روى عن على و عبد الله بن سلام وابن عباس والحسن وقتادة والسدى وسليمان بن بردة وغيرهم أنه عزير.
وهذا أشهر عند كثير من السلف والخلف والله أعلم.
__________
(1) المطبوعة: قال، محرفة (*)
(2/338)
وهذه قصة العزير قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: هو عزير بن جروة ويقال ابن سوريق بن عديا بن أيوب بن درزنا بن عرى بن تقى بن أسبوع ابن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران.
ويقال عزير بن سروخا جاء في بعض الآثار أن قبره بدمشق.
ثم ساق من طريق أبي القاسم البغوي عن داود بن عمرو، عن حبان بن على، عن محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا: لا أدرى العزير (1) بيع أم لا ولا أدرى أعزير كان (2) نبيا أم لا.
ثم رواه من حديث مؤمل بن الحسن، عن محمد بن إسحاق السجزى عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب (4)، عن سعيد المقبرى، عن أبي هريرة مرفوعا نحوه.
ثم روى من طريق إسحاق بن بشر، وهو متروك عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس أن عزيرا كان ممن سباه بختنصر وهو غلام حدث، فلما بلغ أربعين سنة أعطاه الله الحكمة.
قال: ولم يكن أحد أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه.
قال: وكان يذكر مع الانبياء حتى محى الله اسمه من ذلك حين سأل ربه عن القدر.
وهذا ضعيف ومنقطع ومنكر، والله أعلم.
__________
(1) المطبوعة: العين.
محرفة (2) ط: أكان عزير.
(3) ا: عن أبي إسحاق السجزى محرفة.
(4) المطبوعة: عن ابن أبي ذؤيب.
(*)
(2/339)
وقال إسحاق بن بشر، عن سعيد، عن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن سلام، أن عزيرا هو العبد الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن كعب وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن الحسن ومقاتل وجوبير (1)، عن الضحاك، عن ابن عباس و عبد الله بن إسماعيل السدى عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس وإدريس، عن جده وهب بن منبه قال إسحاق كل هؤلاء حدثوني عن حديث عزير وزاد بعضهم على بعض قالوا بإسنادهم إن عزيرا كان عبدا صالحا حكيما خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف أتى إلى خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر، ودخل الخربة وهو على حماره فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين وسلة فيها عنب، فنزل في ظل تلك الخربة وأخرج قصعة معه فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة (2) ثم أخرج خبزا يابسا معه فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتل ليأكله، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها وقد باد أهلها ورأى عظاما بالية فقال: " أنى يحيى هذه الله بعد موتها " فلم يشك أن الله يحييها ولكن قالها تعجبا، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه، فأماته
الله مائة عام.
فلما أنت عليه مائة عام، وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور
__________
(1) ا: وجويرية.
(2) ا: في السلة (*)
(2/340)
وأحداث.
قال: فبعث الله إلى عزير ملكا فخلق قلبه ليعقل قلبه وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيى الله الموتى.
ثم ركب خلقه وهو ينظر، ثم كسى عظامه اللحم والشعر والجلد ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك وهو يرى ويعقل، فاستوى جالسا فقال له الملك كم لبثت ؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم، وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب، فقال: أو بعض يوم ولم يتم لي يوم.
فقال له الملك: بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك، يعنى الطعام الخبز اليابس، وشرابه العصير الذي كان اعتصره في القصعة فإذا هما على حالهما لم يتغير العصير والخبز يابس، فذلك قوله " لم يتسنه " يعنى لم يتغير، وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شئ من حالهما، فكأنه أنكر في قلبه فقال له الملك: أنكرت ما قلت لك ؟ انظر إلى حمارك.
فنظر إلى حماره قد بليت عظامه وصارت نحرة.
فنادى الملك عظام الحمار فأجابت وأقبلت من كل ناحية حتى ركبه الملك وعزير ينظر إليه ثم ألبسها العروق والعصب، ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الملك فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا يظن القيامة قد قامت.
فذلك قوله " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما " يعنى وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضا في أوصالها حتى إذا صارت عظاما مصورا حمارا
بلا لحم، ثم انظر كيف نكسوها لحما " فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير " من إحياء الموتى وغيره.
قال: فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس
(2/341)
وأنكر منزله فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم، فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة كانت عرفته وعقلته، فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة، فقال لها عزير: يا هذه أهذا منزل عزير ؟ قالت: نعم هذا منزل عزير.
فبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس.
قال فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثنى.
قالت: سبحان الله ! فإن عزيرا قد فقدناه منذ مائة سنة فلم نسمع له بذكر.
قال: فإني أنا عزير.
قالت: فإن عزيرا رجل مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله أن يرد علي بصرى حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك.
قال: فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله.
فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير.
وانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم، وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشر سنة وبنى بنيه شيوخ في المجلس، فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم.
فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلى وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه.
قال: فنهض الناس فأقبلوا إليه فنظروا إليه فقال ابنه: كان
لابي شامة سوداء بين كتفيه.
فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير.
فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير
(2/342)
وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شئ إلا ما حفظت الرجال، فاكتبها لنا وكان أبوه سروخا قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه أحد غير عزير، فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب.
قال: وجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فجدد لهم التوراة ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه.
فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، فمن ثم قالت اليهود: عزير ابن الله، للذى كان من أمر الشهابين وتجديده التوراة وقيامه بأمر بني إسرائيل، وكان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل، والقرية التي مات فيها يقال لها سايراباذ.
قال ابن عباس: فكان كما قال الله تعالى: " ولنجعلك آية للناس " يعني لبني إسرائيل، وذلك أنه كان يجلس مع بنيه وهم شيوخ وهو شاب لانه مات وهو ابن أربعين سنة، فبعثه الله شابا كهيئته يوم مات.
قال ابن عباس: بعث بعد بختنصر وكذلك قال الحسن.
وقد أنشد أبو حاتم السجستاني في معنى ما قاله ابن عباس: واسود رأس شاب من قبله ابنه * ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر يرى ابنه شيخا يدب على عصا * ولحيته سوداء والرأس أشقر وما لابنه حيل ولا فضل قوة * يقوم كما يمشى الصبي فيعثر يعد ابنه في الناس تسعين حجة * وعشرين لا يجرى ولا يتبختر
(2/343)
وعمر أبيه أربعون أمرها * ولابن ابنه تسعون في الناس غبر فما هو في المعقول إن كنت داريا * وإن كنت لا تدري فبالجهل تعذر فصل المشهور أن عزيرا نبي من أنبياء بني إسرائيل وأنه كان فيما بين داود وسليمان وبين زكريا ويحيى، وأنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة ألهمه الله حفظها فسردها على بني إسرائيل، كما قال وهب بن منبه: أمر الله ملكا فنزل بمغرفة من نور فقذفها في عزير فنسخ التوراة حرفا بحرف حتى فرغ منها.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عبد الله بن سلام عن قول الله تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله " لم قالوا ذلك ؟ فذكر له ابن سلام ما كان من كتبه لبني إسرائيل التوراة من حفظه، وقول بني إسرائيل: لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب وإن عزيرا قد جاءنا بها من غير كتاب.
فرماه طوائف منهم وقالوا عزير ابن الله.
ولهذا يقول كثير من العلماء: إن تواتر التوراة انقطع في زمن العزير.
وهذا متجه جدا إذا كان العزير غير نبي كما (1) قاله عطاء بن أبي رباح والحسن البصري.
وفيما رواه إسحاق بن بشر عن مقاتل بن سليمان، عن عطاء، وعن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه، ومقاتل عن عطاء ابن أبي رباح قال: كان في الفترة تسعة أشياء: بختنصر وجنة صنعاه
__________
(1) ا: كذا قاله.
(*)
(2/344)
وجنة سبأ وأصحاب الاخدود وأمر حاصروا وأصحاب الكهف وأصحاب
الفيل ومدينة أنطاكية وأمر تبع.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال كان أمر عزير وبختنصر في الفترة.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أولى الناس بابن مريم لانا، إنه ليس بينى وبينه نبي ".
وقال وهب بن منبه: كان فيما بين سليمان وعيسى عليهما السلام.
وقد روى ابن عساكر عن أنس بن مالك وعطاء بن السائب أن عزيرا كان في زمن موسى بن عمران.
وأنه استأذن عليه فلم يأذن له، يعنى لما كان من سؤاله عن القدر وأنه انصرف وهو يقول: مائة موتة أهون من ذل ساعة.
وفي معنى قول عزير مائة موتة أهون من ذل ساعة قول بعض الشعراء: قد يصبر الحر على السيف * ويأنف الصبر على الحيف ويؤثر الموت على حالة * يعجز فيها عن قرى الضيف فأما ما روى ابن عساكر وغيره عن ابن عباس ونوف البكالى وسفيان الثوري وغيرهم، من أنه سأل عن القدر فمحى اسمه من ذكر الانبياء، فهو منكر وفي صحته نظر، وكأنه مأخوذ عن الاسرائيليات.
وقد روى عبد الرزاق وقتيبة بن سعيد، عن جعفر بن سليمان، عن أبى عمران الجونى، عن نوف البكالى قال: قال عزير فيما يناجى
(2/345)
ربه: يا رب تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدى من تشاء ؟ فقيل له: أعرض عن هذا.
فعاد فقيل له: لتعرضن عن هذا أو لامحون اسمك من الانبياء، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.
وهذا يقتضى وقوع ما توعد
عليه لو عاد فما محى (1).
وقد روى الجماعة سوى الترمذي من حديث يونس بن يزيد، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة.
وكذلك رواه شعيب عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل نبي من الانبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر بها فأحرقت بالنار فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة ! فروى إسحاق بن بشر عن ابن جريج، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه أنه عزير، وكذا روى عن ابن عباس والحسن البصري أنه عزير، فالله أعلم.
__________
(1) المطبوعة: فما محيا.
(*)
(2/346)
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام قال الله تعالى في كتابه العزيز: بسم الله الرحمن الرحيم " كهيعص.
ذكر رحمة ربك عبده زكريا.
إذ نادى ربه نداء خفيا.
قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا.
وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا.
يا زكريا إنا نبشرك بغلام امسه يحيى لم نجعل له من قبل سميا.
قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا.
قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا.
قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا.
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا.
يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا.
وحنانا من لدنا وزكاة
وكان تقيا.
وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا.
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويم يبعث حيا " (1).
وقال تعالى: " وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك
__________
(1) سورة مريم.
(*)
(2/347)
سميع الدعاء.
فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين.
قال ربي أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر ؟ قال كذلك الله يفعل ما يشاء.
قال رب اجعل لي آية، قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار (1) ".
وقال تعالى في سورة الانبياء: " وزكريا إذا نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين.
فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ".
وقال تعالى: " وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (2) ".
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل: زكريا بن برخيا ويقال زكريا بن دان، ويقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان (3) بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا ابن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن إينامن بن رحيعام (2) بن سليمان بن داود، أبويحيى النبي عليه السلام من بني إسرائيل.
دخل البثنة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى.
وقيل إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى والله أعلم.
وقد قيل غير ذلك في نسبه.
ويقال فيه زكريا بالمد وبالقصر.
ويقال زكرى أيضا.
والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص على
__________
(1) ا: ابن حنشبان (2) ا: رخيعم.
(2) سورة آل عمران 37 - 41 (3) سورة الانعام 85.
(*)
(2/348)
الناس خبر زكريا عليه السلام وما كان من أمره حين وهبه [ الله (1) ] ولدا على الكبر وكانت امرأته [ مع ذلك (2) ] عاقرا في حال شبيبتها وقد أسنت أيضا، حتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته ولا يقنط من فضله تعالى " ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا ".
قال قتادة عند تفسيرها: إن الله يعلم القلب النقى ويسمع الصوت الخفى.
وقال بعض السلف: قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرا عنده مخافته فقال: يا رب يا رب يا رب.
فقال الله: لبيك لبيك لبيك.
" قال رب إني وهن العظم مني " أي ضعف وخار من الكبر " واشتعل الرأس شيبا " استعارة من اشتعال النار في الحطب أي غلب على سواد الشعر شيبه كما قال ابن دريد في مقصورته: أما ترى رأسي حاكى لونه * طرة صبح تحت أذيال الدجا واشتعل المبيض في مسوده * مثل اشتعال النار في جمر الغضا وآض عود اللهم يبسا ذاويا * من بعد ما قد كان مجاج الثرى يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطنا وظاهرا، وهكذا قال زكريا عليه السلام " إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ".
وقوله " ولم أكن بدعائك رب شقيا " أي ما عودتني فيما أسألك إلا الاجابة وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران ابن ما ثان، وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير إبانها (3) ولا في أوانها وهذه من كرامات الاولياء، فعلم أن الرازق للشئ في غير
__________
(1) ليست في ا (2) من ا (3) المطبوعة: أوانها، وما أثبته عن ا.
(*)
(2/349)
أوانه قادر على أن يرزقه ولدا وإن كان قد طعن في سنه " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " وقوله: " وإني خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا " قيل المراد بالموالى العصبة، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون برا تقيا مرضيا ولهذا قال: فهب لي من لدنك " أي من عندك بحولك وقوتك " وليا يرثنى " [ أي في النبوة والحكم في بني إسرائيل (1) ] " ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " يعني كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحى، وليس المراد هاهنا ورائة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة ووافقهم ابن جرير هاهنا وحكاه عن أبي صالح من السلف، لوجوه: أحدها: ما قدمناه عند قوله تعالى: " وورث سليمان داود " أي في النبوة والملك لما (2) ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين العلماء المروى في الصحاح والمسانيد [ والسنن (1) ] وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا فهو صدقة " فهذا نص على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يورث، ولهذا منع الصديق
أن يصرف ماكان يختص به في حياته إلى أحد من ورائه الذين لولا هذا النص لصرف إليهم، وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس
__________
(1) ليست في ا.
(2) المطبوعة: كما.
وما أثبته من ا.
(*)
(2/350)
رضي الله عنهم، واحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث، وقد وافقه على روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب و عبد الرحمن ابن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم.
الثاني: أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الانبياء: " نحن معاشر الانبياء لا نورث " وصححه.
الثالث: أن الدنيا كانت أحقر عند الانبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسألوا الاولاد ليحوزوها بعدهم، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولدا يكون وارثا له فيها.
الرابع: أن زكريا عليه السلام كان نجارا يعمل بيده ويأكل من كسبها، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده، والغالب ولا سيما من مثل حال الانبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهادا يستفضل منه ما لا يكون ذخيرة له يخلفه من بعده.
وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهمه إن شاء الله.
قال الامام أحمد: حدثنا يزيد، يعنى ابن هرون، أنبأنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: كان زكريا نجارا.
وهكذا رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه، عن حماد بن سلمة به.
وقوله: " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا "
(2/351)
وهذا مفسر بقوله: " فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ".
فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد له والحالة هذه " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير، قيل كان عمره إذ ذاك سبعا وسبعين سنة، والاشبه والله أعلم أنه كان أسن من ذلك " وكانت امرأتي عاقرا " يعنى وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد.
والله أعلم.
كما قال الخليل: " أبشرتموني على أن مسنى الكبر فبم تبشرون " وقالت سارة: " يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب.
قالوا أتعجبين من أمر الله ؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ".
وهكذا أجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الذي يوحى إليه بأمر ربه: " كذلك قال ربك هو علي هين " أي هذا سهل يسير عليه " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " أي قدرته، أوجدتك بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، أفلا يوجد منك ولدا وإن كنت شيخا ؟ ! وقال تعالى: " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين "
ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت.
وقيل كان في لسانها شئ، أي بذاءة.
(2/352)
" قال رب اجعل لي آية " أي علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " يقول علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزا وأنت في ذلك سوى الخلق صحيح المزاج معتدل البنية.
وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والابكار، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه (1) " فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " والوحى هاهنا هو الامر الخفى إما بكتابة، كما قاله مجاهد والسدى، أو إشارة كما قاله مجاهد أيضا ووهب وقتادة.
قال مجاهد وعكرمة ووهب والسدى وقتادة، اعتقل لسانه من غير مرض.
وقال ابن زيد: كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد.
* * * وقوله تعالى: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا " يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الالهية لابيه زكريا عليه السلام وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه.
قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب.
فقال: ما للعب خلفنا.
قال: وذلك قوله " وآتيناه الحكم صبيا ".
وأما قوله: " وحنانا من لدنا " فروى ابن جرير عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لاأدرى ما الحنان.
وعن ابن عباس
__________
(1) ا: المحراب.
(*) (23 - قصص الانبياء)
(2/353)
ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك: " وحنانا من لدنا " أي رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا فوهبنا له هذا الولد.
وعن عكرمة: " وحنانا " أي محبة عليه ويحتمل أن يكون ذلك صفة لتحنن يحيى على الناس ولا سيما على أبويه، وهو محبتهما والشفقة عليهما وبره بهما.
وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائص والرذائل.
والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره.
ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمرا ونهيا وترك عقوقهما قولا وفعلا فقال: " وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " ثم قال: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " هذه الاوقات الثلاثة أشد ما تكون على الانسان، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر، فيفقد الاول بعد ما كان ألفه وعرفه ويصير إلى الآخر ولا يدرى ما بين يديه، ولهذا يستهل صارخا إذا خرج من بين الاحشاء وفارق لينها وضمها وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها ! وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار، وصار بعد الدور والقصور إلى عرصة الاموات سكان القبور، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور، فمن مسرور ومحبور ومن محزون ومثبور، وما بين جبير وكسير وفريق في الجنة وفريق في السعير ! ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول: ولدتك أمك باكيا مستصرخا * والناس حولك يضحكون سرورا
فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا * في يوم موتك ضاحكا مسرورا
(2/354)
ولما كانت هذه المواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل موطن منها فقال: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ".
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن الحسن قال إن يحيى وعيسى التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني.
فقال له الآخر: استغفر لي أنت خير مني.
فقال له عيسى: أنت خير منى سلمت على نفسي وسلم الله عليك.
فعرف والله فضلهما.
وأما قوله في الآية الاخرى: " وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " فقيل المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء.
وقيل غير ذلك، وهو أشبه لقوله " هب لي من لدنك ذرية طيبة ".
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغى لاحد يقول أنا خير من يونس بن متى ".
علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الائمة، وهو منكر الحديث.
وقد رواه ابن خزيمة والدار قطني من طريق أبي عاصم العباداني، عن علي بن زيد بن جدعان بن مطولا.
ثم قال ابن خزيمة: وليس على شرطنا.
وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوما وهم يتذاكرون
(2/355)
فضل الانبياء فقال قائل: موسى كليم الله.
وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته.
وقال: قائل إبراهيم خليل الله [ وهم يذكرون ذلك ] (1) فقال: أين الشهيد ابن الشهيد، يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب ! قال ابن وهب: يريد يحيى بن زكريا.
وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا.
فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين وقد عنعن هاهنا.
ثم قال عبد الرزاق: عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب مرسلا.
ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة، عن يحيى بن سعيد الانصاري، ثم رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجانى خطيب دمشق، حدثنا محمد بن الاصبهاني، حدثنا أبو خالد الاحمر، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو قال: ما أحد إلا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا.
ثم تلا " وسيدا وحصورا " ثم رفع شيئا من الارض فقال: ما كان معه إلا مثل هذا، ثم ذبح ذبحا ! وهذا موقوف من هذه الطريق وكونه موقوفا أصح من رفعه والله أعلم.
__________
(1) سقط من المطبوعة وأثبته من ا.
(*)
(2/356)
وأورده ابن عساكر من طرق عن معمر: من ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر، وهو ضعيف، عن عثمان بن ساج (1)، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
بنحوه.
وروى من طريق أبى داود الطيالسي وغيره، عن الحكم بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام ".
وقال أبو نعيم الحافظ الاصبهاني: حدثنا إسحاق بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا أحمد بن أبي الحوارى، سمعت أبا سليمان يقول: خرج عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا يتماشيان، فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى: يابن خالة لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبدا قال: وما هي يابن خالة ؟ قال امرأة صدمتها.
قال: والله ما شعرت بها.
قال سبحان الله بدنك معى فأين روحك ؟ قال: معلق بالعرش ولو أن قلبى اطمأن إلى جبريل لظننت أنى ما عرفت الله طرفة عين.
فيه غرابة وهو من الاسرائيليات.
وقال إسرائيل عن أبي حصين، عن خيثمة، قال: كان عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابني خالة وكان عيسى يلبس الصوف، وكان يحيى يلبس الوبر ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم ولا عبد ولا أمة ولا مأوى يأويان إليه، أين ما جنهما الليل أويا، فلما أرادا أن يتفرقا قال يحيى:
__________
(1) المطبوعة ابن سباح.
محرفة.
(*)
(2/357)
أوصني.
قال: لا تغضب.
قال: لا أستطيع إلا أن أغضب قال لا (1) تقتن
مالا.
قال أما هذه فعسى.
* * * وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه: هل مات زكريا عليه السلام موتا أو قتل قتلا ؟ علي روايتين فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان، عن أبيه، عن وهب بن منبه، أنه قال: هرب من قومه فدخل شجرة فجاءوا فوضعوا المنشار عليهما، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن فأوحى الله إليه: لئن لم يسكن أنينك لاقلبن الارض ومن عليها.
فكن أنينه حتى قطع باثنتين.
وقد روى (2) هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله.
وروى إسحق بن بشر، عن إدريس بن سنان، عن وهب أنه قال: الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا، فأما زكريا فمات موتا فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف، وكان يعد من البدلاء، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الاشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكاد أن يبطئ فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن.
فقال: يا أخي إني
__________
(1) ا: فلا.
(2) ا: وقد ورد.
(*)
(2/358)
أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي.
قال: فجمع يحيى
بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلا المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عزوجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن.
وأولهن: أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك مثل من اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك، وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا.
وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفتوا.
وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: هل لكم أن أفتدى نفسي منكم فجعل يفتدى نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه.
وآمركم بذكر الله عزوجل كثيرا، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في إثره فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عزوجل.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس الله أمرنى بهن: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج
(2/359)
عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربق الاسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم.
قال: يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ قال
وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عزوجل المسلمين المؤمنين عباد الله عزوجل.
وهكذا رواه أبو يعلى عن هدبة بن خالد، عن أبان بن يزيد، عن يحيى ابن أبي كثير به.
وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي وموسى بن إسماعيل، كلاهما عن أبان بن يزيد العطار به.
ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن محمد بن شعيب بن سابور، عن معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الاشعري به.
ورواه الحاكم من طريق مروان بن محمد الطاطرى، عن معاوية بن سلام، عن أخيه به.
ثم قال: تفرد به مروان الطاطرى، عن معاوية بن سلام.
قلت: وليس كما قال.
ورواه الطبراني عن محمد بن عبدة، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن معاوية بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الاشعري، فذكر نحوه فسقط ذكر زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الاشعري فذكر نحو هذه الرواية.
ثم روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ذكر لنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمعوا من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات وذكر نحو ما تقدم.
وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس، إنما
(2/360)
كان يأنس إلى البراري ويأكل من ورق الاشجار ويرد ماء الانهار ويتغذى بالجراد في بعض الاحيان، ويقول: من أنعم منك يا يحيى ! وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه فوجداه عند بحيرة الاردن
فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديدا لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عزوجل.
وقال ابن وهب عن مالك، عن حميد بن قيس، عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: جلست يوما إلى أبي إدريس الخولانى وهو يقص فقال: ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاما ؟ فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال: إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاما ؟ إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشهم.
وقال ابن المبارك عن وهيب بن الورد: قال: فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبرا وأقام فيه يبكي على نفسه، فقال يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه ؟ فقال: يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة لا تقطع إلا بدموع البكائين.
فقال له: ابك يا بني.
فبكيا جميعا.
وهكذا حكاه وهب بن منبه ومجاهد بنحوه.
وروى ابن عساكر عنه أنه قال: إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم
(2/361)
فيه من النعيم، فكذا ينبغي للصديقين أن لا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عزوجل ثم قال: كم بين النعيمين وكم بينهما.
وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه.
بيان سبب قتل يحيى عليه السلام وذكروا في قتله أسبابا من أشهرها أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك فبقي في نفسها منه.
فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى، فوهبه لها فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طست إلى عندها فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها.
وقيل بل أحبته امرأة ذلك الملك [ وراسلته (1) ] فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك، فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طست.
وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال: أنبأنا يعقوب الكوفي، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به رأى زكريا في السماء فسلم عليه وقال له: يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان ولم قتلك بنو إسرائيل ؟ قال: يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/362)
زمانه، وكان أجملهم وأصبحهم وجها، وكان كما قال الله تعالى: " سيدا وحصورا " وكان لا يحتاج إلى النساء فهويته امرأة ملك بني إسرائيل، وكانت بغية، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها فأجمعت على قتل يحيى ولهم عيد يجتمعون في كل عام، وكانت سنة الملك أن يعد ولا يخلف ولا يكذب.
قال: فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته، وكان بها معجبا
ولم تكن تفعله فيما مضى، فلما أن شيعته قال الملك سلينى، فما سألتني شيئا إلا أعطيتك.
قالت: أريد دم يحيى بن زكريا.
قال لها سليني غيره.
قالت: هو ذاك قال: هو لك.
قال فبعثت جلاوزتها (1) إلى يحيى وهو في محرابه يصلى وأنا إلى جانبه أصلى، قال: فذبح في طست وحمل رأسه ودمه إليها.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بلغ من صبرك قال: ما انفلت من صلاتي.
قال: فلما حمل رأسه إليها فوضع بين يديها فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل: قد غضب إله زكريا، لزكريا فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا.
قال: فخرجوا في طلبي ليقتلوني وجاءني النذير، فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم علي، فلما تخوفت أن لا اعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني وقالت إلي إلي.
وانصدعت لي ودخلت فيها.
قال: وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجا من الشجرة، وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس: أما رأيتموه
__________
(1) الجلاوزة: (*)
(2/363)
دخل هذه الشجرة، هذا طرف ردائه دخلها بسحره.
فقالوا: نحرق هذه الشجرة.
فقال إبليس شقوه بالمنشار شقا.
قال: فشققت مع الشجرة بالمنشار.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل وجدت له مسا أو وجعا ؟ قال: لا إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها.
هذا سياق (1) غريب جدا وحديث عجيب ورفعه منكر، وفيه ما ينكر على كل حال، ولم ير في شئ من أحاديث السراء ذكر زكريا عليه
السلام إلا في هذا الحديث، وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الاسراء: فمررت بابنى الخالة يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة [ فجاء ] (2) على قول الجمهور كما هو ظاهر الحديث، فإن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران.
وقيل بل أشياع وهي امرأة زكريا، أم يحيى هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم، فيكون يحيى ابن خالة مريم فالله أعلم * ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان في المسجد الاقصى أم بغيره (3) على قولين: فقال الثوري عن الاعمش عن شمر بن عطية قال قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيا، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام.
وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بختنصر
__________
(1) ا: إسناد.
(2) من ا (3) ا: أو.
(*)
(2/364)
دمشق فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلى، فسأل عنه فأخبروه، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن.
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وهو يقتضي أنه قتل بدمشق وأن قصة بختنصر كانت (1) بعد المسيح كما قاله عطاء والحسن البصري.
فالله أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق الوليد بن مسلم، عن زيد بن واقد، قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلى المحراب مما يلى الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير.
وفي رواية: كأنما قتل الساعة.
وذكر في بناء مسجد دمشق أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة.
فالله أعلم.
[ وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصى في فضائل الاقصى، من طريق العباس بن صبح، عن مروان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن قاسم مولى معاوية، قال: كان ملك هذه المدينة يعني دمشق هداد بن هدار، وكان قد زوج ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق وهو الصاغة العتيقة، قال: وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا.
ثم إنه أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا، وذلك بإشارة أمها، فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك وبعث إليه وهو قائم يصلى بمسجد جبرون من أتاه برأسه في صينية،
__________
(1) ا: وأن بختنصر كان بعد المسيح.
(*)
(2/365)
فجعل الرأس يقول له لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره - فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها وأتت به أمها وهو يقول كذلك، فلما تمثلت بين يدى أمها خسف بها إلى قدميها ثم إلى حقويها، وجعلت أمها تولول والجوارى يصرخن ويلطمن وجوههن، ثم خسف بها إلى منكبيها فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها لتتسلى برأسها، ففعل فلفظت الارض جثتها عند ذلك، ووقعوا في الذل والفناء، ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم بختنصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفا.
قال سعيد بن عبد العزيز: وهي دم كل نبي.
ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال: أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن
الله.
فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس فتبعهم إليها فقتل خلاق كثيرا لا يحصون كثرة وسبا منهم ثم رجع عنهم ] (1)
__________
(1) مسقط من ا.
(*)
(2/366)
قصة عيسى بن مريم عبد الله ورسوله [ وابن أمته (1) ] عليه من الله [ أفضل (1) ] الصلاة والسلام قال الله تعالى في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله، الذين زعموا أن لله ولدا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يذكرون ماهم عليه من الباطل من التثليث في الاقانيم ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة وعيسى ومريم، على اختلاف فرقهم، فأنزل الله عزوجل صدر هذه السورة بين فيها أن عيسى عبد من عباد الله خلقه وصوره في الرحم كما صور (2) غيره من المخلوقات وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم، وقال له كن فكان (2) سبحانه وتعالى.
وبين أصل ميلاد أمه مريم وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم كما سنتكلم على ذلك [ كله ] (1) بعون الله وحسن توفيقه وهدايته.
فقال تعالى وهو أصدق القائلين: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين.
ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك
__________
(1) ليست في ا (2) ا: كما خلق (3) ا: فيكون (*)
(2/367)
أنت السميع العليم.
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتهامن الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا، كما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ".
يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته، ثم خصص فقال: " وآل إبراهيم " فدخل فيهم بنو إسماعيل ثم ذكر [ فضل ] (1) هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران، والمراد بعمران هذا والد مريم عليها السلام.
وقال محمد بن إسحاق: وهو عمران بن باشم بن أمون بن ميشا ابن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعام (3) بن داود.
وقال أبو القاسم ابن عساكر: مريم بنت عمران بن ما ثان بن العازر ابن اليود بن أخنز بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أيبود بن زريابيل ابن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون بن ميشابن حزقيا (3) بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يوارم بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام.
وفيه مخالفة لما ذكره محمد بن إسحاق.
ولا خلاف أنها من سلالة داود عليها السلام وكان أبوها عمران صاحب
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: رخيعم.
(3) ط: حزقا.
(*)
(2/368)
صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل
من العابدات، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع في قول الجمهور وقيل زوج خالتها أشياع فالله أعلم.
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أم مريم كانت لا تحبل فرأت يوما طائرا يزق فرخا له فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت (1) لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في بيت المقدس.
قالوا: فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " وقرئ بضم التاء " وليس الذكر كالانثى " أي في خدمة بيت المقدس، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداما من أولادهم.
وقولها: " وإني سميتها مريم " استدل به على تسمية المولود يوم يولد، وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنك أخاه وسماه عبد الله.
وجاء في حديث الحسن عن سمرة مرفوعا " كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه ".
رواه أحمد وأمل السنن وصححه الترمذي.
وجاء في بعض ألفاظه: " ويدمى " بدل ويسمى وصححه بعضهم والله أعلم.
وقولها: " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " قد استجيب
__________
(1): لئن ولدت.
(*) (24 - قصص الانبياء - 2)
(2/369)
لها في هذا كما تقبل منها نذرها، فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إلا مريم وابنها " ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية، عن عبد الله بن الزبيدي، عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد أيضا: حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن عجلان مولى المشمعل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى ".
تفرد به من هذا الوجه.
ورواه مسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عمر بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه (1) إلا ما كان من مريم وابنها، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذلك حين يلكزه الشيطان بحضنيه ".
__________
(1) الحضن: الجنب وهما حضنان.
(*)
(2/370)
وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه من هذا الوجه، ورواه قيس عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من
مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى بن مريم ومريم " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
وكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
بأصل الحديث.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الملك، حدثنا المغيرة هو ابن عبد الرحمن الحزامى (1)، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ".
وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقوله: " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا " ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خروقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها.
ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في
__________
(1) ط: هو ابن عبد الله " الحزامى ؟ ؟.
وهو مغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حكيم بن حزام الاسدي المدنى.
انظر ميزان الاعتدال 4 / 163.
(*)
(2/371)
ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين.
فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة [ لهم ] (1) وذلك أن الخالة بمنزلة الام.
قال الله تعالى: " وكفلها زكريا " أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ".
قالوا: وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفا به، ثم حملوها ووضعوها في موضع وأمروا غلاما لم يبلغ الحنث فأخرج واحدا منها وظهر قلم زكريا عليه السلام.
فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء (2) فهو الغالب ففعلوا فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الاقلام قد انعكس سيرها صعدا [ فهو الغالب ففعلوا (1) ] فكان زكريا هو الغالب لهم فكفلها إذ كان أحق بها شرعا وقدرا لوجوه عديدة.
قال الله تعالى: " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال: يا مريم أنى لك هذا، قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " قال المفسرون: اتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواها، فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة
__________
(1): ليست في ا.
(2) ا: فأيهم جرى قلمه مع الماء.
(*)
(2/372)
البيت إذا جاءت نوبتها وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الاحوال الكريمة والصفات الشريفة حتى إنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه، فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها " أنى لك هذا "
فتقول " هو من عند الله " أي رزق رزقنيه الله " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ".
فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر " قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ".
قال بعضهم: قال يا من يرزق [ مريم ] (1) الثمر في غير أوانه (2) هب لي ولدا وإن كان في غير أوانه.
فكان من خبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته.
* * * " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واسطفاك على نساء العالمين.
يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعى مع الراكعين.
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون.
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين.
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء
__________
(1) ليست في ا (2) ا: في غير أيامه.
(*)
(2/373)
إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
ومصدقا
لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون.
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ".
يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمى زمانها، بأن اختارها لايجاد ولد منها من غير أب وبشرت بأن يكون نبيا شريفا " يكلم الناس في المهد " أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكذلك في حال كهوليته، فدل على أنه يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها، وأمرت بكثرة العبادة والقنوت والسجود والركوع لتكون أهلا لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة، فيقال إنها كانت تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضى الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها.
فقول الملائكة: " يا مريم إن الله اصطفاك " أي اختارك واجتباك " وطهرك " أي من الاخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة " واصطفاك على نساء العالمين ".
يحتمل أن يكون المراد عالمى زمانها كقوله لموسى " إني اصطفيتك على الناس " وكقوله عن بني إسرائيل " ولقد اخترناهم على
(2/374)
علم على العالمين " ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما، وكذلك هذه الامة أفضل من سائر الامم قبلها وأكثر عددا وأفضل علما وأزكى عملا من بني إسرائيل وغيرهم.
ويحتمل أن يكون قوله: " واصطفاك على نساء العالمين " محفوظ العموم فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها أو جد بعدها لانها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى
محتجا بكلام الملائكة والوحى إلى أم موسى، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره، فلا يمتنع على هذا أن تكون مريم أفضل من سارة وأم موسى لعموم قوله " واصطفاك على نساء العالمين " إذ لم يعارضه غيره.
والله أعلم.
وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الاشعري وغيره عن أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال، وليس في النساء نبية فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة " فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها.
والله أعلم.
وقد جاء ذكرها مقرونا مع آسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن وأرضاهن.
وقد روى الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عديدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد ".
(2/375)
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حسبك من نساء العالمين بأربع، مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ".
ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زنجويه، عن عبد الرزاق به وصححه، ورواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن أبي جعفر [ الرازي ] (1) وابن عساكر من طريق تميم بن زياد، كلاهما عن أبي جعفر الرازي، عن
ثابت، عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رسول الله ".
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: كان أبو هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه لزوج في ذات يده " قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرا قط.
وقد رواه مسلم في صحيحه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى موسى بن علي، سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نساء ركبن
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/376)
الابل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده " قال أبو هريرة: وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابنة عمران لم تركب الابل.
تفرد به وهو على شرط الصحيح.
ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الارض أربع خطوط فقال أتدرون
ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " ورواه النسائي من طرق عن داود [ بن (1) ] أبي هند.
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان ابن الاشعث، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري، أنبأنا بشر بن مهران ابن حمدان، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبي هند، عن الشعبى، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران ".
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا وهب بن بقية (2) حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة،
__________
(1) سقطت من الاصل وأثبتها من ميزان الاعتدال 2 / 11.
(2) كذا في ا وفي ط: وهب بن منبه.
وهو خطا لان وهب بن منبه من التابعين وقد روى عن ابن عباس و عبد الله بن عمرو.
(*)
(2/377)
أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت ثم ضحكت ؟ قالت: أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت عليه فأخبرني أنى أسرع أهله لحوقا به وأنى سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت.
وأصل هذا الحديث في الصحيح.
وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه أنهما أفضل الاربع المذكورات.
وهكذا الحديث الذي رواه الامام ؟ ؟ أحمد: حدثنا عثمان بن محمد،
حدثنا جرير، عن يزيد هو ابن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نعم (1)، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران.
إسناد حسن وصححه الترمذي ولم يخرجوه، وقد روى نحوه من حديث علي بن أبي طالب ولكن في إسناده ضعف.
والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الاربع.
ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة.
لكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الاول فقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا أبو الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا، قالوا أنبأنا (2) أبو جعفر بن المسلمة، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أحمد بن سليمان، حدثنا الزبير هو بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن،
__________
(1): ا ابن أبي يعمر.
محرفة وفي المطبوعة: ابن أبي نعيم.
محرفة أيضا والتصويب من ميزان الاعتدال 2 / 595.
(2) ا: أخبرنا (*)
(2/378)
عن عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون ".
فإن كان هذا اللفظ محفوظا بثم التي للترتيب فهو مبين لاحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء، وتقدم على ما تقدم من الالفاظ التي وردت بواو العطف التي لا تقتضي الترتيب ولا تنفيه والله أعلم.
وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي عن داود الجعفري، عن
عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس مرفوعا.
فذكره بواو العطف لا بثم الترتيبية، فخالفه إسنادا ومتنا.
فالله أعلم.
فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة، عن معاوية ابن قرة، عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق، عن شعبة عن عمرو بن مرة [ عن مرة ] (1) الهمداني، عن أبي موسى الاشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
__________
(1) سقط من ا.
(*)
(2/379)
فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه، ولفظه يقتضى حصر الكمال في النساء في مريم وآسية، ولعل المراد بذلك في زمانهما فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره، فآسية كفلت موسى الكليم، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله، فلا ينفى كمال غيرهما في هذه الامة كخديجة وفاطمة.
فخديجة خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة خمسة عشر سنة وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها، رضي الله عنها وأرضاها.
وأما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها لانها أصيبت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية أخواتها متن في حيات النبي (1) صلى الله عليه وسلم.
وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يتزوج بكرا غيرها، ولا يعرف في سائر النساء في هذه الامة بل ولا في غيرها أعلم منها ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال [ لها ] (2) أهل الافك ما قالوا فأنزل [ الله ] (3) براءتها من فوق سبع سماوات، وقد عمرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين، والاحسن الوقف فيهما رضي الله عنهما
__________
(1) ا: في حياة رسول الله.
(2) من ا.
(3) سقط من ا.
(*)
(2/380)
وما ذاك إلا لان قوله صلى الله عليه وسلم: " وفضل عائشة على النساء كفضل.
الثريد على سائر الطعام " يحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى المذكورات.
وغيرهن ويحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى [ ما عدا ] (1) المذكورات.
والله أعلم.
والمقصود هاهنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمى زمانها، ويجوز أن يكون تفضيلها على النساء مطلقا كما قدمنا.
وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة هي وآسية بنت مزاحم.
وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك واستأنس بقوله: " ثيبات وأبكارا "
قال: فالثيب آسية ومن الابكار مريم بنت عمران.
وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم فالله أعلم.
قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفى، حدثنا أبي أنبأنا (2) عمى الحسين، حدثنا يونس بن نفيع، عن سعد بن جنادة، هو العوفى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوجنى في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى ".
رواه [ ابن ] (3) جعفر العقيلى من حديث عبدالنور به وزاد فقلت: هنيئا لك يا رسول الله.
ثم [ قال ] (3) العقيلى: وليس بمحفوظ.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن يعلى بن المغيرة
__________
(1) سقط من ا.
(2) ا حدثنا.
(3) سقط من ا.
(*)
(2/381)
عن أبي داود، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه فقال لها: بالكره منى ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكرة خيرا كثيرا، أما علمت أن الله قد زوجنى معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون ؟ قالت: وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم.
قالت بالرفاء والبنين.
وروى ابن عساكر من حديث محمد بن زكريا الغلابى، حدثنا العباس ابن بكار، حدثنا ؟ ؟ أبو بكر الهذلى، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في [ مرض ] (1) للموت فقال: يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن منى السلام قالت:
يا رسول الله وهل تزوجت قبلى ؟ قال: لا ولكن الله زوجنى مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى.
وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد، حدثنا محمد بن صالح ابن عمر، عن الضحاك ومجاهد، عن ابن عمر، قال: نزل جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أرسل به وجلس يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت خديجة، فقال جبريل: من هذه يا محمد ؟ قال هذه صديقة أمتى.
قال جبريل معى إليها رسالة من الرب عزوجل يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب.
قالت: الله السلام ومنه السلام والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله، ما ذلك البيت الذي من قصب ؟ قال: لؤلؤة
__________
(1) سقط من ا.
(*)
(2/382)
جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبنت آسية بنت مزاحم، وهما من أزواجي يوم القيامة.
وأصل السلام على خديجة من الله وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب في الصحيح، ولكن هذا السياق بهذه الزيادات غريب جدا.
وكل من هذه الاحاديث في أسانيدها نظر.
وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي، حدثنا عبد الله ابن صالح حدثنى معاوية، عن صفوان بن عمرو، عن خالد بن معدان عن كعب الاحبار أن معاوية سأله عن الصخرة يعنى صخرة بيت المقدس فقال: الصخرة على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة مريم بنت عمر وآسية بنت مزاحم ينظمان سموط أهل الجنة حتى
تقوم الساعة.
ثم رواه من طريق إسماعيل، عن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسعود، عن عبد الرحمن، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
وهذا منكر من هذا الوجه بل هو موضوع.
وقد رواه أبو زرعة عن عبد الله بن صالح، عن معاوية عن مسعود ابن عبد الرحمن، عن ابن عابد، أن معاوية سأل كعبا عن صخرة بيت المقدس فذكره.
قال الحافظ ابن عساكر: وكونه من كلام كعب الاحبار أشبه.
قلت: وكلام كعب الاحبار هذا إنما تلقاه من الاسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم، وهذا منه والله أعلم
(2/383)
ذكر ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم العذراء البتول قال الله تعالى: " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا.
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا.
قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا.
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا.
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا.
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا.
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا.
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي
واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا.
فأتت به قومها تحمله قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريا.
يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا.
فأشارت إليه قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا.
وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.
ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ".
(2/384)
ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التي هي كالمقدمة لها والتوطئة [ قبلها ] (1) كما ذكر في سورة آل عمران، قرن بينهما في سياق واحد وكما قال في سورة الانبياء " وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين.
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ".
وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس وأنه كفلها زوج أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام، وأنه اتخذ لها محرابا وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة فلم يكن في ذلك الزمان
نظيرها في فنون العبادات، وظهر عليها من الاحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبأنه سيهب لها ولدا زكيا يكون نبيا كريما طاهرا مكرما مؤيدا بالمعجزات، فتعجبت من وجود ولد من غير والد، لانها لا زوج لها، ولا هي ممن تتزوج فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت لامر الله، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لانهم لا يعلمون حقيقة الامر، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل (2).
وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: ولا عقل.
(*) (25 - قصص الانبياء 2)
(2/385)
منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء، فبينما هي يوما قد خرجت لبعض شؤونها " وانتبذت " أي انفردت وحدها شرقي المسجد الاقصى إذ بعث الله إليها الروح الامين جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشرا سويا " فلما رأته " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ".
قال أبو العالية: علمت أن التقى ذو نهية.
وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه " تقى " فإن هذا قول باطل بلا دليل، وهو من أسخف الاقوال.
" قال إنما أنا رسول ربك " أي خاطبها الملك " قال (1) إنما أنا رسول ربك " [ أي ] (2) لست ببشر ولكني ملك بعثنى الله إليك لاهب لك غلاما زكيا " أي ولدا زكيا.
" قالت أنى يكون لي غلام " أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد " ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " أي ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة " قال كذلك قال ربك هو علي هين " أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلا " كذلك قال ربك " أي وعد أنه سيخلق منك غلاما ولست بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين " هو علي هين " أي وهذا سهل عليه ويسير لديه، فإنه على ما يشاء قدير.
وقوله: " ولنجعله آية للناس " أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلا
__________
(1) ا: قائلا إنما أنا رسول ربك.
(2) من ا.
(*)
(2/386)
على كمال قدرتنا على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى.
وقوله " ورحمة منا " أي نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والاولاد والشركاء والنظراء والاضداد والانداد.
وقوله: " وكان أمرا مقضيا ".
يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها، يعنى أن هذا أمر قد قضاه الله وحتمه وقدره وقرره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق واختاره ابن جرير، ولم يحك سواه والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله " وكان أمرا مقضيا " كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى: " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها
فنفخنا فيه من روحنا ".
فذكر غير واحد من السلف أن جبريل نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها.
ومن قال إنه نفخ في فمها أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن، فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل إليها ملك من الملائكة وهو جبريل عليه السلام، وأنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه، كما قال تعالى
(2/387)
" فنفخنا فيه من روحنا " فدل (1) على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها، كما رواه السدى بإسناده عن بعض الصحابة.
ولهذا قال تعالى: " فحملته " أي فحملت ولدها " فانتبذت به مكانا قصيا " وذلك لان مريم عليها السلام لما حملت ضاقت به ذرعا، وعلمت أن كثيرا من الناس سيكون منهم كلام في حقها، فذكر غير واحد من السلف منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار، وكان ابن خالها فجعل يتعجب من ذلك عجبا شديدا، وذلك لما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج، فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر ؟ قالت: نعم، فمن خلق الزرع الاول.
ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت: نعم إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى.
قال لها: فأخبريني خبرك.
فقالت: إن الله بشرني
" بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ".
ويروى مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا والله أعلم.
وذكر السدى بإسناده عن الصحابة: أن مريم دخلت يوما على أختها فقالت لها أختها: أشعرت أنى حبلى ؟ فقالت مريم: وشعرت أيضا أنى حبلى ؟
__________
(1) ط: يدل.
وما اثبته من ا.
(*)
(2/388)
فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله " مصدقا بكلمة من الله " ومعنى السجود هاهنا الخضوع والتعظيم، كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان [ في ] (1) شرع من قبلنا، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم.
وقال أبو القاسم: قال مالك: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة وكان حملهما جميعا [ معا ] (1)، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.
قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام، لان الله تعالى جعله يحيى الموتى ويبرئ الاكمه والابرص.
رواه ابن أبي حاتم.
[ وروى عن مجاهد قال: قالت مريم كنت إذا خلوت حدثنى وكلمني وإذا كنت بين الناس سبح في بطني ] (1).
ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعن، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر.
وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر، وعن ابن عباس ما هو إلا أن حملت به فوضعته.
قال بعضهم: حملت به تسع ساعات واستأنسوا لذلك بقوله " فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ".
والصحيح أن تعقيب كل شئ بحسبه، كقوله " فتصبح الارض
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/389)
مخصرة " وكقوله: " فخلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوما كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
قال محمد بن إسحق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت مادخل على آل [ بيت ] (1) زكريا.
قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكانا قصيا.
وقوله: " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " أي فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة، وهو بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعا والبيهقي بإسناد وصححه عن شداد بن أوس مرفوعا أيضا ببيت لحم الذي بنى عليه بعض ملوك الروم فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل.
" قالت: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " فيه دليل على جواز تمنى الموت عند الفتن، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها، مع أنها قد كانت
عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا (2) الحال أو كانت " نسيا منسيا " أي لم تخلق بالكلية.
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: هذه.
(*)
(2/390)
وقوله: " فناداها من تحتها " وقرئ من تحتها على الخفض، وفي المضمر قولان: أحدهما أنه جبريل.
قاله العوفى عن ابن عباس قال: ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم.
وبهذا قال سعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والضحاك والسدى وقتادة.
وقال مجاهد والحسن وابن زيد وسعيد ابن جبير في رواية: هو ابنها عيسى.
واختاره ابن جرير.
وقوله " أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ".
قيل النهر وإليه ذهب الجمهور.
وجاء فيه حديث رواه الطبراني لكنه ضعيف واختاره ابن جرير وهو الصحيح وعن الحسن والربيع بن أنس وابن أسلم وغيرهم أنه ابنها.
والصحيح الاول لقوله " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " فذكر الطعام والشراب ولهذا قال " فكلي واشربي وقري عينا ".
ثم قيل: كان جذع النخلة يابسا وقيل كانت نخلة مثمرة فالله أعلم.
ويحتمل أنها كانت نخلة، لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك، لان ميلاده كان في زمن الشتاء وليس ذاك وقت ثمر، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان " تساقط عليك رطبا جنيا ".
قال عمرو بن ميمون: ليس شئ أجود (2) للنفساء من التمر والرطب
ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا شيبان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الاوزاعي (3) عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب قال: قال
__________
(1) ط: وهكذا قال.
(2) ا: خير.
(3): ط: الانصاري: وما أثبته من ا (*)
(2/391)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي حلق منه آدم وليس من الشجر شئ يلقح غيرها " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران ".
وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن شيبان بن فروخ، عن مسروق ابن سعيد.
وفي رواية مسرور بن سعد.
والصحيح مسرور بن سعيد التميمي، أورد له ابن عدى هذا الحديث هن الاوزاعي به ثم قال: وهو منكر الحديث [ ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث ] (1).
وقال ابن حبان: يروى عن الاوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها.
وقوله: " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ".
وهذا من تمام كلام الذي ناداها من تحتها قال: " كلى واشربي وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا " أي فإن رأيت أحدا من الناس " فقولي " له أي بلسان الحال والاشارة " إني نذرت للرحمن صوما " أي صمتا، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام.
قاله قتادة والسدى وابن أسلم.
ويدل على ذلك
قوله: " فلن أكلم اليوم إنسيا " فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل.
__________
(1) سقط من ا.
(*)
(2/392)
وقوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا.
يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها فمروا على محلتها والانوار حولها، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها فقالوا لها: " يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أي أمرا عظيما منكرا.
وفي هذا الذي قالوه نظر، مع أنه كلام ينقض أوله آخره وذلك لان ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله.
قال ابن عباس: وذلك بعد ما تعالت (1) من نفاسها بعد أربعين يوما.
والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال.
ثم قالوا لها " يا أخت هرون " قيل شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة، وكان اسمه هرون.
قاله سعيد بن جبير.
وقيل أرادوا بهرون أخا موسى شبهوها به في العبادة.
وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهرون نسبا، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على [ أدنى ] (2) من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهرون صربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرق فرعون وملاه، فاعتقد
أن هذه هي هذه.
__________
(1) ط: تعلت (2) سقط من ا.
(*)
(2/393)
وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولا ولله الحمد والمنة.
وقد ورد الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هرون وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها.
والله أعلم.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت أبي بذكره، عن سماك.
عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون: " يا أخت هرون " وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال فرحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالانبياء والصالحين قبلهم ".
وكذا رواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن إدريس، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه وفي رواية.
" الا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم ".
وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهرون حتى قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ممن يسمى بهرون أربعون ألفا ! فالله أعلم.
والمقصود أنهم قالوا: " يا أخت هرون " ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هرون وكان مشهورا بالدين والصلاح والخير،
ولهذا قالوا: " ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " أي لست
(2/394)
من بيت هذا شيمتهم ولا سجيتهم لا أخوك ولا أمك ولا أبوك، فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء.
فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشره فيها كما قدمناه.
ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف ابن يعقوب النجار.
فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال، عظم التوكل على ذي الجلال، ولم يبق إلا الاخلاص والاتكال " فأشارت إليه " أي خاطبوه وكلموه فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه، فعندها " قالوا " من كان منهم جبارا شقيا: " كيف نكلم من كان في المهد صبيا " أي كيف تحيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بين محض وزبده، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والتنقص لنا والازدراء، إذ لا تردين علينا قولا نطقيا، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبيا.
فعندها " قال إني عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا.
وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا.
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ".
هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مريم، فكان أول ما تكلم به
(2/395)
أن " قال إني عبد الله " اعترف لربه تعالى بالعبودية، وأن الله ربه فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله: " آتانى الكتاب وجعلني نبيا " فإن الله لا يعطى النبوة من هو كما زعموا لعنهم الله وقبحهم، كما قال تعالى " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا إنها حملت به من زنا في زمن الحيض، لعنهم الله فبرأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبيا مرسلا أحد أولى العزم الخمسة الكبار ولهذا قال: " وجعلني مباركا أينما كنت " وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة، والاحسان إلى الخليقة بالزكاة، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الاخلاق الرذيلة وتطهير الاموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الآصناف وقرى الاضياف والنفقات على الزوجات والارقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات.
ثم قال " وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " أي وجعلني برا بوالدتي وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها، فسبحان من خلق الخليقة وبرأها وأعطى كل نفس هداها.
" ولم يجعلني جبارا شقيا " أي لست بفظ ولا غليظ، ولا يصدر منى قول ولا فعل ينافى أمر الله وطاعته.
(2/396)
" والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ".
وهذه المواطن الثلاثة التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه قال: " ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " كما قال تعالى بعد [ ذكر ] (2) قصته وما كان من أمره في آل عمران: " ذلك فتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم * إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ".
ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكبا يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم وهم العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك، وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله، وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكصوا (1) وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا
__________
(1) ا: نكلوا.
(*)
(2/397)
إلى المسالمة (1) والموادعة وقال قائلهم وهو العاقب عبد المسيح: يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والاقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فطلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلا أمينا، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقد بينا ذلك في تفسير آل عمران وقد بسطنا هذه القصة في السيرة النبوية (2).
والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح فقال لرسوله: " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " يعنى من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله، ولهذا قال: " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي لا يعجزه شئ ولا يكرثه ولا يؤوده بل هو [ القدير ] (3) الفعال لما يشاء " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقوله: " إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد، أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلهم، وأن هذا هو الصراط المستقيم.
قال الله تعالى: " فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين
__________
(1) ا: إلى المسألة (2) ا أنظر السيرة النبوية لابن كثير 4 / 100 - 108 بتحقيقنا.
(3) سقطت من ا.
(*)
(2/398)
كفروا من مشهد يوم عظيم " أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن
بعدهم فيه.
فمن قائل من اليهود: إنه ولد زنية، واستمروا على كفرهم وعنادهم.
وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا: هو الله.
وقال آخرون: هو ابن الله.
وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم الناجون المثابون والمؤيدون المنصورون، ومن خالفهم في شئ من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون، وقد توعدهم العلي العظيم الحكيم العليم بقوله: " فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ".
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أنبأنا الوليد، حدثنا الاوزاعي، حدثني عمير بن هانئ، حدثنى جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ".
قال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عمير، عن جنادة: وزاد: من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء.
وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد، عن الوليد، عن جابر به ومن طريق أخرى عن الاوزاعي به.
(2/399)
باب بيان ان الله تعالى منزه عن الولد تعالى عما بقول الظالمون علوا كبيرا
وقال تعالى في آخر هذه السورة: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا " شيئا عظيما ومنكرا من القول وزورا " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا.
أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السموات والارض إلا آتى الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ".
فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد لانه خالق كل شئ ومالكه، وكل شئ فقير إليه، خاضع ذليل لديه وجميع سكان السموات والارض عبيده، هو ربهم لا إله إلا هو ولا رب سواه كما قال تعالى: " وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السموات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل * لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير (1) " * فبين أنه خالق كل شئ فكيف يكون له ولد، والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا نظير له ولا شبيه ولا عديل له، فلا صاحبة له، فلا يكون له ولد كما قال تعالى: " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد
__________
(1) سورة الانعام.
(*)
(2/400)
ولم يكن له كفوا أحد " يقرر أنه الاحد الذي لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله " الصمد " وهو السيد الذي كمل في علمه وحكمته
ورحمته و [ بلغ (1) ] جميع صفاته " لم يلد " أي لم يوجد منه ولد " ولم يولد " أي ولم يتولد (2) عن شئ قبله " ولم يكن له كفوا أحد " أي وليس له عدل ولا مكافئ.
ولا مساو فقطع النظير المدانى والاعلى والمساوي، فانتفى أن يكون له ولد، إذ لا يكون الولد إلا متولدا بين شيئين متعادلين أو متقاربين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقال تبارك وتعالى وتقدس: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيرا لكم، إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (3) ".
ينهى تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والاطراء في الدين وهو مجاوزة الحد، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد.
__________
(1) من ا (2) ا: ولم يولد (3) سورة المائدة (*) (م 26 - قصص الانبياء 2)
(2/401)
فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول التي أحصنت فرجها فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها عن أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه السلام، والذي اتصل
بها من الملك هي الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم، وهي مخلوقة من مخلوقات الله تعالى كما يقال: بيت الله وناقة الله و عبد الله، وكذا روح الله أضيفت إليه تشريفا لها وتكريما.
وسمى عيسى بها لانه كان بها من غير أب وهي الكلمة أيضا التي عنها خلق وبسببها وجد كما قال تعالى: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (1) ".
وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل له ما في السموات والارض كل له قانتون.
بديع السموات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (2) ".
وقال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (3) ".
فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى عليهم لعائن الله، كل من الفريقين ادعوا على الله شططا وزعموا أن له ولدا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وأخبر أنهم ليس لهم مستند فيما زعموه ولا فيما ائتفكوه، إلا مجرد القول ومشابهة من سبقهم إلى هذه المقالة الضالة تشابهت قلوبهم.
وذلك أن الفلاسفة عليهم لعنة الله زعموا أن العقل الاول صدر
__________
(1) سورة آل عمران (2) سورة البقرة 116، 117.
(3) سورة التوبة 30 (*)
(2/402)
عن واجب الوجود الذي يعبرون عنه بعلة العلل والمبدأ الاول، وأنه صدر عن العقل الاول عقل ثان ونفس وفلك، ثم صدر عن الثاني كذلك حتى تناهت العقول إلى عشرة والنفوس إلى تسعة والافلاك إلى تسعة، باعتبارات فاسدة ذكروها واختيارات باردة أوردوها.
ولبسط الكلام معهم
وبيان جهلهم وقلة عقلهم موضع آخر.
وهكذا طوائف من مشركي العرب زعموا لجهلهم أن الملائكة بنات الله وأنه صاهر سروات الجن فتولد منهما الملائكة.
تعالى الله عما يقولون وتنزه عما يشركون.
كما قال تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون (1) " وقال تعالى: " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون.
أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون.
أصطفى البنات على البنين ؟ ! ما لكم كيف تحكمون.
أفلا تذكرون.
أم لكم سلطان مبين.
فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين.
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون.
سبحان الله عما يصفون.
إلا عباد الله المخلصين (2) ".
وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ".
وقال تعالى في أول سورة الكهف وهي مكية: " الحمد لله الذي أنزل
__________
(1) سورة الزخرف 19، 20.
(2) سورة الصافات 149 - 160 (*)
(2/403)
على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا.
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ".
وقال تعالى: " قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات
وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (1) " فهذه الآيات المكيات الكريمات تشمل الرد على سائر فوق الكفرة من الفلاسفة ومشركي العرب واليهود والنصارى الذين ادعوا وزعموا بلا علم أن لله ولدا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون [ المعتدون (2) ] علوا كبيرا.
ولما كانت النصارى عليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة من أشهر من قال بهذه المقالة ذكروا في القرآن كثيرا للرد عليهم وبيان تناقضهم وقلة علمهم وكثرة جهلهم، وقد تنوعت أقوالهم في كفرهم، وذلك أن الباطل كثير التشعب والاختلاف والتناقض.
وأما الحق فلا يختلف ولا يضطرب.
قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ".
فدل على أن الحق يتحد ويتفق والباطل يختلف ويضطرب.
فطائفة من ضلالهم وجهالهم زعموا أن المسيح هو الله تعالى.
وطائفة قالوا هو ابن الله، عز الله.
وطائفة قالوا هو ثالث ثلاثة.
جل الله.
__________
(1) سورة يونس 68 - 70 (2) ليست في ا (*)
(2/404)
قال الله تعالى في سورة المائدة: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا ولله ملك السموات والارض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير ".
فأخبر تعالى عن كفرهم وجهلهم وبين أنه الخالق القادر على كل شئ وأنه رب كل شئ
ومليكه وإلهه.
وقال في أواخرها: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم.
ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ".
حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا، فأخبر أن هذا صدر منهم مع أن الرسول إليهم هو عيسى بن مريم، وقد بين لهم أنه عبد مربوب مخلوق مصور في الرحم داع إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتوعدهم على خلاف ذلك بالنار وعدم الفوز بدار القرار والخزي في الدار والآخرة والهوان والعار، ولهذا قال: " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ".
(2/405)
ثم قال: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد " قال ابن جرير وغيره: المراد بذلك قولهم بالاقانيم الثلاثة (1): أقنوم الاب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الاب إلى الابن، على اختلافهم في ذلك ما بين المليكية واليعقوبية والنسطورية، عليهم لعائن الله كما سنبين كيفية اختلافهم في ذلك ومجامعهم الثلاثة في زمن قسطنطين بن قسطس، وذلك بعد المسيح بثلاثمائة سنة وقبل البعثة المحمدية بثلاثمائة سنة.
ولهذا قال تعالى: " وما من إله إلا إله واحد " أي وما من إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا كفؤ له ولا صاحبة له ولا ولد، ثم توعدهم وتهددهم فقال: " وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " ثم دعاهم برحمته ولطفه إلى التوبة والاستغفار من هذه الامور الكبار والعظائم التي توجب النار فقال: " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ".
ثم بين حال المسيح وأمه وأنه عبد رسول وأمه صديقة، أي ليست بفاجرة كما يقوله اليهود لعنهم الله، وفيه دليل على أنها ليست بنبية كما زعمه طائفة من علمائنا.
وقوله: " كانا يأكلان الطعام " كناية عن خروجه منهما كما يخرج من غيرهما، أي ومن كان بهذه المثابة كيف يكون إلها ! تعالى الله عن قولهم وجهلهم علوا كبيرا.
وقال السدى وغيره: المراد بقوله " لقد كفر الذين قالوا إن الله
__________
(1) ا: المراد بتلك الثلاثة.
(*)
(2/406)
ثالث ثلاثة " زعمهم في عيسى وأمه أنهما الالهان مع الله، يعنى كما بين تعالى كفرهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم (1) ".
يخبر تعالى أنه يسأل عيسى بن مريم عليه السلام يوم القيامة على سبيل الاكرام له والتقريع والتوبيخ لعابديه ممن كذب عليه وافترى وزعم أنه ابن الله، أو أنه الله أو أنه شريكه، تعالى الله عما يقولون، فيسأله وهو يعلم أنه لم يقع منه ما يسأله عنه ولكن لتوبيخ من كذب عليه فيقول له: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك " أي تعاليت أن يكون معك شريك " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " أي ليس هذا يستحقه أحد سواك " إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " وهذا تأدب عظيم في الخطاب والجواب " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " [ أي ما قلت غير ما أمرتني عليه (2) ] حين أرسلتني إليهم وأنزلت علي
__________
(1) سورة المائدة 116 - 118 (2) من ا (*)
(2/407)
الكتاب الذي كان يتلى عليهم.
ثم فسر ما قال لهم بقوله: " أن اعبدوا الله ربي وربكم " أي خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى " أي رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي فرحمتني وخلصتني منهم وألقيت شبهي على أحدهم حتى انتقموا منه فلما كان ذلك " كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد ".
ثم قال على وجه (1) التفويض إلى الرب عزوجل والتبرى من أهل النصرانية: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " أي وهم يستحقون ذلك " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وهذا التفويض والاسناد إلى المشيئة بالشرط لا يقتضي وقوع ذلك، ولهذا قال: " فإنك أنت العزيز الحكيم "
ولم يقل الغفور الرحيم.
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الامام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية [ الكريمة ] (2) ليلة حتى أصبح: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وقال: إني سألت ربي عزوجل الشفاعة لامتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئا.
وقال: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين.
لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون.
وله من في السموات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون.
يسبحون الليل والنهار لا يفترون " (3).
__________
(1) ا: على سبيل.
(2) ليست في ا.
(3) سورة الانبياء 16 - 20 (*)
(2/408)
وقال تعالى " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار.
خلق السموات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (1) ".
وقال تعالى: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين.
سبحان رب السموات والارض رب العرش عما يصفون (2) ".
وقال تعالى: " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (3) ".
وقال تعالى: " قل هو الله.
الله الصمد.
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ".
وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: " شتمنى ابن آدم ولم يكن له ذلك، يزعم أن لي ولدا وأنا الاحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ".
وفي الصحيح أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا وهو يزرقهم ويعافيهم ".
ولكن ثبت في الصحيح أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (4) ".
__________
(1) سورة الزمر 4، 5.
(2) سورة الزخرف 81، 82.
(3) سورة الاسراء 111 (4) سورة هود 102.
(*)
(2/409)
وهكذا قوله تعالى: " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير (1) ".
وقال تعالى: " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (2) " وقال تعالى: " قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (3) " وقال تعالى: " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " (4)
__________
(1) سورة الحج آية: 48.
(2) سورة لقمان آية: 24.
(3) سورة يونس آية: 68.
(4) آخر سورة الطارق.
(*)
(2/410)
ذكر منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام
ومرباه في صغره وصباه، وبيان بدء الوحى إليه من الله تعالى قد تقدم أنه ولد ببيت لحم قريبا من بيت المقدس.
وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر وأن مريم سافرت هي ويوسف ابن يعقوب النجار وهي راكبة على حمار ليس بينهما وبين الاكاف شئ.
وهذا لا يصح.
والحديث الذي تقدم ذكره دليل على أن مولده كان ببيت لحم، كما ذكرنا، ومهما عارضه فباطل.
وذكر وهب بن منبه أنه لما خرت الاصنام يومئذ في مشارق الارض ومغاربها، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك حتى كشف لهم إبليس الكبير أمر عيسى فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا: هذا لمولد عظيم في الارض.
فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى عيسى، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عما أقدمهم فذكروا له ذلك، فسأل عن ذلك الوقت فإذا قد ولد فيه عيسى بن مريم ببيت المقدس واشتهر أمره بسبب كلامه [ في المهد (1) ] فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه، فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا قيل لها إن رسل
__________
(1) ليست في ا.
(*)
(2/411)
[ ملك (1) ] الشام إنما جاءوا ليقتلوا ولدك.
فاحتملته فذهبت به إلى مصر، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتى عشرة سنة، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره.
فذكر منها أن الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالا من داره وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج
فلم يدر من أخذها، وعز ذلك على مريم عليها السلام وشق على الناس وعلى رب المنزل وأعياهم أمرها، فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك عمد إلى رجل أعمى وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه فقال للاعمى: احمل هذا المقعد وانهض به.
فقال: إني لا أستطيع ذلك.
فقال بلى كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة من الدار.
فلما قال ذلك صدقاه فيما قال وأتيا بالمال فعظم عيسى في أعين الناس وهو صغير جدا.
ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده، فلما اجتمع الناس وأطعمهم ثم أراد أن يسقيهم شرابا يعنى خمرا، كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان لم يجد في جراره [ شيئا (1) ] فشق ذلك عليه، فلما رأى عيسى ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواهها فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلات شرابا من خيار الشراب، فتعجب الناس من ذلك جدا وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالا جزيلا فلم يقبلاه وارتحلا قاصدين بيت المقدس.
والله أعلم.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا عثمان بن ساج وغيره، عن موسى بن وردان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، وعن مكحول عن أبي هريرة
__________
(1) ليست في ا (*)
(2/412)
قال: إن عيسى بن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل، فمجد الله تمجيدا لم تسمع الآذان بمثله لم يدع شمسا ولا قمرا ولا جبلا ولا نهرا ولا عينا إلا ذكره في تمجيده فقال: اللهم أنت القريب في علوك، المتعال في دنوك، الرفيع على كل شئ
من خلقك، أنت الذي خلقت سبعا في الهواء بكلماتك مستويات طباقا أجبن وهن دخان من فرقك فأتين طائعات لامرك، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك وجعلت فيهن نورا على سواد الظلام وضياء من ضوء الشمس بالنهار، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك وجعلت فيهن مصابيح يهتدى بهن في الظلمات الحيران، فتباركت اللهم في مفطور سمواتك وفيما دحوت من أرضك دحوتها على الماء فسمكتها على تيار الموج الغامر، فأذللتها إذلال التظاهر، فذل لطاعتك صعبها واستحيا لامرك أمرها وخضعت لعزتك أمواجها، ففجرت فيها بعد البحور الانهار ومن بعد الانهار الجداول الصغار ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار، ثم أخرجت منها الانهار والاشجار والثمار ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتادا على ظهر الماء، فأطاعت أطوادها وجلمودها.
فتباركت اللهم ! فمن يبلغ بنعته نعتك أم من يبلغ بصفته صفتك ؟ تنشر السحاب وتفك الرقاب وتقضى الحق وأنت خير الفاصلين، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب، لا إله إلا أنت سبحانك سترت السموات عن الناس، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يخشاك من عبادك الاكياس، نشهد أنك لست بإله استحدثناك، ولا رب
(2/413)
يبيد ذكره، ولا كان معك شركاء فندعوهم ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشك فيك، نشهد أنك أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد ".
وقال إسحاق بن بشر: عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن
عباس، أن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلا حتى بلغ ما يبلغ الغلمان.
ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه ابن البغية وذلك قوله تعالى: " وكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ".
قال: فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب، فجعل لا يعلمه المعلم شيئا إلا بدره إليه، فعلمه أبا جاد فقال عيسى: ما أبو جاد ؟ فقال المعلم: لا أدرى فقال عيسى: كيف تعلمني ما لا تدري.
فقال المعلم: إذا فعلمني فقال له عيسى: فقم من مجلسك.
فقام فجلس عيسى مجلسه فقال: سلنى فقال المعلم: فما أبو جاد ؟ فقال عيسى: الالف آلاء الله.
والباء بهاء الله.
والجيم بهجة الله وجماله.
فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد.
ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل عنه ولا يتمادى ! وهكذا روى ابن عدى من حديث إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل ابن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عن ابن مسعود، عن مسعر بن كدام
(2/414)
عن عطية، عن أبي سعيد، رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد وهو مطول لا يفرح به.
ثم قال ابن عدى: وهذا الحديث باطل بهذا الاسناد لا يرويه غير إسماعيل.
وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال كان عبد الله بن عمر يقول: كان عيسى بن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لاحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك ؟ فيقول: نعم
فيقول: خبأت لك كذا وكذا.
فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها أطعمينى ما خبأت لي.
فتقول: وأي شئ خبأت لك ؟ فيقول: كذا وكذا.
فتقول له: من أخبرك ؟ فيقول عيسى بن مريم.
فقالوا: والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسدنهم.
فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم فقالوا: إنما هؤلاء قردة وخنازير.
فقال: اللهم كذلك.
فكانوا كذلك.
رواه ابن عساكر.
وقال إسحق بن بشر، عن جويبر، ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاما من الله، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى، فهمت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه، فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر، فذلك قوله تعالى: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين، وهذه صفة غريبة الشكل، وهي أنها
(2/415)
ربوة وهو المكان المرتفع من الارض الذي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه متسع، ومع علوه فيه عيون الماء المعين، وهو الجارى السارح على وجه الارض فقيل المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح وهو نخلة (1) بيت المقدس، ولهذا " ناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف، وعن ابن عباس بإسناد جيد أنها أنهار دمشق فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق.
وقيل ذلك بمصر كمازعمه من زعمه من أهل الكتاب ومن تلقاه عنهم والله
أعلم.
وقيل هي الرملة.
وقال إسحق بن بشر: قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه، قال إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا [ قال فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا (2) ] وأقام بها حتى أحدث الله له الانجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الاسقام والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بقدومه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب، فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره.
بيان نزول الكتب الاربعة ومواقيتها وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية ابن صالح، عمن حدثه قال: " أنزلت التوراة على موسى في ست ليال خلون من شهر رمضان، ونزل الزبور على داود في اثنتي عشرة ليلة
__________
(1) ا: محلة بيت المقدس.
(2) سقطت من ا (*)
(2/416)
خلت من شهر رمضان، وذلك بعد التوراة بأربعمائة سنة واثنتين وثمانين سنة، وأنزل الانجيل على عيسى بن مريم في ثمانية عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عاما، وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين من شهر رمضان.
وقد ذكرنا في التفسير عند قوله: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " الاحاديث الواردة في ذلك، وفيها أن الانجيل أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
وذكر ابن جرير في تاريخه أنه أنزل عليه وهو ابن ثلاثين سنة،
ومكث حتى رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقال إسحاق بن بشر: وأنبأنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، ومقاتل عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم: يا عيسى جد في أمرى ولا تهن، واسمع وأطع يابن الطاهرة البكر البتول، إنك من غير فحل، وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد وعلي فتوكل، خذ الكتاب بقوة فسر لاهل السريانية بلغ من بين يديك أنى أنا [ الحق ] (1) الحي القائم الذي لا أزول، صدقوا النبي الامي العربي صاحب الجمل والتاج - وهي العمامة - والمدرعة والنعلين والهراوة - وهي القضيب - الانجل العينين الصلت الجبين الواضح الخدين، الجعد الرأس، الكث اللحية، المقرون الحاجبين، الافنى
__________
(1) ليست في ا.
(*) (27 - قصص الانبياء 2)
(2/417)
الانف، المفلج الثنايا، البادى العنفقة، الذي كأن عنقه إبريق فضة وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجرى كالقضيب، ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا التفت التفت جميعا وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب، عرقه في وجهه كاللؤلؤ وريح المسك ينفح منه، ولم ير قبله ولا بعده مثله، الحسن القامة الطيب الريح، نكاح النساء ذا النسل القليل، إنما نسله من مباركة، لها بيت يعنى في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب، تكفله يا عيسى في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك،
له منها فرخان مستشهدان وله عندي منزلة ليست لاحد من البشر، كلامه القرآن ودينه الاسلام وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه.
قال عيسى: يا رب وما طوبى ؟ قال: غرس شجرة أنا غرستها بيدى، فهي للجنان كلها أصلها من رضوان وماؤها من تسنيم وبردها برد الكافور وطممها طعم الزنجبيل [ وريحها ريح المسك (1) ] من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.
قال عيسى: يا رب اسقنى منها.
قال: حرام على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي، وحرام على الامم أن يشربوا منها حتى تشرب (2) منها أمة ذلك النبي.
قال: يا عيسى، أرفعك إلي.
قال رب ولم ترفعني ؟ قال: أرفعك ثم أهبطك
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: تشهد.
(*)
(2/418)
في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب ولتعينهم على قتال (1) اللعين الدجال، أهبطك في وقت صلاة ثم لا تصلى بهم لانها مرحومة ولا نبي بعد نبيهم.
وقال هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، أن عيسى قال: يا رب أنبئني عن هذه الامة المرحومة.
قال: أمة أحمد، هم علماء حكماء (2) كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله.
يا عيسى هم أكثر سكان الجنة، لانه لم تذل ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت به رقابهم.
رواه ابن عساكر.
وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن بديل العقيلى، عن عبد الله بن عوسجة قال: أوحى الله إلى عيسى بن مريم: أنزلني من نفسك كهمك، واجعلني ذخرا لك في معادك، وتقرب إلي بالنوافل أحبك ولا تول غيري فأخذ لك، اصبر على البلاء وارض بالقضاء، وكن لمسرتي فيك، فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريبا وأحي ذكرى بلسانك، ولتكن مودتي في صدرك، تيقظ من ساعات الغفلة واحكم (3) في لطيف الفطنة، وكن لي راغبا راهبا وأمت قلبك في الخشية [ لى ] (4) وراع الليل لحق مسرتي واظم نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك، واعترف بالخير حيث توجهت، وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدلي، فقد نزلت عليك شفاء وسواس (5)
__________
(1): على قتل.
(2) ا: حلماء.
(3) ا: واحلم لي.
(4) ليست في ا.
(5) ا: وساوس (*)
(2/419)
الصدور من مرض النسيان وجلاء الابصار من غشاء الكلال ولا تكن حلسا كأنك مقبوض وأنت حي تنفس.
يا عيسى [ بن مريم ] (1) ما آمنت بي خليقة إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي فأشهدك أنها آمنة من عقابي ما لم تغير أو تبدل سنتى.
يا عيسى بن مريم البكر البتول ابك على نفسك أيام الحياة بكاء من ودع الاهل وقلا الدنيا وترك اللذات [ لاهلها ] (1) وارتفعت رغبته فيما عند إلهه، وكن في ذلك تلين الكلام وتفشى السلام، وكن يقظان إذا نامت عيون الابرار، حذار ما هو آت من أمر المعاد وزلازل شدائد الاهوال، قبل أن لا ينفع أهل ولا مال، واكحل عينك بملول (2) الحزن
إذا ضحك البطالون، وكن في ذلك صابرا محتسبا، وطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين ارج من الدنيا بالله يوم يبعثون (3) وذق مذاقة ما قد حرب منك أين طعمه، وما لم يأتك كيف لذته، فرح من الدنيا بالبلغة، وليكفك منها الخشن الجئيب (4)، قد رأيت إلى ما يصير، اعمل على حساب فإنك مسئول، لو رأت عيناك (5) ما أعددت لاوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك.
وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري، عن ابن طاووس، عن أبيه قال: لقى عيسى بن مريم إبليس فقال: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب
__________
(1) ليست في ا.
(2) كذا، والملة: الرماد الحار (3) كذا في ا.
وفي ط: يوم بيوم.
(4) الجئيب: الغليظ (5) ا: عينك.
(*)
(2/420)
لك ؟ قال إبليس: فأوف (1) بذروة [ هذا ] (2) الجبل فتردى منه فانظر هل تعيش أم لا.
فقال ابن طاووس: عن أبيه: فقال عيسى: أما علمت أن الله قال: لا يجربنى عبدى فإنى أفعل ما شئت.
وقال الزهري: إن العبد لا يبتلى ربه ولكن الله يبتلى عبده.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة، أنبأنا سفيان، عن عمرو، عن طاووس قال: أتى الشيطان عيسى بن مريم فقال: أليس تزعم أنك صادق ؟ فأت هوة (3) فألق نفسك.
قال: ويلك أليس قال: يا بن آدم لا تسألني هلاك نفسك فإني أفعل ما أشاء ! وحدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا حسين بن طلحة، سمعت خالد بن يزيد، قال: تعبد الشيطان مع عيسى عشر سنين أو سنتين،
أقام يوما على شفير جبل فقال الشيطان: أرأيت إن ألقيت نفسي هل يصيبني إلا ما كتب لي.
قال: إني لست بالذي أبتلى ربي ولكن ربي إذا شاء ابتلاني.
وعرفه أنه الشيطان ففارقه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا شريح بن يونس، حدثنا على ابن ثابت، عن الخطاب بن القاسم، عن أبي عثمان، كان عيسى عليه السلام يصلى على رأس جبل، فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شئ بقضاء وقدر ؟ قال: نعم قال: ألق نفسك من هذا الجبل وقل قدر علي.
فقال: يالعين ! الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عزوجل.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا الفضل بن موسى البصري،
__________
(1) المطبوعة: فارق.
(2) ليست في ا.
(3) ا: هذه (*)
(2/421)
حدثنا إبراهيم بن بشار (1) سمعت سفيان بن عيينة يقول: لقى عيسى بن مريم إبليس فقال له إبليس: يا عيسى بن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلمت في المهد صبيا، ولم يتكلم فيه أحد قبلك.
قال: بل الربوبية للاله الذي أنطقني ثم يميتني ثم يحيينى.
قال: فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيى الموتى.
قال: بل الربوبية لله الذي يحيى ويميت من أحييت ثم يحييه.
قال: والله إنك لاله في السماء وإله في الارض.
قال: فصكه جبريل صكة بجناحيه فما نباها دون قرون الشمس.
ثم صكه أخرى بجناحيه فما نباها دون العين الحامية، ثم صكه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه وفي رواية فأسلكه فيها، حتى وجد طعم الحمأة فخرج منها وهو يقول: ما لقى أحد من أحد ما لقيت منك يابن مريم.
وقد روى نحو هذا بأبسط منه من وجه آخر، فقال الحافظ أبو بكر
الخطيب: أخبرني أبو الحسن بن رزقويه، أنبأنا أبو بكر أحمد بن سيدي.
حدثنا أبو محمد الحسن بن علي القطان، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، أنبأنا على بن عاصم، حدثني أبو سلمة سويد عن بعض أصحابه، قال: صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: إنه لا ينبغي لك أن تكون عبدا.
فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه، فجعل لا يتخلص منه فقال له فيما يقول: لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبدا.
قال: فاستغاث عيسى بربه، فأقبل جبريل وميكائيل فلما رآهما إبليس كف، فلما استقر معه على العقبة اكتنفا عيسى وضرب جبريل إبليس بجناحه
__________
(1) ا: ابن يسار.
محرقة.
وانظر ميزان الاعتدال 1 / 24.
(*)
(2/422)
فقذفه في بطن الوادي.
قال: فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك.
فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لا ينبغى أن تكون عبدا، إن غضبك ليس بغضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت ولكن أدعوك لامر هولك، آمر الشياطين فليطيعوك فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلها ليس معه إله ولكن الله يكون إلها في السماء وتكون أنت إلها في الارض.
فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخة شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس، ثم ضربه ضربة أخرى فاقبل إبليس يهوى ومر عيسى وهو بمكانه فقال: يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا فرمى به في عين الشمس، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية قال: فغطوه
فجعل كلما خرج (1) غطوه في تلك الحمأة قال: والله ما عاد إليه بعد.
قال وحدثنا إسماعيل العطار، حدثنا أبو حذيفة قال: واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا لقد (2) لقيت تعبا قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشرا كثيرا وأبث فيهم أهواء مختلفة وأجعلهم شيعا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله.
قال: وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى فقال: " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس " يعني إذ قويتك بروح القدس يعني جبريل " تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل
__________
(1) المطبوعة: كلما صرخ.
وهو تحريف صوابه من ا.
(3) المطبوعة: قد.
(*)
(2/423)
وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير " الآية كلها وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا ترضى بهم وصحابة وأعوانا يرضون بك هاديا وقائدا إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي.
وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تقبل صدقاتنا وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا.
فقل لهم: ولم ذاك وما الذي يمنعنى ؟ أن ذات يدى قلت ؟ أو ليس خزائن السموات والارض بيدى أنفق منها كيف أشاء.
أو إن البخل يعترينى (1)، أو لست أجود من سئل (2) وأوسع من أعطى.
أو أن رحمتى ضاقت ؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتى.
ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غروا (3) أنفسهم بالحكمة
التي تورث في قلوبهم ما استأثروا (4) به الدنيا أثرة على الآخرة لعرفوا من أين أتوا (5)، وإذا لايقنوا أن أنفسهم هي أعدى الاعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالاطعمة الحرام [ وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربوني ويستحلون محارمي (6) ] وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها، يا عيسى إنما أجزى عليها أهلها، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الانبياء ! ازددت عليهم غضبا.
__________
(1) المطبوعة: لا يعترينى.
وهو تحريف، صوابه من ا (2) المطبوعة: من سأل.
وهو تحريف شنيع.
(3) الاصل: عدوا محرفة.
(4) ا: فاستأثروا.
(5) المطبوعة: أوتوا.
محرفة.
(6) سقط من ا.
(*)
(2/424)
يا عيسى وقضيت يوم خلقت السموات والارض أنه من عبدنى وقال فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار ورفقاءك في المنازل وشركاءك في الكرامة، وقضيت يوم خلقت السموات والارض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الاسفل من النار.
وقضيت يوم خلقت السموات والارض أنى مثبت هذا الامر على يدى عبدى محمد وأختم به الانبياء والرسل، ومولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الاسواق ولا يتزين (1) بالفحش ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم، وأجعل التقوى ضميره والحكم معقوله والوفاء طبيعته والعدل سيرته والحق شريعته والاسلام ملته، اسمه أحمد، أهدى به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة وأغنى به بعد العائلة، وأرفع به بعد الضعة، أهدى
به وأفتح به بين آذان صم وقلوب غلف وأهواء مختلفة متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إخلاصا لاسمي وتصديقا لما جاءت به الرسل، ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلى صفوفا وزحوفا، قربانهم دماؤهم وأناجليهم في صدورهم وقربانهم في بطونهم، رهبان بالليل ليوث في النهار، ذلك فضلى أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
وسنذكر ما يصدق كثيرا من هذا السياق مما سنورده من سورتي المائدة والصف إن شاء الله وبه الثقة.
__________
(1) المطبوعة: ولا بزر.
(*)
(2/425)
وقد روى أبو حذيفة إسحق بن بشر بأسانيده عن كعب الاحبار ووهب بن منبه وابن عباس وسلمان الفارسي، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: لما بعث عيسى بن مريم وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون منه ويستهزئون به فيقولون: ما أكل فلان البارحة وما ادخر في منزله ؟ فيخبرهم، فيزداد المؤمنون إيمانا والكافرون والمنافقون شكا (1) وكفرانا.
وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوى إليه، إنما يسيح في الارض ليس له قرار ولا موضع يعرف به، فكان أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكى فقال لها: مالك، أيتها المرأة ؟ فقالت ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها
الله لي فأنظر إليها.
فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت ؟ قالت: نعم.
قالوا فصلى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر فنادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجى.
قال: فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عنى ؟ فقالت: لما جاءتني الصيحة الاولى بعث الله لي ملكا فركب خلقي ثم (2) جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عينى من مخافة القيامة: ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه (3) ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين يا أماه اصبري
__________
(1) ا: شركا.
(2) ا: فلما جاءتني.
(3): يا أمتاه.
(*)
(2/426)
واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت.
فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الارض.
فبلغ ذلك اليهود فازدادوا [ عليه ] (1) غضبا.
وقدمنا في عقب قصة نوح أن بني إسرائيل سألوه أن يحيى لهم سام ؟ ؟ ابن نوح فدعا الله عزوجل وصلى الله فأحياه الله لهم فحدثهم عن السفينة وأمرها ثم دعا فعاد ترابا.
وقد روى السدى عن أبي صالح وأبي مالك، عن ابن عباس في خبر ذكره وفيه أن ملكا من ملوك بني إسرائيل مات وحمل على سريره فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عزوجل فأحياه الله عزوجل، فرأى الناس أمرا هائلا ومنظرا عجيبا.
وقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: " إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فيكون طيرا بإذني وإذ تبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (2).
__________
(1) ليست في ا.
(2) سورة المائدة 110، 111.
(*)
(2/427)
يذكره تعالى بنعمته عليه وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب، بل من أم بلا ذكر، وجعله له آية للناس ودلالة على كمال قدرته تعالى ثم إرساله بعد هذا كله " وعلى والدتك " في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة ؟ ؟ وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون ولهذا قال " إذ أيدتك بروح القدس " وهو جبريل بإلقاء روحه إلى أمه وقرنه معه في حال رسالته ومدافعته عنه لمن كفر به " تكلم الناس في المهد وكهلا " أي تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك " وإذ علمتك الكتاب والحكمة " أي الخط والفهم.
نص عليه بعض السلف " والتوراة والانجيل " وقوله: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني " أي تصوره وتشكله من الطين على هيئة الطير عن أمر الله له بذلك " فتنفخ فيها تكون طيرا بإذني " أي بأمرى يؤكد تعالى بذكر الاذن له في ذلك لرفع التوهم.
وقوله " وتبرئ الاكمه " قال بعض السلف وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لاحد من الحكماء إلى مداواته " والابرص " هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص وصار داؤه عضالا " وإذ تخرج الموتى " أي من قبورهم أحياء بإذني.
وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مرارا متعددة بما فيه كفاية.
وقوله " وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين " وذلك حين أرادوا صلبه فرفعه الله إليه وأنقذه من بين أظهرهم صيانة لجنابه الكريم عن الاذى وسلامة له من الردى.
(2/428)
وقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " قيل المراد بهذا الوحى وحي إلهام أي أرشدهم الله إليه ودلهم عليه كما قال " وأوحى ربك إلى النحل (1) " " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم (2) " وقيل المراد وحي بواسطة الرسول وتوفيق في قلوبهم لقبول الحق ولهذا استجابوا قائلين " آمنا واشهد بأننا مسلمون ".
وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم أن جعل له أنصارا وأعوانا ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى لعبده محمد صلى الله عليه وسلم " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (2) " وقال تعالى: " ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد
جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون.
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد
__________
(1) سورة النحل 68.
(2) سورة القصص 7.
(3) سورة الانفال 62، 63.
(*)
(2/429)
بأنا مسلمون.
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (1) ".
كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان، فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الابصار وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا من الامر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقا له، أسلموا سراعا ولم يتلعثموا.
وهكذا عيسى بن مريم بعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنى لحكيم إبراء الاكمه الذي هو أسوأ حالا من الاعمى، والابرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره ؟ هذا مما يعلم
كل أحد معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله.
وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجز تحدى به الانس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال، فإن لم يفعلوا
__________
(1) سورة آل عمران 48 - 54 (*)
(2/430)
ولن يفعلوا وما ذاك إلا لانه كلام الخالق عزوجل، والله تعالى لا يشبهه شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
* * * والمقصود أن عيسى عليه السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فانتدب له من بينهم طائفة صالحة [ فكانوا ] (1) له أنصارا وأعوانا قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وذلك حين هم به بنو إسرائيل ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، فعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد اصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى وهم في ذلك غالطون وللحق مكابرون، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون.
قال تعالى: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " وقال تعالى: " وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه
أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى للاسلام والله لا يهدي القوم الظالمين.
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " إلى أن قال بعد ذلك: " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن
__________
(2) ليست في ا.
(*)
(2/431)
أنصار الله.
فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (1) ".
فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل وقد قام فيهم خطيبا فبشرهم بخاتم الانبياء الآتى بعده ونوه باسمه وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه إذا شاهدوه، إقامة للحجة عليهم وإحسانا من الله إليهم كما قال تعالى: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (2) ".
قال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالو: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك.
قال: " دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام ".
وقد روى عن العرباض بن سارية وأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وفيه: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " الآية ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى قام فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم وأنها بعده في النبي العربي الامي خاتم الانبياء على
__________
(1) سورة الصف 14 (2) سورة الاعراف 157.
(*)
(2/432)
الاطلاق أحمد، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.
قال الله تعالى: " فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين " يحتمل عود الضمير إلى عيسى عليه السلام ويحتمل عوده إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الاسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال: " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله " أي من يساعدنى في الدعوة، إلى الله " قال الحواريون نحن أنصار الله " وكان ذلك في قرية يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى قال الله تعالى: " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " يعنى لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى منهم من آمن ومنهم من كفر، وكان ممن آمن به أهل أنطاكية بكمالهم فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير بعث إليهم رسلا ثلاثة، أحدهم شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا (1) وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس
لما تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية، وكفر آخرون من بني إسرائيل وهم [ جمهور ] (2) اليهود فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد وأصبحوا ظاهرين عليهم قاهرين لهم كما قال تعالى: " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك
__________
(1) ا: واستعجلوا.
(2) ليست في ا.
(*) (28 - قصص الانبياء 2)
(2/433)
فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " الآية فكل من كان إليه أقرب كان غالبا (1) لمن دونه، ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه، من أنه عبد الله ورسوله كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه وأطروه وأنزلوه فوق ما أنزله الله به.
ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه اليهود [ فيه ] (2) عليهم لعائن الله، كان النصارى قاهرين لليهود في أزمان الفترة إلى زمن الاسلام وأهله.
__________
(1) ط: كان عاليا.
(2) من ا.
(*)
(2/434)
ذكر خبر المائدة قال الله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.
قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير
الرازقين.
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ".
قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة عن ابن عباس وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وغيرهم من السلف.
ومضمون ذلك: أن عيسى عليه السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يوما، فلما أتموها سألوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم، وتكون لهم عيدا يفطرون عليها يوم فطرهم وتكون كافية لاولهم وآخرهم لغنيهم وفقيرهم.
فوعظهم عيسى عليه السلام في ذلك وخاف عليهم أن لا يقوموا بشكرها ولا يؤدوا حق شروطها فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عزوجل.
فلمالم يقلعوا عن ذلك قام إلى مصلاه ولبس مسحا من شعر وصف بين قدميه وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا.
(2/435)
فأنزل الله تعالى المائدة من السماء والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنو قليلا قليلا، وكلما دنت سأل عيسى ربه عزوجل أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها بركة وسلامة.
فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل فقام عيسى يكشف عنها وهو يقول: " بسم الله خير الرازقين " فإذا عليها سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة.
ويقال: وخل ويقال: ورمان وثمار، ولها رائحة عظيمة جدا، قال الله لها كوني فكانت.
ثم أمرهم بالاكل منها، فقالوا: لا نأكل حتى تأكل.
فقال: إنكم الذين ابتدأتم السؤال لها.
فأبوا أن يأكلوا منها ابتداء، فأمر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى وكانوا قريبا من ألف وثلاثمائة فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو آفة أو مرض مزمن، فندم الناس على ترك الاكل منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك.
ثم قيل إنها كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها، يأكل آخرهم كما يأكل أولهم حتى [ قيل ] (1) إنها (2) كان يأكل منها نحو سبعة آلاف.
ثم كانت تنزل يوما بعد يوم، كما كانت ناقة صالح يشربون لبنها يوما بعد يوم.
ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء أو المحاويج دون الاغنياء.
فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك، فرفعت بالكلية ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير.
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا، حدثنا الحسن بن قزعة
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: إنه.
(*)
(2/436)
الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن خلاس، عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نزلت المائدة من السماء خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير.
ثم رواه ابن جرير عن بندار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار موقوفا.
وهذا أصح.
وكذا رواه من طريق سماك، عن رجل من بني عجل، عن عمار موقوفا.
وهو الصواب والله أعلم.
وخلاس عن عمار منقطع، فلو صح هذا الحديث مرفوعا لكان فيصلا في هذه القصة، فإن العلماء اختلفوا في المائدة: هل نزلت أم لا ؟ فالجمهور أنها نزلت كما دلت عليه هذه الآثار كما هو المفهوم من ظاهر سياق القرآن ولا سيما قوله: " إني منزلها عليكم " كما قرره ابن جرير والله أعلم.
وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح إلى مجاهد وإلى الحسن بن أبي الحسن البصري، أنهما قالا: لم تنزل وإنهم أبوا نزولها حين قال " فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " ولهذا قيل إن النصارى لا يعرفون خبر المائدة وليس مذكورا في كتابهم، مع أن خبرها مما تتوفر الدواعى على نقله.
والله أعلم.
وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير فليكتب من هناك، ومن أراد مراجعته فلينظره من ثم.
ولله الحمد والمنة.
(2/437)
فصل قال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثنا رجل سقط اسمه، حدثنا حجاج [ بن محمد ] (1) حدثنا أبو هلال محمد بن سليمان، عن بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم عيسى فقيل لهم توجه نحو البحر، فانطلقوا يطلبونه فلما انتهوا إلى البحر إذا هو يمشى على الماء يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى، وعليه كساء مرتد بنصفه ومؤتزر بنصفه، حتى انتهى إليهم فقال له بعضهم، قال أبو هلال ظنت أنه من أفاضلهم: ألا أجئ إليك يا نبي الله ؟ قال بلى.
قال: فوضع إحدى رجليه على الماء ثم ذهب ليضع الاخرى فقال: أوه غرقت يا نبي الله.
فقال: أرنى يدك يا قصير الايمان، لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء !
ورواه أبو سعيد ابن الاعرابي، عن إبراهيم بن أبي الجحيم، عن سليمان ابن حرب، عن أبي هلال عن بكر بنحوه.
ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان (1)، حدثنا إبراهيم بن الاشعث، عن الفضيل بن عياض، قال قيل لعيسى بن مريم: يا عيسى بأي شئ تمشي على الماء ؟ قال: بالايمان واليقين.
قالوا: فإنا آمنا كما آمنت وأيقنا كما أيقنت.
قال: فامشوا إذا.
قال: فمشوا معه في الموج فغرقوا فقال لهم [ عيسى ] (2) ما لكم ؟ فقالوا: خفنا الموج قال: ألا خفتم رب الموج ! قال: فأخرجهم.
ثم ضرب بيده إلى الارض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الاخرى مدر أو حصى
__________
(1) ا: ابن شقيق.
(2) ليست في ا.
(*)
(2/438)
فقال: أيهما أحلى في قلوبكم ؟ قالوا: هذا الذهب.
قال: فإنهما عندي سواء ! وقدمنا في قصة يحيى بن زكريا عن بعض السلف أن عيسى عليه السلام كان يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر ولا يأوى إلى منزل ولا أهل ولا مال ولا يدخر شيئا لغد.
قال بعضهم: كان يأكل من غزل أمه، صلوات الله وسلامه عليه.
وروى ابن عساكر عن الشعبي أنه قال: كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الساعة صاح ويقول: لا ينبغي لابن مريم أن يذكر عنده الساعة ويسكت.
وعن عبد الملك بن سعيد بن أبجر أن عيسى كان إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، حدثنا جعفر بن بلقان، أن عيسى كان يقول: " اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الامر بيد غيرى ؟ ؟، وأصبحت مرتهنا بعملي، فلا فقير أفقر مني ! اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤبى صديقى، ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تسلط علي من لا يرحمني ".
وقال الفضيل بن عياض عن يونس بن عبيد، كان عيسى يقول لا يصيب أحد (1) حقيقة الايمان حتى لا يبالى من أكل الدنيا ! قال الفضيل: وكان عيسى يقول: فكرت في الخلق فوجدت من لم يخلق أغبط عندي ممن خلق !
__________
(1) ا: لا نصيب حقيقة الايمان حتى لا نبالي.
(*)
(2/439)
وقال إسحاق بن بشر، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة.
قال: وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى.
قال: وبينما عيسى يوما نائم على حجر قد توسده وقد وجد لذة النوم إذ مر به إبليس فقال: يا عيسى ألست تزعم أنك لا تريد شيئا من عرض الدنيا ؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا.
قال [ فقام عيسى (1) ] فأخذ الحجر فرمى به إليه وقال: هذا لك مع الدنيا ! وقال معتمر بن سليمان: خرج عيسى على أصحابه وعليه جبة صوف وكساء وتبان (2) حافيا باكيا شعثا مصفر اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتى ؟ قالوا: أين بيتك
يا روح الله ؟ قال: بيتى المساجد، وطيبى الماء، وإدامى الجوع، وسراجى القمر بالليل، وصلائى في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الارض، ولباسي الصوف (3)، وشعارى خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شئ وأمسى وليس لي شئ وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى مني وأربح ! رواه ابن عساكر.
وروى في ترجمة محمد بن الوليد بن أبان بن حبان أبي الحسن العقيلى
__________
(1) سقطت من المطبوعة وأثبتها من ا.
(2) التبان: سراويل صغير يستر العورة المغلظة.
(3) المطبوعة: الصون.
محرفة.
(*)
(2/440)
المصرى، حدثنا هانئ بن المتوكل الاسكندرانى، عن حيوة بن شريح، حدثنى الوليد بن أبي الوليد، عن شفى من ماتع (1)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى: أن يا عيسى انتقل من مكان إلى مكان لئلا تعرف فتؤذى، فوعزتي وجلالى لازوجنك ألف حوراء ولاولمن عليك أربعمائة عام.
وهذا حديث غريب رفعه، وقد يكون موقوفا من رواية شقى بن ماتع (1)، عن كعب الاحبار أو غيره من الاسرائيليين والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك: عن سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب، قال: قال عيسى للحواريين: كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك فاتركوا لهم الدنيا.
وقال قتادة قال عيسى عليه السلام: سلوني فإني لين القلب وإني
صغير عند نفسي.
وقال إسماعيلي بن عياش، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال عيسى للحواريين: كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجو من الدنيا سالمين آمنين، بحق ما أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين، بحق ما أقول لكم إن شركم عالم يؤثر هواه على علمه يود أن الناس كلهم مثله.
وروى نحوه عن أبي هريرة.
قال أبو مصعب عن مالك إنه بلغه أن عيسى كان يقول: يا بني
__________
(1) الاصل: سفى بن نافع.
محرفة.
والتصويب من المشتبه للذهبي 2 / 399.
(*)
(2/441)
إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البرير (1) وخبز (2) الشعير، وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره.
وقال ابن وهب عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى يقول اعبروا الدنيا ولا تعمروها (3).
وكان يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة.
وحكى وهيب بن الورد مثله وزاد: ورب شهوة أورثت أهلها حزنا طويلا.
وعن عيسى عليه السلام: يابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفا، واتخذ المساجد بيتا، وعلم عينك البكاء وجسدك الصبر وقلبك التفكر، ولا تهتم برزق غد فإنها خطيئة.
وعنه عليه السلام أنه قال كما [ أنه ] (4) لا يستطيع أحدكم أن يتخذ على موج البحر دارا فلا يتخذ الدنيا قرارا.
وفي هذا يقول سابق البربري (5): لكم بيوت بمستن السيوف وهل * يبنى على الماء بيت أسه مدر !
__________
(1) البرير: ثمر الاراك.
ومنه حديث طهفة، ونستعضد البريرا، أي نجنيه للاكل وانظر النهاية لابن الاثير 1 / 87.
(2) ا: والخبز الشعير.
(3) هذه المرويات تصور ما أثر عن عيسى عليه السلام من عزوف عن المتاع وإقبال على العبادة، لكنها ليست مما يحتج به في موقف الدين من الدنيا، أما الاسلام فإنه يجمع بين الدنيا والآخرة ويجعل الدنيا ميدانا للعمل والجهاد.
(4) ليست في ا.
(5) هو أبو سعيد سابق بن عبد الله البربري، وليس منسوبا.
إلى البربر، وإنما هو: لقب له.
اللباب لابن الاثير 1 / 107.
(*)
(2/442)
وقال سفيان الثوري: قال عيسى بن مريم: لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء.
وقال إبراهيم الحربى عن داود بن رشيد، عن أبي عبد الله الصوفى قال: قال عيسى: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله.
وعن عيسى عليه السلام: إن الشيطان مع الدنيا ومكره مع المال (1) وتزينه مع الهوى، واستمكانه عند الشهوات.
وقال الاعمش عن خيثمة، كان عيسى يضع الطعام لاصحابه ويقوم عليهم ويقول: هكذا فاصنعوا بالقرى.
وبه قالت امرأة لعيسى عليه السلام: طوبى لحجر حملك ولثدي أرضعك.
فقال: طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه.
وعنه: طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته.
وعنه: طوبى لعين نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم.
وعن مالك بن دينار قال: مر عيسى وأصحابه بجيفة فقالوا: ما أنتن ريحها فقال: ما أبيض أسنانها.
لينهاهم عن الغيبة.
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: يحدثنا الحسين بن عبد الرحمن، عن زكريا بن عدي قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين ارضوا
__________
(1) المطبوعة: وفكره من المال.
محرفة.
(*)
(2/443)
بدنى الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنى الدين مع سلامة الدنيا.
قال زكريا: وفي ذلك يقول الشاعر: أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا * ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما * استغنى الملوك بدنياهم عن الدين وقال أبو مصعب عن مالك قال عيسى بن مريم عليه السلام: " لا تكثروا الحديث بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في (1) ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية ".
وقال الثوري: سمعت أبي يقول عن إبراهيم التيمى، قال قال عيسى لاصحابه: بحق أقول لكم: من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.
وقال مالك بن دينار قال عيسى: إن أكل الشعير مع الرماد والنوم
على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس.
وقال عبد الله بن المبارك: أنبأنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال عيسى اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن قلتم نحن أعظم بطونا من الطير فانظروا إلى هذه الاباقير (2) من الوحوش والحمر فإنها تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها.
__________
(1) ا: إلى.
(2) ا: الآثار.
(*)
(2/444)
وقال صفوان بن عمرو عن شريح بن عبد الله (1)، عن يزيد بن ميسرة، قال: قال الحواريون للمسيح: يا مسيح الله انظر إلى مسجد الله ما أحسنه.
قال: آمين آمين بحق ما أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجرا قائما إلا أهلكه بذنوب أهله، إن الله لا يصنع بالذهب ولا الفضة ولا بهذه الاحجار التي تعجبكم شيئا إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة وبها يعمر الله الارض، وبها يخرب الله الارض إذا كانت على غير ذلك.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه: أخبرنا أبو منصور ابن محمد الصوفى، أخبرتنا عائشة بنت الحسن بن إبراهيم الوركانية، قالت: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهشيم إملاء، حدثنا الوليد بن أبان إملاء، حدثنا أحمد بن جعفر الرازي، حدثنا سهيل بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز، عن المعتمر.
عن مجاهد، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مر عيسى عليه السلام على مدينة خربة، فأعجبه البنيان فقال: أي رب مر
هذه المدينة أن تجيبني.
فأوحى الله إلى المدينة: أيتها المدينة الخربة جاوبى عيسى.
قال فنادت المدينة: عيسى حبيبي وما تريد منى ؟ قال: ما فعل أشجارك وما فعل أنهارك وما فعل قصورك وأين سكانك ؟ قالت: حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجارى ونشفت أنهاري وخربت قصوري ومات سكانى.
قال: فأين أموالهم ؟ فقالت: جمعوها من
__________
(1) ا: ابن عبيدالله (*)
(2/445)
الحلال والحرام موضوعة في بطني، لله ميراث السموات والارض.
قال: فنادى عيسى عليه السلام: تعجبت (1) من ثلاث أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه، وباني القصور والقبر منزله، ومن يضحك مل ء فيه والنار أمامه ! ابن آدم لا بالكثير تشبع ولا بالقليل تقنع، تجمع مالك لمن لا يحمدك وتقدم على رب لا يعذرك، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك، وإنما تملا بطنك إذا دخلت قبرك، وأنت يابن آدم ترى حشد مالك في ميزان غيرك.
هذا حديث غريب جدا وفيه موعظة حسنة فكتبناه لذلك.
وقال سفيان الثوري عن أبيه، عن إبراهيم التيمى، قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.
وقال ثور بن يزيد عن عبد العزيز بن ظبيان قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: من تعلم وعلم وعمل دعي عظيما في ملكوت السماء.
وقال أبو كريب: روى أن عيسى عليه السلام قال: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ويعبر بك النادى.
وروى ابن عساكر بإسناد غريب عن ابن عباس مرفوعا أن عيسى قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكم غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، والامور ثلاثة: أمر تبين
__________
(1) ط: فعجبت.
(*)
(2/446)
رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم فيه فردوا علمه إلى الله عزوجل.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن رجل، عن عكرمة قال: قال عيسى: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها، فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير ! وكذا حكى وهب وغيره عنه أنه قال لاصحابه: أنتم ملح الارض فإذا فسدتم فلا دواء لكم، وإن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب والصبحة (1) من غير سهر.
وعنه أنه قيل له: من أشد الناس فتنة ؟ قال: زلة العالم، فإن العالم إذا زل يزل (2) بزلته عالم كثير.
وعنه أنه قال: يا علماء السوء جعلتم للدنيا على رءوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء وعملكم داء (3) مثلكم مثل شجرة الدقلى (4) تعجب من رآها وتقتل من أكلها.
وقال وهب: قال عيسى: يا علماء السوء جلستم على أبواب الجنة فلا تدخلونها ولا تدعون المساكين يدخلونها، إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.
وقال مكحول: التقى يحيى وعيسى، فصافحه عيسى وهو يضحك فقال له
__________
(1) الصبحة.
نوم الغداة (2) ا: زل.
(3) المطبوعة ؟ ؟: دواء.
محرفة.
(4) الدقلى: نبت مر، قتال زهره كالورد الاحمر.
(*)
(2/447)
يحيى: يا بن خالة مالي أراك ضاحكا كأنك قد أمنت ؟ ! فقال له عيسى: مالي أراك عابسا كأنك قد يئست ! فأوحى الله إليهما: إن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.
وقال وهب بن منبه: وقف عيسى هو وأصحابه على قبر وصاحبه يدلى فيه، فجعلوا يذكرون القبر وضيقه فقال: قد كنتم فيما هو أضيق منه في أرحام (1) أمهاتكم، فإذا أحب (2) الله أن يوسع وسع.
وقال أبو عمر الضرير: بلغني أن عيسى كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما.
والآثار في مثل هذا كثيرة جدا.
وقد أورد الحافظ ابن عساكر منها طرفا صالحا اقتصرنا منها على هذا القدر.
والله الموفق للصواب.
__________
(1) ط: من أرحام (2) ا: فإذا أراد.
(*)
(2/448)
ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء في حفظ الرب، وبيان كذب اليهود والنصارى في دعوى الصلب قال الله تعالى: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم
بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (1) ".
وقال تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما.
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " (2) فأخبر تعالى أنه رفعه إلى السماء بعد ما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان.
__________
(1) سورة آل عمران 54، 55.
(2) سورة النساء 155 - 159.
(*) (29 قصص الانبياء 2)
(2/449)
قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: كان اسمه داود بن نورا (1) فأمر بقتله وصلبه، فحصروه في دار ببيت المقدس، وذلك عشية الجمعة ليلة السبت، فلما حان وقت دخولهم ألقى شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده ورفع عيسى من روزنة [ من ] (2) ذلك البيت إلى السماء، وأهل البيت ينظرون، ودخل الشرط فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقى عليه شبهه فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له، وسلم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا كثيرا فاحشا بعيدا.
وأخبر تعالى بقوله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته " أي بعد نزوله إلى الارض في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فإنه ينزل ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الاسلام، كما بينا ذلك بما ورد فيه من الاحاديث عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة النساء، كما أوردنا ذلك مستقصى في كتاب الفتن والملاحم عند أخبار المسيح الدجال، فذكرنا ما ورد في نزول المسيح المهدي عليه السلام من ذي الجلال لقتل المسيح الدجال الكذاب الداعي إلى الضلال.
وهذا ذكر ما ورد في الآثار في صفة رفعه إلى السماء: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر
__________
(1) ا: بن فودا (2) من ا.
(*)
(2/450)
رجلا منهم من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي اثنى عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم [ يلقى ] (1) عليه شبهي فيقتل مكاني فيكون معى في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له: اجلس.
ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا.
فقال: أنت هو ذاك.
فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.
قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنى عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء.
وهؤلاء اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه.
وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ".
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس على شرط مسلم.
ورواه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية به نحوه.
ورواه ابن جرير عن مسلم بن جنادة عن أبي معاوية.
وهكذا ذكر غير واحد من السلف وممن ذكر ذلك مطولا محمد ابن إسحق بن يسار (2).
__________
(1) سقطت من ا.
(2) المطبوعة: ابن بشار.
محرفة (*)
(2/451)
قال: وجعل عيسى عليه السلام يدعو الله عزوجل أن يؤخر أجله، يعني ليبلغ الرسالة ويكمل الدعوة ويكثر الناس الدخول في دين الله قيل: وكان عنده من الحواريين اثنا عشر رجلا: بطرس ويعقوب بن زبدا ويحنس أخو يعقوب، واندراوس، وفليبس، وابرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوس (1) وفتاتيا، ويودس (2) كريايوطا، وهذا هو الذي دل اليهود على عيسى.
قال ابن إسحق: وكان فيهم رجل آخر اسمه سرجس كتمته النصارى وهو الذي ألقى شبه المسيح عليه فصلب عنه.
قال: وبعض النصارى يزعم أن الذي صلب عن المسيح وألقى عليه شبهه هو يودس بن كريايوطا والله أعلم.
وقال الضحاك عن ابن عباس استخلف عيسى شمعون وقتلت اليهود يودس الذي ألقى عليه الشبه.
وقال أحمد بن مروان: حدثنا محمد بن الجهم، قال: سمعت الفراء يقول في قوله: " ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين " قال: إن عيسى غاب عن خالته زمانا فأتاها، فقام رأس الجالوت اليهودي فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس جالوت ليأخذ عيسى فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال لم أره.
ومعه سيف مسلول.
فقالوا: أنت عيسى وألقى الله شبه
__________
(1): حلقايا وبراوسيس.
(2) ا: ونودس.
(*)
(2/452)
عيسى عليه [ فأخذوه ] (1) فقتلوه وصلبوه، فقال جل ذكره: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ".
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي، عن هرون ابن عنترة، عن وهب بن منبه، قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم: سحرتمونا لتبرزن إلينا عيسى أو لنقتلنكم جميعا.
فقال عيسى لاصحابه: من يشتري منكم نفسه اليوم بالجنة (2) فقال رجل أنا.
فخرج إليهم فقال: أنا عيسى.
وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، فظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.
قال ابن جرير: وحدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم، حدثنى عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه فقال: من رد على شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه.
فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم (3) على
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: من يرى اليوم الجنة.
(3) ا: مما حدثتكم.
(*)
(2/453)
الطعام وغسلت أيديكم بيدى فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أنى خيركم فلا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه، كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتى التي استعنتكم عليها فتدعون الله [ لي ] (1) وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلى.
فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها ؟ فقالوا: والله ما ندرى مالنا، والله لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه فقال: يذهب بالراعى وتتفرق الغنم ! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه.
ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني.
فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين فقالوا: هذا من صحابه.
فجحد وقال: ما أنا بصاحبه.
فتركوه.
ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.
فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه وكان شبه عليهم قبل ذلك فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه
__________
(1) من ا.
(*)
(2/454)
ويقولون: أنت كنت تحيى الموتى وتنتهر الشيطان وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ! ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا.
ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان ؟ قالتا عليك.
فقال: إني قد رفعني الله إليه ولم يصبنى إلا خير، وإن هذا شئ شبه لهم.
فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا.
فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقالوا إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه.
فقال: لو تاب لتاب الله عليه.
ثم سألهم عن غلام [ كان ] (1) يتبعهم يقال له يحيى فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.
وهذا إسناد غريب عجيب، وهو أصح مما ذكره النصارى لعنهم الله
من أن المسيح جاء إلى مريم وهي جالسة تبكى عند جذعة فأراها مكان المسامير من جسده، وأخبرها أن روحه رفعت وأن جسده صلب.
وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل وزيادة باطلة في الانجيل على خلاف الحق ومقتضى الدليل (2).
وحكى الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن حبيب، فيما بلغه،
__________
(1) من ا.
(2) المطبوعة: ومقتضى النقل (*)
(2/455)
أن مريم سألت من بيت الملك بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام، وهي تحسب أنه ابنها، أن ينزل جسده، فأجابهم إلى ذلك ودفن هنالك، فقالت مريم لام يحيى: ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح ؟ فذهبتا فلما دنتا من القبر قالت مريم لام يحيى.
ألا تستترين ؟ فقالت: وممن أستتر ؟ فقالت من هذا الرجل الذي هو عند القبر.
فقالت أم يحيى: إني لا أرى أحدا فرجت مريم أن يكون جبريل، وكانت قد بعد عهدها به، فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر فلما دنت من القبر قال لها جبريل، وعرفته: يا مريم أين تريدين (1) ؟ فقالت: أزور قبر المسيح فأسلم عليه وأحدث عهدا به.
فقال: يا مريم إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتى الذي ألقى شبهه عليه وصلب وقتل مكانه، وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدرون ما فعل به فهم يبكون عليه فإذا كان يوم كذا وكذا فأت غيضة كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.
قال: فرجعت إلى أختها وصعد جبريل فأخبرتها عن جبريل وما قال لها من أمر الغيضة، فلما كان ذلك اليوم ذهبت فوجدت عيسى في الغيضة
فلما رآها أسرع إليها وأكب عليها فقبل رأسها وجعل يدعو لها كما كان يفعل، وقال يا أمه إن القوم لم يقتلوني ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك والموت يأتيك قريبا فاصبري واذكري الله كثيرا.
ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت.
__________
(1) ا: أين تريدون.
(*)
(2/456)
قال: وبلغني أن مريم بقيت بعد عيسى خمس سنين وماتت ولها ثلاث وخمسون سنة.
رضي الله عنها وأرضاها.
وقال الحسن [ البصري ] (1): كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعا وثلاثين سنة.
وفي الحديث: " إن أهل الجنة يدخلونها (2) جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين ".
وفي الحديث: الآخر: " على ميلاد عيسى وحسن يوسف " وكذا قال حماد بن سلمة عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
فأما الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه ويعقوب بن سفيان الفسوى في تاريخه، عن سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن يزيد، عن عمارة ابن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، أن أمه فاطمة بنت الحسين حدثته أن عائشة كانت تقول: أخبرتني فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش الذي بعده نصف عمر الذي كان قبله، وأنه أخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة فلا أراني إلا ذاهب على رأس ستين.
هذا لفظ الفسوى.
فهو حديث غريب.
قال الحافظ ابن عساكر: والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر، وإنما
أراد به مدة مقامه في أمته، كما روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة، قال قالت فاطمة: قال لي رسول الله صلى الله
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: يدخلون.
(*)
(2/457)
عليه وسلم: إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذا منقطع.
وقال جرير والثوري عن الاعمش، عن (1) إبراهيم: مكث عيسى في قومه أربعين عاما.
ويروى عن أمير المؤمنين علي أن عيسى عليه السلام رفع ليلة الثاني والعشرين من رمضان، وتلك الليلة في مثلها توفى علي بعد طعنه بخمسة أيام.
وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن عيسى لما رفع إلى السماء جاءته سحابة فدنت منه حتى جلس عليها وجاءته مريم فودعته وبكت ثم رفع وهي تنظر وألقى إليها عيسى.
دا له وقال: هذا علامة ما بينى وبينك يوم القيامة وألقى عمامته على شمعون، وجعلت أمه تودعه بإصبعها تشير بها إليه حتى غاب عنها، وكانت تحبه حبا شديدا، لانه توفر (2) عليها حبه من جهتى الوالدين إذ لا أب له، وكانت لا تفارقه سفرا ولا حضرا [ وكانت كما (3) ] قال بعض الشعراء: وكنت أرى كالموت من بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر وذكر إسحاق بن بشر، عن مجاهد بن جبير (4) أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل شبه لهم وهم يحسبونه المسيح وسلم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس فبلغ أمرهم
__________
(1) الاصل: أن إبراهيم (2) ا: موفر (3) من ا (4) ا: ابن جبر.
(*)
(2/458)
إلى صاحب الروم وهو ملك دمشق في ذلك الزمان، فقيل له إن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله وكان (1) يحيى الموتى ويبرئ الاكمه والابرص ويفعل العجائب، فعدوا عليه فقتلوه وأهانوا أصحابه وحبسوهم فبعث فجئ بهم وفيهم يحيى بن زكريا وشمعون وجماعة، فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه، فبايعهم في دينهم وأعلى كلمتهم وظهر (2) الحق على اليهود وعلت كلمة النصارى عليهم، وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه وحئ بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه فمن ثم عظمت النصارى الصليب، ومن هاهنا دخل دين النصرانية في الروم.
وفي هذا نظر من وجوه: أحدها: أن يحيى بن زكريا نبي لا يقر على أن المصلوب عيسى، فإنه معصوم يعلم ما وقع على جهة الحق.
الثاني: ان الروم لم يدخلوا في دين المسيح إلا بعد ثلاثمائة سنة، وذلك في زمان قسطنطين بن قسطن بانى المدينة المنسوبة إليه على ما سنذكره.
الثالث: أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته جعلوا مكانه مطرحا للقمامة والنجاسة وجيف الميتات والقاذورات، فلم يزل كذلك حتى كان في [ زمان ] قسطنطين المذكور فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح، ووجدوا الخشبة التي
__________
(1) ا: وأنه كان (2) ا: فأظهر.
(*)
(2/459)
صلب عليها للصلوب، فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفي.
فالله أعلم أكان هذا أم لا، وهل كان هذا لان ذلك الرجل الذي بذل نفسه كان رجلا صالحا أو كان هذا محنة وفتنة لامة النصارى في ذلك اليوم، حتى عظموا تلك الخشبة وغشوها بالذهب واللآلئ، ومن ثم اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها، وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة وبنى مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة، فهي هذه المشهورة اليوم ببلد بيت المقدس التي يقال لها القمامة باعتبار ما كان عندها، ويسمونها القيامة يعنون التي يقوم جسد المسيح منها.
ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد وكناسته وقاذوراته على الصخرة التي هي قبلة اليهود فلم تزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس، فكنس عنها القمامة بردائه وطهرها من الاخباث والانجاس، ولم يضع المسجد وراءها ولكن أمامها حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء بالانبياء وهو [ المسجد ] الاقصى.
(2/460)
ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله قال الله تعالى: " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ".
قيل سمى المسيح لمسحه الارض وهو سياحته فيها وفراره بدينه من الفتن في ذلك الزمان، لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم عليه وعلى أمه عليهما السلام.
وقيل لانه كان ممسوح القدمين.
وقال تعالى: " وقفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور " وقال تعالى: " وآتينا عيسى بن مريم
البينات وأيدناه بروح القدس " والآيات في ذلك (1) كثيرة جدا.
وقد تقدم ما ثبت في الصحيحين: " ما من مولود إلا والشيطان يطعن في خاصرته حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها، ذهب يطعن فطعن في الحجاب " وتقدم حديث عمير بن هانئ [ عن جنادة، عن عبادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (2) ] " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبد (3) الله ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ".
رواه البخاري وهذا لفظه، ومسلم.
__________
(1) ا: في ذكره.
(2) سقط من ا.
(3) ط: عبده.
(*)
(2/461)
وروى البخاري ومسلم من حديث الشعبي، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران، وإذا آمن بعيسى بن مريم ثم آمن بي فله أجران، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه فله أجران ".
هذا لفظ البخاري.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام، عن معمر (ح) وحدثني محمود، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي (1) صلى الله عليه وسلم " ليلة أسرى بي لقيت موسى.
قال فنعته فإذا رجل حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة.
قال ولقيت عيسى فنعته النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: ربعة (2) أحمر كأنما خرج من ديماس، يعني الحمام، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به " الحديث.
وقد تقدم في قصتي إبراهيم وموسى.
ثم قال: حدثنا محمد بن كثير، أنبأنا اسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت عيسى وموسى وإبراهيم.
فأما عيسى فأحمر جعد (2) عريض الصدر.
وأما موسى فآدم جسيم سبط (3) كأنه من رجال الزط ".
تفرد به البخاري.
__________
(1) ا: قال رسول الله.
(2) الربعة: المتوسط بين الطول والقصر.
(3) السبط: المسترسل الشعر.
(*)
(2/462)
وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، قال: قال عبد الله بن عمر: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء واضعا يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا: المسيح بن مريم ثم رأيت رجلا وراءه جعدا قططا (1) أعور عين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن، واضعا يده على منكبي رجل يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا: المسيح الدجال.
ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.
ثم قال البخاري: تابعه
عبد الله بن نافع.
ثم ساقه من طريق الزهري عن سالم بن عمر قال الزهري: وابن قطن رجل من خزاعة هلك في الجاهلية.
فبين صلوات الله وسلامه عليه صفة المسيحين: مسيح الهدى ومسيح الضلالة، ليعرف هذا إذا نزل فيؤمن به المؤمنون ويعرف الآخر فيحذره الموحدون.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا (2)
__________
(1) الجعد: خلاف السبط، وهو المسترسل من الشعر.
والقطط: الشديد الجعودة.
وفي الاصل: جعد قطط والتصويب من البخاري 2 / 124.
(2) ا: حدثنا.
(*)
(2/463)
معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق فقال له: أسرقت ؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو.
فقال عيسى آمنت بالله وكذبت عينى " وكذا رواه [ مسلم عن ] (1) محمد بن رافع عن عبد الرزاق.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن وغيره، عن أبي هريرة قال:، ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى رجلا يسرق فقال: يا فلان أسرقت ؟ فقال لا والله ما سرقت.
فقال آمنت بالله وكذبت بصرى ".
وهذا يدل على سجية طاهرة، حيث قدم حلف ذلك الرجل فظن (2) أن أحدا لا يحلف بعظمة الله كاذبا على ما شاهده منه عيانا، فقبل عذره ورجع على نفسه فقال: آمنت بالله.
أي صدقتك وكذبت بصرى لاجل حلفك.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن المغيرة ابن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون حفاة عراة غرلا ثم قرأ: " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " فأول الخلق يكسى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال فأقول أصحابي فيقال إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت
__________
(1) سقطت من المطبوعة (2) ا: وظن (*)
(2/464)
فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
تفرد به دون مسلم من هذا الوجه.
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان، سمعت الزهري يقول: أخبرني عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس سمع عمر يقول على المنبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ".
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج يصلى إذ جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلى ؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعة فعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقيل لها ممن ؟ قالت:
من جريج فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام ؟ قال: فلان الراعى.
قالوا: أنبنى صومعتك من ذهب ؟ قال: لا إلا من طين.
وكانت امرأة ترضع ابنا لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله.
ثم أقبل على ثديها يمصه.
قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه.
ثم مر بأمة فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه.
فترك (30 - قصص الانبياء 2)
(2/465)
ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها.
فقالت: لم ذلك فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الامة يقولون سرقت وزنت (1).
ولم تفعل " وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا أولى الناس بابن مريم، والانبياء أولاد علات (2) ليس بيني وبينه نبي ".
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي داود الحفرى، عن الثوري عن أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان هو الثوري، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أولى الناس بعيسى عليه السلام والانبياء إخوة أولاد علات، وليس بيني وبين عيسى نبي ".
وهذا إسناد صحيح على شرطهما ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وأخرجه
أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الرزاق نحوه (3).
قال أحمد حدثنا: يحيى، عن ابن أبي عروبة، حدثنا قتادة، عن عبد الرحمن ابن آدم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الانبياء إخوة
__________
(1) ا: وزنيت.
(2) العلات: الضرائر (3) ا: به نحوه.
(*)
(2/466)
لعلات، ودينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لانه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين (1)، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى تهلك في زمانه كلها غير الاسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب، وتقع الامنة في الارض حتى ترتع الابل مع الاسد جميعا والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يتوفى فيصلى عليه المسلمون ويدفنونه.
ثم رواه أحمد عن عفان، عن همام، عن قتادة، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة فذكر نحوه.
وقال: فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون.
ورواه أبو داود عن هدبة بن خالد، عن همام بن يحيى به نحوه.
وروى هشام بن عروة، عن صالح مولى أبي هريرة عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فيمكث في الارض أربعين سنة " وقد بينا
نزوله عليه السلام في آخر الزمان في كتاب الملاحم، كما بسطنا ذلك أيضا في التفسير عند قوله تعالى في سورة النساء: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " وقوله " وإنه لعلم للساعة " الآية وأنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق وقد أقيمت صلاة الصبح فيقول له إمام المسلمين: تقدم يا روح الله فصل.
فيقول:
__________
(1) المخصرة: ما يتوكأ عليه كالعصا، وما يأخذه الملك ليشير به إذا خاطب.
(*)
(2/467)
لا بعضكم على بعض أمراء مكرمة الله هذه الامة.
وفي رواية فيقول له عيسى: إنما أقيمت الصلاة لك.
فيصلى خلفه.
ثم يركب ومعه المسلمون في طلب المسيح الدجال فيلحقه عند باب لد فيقتله بيده الكريمة.
وذكرنا أنه قوى الرجاء حين بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق التي هي من حجارة بيض، وقد بنيت أيضا من أموال النصارى حين حرقوا التي هدمت وما حولها، فينزل عليها عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ولا يقبل من أحد إلا الاسلام، وأنه يخرج من فج الروحاء حاجا أو معتمرا أو لثتتيهما (1)، ويقيم أربعين سنة، ثم يموت فيدفن فيما قيل في الحجرة النبوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
وقد ورد في ذلك حديث ذكره ابن عساكر في آخر ترجمة المسيح عليه السلام في كتابه عن عائشة مرفوعا، أنه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحجرة النبوية ولكن لا يصح إسناده.
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا زيد بن أخزم الطائي، حدثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثني أبو مودود المدنى، حدثنا عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال
مكتوب في التوراة: صفة محمد وعيسى بن مريم عليهم السلام يدفن معه.
قال أبو مودود: وقد بقى من البيت موضع قبر.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن.
كذا قال.
والصواب: الضحاك ابن عثمان المدني.
__________
(1) ا: أو ليثنيهما.
(*)
(2/468)
وقال البخاري: هذا الحديث لا يصح عندي ولا يتابع عليه.
وروى البخاري عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عاصم الاحول، عن أبي عثمان النهدي (1)، عن سلمان: قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وعن قتادة خمسمائة وستون سنة.
وقيل خمسمائة وأربعون سنة وعن الضحاك أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
والمشهور ستمائة سنة.
ومنهم من يقول ستمائة وعشرون سنة بالقمرية، لتكون ستمائة بالشمسية والله أعلم.
وقال ابن حبان في صحيحه: " ذكر المدة التي بقيت فيها أمه عيسى على هديه ": حدثنا أبو يعلى، حدثنا أبو همام، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير ابن نفير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتي سنة ".
وهذا حديث غريب جدا، وإن صححه ابن حبان.
وذكر ابن جرير عن محمد بن إسحاق، أن عيسى عليه السلام قبل أن يرفع وصي الحواريين بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك
له وعين كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الاقاليم من الشام والمشرق وبلاد المغرب، فذكروا أنه أصبح كل إنسان منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم.
__________
(1) أ: اليزيدي.
محرفة.
(*)
(2/469)
وذكر غير واحد أن الانجيل نقله عنه أربعة: لوقا ومتى ومرقس ويوحنا، وبين هذه الاناجيل الاربعة تفاوت كثير بالنسبة إلى كل نسخة ونسخة، وزيادات كثيرة ونقص بالنسبة إلى الاخرى، وهؤلاء الاربعة منهم اثنان ممن أدرك المسيح وراءه [ وهما (1) متى ويوحنا، ومنهم اثنان من أصحاب أصحابه وهما مرقس ولوقا.
وكان ممن آمن بالمسيح وصدقه من أهل دمشق رجل يقال له ضينا، وكان مختفيا في مغارة داخل الباب الشرقي قريبا من الكنيسة المصلبة خوفا من بولس اليهودي، وكان ظالما غاشما مبغضا للمسيح ولما جاء به، وكان قد حلق رأس ابن أخيه حين آمن بالمسيح وطاف به في البلد ثم رجمه حتى مات رحمه الله.
ولما سمع بولص أن المسيح عليه السلام قد توجه نحو دمشق جهز بغاله وخرج ليقتله، فتلقاه عند كوكبا، فلما واجه أصحاب المسيح جاء إليه ملك فضرب وجهه بطرف جناحه فأعماه، فلما رأى ذلك وقع
__________
(1) من هنا إلى آخر الكتاب سقط من ا.
وفي ا زيادة نصها: وقد أنشد الشيخ شهاب الدين القرافى في كتابه " الرد على النصارى " لبعضهم يرد عليهم في قولهم بصلب المسيح وتسليمهم ذلك لليهود، مع دعواهم أنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
عجبا للمسيح بين النصارى * وإلى الله والدا نسبوه أسلموه إلى اليهود وقالوا * إنهم بعد قتله صلبوه فإن كان ما تقولون حقا * وصحيحا فأين كان أبوه حين خلى ابنه رهين الاعادي * أتراهم أرضوه أم أغضبوه فلئن كان راضيا بأذاهم * فاعذروهم لانهم واقفوه ولئن كان ساخطا فاتركوه * واعبدوهم لانهم غلبوه
(2/470)
في نفسه تصديق المسيح فجاء إليه واعتذر مما صنع، وآمن به فقبل منه وسأله أن يمسح عينيه ليرد الله عليه بصره، فقال اذهب إلى ضينا عندك بدمشق في طرف السوق المستطيل من المشرق فهو يدعو لك فجاء إليه فدعا فرد عليه بصره وحسن إيمان بولص بالمسيح عليه السلام أنه عبد الله ورسوله وبنيت له كنيسته باسمه فهي كنيسة بولص المشهورة بدمشق من زمن فتحها الصحابة رضي الله عنهم حتى خربت.
فصل اختلف أصحاب المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء فيه على أقوال، كما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف كما أوردناه عند قوله: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ".
قال ابن عباس وغيره: قال قائلون منهم: كان فينا عبد الله ورسوله فرفع إلى السماء.
وقال آخرون: هو الله.
وقال آخرون: هو ابن الله.
فالاول هو الحق والقولان الآخران كفر عظيم، كما قال: " فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ".
وقد اختلفوا في نقل الاناجيل على أربعة أقاويل ما بين زيادة ونقصان
وتحريف وتبديل.
ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة حدثت فيه الطامة العظمى والبلية الكبرى اختلف البتاركة الاربعة وجميع الاساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط، واجتمعوا وتحاكموا
(2/471)
إلى الملك قسطنطين بانى القسطنطينية وهم المجمع الاول، فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات، فسموا الملكية (1) ودحض من عداهم وأبعدهم، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن أريوس الذي ثبت على أن عيسى عبد من عباد الله ورسول من رسله فسكنوا البراري والبوادي وبنوا الصوامع والديارات والقلايات، وقنعوا بالعيش الزهيد ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل وبنت الملكية (2) الكنائس الهائلة، عمدوا إلى ما كان من بناء اليونان فحولوا محاريبها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الجدى.
بيان بناء بيت لحم والقمامة وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح، وبنت أمه هيلانة القمامة، بعنى على قبر المصلوب وهم يسلمون لليهود أنه المسيح.
وقد كفرت هؤلاء وهؤلاء ووضعوا القوانين والاحكام.
ومنها مخالف للعتيقة التي هي التوراة، وأحلوا أشياء هي حرام بنص التوراة ومن ذلك الخنزير، وصلوا إلى الشرق ولم يكن المسيح صلى إلا إلى صخرة بيت المقدس، وكذلك جميع الانبياء بعد موسى، ومحمد خاتم النبيين صلى إليها بعد هجرته إلى المدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم حول إلى الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل.
وصوروا الكنائس ولم تكن مصورة قبل ذلك، ووضعوا العقيدة التي
__________
(1) الاصل الملائكة (2) الاصل الملائكة.
(*)
(2/472)
يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالامانة، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة.
وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نطورس أهل المجمع الثاني، واليعقوبية أصحاب يعقوب البراذعى أصحاب المجمع الثالث، يعتقدون هذه العقيدة ويختلفون في تفسيرها.
وها أنا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر لابث، على ما فيها [ من ] ركة الالفاظ وكثرة الكفر والخبال المفضى بصاحبه إلى النار ذات الشواظ فيقولون: " نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والارض كل ما يرى وكل ما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الاب قبل الدهور نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساو للاب في الجوهر الذي كان به كل شئ، من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الاب، وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الاحياء والاموات الذي لافناء لملكه، وروح القدس الرب المحيى المنبثق من الاب مع الاب، والابن مسجود له وبمجد الناطق في الانبياء كنيسة واحدة جامعة مقدسة يهولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه آمين.
(2/473)
يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالامانة، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة.
وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نطورس أهل المجمع الثاني، واليعقوبية أصحاب يعقوب البراذعى أصحاب المجمع الثالث، يعتقدون هذه العقيدة ويختلفون في تفسيرها.
وها أنا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر لابث، على ما فيها [ من ] ركة الالفاظ وكثرة الكفر والخبال المفضى بصاحبه إلى النار ذات الشواظ فيقولون: " نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والارض كل ما يرى وكل ما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الاب قبل الدهور نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساو للاب في الجوهر الذي كان به كل شئ، من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الاب، وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الاحياء والاموات الذي لافناء لملكه، وروح القدس الرب المحيى المنبثق من الاب مع الاب، والابن مسجود له وبمجد الناطق في الانبياء كنيسة واحدة جامعة مقدسة يهولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه آمين.
وإلى هنا ينتهي كتاب قصص الانبياء للامام أبي الفداء إسماعيل بن ابن كثير، والحمد لله على نعمته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق