أسرار الصَّلاة و الفَرق و الموازنَة بين ذَوق الصَّلاة
و السَّماع
للإمَام العلامَة أبي عَبد الله محمَّد بن أبي بَكر بن
أيُّوب الزَّرعي الدِّمشقي الشَّهير بابن قيِّم الجَوزيَّة /691-751 اعتنى به أبو
عبد الله همَّام الجزائري
28/04/2004م
بسم الله الرحمن الرحيم /ربِّ يسّر و أعن يا كريم
قال الإمام محمد بن أبي بكر بن القيِّم الجَوزية رحمه
الله تعالى .
فصلٌ
في الموازنة بين ذوق السَّماع وذوق الصلاة و القرآن ، و
بيان أنَّ أحد الذوقين مباين للآخر من كل وجه ، و أنه كلَّما قوي ذوق أحدهما و
سلطانه ضعف ذوق الآخر و سلطانه.
الصلاة قرة عيون المحبين و هدية الله للمؤمنين(1)
فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين ، و لذة
أرواح الموحدين ، و بستان العابدين و لذة نفوس الخاشعين ، و محك أحوال الصادقين ،
و ميزان أحوال السالكين ، و هي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين .
هداهم إليها ، و عرَّفهم بها ، و أهداها إليهم على يد
رسوله الصادق الأمين ، رحمة بهم ، و إكراما لهم ، لينالوا بها شرف كرامته ، و
الفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم ، بل منَّة منه ، و تفضَّلا عليهم ، و تعبَّد بها
قلوبهم و جوارحهم جميعا ، و جعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين و أعظمهما ؛ و
هو إقباله على ربِّه سبحانه ، و فرحه و تلذذه بقربه ، و تنعمه بحبه ، و ابتهاجه
بالقيام بين يديه ، و انصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده
، و تكميله حقوق حقوق عبوديته ظاهرا و باطنا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه
سبحانه.
و لما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة و أشباهها من داخل
فيه و خارج عنه ، اقتضت تمام رحمته به و إحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من
جميع الألوان و التحف و التحف و الخلع و الخلع و العطايا ، و دعاه إليها كل يوم
خمس مرَّات ، و جعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة ، لذة و منفعة و مصلحة و وقار
لهذا العبد ، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر ، لتكمل لذة عبده
في كل من ألوان العبودية و يُكرمه بكلِّ صنفٍ من أصناف الكرامة ، و يكون كل فعل من
أفعال تلك العبودية مُكفّرا لمذموم كان يكرهه بإزائه ، و يثيبه عليه نورا خاصا ،
فإن الصلاة نور و قوة في قلبه و جوارحه و سعة في رزقه ، و محبة في العباد له ، و
إن الملائكة لتفرح و كذلك بقاع الأرض ، و جبالها و أشجارها ، و أنهارها تكون له
نورا و ثوابا خاصا يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة و قد أشبعه و قد أشبعه و
أرواه ، و خلع عليه بخلع القبول ، و أغناه ، و ذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه
المأدبة ، قد ناله من الجوع و القحط و الجذب و الظمأ و العري و السقم ما ناله ،
فصدر من عنده و قد أغناه و أعطاه من الطعام و الشراب و اللباس و التحف ما يغنيه .
تشبيه القلب بالأرض
و لما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب ، و قحطُ النفوس
متوالياً عليها ، جدّد له الدعوة آلة هذه المأدبة وقتا بعد وقت رحمة منه به، فلا
يزال مُستسقيا ، طالبا إلى من بيده غيثُ القلوب ، و سَقيُها مستمطراً سحائب رحمته
لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان ، و كلأ الإحسان و عُشبه و
ثماره ، و لئلا تنقطع مادة النبات من الروح و القلب ، فلا يزال القلب في استسقاء و
استمطار هكذا دائما ، يشكو إلى ربه جدبه ، و قحطه ، و ضرورته إلى سُقيا رحمته ، و
غيث برِّه ، فهذا دأب العبد أيام حياته.
فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة ، فالغفلة هي قحط
القلوب و جدبها ، و ما دام العبد في ذكر الله و الإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل
عليه كالمطر المتدارك ، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة و كثرة ، فإذا
تمكَّنت الغفلة منه ، و استحكمت صارت أرضه خرابا ميتة ، و سنته جرداء يابسة ، و حريق
الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم.
فتصير أرضه بورا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات ، و
الثمار و غيرها ، و إذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه و أعماله و ربت ،
و أنبتت من كلِّ زوج بهيج ، فإذا ناله القحط و الجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها و
خضرتها و لينها و ثمارها من الماء ، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها و ذبلت
أغصانها ، و حُبست ثمارها ، و ربما يبست الأغصان و الشجرة ، فإذا مددت منها غصناً
إلى نفسك لم يمتد ، و لم ينْقَد لك ، و انكسر ، فحينئذ تقتضي حِكمة قيِّم البستان
قَطع تلك الشجرة و جعلَها وقوداً للنار
.
القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله
فكذلك القلب ، إنما يَيبس إذا خلا من توحيد الله و حبه و
معرفته و ذكره و دعائه ، فتصيبه حرارة النفس ، و نار الشهوات ، فتمتنع أغصان
الجوارح من الامتداد إذا مددتها ، و الانقياد إذا قُدتها ، فلا تصلح بعدُ هي و
الشجرة إلا للنَّار { فويلٌ للقاسية قُلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} [الزمر :22] ،
فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة ، كانت الأغصان ليِّنة مُنقادة رطبة ، فإذا
مددتها إلى أمر الله انقادت معك ، و أقبلت سريعة لينة وادعة ، فجنيت منها من ثمار
العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان و مادتها من رطوبة القلب و ريِّه ،
فالمادة تعمل عملها في القلب و الجوارح ، و إذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال
البِّر ؛ لأن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح ، فتحمل كل
جارحة ثمرها من العبودية ، و لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخُصُّه ، و
طاعة مطلوبة منها ، خلقت لأجلها و هيئت لها .
الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم
و الناس بعد ذلك ثلاثة أقسام :
أحدهما : من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له ، و أريد
منها ، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة ، و باع نفسه لله بأربح البيع.
و الصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية
تبعاً لقيام القلب بها و هذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح و ما
أنعم عليه من الآلاء ، و النعم ، فقام بعبوديته ظاهراً و باطناً و استعمل جوارحه
في طاعة ربِّه ، و حفظ نفسه و جوارحه عمَّا يُغضب ربه و يشينه عنده.
و الثـاني : من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له ، بل
حبسها على المخالفات و المعاصي ، و لم يطلقها ، فهذا هو الذي خابَ سعيه ، و خسرت
تجارته ، و فاته رضا ربَّه عزَّ و جل عنه ، و جَزيل ثوابه ، و حصل على سخطه و أليم
عقابه.
و الثـالث : مَن عطَّل جوارحه ، و أماتها بالبطالة و
الجهالة، فهذا أيضا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله ،فإن العبد إنما خُلق
للعبادة و الطاعة لا للبطالة .
و أبغض الخلق إلى الله العبد البطَّال الذي لا في شغل
الدنيا و لا في سعي الآخرة.
بل هو كلّ على الدنيا و الدين ، بل لو سعى للدنيا و لم
يسع للآخرة كان مذموماً مخذولاً ، و كيف إذا عطّل الأمرين ، و إنَّ امرء يسعى
لدنياه دائما ، و يذهل عن أُخراه ، لا شكَّ خاسر.
تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة
فالرجل الأول ، كرجل أُقطع أرضا واسعة ، و أعين على
عمارتها بآلات الحرث ، و البذر و أعطي ما يكفيها لسقيها و حرثها ، فحرثها و
هيَّأها للزراعة ، و بذر فيها من أنواع الغلات ، و غرس فيها من أنواع الأشجار و
الفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط ، و لم يهملها بل أقام عليها الحرس ، و حصنها
من الفساد و المفسدين ، و جعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه ، و يغرس فيها
عوض ما يبس ، و ينقي دغلها و يقطع شوكها ، و يستعين بغلَّتها على عمارتها.
و الثـاني : بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض ، و جعلها مأوى السباع
و الهوام ، و موضعاً للجيف و الأنتان ، و جعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد و
مؤذٍ و لصٍّ ، و أخذ ما أعين به من حرثتها و بذارها و صلاحها ، فصرفه و جعله معونة
و معيشة لمن فيها ، من أهل الشرِّ و الفساد.
و الثالث : بمنزلة رجل عطَّلها و أهملها و أرسل الماء
ضائعاً في القفار و الصحارى فقعد مذموماً محسوراً.
فهذا مثال أهل اليقظة ، و أهل الغفلة ، و أهل الخيانة.
أهل اليقظة و الغفلة الخيانة
فالأول : مثال أهل اليقظة ، والاستعداد لما خلقوا له.
و الثـاني : مثال أهل الخيانة.
و الثـالث : مثال لأهل الغفلة .
فالأول : إذا تحرّك أو سَكَن ، أو قام أو قعد ، أو أكل
أو شرب ، أو نام ، أو لبس ، أو نطق ، أو سكت كان كلِّه له لا عليه ، و كان في ذكر
و طاعةٍ و قربة و مزيد .
و الثاني : إذا فعل ذلك كان عليه لا له ، و كان في طردٍ
و إبعادٍ و خُسران .
و الثـالث : إذا فعل ذلك كان في غفلة و بطالةٍ و تفريطٍ .
فالأول : يتقلَّب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة و القربة.
و الثاني : يتقلب في ذلك بحكم الخيانة و التعدِّي ، فإن
الله لم يملِّكه ما ملّكه ليستعين به على مخالفته ، فهو جانٍ متعد خائن لله تعالى
في نعمه عليه معاقبٌ على التنعُّم بها في غير طاعته.
و الثالث : يتقلب في ذلك و يتناوله بحكم الغفلة و الهوى
و نهمة النفس و طبعها ، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى و التقرب إليه ،
فهذا خسرانه بيَّن واضح ، إذ عطّل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح و
التجارات .
فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات
الخمس ، رحمة منه بهم ، و هيأ لهم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كلِّ قول و
فعل و حركة و سكون حظه من عطاياه.
ما هو سرّ الصلاة ؟ و تمثيل لذلك
و كان سرُّ الصلاة و لُبها إقبال القلب فيها على الله ،
و حضوره بكلِّيته بين يديه ، فإذا لم يقبل عليه و اشتغل بغيره و لهى بحديث نفسه ،
كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه و زلله مستمطرا سحائب جوده و
كرمه و رحمته ، مستطعما له ما يقيت قلبه ، ليقوى به على القيام في خدمته ، فلما
وصل إلى باب الملك ، و لم يبق إلا مناجته له ، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا و شمالا
، أو ولاه ظهره ، و اشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك ، و أقلّه عنده قدرا عليه ،
فآثره عليه ، و صيَّره قلبة قلبه ، و محلَّ توجهه ، و موضع سرَّه ، و بعث غلمانه و
خدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضا عنه و يعتذروا عنه ، و ينوبوا عنه في الخدمة ،
و الملك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا ، فكرم الملك وجوده و سعة برّه و إحسانه تأبي
أن يصرف عنه تلك الخدم و الأتباع ، فيصيبه من رحمته و إحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة
الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين ، و بين الرضَّخ لمن لا سهم له : { و لكل
درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعمالهم و هم لا يظلَمون }[الأحقاف :19] ، و الله سبحانه
و تعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه و اختصه له ، و خلق كل شيء له ، و من أجله
كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم خلقتك لنفسي ، و خلقت كلِّ شيء لك ، فبحقي
عليك لا تشتغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له " .
و في أثر آخر : " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب و
تكفلت برزقك فلا تتعب ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإن و جدتني و جدت كلّ شيء ، و إن
فُتَّك فاتك كلّ شيء ، و أنا أحب إليك من كلّ شيء".
و جعل سبحانه و تعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه ، و
مناجاته ، و محبته و الأنس به .
ما بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة
و ما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة و الجفوة و القسوة
، و الإعراض و الزَّلات ، و الخطايا ، فيبعده ذلك عن ربه ، و ينحّيه عن قربه ،
فيصير بذلك كأنه أجنبيا من عبوديته ، ليس من جملة العبيد ، و ربما ألقى بيده إلى
أسر العدو له فأسره ، و غلَّه ، و قيَّده ، و حبسه في سجن نفسه و هواه .
فحظه ضيق الصدر ، و معالجة الهموم ، و الغموم ، و
الأحزان ، و الحسرات ، و لا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمه ربه الرحيم الودود أن
جعل له من عبوديته عبودية جامعة ، مختلفة الأجزاء ، و الحالات بحسب اختلاف الأحداث
التي كانت من العبد ، و بحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك
العبودية .
الكلام عن الوضوء
فبالوضوء يتطَّهر من الأوساخ ، و يُقدم على ربِّه متطهرا
، و الوضوء له ظاهر و باطن :
فظاهره : طهارة البدن ، و أعضاء العبادة.
و باطنه و سرّه : طهارة القلب من أوساخ الذنوب و المعاصي
و أدرانه بالتوبة ؛ و لهذا يقرن تعالى بين التوبة و الطهارة في قوله تعالى : { إن
الله يحب التَّوابين و يحب المتظهرين }[ البقرة : 222] و شرع النبي صلى الله عليه
و سلم للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول : "اللهم اجعلني
من التوّابين ، و اجعلني من المتطهرين
" .
فكمَّل له مراتب العبدية و الطهارة ، باطنا و ظاهرا ،
فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك ، و بالتوبة يتطهر من الذنوب ، و بالماء يتطهر من
الأوساخ الظاهرة .
فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز و جل
، و الوقوف بين يديه ، فلما طهر ظاهرا و باطنا ، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين
يديه و بذلك يخلص من الإباق.
و بمجيئه إلى داره ، و محل عبوديته يصير من جملة خدمه ،
و لهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم و المستحبة
عند آخرين.
من تمام العبودية الذهاب للمسجد
و العبد في حال غفلته كالآبق من ربه ، قد عطّل جوارحه و
قلبه عن الخدمة التي خُلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه ، فإذا وقف بين يديه
موقف و التذلل و الانكسار ، فقد استدعى عطف سيِّده عليه ، و إقباله عليه بعد
الإعراض عنه .
عبودية التكبير " الله أكبر ".
و أُمر بأن يستقبل القبلة ـ بيته الحرام ـ بوجهه ، و
يستقبل الله عز و جل بقلبه ، لينسلخ مما كان فيه من التولي و الإعراض ، ثم قام بين
يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه ، و ألقى بيديه مسلّماً مستسلماً
ناكس الرأس ، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه ، و طرفة عين ، لا يمنة و
لا يسرة ، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه.
و أقبل بكليته عليه ، ثم كبَّره بالتعظيم و الإجلال و
واطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء ، و صدَّق هذا
التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه ، فإنه إذا كان في
قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل
عن الله بغيره ، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله ، و كان قوله " الله
أكبر " بلسانه دون قلبه ؛ لأن قلبه مقبل على غير الله ، معظما له ، مجلاً ، فإذا ما
أطاع اللسان القلب في التكبير ، أخرجه من لبس رداء التكبّر المنافي للعبودية ، و
منعه من التفات قلبه إلى غير الله ، إذا كان الله عنده و في قلبه أكبر من كل شيء
فمنعه حقّ قوله : الله أكبر و القيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين ، اللتين
هُما من أعظم الحُجب بينه و بين الله تعالى.
عبودية الاستفتاح
فإذا قال : " سبحانك اللهم و بحمدك" و أثنى
على الله تعالى بما هو أهله ، فقد خرج بذلك عن الغفلة و أهلها ، فإن الغفلة حجاب
بينه و بين الله.
و أتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول
عليه تعظيما له و تمهيدا ، و كان ذلك تمجيدا و مقدمة بين يدي حاجته.
فكان في الثناء من آداب العبودية ، و تعظيم المعبود ما
يستجلب به إقباله عليه ، و رضاه عنه ، و إسعافه بفضله حوائجه
حال العبد في القراءة و الاستعاذة
فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من
الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو
أشرف مقامات العبد و أنفعها له في دنياه و آخرته ، فهو أحرص شيء على صرفه عنه ، و انتفاعه
دونه بالبدن و القلب ، فإن عجز عن اقتطاعه و تعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه و
عطَّله ، و ألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب
تبارك و تعالى ، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه و
ليحي قلبه ، و يستنير بما يتدبره و يتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة
قلبه ، و نعيمه و فلاحه ، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.
و لما علم الله سبحانه و تعالى حَسَد العدو للعبد ، و
تفرّغه له ، و علم عجز العبد عنه ، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ، و يلتجئ إليه في
صرفه عنه ، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته و مقاومته ، و كأنه قيل له : لا
طاقة لك بهذا العدو ، فاستعذ بي أعيذك منه ، و استجر بي أجيرك منه ، و أكفيكه و
أمنعك منه .
نصيحة ابن تيمية لابن القيِّم
و قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه و نوَّر
ضريحه يومًا : إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ، و مدافعته ، و عليك
بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب ، و يكفيكه.
فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه .
فأفضى القلب إلى معاني القرآن ، و وقع في رياضه المونقة
و شاهد عجائبه التي تبهر العقول ، و استخرج من كنوزه و ذخائره ما عين رأت و لا أذن
سمعت و لا خطر على قلب بشر ، و كان الحائل بينه و بين ذلك ، النفس و الشيطان ، فإن
النفس منفعلة للشيطان ، سامعة منه ، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها ، و طُرد ألَّم بها
الملَك ، و ثبَّتها و ذكّرها بما فيه سعادتها و نجاتها.
فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن ، فقد قام في مقام
مخاطبة ربِّه و مناجاته ، فليحذر كل الحذر من التعرّض لمقته و سخطه ، بأن يناجيه و
يخاطبه ، و قلبه معرِض عنه ، ملتفت ، إلى غيره ، فإنه يستدعي بذلك مقته ، و يكون
بمنزلة رجل قرَّبه ملك من ملوك الدنيا ، و أقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك ، و قد
ولاَّه قفاه ، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة و يسرة ، فهو لا يفهم ما يقول الملك ،
فما الظن بمقت الملك لهذا.
فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين و قيوم
السماوات و الأرضين.
حال العبد في الفاتحة
فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة
، ينتظر جواب ربِّه له ، و كأنه يسمعه و هو يقول : " حمدني عبدي " إذا
قال : { الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ}.
فإذا قال : { الرَّحمن الرَّحيم } وقفَ لحظة ينتظر قوله
: " أثنى عليَّ عبدي
".
فإذا قال : {مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله : "
مجَّدني عبدي ".
فإذا قال : { إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعين } انتظر
قوله تعالى : " هذا بيني و بين عبدي ".
فإذا قال : {اهدِنا الصِّراط المُستقيم } إلى آخرها
انتظر قوله : " هذا لعبدي و لعبدي ما قال ".
و مَن ذاق طعم الصلاة عَلِمَ أنه لا يقوم مقام التكبير و
الفاتحة غيرهما مقامها ، كما لا يقوم غير القيام و الركوع و السجود مقامها ،
فلكلٍّ عبوديته من عبودية الصلاة سرٌّ و تأثيرٌ و عبودية لا تحصل في غيرها ، ثمَّ لكل
آية من آيات الفاتحة عبودية و ذوق و وجد يخُصُّها لا يوجد في غيرها.
فعند قوله : { الحمد لله رب العالمين } تجد تحت هذه
الكلمة إثبات كللّ كمال للرب و وصفا و اسما ، و تنزيهه سُبحَانه و بحمده عن كلِّ
سوء ، فعلاً و وصفاً و اسماً ، و إنما هو محمود في أفعاله و أوصافه و أسمائه ،
مُنزَّه عن العيوب و النقائص في أفعاله و أوصافه و أسمائه.
فأفعاله كلّها حكمة و رحمة و مصلحة و عدل و لا تخرج عن
ذلك ، و أوصافه كلها أوصاف كمال ، و نعوت جلال ، و أسماؤه كلّها حُسنى.
من معاني الحمد
و حمده تعالى قد ملأ الدنيا و الآخرة ، و السموات و
الأرض ، و ما بينهما و ما فيهما ، فالكون كلّه ناطق بحمده ، و الخلق و الأمر كلّه
صادر عن حمده ، و قائم بحمده ، و وجوده و عدمه بحمده ، فحمدُه هو سبب وجود كل شيء
موجود ، و هو غاية كل موجود ، و كلّ موجود شاهد بحمده ، فإرساله رسله بحمده ، و إنزاله
كتبه بحمده ، و الجنة عُمِّرت بأهلها بحمده ، و النَّار عُمِّرت بأهلها بحمده ،
كما أنَّها إنَّما وجدتا بحمده.
و ما أُطيع إلا بحمده ، و ما عُصي إلا بحمده ، و لا تسقط
ورقة إلا بحمده ، و لا يتحرك في الكون ذرَّة إلا بحمده ، فهو سبحانه و تعالى
المحمود لذاته ، و إن لم يحمده العباد.
كما أنه هو الواحد الأحد ، و إن لم يوحِّده العباد ، و
هو الإله الحقُّ و إن لم يؤلِّهه ، سبحانه هو الذي حمِد نفسه على لسان الحامد كما
قال النبي صلى الله عليه و سلم : " إن الله تعالى قال على لسان نبيه : سَمعَ اللهُ لمن
حَمِدَه".
فهو الحامدُ لنفسه في الحقيقة على لسان عبده ، فإنه هو
الذي أجري الحمدَ على لسانه و قلبه ، و أجراؤه بحمده فله الحمد كله ، و له الملك
كله ، و بيده الخير كله ، و إليه يرجع الأمر كله ، علانيته و سره .
فهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد ، و هي
نقطة من بحر لُجِّي من عبوديته.
و من عبوديته أيضا : أن يعلم أن حمده لربه نعمة مِنه
عليه ، يستحق عليها الحمد ، فإذا حمده عليها استَّحق على حمده حمداً آخر ، و هلَّم
جرا.
فالعبد و لو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من
نعمه ، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فوق ذلك ، و أضعاف أضعافه ، و لا يُحصي أحد
البتّة ثناءً عليه بمحتمده ، و لو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكلِّ نعمة
من ربِّه ، يحمده عليها ، فإذا حَمده على صرفها عنه ، حمده على إلهامه الحمدُ.
قال الأوزاعي : " سمعت بعض قوَّال ينشد في حمامٍ لك
الحمدُ إمّا على نعمةٍ و إمَّا على نقمة تُدفع".
و من عبودية الحمد : شهود العبد لعجزه عن الحمد ، و أنَّ
ما قام به منه ، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك ، فهو محمود عليه ، إذ هو الذي
أجراه على لسانه و قلبه ، و لولا الله ما اهتدى أحد.
و من عبودية الحمد : تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد
كلها ظاهرها و باطنها على ما يحب العبد منها و ما يكره ، بل على تفاصيل أحوال
الخلق كلّهم ، برِّهم و فاجرهم ، علويهم و سفليهم ، فهو سبحانه المحمود على ذلك
كلّه في الحقيقة ، و إن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك ، و ما يستحق الرب تبارك و
تعالى من الحمد على ذلك و الحمد لله : هو إلهام من الله للعباد ، فمستقل و مستكثر
على قدر معرفة العبد بربه.
و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الشفاعة :
" فأقع ساجداً فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط ".
عبودية {ربِّ العالمين}
ثم لقول العبد : : { ربِّ العالمين} من العبودية شهود
تفرّده سبحانه بالربوبية وحده ، و أنَّه كما أنه رب العالمين ، و خالقهم ، و
رازقهم ، و مدبِّر أمورهم ، و موجدهم ، و مغنيهم ، فهو أيضا وحده إلههم ، و
معبودهم ،و ملجأهم و مفزعهم عند النوائب ، فلا ربَّ غيره ، و لا إله سواه.
عنوان : عبودية { الرَّحمَن الرَّحيم}
و لقوله : { الرَّحمن الرَّحيم } عبودية تخصه سبحانه ، و
هي شهود العبد عموم رحمته.
و شمولها لكلّ شيء ، و سعتها لكلِّ مخلوق و أخذ كلّ
موجود بنصيبه منها ، و لاسيما الرحمة الخاصَّة بالعبد و هي التي أقامته بين يدي
ربه : أقم قلاناً ـ ففق بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانًا ، و أنم
فلانا فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه ، و يتملقه و يسترحمه و يدعوه و
يستعطفه و يسأله هدايته و رحمته ، و تمام نعمته عليه دنياه و أخراه فهذا من رحمته
بعبده ، فرحمته وسعت كل شيء ، كما أن حمده وسع كل شيء ، و علمه وسع كل شيء ، {
ربَّنا وسعتَ كُلَّ شيء رَّحمة و علما} [ غافر :7] ، و غيره مطرود محروم قد فاتته
هذه الرحمة الخاصَّة فهو منفي عنها.
عنوان عبودية { مالكِ يومِ الدِّينِ}
و يعطى قوله { مالك يوم الدِّين } عبوديته من الذلِّ و
الانقياد ، و قصد العدل و القيام بالقسط ، و كفَّ العبد نفسه عن الظلم و المعاصي ،
و ليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد و تفرَّد الربِّ في ذلك بالحكم بين خلقه ، و
أنه يومٌ يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير و الشر ، و ذلك من تفاصيل حمده ،
و موجبه كما قال تعالى : { و قُضيَ بينَهم بالحقِّ و قيل الحمدُ لله ربِّ
العالمين}[الزمر:75].
و يروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة و أهل
النار ، عدلا و فضلا ، و لما كان قوله {الحمد لله رب العالمين}.
إخبارا عن حمد عبده له قال : حمدني عبدي.
ما معنى ( الثناء ) (التمجيد)
و لما كان قوله { الرحمن الرحيم} إعادة و تكريرا لأوصاف
كماله قال : " أثنى عليَّ عبدي " ، فإنَّ الثناء إنَّما يكون بتكرار
المحامد ، و تعداد أوصاف المحمود ، فالحمد ثناء عليه ، و { الرحمن الرَّحيم } وصفه
بالرحمة.
و لما وصف العبد ربه بتفرُّده بملك يوم الدين و هو الملك
الحق ، مالك الدنيا و الآخرة ؛ و ذلك متضمِّن لظهور عدله ، و كبريائه و عظمته ، و وحدانيته
، و صدق رُسله ، سمَّى هذا الثناء مجداً فقال : " مجَّدني عبدي " فإن
التمجيد هو : الثناء بصفات العظمة ، و الجلال ، و العدل ، و الإحسان .
عبودية { إيَّاك نعبدُ }
فإذا قال : { إيَّاك نعبدُ و إيَّاك نستعين } انتظر جواب
ربه له : " هذا بيني و بين عبدي ، و لعبدي ما سأل ".
و تأمل عبودية هاتين الكلمتين و حقوقهما ، و ميِّز
الكلمة التي لله سبحانه و تعالى ، و الكلمة التي للعبد ، و فِقهِ سرَّ كون إحداهما
لله ، و الأخرى للعبد ، و ميِّز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة { إيَّاك نعبدُ } و
التوحيد الذي تقتضيه كلمة { و إيَّاك نستعين } ، و فِقهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في
وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما ، و الدعاء بعدهما ، و فِقه تقديم { إياك نعبد } على
{ و إياك نستعين } ، و تقديم المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخراً أوجز و أخضر
، و سرَّ إعادة الضمير مرَّة بعد مرة
.
تقديم العبادة على الاستعانة
قلت : أراد تقديم العبادة ـ و هي العمل ـ على الاستعانة
، فالعبادة لله و الاستعانة للعبد ، فالله هو المعبود ، و هو المستعان على عبادته
، فإياك نعبد ؛ أي إياك أريد بعبادتي ، و هو يتضمن العمل الصالح الخالص ، و العلم النافع
الدال على الله ، معرفة و محبة ، و صدقا و إخلاصاً ، فالعبادة حق الرب تعالى على
خلقه ، و الاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على جميع أموره ، و هي القول المتضمن
قسم العبد.
فكل عبادة لا تكون لله و بالله فهي باطلة مضمحلة ، و كل
استعانة تكون بالله وحده فهي خذلانٌ و ذل.
و تأمل علم ما ينفع العباد و ما يدفع عنهم كل واحد من هاتين
الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية نفعاً و دفعاً و كيف تدخل العبد هاتان
الكلمتان في صريح العبودية.
القرآن مداره على هذه الكلمة
و تأمل عِلم كيف يدور القرآن كلّه من أوّله إلى آخره
عليهما ، و كذلك الخلق ، و الأمر و الثواب و العقاب و الدنيا و الآخرة ، و كيف
تضمّنتا لأجلِّ الغايات ، و أكمل الوسائل ، و كيف أتى بهما بضمير المخاطب الحاضر ،
دون ضمير الغائب ، و هذا موضوع يستدعي كتاباً كبيراً ، و لولا الخروج عمَّا نحن
بصدده لأوضحناه و بسطناه ، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب : "مراحل
السائرين بين منازل إياك نعبد و إياك نستعين " و في كتاب " الرسالة
المصرية ".
ضرورة العبد لقوله {اهدنا الصِّراط المُستقيم }
ثم ليتأمل العبد ضرورته و فاقته إلى قوله { اهدنا
الصِّراط المُستقيم } الذي مضمونه معرفة الحق ، و قصده و إرادته و العمل به ، و
الثبات عليه ، و الدعوة إليه ، و الصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال هذه المراتب
الخمس يستكمل العبد الهداية و ما نقص منها نقص من هدايته.
و لما كان العبد مفتقراً إلى هذه الهداية في ظاهره و
باطنه ، بل و في جميع ما يأتيه ، و يذره من :
أنواع الهدايات التي يفتقر لها العبد
· أمور فعلها على غير الهداية علماً و عملاً و إرادة ،
فهو محتاج إلى التوبة منها و توبته منها هي من الهداية.
· و أمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى
هداية تفاصيلها.
· و أمور قد هُدي إليها من وجهٍ دون وجهٍ ، فهو محتاجٌ
إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم ، و أن يزداد هدى إلى هداه.
· و أمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في
مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها.
· وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية
فيها اعتقاداً صحيحاً.
· و أمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه ، فهو محتاج إلى
هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل ، و تُثبت فيه ضدّه.
· و أمور من الهداية : هو قادر عليها ، و لكن لم يخلق له
إرادة فعلها ، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة.
· و أمور منها : هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها
، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليها.
· و أمور منها : هو غير قادر عليها و لا مريد لها ، فهو
محتاج إلى خلق القدرة عليها و الإرادة لها لتتم له الهداية.
· و أمور : هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادا و إرادة
، و علما و عملاً ، فهو محتاج إلى الثبات عليها و استدامتها ، فكانت حاجته إلى
سؤال الهداية أعظم الحاجات ، و فاقته إليها أشد الفاقات ، و لهذا فرض عليه الرب
الرحيم هذا السؤال على العبيد كلّ يوم و ليلة في أفضل أحواله ، و هي الصلوات الخمسُ
، مرات متعددة ، لشدَّة ضرورته و فاقته إلى هذا المطلوب.
· ثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل
الغضب و أهل الضلال ، و هو اليهود ، و النصارى و غيرهم .
فانقسم الخلق إذن إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه
الهداية :
مُنعم عليه : بحصولها له و استمرارها و حظه من المنعم
عليهم ، بحسب حظه من تفاصيلها و أقسامها.
و ضالٌ : لم يُعطَ هذه الهداية و لم يُوفق لها .
و مغضوب عليه : عَرفها و لم يوفق للعمل بموجبها.
فالضال : حائد عنها ، حائر لا يهتدي إليها سبيلا.
و المغضوب عليه : متحيّر منحرف عنها ؛ لانحرافه عن الحق
بعد معرفته به مع علمه بها.
فالأول المنعم عليه قائم بالهدى ، و دين الحق علما و
عملاً و اعتقادا و الضال عكسه ، منسلخ منه علماً و عملاً.
و المغضوب عليه لا يرفع فيها رأسا ، عارف به علماً منسلخ
عملاً ، و الله الموفق للصواب.
و لولا أن المقصود التنبيه على المضادة و المنافرة التي
بين ذوق الصلاة ، و ذوق السماع ، لبسطنا هذا الموضوع بسطاً شافيا ، و لكن لكلِّ
مقام مقال ، فلنرجع إلى المقصود.
عبودية التأمين و رفع اليدين
و شرع له التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلاً بإجابته ، و
حصوله ، و طابعاً عليه ، و تحقيقاً له ، و لهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه
حين سمعُوهم يجهرون به في صلاتهم.
ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما لأمر الله ، و زينةً
للصلاة ، و عبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح ، و اتباعاً لسنَّة رسول
الله صلى الله عليه و سلم فهو حليةُ الصلاة ، و زينتها و تعظيمٌ لشعائرها.
ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكن
إلى ركن ، كالتلبية في انتقالات الحاجِّ ، من مشعر إلى مشعر ، فهو شعار الصلاة ،
كما أن التلبية شعار الحج ،(مميز ليعلم أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى و تكبيره
بعبادته وحده. )
عبودية الركوع
ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعاً لعظمة
ربه ، و استكانة لهيبته و تذللا لعزته.
فثناء العبد على ربه في هذا الركن ؛ هو أن يحني له صلبه
، و يضع له قامته ، و ينكس له رأسه ، و يحني له ظهره ، و يكبره مُعظماً له ،
ناطقاً بتسبيحه ، المقترن بتعظيمه.
فاجتمع له خضوع القلب ، و خضوع الجوارح ، و خضوع القول
على أتم الأحوال ، و يجتمع له في هذا الركن من الخضوع و التواضع و التعظيم و الذكر
ما يفرق به بين الخضوع لربه ، و الخضوع للعبيد بعضهم لبعض ، فإنَّ الخضوع وصف
العبد ، و العظمة وصف الرب .
و تمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع ، و يتضاءل لربه
، بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه ، و لخلقه و يثبت مكانه
تعظيمه ربه وحده لا شريك له .
إذا عظَّم القلب الرب خرج تعظيم الخلق
و كلما استولى على قلبه تعظيم الربِّ ، و قوى خرج منه
تعظيم الخلق ، و ازداد تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات ، و القصد و
الجوارح بالتبع و التكملة.
ثم شرع له أن يحمد ربه ، و يثني عليه بآلائه عند اعتداله
و انتصابه و رجوعه إلى أحسن هيئاته ، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه و يثني عليه
بآلائه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إلى أحسن تقويم ، بأن وفقه و هداه لهذا
الخضوع الذي قد حرمه غيره.
عبودية القيام
ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال و الاستواء ، واقفا في
خدمته ، بين يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك ، و لهذا شرع له من الحمد و
المجد نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلك.
و لهذا الاعتدال ذوقٌ خاص و حال يحصل للقلب ، و يخصه سوى
ذوق الركوع و حاله ، و هو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع و السجود سواء.
و لهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُطيلُه كما
يطيل الركوع و السجود ، و يُكثر فيه من الثناء و الحمد و التمجيد ، كما ذكرناه في
هديه صلى الله عليه و سلم في صلاته و كان في قيام الليل يُكثر فيه من قول : " لربي
الحَمد ، لربي الحمد " و يكرِّرها.
عبودية السجود
ثم شرع له أن يكبر و يدنو و يخرَّ ساجدا ، و يُعطي في
سجوده كل غضو من أعضائه حظَّه من العبودية ، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه ،
مسندة راغما له أنفه ، خاضعا له قلبه ، و يضع أشرف ما فيه ـ و هو وجهه ـ بالأرض و
لاسيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على الأرض معفِّراً له وجهه و أشرف ما فيه
بين يدي سيِّده ، راغماً أنفه ، خاضعاً له قلبه و جوارحه ، متذلِّلاً لعظمة ربه ، خاضعاً
لعزَّته ، منيباً إليه ، مستكيناً ذلاً و خضوعاً و انكساراً ، قد صارت أعاليه
ملويةً لأسافله.
و قد طابق قلبُه في ذلك حال جسده ، فسجد القلب للرب كما
سجد الجسد بين يدي الله ، و قد سجد معه أنفه و وجهه ، و يداه و ركبتاه ، و رجلاه
فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب فهو ما يكون من ربه و هو ساجد .
و شرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه ، و بطنه عن فخذيه و
عَضُديه عن جنبيه ، ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من الخضوع لا يحملَ بعضه بعضاً .
فأحرِ به به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها
من الأحوال كلِّها ، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " أقربُ ما يكونُ
العبدُ من ربَّه و هو ساجدٌ ".[رواه مسلم (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه ].
و لما كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة
هذا السجود إلى يوم القيامة ، كما قيل لبعض السلف :
هل يسجد القلب ؟
الصلاة مبناها على خمسة أركان
قال : " أي و الله سجدةً لا يرفع رأسه منها حتى
يلقى الله عزَّ و جل ".[هذا القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في
مجموع الفتاوى (21/287) (23/138)
]
إشارة إلى إخبات القلب ، و ذلّه ، و خضوعه ، و تواضعه و
إنابته و حضوره مع الله أينما كان ، و مراقبته له في الخلاء و الملأ ، و لما بنيت
الصلاة على خمس : القراءة و القيام و الركوع و السجود و الذكر .
سمّيت باسم كل واحد من هذه الخمس :
فسمّيت " قياماً " لقوله : { قُم اللَّيل
إلاَّ قليلاً} [ المزمل :2] ، و قوله : {وقُومُوا لله قانتين} [البقرة :238].
و "قراءة" لقوله : {وقرآن الفَجر إنَّ قُرآن
الفَجر كان مشهُوداً} [الإسراء :78] ، {فاقرءوا ما تيَسَّر منه } [المزمل :48].
و سمّيت " ركوعاً " لقوله : { و اركعُوا مع
الرَّاكعين } [ البقرة :43] ، { و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعُون}[المراسلات :48].
و " سجوداً " لقوله : { فسبِّح بحمد ربِّك و
كن مّن السَّاجدين} [ الحجر : 98] ، وقوله { و اسجُد و اقترب} [العلق :19].
و "ذكراً " لقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله} [
الجمعة :9] ، { لا تُلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله } [ المنافقون :9].
و أشرف أففعالها السجود ، و أشرف أذكارها القراءة ، و
أول سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه و سلم سورة { اقرأ باسم ربِّك } افتتحت
بالقراءة ، و خُتمت بالسجود ، فوضعت الركعة على ذلك ، أولها قراءة و آخرها سجود.
حال العبد بين السجدتين
ثم شرع له أن يرفع رأسه ، و يعتدل جالساً ، و لما كان هذا
الاعتدال محفوفا بسجودين ؛ سجود قبله ، و سجود بعده ، فينتقل من السجود إليه ، ثم
منه إلى السجود الآخر ، كان له شأن ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يطيل الجلوس
بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه فيه ، و يدعوه و يستغفره ، و يسأله رحمته
، و هدايته و رزقه و عافيته ، و له ذوق خاص ، و حال للقلب غير ذوق السجود و حالهن
؛ فالعبد في هذا القعود يتمثَّل جاثيا بين يدي ربه ، مُلقيا نفسه بين يديه ،
مُعتَذراً إليه مما جَناَه ، راغباً إليه أن يغفر له و يرحمه ، مستَعدياً له على
نفسه الأمَّارة بالسوء.
لماذا الاستغفار بين السجدتين
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يكرر الاستغفار في
هذه الجلسة فيقول : " رب اغفر لي ، رب اغفر لي ، رب اغفر لي " ، و يكثر من
الرغبة فيها إلى ربه.
فمثِّل أيها المصلي نفسك فيها بمنزلة غريم عليه حق ، و
أنت كفيل به ، و الغريم مماطل مخادع ، و أنت مطلوب بالكفالة ، و الغريم مطلوب
بالحق ، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق ،؛ لتتخلص من المطالبة ، و القلب
شريك النفس في الخير و الشر ، و الثواب و العقاب ، و الحمد و الذم .
و النفس من شأنها الإباق و الخروج من رقِّ العبودية ، و
تضييع حقوق الله عو و جل و حقوق العباد التي قبلها ، و القلب شريكها إن قوي
سلطانها و أسيرها ، و هي شريكته و أسيرته إن قوي سلطانه.
فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله
تعالى مستعديا على نفسه ، معتذرا من ذنبه إلى ربه و مما كان منها ، راغباً إليه أن
يرحمه و يغفر له و يرحمه و يهديه و يرزقه و يعافيه ، ز هذه الخمس كلمات ، قد جمعت
جماع خير الدنيا و الآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا و
في الآخرة ، و دفع المضار عنه في الدنيا و الآخرة ، و قد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله.
فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه و أخراه و يجمع رزق بدنه
و رزق قلبه و روحه ، و هو أفضل الرازقين.
و العافية تدفع مضارّها.
و الهداية تجلب له مصالح أخراه.
و المغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا و الآخرة.
و الرحمة تجمع ذلك كلّه. و الهداية تعمُّ تفاصيل أموره
كلّها.
و شرع له أن يعودَ ساجداً كما كان ، و لا يكتفي منه
بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ و ذلك لفضل السجود و شرفه و قرب
العبد من ربِّه و موقعه من الله عز و جل ، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه و هو
ساجد ، و هو أشهر في العبودية و أعرق فيها من غيره من أركان الصلاة ؛ و لهذا جُعل
خاتمة الركعة ، و ما قبله كالمقدمة بين يديه ، فمحلّه من الصلاة محل طواف الزيارة
، و كما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد ، فكذلك أقرب ما يكون منه في
المناسك و هو طائف كما قال ابن عمر لمن خطب ابنته و هو في الطواف فلم يرد عليه
فلما فرغ من الطواف قال : أتذكر أمراً من أمور الدنيا و نحن نتراءى لله سبحانه و
تعالى في طوافنا.
و لهذا و الله أعلم ، جُعل الركوع قبل السجود تدريجا و
انتقالاً من الشيء إلى ما هو أعلى منه.
لماذا يكرر السجود مرتان
و شُرع له تكرير هذه الأفعال و الأقوال ؛ إذ هي غذاء
القلب و الروح التي لا قوام لهما إلا بها ، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة
بعد لقمة حتى يشبع ، و الشرب نفسا بعد نفس حتى يَروى ، فلو تناول الجائع لقمة
واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فماذا كانت يغني عنه تلك اللقمة ؟ و ربما فتحت
عليه باب الجوع أكثر مما به ؛ و لهذا قال بعض السلف : " مثل الذي يصلي و لا يطمئن
في صلاته كمثل الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه
ذلك".
و في إعادة كل قول أو فعل من العبودية و القرب ، و تنزيل
الثانية منزلة الشكر على الأولى ، و حصول مزيد خير و إيمان من فعلها ، و معرفة و
إقبال و قوة قلب ، و انشراح صدر و زوال درنٍ و وسخٍ عن القلب بمنزلة غسل الثوب
مرَّة بعد مرَّة .
فهذه حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه و أمره
، و دلَّت على كمال رحمته و لطفه ، و ما لم تحط به علماً منها أعلى و أعظم و أكبر
و إنما هذا يسير من كثير منها.
فلما قضى صلاته و أكملها و لم يبق إلا الانصراف منها ،
فشرع الجلوس في آخرها بين يدي ربه مُثنياً عليه بما هو أهله ، فأفضل ما يقول العبد
في جلوسه هذه التحيات التي لا تصلح إلا لله ، و لا تليق بغيره.
عبودية الجلوس للتشهد و معنى التحيات
و لما كان من عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من
الأفعال و الأقوال المتضمنة للخضوع لهم ، و الذل ، و الثناء عليهم و طلب البقاء ،
و الدوام لهم ، و أن يدوم ملكهم.
فمنهم : من يحيّي بالسجود و منهم من يحيي بالثناء عليه
و منهم : من يحيي بطلب البقاء ، و الدوام له .
و منهم : من يجمع له ذلك كلّه فيسجد له ، ثم يثني عليه ،
ثم يدعي له بالبقاء و الدوام.
و كان الملك الحق المبين ، الذي كل شيء هالك إلا وجهه
سبحانه أولى بالتحيات كلِّها من جميع خلقه ، و هي له بالحقيقة و هو أهلها ؛ و لهذا
فُسرت التحيات بالملك ، و فسرت بالبقاء و الدوام ، و حقيقتها ما ذكرته ، و هي
تحيات المُلك و المَلك و المليك.
فالله سبحانه هو المتصف بجميع ذلك ، فهو أولى به فهو
سبحانه المَلك ، و له المُلك ، فكل تحية تحي بها ملك من سجود أو ثناء ، أو بقاء ،
أو دوام فهي لله على الحقيقة ؛ و لهذا أتى بها مجموعة معرَّفة بالألف و اللام
إرادة للعموم ، و هي جمع تحية ، تحيا بها الملوك ، و هي " تُفعُلة" من
الحياة ، و أصلها " تحييه" على وزن " تكرمه" ، ثم أدغم إحدى اليائين في الآخر فصارت " تحيَّة " فإذا
كان أصلها من الحياة ، و المطلوب منها لمن تحي بها دوام الحياة ، كما كانوا يقولون
لملوكهم :
لك الحياة الباقية ، و لك الحياة الدائمة.
و بعضهم يقول : عش عشرة آلاف سنة.
و اشتق منها
:
أدام الله أيامك أو أيامه ، و أطال الله بقاءك.
و نحو ذلك مما يراد به دوام الحياة و الملك ، فذلك جميعه
لا ينبغي إلا لله الحي القيوم الذي لا يموت.
الذي كل مَلكٍ سواه يموت ، و كل مُلك سوى ملكه زائل.
عطف الصلوات و الطيبات
ثم عطف عليها الصلوات بلفظ الجمع و التعريف ؛ ليشمل ذلك
كلّما أُطلق عليه لفظ الصلاة خصوصا و عموماً ، فكلّها لله و لا تنبغي إلا له
،فالتحيات له ملكاً ، و الصلوات له عبودية و استحقاقاً ، فالتحيات لا تكون إلا لله
، و الصلوات لا تنبغي إلا له .
ثم عطف عليها بالطيِّبات ، و هذا يتناول أمرين : الوصف و
الملك.
فأما الوصفُ : فإنه سبحانه طيِّب ، و كلامه طيِّبٌ ، و
فعله كلّه طيب ، و لا يصدر منه إلا طيّب ، و لا يضاف إليه إلا الطيِّب ، و لا يصعد
إليه إلا الطيّب.
معنى الطيِّبات
فالطيبات له وصفاً و فعلاً و قولاً و نسبةً ، و كلّ طيّب
مضاف إليه طيّب ، فله الكلمات الطيبات و الأفعال ، و كلّ مضاف إليه كبيته و عبده ،
و روحه و ناقته ، و جنته دار الطيبين ، فهي طيبات كلّها ، و أيضا فمعاني الكلمات
الطيبات لله وحده ، فإنها تتضمن تسبيحه ، و تحميده ، و تكبيره ، و تمجيده ، و
الثناء عليه بالآئه و أوصافه ؛ فهذه الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها ، و
معانيها له وحده لا شريك له : كسبحانك اللهمَّ و بحمدك وتبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله
غيرك.
و كسبحان الله و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله
أكبر.
و سبحان الله و بحمده ، سبحان الله العظيم ، و نحو ذلك .
و كلّ طيّب له و عنده و منه و إليه ، و هو طيّب لا يقبل إلا طيّباً ، و هو إله
الطيبين و ربهم ، و جيرانه في دار كرامته ، هم الطيبون.
أطيب الكلام بعد القرآن
فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن ، كيف لا تنبغي إلا لله ؟
و هي : سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة
إلا بالله ، فإن " سبحان الله " تتضمن تنزيهه عن كل نقص و عيب و سوء عن
خصائص المخلوقين و شبههم.
و " الحمد لله " تتضمن إثبات كلّ كمال له
قولاً ، و فعلاً ، و وصفاً على أتمِّ الوجوه ، و أكملها أزلاً و أبداً .
و " لا إله إلا الله " تتضمن انفراده بالإلهية
، و أن كل معبود سواه باطل ، و أنه وحده الإله الحق ، و أن من تأله غيره فهو
بمنزلة من اتخذ بيتاً من بيوت العنكبوت ، يأوي إليه ، و يسكنه من الحرِّ و البرد ،
فهل يغني عنه ذلك شيئاً .
و " الله أكبر " تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء ،
و أجل ، و اعظم ، و أعز و أقوى و أمنع ، و أقدر ، و اعلم ، و أحكم ، فهذه الكلمات
لا تصح هي و معانيها إلا لله وحده.
عبودية التَّسليم على الأنبياء و الصالحين
ثم شرع له أن يسلِّم على سائر عباد الله الصالحين ، و هم
عباده الذين اصطفى بعد الثناء ، و تقديم الحمد لله فطابق ذلك قوله : { قُل الحمدُ
للهِ و سلامٌ على عباده الذين اصطفى}[النمل :59] ، و كأنه امتثال له ، و أيضا فإن هذا
تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق و قدم في هذه التحية أولى الخلق بها و هو
النبي صلى الله عليه و سلم ، الذي نالت أمته على يده كل خير ، و على نفسه ، و بعده
و على سائر عباد الله الصالحين ، و أخصهم بهذه التحية الأنبياء و الملائكة ، ثم
أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ، و أتباع الأنبياء مع عمومها كل عبد صالح في
السماء و الأرض.
ثم شرع له بعد هذه التحية السلام على من يستحق السلام
عليه خصوصاً و عموماً.
معنى الشهادتين في التحيات
ثم شرع له أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة ،
و الصلاة حق من حقوقها ، و لا تنفعه إلا بقرينتها و هي الشهادة للرسول صلى الله
عليه و سلم بالرسالة ، و ختمت بها الصلاة كما قال عبد الله بن مسعود : " فإذا
قلت ذلك فقد قضيت صلاتك ، فإن شئت فقم و إن شئت فاجلس".
و هذا إما أن يحمل على انقضائها إذا فرغ منه حقيقة ، كما
يقوله الكوفيون ، او على مقاربة انقضائها و مشارفته ، كما يقول أهل الحجاز و غيرهم
، و على التقديرين فجعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة . كما شرع أن تكون هي خاتمة
الحياة.
"فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
و كذلك شرع للمتوضئ أن يختتم وضوءه بالشهادتين ، ثم لما
قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته.
الصلاة على النبيِّ
و شرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي صلى الله
عليه و سلم ، فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء ، كما في السنن عن فضالة بن
عبيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : "إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد
الله ، و الثناء عليه ، و ليصل على رسوله ثم ليسل حاجته".
ثم جعل الدعاء لآخر الصلاة كالختم عليها.
فجاءت التحيات على ذلك ، أولها حمدٌ لله ، و الثناء عليه
ثم الصلاة على رسوله ثم الدعاء آخر الصلاة ، و أَذِنَ النبي صلى الله عليه و سلم
للمصلي بعد الصلاة عليه أن يتخير من المسألة ما يشاء.
سنن الآذان الخمس
و نظير هذا ما شرع لمن سمع الآذان :
أن يقول كما يقول المؤذن.
و أن يقول رضيت بالله ربا ، و بالإسلام دينا ، و بمحد
رسولاً.
و أن يسأل الله لرسوله الوسيلة و الفضيلة ، و أن يبعثه
المقام المحمود.
ثم ليصل عليه
.
ثم يسأل حاجته.
فهذه خمس سنن في إجابة المؤذن لا ينبغي الغفلة عنها.
فصلٌ
سرّ الصلاة الإقبال على الله
و سرُّ الصلاة و روحها و لبُّها ، هو إقبال العبد على
الله بكليّته فيها ، فكما أنه لا ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إلى غيرها فيها ،
فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربِّه إلى غيره فيها.
بل يجعل الكعبة ـ التي هي بيت الله ـ قبلة وجهه و بدنه ،
و رب البيت تبارك و تعالى قبلة قلبه و روحه ، و على حسب إقبال العبد على الله في
صلاته ، يكون إقبال الله عليه ، و إذا أعرضَ أعرض الله عنه ، كما تدين تُدان.
للإقبال على الله في الصلاة ثلاث منازل
و الإقبال في الصلاة على ثلاثة منازل:
*إقبال العبد على قلبه فيحفظه و يصلحه من أمراض الشهوات
و الوساوس ، و الخطرات المُبطلة لثواب صلاته أو المنقصة لها.
* و الثاني : إقباله على الله بمراقبته فيها حتى يعبده
كانه يراه.
*و الثالث : إقباله على معاني كلام الله ، و تفاصيله و
عبودية الصلاة ليعطيها حقها من الخشوع و الطمأنينة و غير ذلك.
فباستكمال هذه المراتب الثلاث يكون قد أقام الصلاة حقاً
، و يكون إقبال الله على المصلي بحسب ذلك.
كيف يكون الإقبال في كل جزء من أجزاء الصلاة
فإذا انتصب العبد قائماً بين يديه ، فإقباله على
قيُّومية الله و عظمته فلا يتفلت يمنة و لا يسرة.
و إذا كبَّر الله تعالى كان إقباله على كبريائه و إجلاله
و عظمته.
و كان إقباله على الله في استفتاحه على تسبيحه و الثناء
عليه و على سُبحات وجهه ، و تنزيهه عمَّا لا يليق به ، و يثني عليه بأوصافه و
كماله.
فإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ، كان إقباله على
ركنه الشديد ، و سلطانه و انتصاره لعبده ، و منعه له منه و حفظه من عدوه.
و إذا تلى كلامه كان إقباله على معرفته في كلامه كأنه
يراه و يشاهده في كلامه كما قال بعض السلف : لقد تجلّي الله لعباده في كلامه.
و الناس في ذلك على أقسام و لهم في ذلك مشارب ، و أذواق
فمنهم البصير ، و الأعور ، و الأعمى ، و الأصم ، و الأعمش ، و غير ذلك ، في حال
التلاوة و الصلاة ، فهو في هذه الحال ينبغي له أن يكون مقبلاً على ذاته و صفاته و أفعاله
و أمره و نهيه و أحكامه و أسمائه.
و إذا ركع كان إقباله على عظمة ربه ، و إجلاله و عزه و
كبرسائه ، و لهذا شرع له في ركوعه أن يقول : " سبحان ربي العظيم " .
فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على حمد ربه و
الثناء عليه و تمجيده و عبوديته له و تفرده بالعطاء و المنع.
فإذا سجد ، كان إقباله على قربه ، و الدنو منه ، و
الخضوع له و التذلل له ، و الافتقار إليه و الانكسار بين يديه ، و التملق له.
فإذا رفع رأسه من السجود جثى على ركبتيه ، و كان إقباله
على غنائه وجوده ، و كرمه و شدة حاجته إليهنّ ، و تضرعه بين يديه و الانكسار ؛ أن
يغفر له و يرحمه ، و يعافيه و يهديه و يرزقه.
فإذا جلس في التشهد فله حال آخر ، و إقبال آخر يشبه حال
الحاج في طواف الوداع ، و استشعر قلبه الانصراف من بين يدي ربه إلى أشغال الدنيا و
العلائق و الشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه و قد ذاق قلبه التألم و
العذاب بها قبل دخوله في الصلاة ، فباشر قلبه روح القرب ، و نعيم الإقبال على الله
تعالى ، و عافيته منها و انقطاعها عنه مدة الصلاة ، ثم استشعر قلبه عوده إليها
بخروجه من حمى الصلاة ، فهو يحمل همَّ انقضاء الصلاة و فراغه منها و يقول : ليتها
اتصلت بيوم اللقاء.
و يعلم أنه ينصرف من مناجاة مَن كلّ السعادة في مناجته ،
إلى مناجاة من كان الأذى و الهم و الغم و النكد في مناجاته ، و لا يشعر بهذا و هذا
إلا من قلبه حي معمور بذكر الله و محبته ، و الأنس به ، و من هو عالم بما في
مناجاة الخلق و رؤيتهم ، و مخالطتهم من الأذى و النكد ، و ضيق الصدر و ظلمة القلب
، و فوات الحسنات ، و اكتساب السيئات ، و تشتيت الذهن عن مناجاة الله تعالى عز و
جل .
الكلام على التسليم
و لما كان العبد بين أمرين من ربه عز و جل :
أحدهما : حكم الرب عليه في أحواله كلها ظاهرا و باطنا ،
و اقتضاؤه من القيام بعبودية حكمه ، فإن لكلّ حكم عبودية تخصه ، أعني الحكم الكوني
القدري.
و الثاني : فعل ، يفعله العبد عبودية لربه ، و هو موجب
حكمه الديني الأمري.
و كلا الأمرين يوجبان بتسليم النفس إلى الله سبحانه ، و
لهذا اشتق له اسم الإسلام من التسليم ، فإنه لما سلّم لحكم ربه الديني الأمري ، و
لحكمه الكوني القدري ، بقيامه بعبودية ربه فيه لا باسترساله معه في الهوى ، و الشهوات
، و المعاصي ، و يقول : قدَّر عليّ استحق اسم الإسلام فقيل له : مسلم.
الشروع في بيان ثمرات الخشوع
و لما اطمأن قلبه بذكر الله ، و كلامه ، و محبته و
عبوديته سكن إلى ربه ، و قرب منه ، و قرَّت به عينه فنال الأمان بإيمانه و نال
السعادة بإحسانه ، و كان قيامه بهذين الأمرين أمراً ضرورياً اه لا حياة له ، و لا
فلاح و لا سعادة إلا به .
و لما كان ما بُلي به من النفس الأمارة ، و الهوى
المقتضي لمرادها و الطباع المطالبة ، و الشيطان المغوي ، يقتضون منه إضاعة حظه من
ذلك ، أو نقصانه ، اقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصلاة مُخلِفة عليه
ما ضاع عليه من ذلك ، رادَّة عليه ما ذهب منه ، مجددة له ما ذهب من عزمه و ما فقده
، و ما أخلِقَ من إيمانه ، و جعل بين كل صلاتين برزخا من الزمان حكمة و رحمة ،
ليُجمّ نفسه ، و يمحو بها ما يكتسبه من الدرن ، و جعل صورتها على صورة أفعاله ،
خشوعاً و خضوعاً و انقياداً و تسليماً و أعطى كل جارحة من جوارحه حظَّها من
العبودية ، و جعل ثمرتها و روحها إقباله على ربه فيها بكليته ، و جعل ثوابها و
محلها الدخول عليه تبارك و تعالى ، و التزين للعرض عليه تذكيراً بالعرض الأكبر
عليه يوم القيامة.
لكل شيء ثمرة و ثمرة الصلاة الإقبال على الله
و كما أن الصوم ثمرته تطهير النفس ، و ثمرة الزكاة تطهير
المال ، و ثمرة الحج وجوب المغفرة ، و ثمرة الجهاد تسليم النفس إليه ، التي
اشتراها سبحانه من العباد ، و جعل الجنة ثمنها ؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله
، و إقبال الله سبحانه على العبد ، و في الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذكر
من ثمرات الأعمال و جميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها.
و لهذا لم يقل النبي صلى الله عليه و سلم : جعلت قرة
عيني في الصوم ، و لا في الحج و العمرة ، و لا في شيء من هذه الأعمال و إنما قال :
" و جعلت قرة عيني في الصلاة
".
و تأمل قوله : " و جعلت قرة عيني في الصلاة "
و لم يقل : " بالصلاة " ، إعلاماً منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله كما
تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه و تقر عين الخائف بدخول في محل أنسه و أمنه ، فقرة
العين بالدخول في الشيء أم و أكمل مِت قرة العين به قبل الدخول فيه ، و لما جاء
إلى راحة القلب من تعبه و نصبه قال : " يا بلال أرحنا بالصلاة ".
لماذا الراحة بالصلاة ؟
أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل كما يستريح
التعبان إذا وصل إلى مأمنه و منزله و قرَّ فيه ، و سكن و فارق ما كان فيه من التعب
و النصب.
و تامل كيف قال : " أرحنا بالصّلاة " و لم يقل
: " أرحنا منها " ، كما يقوله المتكلف الكاره لها ، الذي لا يصليها إلا
على إغماض و تكلف ، فهو في عذاب ما دام فيها ، فإذا خرج منها وجد راحة قلبه و نفسه
؛ و ذلك أنَّ قلبه ممتلئ بغيره ، و الصلاة قاطعة له عن أشغاله و محبوباته الدنيوية
، فهو معذَّب بها حتى يخرج منها ، و ذلك ظاهر في أحواله فيها ، من نقرها ، و التفات
قلبه إلى غير ربه ، و ترك الطمأنينة و الخشوع فيها ، و لكن قد عَلِمَ أنَّه لا بدّ
له من أدائها ، فهو يؤديها على أنقص الوجوه ، قائل بلسانه ما ليس في قلبه و يقول
بلسان قلبه حتى نصلي فنستريح من الصلاة ، لا بها.
فهذا لونٌ و ذاك لونٌ آخر .
ففرق بين مَن كانت الصلاة لجوارحه قيداً ثقيلاً ، و
لقلبه سجناً ضيقا حرجاً ، و لنفسه عائقا ، و بين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيماً ، و
لعينه قرة و لجوارحه راحة ، و لنفسه بستاناً و لذة.
فالأول : الصلاة سجن لنفسه ، و تقييد لجوارحه عن التورط
في مساقط الهلكات ، و قد ينال بها التكفير و الثواب ، أو ينال من الرحمة بحسب
عبوديته لله تعالى فيها ، و قد يعاقب على ما نقص منها.
و القسم الآخر : الصلاة بستان له ، يجد فيها راحة قلبه ،
و قرّة عينه ، و لذَّة نفسه ، و راحة جوارحه ، و رياض روحه ، فهو فيها في نعيم
يتفكَّه ، و في نعيم يتقلَّب يوجب له القرب الخاص و الدنو ، و المنزلة العالية من
الله عزَّ و جل ، و يشارك الأولين في ثوابهم ، بل يختص بأعلاه ، و ينفرد دونهم بعلو
المنزلة و القربة ، التي هي قدر زائد على مجرد الثواب.
من فوائد الصلاة القرب من الله
و لهذا تَعِدُ الملوك من أرضاهم بالأجر و التقريب ، كما
قال السحرة لفرعون : { إنَّ لَنَا لأَجراً إن كُنَّا نحنُ الغالبينَ} [الشعراء:41] ،
{ قالَ نَعم و إنَّكم لَمنَ المُقرَّبين} [الأعراف : 114].
فوعدهم بالأجر و القرب ، و هو علو المنزلة عنده.
فالأول : مَثَله مثل عبد دخل الدار ، دار الملك ، و لكن
حيل بينه و بين رب الدار بسترٍ و حجاب ، فهو محجوب من وراء الستر فلذلك لم تقر
عينه بالنظر إلى صاحب الدار و النظر إليه ؛ لأنه محجوب بالشهوات ، و غيوم الهوى و
دخان النَفس ، و بخار الأماني ، فالقلب منه بذلك و بغيره عليل ، و النفس مُكبَّة على
ما نهواه ، طالبة لحظها العاجل.
فلهذا لا يريد أحد من هؤلاء الصلاة إلا على إغماض ، و
ليس له فيها راحة ، و لا رغبة و لا رهبة فهو في عذاب حتى يخرج منها إلى ما فيه قرة
عينه من هواه و دنياه.
و القسم الآخر :مَثَلُهُ كمثلِ رَجُلٍ دخَل دار الملك ،
و رفع الستر بينه وبينه ، فقرَّت عينه بالنظر إلى الملك ، بقيامه في خدمته و طاعته
، و قد أتحفه الملك بأنواع التحف ، و أدناه و قربه ، فهو لا يحب الانصراف من بين
يديه ، لما يجده من لذَّة القرب و قرة العين ، و إقبال الملك عليه ، و لذة مناجاة الملك
، و طيب كلامه ، و تذلُّله بين يديه ، فهو في مزيد مناجاة ، و التحف وافدة عليه
مِن كلِّ جهة ، و مكتن و قد اطمأنت نفسه ، و خشع قلبه لربه و جوارحه ، فهو في
سرورٍ و راحةٍ يعبد الله ، كأنه يراه ، و تجلَّى له في كلامه ، فأشد شيء عليه
انصرافه مِن بين يديه ، و الله الموفق المُرشد المعين ، فهذه إشارة و نبذة يسيرة
في ذوق الصلاة ، و سرّ من أسرارها و تجلٍّ من تجلياتها.
فصل
الفرق بين أهل السماع و أهل الصلاة
فنحن نناشد أهل السماع بالله الذي لا إله إلا هو ، هل
يجدون في سماعهم مثل هذا الذوق أو شيء منه؟ بل نناشدهم بالله ، هل يدعهم السماع
يجدون بعض هذا الذوق في صلاتهم أو جزءاً يسيراً منها؟
بل هل نَشَقُوا من هذا الذوق رائحة ، أو شموا منه شمة قط
؟
و نحن نحلف ، عنهم أن ذوقهم في صلاتهم و سماعهم صد هذا
الذوق ، و مشربهم ضد هذا المشرب.
و لولا خشية الإطالة لذكرنا نُبذة من ذوقهم في سماعهم ،
تدلُّ على ما ورائها . و لا يخفى على من له أدنى عقل ، و حياة قلب ، الفرق بين ذوق
الآيات ، و ذوق الأبيات ، و بين ذوق القيام بين يدي رب العالمين ، و القيام بين
يدي المغنين ، و بين ذوق اللذة و النعيم بمعاني ذكر الله تعالى و التلذذ بكلامه ،
و ذوق معاني الغناء ، و التطريب الذي هو رقية الزنا ، و قرآن الشيطان ، و التلذذ
بمضمونها فما اجتمع و الله الأمران في قلب إلا و طرد أحدهما الآخر ، و لا تجتمع
بنت رسول الله و بنت عدو الله عز و جل عند رجلٍ أبداً ، و الله سبحانه و تعالى
أعلم.
فصل
فمتى تجئ الأذواق الصحيحة المستقيمة إلى قلوب قد انحرفت
أشد الانحراف عن هدي نبيها صلى الله عليه و سلم ، و تركت ما كان عليه هو و أصحابه
و السلف الصالح ، فإنهم كانوا يجدون الأذواق الصحيحة المتصلة بالله عز و جل في
الأعمال : الصلاة المشروعة ، و في قراءة القرآن ، و تدبره و استماعه ، و أجر ذلك ،
و في مزاحمة العلماء بالركب ، و في الجهاد في سبيل الله ، و في الأمر بالمعروف و النهي
عن المنكر ، و في الحب في الله و البغض فيه ، و توابع ذلك ، فصار ذوق المتأخرين ـ
إلا من عصمه الله ـ في اليراع و الدف ، و المواصيل ، و الأغاني المطربة من الصور
الحسان و الرقص ، و الضجيج ، و ارتفاع الأصوات ، و تعطيل ما يحبه الله ، و يرضاه
من عبادته المخالفة لهوى النفس .فشتَّان بين ذوق الألجان و ذوق القرآن و بين ذوق
العود و الطنبور ، و ذوق المؤمنين و النُّور ، و بين ذوق الزَّمر و ذوق الزمر ، و
بين ذوق الناي و ذوق { اقتربت السَّاعة و انشق القمر } [القمر : 01] و بين ذوق
المواصيل و الشبَابات و ذوق يس و الصافات ، و بين ذوق غناء الشعر و ذوق سورة
الشعراء ، و بين ذوق سماع المكاء و التصدية و ذوق الأنبياء.
و بين الذوق على سماع تُذكر فيه العيون السود و الخصور و
القدود ، و ذوق سماع سورة يونس و هود ، و بين ذوق الواقفين في طاعة الشيطان على
أقدامهم صواف ، و ذوق الواقفين في خدمة الرحمن في سورة الأنعام و الأعراف ، و بين
ذوق الواجدين على طرب المثالث و المثاني ، و ذوق العارفين عند استماع القرآن
العظيم و السبع المثاني ، و بين ذوق أولى الأقدام الصفات في حظيرة سماع الشيطان ،
و ذوق أصحاب الأقدام الصافات بين يدي الرحمن.
سبحان الله هكذا تنقسم و المواجيد ، و يتميز خُلق
المطرودين مِن خُلق العبيد ، و سبحان الممد لهؤلاء و هؤلاء من عطائه و المفارق
بينهم في الكرامة يوم القيامة ، فوالله لا يجتمع محبو سماع قرآن الشيطان و محب
سماع كلام الرحمن في قلب رجل واحد أبداً.
كما لا تجتمع بنت عدو الله و بنت رسول الله عند رجل واحد
أبداً.
أنت القتيل بكلِّ مَن أحببته ** فاختر لنفسك في الهوى
مَن تصطفي
سماع أهل الحق
كان أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم ، إذا
اجتمعوا و اشتاقوا إلى حاد يحدو بهم ، ليطيب لهم السير ، و محرك يحرك قلوبهم إلى محبوبهم
، أمروا واحدا منهم يقرأ و الباقون يستمعون ، فتطمئن قلوبهم ، و تفيض عيونهم و
يجدون من حلاوة الإيمان أضعاف ما يجده السماعاتية من حلاوة السماع.
و كان عمر بن الخطاب إذا جلس عنده أبو موسى يقول : يا
أبا موسى ذكرنا ربنا ، فيأخذ أبو موسى ، في القراءة ، و تعمل تلك الأقوال في قلوب
القوم عملها ، و كان عثمان بن عفان يقول : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله.
و أي و الله ، كيف تشبع من كلام محبوبهم و فيه نهاية
مطلوبهم ؟ و كيف تشبع من القرآن ؟ و إنما فتحت به لا بالغناء و الألحان؟!
و إذا مَرضنا تداوينا بذكركُم ** فإن تركناه زادَ السقم
و المرض
و أصحاب الطرب و الألحان عن هذا كله بمعزل ، هم في وادي
و القوم في واد.
و الضبُّ و النُون قد يرجى التقاؤهما ** و ليس يُرجى
التقاء الوحي و القصب
فأين حال من يطرب على سماع الغناء و القصب بين المثالث و
المثاني و ذوقه و وجده إلى حال من يجد لذة السماع و روح الحال ، و ذوق طعم الإيمان
إذا سمع في حال إقبال قلبه على الله و أنسه به و شوقه إلى لقائه ، و استعداده لفهم
مراده من كلامه و تنزيله على حاله و أخذه بحضه الوافر منه قارئاً مجيداص حسن الصوت
و الأداء يقرأ :
بسم الله الرحمن الرحيم {طه ما أنزلنا عليك القُرآن
لتشقى إلاَّ تذكرةً لمن يخشَى تنزيلاً ممَّن خلقَ الأرضَ و السَّماوات العُلى
الرَّحمَن على العرش استوى له ما في السَّماوات و ما في الأرضِ و ما بينهما و ما
تحت الثَّرى و إن تجهر بالقولِ فإنَّه يَعلَمُ السِّرَّ و أخفى}[طه:1-7].
و أمثال هذا النمط من القرآن الذي إذا صادف حياة في قلب
صادق قد شمَّ رائحة المحبة و ذاق حلاوتها ، فقلبه لا يشبع من كلام محبوبه و لا يقر
و لا يطمئن إلا به ، كان موقعه من قلبه كموقع وصال الحبيب بعد طول الهجران ، وحلَّ
منه محلَّ الماء البارد في شدَّة الهجير من الظمأ ، فما ظنُّك بأرض حياتها بالغيث
أصابها وابله ، أحوج ما كانت إليه ، فأنبت فيها من كلِّ زوج بهيج ، قائم على سوقه
يشكره و يثني عليه.
فهل يستوي عند الله تعالى و ملائكته و رسوله و الصادقين
من عباده ، سماع هذا و سماع هذا ، و ذوق هذا و ذوق هذا ، فأهل سماع الغناء عبيد
نفوسهم الشهوانية ، يعلمون السماع طلباً للذة النفس و نيلاً لحظها الباطل ، فمن لم
يميز بين هذين السماعين ، و الذوقين فليسأل ربه بصدق ، رغبته إليه أن يحيي قلبه الميت
، و أن يجعل له نوراً يستضيء به في ظلمات جهله ، و أن يجعل له فرقاناً فيفرِّق به
بين الحق و الباطل ، فإنه قريب مجيب.
فصل
في التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع
و في السماع نكتة حقيقية أصلية يعرفها أهلها ، و يجدونها
بعد انقضائه و هي أنه قد علم الذائقون منهم أنه ما وجد صادق في السماع الشعري
وجداً ، و تحرك به إلا وجد بعد انقضائه و مفارقة المجلس قبضاً على قلبه ، و نوع استيحاش
، و أحس ببعده و انقطاعاً و ظلمة ، و لا يتفطن لهذا الأمر إلا من في قلبه أدنى
حياة و إلا : فما لجرح بميت إيلام ، و لو سئل عن سبب هذا لم يعرفه ؛ لأن قلبه
مغمور في السماع و ذوقه الباطل ؛ فهو غافل عن استخراج آلامه التي طرقته فيه ، و عن
أسباب فساد القلب منه ، و لو وزنه بالميزان العدل لعلِمَ من أين أتى ، فاسمع الآن
السبب الذي لأجله نشأ منه هذا القبض ، و هذه الوحشة ، و البعد .
لما كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجاً بحق
و باطل ، و مركباً من شهوة و شبهة ، و أحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح حظها
المحمود منه ، ممتزجاً بحظ النفس ، و الشيطان و الهوى فهو غير صافٍ ، و لا خالص ،
فامتزج نصيب الصادق فيه من الرحمن بنصيب الشيطان ، و اختلط حظ القلب بحظ النفس ،
هذا أحسن أحواله ، فإنه مؤسس على حظ النفس و الشيطان و هو فيه بذاته و هو نصيبه من
الرحمن فهو فيه بالعرض ، لوم يوضع عليه و لا أسس عليه فاختلط في وادي القلب الماء
اليسير الصافي بالماء الكثير الكدر ، و غلب الخبيث في الطيب ، أو تجاورا و التقت
الواردات الرحمانية ، و الواردات الشيطانية.
و المستمع الصاد لغلبة صدقه ، و ظهور أحكام القلب فيه
يخفى عليه ذلك الوقت أثر الكدر و لا يشعر به سيَّما مع سُكر الروح به ، و غيبتها
عن سوى مطلوبه ، فلما أفاق من سكره ، و فارق لذة السماع و طيبه ، وجد اللوث و
الكدر الذي هو حظ النفس ، و الشيطان ، و أثر جثوم الشيطان على قلبه فأثر فيه ذلك
الأثر قبضاً ، و وحشة ، و أحس به بعداً و كلما كان أصدق و أتم طلباً كان وجوده
لهذا أتم و أظهر فإن استعداده هو بحياة قلبه يوجب له الاحساس بهذا ، و لا يدري من
أين أتى ، و هذا له في الشاهد نظائر و أشباه منها :
إنَّ الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغالاً تاماً بمشاهدة محبوب
أو رؤية مخوف ، أو لذةٍ مَلَكت عليه حسّه و قلبه ، إذا أصابه في تلك الحالة ضربٌ ،
أو لسعٌ أو سببٌ مؤلم ، فأنه لا يكاد يشعر به ، فإذا فارقته تلك الحالة وجد منه
ألم حتى كأنه أصابه تلك الساعة ، فإنه كان في مانع يمنعه من الإحساس بالألم فلما
زال المانع أحس بالألم.
أهل الصدق إذا دخلوا في السماع الباطل
و لهذا كان بعض الصادقين إذا فارق السماع بادر إلى تجديد
التوبة و الاستغفار ، و أخذ في أسباب التداوي التي يُدفع بها موجب أسباب القبض و الوحشة
و البعد.
و هذا القدر إنما يعرفه أولوا الفقه في الطريق أصحاب الفِطَن
، المعتنون بتكميل نفوسهم ، و معرفة أدوائها و أدويتها و الله المستعان.
و لا ريب أن الصادق في سماع الأبيات قد يجد ذوقاً صحيحاً
إيمانياً ، و لكن ذلك بمنزلة من شرب عسلاً في إناء نجس.
و النفوس الصادقة ذوات الهمم العالية رفعت أنفسها عن
الشراب في ذلك الإناء تقذراً له ، ففرت منه لاستقامتها و طهارتها ، و علو همتها
فهي لا تشرب ذلك الشراب إلا في إناء يناسبه ، فإذا لم يجد إناء يناسبه صانت الشراب
عن وضعه في ذلك الإناء ، و انتظرت أن يليق به.
و غيرها من النفوس تضع ذلك الشراب في أي إناء انفق لها ؛
من عظام ميتة أو جلد كلب أو خنزير أو إناء خمر ، طالما ما شرب به الخمر ، أو لا
يستحي الغراب أن يشرب أطيب شراب و ألذه في هذه الآنية ؟
و لو جرَّد الصادق ذلك في حال سماعه لوجد ذوقه من ذلك ،
و لكن حلاوة العسل تغيب عنه نتنه و قذره و أثر قبحه على قلبه في تلك الحال ، فبعد
مفارقته يوجب له ذلك وحشةً و قبضاً ، هذا إذا كان صادقاً في حاله مع الله و كان
سماعه لله و بالله.
و أما إن كان كاذباً كان سماعه للذة نفسه و حظه فهو يشرب
النجاسات في الآنية القذرات و لا يحس بشيء مما ذكرناه ؛ لاستيلاء الهوى و النفس و
الشيطان عليه.
و أما صاحب السماع القرآني الذي تذوَّقه ، و شرب منه ،
فهو يشرب الشراب الطهور ، الطيب النظيف في أنظف إناءٍ ، و أطيبه ، و أطهره .
فالآنية ثلاثة : نظيف ، و نجس ، و مختلط.
و الشرابات ثلاثة : طاهر و نجس و ممزوج.
القلوب ثلاثةٌ
و القلوب ثلاثة : صحيح سليم فشرابه الشراب الطهور في
الإناء النظيف ، و سقيم مريض فشرابه الشراب النجس في الإناء القذر ، و قلب فيه
مادتان.
إيمان و نفاق ، فشرابه في إناء بحسب المادتين ، و قد جعل
الله لكل شيء قدراً ، فالعارف مَن نظر في الأسباب إلى غاياتها و نتائجها ، و تأمل مقاصدها
، و ما تؤول إليه.
و مَن عرف مقاصد الشرع في سدِّ الذرائع المفضية إلى
الحرام ، قطع بتحريم هذا السَّماع ، فإنَّ المرأة الأجنبية و سماع صوتها حرام ، و
كذلك الخلوة بها .
المحرمات في الشريعة
و محرمات الشريعة قسمان :
· قسم حُرِّم لما فيه من المفسدة.
· و قسم حُرِّم لأنه ذريعة إلى ما اشتمل عليه من المفسدة.
فمن نظر إلى صورة هذا المحرم ، و لم ينظر إلى ما هو
وسيلة إليه استشكل وجه التحريم
.
و الله سبحانه و تعالى أعلم ، و الحمد لله رب العالمين ،
و صلى الله و سلم على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه و سلم و على آله و أصحابه و
التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، بمنِّك و كرمك يا أرحم الراحمين.
قال محقِّقه ـ عفا الله عنه ـ :
"فقد منَّ الله عليَّ إذ وفقني و انتدبني لإخراج
هذا السفر الجليل ، بهذه الصورة ، معتمدا في إخراجه على ثلاثة نُسخٍ خطية من بلدان
ثلاث" [ص07] ، " و هي مصر و العراق و المملكة العربية السعودية.
و الكتاب لم يُنشر سابقاً بهذه الصورة أبداً و لا هو
مستلٌ من كتاب كبير .
و حقيقة هذه الرسالة هو أنها جزء من كتاب " مسألة
السَّماع " و الذي نشر أيضا بعنوان آخر ـ كما سيمر ـ و لكن هذا الجزء جاء
ناقصا عن المخطوطات ، و فيه تقديم و تأخير ، و فيه تحريف."[ص19]
ثم قال : " فوجدت أن نشر هذه الرسالة بشكل مستقل و
باسم مغاير هو عمل شرعي و مشروع ؛ لأسباب كثيرة أذكر منها :
أ- أنَّ هذه الرسالة بشكلها النهائي تختلف كثيرا عن
الجزء المطبوع في كتاب " الكلام على مسألة السماع".
ب- أنها لا تشبه أي كتاب أو رسالة منشورة سابقا ، فقد
استلت من كتب ابن القيم كثير من المؤلفات ، منها ما استل قديما ، و منها ما استله
المعاصرون .." [ص19]
و أضاف قائلاً : "فهذا الكتاب لا يعتبر كتاباً
مستلاً فهو لا يشبه أبداً المستلات السابقة سواء ما استل حديثا أو قديما ، بل هو
كتاب مستقل بذاته.
ج- كتاب " الكلام على مسألة السماع " ألفه ابن
القيم على مراحل فهو مكون من قسمين أو جزئين كما في مقدمة الكتاب [ص73] لمحققه
راشد بن عبد العزيز الحمد.
الجزء الأول من فصلين : الفصل الأول بيان حكم الغناء في
الشريعة.
الفصل الثاني : أن تعاطي السماع على وجه اللعب و الخلاعة
و على وجه للقربة و الطاعة.
و ختم هذا الفصل بالموازنة بين ذوق الصلاة و ذوق الغناء.
الجزء الثاني : و اشتمل على ذكر شبه المغنين و دحضها.
و يبدو لي أن ابن القيم أجاب عن هذه الفتيا في سنة [
740هـ ] ثم بعد فترة أضاف لها الجزء الثاني و دليل ذلك قول ابن القيم في بداية
الجزء الثاني [ ص233] : قال الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر
الحنبلي إمام الجوزية في تمام الجواب عن الفتيا الواردة في السماع سنة أربعين و
سبعمائة التي أجاب فيها العلماء على المذاهب الأربعة رضي الله عنهم أجمعين.
أي أن ابن القيم ألف كتابه على مرحلتين .
و رسالتنا هذه مستلة من نهاية الجزء الأول و فصله الأخير
بقي هناك سؤالاً لماذا كل هذه الاختلافات في النسخ بين
المطبوع و المخطوط ، و بين نفس المخطوط؟
و أقرب جواب وقع لي هو : أن ابن القيم نفسه استل هذه
الرسالة ثم نقحها أكثر من مرَّة.
و مع وقوع السقط و التحريف من النساخ ، و كثرة النسخ
المنقحة و المصححة من ابن القيم نفسه.
جعل هذا الاختلاف الكبير بين النسخ.
فهي إذن رسالة استلها ابن القيم نفسه و نقحها و أعاد
النظر فيها عدَّة مرات و أضاف و حذف و قدَّم و أخر . و أصبحت على شكلها الحالي .
هذه الأسباب الثلاثة هي التي دفعتني لنشر هذه الرسالة بشكل مستقل.[ص21-22].
انتهى
(1) ـ العناوين الجانبية من وضع مُحقِّق الرسالة
قال الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِدُخُولِ الْجَنَّة بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَة فَقَالَ : يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ اِقْتِصَارًا مِنْ بَعْض الرُّوَاة نَشَأَ مِنْ تَقْصِيره فِي الْحِفْظ وَالضَّبْط لَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ مَجِيئِهِ تَامًّا فِي رِوَايَة غَيْره
ب أوه
نوشيرك بريد /الثانوية العامة ٣ثانوي. /عقوبة من قتل نفسه؟ /وصف الجنة والحور العين /المدونة التعليمبة الثانية أسماء صلاح ٣.ثانوي عام /المقحمات ا. /قانون الحق الإلهي اا /القرانيون الفئة الضالة اوه /قواعد
وثوابت قرانية /مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها اوهو /المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة
/مدونة الصفحات المقتوحة /الخوف
من الله الواحد؟ /قانون ثبات سنة الله في الخلق /اللهم ارحم أبي وأمي والصالحين /السيرة النبوية /مدونة {استكمال} مدونة قانون الحق الإلهي /مدونة
الحائرين /الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها عياذا بالله الواحد. /لابثين فيها أحقابا/ المدونة
المفتوحة /نفحات من سورة الزمر / /ُمَّاهُ عافاكِ الله ووالدي ورضي عنكما ورحمكما /ترجمة
معان القران➌ /مصنفات اللغة العربية /كتاب الفتن علامات القيامة لابن كثير /قانون
العدل الإلهي /الفهرست /جامعة المصاحف /قانون
الحق الإلهي /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا /تعلم للتفوق بالثانوية العامة /مدونات
لاشين /الرافضة /قانون الحق الألهي ٣ /قانون الحق الإلهي٤. /حدود التعاملات العقائدية بين المسلمين
/المقحمات
اا. /منصة
الصلاة اا /مدونة تخفيف /وإن زني وسرق وشرب الخمر ;كيف براة المؤمن الصادق؟ /حمل المصحف
/تطبيق بنوك اسئلة الثانوية العامة{س وج}في
الكيمياء {3ثانوي} //الادلة الظنية المتشابهة التي اعتمد
النووي عليها في زعمه التأويل. //حديث أبي ذر ومدلولاته الكامنة والظاهرة
ثم موضوع الإستحلال /الادلة الظنية المتشابهة التي اعتمد النووي وأصحابه عليها
كانت
المرأة قبل نزول سورة الطلاق....فأصبحت المرأة فأصبحت بعد نزولها span>
فالسيئة عند الله تعالي
بماهية الكسب وتوقيت الإقلاع منها ** هل كَسَبَ السيئة ومات عليها عياذا بالله؟؟/أو سارع بعدها للتوبة بعد
الإقلاع عنها؟/وهل مات يوم مات وقد أحاطت به
خطيئته؟/أم سارع بعد ذنبه بالتوبة ثم
مات؟ فالتوبة تمنع الإحاطة وتكسر دائرتها/فلا يحدث مع التوبة استغراق
السيئة لحال صاحبها/وما دام الزاني لحظة زناه قد
انقشع عنه الإيمان وصار عليه كالظلة فإن أقلع عاد إليه/وما دام الزاني قد زنا زنا وانتهي
زناه ومات تائبا
/فهو
مات لا يشرك بالله شيئا إذن /ومادام قد مات تائبا لا يشرك بالله حتي ولو بقدر ذرة
من التعلق بالسيئة التي أنهي شأنها /بالتوبة/فماذا سيكون لهذا الذي زنا وانتهي زناه وعاد إلي
حظيرة التائبين؟ إلا الجنة/وهكذا وإن زنا وسرق وشرب الخمر رغم أنف أبي ذر/قلت المدون فالعبرة بما
مات عليه الزاني
/هل
مات تائبا أم مات مصرا علي ذنبه وقابل الله مغمورا في محيط سيئتة /إن فعل زنا وسرق وشرب الخمر كلها أفعال
ماضية تدل علي انتهاء زمان أحداثها والرجوع بصاحبها إلي الأصل الإيماني /وهكذا فالحديث تضمن تقديرا
محذوفا من سياقه اعتباره هو من مات لا يشرك بالله شيئا/ بموته علي
التوبة من زناه وسرقته وشربه للخمر بكونها حدثت ماضيا وألحقها بالتوبة/ دخل الجنة رغم أنف أبي ذر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق