الاثنين، 25 يوليو 2022

كتاب المنطق

المنطق
كتاب المنطق  
المنطق للمغفور{ان شاء الله}  له المجتهد المجدد الشيخ محمد رضا المظفر
مقدمة الطبعة الثالثة
تلاحقت في الفترة الأخيرة علينا الطلبات من جهات مختلفة ومن بينها بعضدور النشر المعروفة في العراق وخارجه لإعادة طبع كتاب (المنطق) للمرة الثالثة بعد أن نفذت وندرت نسخ الطبعتين السابقتين منه
واستجابة لهذه الطلبات التي جاءت مبعثاً لحاجة ماسة وملحة إلى الكتاب بعد أن أصبح محور الدراسة - لهذا العلم - في حلقات النجف الأشرف وغيرها من حلقات المراكز العلمية الدينية المعروفة في العراق ولبنان وإيران، وبعد أن أصبح كذلك محور الدراسة المنهجية لهذا العلم في بعض الكليات والمعاهد العالية الدينية وبخاصة كلية الفقه - مؤسسة المؤلف طاب مثواه - وكلية أصول الدين ببغداد.
أقول استجابة لذلك ... فقد عهدنا إلى إحدى دور النشر المعروفة في النجف وهي (دار النعمان) لإعادة طبع هذا الكتاب .. آملين بتوفيقه تعالى - بعد هذه العجالة - أن تصدر طبعة الكتاب القادمة بدراسة إضافية عن حياة عمنا المؤلف، طيب الله ثراه .. من حيث نشأته ومسلكه، ومن حيث جهوده المثمرة الرائدة في تطوير الدراسة الدينية في النجف وفي إرساء أول حركة منهجية علمية في هذا البلد المقدس. هذه الحركة التي تمثلت بإنشاء كلية منتدى النشر سابقا وبكلية الفقه لاحقاً، وبوضع مخطط لبناء جامعة منهجية كبرى تضم مختلف صنوف النعرفة الإسلامية.
والله تعالى نسأل أن يكون في عوننا جميعا للعمل على تحقيق رسالة المؤلف في دعم وتصعيد الحركة الفكرية الدينية وفي تطويرها والسير بها إلى الأفضل.
محمود المظفر
عضو جمعية منتدى النشر
4/6/1388 هـ
المدخل
بســـم اللـّه الرحمن الرحيم
الحاجة إلى المنطق:
خلق الله الانسان مفطوراً على النطق، وجعل اللسان آلة ينطق بها ولكن - مع ذلك - يحتاج إلى ما يقوم نطقه ويصلحه ليكون كلامه على طبق اللغة التي يتعلمها، من ناحية هيئات الألفاظ وموادها: فيحتاج - أولاً- إلى المدرب الذي يعوَّده على ممارستها، و - ثانياً - إلى قانون يرجع إليه يعصم لسانه عن الخطأ. وذلك هو النحو والصرف.
وكذلك خلق الله الانسان مفطوراً على التفكير بما منحه من قوة عاقلة مفكرة، لا كالعجماوات. ولكن - مع ذلك - نجده كثير الخطأ في أفكاره: فيحسب ما ليس بعلة علة، وما ليس بنتيجة لأفكاره نتيجة، وما ليس ببرهان برهاناَ، وقد يعتقد بأمر فاسد أو صحيح من مقدمات فاسدة... وهكذا. فهو- إذن - بحاجة إلى ما يصحح أفكاره ويرشده إلى طريق الاستنتاج الصحيح، ويدرِّبه على تنظيم أفكاره وتعديلها. وقد ذكروا أن (علم المنطق) هو الأداة التي يستعين بها الانسان على العصمة من الخطأ، وترشده إلى تصحيح أفكاره، فكما ان النحو والصرف لا يعلمان الانسان النطق وانما يعلمانه تصحيح النطق، فكذلك علم المنطق لا يعلم الانسان التفكير، بل يرشده إلى تصحيح التفكير.
إذن فحاجتنا إلى المنطق هي تصحيح أفكارنا. وما أعظمها من حاجة! ولو قلتم: ان الناس يدرسون المنطق ويخطئون في تفكيرهم فلا نفع فيه، قلنا لكم: ان الناس يدرسون علمي النحو والصرف، فيخطئون في نطقهم، وليس ذلك إلا لأن الدارس للعلم لا يحصل على ملكة العلم، أو لا يراعي قواعده عند الحاجة، أو يخطئ في تطبيقها، فيشذ عن الصواب.
تعريف علم المنطق:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ولذلك عرفوا علم المنطق بأنه (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر). فانظر إلى كلمة (مراعاتها)، واعرف السر فيها كما قدمناه، فليس كل من تعلم المنطق عصم عن الخطأ في الفكر، كما انه ليس كل من تعلم النحو عصم عن الخطأ في اللسان، بل لابد من مراعاة القواعد وملاحظتها عند الحاجة، ليعصم ذهنه أو لسانه.
المنطق آلة:
وانظر إلى كلمة (آلة) في التعريف وتأمل معناها، فتعرف ان المنطق انما هو من قسم العلوم الآلية التي تستخدم لحصول غاية، هي غير معرفة نفس مسائل العلم، فهو يتكفل ببيان الطرق العامة الصحيحة التي يتوصل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة، كما يبحث (علم الجبر) عن طرق حل المعادلات التي بها يتوصل الرياضي إلى المجهولات الحسابية.
وببيان أوضح: علم المنطق يعلمك القواعد العامة للتفكير الصحيح حتى ينتقل ذهنك إلى الأفكار الصحيحة في جميع العلوم، فيعلمك على أية هيئة وترتيب فكري تنتقل من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأمور الغائبة عنك - ولذا سموا هذا العلم (الميزان) و(المعيار) من الوزن والعيار، ووسموه بأنه (خادم العلوم) حتى علم الجبر الذي شبهنا هذا العلم به، يرتكز حل مسائله وقضاياه عليه.
فلابد لطالب هذا العلم من استعمال التمرينات لهذه أداة وإجراء عمليتها في أثناء الدراسة، شأن العلوم الرياضية والطبيعية.
العلم(*)
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تمهيد :
قلنا: إن الله تعالى خلق الانسان مفطوراً على التفكير مستعداً لتحصيل المعارف بما أعطي من قوة عاقلة مفكرة يمتاز بها عن العجماوات. ولا بأس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحث عنه، مقدمة لتعريف العلم ولبيان علاقة المنطق به، فنقول:
1- إذا ولد الإنسان يولد وهو خالي النفس من كل فكرة وعلم فعلي، سوى هذا الاستعداد الفطري. فإذا نشأ وأصبح ينظر ويسمع ويذوق ويشم ويلمس، نراه يحس بما حوله من الأشياء ويتأثر بها التأثر المناسب، فتنفعل نفسه بها، فنعرف أن نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها (العلم)، وهي العلم الحسي الذي هو ليس إلا حس النفس بالأشياء التي تنالها الحواس الخمس: (الباصرة، السامعة، الشامة، الذائقة، اللامسة). وهذا أول درجات العلم، وهو رأس المال لجميع العلوم التي يحصل عليها الانسان، ويشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواس أو بعضها.
2- ثم تترقى مدارك الطفل فيتصرف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده، فينسب بعضها إلى بعض: هذا أطول من ذاك، وهذا الضوء أنور من الآخر أو مثله... ويؤلف بعضها من بعض تأليفاً قد لا يكون له وجود في الخارج، كتأليفه لصور الأشياء التي يسمع بها ولا يراها، فيتخيل البلدة التي لم يرها، مؤلفة من الصور الذهنية المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان. وهذا هو (العلم الخيالي) يحصل عليه الانسان بقوة (الخيال)، وقد يشاركه فيه بعض الحيوانات.
3- ثم يتوسع في ادراكه إلى أكثر من المحسوسات، فيدرك المعاني الجزئية التي لا مادة لها ولا مقدار: مثل حب أبويه له وعداوة مبغضيه، وخوف الخائف، وحزن الثاكل، وفرح المستبشر... وهذا هو (العلم الوهمي) يحصل عليه الانسان كغيره من الحيوانات بقوة (الوهم). وهي - هذه القوة- موضع افتراق الانسان عن الحيوان، فيترك الحيوان وحده يدبر ادراكاته بالوهم فقط ويصرفها بما يستطيعه من هذه القوة والحول المحدود.
4- ثم يذهب - هو الانسان - في طريقه وحده متميزاً عن الحيوان بقوة العقل والفكر التي لا حد لها ولا نهاية، فيدير بها دفة مدركاته الحسية والخيالية والوهمية، ويميز الصحيح منها عن الفاسد، وينتزع المعاني الكلية من الجزئيات التي أدركها فيتعقلها، ويقيس بعضها على بعض، وينتقل من معلوم إلى آخر، ويستنتج ويحكم، ويتصرف ما شاءت له قدرته العقلية والفكرية. وهذا (العلم) الذي يحصل للانسان بهذه القوة هو العلم الأكمل الذي كان به الانسان انساناً، ولأجل نموه وتكامله وضعت العلوم وألفت الفنون، وبه تفاوتت الطبقات واختلفت الناس. وعلم المنطق وضع من بين العلوم، لأجل تنظيم تصرفات هذه القوة خوفاً من تأثير الوهم والخيال عليها. ومن ذهابها في غير الصراط المستقيم لها.
تعريف العلم:
وقد تسأل على أي نحو تحصل للانسان هذه الادراكات؟ ونحن قد قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الادراكات بعض الشيء، ولزيادة التوضيح نكلفك أن تنظر إلى شيء أمامك ثم تطبق عينيك موجهاً نفسك نحوه، فستجد في نفسك كأنك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه، وكذلك إذا سمعت دقات الساعة - مثلاً - ثم سددت أذنيك موجهاً نفسك نحوها، فستحس من نفسك كأنك لا تزال تسمعها... وهكذا في كل حواسك. إذا جربت مثل هذه الأمور ودققتها جيداً يسهل عليك أن تعرف أن الادراك أو العلم انما هو انطباع صور الأشياء في نفسك لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة. ولذلك عرفوا العلم بأنه:
«حضور صورة الشيء عند العقل».
أو فقل انطباعه في العقل، لا فرق بين التعبيرين في المقصود.
التصور والتصديق
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
إذا رسمنا مثلثاً تحدث في ذهنك صورة له، هي علمك بهذا المثلث، ويسمى هذا العلم (بالتصور). وهو تصور مجرد لا يستتبع جزماً واعتقاداً. وإذا تنبهت إلى زوايا المثلث تحدث لها أيضاً صورة في ذهنك. وهي أيضاً من (التصور المجرد). وإذا رسمت خطاً أفقياً وفوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان، فتنتقش صورة الخطين والزاويتين في ذهنك. وهي من (التصور المجرد) أيضاً.
وإذا أردت أن تقارن بين القائمتين ومجموع زوايا المثلث، فتسأل في نفسك هل هما متساويان؟ وتشك في تساويهما، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما وهي من (التصور المجرد) أيضاً.
فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة. وهي إدراكك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس واذعانها وتصديقها بالمطابقة. وهذه الحالة أيضاً (صورة المطابقة للواقع التي تعقلتها وأدركتها) هي التي تسمى (بالتصديق)، لأنها ادراك يستلزم تصديق النفس واذعانها، تسمية للشيء باسم لازمه الذى لا ينفك عنه.
إذن، ادراك زوايا المثلث، وادراك الزاويتين القائمتين، وادراك نسبة التساوي بينهما كلها (تصورات مجردة) لا يتبعها حكم وتصديق. أما ادراك ان هذا التساوي صحيح واقع مطابق للحقيقة في نفس الأمر فهو (تصديق).
وكذلك إذا أدركت ان النسبة في الخبر غير مطابقة للواقع، فهذا الادراك (تصديق).
(تنبيه) - إذا لاحظت ما مضى يظهر لك ان التصور والادراك والعلم كلها ألفاظ لمعنى واحد، وهو: حضور صور الأشياء عند العقل. فالتصديق أيضاً تصور ولكنه تصور يستتبع الحكم وقناعة النفس وتصديقها. وانما لأجل التمييز بين التصور المجرد أي غير المستتبع للحكم، وبين التصور المستتبع له، سمي الأول (تصوراً) لأنه تصور محض ساذج مجرد فيستحق اطلاق لفظ (التصور) عليه مجرداً من كل قيد، وسمي الثاني (تصديقاً) لأنه يستتبع الحكم والتصديق، كما قلنا تسمية للشيء باسم لازمه.
أما إذا قيل: (التصور المطلق) فانما يراد به ما يساوق العلم والادراك فيعم. كلا التصورين: التصور المجرد، والتصور المستتبع للحكم (التصديق)().
بماذا يتعلق التصديق والتصور؟
ليس للتصديق إلا مورد واحد يتعلق به، وهو النسبة في الجملة الخبرية عند الحكم والاذعان بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها. وأما التصور فيتعلق بأحد أربعة أمور:
1- (المفرد) من اسم، وفعل «كلمة»، وحرف «أداة».
2- (النسبة في الخبر) عند الشك فيها أو توهمها، حيث لا تصديق، كتصورنا لنسبة السكنى فى المريخ - مثلاً - عندما يقال: «المريخ مسكون».
3- (النسبة في الانشاء) من أمر ونهي وتمن واستفهام... إلى آخر الأمور الانشائية التي لا واقع لها وراء الكلام، فلا مطابقة فيها للواقع خارج الكلام، فلا تصديق ولا اذعان.
4- (المركب الناقص). كالمضاف والمضاف إليه، والشبيه بالمضاف، والموصول وصلته، والصفة والموصوف، وكل واحد من طرفي الجملة الشرطية... إلى آخر المركبات الناقصة التي لا يستتبع تصورها تصديقاً واذعانا: ففي قوله تعالى: ] إِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [ . الشرط (تعدوا نعمة الله) معلوم تصوري والجزاء (لا تحصوها) معلوم تصوري أيضاً. وانما كانا معلومين تصوريين لأنهما وقعا كذلك جزاءاً وشرطاً فى الجملة الشرطية وإلا ففي أنفسهما لولاها كل منهما معلوم تصديقي. وقوله (نعمة الله) معلوم تصوري مضاف. ومجموع الجملة معلوم تصديقي.
أقسام التصديق:
ينقسم التصديق إلى قسمين: يقين وظن، لأن التصديق هو ترجيح أحد طرفي الخبر وهما الوقوع واللاوقوع سواء كان الطرف الآخر محتملاً أو لا فان كان هذا الترجيح مع نفي احتمال الطرف الآخر بتاً فهو (اليقين)، وإن كان مع وجود الاحتمال ضعيفاً فهو (الظن).
وتوضيح ذلك: إنك إذا عرضت على نفسك خبراً من الأخبار فأنت لا تخلو عن احدى حالات أربع: أما انك لا تجوّز إلا طرفاً واحداً منه أما وقوع الخبر أو عدم وقوعه، وأما أن تجوّز الطرفين وتحتملهما معاً. والأول هو اليقين. والثاني وهو تجويز الطرفين له ثلاث صور، لأنه لا يخلو إما أن يتساوى الطرفان في الاحتمال أو يترجح أحدهما على الآخر: فإن تساوى الطرفان فهو المسمى (بالشك) وإن ترجح أحدهما فإن كان الراجح مضمون الخبر ووقوعه فهو (الظن) الذي هو من أقسام التصديق. وإن كان الراجح الطرف الآخر فهو (الوهم) الذي هو من أقسام الجهل وهو عكس الظن. فتكون الحالات أربعاً، ولا خامسة لها:
1- (اليقين) وهو أن تصدق بمضمون الخبر ولا تحتمل كذبه أو تصدق بعدمه ولا تحتمل صدقه، أي انك تصدق به على نحو الجزم وهو أعلى قسمي التصديق().
2- (الظن) وهو أن ترجح مضمون الخبر أو عدمه مع تجويز الطرف الآخر، وهو أدنى قسمي التصديق.
3- (الوهم) وهو أن تحتمل مضمون الخبر أو عدمه مع ترجيح الطرف الآخر.
4- (الشك) وهو أن يتساوى احتمال الوقوع واحتمال العدم.
(تنبيه) - يعرف مما تقدم أمران: (الأول) ان الوهم والشك ليسا من أقسام التصديق بل هما من أقسام الجهل، و(الثاني) أن الظن والوهم دائماً يتعاكسان: فانك إذا توهمت مضمون الخبر فأنت تظن بعدمه، وإذا كنت تتوهم عدمه فانك تظن بمضمونه، فيكون الظن لأحد الطرفين توهماً للطرف الآخر.
الجهل وأقسامه
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ليس الجهل إلا عدم العلم ممن له الاستعداد للعلم والتمكن منه، فالجمادات والعجماوات لا نسميها جاهلة ولا عالمة، مثل العمى، فانه عدم البصر فيمن شأنه أن يبصر، فلا يسمى الحجر أعمى. وسيأتي أن مثل هذا يسمى (عدم ملكة) ومقابله وهو العلم أو البصر يسمى (ملكة)، فيقال ان العلم والجهل متقابلان تقابل الملكة وعدمها.
والجهل على قسمين كما ان العلم على قسمين لأنه يقابل العلم فيبادله في موارده فتارة يبادل التصور أي يكون في مورده وأخرى يبادل التصديق أي يكون في مورده، فيصح بالمناسبة أن نسمي الأول (الجهل التصوري) والثاني (الجهل التصديقي).
ثم انهم يقولون ان الجهل ينقسم إلى قسمين: بسيط ومركب. وفي الحقيقة ان الجهل التصديقي خاصة هو الذي ينقسم إليهما، ولهذا اقتضى أن نقسم الجهل إلى تصوري وتصديقي ونسميهما بهذه التسمية. أما الجهل التصوري فلا يكون إلا بسيطاً كما سيتضح. ولنبين القسمين فنقول:
1- (الجهل البسيط) أن يجهل الانسان شيئاً وهو ملتفت إلى جهله فيعلم انه لا يعلم، كجهلنا بوجود السكان في المريخ، فانا نجهل ذلك ونعلم بجهلنا فليس لنا إلا جهل واحد.
2- (الجهل المركب) أن يجهل الانسان شيئاً وهو غير ملتفت إلى أنه جاهل به، بل يعتقد انه من أهل العلم به، فلا يعلم أنه لا يعلم، كأهل الاعتقادات الفاسدة الذين يحسبون أنهم عالمون بالحقائق، وهم جاهلون بها في الواقع.
ويسمون هذا مركباً ﻷنه يتركب من جهلين: الجهل بالواقع والجهل بهذا الجهل. وهو أقبح وأهجن القسمين. ويختص هذا في مورد التصديق ﻷنه لا يكون إلاّ مع الاعتقاد.
ليس الجهل المركب من العلم
يزعم بعضهم دخول الجهل المركب في العلم فيجعله من أقسامه، نظراً إلى أنه يتضمّن الاعتقاد والجزم وإن خالف الواقع. ولكنا إذا دقّقنا تعريف العلم نعرف ابتعاد هذا الزعم عن الصواب وانه أي هذا الزعم من الجهل المركب، ﻷن معنى (حضور صورة الشيء عند العقل) أن تحضر صورة نفس ذلك الشيء أما إذا حضرت صورة غيره بزعم أنها صورته فلم تحضر الشيء، بل صورة شيء آخر زاعماً انها هي. وهذا هو حال الجهل المركب، فلا يدخل تحت تعريف العلم. فمن يعتقد أن اﻷرض مسطحة لم تحضر عنده صورة النسبة الواقعية وهي أن اﻷرض كروية، وإنما حضرت صورة نسبة أخرى يتخيل أنها الواقع.
وفي الحقيقة ان الجهل المركب يتخيل صاحبه انه من العلم، ولكنه ليس بعلم. وكيف يصح أن يكون الشيء من أقسام مقابلة، والاعتقاد لا يغير الحقائق، فالشبح من بعيد الذي يعتقده الناظر إنساناً وهو ليس بإنسان لا يصيره الاعتقاد إنساناً على الحقيقة.
العلم ضروري ونظري
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ينقسم العلم بكلا قسميه التصوري والتصديقي إلى قسمين:
1- (الضروري) ويسمى أيضاً (البديهي) وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر، فيحصل بالاضطرار وبالبداهة التي هي المفاجأة والارتجال من دون توقف، كتصورنا لمفهوم الوجود والعدم ومفهوم الشيء وكتصديقنا بأن الكل أعظم من الجزء وبأن النقيضين لا يجتمعان وبأن الشمس طالعة وأن الواحد نصف الاثنين وهكذا...
2- و(النظري) وهو ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر، كتصورنا لحقيقة الروح والكهرباء، وكتصديقنا بأن الأرض ساكنة أو متحركة حول نفسها وحول الشمس ويسمى أيضاً (الكسبي).
(توضيح القسمين): ان بعض الأمور يحصل العلم بها من دون انعام نظر وفكر فيكفي في حصوله أن تتوجه النفس إلى الشيء بأحد أسباب التوجه الآتية من دون توسط عملية فكرية كما مثلنا، وهذا هو الذي يسمى (بالضروري أو البديهي) سواء أكان تصوراً أم تصديقاً. وبعضها لا يصل الانسان إلى العلم بها بسهولة، بل لابد من انعام النظر واجراء عمليات عقلية ومعادلات فكرية كالمعادلات الجبرية، فيتوصل بالمعلومات عنده إلى العلم بهذه الأمور (المجهولات)، ولا يستطيع أن يتصل بالعلم بها رأساً من دون توسيط هذه المعلومات وتنظيمها على وجه صحيح، لينتقل الذهن منها إلى ما كان مجهولاً عنده، كما مثلنا. وهذا هو الذي يسمى (بالنظري أو الكسبي) سواء كان تصوراً أو تصديقاً.
توضيح في الضروري:
قلنا: ان العلم الضروري هو الذي لا يحتاج إلى الفكر وانعام النظر. وأشرنا إلى أنه لابد من توجه النفس بأحد أسباب التوجه. وهذا ما يحتاج إلى بعض البيان:
فان الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الانسان، لفقد سبب توجه النفس، فلا يجب أن يكون الانسان عالماً بجميع البديهيات، ولا يضر ذلك ببداهة البديهي. ويمكن حصر أسباب التوجه في الأمور التالية:ـ
1- (الانتباه). وهذا السبب مطرد في جميع البديهيات، فالغافل قد يخفى عليه أوضح الواضحات.
2- (سلامة الذهن) - وهذا مطرد أيضاً، فان من كان سقيم الذهن قد يشك في أظهر الأمور أو لا يفهمه. وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي أو مرض عارض أو تربية فاسدة.
3- (سلامة الحواس)، وهذا خاص بالبديهيات المتوقفة على الحواس الخمس وهي المحسوسات. فان الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيراً من العلم بالمنظورات وكذا الأصم في المسموعات وفاقد الذائقة في المذوقات. وهكذا.
4- (فقدان الشبهة). والشبهة: أن يؤلف الذهن دليلاً فاسداً يناقض بديهة من البديهيات ويغفل عما فيه من المغالطة، فيشك بتلك البديهة أو يعتقد بعدمها. وهذا يحدث كثيراً في العلوم الفلسفية والجدليات. فان من البديهيات عند العقل ان الوجود والعدم نقيضان وان النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولكن بعض المتكلمين دخلت عليه الشبهة في هذه البديهة، فحسب ان الوجود والعدم لهما واسطة وسماها (الحال)، فهما يرتفعان عندها. ولكن مستقيم التفكير إذا حدث له ذلك وعجز عن كشف المغالطة يردها ويقول انها (شبهة في مقابل البديهة).
5- (عملية غير عقلية)، لكثير من البديهيات، كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب في المتواترات، وكالتجربة في التجربيات، وكسعي الانسان لمشاهدة بلاد أو استماع صوت في المحسوسات... وما إلى ذلك. فاذا احتاج الانسان للعلم بشيء إلى تجربة طويلة، مثلاً، وعناء عملي، فلا يجعله ذلك علماً نظرياً ما دام لا يحتاج إلى الفكر والعملية العقلية.
تعريف النظر أو الفكر:
نعرف مما سبق ان النظر - أو الفكر - المقصود منه «اجراء عملية عقلية في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب» والمطلوب هو العلم بالمجهول الغائب. وبتعبير آخر أدق ان الفكر هو:
«حركة العقل بين المعلوم والمجهول».
وتحليل ذلك: أن الانسان إذا واجه بعقله المشكل (المجهول) وعرف انه من أي أنواع المجهولات هو، فزع عقله إلى المعلومات الحاضرة عنده المناسبة لنوع المشكل، وعندئذ يبحث فيها ويتردد بينها بتوجيه النظر إليها، ويسعى إلى تنظيمها في الذهن حتى يؤلف المعلومات التي تصلح لحل المشكل، فإذا استطاع ذلك ووجد ما يؤلفه لتحصيل غرضه تحرك عقله حينئذ منها إلى المطلوب، أعني معرفة المجهول وحل المشكل.
فتمر على العقل - إذن - بهذا التحليل خمسة أدوار:
1- مواجهة المشكل (المجهول).
2- معرفة نوع المشكل، فقد يواجه المشكل ولا يعرف نوعه.
3- حركة العقل من المشكل إلى المعلومات المخزونة عنده.
4- حركة العقل - ثانياً - بين المعلومات، للفحص عنها وتأليف ما يناسب المشكل ويصلح لحله.
5- حركة العقل - ثالثاً - من المعلوم الذي استطاع تأليفه مما عنده إلى المطلوب.
وهذه الأدوار الثلاثة الأخيرة أو الحركات الثلاث هي الفكر أو النظر، وهذا معنى حركة العقل بين المعلوم والمجهول. وهذه الأدوار الخمسة قد تمر على الانسان في تفكيره وهو لا يشعر بها، فان الفكر يجتازها غالباً بأسرع من لمح البصر، على انها لا يخلو منها انسان في أكثر تفكيراته، ولذا قلنا إن الانسان مفطور على التفكير.
نعم من له قوة الحدس يستغني عن الحركتين الأوليين، وانما ينتقل رأساً بحركة واحدة من المعلومات إلى المجهول. وهذا معنى (الحدس)، فلذلك يكون صاحب الحدس القوي أسرع تلقياً للمعارف والعلوم، بل هو من نوع الألهام وأول درجاته. ولذلك أيضاً جعلوا القضايا (الحدسيات) من أقسام البديهيات، لأنها تحصل بحركة واحدة مفاجئة من المعلوم إلى المجهول عند مواجهة المشكل، من دون كسب وسعي فكري، فلم يحتج إلى معرفة نوع المشكل ولا إلى الرجوع إلى المعلومات عنده وفحصها وتأليفها.
ولأجل هذا قالوا: ان قضية واحدة قد تكون بديهية عند شخص نظرية عند شخص آخر. وليس ذلك إلا لأن الأول عنده من قوة الحدس ما يستغني به عن النظر والكسب، أي ما يستغني به عن الحركتين الأوليين، دون الشخص الثاني فانه يحتاج إلى هذه الحركات الثلاث لتحصيل المعلوم بعد معرفة نوع المشكل.
خلاصة تقسيم العلم:
العلم
تصور تصديق
ضروري نظري ضروري نظري
تمرينات
1- لماذا لم يكن الوهم والشك من أقسام التصديق؟
2- اذكر خمس قضايا بديهية من عندك مع بيان ما تحتاج إليه كل منها من أسباب توجه النفس الخمسة.
3- إذا علمت بأن في الغرفة شيئاً ما، وبعد الفحص عنه كثيراً وجدته فعلمت انه فارة مختفية، فهذا العلم الحاصل بعد البحث ضروري أم نظري؟
4- هل اتفق ان حصلت لك شبهة في مقابل بديهة؟ اذكرها.
5- ما الفرق بين الفكر والحدس؟
أبحاث المنطق:
علم المنطق انما يحتاج إليه لتحصيل العلوم النظرية، لأنه هو مجموعة قوانين الفكر والبحث. أما الضروريات فهي حاصلة بنفسها، بل هي رأس المال الأصلي لكاسب العلوم يكتسب به ليربح المعلومات النظرية المفقودة عنده. فإذا اكتسب مقداراً من النظريات زاد رأس ماله بزيادة معلوماته، فيستطيع أن يكتسب معلومات أكثر، لأن ربح التاجر عادة يزيد كلما زادت ثروته المالية. وهكذا طالب العلم كلما اكتسب تزيد ثروته العلمية وتتسع تجارته، فيتضاعف ربحه. بل تاجر العلم مضمون الربح بالاكتساب لا كتاجر المال.
وعلم المنطق يبحث عن كيفية تأليف المعلومات المخزونة عنده، ليتوصل بها إلى الربح بتحصيل المجهولات واضافتها إلى ما عنده من معلومات: فيبحث تارة عن المعلوم التصوري ويسمى (المعرِّف)، للتوصل به إلى العلم بالمجهول التصوري، ويبحث أخرى عن المعلوم التصديقي ويسمى (الحجة) ليتوصل به إلى العلم بالمجهول التصديقي.
والبحث عن الحجة بنحوين: تارة من ناحية هيئة تأليفها، وأخرى من ناحية مادة قضاياها، وهو بحث الصناعات الخمس. ولكل من البحث عن المعرف والحجة مقدمات. فأبحاث المنطق نضعها في ستة أبواب:
الباب الأول - في مباحث الألفاظ
الباب الثاني - في مباحث الكلي الجزء الأول
الباب الثالث - في المعرف وتلحق به القسمة
الباب الرابع - في القضايا وأحكامها
الباب الخامس - في الحجة وهيئة تأليفها الجزء الثاني
الباب السادس - في الصناعات الخمس الجزء الثالث
=============
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
كتاب المنطق
فهرسة الكتاب
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/home.jpg
الباب الأول
مباحث الألفاظ
الحاجة إلى مباحث الألفاظ:
لا شك ان المنطقي لا يتعلق غرضه الأصلي إلاّ بنفس المعاني، ولكنه لا يستغني عن البحث عن أحوال الألفاظ توصلاً إلى المعاني، لأنه من الواضح أن التفاهم مع الناس ونقل الأفكار بينهم لا يكون غالباً إلاّ بتوسط لغة من اللغات. والألفاظ قد يقع فيها التغيير والخلط فلا يتم التفاهم بها. فاحتاج المنطقي إلى أن يبحث عن أحوال اللفظ من جهة عامة، ومن غير اختصاص بلغة من اللغات، اتماماً للتفاهم، ليزن كلامه وكلام غيره بمقياس صحيح.
وقلنا: (من جهة عامة)، لأن المنطق علم لا يختص بأهل لغة خاصة، وإن كان قد يحتاج إلى البحث عما يختص باللغة التي يستعملها المنطقي فيما قل: كالبحث عن دلالة لام التعريف - في لغة العرب - على الاستغراق، وعن كان وأخواتها في انها من الأدوات والحروف، وعن أدوات العموم والسلب... وما إلى ذلك. ولكنه قد يستغني عن ادخالها في المنطق اعتماداً على علوم اللغة.
هذه حاجته من أجل التفاهم مع غيره. وللمنطقي حاجة أخرى() إلى مباحث الألفاظ من أجل نفسه، هي أعظم وأشد من حاجته الأولى، بل لعلها هي السبب الحقيقي لادخال هذه الأبحاث في المنطق.
ونستعين على توضيح مقصودنا بذكر تمهيد نافع، ثم نذكر وجه حاجة الانسان في نفسه إلى معرفة مباحث الألفاظ نتيجة للتمهيد، فنقول.
(التمهيد) - ان للأشياء أربعة وجودات: وجودان حقيقيان ووجودان اعتباريان جعليان:
الأول - (الوجود الخارجي)، كوجودك ووجود الأشياء التي حولك ونحوها، من أفراد الانسان والحيوان والشجر والحجر والشمس والقمر والنجوم، إلى غير ذلك من الوجودات الخارجية التي لا حصر لها.
الثاني - (الوجود الذهني)، وهو علمنا بالأشياء الخارجية وغيرها من المفاهيم. وقد قلنا سابقاً: ان للانسان قوة تنطبع فيها صور الأشياء. وهذه القوة تسمى الذهن. والانطباع فيها يسمى الوجود الذهني الذي هو العلم.
وهذان الوجودان هما الوجودان الحقيقيان. لأنهما ليسا بوضع واضع ولا باعتبار معتبر.
الثالث - (الوجود اللفظي). بيانه: ان الانسان لما كان اجتماعياً بالطبع ومضطراً للتعامل والتفاهم مع باقي أفراد نوعه، فانه محتاج إلى نقل أفكاره إلى الغير وفهم أفكار الغير. والطريقة الأولية للتفهيم هي أن يحضر الأشياء الخارجية بنفسها، ليحس بها الغير باحدى الحواس فيدركها. ولكن هذه الطريقة من التفهيم تكلفه كثيراً من العناء، على أنها لا تفي بتفهيم أكثر الأشياء والمعاني، إما لأنها ليست من الموجودات الخارجية أو لأنها لا يمكن احضارها.
فألهم الله تعالى الانسان طريقة سهلة سريعة في التفهيم، بأن منحه قوة على الكلام والنطق بتقاطيع الحروف ليؤلف منها الألفاظ. وبمرور الزمن دعت الانسان الحاجة - وهي أم الاختراع - إلى أن يضع لكل معنى يعرفه ويحتاج إلى التفاهم عنه لفظاً خاصاً. ليحضر المعاني بالألفاظ بدلاً من احضارها بنفسها.
ولأجل أن تثبت في ذهنك أيها الطالب هذه العبارة أكررها لك: (ليحضر المعاني بالألفاظ بدلاً من احضارها بنفسها). فتأملها جيداً، واعرف ان هذا الاحضار انما يتمكن الانسان منه بسبب قوة ارتباط اللفظ بالمعنى وعلاقته به في الذهن. وهذا الارتباط القوي ينشأ من العلم بالوضع وكثرة الاستعمال. فاذا حصل هذا الارتباط القوي لدى الذهن يصبح اللفظ عنده كأنه المعنى والمعنى كأنه اللفظ أي يصبحان عنده كشيء واحد، فإذا أحضر المتكلم اللفظ فكأنما أحضر المعنى بنفسه للسامع، فلا يكون فرق لديه بين أن يحضر خارجاً نفس المعنى وبين أن يحضر لفظه الموضوع له، فان السامع في كلا الحالين ينتقل ذهنه إلى المعنى. ولذا قد ينتقل السامع إلى المعنى ويغفل عن اللفظ وخواصه كأنه لم يسمعه مع أنه لم ينتقل إليه إلا بتوسط سماع اللفظ.
وزبدة المخض ان هذا الارتباط يجعل اللفظ والمعنى كشيء واحد، فإذا وجد اللفظ فكأنما وجد المعنى. فلذا نقول: «وجود اللفظ وجود المعنى». ولكنه وجود لفظي للمعنى، أي ان الموجود حقيقة هو اللفظ لا غير، وينسب وجوده إلى المعنى مجازاً، بسبب هذا الارتباط الناشئ من الوضع. والشاهد على هذا الارتباط والاتحاد انتقال القبح والحسن من المعنى إلى اللفظ وبالعكس: فإن اسم المحبوب من أعذب الألفاظ عند المحب، وإن كان في نفسه لفظاً وحشياً ينفر منه السمع واللسان. واسم العدو من أسمج الألفاظ وإن كان في نفسه لفظاًمستملحاً. وكلما زاد هذا الارتباط زاد الانتقال، ولذا نرى اختلاف القبح في الألفاظ المعبر بها عن المعانى القبيحة، نحو التعابير عن عورة الانسان، فكثير الاستعمال أقبح من قليله. والكناية أقل قبحاً. بل قد لا يكون فيها قبح كما كنى القرآن الكريم بالفروج.
وكذا رصانة التعبير وعذوبته يعطي جمالاً في المعنى لا نجده في التعبير الركيك الجافي، فيضفي جمال اللفظ على المعنى جمالاً وعذوبة.
الرابع - (الوجود الكتبي). شرحه: ان الألفاظ وحدها لا تكفي للقيام بحاجات الانسان كلها، لأنها تختص بالمشافهين. أما الغائبون والذين سيوجدون، فلابد لهم من وسيلة أخرى لتفهيمهم، فالتجأ الانسان أن يصنع النقوش الخطية لاحضار ألفاظه الدالة على المعاني، بدلاً من النطق بها، فكان الخط وجوداً للفظ. وقد سبق أن قلنا: أن اللفظ وجود للمعنى، فلذا نقول: «ان وجود الخط وجود للفظ ووجود للمعنى تبعاً». ولكنه وجود كتبي للفظ والمعنى، أي أن الموجود حقيقة هو الكتابة لا غير، وينسب الوجود إلى اللفظ والمعنى مجازاً بسبب الوضع، كما ينسب وجود اللفظ إلى المعنى مجازاً بسبب الوضع.
إذن الكتابة تحضر الألفاظ، والألفاظ تحضر المعاني في الذهن، والمعاني الذهنية تدل على الموجودات الخارجية.
فاتضح ان الوجود اللفظي والكتبي (وجودان مجازيان اعتباريان للمعنى) بسبب الوضع والاستعمال.
النتيجة:
لقد سمعت هذا البيان المطول - وغرضنا أن نفهم منه الوجود اللفظي، وقد فهمنا ان اللفظ والمعنى لأجل قوة الارتباط بينهما كالشيء الواحد، فإذا أحضرت اللفظ بالنطق فكأنما أحضرت المعنى بنفسه.
ومن هنا نفهم كيف يؤثر هذا الارتباط على تفكير الانسان بينه وبين نفسه، ألا ترى نفسك عندما تحضر أي معنى كان في ذهنك لابد أن تحضر معه لفظه أيضاً، بل أكثر من ذلك تكون انتقالاتك الذهنية من معنى إلى معنى بتوسط احضارك لألفاظها في الذهن: فانا نجد أنه لا ينفك غالباً تفكيرنا في أي أمر كان عن تخيل الألفاظ وتصورها كأنما نتحدث إلى نفوسنا ونناجيها بالألفاظ التي نتخيلها، فنرتب الألفاظ في أذهاننا، وعلى طبقها نرتب المعاني وتفصيلاتها، كما لو كنا نتكلم مع غيرنا.
قال الحكيم العظيم الشيخ الطوسي في شرح الاشارات: «الانتقالات الذهنية قد تكون بألفاظ ذهنية، وذلك لرسوخ العلاقة المذكورة - يشير إلى علاقة اللفظ بالمعنى - في الأذهان».
فإذا أخطأ المفكر في الألفاظ الذهنية أو تغيرت عليه أحوالها يؤثر ذلك على أفكاره وانتقالاته الذهنية، للسبب المتقدم.
فمن الضروري لترتيب الأفكار الصحيحة لطالب العلوم أن يحسن معرفة أحوال الألفاظ من وجهة عامة، وكان لزاماً على المنطقي أن يبحث عنها مقدمة لعلم المنطق واستعانة بها على تنظيم أفكاره الصحيحة.
الدلالة
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تعريف الدلالة:
إذا سمعنا طرقة بابك ينتقل ذهنك - لا شك - إلى أن شخصاً على الباب يدعوك. وليس ذلك إلا لأن هذه الطرقة كشفت عن وجود شخص يدعوك. وإن شئت قلت: انها (دلت) على وجوده.
إذن، طرقة الباب (دال)، ووجود الشخص الداعي (مدلول) وهذه الصفة التي حصلت للطرقة (دلالة).
وهكذا، كل شيء إذا علمت بوجوده، فنتقل ذهنك منه إلى وجود شيء آخر - نسميه (دالاً)، والشيء الآخر (مدلولاً)، وهذه الصفة التى حصلت له (دلالة).
فيتضح من ذلك ان الدلالة هي: «كون الشيء بحالة إذا علمت بوجوده انتقل ذهنك إلى وجود شيء آخر».
أقسام الدلالة:
لا شك ان انتقال الذهن من شيء إلى شيء لا يكون بلا سبب. وليس السبب إلا رسوخ العلاقة بين الشيئين في الذهن. وهذه العلاقة الذهنية أيضاً لها سبب. وسببها العلم بالملازمة بين الشيئين خارج الذهن. ولاختلاف هذه الملازمة من كونها ذاتية أو طبعية أو بوضع واضع وجعل جاعل قسموا الدلالة إلى أقسام ثلاثة: عقلية وطبيعية ووضعية.
1- (الدلالة العقلية) - وهي فيما إذا كان بين الدال والمدلول ملازمة ذاتية في وجودهما الخارجي، كالأثر والمؤثر. فإذا علم الانسان - مثلاً - ان ضوء الصباح أثر لطلوع قرص الشمس، ورأى الضوء على الجدار ينتقل ذهنه إلى طلوع الشمس قطعاً، فيكون ضوء الصبح دالاً على الشمس دلالة عقلية. ومثله إذا سمعنا صوت متكلم من وراء جدار فعلمنا بوجود متكلم ما.
2- (الدلالة الطبعية): وهي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئين ملازمة طبعية، أعني التي يقتضيها طبع الانسان، وقد يتخلف ويختلف باختلاف طباع الناس، لا كالأثر بالنسبة إلى المؤثر الذي لا يتخلف ولا يختلف.
وأمثلة ذلك كثيرة، فمنها اقتضاء طبع بعض الناس أن يقول: (آخ) عند الحس بالألم، و(آه) عند التوجع، و(اف) عند التأسف والتضجر. ومنها اقتضاء طبع البعض أن يفرقع أصابعه أو يتمطى عند الضجر والسأم، أو يعبث بما يحمل من أشياء أو بلحيته أو بأنفه أو يضع اصبعه بين أعلى اذنه وحاجته عند التفكير، أو يتثأب عند النعاس.
فإذا علم الانسان بهذه الملازمات فانه ينتقل ذهنه من أحد المتلازمين إلى الآخر، فعندما يسمع بكلمة (آخ) ينتقل ذهنه إلى أن متكلمها يحس بالألم. وإذا رأى شخصاً يعبث بمسبحته يعلم بأنه في حالة تفكير... وهكذا.
3- (الدلالة الوضعية): وهي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئين تنشأ من التواضع والاصطلاح على أن وجود أحدهما يكون دليلاً على وجود الثاني، كالخطوط التي اصطلح على أن تكون دليلاً على الألفاظ، وكاشارات الأخرس واشارات البرق واللاسلكي والرموز الحسابية والهندسية ورموز سائر العلوم الأخرى، والألفاظ التي جعلت دليلاً على مقاصد النفس.
فإذا علم الانسان بهذه الملازمة وعلم بوجود الدال ينتقل ذهنه إلى الشيء المدلول.
أقسام الدلالة الوضعية:
وهذه الدلالة الوضعية تنقسم إلى قسمين():
أ - (الدلالة اللفظية): إذا كان الدال الموضوع لفظاً.
ب - (الدلالة غير اللفظية): إذا كان الدال الموضوع غير لفظ، كالاشارات والخطوط، والنقوش وما يتصل بها من رموز العلوم، واللوحات المنصوبة في الطرق لتقدير المسافات أو لتعيين اتجاه الطريق إلى محل أو بلدة... ونحو ذلك.
الدلالة اللفظية
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تعريفها:
من البيان السابق نعرف أن السبب في دلالة اللفظ على المعنى هو العلقة الراسخة في الذهن بين اللفظ والمعنى. وتنشأ هذه العلقة - كما عرفت - من الملازمة الوضعية بينهما عند من يعلم بالملازمة. وعليه يمكننا تعريف الدلالة اللفظية بأنها:
«هي كون اللفظ بحالة ينشأ من العلم بصدوره من المتكلم العلم بالمعنى المقصود به».
أقسامها:
المطابقية. التضمنية. الالتزامية
يدلّ اللفظ على المعنى من ثلاثة أوجه متباينة:
(الوجه الأول) - المطابقة: بأن يدل اللفظ على تمام معناه الموضوع له ويطابقه، كدلالة لفظ الكتاب على تمام معناه، فيدخل فيه جميع أوراقه وما فيه من نقوش وغلاف، وكدلالة لفظ الانسان على تمام معناه، وهو الحيوان الناطق. وتسمى الدلالة حينئذ (المطابقية) أو (التطابقية)، لتطابق اللفظ والمعنى.
وهي الدلالة الأصلية في الألفاظ التي لأجلها مباشرة وضعت لمعانيها.
(الوجه الثاني) - التضمن: بأن يدل اللفظ على جزء معناه الموضوع له الداخل ذلك الجزء في ضمنه، كدلالة لفظ الكتاب على الورق وحده أو الغلاف. وكدلالة لفظ الانسان على الحيوان وحده أو الناطق وحده... فلو بعت الكتاب يفهم المشتري دخول الغلاف فيه، ولو أردت بعد ذلك أن تستثني الغلاف لاحتج عليك بدلالة لفظ الكتاب على دخول الغلاف. وتسمى هذه الدلالة (التضمنية). وهي فرع عن الدلالة المطابقية، لأن الدلالة على الجزء بعد الدلالة على الكل.
(الوجه الثالث) الالتزام: بأن يدل اللفظ على معنى خارج عن معناه الموضوع له لازم له يستتبعه استتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته، كدلالة لفظ الدواة على القلم. فلو طلب منك أحد أن تأتيه بدواة لم ينص على القلم فجئته بالدواة وحدها لعاتبك على ذلك محتجاً بأن طلب الدواة كافٍ في الدلالة على طلب القلم. وتسمى هذه الدلالة (الالتزامية).
وهي فرع أيضاً عن الدلالة المطابقية لأن الدلالة على ما هو خارج المعنى بعد الدلالة على نفس المعنى.
شرط الدلالة الالتزامية:
يشترط في هذه الدلالة أن يكون التلازم بين معنى اللفظ والمعنى الخارج اللازم تلازماً ذهنياً، فلا يكفي التلازم في الخارج فقط من دون رسوخه في الذهن وإلا لما حصل انتقال الذهن.
ويشترط - أيضاً - أن يكون التلازم واضحاً بيناً، بمعنى أن الذهن إذا تصور معنى اللفظ ينتقل إلى لازمه بدون حاجة إلى توسط شيء آخر().
الخلاصة:
الدلالة
عقلية طبعية وضعية
لفظية غيرلفظية
مطابقية تضمنية التزامية
تمرينات
(1) بيّن أنواع الدلالة فيما يأتي:
أ - دلالة عقرب الساعة على الوقت.
ب - دلالة صوت السعال على ألم الصدر.
ج - دلالة قيام الجالسين على احترام القادم.
د - دلالة حمرة الوجه على الخجل وصفرته على الوجل.
هـ - دلالة حركة رأس المسؤول إلى الأسفل على الرضا وإلى الأعلى على عدم الرضا.
(2) اصنع جدولاً للدلالات الثلاث (العقلية وأختيها) وضع في كل قسم ما يدخل فيه من الأمثلة الآتية:
أ - دلالة الصعود على السطح على وجود السلم.
ب - دلالة فقدان حاجتك على أخذ سارق لها.
ج - دلالة الأنين على الشعور بالألم.
د- دلالة كثرة الكلام على الطيش وقلته على الرزانة.
هـ - دلالة الخط على وجود الكاتب.
و - دلالة سرعة النبض على الحمى.
ز – دلالة صوت المؤذن على دخول وقت الصلاة.
ح – دلالة التبختر في المشي أو تصعير الخد على الكبرياء.
ط – دلالة صفير القطار على قرب حركته أو قرب وصوله.
ي – دلالة غليان الماء على بلوغ الحرارة فيه درجة المائة.
(3) عين أقسام الدلالة اللفظية من الأمثلة الآتية:-
أ – دلالة لفظ الكلمة على (القول المفرد).
ب - دلالة لفظ الكلمة على (القول) وحده أو (المفرد) وحده.
ج - دلالة لفظ السقف على الجدار.
د - دلالة لفظ الشجرة على ثمرتها.
هـ - دلالة لفظ السيارة على محركها.
و - دلالة لفظ الدار على غرفها.
ز - دلالة لفظ النخلة على الطريق إليها عند بيعها.
(4) إذا اشترى شخص من آخر داراً وتنازعا في الطريق إليها فقال المشتري الطريق داخل في البيع بدلالة لفظ الدار، فهذه الدلالة المدعاة من أي أقسام الدلالة اللفظية تكون؟
(5) استأجر رجل عاملاً ليعمل الليل كله، ولكن العامل ترك العمل عند الفجر، فخاصمه المستأجر مدعياً دلالة لفظ الليل على الوقت من الفجر إلى طلوع الشمس، فمن أي أقسام الدلالة اللفظية ينبغي أن تكون هذه الدلالة المدعاة؟
(6) لماذا يقولون لا يدل لفظ (للأسد) على (بخر الفم) دلالة التزامية، كما يدل على الشجاعة، مع أن البخر لازم للأسد كالشجاعة؟
تقسيمات الألفاظ
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
للفظ المستعمل بما له من المعنى عدة تقسيمات عامة لا تختص بلغة دون أخرى، وهي أهم مباحث الألفاظ بعد بحث الدلالة. ونحن ذاكرون هنا أهم تلك التقسيمات، وهي ثلاثة، لأن اللفظ المنسوب إلى معناه تارة ينظر إليه في التقسيم بما هو لفظ واحد، وأخرى بما هو متعدد، وثالثة بما هو لفظ مطلقاً سواء كان واحداً أو متعدداً.
- 1 -
المختص. المشترك. المنقول. المرتجل. الحقيقة والمجاز
إن اللفظ الواحد الدال على معناه باحدى الدلالات الثلاث المتقدمة إذا نسب إلى معناه، فهو على أقسام خمسة، لأن معناه إما أن يكون واحداً أيضاً ويسمى (المختص)، وإما أن يكون متعدداً. وما له معنى متعدد أربعة أنواع: مشترك، ومنقول، ومرتجل، وحقيقة ومجاز، فهذه خمسة أقسام:
1 - (المختص): وهو اللفظ الذي ليس له إلا معنى واحد فاختص به، مثل حديد وحيوان.
2 - (المشترك): وهو اللفظ الذي تعدد معناه وقد وضع للجميع كلا على حدة، ولكن من دون أن يسبق وضعه لبعضها على وضعه للآخر مثل (عين) الموضوع لحاسة النظر وينبوع الماء والذهب وغيرها ومثل (الجون) الموضوع للأسود والأبيض. والمشترك كثير في اللغة العربية.
3 - (المنقول): وهو اللفظ الذي تعدد معناه وقد وضع للجميع كالمشترك ولكن يفترق عنه بأن الوضع لاحدها مسبوق بالوضع للآخر مع ملاحظة المناسبة بين المعنيين في الوضع اللاحق. مثل لفظ (الصلاة) الموضوع أولاً للدعاء ثم نقل في الشرع الإسلامي لهذه الأفعال المخصوصة من قيام وركوع وسجود ونحوها لمناسبتها للمعنى الأول. ومثل لفظ (الحج) الموضوع أولاً للقصد مطلقاً، ثم نقل لقصد مكة المكرمة بالأفعال المخصوصة والوقت المعين... وهكذا أكثر المنقولات في عرف الشرع وأرباب العلوم والفنون. ومنها لفظ السيارة والطائرة والهاتف والمذياع ونحوها من مصطلحات هذا العصر.
والمنقول ينسب إلى ناقله فإن كان العرف العام قيل له: منقول عرفي كاللفظ السيارة والطائرة. وإن كان العرف الخاص كعرف أهل الشرع والمناطقة والنحاة والفلاسفة ونحوهم قيل له: منقول شرعي أو منطقي أو نحوي أو فلسفي... وهكذا.
4 - (المرتجل): وهو كالمنقول بلا فرق إلا انه لم تلحظ فيه المناسبة بين المعنيين، ومنه أكثر الأعلام الشخصية.
5 - (الحقيقة والمجاز): وهو اللفظ الذي تعدد معناه، ولكنه موضوع لأحد المعاني فقط، واستعمل في غيره لعلاقة ومناسبة بينه وبين المعنى الأول الموضوع له من دون أن يبلغ حد الوضع في المعنى الثاني فيسمى (حقيقة) في المعنى الأول، و(مجازاً) في الثاني، ويقال للمعنى الأول معنى حقيقي، وللثاني مجازي.
والمجاز دائماً يحتاج إلى قرينة تصرف اللفظ عن المعنى الحقيقي وتعين المعنى المجازي من بين المعاني المجازية.
تنبيهان
1 - ان المشترك اللفظي والمجاز لا يصح استعمالهما في الحدود والبراهين، إلا مع نصب القرينة على إرادة المعنى المقصود، ومثلهما المنقول والمرتجل ما لم يهجر المعنى الأول، فإذا هجر كان ذلك وحده قرينة على إرادة الثاني.
على أنه يحسن اجتناب المجاز في الأساليب العلمية حتى مع القرينة.
2 – المنقول ينقسم إلى (تعييني وتعيّني)، لأن النقل تارة يكون من ناقل معين باختياره وقصده، كأكثر المنقولات في العلوم والفنون وهو المنقول (التعييني) أي أن الوضع فيه بتعيين معين. وأخرى لا يكون بنقل ناقل معين باختياره، وانما يستعمل جماعة من الناس اللفظ في غير معناه الحقيقي لا بقصد الوضع له، ثم يكثر استعمالهم له ويشتهر بينهم، حتى يتغلب المعنى المجازي على اللفظ في أذهانهم فيكون كالمعنى الحقيقي يفهمه السامع منهم بدون القرينة. فيحصل الارتباط الذهني بين نفس اللفظ والمعنى، فينقلب اللفظ حقيقة في هذا المعنى. وهو (المنقول التعيني).
الخلاصة:
اللفظ الواحد
مختص مشترك منقول مرتجل حقيقة ومجاز
تعييني تعيني
تمرينات
1 - هذه الألفاظ المستعملة في هذا الباب وهي لفظ (مختص. مشترك. منقول. إلى آخره) من أي أقسام اللفظ الواحد؟ أي انها مختصة أو مشتركة أو غير ذلك.
2- اذكر ثلاثة أمثلة لكل من أقسام اللفظ الواحد الخمسة.
3- كيف تميز بين المشترك والمنقول؟
4- هل تعرف لماذا يحتاج المشترك إلى قرينة؛ وهل يحتاج المنقول إلى القرينة؟
- 2 -
الترادف والتباين
إذا قسنا لفظاً إلى لفظ أو إلى ألفاظ، فلا تخرج تلك الألفاظ المتعددة عن أحد قسمين:
1- أما أن تكون موضوعة لمعنى واحد، فهي (المترادفة)، إذا كان أحد الألفاظ() رديفاً للآخر على معنى واحد. مثل: أسد وسبع وليث. هرة وقطة. إنسان وبشر.
فالترادف: «اشتراك الألفاظ المتعددة في معنى واحد».
2- وأما أن يكون كل واحد منها موضوعاً لمعنى مختص به، فهي (المتباينة)، مثل: كتاب. قلم. سماء. أرض. حيوان. جماد. سيف. صارم.. .
فالتباين: «أن تكون معاني الألفاظ متكثرة بتكثر الألفاظ». والمراد من التباين هنا غير التباين الذي سيأتي في النسب، فإن التباين هنا بين الألفاظ باعتبار تعدد معناها، وإن كانت المعاني تلتقي في بعض أفرادها أو جميعها، فإن السيف يباين الصارم، لأن المراد من الصارم خصوص القاطع من السيوف. فهما متباينان معنى وإن كانا يلتقيان في الافراد، إذ أن صارم سيف. وكذا الإنسان والناطق، متباينان معنى، لأن المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر وإن كانا يلتقيان في جميع أفرادهما لأن كل ناطق إنسان وكل إنسان ناطق.
قسمة الألفاظ المتباينة:
المثلان. المتخالفان. المتقابلان
تقدم ان الألفاظ المتباينة هي ما تكثرت معانيها بتكثرها، أي ان معانيها متغايرة. ولما كان التغاير بين المعاني يقع على أقسام، فإن الألفاظ بحسب معانيها أيضاً تنسب لها تلك الأقسام. والتغاير على ثلاثة أنواع: التماثل، والتخالف، والتقابل.
لأن المتغايرين إما أن يراعى فيهما اشتراكهما في حقيقة واحدة فهما (المثلان) وإما ألا يراعى ذلك سواء كانا مشتركين بالفعل في حقيقة واحدة أو لم يكونا. وعلى هذا التقدير الثاني أي تقدير عدم المراعاة، فإن كانا من المعاني التي لا يمكن اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة في زمان واحد، بأن كان بينهما تنافر وتعاند فهما (المتقابلان)، وإلا فهما (المتخالفان).
وهذا يحتاج إلى شيء من التوضيح، فنقول:
1- (المثلان) هما المشتركان في حقيقة واحدة بما هما مشتركان، أي لوحظ واعتبر اشتراكهما فيها، كمحمد وجعفر اسمين لشخصين مشتركين في اﻹنسانية بما هما مشتركان فيها. وكالإنسان والفرس باعتبار اشتراكهما في الحيوانية. وإلا فمحمد وجعفر من حيث خصوصية ذاتيهما مع قطع النظر عما اشتركا فيه هما متخالفان كما سيأتي. وكذا الإنسان والفرس هما متخالفان بما هما إنسان وفرس.
والاشتراك والتماثل إن كان في حقيقة نوعية بأن يكونا فردين من نوع واحد كمحمد وجعفر يخص باسم المثلين أو المتماثلين ولا اسم آخر لهما. وإن كان في الجنس كالإنسان والفرس سمّيا أيضاً (متجانسين) وإن كان في الكم أي في المقدار سمّيا أيضاً (متساويين)، وإن كان في الكيف أي في كيفيتهما وهيئتهما سمّيا أيضاً (متشابهين). والاسم العام للجميع هو (التماثل).
والمثلان أبداً لا يجتمعان ببديهة العقل.
2- (المتخالفان)، وهما المتغايران من حيث هما متغايران، ولا مانع من اجتماعهما في محل واحد إذا كانا من الصفات، مثل الإنسان والفرس بما هما انسان وفرس، لا بما هما مشتركان في الحيوانية كما تقدم. كذلك: الماء والهواء، النار والتراب، الشمس والقمر، السماء والأرض.
ومثل السواد والحلاوة، الطول والرقة، الشجاعة والكرم، البياض والحرارة. والتخالف قد يكون في الشخص مثل محمد وجعفر وإن كانا مشتركين نوعاً في الإنسانية، ولكن لم يلحظ هذا الاشتراك. وقد يكون في النوع مثل الإنسان والفرس وإن كانا مشتركين في الجنس وهو الحيوان ولكن لم يلحظ الاشتراك. وقد يكون في الجنس، وإن كانا مشتركين في وصفهما العارض عليهما، مثل القطن والثلج المشتركين في وصف الأبيض إلاّ أنه لم يلحظ ذلك.
ومنه يظهر ان مثل محمد وجعفر يصدق عليهما انهما متخالفان بالنظر إلى اختلافهما في شخصيهما ويصدق عليهما مثلان بالنظر إلى اشتراكهما وتماثلهما في النوع وهو الإنسان. وكذا يقال عن الإنسان والفرس هما متخالفان من جهة تغايرهما في الإنسانية والفرسية ومثلان باعتبار اشتراكهما في الحيوانية. وهكذا في مثل القطن والثلج. الحيوان والنبات. الشجر والحجر.
ويظهر أيضاً ان التخالف لا يختص بالشيئين اللذين يمكن أن يجتمعا، فإن الأمثلة المذكورة قريباً لا يمكن فيها الاجتماع مع انها ليست من المتقابلات - كما سيأتي - ولا من المتماثلات حسب الاصطلاح.
ثم ان التخالف قد يطلق على ما يقابل التماثل فيشمل التقابل أيضاً فيقال للمتقابلين على هذا الاصطلاح انهما متخالفان.
3- (المتقابلان) هما المعنيان المتنافران اللذان لا يجتمعان في محل واحد من جهة واحدة في زمان واحد، كالإنسان واللاإنسان. والأعمى والبصير، والأبوة والبنوة، والسواد والبياض.
فبقيد وحدة المحل دخل مثل التقابل بين السواد والبياض مما يمكن اجتماعهما في الوجود كبياض القرطاس وسواد الحبر. وبقيد وحدة الجهة دخل مثل التقابل بين الأبوة والبنوة مما يمكن اجتماعهما في محل واحد من جهتين إذ قد يكون شخص أباً لشخص وابناً لشخص آخر. وبقيد وحدة الزمن دخل مثل التقابل بين الحرارة والبرودة مما يمكن اجتماعهما في محل واحد في زمانين، إذ قد يكون جسم بارداً في زمان ونفسه حاراً في زمان آخر.
أقسام التقابل
للتقابل أربعة أقسام:
1- (تقابل النقيضين) أو السلب والايجاب، مثل: إنسان ولا إنسان، سواد ولا سواد، منير وغير منير.
والنقيضان: أمران وجودي وعدمي، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهة العقل، ولا واسطة بينهما.
2- (تقابل الملكة وعدمها)، كالبصر والعمى، الزواج والعزوبة، فالبصر ملكة والعمى عدمها. والزواج ملكة والعزوبة عدمها.
ولا يصح أن يحل العمى إلاّ في موضع يصح فيه البصر، لأن العمى ليس هو عدم البصر مطلقاً، بل عدم البصر الخاص، وهو عدمه فيمن شأنه أن يكون بصيراً. وكذا العزوبة لا تقال إلاّ في موضع يصح فيه الزواج، لا عدم الزواج مطلقاً، فهما ليسا كالنقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان، بل هما يرتفعان. وإن كان يمتنع اجتماعهما، فالحجر لا يقال فيه أعمى ولا بصير، ولا أعزب ولا متزوج، لأن الحجر ليس من شأنه أن يكون بصيراً، ولا من شأنه أن يكون متزوجاً.
إذن الملكة وعدمها: «أمران وجودي وعدمي لا يجتمعان ويجوز أن يرتفعا في موضع لا تصح فيه الملكة».
3- (تقابل الضدين)، كالحرارة والبرودة، والسواد والبياض، والفضيلة والرذيلة، والتهور والجبن، والخفة والثقل.
والضدان: «هما الوجوديان المتعاقبان على موضع واحد، ولا يتصور اجتماعهما فيه، ولا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر».
وفي كلمة (المتعاقبان على موضوع واحد) يفهم ان الضدين لابد أن يكونا صفتين، فالذاتان مثل إنسان وفرس لا يسميان بالضدين. وكذا الحيوان والحجر ونحوهما. بل مثل هذه تدخل في المعاني المتخالفة، كما تقدم.
وبكلمة «لا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر» يخرج المتضايفان، لأنهما أمران وجوديان أيضاً ولا يتصور اجتماعهما فيه من جهة واحدة، ولكن تعقل أحدهما يتوقف على تعقل الآخر. وسيأتي.
4- (تقابل المتضايفين) مثل: الأب والابن، الفوق والتحت، المتقدم والمتأخر، العلّة والمعلول، الخالق والمخلوق وأنت إذا لاحظت هذه الأمثلة تجد:
(أولاً) انك إذا تعقلت أحد المتقابلين منها لابد أن تتعقل معه مقابلة الآخر: فإذا تعقلت ان هذا أب أو علّة لابدّ أن تتعقل معه أن له ابناً أو معلولاً.
(ثانياً) أن شيئاً واحداً لا يصح أن يكون موضوعاً للمتضايفين من جهة واحدة، فلا يصح أن يكون شخص أباً وابناً لشخص واحد، نعم يكون أباً لشخص وابناً لشخص آخر. وكذا لا يصح أن يكون الشيء فوقاً وتحتاً لنفس ذلك الشيء في وقت واحد. وإنما يكون فوقاً لشيء هو تحت له، وتحتاً لشيء آخر هو فوقه... وهكذا.
(ثالثاً) ان المتقابلين في بعض هذه الأمثلة المذكورة أولاً، يجوز أن يرتفعا، فإن واجب الوجود لا فوق ولا تحت، والحجر لا أب ولا ابن. وإذا اتفق في بعض الأمثلة ان المتضايفين لا يرتفعان كالعلّة والمعلول، فليس ذلك لأنهما متضايفان. بل لأمر يخصهما، لأن كل شيء موجود لا يخلو إما أن يكون علّة أو يكون معلولاً.
وعلى هذا البيان يصح تعريف المتضايفين بأنهما: «الوجوديان اللذان يتعقلان معاً ولا يجتمعان في موضوع واحد من جهة واحدة ويجوز أن يرتفعا».
الخلاصة:
اللفظان
مترادفان متباينان
متقابلان متخالفان متماثلان
نقيضان عدم وملكة ضدان متضايفان
تمرينات
1- بيَّن المترادفة والمتباينة من هذه الأمثلة بعد التدقيق في كتب اللغة:
كتاب وسفر مقول ولسان خطيب ومصقع
فرس وصاهل ليل ومساء عين وناظر
شاعر وناظم مصنع وسامع جلوس وقعود
متكلّم ولسن كف ويد قدّ وقطع
2- اذكر ثلاثة أمثلة لكل من المتخالفة والمتماثلة.
3- بين أنواع التقابل في الأمثلة الآتية:-
الخير والشر. النور والظلمة. الحركة والسكون. الظلم والعدل. الملتحي والأمرد. المنتعل والحافي. الصباح والمساء. الدال والمدلول. التصور والتصديق. العلم والجهل. القيام والقعود. العالم والمعلوم.
المفرد والمركّب
ينقسم اللفظ مطلقاً (غير معتبر فيه أن يكون واحداً أو متعدداً) إلى قسمين:
أ- (المفرد) ويقصد المنطقيون به:
(أولاً) اللفظ الذي لا جزء له، مثل الباء من قولك: كتبت بالقلم، و(قِ) فعل أمر من وقى يقي.
(ثانياً) اللفظ الذي له جزء إلا أن جزء اللفظ لا يدل على جزء المعنى حين هو جزء له، مثل: محمد. علي. قرأ. عبدالله. عبدالحسين. وهذان الأخيران إذا كانا اسمين لشخصين فأنت لا تقصد بجزء اللفظ (عبد) و(الله) و(الحسين) معنى أصلاً، حينما تجعل مجموع الجزأين دالاً على ذات الشخص. وما مثَل هذا الجزء إلا كحرف (م) من محمد وحرف (ق) من قرأ.
نعم في موضع آخر قد تقول (عبدالله) وتعني بعبد معناه المضاف إلى الله تعالى كما تقول (محمد عبدالله ورسوله). وحينئذ يكون نعتاً لا اسماً ومركباً لا مفرداً. أما لو قلت (محمد بن عبدالله) فعبدالله مفرد هو اسم أب محمد.
أما النحويون فعندهم مثل (عبدالله) إذا كان اسماً لشخص مركب لا مفرد، لأن الجهة المعتبرة لهم في هذه التسمية تختلف عن الجهة المعتبرة عند المناطقة. إذ النحوي ينظر إلى الاعراب والبناء، فما كان له اعراب أو بناء واحد فهو مفرد وإلا فمركب كعبدالله علماً فإن (عبدالله) له إعراب و(الله) له إعراب. أما المنطقي فانما ينظر المعنى فقط.
إذن المفرد عند المنطقي هو:
«اللفظ الذي ليس له جزء يدل() على جزء معناه حين هو جزء».
ب - (المركب) ويسمى القول. وهو اللفظ الذي له جزء يدل على جزء معناه حين هو جزء مثل (الخمر مضر)، فالجزءان: (الخمر)، و(مضر) يدلّ كل منهما على جزء معنى المركب. ومنه (الغيبة جهد العاجز) فالمجموع مركب و(جهد العاجز) مركب أيضاً. ومنه (شر الاخوان من تكلّف له) فالمجموع مركب، و(شر الاخوان) مركب أيضاً، و(من تكلّف له) مركب أيضاً.. .
أقسام المركب
المركب: تام وناقص.
التام: خبر وانشاء.
أ- التام والناقص:
1- بعض المركبات للمتكلم أن يكتفي به في إفادة السامع، والسامع لا ينتظر منه اضافة لفظ آخر لاتمام فائدته. مثل الصبر شجاعة. قيمة كل امرئ ما يحسنه. إذا علمت فاعمل - فهذا هو (المركب التام). ويعرَّف بأنه: «ما يصح للمتكلّم السكوت عليه».
2- أما إذا قال: (قيمة كل امرئ.. .) وسكت، أو قال: (إذا علمت.. .) بغير جواب للشرط، إن السامع يبقى منتظراً ويجده ناقصاً، حتى يتم كلامه. فمثل هذا يسمى (المركب الناقص). ويعرف بأنه: (ما لا يصح السكوت عليه).
ب - الخبر والانشاء.
كل مركب تام له نسبة قائمة بين أجزائه تسمى النسة التامة أيضاً، وهذه النسبة:
1- قد تكون لها حقيقة ثابتة في ذاتها، مع غض النظر عن اللفظ. وإنما يكون لفظ المركب حاكياً وكاشفاً عنها. مثلما إذا وقع حادث أو يقع فيما يأتي، فأخبرت عنه، كمطر السماء، فقلت: مطرت السماء، أو تمطر غداً. فهذا يسمى (الخبر) ويسمى أيضاً (القضية) و (القول). ولا يجب في الخبر أن يكون مطابقاً للنسبة الواقعة: فقد يطابقها فيكون صادقاً، وقد لا يطابقها فيكون كاذباً.
إذن الخبر هو: «المركب التام الذي يصح أن نصفه بالصدق أو الكذب»(). والخبر هو الذي يهم المنطقي أن يبحث عنه، وهو متعلق التصديق.
2- وقد لا تكون للنسبة التامة حقيقة ثابتة بغض النظر عن اللفظ، وانما اللفظ هو الذي يحقق النسبة ويوجدها بقصد المتكلم، وبعبارة أصرح ان المتكلم يوجد المعنى بلفظ المركب، فليس وراء الكلام نسبة لها حقيقة ثابتة يطابقها الكلام تارة ولا يطابقها أخرى. ويسمى هذا المركب (الانشاء). ومن أمثلته:
1- (الأمر) نحو: احفظ الدرس.
2- (النهي) نحو: لا تجالس دعاة السوء.
3- (الاستفهام) نحو: هل المريخ مسكون؟
4- (النداء) نحو: يا محمد!
5- (التمني) نحو: لو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين!
6- (التعجب) نحو: ما أعظم خطر الإنسان!
7- (العقد): كإنشاء عقد البيع والاجارة والنكاح ونحوها نحو بعت وآجرت وأنكحت... .
8- (الايقاع): كصيغة الطلاق والعتق والوقف ونحوها نحو فلانة طالق. وعبدي حر...
وهذه المركبات كلها ليس لمعانيها حقائق ثابتة في أنسها - بغض النظر عن اللفظ - تحكي عنها فتطابقها أو لا تطابقها، وإنما معانيها تنشأ وتوجد باللفظ، فلا يصح وصفها بالصدق والكذب.
فالانشاء هو: «المركب التام الذي لا يصح أن نصفه بصدق وكذب».
أقسام المفرد
المفرد: كلمة. اسم. أداة.
1- (الكلمة) وهي الفعل باصطلاح النحاة. مثل: كتب. يكتب. اكتب. فإذا لاحظنا هذه الأفعال أو الكلمات الثلاث نجدها:
(أولاً) تشترك في مادة لفظية واحدة محفوظة في الجميع هي (الكاف فالتاء فالباء). وتشترك أيضاً في معنى واحد هو معنى الكتابة، وهو معنى مستقل في نفسه.
و (ثانياً) تفترق في هيئاتها اللفظية، فإن لكل منها هيئة تخصها. وتفترق أيضاً في دلالتها على نسبة تامة زمانية تختلف باختلافها، وهي نسبة ذلك المعنى المستقل المشترك فيها إلى فاعل ما غير معين في زمان معين من الأزمنة. فكتب تدل على نسبة الحدث (وهو المعنى المشترك) إلى فاعل ما، واقعة في زمان مضى. ويكتب على نسبة تجدد الوقوع في الحال أو في الاستقبال إلى فاعلها. واكتب على نسبة طلب الكتابة في الحال من فاعل ما.
ومن هذا البيان نستطيع أن نستنتج ان المادة التي تشترك فيها الكلمات الثلاث تدل على المعنى الذى تشترك فيه، وان الهيئة التي تفترق فيها وتختلف تدل على المعنى الذي تفترق فيه ويختلف فيها:
وعليه يصح تعريف الكلمة بأنها: «اللفظ المفرد الدال بمادته على معنى مستقل في نفسه وبهيئته على نسبة ذلك المعنى إلى فاعل لا بعينه نسبة تامة زمانية».
وبقولنا: نسبة تامة تخرج الأسماء المشتقة كاسم الفاعل والمفعول والزمان والمكان، فانها تدل بمادتها على المعنى المستقل وبهيئاتها على نسبة إلى شيء لا بعينه في زمان ما، ولكن النسبة فيها نسبة ناقصة لا تامة.
2- (الاسم): وهو اللفظ المفرد الدال على معنى مستقل في نفسه غير مشتمل على هيئة تدل على نسبة تامة زمانية. مثل: محمد. انسان. كاتب. سؤال. نعم قد يشتمل على هيئة تدل على نسة ناقصة كأسماء الفاعل والمفعول والزمان ونحوها كما تقدم، لأنها تدل على ذات لها هذه المادة.
3- (الأداة) وهي الحرف باصطلاح النحاة. وهو يدل على نسبة بين طرفين. مثل: (في) الدالة على النسبة الظرفية. و(على) الدالة على النسبة الاستعلائية. و(هل) الدالة على النسبة الاستفهامية. والنسبة دائماً غير مستقلة في نفسها، لأنها لا تتحقق إلا بطرفيها.
فالأداة تعرف بأنها: (اللفظ المفرد الدال على معنى غير مستقل في نفسه).
(ملاحظة) - الأفعال الناقصة مثل كان وأخواتها في عرف المنطقيين - على التحقيق - تدخل في الأدوات، لأنها لا تدل على معنى مستقل في نفسها لتجردها عن الدلالة على الحدث، بل إنما تدل على النسبة الزمانية فقط. فلذلك تحتاج إلى جزء يدل على الحدث، نحو (كان محمد قائماً) فكلمة قائم هي التي تدل عليه.
وفي عرف النحاة معدودة من الأفعال وبعض المناطقة يسميها (الكلمات الوجودية).
الخلاصة:
اللفظ
مفرد مركب
اسم كلمة أداة تام ناقص
خبر انشاء
تمرينات
1- ميّز الألفاظ المفردة والمركبة مما يأتي:
مكة المكرمة تأبّط شراً صردر
جعفر الصادق امرؤ القيس منتدى النشر
ملك العراق أبو طالب النجف الأشرف
هنيئاً ديك الجن صبراً
2- ميّز المركبات التامة والناقصة والخبر والانشاء مما يأتي:
الله أكبر نجمة القطب يا الله
صباح الخير السلام عليكم ماء الفرات
غير المغضوب عليهم لا إله إلاّ الله زر غباً تزدد حباً
سبحان ربي العظيم وبحمده شاعر وناظم
3- اذكر كم هي الانشاءات والأخبار في سورة القدر.
4- ان اللفظ المحذوف دائماً يعتبر كالموجود، فقولنا في العنوان: (تمرينات) أتعده مفرداً أم مركباً. ولو كان مركباً فماذا تظن: أهو ناقص أم تام؟
5- تأمل هل يمكن أن يقع تقابل التضاد بين (الأدوات) ولماذا؟
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
كتاب المنطق
فهرسة الكتاب
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/home.jpg
الباب الثاني
مباحث الكلي
الكلي والجزئي:
يدرك الإنسان مفهوم الموجودات التي يحسّ بها، مثل: محمد. هذا الكتاب. هذا القلم. هذه الوردة. بغداد. النجف... وإذا تأملها يجد كل واحد منها لا ينطبق على فرد آخر، ولا يصدق إلا على ذلك الموجود وحده. وهذا هو المفهوم (الجزئي). ويصح تعريفه بأنه: «المفهوم الذي يمتنع صدقه على أكثر من واحد».
ثم ان الإنسان إذا رأى جزئيات متعددة، وقاس بعضها إلى بعض، فوجدها تشترك في صفة واحدة انتزع منها صورة مفهوم شامل ينطبق على كل واحد منها. وهذا المفهوم الشامل أو (الصورة المنتزعة) هو المفهوم (الكلي). ويصح تعريفه بأنه «المفهوم الذي لا يمتنع صدقه على أكثر من واحد».
مثل مفهوم: انسان. حيوان. معدن. أبيض. تفاحة. حجر. عالم. جاهل. جالس في الدار. معترف بذنبه.
تكملة تعريف الجزئي والكلي:
لا يجب أن تكون أفراد الكلي موجودة فعلاً: فقد يتصور العقل مفهوماً كلياً صالحاً للانطباق على أكثر من واحد من دون أن ينتزعه من جزئيات موجودة بالفعل، وإنما يفرض له جزئيات يصح صده عليها، بل قد يمتنع وجود حتى فرد واحد له مثل مفهوم «شريك الباري»، ومفهوم «اجتماع النقيضين». ولا يضر ذلك في كليته.
وقد لا يوجد له إلا فرد واحد ويمتنع وجود غيره، مثل مفهوم «واجب الوجود»، لقيام البرهان على ذلك، ولكن العقل لا يمنع من فرض أفراد لو وجدت لصدق عليها هذا المفهوم. ولو كان مفهوم «واجب الوجود» جزئياً، لما كانت حاجة إلى البرهان على التوحيد، وكفى نفس تصور مفهومه لنفي وقوع الشركة فيه. وعليه فهذا الانحصار في فرد واحد انما جاء من قبل أمر خارج عن نفس المفهوم، لا أن نفس المفهوم يمتنع صدقه على أفراد كثيرة.
إذن، بمقتضى هذا البيان لابد من إضافة قيد (ولو بالفرض) في تعريفي الجزئي والكلي، فالجزئي: «مفهوم يمتنع صدقه على كثير ولو بالفرض»، والكلي: «لا يمتنع... ولو بالفرض».
(تنبيه) مداليل الأدوات كلها مفاهيم جزئية، والكلمات أي (الأفعال) بهيئائها تدل على مفاهيم جزئية، وبموادها على مفاهيم كلية. أما الأسماء فمداليلها تختلف، فقد تكون كلية كأسماء الأجناس، وقد تكون جزئية كأسماء الأعلام وأسماء الاشارة والضمائر ونحوها.
الجزئي الاضافي:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
الجزئي الذي تقدم البحث عنه يسمى (الجزئي الحقيقي). وهنا اصطلاح آخر للجزئي يقال له (الجزئي الاضافي)، لاضافته إلى ما فوقه، ومع ذلك قد يكون كلياً إذا كان أضيق دائرة من كلي آخر أوسع منه.
توضيحه: انك تجد ان (الخط المستقيم) مفهوم كل منتزع من عدة أفراد كثيرة، وتجد أن (الخط المنحني) أيضاً مفهوم كلي منتزع من مجموعة أفراد أخرى فإذا ضممنا احدى المجموعتين إلى الأخرى وألغينا ما بينهما من الفروق، ننتزع مفهوماً كلياً أكثر سعة من المفهومين الأولين يصدق على جميع أفرادهما، وهو مفهوم (الخط). فهذا المفهوم الثالث الكبير نسبته إلى المفهومين الصغيرين، كنسبة كل منهما إلى أفراد نفسه، فكما كان الفرد من الصغير بالاضافة إلى الصغير نفسه جزئياً، فالكلي الصغير أيضاً بالاضافة إلى الكلي الكبير كالجزئي من جهة النسبة، فيسمى (جزئياً اضافياً) لا بالحقيقة لأنه في نفسه كلي حقيقة.
وكذا الجزئي الحقيقي من جهة اضافته إلى الكلي الذي فوقه يسمى (جزئياً اضافياً).
وهكذا كل مفهوم بالاضافة إلى مفهوم أوسع منه دائرة يسمى (جزئياً اضافياً)، فزيد مثلاً جزئي حقيقي في نفسه وجزئي اضافي بالقياس إلى الحيوان، وكذا الحيوان بالقياس إلى الجسم النامي، والجسم النامي بالقياس إلى مطلق الجسم.
إذن يمكن تعريف الجزئي الاضافي بأنه (الأخص من شيء) أو «المفهوم المضاف إلى ما هو أوسع منه دائرة».
* * *
المتواطئ والمشكك
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ينقسم الكلي إلى المتواطئ والمشكك، لأنه:
أولاً: إذا لاحظت كلياً مثل الانسان والحيوان والذهب والفضة، وطبقته على أفراده، فانك لا تجد تفاوتاً بين الأفراد في نفس صدق المفهوم عليه: فزيد وعمرو وخالد إلى آخر أفراد الانسان من ناحية الانسانية سواء، من دون أن تكون انسانية أحدهم أولى من انسانية الآخر ولا أشد ولا أكثر، ولا أي تفاوت آخر في هذه الناحية. وإذا كانوا متفاوتين ففي نواحٍ أخرى غير الانسانية، كالتفاوت بالطول واللون والقوة والصحة والاخلاص وحسن التفكير... وما إلى ذلك.
وكذا أفراد الحيوان والذهب، ونحوهما، ومثل هذا الكلي المتوافقة أفراده في مفهومه يسمى (الكلي المتواطئ) أي المتوافقة أفراده فيه، والتواطؤ: هو التوافق والتساوي.
ثانياً: إذا لاحظت كلياً مثل مفهوم البياض والعدد والوجود، وطبقته على أفراده، تجد - على العكس من النوع السابق، تفاوتاً بين الأفراد في صدق المفهوم عليها، بالاشتداد أو الكثرة أو الأولوية أو التقدم. نرى بياض الثلج أشد بياضاً من بياض القرطاس، وكل منهما بياض. وعدد الألف أكثر من عدد المائة، وكل منهما عدد. ووجود الخالق أولى من وجود المخلوق، ووجود العلة متقدم على وجود المعلول بنفس وجوده لا بشيء آخر، وكل منهما وجود.
وهكذا الكلي المتفاوتة أفراده في صدق مفهومه عليها يسمى (الكلي المشكك) والتفاوت يسمى (تشكيكاً).
تمرينات
1- عيّن الجزئي والكلي من مفاهيم الأسماء الموجودة في الأبيات التالية:
أ- ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ب- هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
ج- نحـــن بــما عـــــنـــدنا وأنــــت بــــــما عندك راض والرأي مختلف
2- بيّن ما إذا كانت الشمس والقمر والعنقاء والغول والثريا والجدي والأرض من الجزئيات الحقيقية أو من الكليات، واذكر السبب.
3- إذا قلت لصديقك (ناولني الكتاب) وكان في يده كتاب ما، فما المفهوم من الكتاب هنا جزئي أم كلي؟
4- إذا قلت لكتبي: (بعني كتاب القاموس)، فما مدلول كلمة القاموس، جزئي أم كلي؟
5- إذا قال البائع: (بعتك حقة من هذه الصبرة من الطعام) فما المبيع جزئي أم كلي؟
6- عين المتواطئ والمشكك من الكليات التالي:
العلم. الكاتب. القلم. العدل. السواد. النبات. الماء. النور. الحياة. القدرة. الجمال. المعدن.
7- اذكر خمسة أمثلة للجزئي الاضافي، واختر ثلاثة منها من التمرين السابق.
المفهوم والمصداق
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
(المفهوم): نفس المعنى بما هو، أي نفس الصورة الذهنية المنتزعة من حقائق الأشياء.
و(المصداق): ما ينطبق عليه المفهوم، أو حقيقة الشيء الذي تنتزع منه الصورة الذهنية (المفهوم).
فالصورة الذهنية لمسمى (محمد) مفهوم جزئي، والشخص الخارجي الحقيقي مصداقه. والصورة الذهنية لمعنى (الحيوان) مفهوم كلي، وأفراده الموجودة وما يدخل تحته من الكليات كالانسان والفرس والطير مصاديقه. والصورة الذهنية لمعنى (العدم) مفهوم كلي، وما ينطبق عليه وهو العدم الحقيقي مصداه... وهكذا.
(لفت نظر): يعرف من المثال الأول ان المفهوم قد يكون جزئياً حقيقياً واضافياً. ويعرف من الثالث أن المصداق لا يجب أن يكون الأمور الموجودة والحقائق العينية، بل المصداق هو كل ما ينطبق عليه المفهوم وإن كان أمراً عدمياً لا تحقق له في الأعيان.
العنوان والمعنون
أو
دلالة المفهوم على مصداقه
إذا حكمت على شيء بحكم قد يكون نظرك في الحكم مقصوراً على المفهوم وحده، بأن يكون هو المقصود في الحكم، كما تقول: (الإنسان: حيوان ناطق)، فيقال للإنسان حينئذ الانسان بالحمل الأولي.
وقد يتعدى نظرك في الحكم إلى أبعد من ذلك، فتنظر إلى ما وراء المفهوم، بأن تلاحظ المفهوم لتجعه حاكياً عن مصداقه ودليلاً عليه، كما تقول: (الإنسان ضاحك) أو (الإنسان في خسر)، فتشير بمفهوم الانسان إلى أشخاص أفراده وهي المقصودة في الحكم، وليس ملاحظة المفهوم في الحكم وجعله موضوعاً إلاّ للتوصل إلى الحكم على الأفراد. فيسمى المفهوم حينئذٍ (عنواناً) والمصداق (معنوناً). ويقال لهذا الإنسان: الإنسان بالحمل الشايع.
ولأجل التفرقة بين النظرين نلاحظ الأمثلة الآتية:
1- إذا قال النحاة: «الفعل لا يخبر عنه». فقد يعترض عليهم في بادي الأمر، فيقال لهم: هذا القول منكم إخبار عن الفعل، فكيف تقولون لا يخر عنه؟
والجواب: ان الذي وقع في القضية مخبراً عنه، وموضوعاً في القضية هو مفهوم الفعل، ولكن ليس الحكم له بما هو مفهوم، بل جعل عنواناً وحاكياً عن مصاديقه وآلة لملاحظتها، والحكم في الحقيقة راجع للمصاديق نحو ضرب ويضرب. فالفعل الذي له هذا الحكم حقيقة هو الفعل بالحمل الشايع.
تمرينات
1- لو قال القائل: «الحرف لا يخبر عنه»، فاعترض عليه انه كيف أخبرت عنه؟ فبماذا تجيب؟
2- لو اعترض على قول القائل: «العدم لا يخبر عنه» أنه قد أخبرت عنه الآن، فما الجواب؟
3- لو اعترض على المنطقي بأنه كيف تقول: «ان الخبر كلام تام يحتم الصدق والكذب» وقولك (الخبر) جعلته موضوعاً لهذا الخبر، فهو مفرد لا يحتمل الصدق والكذب.
4- لو قال لك صاحب علم التفسير: «المتشابه محكم» وقال الأصولي (المجمل مبين) وقال المنطقي (الجزئي كلي) و (الكلي غير موجود بالخارج)، فبماذا تفسر كلامهم ليرتع هذا التهافت الظاهر.
5- لو قال القائل: «العلة والمعلول متضائفان. وكل متضائفين يوجدان معاً». وهذا ينتج ان العلة والمعلول يوجدان معاً. وهذه النتيجة غلط باطل، لأن العلة بالضروة متقدمة على المعلول، فبأي بيان تكشف هذه المغالطة.
ومثله لو قال: الأب والابن متضائفان أو المتقدم والمتأخر متضائفان وكل متضائفين يوجدان معاً.
النسب الأربع
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تقدم في الباب الأول انقسام الألفاظ إلى مترادفة ومتباينة. والمقصود بالتباين هناك التباين بحسب المفهوم أي ان معانيها متغايرة. وهنا سنذكر أن من جملة النسب التباين والمقصود به التباين بحسب المصداق.
فما كنا نصطلح عليه هناك بالمتباينة، هنا نقسم النسبة بينها إلى أربعة أقسام، وقسم منها المتباينة، لاختلاف الجهة المقصودة في البحثين، فانا كنا نتكلم هناك عن تقسيم الألفاظ بالقياس إلى تعدد المعنى واتحاده.
أما هنا فالكلام عن النسبة بين المعاني باعتبار اجتماعها في المصداق وعدمه. ولا يتصور هذا البحث إلا بين المعاني المتغايرة أي المعاني المتباينة بحسب المفهوم، إذ لا يتصور فرض النسبة بين المفهوم ونفسه، فنقول:
كل معنى إذا نسب إلى معنى آخر يغايره ويباينه مفهوماً فأما أن يشارك كل منهما الآخر في تمام أفرادهماز وأما أن يشارك كل منهما الآخر في بعض أفراده، وهما اللذان بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه، وأما أن يشارك أحدهما الآخر في جميع أفراده دون العكس، وهما اللذان بينهما نسبة العموم والخصوص مطلقاً. وأما أن لا يشارك أحدهما الآخر أبداً، وهما المتباينان. فالنسب بين المفاهيم أربع. التساوي، والعموم والخصوص مطلقاً والعموم والخصوص من وجه، والتباين.
1- (نسبة التساوي): وتكون بين المفهومين اللذين يشتركان في تمام أفرادهما، كالإنسان والضاحك، فإن كل إنسان ضاحك وكل ضاحك إنسان. ونقربهما إلى الفهم بتشبيههما بالخطين المتساويين اللذين ينطبق أحدهما على الآخر تمام الانطباق. ويمكن وضع نسبة التساوي على هذه الصورة:-
ب = حـ
باعتبار أن هذه العلامة (=) علامة على التساوي، كما هي في العلوم الرياضية، وتقرأ يساوي. وطرفاها (ب، حـ) حرفان يرمز بهما إلى المفهومين المتساويين.
2- (نسبة العموم والخصوص مطلقاً) وتكون بين المفهومين اللذين يصدق أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر وعلى غيره، ويقال للأول: (الأعم مطلقاً)، وللثاني (الأخص مطلقاً)، كالحيوان والانسان، والمعدن والفضة، فكل ما صدق عليه الانسان يصدق عليه الحيوان، ولا عكس. فانه يصدق الحيوان بدون الانسان. وكذا الفضة والمعدن.
ونقربهما إلى المفهوم بتشبيههما بالخطين غير المتساويين. وانطبق الأكبر منهما على تمام الأصغر وزاد عليه. ويمكن وضع هذه النسبة على الصورة الآتية:
ب < حـ
باعتبار ان هذه العلامة ( ) تدل على أن ما قبلها أعم مطلقاً مما بعدها وتقرأ (أعم مطلقاً من)، كما تقرأ في العلوم الرياضية (أكبر من). ويصح أن نقلبها ونضعها على هذه الصورة:
حـ > ب
وتقرأ (أخص مطلقاً من) كما تقرأ في العلوم الرياضية (أصغر من)، فتدل على ان ما قبلها أخص مطلقاً مما بعدها.
3- (نسبة العموم والخصوص من وجه): وتكون بين المفهومين اللذين يجتمعان في بعض مصاديقهما، ويفترق كل منهما عن الآخر في مصاديق تخصه، كالطير والأسود، فانهما يجتمعان في الغراب لأنه طير وأسود، ويفترق الطير عن الأسود في الحمام مثلاً والأسود عن الطير في الصوف الأسود مثلاً. ويقال لكل منهما أعم من وجه وأخص من وجه.
ونقربهما إلى الفهم بتشبيههما بالخطين المتقاطعين هكذا x يلتقيان في نقطة مشتركة ويفترق كل منهما عن الآخر في نقاط تخصه. ويمكن وضع النسبة على الصورة الآتية:
ب x حـ
أي بين (ب، حـ) عموم وخصوص من وجه.
4- (نسبة التباين) وتكون بين المفهومين اللذين لا يجتمع أحدهما مع الآخر في فرد من الأفراد أبداً. وأمثلته جميع المعاني المتقابلة التي تقدمت في بحث التقابل وكذا بعض المعاني المتخالفة مثل الحجر والحيوان. ونشبهها بالخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان أبداً مهما امتدا. ويمكن وضع التباين على الصورة الآتية:
ب // حـ
أي ان ب يباين حـ .
النسب بين نقيضي الكليين
كل كليين بينهما احدى النسب الأربع لابد أن يكون بين نقيضيهما أيضاً نسبة من النسب كما سيأتي. ولتعيين النسبة يحتاج إلى إقامة البرهان. وطريقة البرهان التي نتبعها هنا تعرف (بطريقة الاستقصاء) أو طريقة الدوران والترديد، وسيأتي ذكرها في مبحث (القياس الاستثنائي). وهي أن تفرض جميع الحالات المتصورة للمسألة، ومتى ثبت فسادها جميعاً عدا واحدة منها، فان هذه الواحدة هي التي تنحصر المسألة بها، وتثبت صحتها.
فلنذكر النسبة بين نقيضي كل كليين مع البرهان فنقول:
1- (نقيضا المتساويين متساويين أيضاً) أي انه إذا كان الانسان يساوي الناطق فان لا انسان يساوي لا ناطق. وللبرهان على ذلك نقول:
المفروض أن ب = حـ
والمدعى أن لا ب = لا حـ
(البرهان) لو لم يكن لا ب = لا حـ
لكان بينهما احدى النسب الباقية. وعلى جميع التقادير لابد أن يصدق أحدهما بدون الآخر في الجملة.
فلو صدق لا ب بدون لا حـ
لصدق لا ب مع حـ لأن النقيضين لا يرتفعان
ولازمه ألا يصدق ب مع حـ لأن النقيضين لا يجتمعان
وهذا خلا المفروض وهو ب = حـ
وعليه فلا يمكن أن يكون بين لا ب، ولا حـ من النسب الأربع غير التساوي، فيجب أن يكون:
لا ب = لا حـ وهو المطلوب
2- (نقيضا الأعم والأخص مطلقاً بينهما عموم وخصوص مطلقاً)، ولكن على العكس، أي ان نقيض الأعم أخص ونقيض الأخص أعم.
فإذا كان ب < حـ
كان لا ب > لا حـ
كالانسان والحيوان، فان (لا انسان) أعم مطلقاً من (لا حيوان)، لأن (لا انسان) يصدق على كل (لا حيوان) ولا عكس، فان الفرس والقرد والطير إلى آخره يصدق عليها لا إنسان وهي من الحيوانات: وللبرهنة على ذلك نقول:
المفروض ان ب < حـ
والمدعى ان لا ب > لا حـ
(البرهان) لو لم يكن لا ب > لا حـ
لكان بينهما احدى النسب الباقية أو العموم والخصوص مطلقاً بأن يكون نقيض الأعم أعم مطلقاً لا أخص
فلو كان لا ب = لا حـ
لكان ب = حـ لأن نقيضي المتساويين متساويان وهو خلاف الفرض.
ولو كان بينهما نسبة التباين أو العموم والخصوص من وجه أو أن (لا ب) أعم مطلقاً، للزم على جميع الحالات الثلاث أن يصدق:
لا حـ بدون لا ب
ويلزم حينئذٍ أن يصدق لا ب مع حـ لأن النقيضين لا يرتفعان
ومعناه أن يصدق حـ بدون ب
أي يصدق الأخص بدون الأعم وهو خلاف الفرض
وإذا بطلت الاحتمالات الأربعة تعين أن يكون:
لا ب = لا حـ
3- (نقيضا الأعم والأخص من وجه متباينان تبايناً جزئياً): ومعنى «التباين الجزئي»: عدم الاجتماع في بعض الموارد، مع غض النظر عن الموارد الأخرى سواء كانا يجتمعان فيها أو لا، فيعم التباين الكلي والعموم والخصوص من وجه. لأن الأعم والأخص من وجه لا يجتمعان في بعض الموارد قطعاً. وكذا يصح في المتباينين تبايناً كلياً أن يقال انهما لا يجتمعان في بعض الموارد.
فإذا قلنا: ان بين نقيضي الأعم والأخص من وجه تبايناً جزئياً، فالمقصود به انهما في بعض الأمثلة قد يكونان متباينين تبايناً كلياً، وفي البعض الآخر قد يكون بينهما عموماً وخصوصاً من وجه، لأنهما يجتمعان في الفرس ويفترق الحيوان عن اللاانسان في الانسان ويفترق اللانسان عن الحيوان في الحجر، ولكن بين نيضيهما تبايناً كلياً فان اللاحيوان يباين الانسان كلياً. والثاني مثل الطير والأسود ان نقيضيهما لا طير ولا أسود بينهما عموم وخصوص من وجه أيضاً، لأنهما يجتمعان في القرطاس ويفترق لا طير في الثوب الأسود ويفترق لا أسود في الحمام الأبيض.
والجامع بين العموم والخصوص من وجه وبين التباين الكلي هو التباين الجزئي. وللبرهنة على ذلك نقول:
المفروض أن ب x حـ
والمدعى أن لا ب يباين لا حـ تبايناً جزئياً:
(البرهان): لو لم يكن لا ب يباين لا حـ تبايناً جزئياً
لكان بينهما احدى النسب الأربع بالخصو.
(1) فلو كان لا ب = لا حـ
للزم أن يكون ب = حـ لأن نقيضي المتساويين متساويان وهذا خلاف الفرض.
(2) ولو كان لا ب > لا حـ
لكان ب حـ لأن نقيض الأعم أخص وهذا أيضاً خلاف الفرض.
(3) ولو كان لا ب x لا حـ فقط
لكان ذلك دائماً مع انه قد يكون بينهما تباين كي كما تقدم في مثال (لا حيوان وانسان).
(4) ولو كان لا ب // لا حـ فقط
لكان ذلك دائماً أيضاً مع أنه قد يكون بينهما عموم وخصوص من وجه كما تقدم في مثال (لا طير ولا أسود).
وعلى هذا تعين أن يكون (لا ب) يباين (لا حـ) تبايناً جزئياً (وهو المطلوب).
4- (نقيضا المتباينين متباينان تبايناً جزئياً) أيضاً. والبرهان عليه كالبرهان السابق بلا تغيير إلا في المثال، لأنا نرى ان بينهما في بعض الأمثلة تبايناً كلياً، كالموجود والمعدوم، ونقيضاهما اللاموجود واللامعدوم، وفي البعض الآخر عموماً وخصوصاً من وجه، كالانسان والحجر، ونقيضاهما لا انسان ولا حجر، وبينهما عموم وخصوص من وجه، لأنهما يجتمعان في الفرس مثلاً ويفترق كل منهما عن الآخر في عين الآخر، فاللاانسان يفترق عن اللاحجر في الحجر واللاحجر عن اللاانسان في الانسان.
خلاصة:
النسبة بين المفهومين النسبة بين نقيضيهما
1- التساوي ...... التساوي
2- العموم والخصوص من وجه..
3- التباين الكلي التباين الجزئي
4- العموم والخصوص مطلقاً... العموم والخصوص مطلقاً بالعكس
تمرينات
أ- بيِّن ماذا بين الأمثلة الآتية من النسب الأربع وماذا بين نقيضيهما:
1- الكاتب والقارئ
2- الشاعر والكاتب
3- الشجاع والكريم
4- السيف والصارم
5- المايع والماء
6- المشترك والمترادف
7- السواد والحلاوة
8- الأسود والحلو
9- النائم والجالس
10- اللفظ والكلام
ب- اشرح البراهين على كل واحدة من النسب بين نقيضي الكليين بعبارة صحة مع عدم استعمال الرموز والاشارات.
ج- اذكر مثالين من غير ما مر عليك لكل من النسب الأربع.
الكليات الخمسة
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
الكلي: ذاتي وعرضي.
الذاتي: نوع وجنس وصل.
العرضي: خاصة وعرض عام.
قد يسأل سائل عن شخص انسان (من هو؟).
وقد يسأل عنه..... (ما هو؟).
فهل تجد فرقاً بين السؤالين؟ ـ لا شك ان الأول سؤال عن مميزاته الشخصية. والجواب عنه: (ابن فلان)، أو مؤلف كتاب كذا، أو صاحب العمل الكذائي، أو ذو الصفة الكذائية... وأمثال ذلك من الأجوبة المقصود بها تعيين المسؤول عنه من بين الأشخاص أمثاله. ويغلط المجيب لو قال: (انسان)، لأنه لا يميزه عن أمثاله من أفراد الانسان. ويصطلح في هذا العصر على الجواب عن هذا السؤال بـ (الهوية الشخصية) مأخوذة من كلمة (هو)، كالمعلومات التي تسجل عن الشخص في دفتر النفوس.
أما السؤال الثاني، فانما يسأل به عن حقيقة الشخص التي يتفق بها مع الأشخاص الآخرين أمثاله، والمقصود بالسؤال تعيين تمام حقيقته بين الحقائق لا شخصه بين الأشخاص. ولا يصلح للجواب إلا كمال حقيقته فتقول: (انسان) دون ابن فلان ونحوه. ويسمى الجواب عن هذا السؤال:
النوع
وهو أول الكليات الخمسة وسيأتي قريباً تعريفه.
وقد يسأل السائل عن زيد وعمرو وخالد..... (ما هي؟).
وقد يسأل السائل عن زيد وعمرو وخالد وهذه الفرس وهذا الأسد (ما هي).
هل تجد فرقاً بين السؤالين؟ ـ تأمل فيهما، فستجد ان (الأول) سؤال عن حقيقة جزئيات متفقة بالحقيقة مختلفة بالعدد. و(الثاني) سؤال عن حقيقة جزئيات مختلفة بالحقيقة والعدد.
والجواب عن الأول بكمال الحقيقة المشتركة بينهما، فتقول: انسان. وهو (النوع) المتقدم ذكره.
وعن الثاني أيضاً بكمال الحقيقة المشتركة بينها، فتقول: حيوان ويسمى:
الجنس
وهو ثاني الكليات الخمسة. وعليه يمكن تعريفهما بما يأتي:
1- (النوع) هو تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالعدد فقط في جواب ما هو؟
2- (الجنس) هو تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالحقيقة في جواب ما هو؟
ـ وإذا تكثرت الجزئيات بالحقيقة فلابد أن تتكثر بالعدد قطعاً.
* * *
وقد يسأل السائل عن الانسان والفرس..... والقرد (ما هي؟)
وقد يسأل السائل عن الانسان فقط..... (ما هو؟)
لاحظ ان (الكليات) هي المسؤول عنها هذه المرة! فماذا ترى ينبغي أن يكون الجواب عن كل من السؤالين؟ ـ نقول: أما الأول فهو سؤال عن كليات مختلفة الحقائق، فيجاب عنه بتمام الحقيقة المشتركة بينها. وهو الجنس. فتقول في المثال: (حيوان). ومنه يعرف ان الجنس يقع أيضاً جواباً عن السؤال بما هو عن الكليات المختلفة بالحقائق التي تكون أنواعاً له، كما يقع جواباً عن السؤال بما هو عن الجزئيات المختلفة بالحقائق.
وأما الثاني. فهو سؤال بما هو عن كلي واحد. وحق الجواب الصحيح الكامل نقول في المثال: (حيوان ناطق)، فيتكفل الجواب بتفصيل ماهية الكلي المسؤول عنه وتحليلها إلى تمام الحقيقة التي يشاركه فيها غيره وإلى الخصوصية التي بها يمتاز عن مشاركاته في تلك الحقيقة. ويسمى مجموع الجواب (الحد التام) كما سيأتي في محله. وتمام الحقيقة المشتركة التي هي الجزء الأول من الجواب هي (الجنس) وقد تقدم. والخصوصية المميزة التي هي الجزء الثاني من الجواب هي:
الفصل
وهو ثالث الكليات. ومن هذا يتضح ان الفصل جزء من مفهوم الماهية، ولكنه الجزء المختص بها الذي يميزها عن جميع ما عداها، كما ان الجنس جزؤها المشترك الذي أيضاً يكون جزءاً للماهيات الأخرى.
ويبقى شيء ينبغي ذكره، وهو أنا كيف نسأل ليقع الفصل وحده جواباً؟ وبعبارة أوضح: ان الفصل وحده يقع في الجواب عن أي سؤال».
نقول: يقع الفصل جواباً عما إذا سألنا عن خصوصية الماهية التي بها نمتاز عن أغيارها، بعد أن نعرف تمام الحقيقة المشتركة بينها وبين أغيارها. فإذا رأينا شبحاً من بعيد وعرفنا انه حيوان وجهلنا خصوصيته بطبيعتنا نسأل فنقول: (أي حيوان هو في ذاته). وإن شئت قلت بدل في ذاته: في جوهره أو حقيقته، فإن المعنى واحد. والجواب عن الأول (ناطق) فقط وهو فصل الإنسان أو (صاهل) وهو فصل الفرس. وعن الثاني (حساس) مثلاً وهو فصل الحيوان.
إذن يصح أن نقول ان الفصل يقع في جواب (أي شيء). وشيء كناية عن الجنس الذي عرف قبل السؤال عن الفصل. وعليه يصح تعريف الفصل بما يأتي:
«هو جزء الماهية المختص بها الواقع في جواب أي شيء هو في ذاته».
تقسيمات
(1) النوع: حقيقي واضافي.
(2) الجنس: قريب وبعيد ومتوسط.
(3) النوع الاضافي: عال وسافل ومتوسط.
(4) الفصل: قريب وبعيد. مقوِّم ومقسِّم.
(1) لفظ النوع مشترك بين معنيين أحدهما (الحقيقي)، وهو أحد الكليات الخمسة، وقد تقدم. وثانيهما (الاضافي). والمقصود به الكلي الذي فوقه جنس. فهو نوع بالاضافة إلى الجنس الذي فوقه سواء كان نوعاً حقيقياً أو لم يكن، كالانسان بالاضافة إلى جنسه وهو الحيوان، وكالحيوان بالاضافة إلى جنسه وهو الجسم النامي، وكالجسم النامي بالاضافة إلى الجسم المطلق، وكالجسم المطلق بالاضافة إلى الجوهر.
(2) قد تتألف سلسلة من الكليات يندرج بعضها تحت بعض، كالسلسلة المتقدمة التي تبتدىء بالانسان وتنتهي بالجوهر. فإذا ذهبت بها (متصاعداً) من الانسان، فمبدؤها (النوع) وهو الانسان في المثال، وبعده الجنس الأدنى الذي هو مبدأ سلسلة الأجناس، ويسمى (الجنس القريب)، لأنه أقربها إلى النوع. ويسمى أيضاً (الجنس السافل). وهو الحيوان في المثال.
ثم هذا الجنس فوقه جنس أعلى... حتى تنتهي إلى الجنس الذي ليس فوقه جنس. ويسمى (الجنس البعيد) و (الجنس العالي) و (الجنس المتوسط). ويسمى (بعيداً) أيضاً كالجسم المطلق والجسم النامي. فالجنس ـ على هذا ـ قريب وبعيد ومتوسط أو سافل وعال ومتوسط.
(3) وإذا ذهبت في السلسلة متنازلاً مبتدئاً من جنس الأجناس إلى ما دونه، حتى تنتهي إلى النوع الذي ليس تحته نوع. فما كان بعد جنس الأجناس يسمى (النوع العالي)، وهو مبدأ سلسلة الأنواع الاضافية، وهو الجسم المطلق في المثال. وأخيرها أي منتهى السلسلة يسمى (نوع الأنواع) أو (النوع السافل)، وهو الانسان في المثال. أما ما يقع بين العالي والسافل فهو (المتوسط)، كالحيوان والجسم النامي. فالجسم النامي جنس متوسط ونوع متوسط.
إذن النوع الاضافي: عال ومتوسط وسافل.
(تنبيه) يتضح مما سبق ان كلا من المتوسطات لا بد أن يكون نوعاً لما فوقه وجنساً لما تحته. والمتوسط النوع والجنس قد يكون واحداً إذا تألفت سلسلة الكليات من أربعة، وقد يكون أكثر إذا كانت السلسلة أكثر من أربعة.
فمثال الأول: (الماء) المندرج تحت (السائل) المندرج تحت (الجسم) المندرج تحت (الجوهر). أو (البياض) المندرج تحت (اللون) المندرج تحت (الكيف المحسوس) المندرج تحت (الكيف).
ومثال الثاني: سلسلة الانسان إلى الجوهر المؤلفة من خمسة كليات كما تقدم، أو (متساوي الساقين) المندرج تحت (المثلث) المندرج تحت (الشكل المستقيم الاضلاع) المندرج تحت (الشكل المستوي) المندرج تحت (الشكل) المندرج تحت (الكم). وهذه السلسلة مؤلفة من ستة كليات، والأنواع المتوسطة ثلاثة (المثلث، والشكل المستقيم الاضلاع، والشكل المستوي). والأجناس المتوسطة ثلاثة أيضاً (الشكل المستقيم الاضلاع، والشكل المستوي، والشكل).
(4) وكل نوع اضافي لابد له من صل يكون جزءاً من ماهيته يقومها ويميزها عن الأنواع الأخر التي في عرضه المشتركة معه في الجنس الذي فوقه، كما يقسم الجنس إلى قسمين أحدهما نوع ذلك الفصل وثانيهما ما عداه، كالحساس المقوم للحيوان والمقسم للجسم النامي إلى حيوان وغير حيوان فيقال: الجسم النامي حساس وغير حساس.
ولكن الفصل الذي يقوِّم نوعه المساوي له لابد أن يقوِّم أيضاً ما تحته من الأنواع. فالحساس المقوم للحيوان يقوم الانسان وغيره من أنواع الحيوان أيضاً. لأن الفصل للعالي لابد أن يكون جزءاً من العالي، والعالي جزء من السافل، وجزء الجزء جزء. فيكون الفصل المقوم للعالي جزءاً من السافل، فيقومه.
والقاعدة أيضاً إذا لوحظ بالقياس إلى نوعه المساوي له قيل له (الفصل القريب) كالحساس بالقياس إلى الحيوان، والناطق بالقياس إلى الانسان. وإذا لوحظ بالقياس إلى النوع الذي تحت نوعه قيل له (الفصل البعيد)، كالحساس بالقياس إلى الانسان.
والخلاصة: إن الفصل الواحد يسمى قريباً وبعيداً باعتبارين. ويسمى مقوماً ومقسماً باعتبارين.
الذاتي والعرضي
للذاتي والعرضي اصطلاحات في المنطق تختلف معانيها. ولا يهمنا الآن التعرض إلا لاصطلاحهم في هذا الباب، وهو الذي يسمونه بكتاب (ايساغوجي) أي كتاب الكليات الخمسة، حسب وضع مؤسس المنطق الحكيم (أرسطو). وكان علينا أن نتعرض لهذا الاصطلاح في أول بحث الكليات الخمسة، لولا انا أردنا ايضاح المعنى المقصود منه بتقديم شرح الكليات الثلاثة المتقدمة، فنقول:
1- (الذاتي): هو المحمول الذي تتقوم ذات الموضوع به غير خارج عنها. ونعني (بما تتقوم ذات الموضوع به) ان ماهية الموضوع لا تتحقق إلا به فهو قوامها، سواء كان هو نفس الماهية كالانسان المحمول على زيد وعمرو، أو كان جزءاً منها كالحيوان المحمول على الانسان أو الناطق المحمول عليه، فان نفس الماهية أو جزأها يسمى (ذاتياً).
وعليه، فالذاتي يعم النوع والجنس والفصل، لأن النوع نفس الماهية الداخلة في ذات الأفراد، والجنس والفصل جزآن داخلان في ذاتها.
2- (العرضي): هو المحمول الخارج عن ذات الموضوع، لاحقاً له بعد تقومه بجميع ذاتياته، كالضاحك اللاحق للانسان، والماشي اللاحق للحيوان، والمتحيز اللاحق للجسم.
وعندما يتضح هذا الاصطلاح ندخل الآن في بحث باقي الكليات الخمسة، وقد بقي منها أقسام العرضي، فان العرضي ينقسم إلى:
الخاصة والعرض العام
لأن العرضي: وإما أن يختص بموضوعه الذي حمل عليه أي لا يعرض لغيره، فهو (الخاصة) سواء كانت مساوية لموضوعها كالضاحك بالنسبة إلى الانسان، أو كانت مختصة ببعض أفراده كالشاعر والخطيب والمجتهد العارضة على بعض أفراد الانسان. وسواء كانت خاصة للنوع الحقيقي كالأمثلة السابقة، أو للجنس المتوسط كالمتحيز خاصة الجسم، والماشي خاصة الحيوان، أو لجنس الأجناس، كالموجود لا في موضوع خاصة الجوهر.
وإما أن يعرض لغير موضوعه أيضاً أي لا يختص به فهو (العرض العام) كالماشي بالقياس إلى الانسان، والطائر بالقياس إلى الغراب، والمتحيز بالقياس إلى الحيوان، أو بالقياس إلى الجسم النامي.
وعليه، يمكن تعريف الخاصة والعرض العام بما يأتي:
(الخاصة): الكلي الخارج المحمول الخاص بموضوعه.
(العرض العام): الكلي الخارج المحمول على موضوعه وغيره.
تنبيهات وتوضيحات
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
1- قد يكون الشيء الواحد خاصة بالقياس إلى موضوع وعرضاً عاماً بالقياس إلى آخر، كالماشي، فانه خاصة للحيوان وعرض عام للانسان. ومثله، الموجود لا في موضوع، والمتحيز، ونحوها، مما يعرض الأجناس.
2- وقد يكون الشيء الواحد عرضياً بالقياس إلى موضوع، وذاتياً بالقياس إلى آخر، كالملون، فانه خاصة الجسم مع انه جنس للأبيض والأسود ونحوهما. ومثله مفرق البصر، فانه عرضي بالقياس إلى الجسم مع انه فصل للأبيض، لأن الأبيض (ملون مفرق البصر).
3- كل من الخاصة والفصل قد يكون مفرداً وقد يكون مركباً. مثال المفرد منهما الضاحك والناطق. ومثال المركب من الخاصة قولنا للانسان: «منتصب القامة بادي البشرة». ومثال المركب من الفصل قولنا للحيوان: «حساس متحرك بالارادة».
الصنف
4- تقدم ان الفصل يقوم النوع ويميزه عن أنواع جنسه، أي يقسم ذلك الجنس، أو فقل (ينوع) الجنس. أما الخاصة فانها لا تقوّم الكلي الذي تختص به قطعاً، إلا انها تميزه عن غيره، أي انها تقسم ما فوق ذلك الكلي. فهي كالفصل من هذه الناحية في كونها تقسم الجنس، وتزيد عليه بأنها تقسم العرض العام أيضاً، كالموجود لا في موضوع الذي يقسم (الموجود) إلى جوهر وغير جوهر.
وتزيد عليه أيضاً بأنها تقسم كذلك النوع، وذلك عندما تختص ببعض أفراد النوع كما تقدم، كالشاعر المقسم للانسان. وهذا التقسيم للنوع يسمى في اصطلاح المنطقيين (تصنيفاً)، وكل قسم من النوع يسمى (صنفاً).
فالصنف: كل كلي أخص من النوع ويشترك مع باقي أصناف النوع في تمام حقيقتها، ويمتاز عنها بأمر عارض خارج عن الحقيقة.
والتصنيف كالتنويع، إلا ان التنويع للجنس باعتبار الفصول الداخة في حقيقة الأقسام. والتصنيف لنوع باعتبار الخواص الخارجة عن حقيقة الأقسام كتصنيف الانسان إلى شرقي وغربي، وإلى عالم وجاهل، وإلى ذكر وأنثى... وكتصنيف الفرس إلى أصيل وهجين، وتصنيف النخل إلى زهدي وبربن وعمراني... إلى ما شاء الله من التقسيمات للأنواع باعتبار أمور عارضة خارجة عن حقيقتها.
الحمل وأنواعه
5- وصفنا كلاً من الكليات الخمسة (بالمحمول). وأشرنا إلى أن الكلي المحمول ينقسم إلى الذاتي والعرضي. وهذا أمر يحتاج إلى التوضيح والبيان.
لأن سائلاً قد يسأل فيقول: ان النوع قد يحمل على الجنس، كما يقال مثلاً: الحيوان إنسان وفرس وجمل... إلى آخره، مع ان الانسان بالقياس إلى الحيوان ليس ذاتياً له، لأنه ليس تمام الحقيقة ولا جزأها، ولا عرضياً خارجاً عنه. أفهناك واسطة بين الذاتي والعرضي أم ماذا؟
وقد يسأل ـ ثانياً ـ فيقول: ان الحد التام يحمل على النوع والجنس، كما يقال: الانسان حيوان ناطق. والحيوان جسم تام حساس متحرك بالارادة. وعليه فالحد التام كلي محمول، وهو تمام حقيقة موضوعه، مع انه ليس نوعاً له ولا جنساً ولا فصلاً، فينبغي أن يجعل للذاتي قسماً رابعاً. بل لا ينبغي تسميته بالذاتي لأنه هو نفس الذات والشيء لا ينسب إلى نفسه، ولا بالعرضي لأنه ليس بخارج عن موضوعه، فيجب أن يكون واسطة بين الذاتي والعرضي.
وقد يسأل ـ ثالثاً ـ فيقول: ان المنطقيين يقولون ان الضحك خاصة الانسان والمشي عرض عام له مثلاً، مع ان الضحك والمشي لا يحملان على الانسان، فلا يقال الانسان ضحك، وقد ذكرتم ان الكليات كلها محمولات على موضوعاتها، فما السر في ذلك؟
ولكن هذا السائل إذا اتضح له المقصود من (الحمل) ينقطع لديه الكلام، فان الحمل له ثلاثة تقسيمات. والمراد منه هنا بعض أقسامه في كل من التقسيمات فنقول:
1- الحمل: طبعي ووضعي:
اعلم ان كل محمول فهو كلي حقيقي، لأن الجزئي الحقيقي بما هو جزئي لا يحمل على غيره. وكل كلي أعم بحسب المفهوم فهو محمول بالطبع على ما هو أخص منه مفهوماً، كحمل الحيوان على الانسان، والانسان على محمد، بل وحمل الناطق على الانسان. ويسمى مثل هذا (حملاً طبعياً) أي اقتضاه الطبع ولا يأباه.
وأما العكس، وهو حمل الأخص مفهوماً على الأعم، فليس هو حملاً طبعياً، بل بالوضع والجعل، لأنه يأباه الطبع ولا يقبله فلذلك يسمى (حملاً وضعياً) أو جعلياً.
ومرادهم بالأعم بحسب المفهوم غير الأعم بحسب المصداق الذي تقدم الكلام عليه في النسب: فان الأعم قد يراد منه الأعم باعتبار وجوده في أفراد الأخص وغير أفراده كالحيوان بالقياس إلى الانسان وهو المعدود في النسب. وقد يراد منه الأعم باعتبار المفهوم فقط وإن كان مساوياً بحسب الوجود، كالناطق بالقياس إلى الانسان، فان مفهومه انه شيء ما له النطق من غير التفات إلى كون ذلك الشيء انساناً أو لم يكن، وانما يستفاد كون الناطق انساناً دائماً من خارج المفهوم.
فالناطق بحسب المفهوم أعم من الانسان وكذلك الضاحك، وان كانا بحسب الوجود مساويين له... وهكذا جميع المشتقات لا تدل على خصوصية ما تقال عليه كالصاهل بالقياس إلى الفرس والباغم للغزال والصادح للبلبل والماشي للحيوان.
وإذا اتضح ذلك يظهر الجواب عن السؤال الأول، لأن المقصود من المحمول في الكليات الخمسة المحمول بالطبع لا مطلقاً.
2- الحمل: ذاتي أولي، وشايع صناعي:
واعلم ان معنى الحمل هو الاتحاد بين شيئين، لأن معناه ان هذا ذاك. وهذا المعنى كما يتطلب الاتحاد بين الشيئين يستدعي المغايرة بينهما، ليكونا حسب الفرض شيئين. ولولاها لم يكن إلا شيء واحد لا شيئان.
وعليه، لابدّ في الحمل من الاتحاد من جهة والتغاير من جهة أخرى، كما يصح الحمل. ولذا لا يصح الحمل بين المتباينين إذ لا اتحاد بينهما. ولا يصح حمل الشيء على نسه، إذ الشيء لا يغاير نفسه.
ثم ان هذا الاتحاد أما أن يكون في المفهوم، فالمغايرة لابدّ أن تكون اعتبارية. ويقصد بالحمل حينئذ أن مفهوم الموضوع هو بعينه نفس مفهوم المحمول وماهيته، بعد أن يلحظا متغايرين بجهة من الجهات. مثل قولنا: (الانسان حيوان ناطق)، فان مفهوم الانسان ومفهوم حيوان ناطق واحد إلا أن التغاير بينهما بالاجمال والتفصيل، وهذا النوع من الحمل يسمى (حملاً ذاتياً أولياً).
وأما أن يكون الاتحاد في الوجود والمصداق، والمغايرة بحسب المفهوم. ويرجع الحمل حينئذٍ إلى كون الموضوع من أفراد مفهوم المحمول ومصاديقه. مثل قولنا: (الانسان حيوان)، فان مفهوم انسان غير مفهوم حيوان، ولكن كل ما صدق عليه الانسان صدق عليه الحيوان. وهذا النوع من الحمل يسمى (الحمل الشايع الصناعي) أو (الحمل المتعارف)، لأنه هو الشايع في الاستعمال المتعارف في صناعة العلوم.
وإذا اتضح هذا البيان يظهر الجواب عن السؤال الثاني أيضاً، لأن المقصود من المحمول في باب الكليات هو المحمول بالحمل الشايع الصناعي. وحمل الحد التام من الحمل الذاتي الأولى.
3- الحمل: مواطاة واشتقاق:
إذا قلنا: الانسان ضاحك، فمثل هذا الحمل يسمى (حمل مواطاة) أو (حمل هوهو) ومعناه ان ذات الموضوع نفس المحمول. وإذا شئت فقل معناه. هذا ذاك. والمواطاة معناها الاتاق. وجميع الكليات الخمسة يحمل بعضها على بعض وعلى أفرادها بهذا الحمل.
وعندهم نوع آخر من الحمل يسمى (حمل اشتقاق) أو حمل (ذو هو)، كحمل الضحك على الانسان، فانه لا يصح أن تقول الانسان ضحك، بل ضاحك أو ذو ضحك. وسمي حمل اشتقاق وذو هو، لأن هذا المحمول بدون أن يشتق منه اسم كالضاحك أو يضاف إليه (ذو) لا يصح حمله على موضوعه، فيقال للمشتق كالضاحك محمولاً بالمواطاة، وللمشتق منه كالضحك محمولاً بالاشتقاق.
والمقصود بيانه ان المحمول بالاشتقاق كالضحك والمشي والحس لا يدخل في أقسام الكليات الخمسة، فلا يصح أن يقال: الضحك خاصة للإنسان، ولا اللون خاصة للجسم، ولا الحس فصل للحيوان، بل الضاحك والملون هو الخاصة، والحساس هو الفصل... وهكذا. وإذا وقع في كلمات القوم شيء من هذا القبيل فمن التساهل في التعبير الذي قد يشوش أفكار المبتدئين، إذ ترى بعضهم يعبر بالضحك ويريد منه الضاحك. وبهذا يظهر الجواب عن السؤال الثالث.
نعم (اللون) بالقياس إلى البياض كلي وهو جنس له، لأنك تحمله عليه حمل مواطاة، فتقول: البياض لون. أما اللون والبياض بالقياس إلى الجسم فليسا من الكليات المحمولة عليه.
العروض معناه الحمل
6- ثم لا يشتبه عليك الأمر، فتقول: انكم قلتكم الكلي الخارج ان عرض على موضوعه فقط فهو الخاصة وإلا فالعرض العام. والضحك لا شك يعرض على الإنسان ومختص به. فاذن يجب أن يكون خاصة.
فانا نرفع هذا الاشتباه ببيان العروض المقصود به في الباب، فان المراد منه هو الحمل حملاً عرضياً لا ذاتياً. وعليه فالضحك لا يعرض على الإنسان بهذا المعنى. وإذا قيل يعرض على الإنسان فبمعنى آخر للعروض وهو الوجود فيه.
وعندهم تعبير آخر بسبب الاشتباه، وهو قولهم الكلي الخارج عرض خاص وعرض عام، فيطلقون العرض على الكلي الخارج، ثم يقولون لمثل الضحك انه عرض. والمقصود بالعرض في التعبير الأول هو العرضي مقابل الذاتي، والمقصود بالعرض في الثاني هو الموجود في الموضوع مقابل الجوهر الموجود لا في موضوع.
ومثل اللون يسمى عرضاً بالمعنى الثاني لأنه موجود في موضوع، ولكن لا يصح أن يسمى عرضاً بالمعنى الأول أبداً، لأنه بالقياس إلى الجسم لا يحمل عليه حمل مواطاة وبالقياس إلى ما تحته من الأنواع كالسواد والبياض هو ج نس لها كما تقدم، فهو حينئذ ذاتي لا عرضي.
تقسيمات العرضي
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
العرضي: لازم ومفارق.
1- (اللازم): ما يمتنع انفكاكه عقلاً عن موضوعه، كوصف (الفرد) للثلاثة و(الزوج) للأربعة، و(الحارة) للنار...
2- (المفارق): ما (لا) يمتنع انفكاكه عقلاً عن موضوعه، كأوصاف الإنسان المشتقة من أفعاله وأحواله، مثل قائم وقاعد ونائم وصحيح وسقيم، وما إلى ذلك، وإن كان لا ينفك أبداً: فانك ترى ان وصف العين (بالزرقاء) لا ينفك عن وجود العين، ولكنه مع ذلك بعد عرضياً مفارقاً، لأنه لو أمكنت حيلة لازالة الزرقة لما امتنع ذلك وتبقى العين عيناً. وهذا لا يشبه اللازم، فلو قدرت حيلة لسلخ وصف الفرد عن الثلاثة لما أمكن أن تبقى الثلاثة ثلاثة، ولو قدر سلخ وصف الحرارة عن النار لبطل وجود النار. وهذا معنى امتناع الانفكاك عقلاً.
اللازم: بيّن وغير بيّن.
البيّن: بيّن بالمعنى الأخص، وبين بالمعنى الأعم.
1- (البين بالمعنى الأخص): ما يلزم من تصور ملزومه تصوره، بلا حاجة إلى توسط شيء آخر.
2- (البين بالمعنى الأعم): ما يلزم من تصوره وتصور الملزوم وتصور النسبة بينهما الجزم بالملازمة. مثل: الاثنان نصف الأربعة أو ربع الثمانية، فانك إذا تصورت الاثنين قد تغفل عن انها نصف الأربعة أو ربع الثمانية، ولكن إذا تصورت أيضاً الثمانية مثلاً، وتصورت النسبة بينهما تجزم انها ربعها. وكذا إذا تصورت الأربعة والنسبة بينهما تجزم انها نصفها... وهكذا في نسبة الاعداد بعضها إلى بعض. ومن هذا الباب لزوم وجوب المقدمة لوجوب ذي المقدمة، فانك إذا تصورت وجوب الصلاة، وتصورت الوضوء، وتصورت النسبة بينه وبين الصلاة وهي توقف الصلاة الواجبة عليه، حكمت بالملازمة بين وجوب الصلاة ووجوبه.
وانما كان هذا القسم من البين أعم، لأنه لا يفرق فيه بين أن يكون تصور الملزوم كافياً في تصور اللازم وانتقال الذهن إليه وبين ألا يكون كافياً، بل لابدّ من تصور اللازم وتصور النسبة للحكم بالملازمة. وإنما يكون تصور الملزوم كافياً في تصور اللازم عندما يألف الذهن الملازمة بين الشيئين على وجه يتداعى عنده المتلازمان فاذا وُجد أحدهما في الذهن وجد الآخر تبعاً له، فتكون الملازمة حينئذٍ ذهنية.
3- (غير البيّن) وهو ما يقابل البين مطلقاً، بأن يكون التصديق والجزم بالملازمة لا يكفي فيه تصور الطرفين والنسبة بينهما. بل يحتاج اثبات الملازمة إلى إقامة الدليل عليه. مثل الحكم بأن المثلث زواياه تساوي قائمتين، فإن الجزم بهذه الملازمة يتوقف على البرهان الهندسي، ولا يكفي تصور زوايا المثلث وتصور القائمتين وتصور النسبة للحكم بالتساوي.
والخلاصة: معنى البين مطلقاً ما كان لزومه بديهياً، وغير البين ما كان لزومه نظرياً.
المفارق: دائم وسريع الزوال وبطيئة.
(الدائم): كوصف الشمس بالمتحركة، ووصف العين بالزرقاء. (سريع الزوال): كحمرة الخجل وصفرة الخوف. (بطيء الزوال): كالشباب للإنسان.
الكلي المنطقي والطبيعي والعقلي
إذا قيل: (الإنسان كلي) مثلاً، فهنا ثلاثة أشياء: ذات الإنسان بما هو إنسان، ومفهوم الكلي بما هو كلي مع عدم الالتفات إلى كونه انساناً أو غير انسان، والانسان بوصف كونه كلياً. أو فقل الأشياء الثلاثة هي: ذات الموصوف مجرداً، ومفهوم الوصف مجرداً، والمجموع من الموصوف والوصف.
1- فان لاحظ العقل (والعقل قادر على هذه التصرفات) نفس ذات الموصوف بالكلي مع قطع النظر عن الوصف، بأن يعتبر الانسان، مثلاً، بما هو انسان من غير التفات إلى انه كلي أو غير كلي، وذلك عندما يحكم عليه بأنه حيوان ناطق ـ فانه أي ذات الموصوف بما هو عند هذه الملاحظة يسمى (الكلي الطبيعي). ويقصد به طبيعة الشيء بما هي.
والكلي الطبيعي موجود في الخارج بوجود أفراده.
2- وإن لاحظ العقل مفهوم الوصف بالكلي وحده، وهو أن يلاحظ مفهوم (ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين) مجرداً عن كل مادة مثل انسان وحيوان وحجر وغيرها ـ فانه أي مفهوم الكلي بما هو عند هذه الملاحظة، يسمى (الكلي المنطقي).
والكلي المنطقي لا وجود له إلا في العقل، لأنه مما ينتزعه ويفرضه العقل، فهو من المعاني الذهنية الخالصة التي لا موطن لها خارج الذهن.
3- وإن لاحظ العقل المجموع من الوصف والموصوف، بأن لا يلاحظ ذات الموصوف وحده مجرداً، بل بما هو موصوف بوصف الكلية، كما يلاحظ الانسان بما هو كلي لا يمتنع صدقه على الكثير ـ فانه أي الموصوف بما هو موصوف بالكلي يسمى (الكلي العقلي) لأنه لا وجود له إلا في العقل، لاتصافه بوصف عقلي، فان كل موجود في الخارج لابد أن يكون جزئياً حقيقياً.
ونشبه هذه الاعتبارات الثلاث لأجل توضيحها بما إذا قيل: (السطح فوق)، فإذا لاحظت (ذات السطح) بما يشتمل عليه من آجر وخشب ونحوهما وقصرت النظر على ذلك غير ملتفت إلى أنه فوق أو تحت، فهو شبيه بالكلي الطبيعي. وإذا لاحظت مفهوم (الفوق) وحده مجرداً عن شيء هو فوق، فهو شبيه بالكلي المنطقي. وإذا لاحظت ذات السطح بوصف انه فوق. فهو شبيه بالكلي العقلي.
واعلم ان جميع الكليات الخمسة وأقسامها، بل الجزئي أيضاً، تصح فيها هذه الاعتبارات الثلاثة، فيقال على قياس ما تقدم: نوع طبيعي ومنطقي وعقلي، وجنس طبيعي ومنطقي وعقلي... إلى آخرها.
فالنوع الطبيعي مثل انسان بما هو انسان، والنوع المنطقي هو مفهوم «تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالعدد في جواب ما هو»، والنوع العقلي هو مفهوم الانسان بما هو تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالعدد... وهكذا يقال في باقي الكليات وفي الجزئي أيضاً.
تمرينات
(1) إذا قيل: التمر لذيذ الطعم مغذ من السكريات ومن أقسام مأكول الانسان بل مطلق المأكول، وهو جسد جامد، فيدخل في مطلق الجسم، بل الجوهر ـ فالمطلوب ان ترتب سلسلة الأجناس في هذه الكليات متصاعداً وسلسلة الأنواع متنازلاً. بعد التمييز بين الذاتي والعرضي. واذكر بعد ذلك أقسام الأنواع الاضافية من هذه الكليات وأقسام العرضيات منها.
(2) وإذا قيل: الخمر جسم مايع مسكر محرم شرعاً سالب للعقل مضر بالصحة مهدم للقوى ـ فالمطلوب أن تميز الذاتي من العرضي في هذه الكليات واستخراج سلسلة الكليات متصاعدة أو متنازلة.
(3) وإذا قيل: الحديد جسم صلب من المعادن التي تتمدد بالطرق والتي تصنع منها الآلات وتصدأ بالماء ـ فالمطلوب تأليف سلسلة الكليات متصاعدة أو متنازلة مع حذف ما ليس من السلسلة.
(4) إذا قسمنا الاسم إلى مرفوع ومنصوب ومجرور فهذا من باب تقسيم الجنس إلى أنواعه أو تقسم النوع إلى أصنافه؟ اذكر ذلك مع بيان السبب.
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
الباب الثالث
المُعرّف وتلحق به القسمة
المقدمة:
في مطلب ما وأي وهل ولم
إذا اعترضتك لفظة من أية لغة كانت، فهنا خمس مراحل متوالية، لابد لك من اجتيازها لتحصيل المعرفة، في بعضها يطلب العلم التصوري، وفي بعضها الآخر العلم التصديقي.
(المرحلة الأولى) تطلب فيها تصور معنى اللفظ تصوراً إجمالياً، فتسأل عنه سؤالاً لغوياً صرفاً، إذا لم تكن تدري لأي معنى من المعاني قد وضع. والجواب يقع بلفظ آخر يدل على ذلك المعنى، كما إذا سألت عن معنى لفظ (غضنفر)، فيجاب: أسد. وعن معنى (سُميدع)، فيجاب: سيد... وهكذا. ويسمى مثل هذا الجواب (التعريف اللفظي). وقواميس اللغات هي المتعهدة بالتعاريف اللفظية.
وإذا تصورت معنى اللفظ اجمالاً، فزعت نفسك إلى:
(المرحلة الثانية)، إذ تطلب تصور ماهية المعنى، أي تطلب تفصيل ما دل عليه الاسم اجمالا. لتمييزه عن غيره في الذهن تمييزاً تاماً، فتسأل عنه بكلمة (ما) فتقول: (..... ما هو؟).
وهذه (ما) تسمى (الشارحة)، لأنها يسأل بها عن شرح معنى اللفظ. والجواب عنه يسمى (شرح الاسم) وبتعبير آخر (التعريف الاسمي). والأصل في الجواب أن يقع بجنس المعنى وفصله القريبين معاً، ويسمى (الحد التام الاسمي). ويصح أن يجاب بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها، أو بأحدهما منضماً إلى الجنس البعيد، أو بالخاصة منضمة إلى الجنس القريب. وتسمى هذه الأجوبة تارة بالحد الناقص وأخرى بالرسم الناقص أو التام، ولكنها توصف جميعاً بالاسمي. وسيأتيك تفصيل هذه الاصطلاحات.
ولو فرض ان المسؤول أجاب خطأ بالجنس القريب وحده، كما لو قال (شجرة) في جواب (ما النخلة) ـ فان السائل لا يقنع بهذا الجواب، وتتوجه نفسه إلى السؤال عن مميزاتها عن غيرها، فيقول: (أية شجرة هي في ذاتها) أو (أية شجرة هي في خاصتها)، فيقع الجواب عن الأول بالفصل وحده فيقول: (مثمرة التمر)، وعن الثاني بالخاصة فيقول: (ذات السعف) مثلاً.
وهذا هو موقع السؤال بكلمة (أي). وجوابها الفصل أو الخاصة.
ـ وإذا حصل لك العلم بشرح المعنى تفزع نفسك إلى:
(المرحلة الثالثة): وهي طلب التصديق: بوجود الشيء، فتسأل عنه بـ (هل) وتسمى (هل البسيطة)، فتقول: هل وجد كذا، أو هل هو موجود.
(ما) الحقيقية:
تنبيه ـ ان هاتين المرحلتين الثانية والثالثة يتعاقبان في التقدم والتأخر، فقد تتقدم الثانية، على حسب ما رتبناهما وهو الترتيب الذي يقتضيه الطبع، وقد تتقدم الثالثة، وذلك عندما يكون السائل من أول الأمر عالماً بوجود الشيء المسئول عنه، أو أنه على خلاف الطبع قدم السؤال عن وجوده فأجيب.
وحينئذٍ اذا كان عالماً بوجود الشيء قبل العلم بتفصيل ما أجمله اللفظ الدال عليه، ثم سأل عنه بـ (ما)، فإن ما هذه تسمى (الحقيقية). والجواب عنها نفس الجواب عن (ما الشارحة)، بلا فرق بينهما إلا من جهة تقدم الشارحة على العلم بوجوده وتأخر الحقيقية عنه.
وانما سميت حقيقية، لأن السؤال بها عن الحقيقة الثابتة ـ والحقيقة باصطلاح المناطقة هي الماهية الموجودة ـ والجواب عنها يسمى (تعريفاً حقيقياً) وهو نفسه الذي كان يسمى (تعريفاً اسمياً) قبل العلم بالوجود ولذا قالوا:
«الحدود قبل الهليات البسيطة حدود اسمية وهي بأعيانها بعد الهليات تنقلب حدوداً حقيقية».
ـ وإذا حصلت لك هذه المراحل انتقلت بالطبع إلى:
(المرحلة الرابعة): وهي طلب التصديق بثبوت صفة أو حال للشيء، ويسأل عنه بـ (هل) أيضاً، ولكن تسمى هذه (هل المركبة)، لأنه يسأل بها عن ثبوت شيء لشيء بعد فرض وجوده، والبسيطة يسأل بها عن ثبوت الشيء فقط، فيقال للسؤال بالبسيطة مثلاً: هل الله موجود. وللسؤال بالمركبة بعد ذلك: هل الله الموجود مريد.
فإذا أجابك المسؤول عن هل البسيطة أو المركبة تنزع نفسك إلى:
(المرحلة الخامسة): وهي طلب العلة: أما علة الحكم فقط أي البرهان على ما حكم به المسؤول في الجواب عن هل أو علة الحكم وعلة الوجود معاً، لتعرف السبب في حصول ذلك الشيء واقعاً. ويسأل لأجل كل من الغرضين بكلمة (لِمَ) الاستفهامية، فتقول لطلب علة الحكم مثلاً: (لِمَ كان الله مريداً). وتقول مثلاً لطلب علة الحكم وعلة الوجود معاً: (لِمَ كان المغناطيس جاذباً للحديد؟)، كما لو كنت قد سألت هل المغناطيس جاذب للحديد؟ فأجاب المسؤول بنعم، فان حقك أن تسأل ثانياً عن العلة فتقول (لِمَ).
تلخيص وتعقيب
ظهر مما تقدم أن:
(ما) لطلب تصور ماهية الشيء. وتنقسم إلى الشارحة والحقيقية. ويشتق منها مصدر صناعي، فيقال: (مائية). ومعناه الجواب عن ما. كما ان (ماهية) مصدر صناعي من (ما هو).
و(أي) لطلب تمييز الشيء عما يشاركه في الجنس تمييزاً ذاتياً أو عرضياً، بعد العلم بجنسه.
و(هل) تنقسم إلى «بسيطة» ويطلب بها التصديق بوجود الشيء أو عدمه، و«مركبة» ويطلب بها التصديق بثبوت شيء لشيء أو عدمه، ويشتق منها مصدر صناعي، فيقال: (الهلية) البسيطة أو المركبة.
و(لِمَ) يطلب بها تارة علة التصديق فقط، وأخرى علة التصديق والوجود معاً. ويشتق منها م صدر صناعي، فيقال (لَميَّة) بتشديد الميم والياء. مثل (كمية) من (كم) الاستفهامية. فمعنى لميَّة الشيء: عليّته.
فروع المطالب
ما تقدم هي أصول المطالب التي يسأل عنها بتلك الأدوات، وهي المطالب الكلية التي يبحث عنها في جميع العلوم. وهناك مطالب أخرى يسأل عنها بكيف وأين ومتى وكم ومن. وهي مطالب جزئية أي أنها ليست من أمهات المسائل بالقياس إلى المطالب الأولى لعدم عموم فائدتها، فإن ما لا كيفية له مثلاً لا يسأل عنه بكيف، وما لا مكان له أو زمان لا يسأل عنه بأين ومتى. على أنه يجوز أن يستغني عنها غالباً بمطلب هل المركبة، فبدلاً عن أن تقول مثلاً: (كيف لون ورق الكتاب؟ وأين هو؟ ومتى طبع؟..) تقول: (هل ورق الكتابَ أبيض؟ وهل هو في المكتبة؟ وهل طبع هذا العام؟..) وهكذا. ولذا وصفوا هذه المطالب بالفروع، وتلك بالأصول.
التعريف
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تمهيد:
كثيراً ما تقع المنازعات في المسائل العلمية وغيرها حتى السياسية لأجل الاجمال في مفاهيم الألفاظ التي يستعملونها، فيضطرب حبل التفاهم، لعدم اتفاق المتنازعين على حدود معنى اللفظ، فيذهب كل فرد منهم إلى ما يختلج في خاطره من المعنى. وقد لا تكون لأحدهم صورة واضحة للمعنى مرسومة بالضبط في لوحة ذهنه، فيقنع ـ لتساهله أو لقصور مداركه ـ بالصورة المطموسة المضطربة، ويبني عليها منطقه المزيف.
وقد يتبع الجدليون والساسة ـ عن عمد وحيلة ـ ألفاظاً خلابة غير محدودة المعنى بحدود واضحة، يستغلون جمالها وابهامها للتأثير على الجمهور، وليتركوا كل واحد يفكر فيها بما شاءت له خواطره الخاطئة أو الصحيحة، فيبقى معنى الكلمة بين أفكار الناس كالبحر المضطرب. ولهذا تأثير سحري عجيب في الأفكار.
ومن هذه الألفاظ كلمة (الحرية) التي أخذت مفعولها من الثورة الفرنسية، وأحداث الانقلابات الجبارة في الدولة العثمانية والفارسية، والتأثير كله لإجمالها وجمالها السطحي الفاتن، وإلا فلا يستطيع العلم أن يحدها بحد معقول يتفق عليه.
ومثلها كلمة (الوطن) الخلابة التي استغلها ساسة الغرب لتمزيق بعض الدول الكبرى كالدولة العثمانية. وربما يتعذر على الباحث أن يعرف اثنين كانا يتفقان على م عنى واحد واضح كل الاتفاق يوم ظهور هذه الكلمة في قاموس النهضة الحديثة: فما هي مميزات الوطن؟ أهي اللغة أم لهجتها أم اللباس أم مساحة الأرض أم اسم القطر والبلد؟ بل كل هذا غير مفهوم حتى الآن على وجه تتفق عليه جميع الناس والأمم. ومع ذلك نجد كل واحد منا في البلاد العربية يدافع عن وطنه، فلماذا لا تكون البلاد العربية أو البلاد الإسلامية كلها وطناً واحداً؟
فمن الواجب على من أراد الاشتغال بالحقائق ـ لئلا يرتطم هو والمشتغل معه في المشاكل ـ أن يفرغ مفردات مقاصده في قالب سهل من التحديد والشرح، فيحفظ ما يدور في خلده من المعنى في آنية من الألفاظ وافية به لا تفيض عليها جوانبها، لينقله إلى ذهن السامع أو القارئ كما كان مخزوناً في ذهنه بالضبط. وعلى هذا الأساس المتين يبنى التفكير السليم.
ولأجل أن يتغلب الانسان على قلمه ولسانه وتفكيره لابدّ له من معرفة أقسام التعريف وشروطه وأصوله وقواعده، ليستطيع أن يحتفظ في ذهنه بالصور الواضحة للأشياء أولاً، وأن ينقلها إلى أفكار غيره صحيحة ثانياً... فهذه حاجتنا لمباحث التعريف.
أقسام التعريف
التعريف: حد ورسم.
الحد والرسم: تام وناقص.
سبق ان ذكرنا (التعريف اللفظي). ولا يهمنا البحث عنه في هذا العلم، لأنه لا ينفع إلا لمعرفة وضع اللفظ لمعناه، فلا يستحق اسم التعريف إلا من باب المجاز والتوسع. وانما غرض المنطقي من (التعريف) هو المعلوم التصوري الموصل إلى مجهول تصوري الواقع جواباً عن (ما) الشارحة أو الحقيقية. ويقسم إلى حد ورسم، وكل منهما إلى تام وناقص.
1- الحد التام
وهو التعريف بجميع ذاتيات المعرَّف (بالفتح)، ويقع بالجنس والفصل القريبين لاشتمالهما على جميع ذاتيات المعرف، فإذا قيل: ما الانسان؟
فيجوز أن تجيب - أول - بأنه: (حيوان ناطق). وهذا حد تام فيه تفصيل ما أجمله اسم الانسان، ويشتمل على جميع ذاتياته، لأن مفهوم الحيوان ينطوي فيه الجوهر والجسم النامي والحساس المتحرك بالارادة. وكل هذه أجزاء وذاتيات للانسان.
ويجوز أن تجيب - ثاني - بأنه: (جسم نام حساس متحرك بالارادة، ناطق). وهذا حد تام أيضاً للانسان عين الأول في المفهوم إلا انه أكثر تفصيلاً، لأنك وضعت مكان كلمة (حيوان) حده التام. وهذا تطويل وفضول لا حاجة إليه، إلا إذا كانت ماهية الحيوان مجهولة للسائل، فيجب.
وهكذا إذا كان الجوهر مجهولاً تضع مكانه حده التام ـ إن وجد ـ حتى ينتهي الأمر إلى المفاهيم البديهية الغنية عن التعريف كمفهوم الموجود والشيء.... وقد ظهر من هذا البيان:
أولاً- ان الجنس والفصل القريبين تنطوي فيهما جميع ذاتيات المعرف لا يشذ منها جزء أبداً، ولذا سمي الحد بهما (تاماً).
وثانياً- ان لا فرق في المفهوم بين الحدود التامة المطولة والمختصرة إلا ان المطولة أكثر تفصيلاً. فيكون التعريف بها واجباً تارة وفضولاً أخرى.
وثالثاً- ان الحد التام يساوي المحدود في المفهوم، كالمترادفين، فيقوم مقام الاسم بأن يفيد فائدته، ويدل على ما يدل عليه الاسم اجمالاً.
ورابعاً- ان الحد التام يدل على المحدود بالمطابقة.
2- الحد الناقص
وهو التعريف ببعض ذاتيات المعرَّف (بالفتح)، ولا بد أن يشتمل على الفصل القريب على الأقل. ولذا سمي (ناقصاً). وهو يقع تارة بالجنس البعيد والفصل القريب، وأخرى بالفصل وحده.
مثال الأول – تقول لتحديد الانسان: (جسم نام... ناطق)، فقد نقصت من الحد التام المذكور في الجواب الثاني المتقدم صفة (حساس متحرك بالارادة) وهي فصل الحيوان، وقد وقع النقص مكان النقط بين جسم نام، وبين ناطق، فلم يكمل فيه مفهوم الانسان.
ومثال الثاني – تقول لتحديد الانسان أيضاً: (... ناطق) فقد نقصت من الحد التام الجنس القريب كله. فهو أكثر نقصاناً من الأول كما ترى... وقد ظهر من هذا البيان:
أولاً- إن الحد الناقص لا يساوي المحدود في المفهوم، لأنه يشتمل على بعض أجزاء مفهومه. ولكنه يساويه في المصداق.
وثانياً- إن الحد الناقص لا يعطي للنفس صورة ذهنية كاملة للمحدود مطابقة له، كما كان الحد التام، فلا يكون تصوره تصوراً للمحدود بحقيقته، بل أكثر ما يفيد تمييزه عن جميع ما عداه تمييزاً ذاتياً فحسب.
وثالثاً- انه لا يدل على المحدود بالمطابقة، بل بالالتزام، لأنه من باب دلالة الجزء المختص على الكل.
3- الرسم التام
وهو التعريف بالجنس والخاصة، كتعريف الانسان بانه (حيوان ضاحك) فاشتمل على الذاتي والعرضي. ولذا سمي (تاماً).
4- الرسم الناقص
وهو التعريف بالخاصة وحدها كتعريف الانسان بأنه (ضاحك) فاشتمل على العرضي فقط، فكان (ناقصاً).
وقيل: إن التعريف بالجنس البعيد والخاصة معدود من الرسم الناقص فيختص التام بالمؤلف من الجنس القريب والخاصة فقط.
ولا يخفى ان الرسم مطلقاً كالحد الناقص لا يفيد إلا تمييز المعرَّف (بالفتح) عن جميع ما عداه فحسب، إلا انه يميزه تمييزاً عرضياً. ولا يساويه إلا في المصداق لا في المفهوم. ولا يدل عليه إلا بالالتزام. كل هذا ظاهر مما قدمناه.
انارة
ان الأصل في التعريف هو الحد التام، لأن المقصود الأصلي من التعريف أمران: (الأول) تصور المعرّف (بالفتح) بحقيقته لتتكون له في النفس صورة تفصيلية واضحة. و(الثاني) تمييزه في الذهن عن غيره تمييزاً تاماً. ولا يؤدّى هذان الأمران إلا بالحد التام. وإذ يتعذر الأمر الأول يكتفي بالثاني. ويتكفل به الحد الناقص والرسم بقسميه. وإلاّ قدم تمييزه تمييزاً ذاتياً ويؤدى ذلك بالحد الناقص فهو أولى من الرسم. والرسم التام أولى من الناقص.
إلا ان المعروف عند العلماء ان الاطلاع على حقائق الأشياء وفصولها من الأمور المستحيلة أو المتعذرة. وكل ما يذكر من الفصول فانما هي خواص لازمة تكشف عن الفصول الحقيقية. فالتعاريف الموجودة بين أيدينا أكثرها أو كلها رسوم تشبه الحدود.
فعلى من أراد التعريف أن يختار الخاصة اللازمة البينة بالمعنى الأخص، لأنها أدل على حقيقة المعرف وأشبه بالفصل. وهذا أنفع الرسوم في تعريف الأشياء. وبعده في المنزلة التعريف بالخاصة اللازمة البينة بالمعنى الأعم. أما التعريف بالخاصة الخفية غير البينة فانها لا تفيد تعريف الشيء لكل أحد، فإذا عرفنا المثلث بانه (شكل زواياه تساوي قائمتين) فانك لم تعرفه إلا للهندسي المستغني عنه.
التعريف بالمثال
والطريقة الاستقرائية
كثيراً ما نجد العلماء ـ لا سيما علماء الأدب ـ يستعينون على تعريف الشيء بذكر أحد أفراده ومصاديقه مثالاً له. وهذا ما نسميه (التعريف بالمثال) وهو أقرب إلى ع قول المبتدئين في فهم الأشياء وتمييزها.
ومن نوع التعريف بالمثال (الطريقة الاستقرائية) المعروفة في هذا العصر التي يدعو لها علماء التربية، لتفهيم الناشئة وترسيخ القواعد والمعاني الكلية في أفكارهم.
وهي: أن يكثر المؤلف أو المدرس ـ قبل بيان التعريف أو القاعدة ـ من ذكر الأمثلة والتمرينات، ليستنبط الطالب بنفسه المفهوم الكلي أو القاعدة. وبعدئذ تعطى له النتيجة بعبارة واضحة ليطابق بين ما يستنبط هو، وبين ما يعطى له بالأخير من نتيجة.
والتعريف بالمثال ليس قسماً خامساً للتعريف، بل هو من التعريف بالخاصة، لأن المثال مما يختص بذلك المفهوم، فيرجع إلى (الرسم الناقص). وعليه يجوز أن يكتفى به في التعريف من دون ذكر التعريف المستنبط، إذا كان المثال وافياً بخصوصيات الممثل له.
التعريف بالتشبيه
مما يلحق بالتعريف بالمثال ويدخل في الرسم الناقص أيضاً (التعريف بالتشبيه). وهو أن يشبه الشيء المقصود تعريفه بشيء آخر لجهة شبه بينهما، على شرط أن يكون المشبه به معلوماً عند المخاطب بأن له جهة الشبه هذه.
ومثاله تشبيه الوجود بالنور، وجهة الشبه بينهما ان كلاً منهما ظاهر بنفسه مظهر لغيره.
وهذا النوع من التعريف ينفع كثيراً في المعقولات الصرفة، عندما يراد تقريبها إلى الطالب بتشبيهها بالمحسوسات، لأن المحسوسات إلى الأذهان أقرب ولتصورها آلف. وقد سبق منا تشبيه كل من النسب الأربع بأمر محسوس تقريباً لها، فمن ذلك تشبيه المتباينين بالخطين المتوازيين لأنهما لا يلتقيان أبداً. ومن هذا الباب المثال المتقدم وهو تشبيه الوجود بالنور، ومنه تشبيه التصور الآلي (كتصور اللفظ آلة لتصور المعنى) بالنظر إلى المرآة بقصد النظر إلى الصورة المنطبعة فيها.
شروط التعريف
الغرض من التعريف ـ على ما قدمنا ـ تفهيم مفهوم المعرَّف (بالفتح) وتمييزه عما عداه. ولا يحصل هذا الغرض إلا بشروط خمسة:
الأول ـ أن يكون المعرَّف (بالكسر) مساوياً للمعرف (بالفتح) في الصدق، أي يجب أن يكون المعرِّف (بالكسر) مانعاً جامعاً. وإن شئت قلت (مطرداً منعكساً).
ومع مانع أو مطرد انه لا يشمل إلا أفراد المعرَّف (بالفتح)، فيمنع من دخول أفراد غيره فيه. ومعنى جامع أو منعكس انه يشمل جميع أفراد المعرَّف (بالفتح) لا يشذ منها فرد واحد.
فعلى هذا لا يجوز التعريف بالأمور الآتية:
1- بالأعم: لأن الأعم لا يكون مانعاً، كتعريف الإنسان بأنه حيوان يمشي على رجلين، فان جملة من الحيوانات تمشي على رجلين.
2- بالأخص: لأن الأخص لا يكون جامعاً، كتعريف الإنسان بانه حيوان متعلم، فانه ليس كلما صدق عليه الانسان هو متعلم.
3- بالمباين: لان المتباينين لا يصح حمل أحدهما على الآخر، ولا يتصادقان أبداً.
الثاني أن يكون المعرِّف (بالكسر) أجلى مفهوماً وأعرف عند المخاطب من المعرَّف (بالفتح). وإلا فلا يتم الغرض من شرح مفهومه، فلا يجوز ـ على هذا ـ التعريف بالأمرين الآتيين:
1- بالمساوي في الظهور والخفاء، كتعريف الفرد بأنه عدد ينقص عن الزوج بواحد، فان الزوج ليس أوضح من الفرد ولا أخفى، بل هما متساويان في المعرفة. كتعريف أحد المتضايفين بالآخر، وأنت انما تتعقلهما معاً، كتعريف الأب بانه والد الابن. وكتعريف الفوق بأنه ليس بتحت...
2- بالأخفى معرفة، كتعريف النور بأنه قوة تشبه الوجود.
الثالث ـ ألا يكون المعرِّف (بالكسر) عين المعرَّف (بالفتح) في المفهوم، كتعريف الحركة بالانتقال والانسان بالبشر تعريفاً حقيقياً غير لفظي، بل يجب تغايرهما أما بالاجمال والتفصيل كما في الحد التام أو بالمفهوم كما في التعريف بغيره.
ولو صح التعريف بعين المعرَّف لوجب أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً، وللزم أن يتوقف الشيء على نفسه. وهذا محال. ويسمون مثل هذا نتيجة الدور الذي سيأتي بيانه.
الرابع ـ أن يكون خالياً من الدور. وصورة الدور في التعريف: أن يكون المعرِّف (بالكسر) مجهولاً في نفسه، ولا يعرف الا بالمعرَّف (بالفتح)، فبينما ان المقصود من التعريف هو تفهيم المعرَّف (بالفتح) بواسطة المعرِّف (بالكسر)، وإذا بالمعرِّف (بالكسر) في الوقت نفسه انما يفهم بواسطة المعرَّف (بالفتح)، فينقلب المعرَّف (بالفتح) معرِّفاً (بالكسر).
وهذا محال، لأنه يؤول إلى أن يكون الشيء معلوماً قبل أن يكون معلوماً، أو إلى أن يتوقف الشيء على نفسه.
والدور يقع تارة بمرتبة واحدة ويسمى (دوراً مصرحاً)، ويقع أخرى بمرتبتين أو أكثر ويسمى (دوراً مضمراً).
1- (الدور المصرح) مثل: تعريف الشمس بانها (كوكب يطلع في النهار). والنهار لا يعرف إلا بالشمس إذ يقال في تعريفه: (النهار: زمان تطلع فيه الشمس). فتوقفت معرفة الشمس على معرفة النهار، ومعرفة النهار حسب الفرض متوقفة على معرفة الشمس. والمتوقف على المتوقف على شيء متوقف على ذلك الشيء، فينتهي الأمر بالأخير إلى أن تكون معرفة الشمس متوقفة على معرفة الشمس.
2- (الدور المضمر) مثل: تعريف الاثنين بانهما زوج أول. والزوج يعرف بأنه منقسم بمتساويين. والمتساويان يعرفان بأنهما شيئان أحدهما يطابق الآخر. والشيئان يعرفان بأنهما اثنان. فرجع الأمر بالأخير إلى تعريف الاثنين بالاثنين.
وهذا دور مضمر في ثلاث مراتب، لأن تعدد المراتب باعتبار تعدد الوسائط حتى تنتهي الدورة إلى نفس المعرَّف (بالفتح) الأول. والوسائط في هذا المثال ثلاث: الزوج، المتساويان، الشيئان.
ويمكن وضع الدور في المثال على صورة الدائرة في هذا الشكل:
_ والسهام فيها تتجه دائماً
إلى المعرَّفات (بالكسر) ـ
الخامس أن تكون الألفاظ المستعملة في التعريف ناصعة واضحة لا ابهام فيها، فلا يصح استعمال الألفاظ الوحشية والغربية، ولا الغامضة، ولا المشتركة والمجازات بدون القرينة، أما مع القرينة فلا بأس كما قدمت ذلك في بحث المشترك والمجاز. وإن كان يحس ـ علي كل حال ـ اجتناب المجاز في التعاريف والأساليب العلمية.
القسمة(*)
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تعريفها:
قسمة الشيء: تجزئته وتفريقه إلى أمور متباينة. وهي من المعاني البديهية الغنية عن التعريف، وما ذكرناه فانما هو تعريف لفظي ليس إلا. ويسمى الشَّيء (مقسَّماً)، وكل واحد من الأمور التي انقسم إليها (قسماً)، تارة بالقياس إلى نفس المقسم، و(قسيماً) أخرى بالقياس إلى غيره من الأقسام. فإذا قسمنا العلم إلى ت صور وتصديق مثلاً، فالعلم مقسم، والتصور قسم من العلم وقسيم للتصديق. وهكذا التصديق قسم وقسيم.
فائدتها:
تأسست حياة الانسان كلها على القسمة، وهي من الأمور الفطرية التي نشأت معه على الأرض: فإن أول شيء يصنعه تقسيم الأشياء إلى سماوية وأرضية، والموجودات الأرضية إلى حيوانات وأشجار وأنهار وأحجار وجبال ورمال وغيرها. وهكذا يقسم ويقسم ويميز معنى عن معنى ونوعاً عن نوع. حتى تحصل له مجموعة من المعاني والمفاهيم... وما زال البشر على البشر حتى استطاع أن يضع لكل واحد من المعاني التي توصل إليها في التقسيم لفظاً من الألفاظ. ولولا القسمة لما تكثرت عنده المعاني ولا الألفاظ.
ثم استعان بالعلوم والفنون على تدقيق تلك الأنواع، وتمييزها تمييزاً ذاتياً. ولا يزال العلم عند الانسان يكشف له كثيراً من الخطأ في تقسيماته وتنويعاته، فيعدِّلها.
ويكشف له أنواعاً لم يكن قد عرفها في الموجودات الطبيعية، أو الأمور التي يخترعها منها ويؤلفها، أو مسائل العلوم والفنون.
وسيأتي كيف نستعين بالقسمة على تحصيل الحدود والرسوم وكسبها، بل كل حد انما هو مؤسس من أول الأمر على القسمة. وهذا أهم فوائد القسمة.
وتنفع القسمة في تدوين العلوم والفنون، لتجعلها أبواباً وفصولاً ومسائل متميزة، ليستطيع الباحث أن يلحق ما يعرض عليه من القضايا في بابها، بل العلم لا يكون علماً ذا أبواب ومسائل وأحكام إلا بالقسمة: فمدون علم النحو ـ مثلاً ـ لابد أن يقسم الكلمة أولاً، ثم يقسم الاسم مثلاً إلى نكرة ومعرفة، والمعرفة إلى أقسامها، ويقسم الفعل إلى ماض ومضارع وأمر، وكذلك الحرف وأقسام كل واحد منها، ويذكر لكل قسم حكمه المختص به... وهكذا في جميع العلوم.
والتاجر ـ أيضاً ـ يلتجئ إلى القسمة في تسجيل دفتره وتصنيف أمواله، ليسهل عليه استخراج حساباته ومعرفة ربحه وخسارته. وكذلك باني البيت، ومركب الأدوات الدقيقة يستعين على اتقان عمله بالقسمة. والناس من القديم قسموا الزمن إلى قرون وسنين وأشهر وأيام وساعات ودقائق لينتفعوا بأوقاتهم ويعرفوا أعمارهم وتاريخهم.
وصاحب المكتبة تنفعه قسمتها حسب العلوم أو المؤلفين، ليدخل أي كتاب جديد يأتيه في بابه، وليستخرج بسهولة أي كتاب يشاء. وبواسطة القسمة استعان علماء التربية على توجيه طلاب العلوم، فقسموا المدارس إلى ابتدائية وثانوية وعالية، ثم كل مدرسة إلى صفوف، ليضعوا لكل صف ومدرسة منهاجاً يناسبه من التعليم.
وهكذا تدخل القسمة في كل شأن من شؤون حياتنا العلمية والاعتيادية، ولا يستغني عنها انسان. ومهمتنا منها هنا أن نعرف كيف نستعين بها على تحصيل الحدود والرسوم.
(هامش)
(*) القسمة من المباحث التي عني بها المناطقة في العصر الحديث، وظن أنها من المباحث التي تفتق عنها الفكر الغربي. غير أن فلاسفة اﻹٍسلام سبقوا إلى التنبيه عليها، وقد ذكرها الشيخ الطوسي العظيم في منطق التجريد لتحصيل الحدود واكتسابها، وأوضحها العلامة الحلي في شرحه (الجوهر النضيد).
أصول القسمة
1- لابد من ثمرة:
لا تحسن القسمة إلا إذا كان للتقسيم ثمرة نافعة في غرض المقسِم، بأن تختلف الأقسام في المميزات والأحكام المقصودة في موضع القسمة: فإذا قسم النحوي الفعل إلى أقسامه الثلاثة فلان لكل قسم حكماً يختص به. أما إذا أراد أن يقسم الفعل الماضي إلى مضموم العين ومفتوحها ومكسورها، فلا يحسن منه ذلك، لأن الأقسام كلها لها حكم واحد في علم النحو هو البناء، فيكون التقسيم عبثاً ولغواً، بخلاف مدون علم الصرف فانه يصح له مثل هذا التقسيم لانتفاعه به في غرضه من تصريف الكلمة.
وإذا لم نقسم نحن الدلالتين العقلية والطبعية في الباب الأول إلى لفظية وغير لفظية، لأنه لا ثمرة ترجى من هذا التقسيم في غرض المنطقي، كما أشرنا إلى ذلك هناك في التعليقة.
2- لابد من تباين الأقسام:
ولا تصح القسمة إلا إذا كانت الأقسام متباينة غير متداخلة، لا يصدق أحدها على ما صدق عليه الآخر، ويشير إلى هذا الأصل تعريف القسمة نفسه: فإذا قسمت المنصوب من الأسماء إلى: مفعول، وحال، وتمييز، وظرف، فهذا التقسيم باطل، لأن الظرف من أقسام المفعول فلا يكون قسيماً له. ومثل هذا ما يقولون عنه: «يلزم منه أن يكون قسم الشيء قسيماً له». وبطلانه من البديهيات.
ومثل هذا لو قسمنا سكان العراق إلى علماء وجهلاء وأغنياء وفقراء ومرضى وأصحاء. ويقع مثل هذا التقسيم كثيراً لغير المنطقيين الغافلين ممن يرسل الكلام على عواهنه ولكنه لا ينطبق على هذا الأصل الذي قررناه، لأن الأغنياء والفقراء لابد أن يكونوا علماء أو جهلاء، مرضى أو أصحاء، فلا يصح ادخالهم مرة ثانية في قسم آخر. وفي المثال ثلاث قسمات جمعت في قسمة واحدة. والأصل في مثل هذا أن تقسم السكان أولاً إلى علماء وجهلاء، ثم كل منهما إلى أغنياء وفقراء، فتحدث أربعة أقسام، ثم كل من الأربعة إلى مرضى وأصحاء، فتكون الأقسام ثمانية: علماء أغنياء مرضى، علماء أغنياء أصحاء... إلى آخره. فتفطَّن لما يرد عليك من القسمة، لئلا تقع في مثل هذه الغلطات.
ويتفرع على هذا الأصل أمور:
1- انه لا يجوز أن تجعل قسم الشيء قسيماً له ـ كما تقدم ـ مثل أن تجعل الظرف قسيماً للمفعول.
2- ولا يجوز أن تجعل قسيم الشيء قسماً منه، مثل أن تجعل الحال قسماً من المفعول.
3- ولا يجوز أن تقسم الشيء إلى نفسه وغيره.
وقد زعم بعضهم ان تقسيم العلم إلى التصور والتصديق من هذا الباب، لما رأى أنهم يفسرون العلم بالتصور المطلق، ولم يتفطن إلى معنى التصديق مع انه تصور أيضاً ولكنه تصور مقيد بالحكم كما ان قسيمه خصوص التصور الساذج المقيد بعدم الحكم. كما شرحناه سابقاً. أما المقسم لهما فهو التصور المطلق الذي هو نفس العلم.
3- أساس القسمة:
ويجب أن تؤسس القسمة على أساس واحد، أي يجب أن يلاحظ في المقسم جهة واحدة، وباعتبارها يكون التقسيم، فإذا قسمنا كتب المكتبة فلابد أن نؤسس تقسيمها إما على أساس العلوم والفنون أو على أسماء المؤلفين أو على أسماء الكتب. أما إذا خلطنا بينها فالأقسام تتداخل ويختل نظام الكتب، مثل ما إذا خلطنا بين أسماء الكتب والمؤلفين، فنلاحظ في حرف الألف مثلاً تارة اسم الكتاب وأخرى اسم المؤلف، بينما ان كتابه قد يدخل في حرف آخر.
والشيء الواحد قد يكون مقسماً لعدة تقسيمات باعتبار اختلاف الجهة المعتبرة أي (أساس القسمة)، كما قسمنا اللفظ مرة إلى مختص وغيره وأخرى إلى مترادف ومتباين وثالثة إلى مفرد ومركب، وكما قسمنا الفصل إلى قريب وبعيد مرة وإلى مقوم ومقسم أخرى... ومثله كثير في العلوم وغيرها.
4- جامعة مانعة:
ويجب في القسمة أن يكون مجموع اﻷقسام مساوياً للمقسم فتكون جامعة مانعة: جامعة لجميع ما يمكن أن يدخل فيه من اﻷقسام أي حاصرة لها لا يشذ منها شيء، مانعة عن دخول غير أقسامه فيه.
أنواع القسمة
للقسمة نوعان أساسيان.
1- قسمة الكل إلى أجزائه، أو (القسمة الطبيعية).
كقسمة الانسان إلى جزئيه: الحيوان والناطق، بحسب التحليل العقلي، إذ يحلل العقل مفهوم الانسان إلى مفهومين: مفهوم الجنس الذي يشترك معه به غيره، ومفهوم الفصل الذي يختص به ويكون به الانسان انساناً. وسيأتي معنى التحليل العقلي مفصلا. وتسمى حينئذٍ أجزاء عقلية.
وكقسمة الماء إلى عنصرين: الاوكسجين والهيدروجين، بحسب التحليل الطبيعي. ومن هذا الباب قسمة كل موجود إلى عناصره اﻷولية البسيطة، وتسمى اﻷجزاء طبيعية أو عنصرية.
وكقسمة الحبر إلى ماء ومادة ملونة مثلاً، والورق إلى قطن ونوره، والزجاج إلى رمل وثاني اكسيد السلكون. وذلك بحسب التحليل الصناعي في مقابل التركيب الصناعي. واﻷجزاء تسمى أجزاء صناعية.
وكقسمة المتر إلى أجزائه بحسب التحليل الخارجي إلى اﻷجزاء المتشابهة أو كقسمة السرير إلى الخشب والمسامير بحسب التحليل الخارجي إلى اﻷجزاء غير المتشابهة. ومثله قسمة البيت إلى اﻵجر والجص والخشب والحديد، أو إلى الغرفة والسرداب والسطح والساحة، وقسمة السيارة إلى آلاتها المركبة منها، والانسان إلى لحم ودم وعظم وجلد وأعصاب..
2- قسمة الكلي إلى جزئياته، أو (القسمة المنطقية).
كقسمة الموجود إلى مادة ومجرد عن المادة، والمادة إلى جماد ونبات وحيوان، وكقسمة المفرد إلى اسم وفعل وحرف... وهكذا. وتمتاز القسمة المنطقية عن الطبيعية ان اﻷقسام في المنطقية يجوز حملها على المقسم وحمل المقسم عليها فنقول: هذا الاسم مفرد، والمفرد اسم. ولا يجوز الحمل في الطبيعية عدا ما كانت بحسب التحليل العقلي، فلا يجوز أن تقول البيت سقف أو جدار ولا الجدار بيت.
ولابد في القسمة المنطقية من فرض جهة وحدة جامعة في المقسم تشترك فيها اﻷقسام وبسببها يصح الحمل بين المقسم واﻷقسام، كما لابد من فرض جهة افتراق في اﻷقسام على وجه يكون لكل قسم جهة تباين جهة القسم اﻵخر، وإلا لما صحت القسمة وفرض اﻷقسام. وتلك الجهة الجامعة أما أن تكون مقومة للأقسام أي داخلة في حقيقتها بأن كانت جنساً أو نوعاً وأما أن تكون خارجة عنها.
1- إذا كانت الجهة الجامعة مقومة للأقسام، فلها ثلاث صور:
أ- أن تكون جنساً، وجهات الافتراق الفصول المقومة للأقسام، كقسمة المفرد إلى الاسم والفعل والحرف... فيسمى التقسيم (تنويعاً) واﻷقسام أنواعاً.
ب- أن تكون جنساً أو نوعاً، وجهات الافتراق العوارض العامة اللاحقة للمقسم، كقسمة الاسم إلى مرفوع ومجرور، فيسمى التقسيم (تصنيفاً) واﻷقسام أصنافاً.
ج- أن تكون جنساً أو نوعاً أو صنفاً، وجهات الافتراق العوارض الشخصية اللاحقة لمصاديق المقسم، فيسمى التقسيم (تفريداً) واﻷقسام أفراداً، كقسمة الانسان إلى زيد وعمرو ومحمد وحسن... إلى آخرهم باعتبار المشخصات لكل جزئي جزئي منه.
2- إذا كانت الجهة الجامعة خارجة عن اﻷقسام، فهي كقسمة اﻷبيض إلى الثلج والقطن وغيرهما، وكقسمة الكائن الفاسد إلى معدن ونبات وحيوان، وكقسمة العالم إلى غني وفقير أو إلى شرقي وغربي... وهكذا.
أساليب القسمة
ﻷجل أن نقسم الشيء قسمة صحيحة لابد من استيفاء جميع ما له من اﻷقسام، كما تقدم في اﻷصل الرابع، بمعنى أن تكون القسمة حاصرة لجميع جزئياته أو أجزائه. ولذلك أسلوبان:
1- طريقة القسمة الثنائية:
وهي طريقة الترديد بين النفي والاثبات، والنفي والاثبات (وهما النقيضان) لا يرتفعان أي لا يكون لهما قسم ثالث ولا يجتمعان أي لا يكونان قسماً واحداً، فلا محالة تكون هذه القسمة ثنائية أي ليس أكثر من قسمين، وتكون حاصرة جامعة مانعة، كتقسيمنا للحيوان إلى ناطق وغير ناطق. وغير الناطق يدخل فيه كل ما يفرض من باقي أنواع الحيوان غير الانسان لا يشذ عنه نوع، وكتقسيمنا للطيور إلى جارحة وغير جارحة، واﻹنسان إلى عربي وغير عربي، والعالم إلى فقيه وغير فقيه... وهكذا.
ثم يمكن أن نستمر في القسمة فنقسم طرف النفي أو طرف الاثبات أو كليهما إلى طرفين اثبات ونفي، ثم هذه اﻷطراف اﻷخيرة يجوز أن تجعلها أيضاً مقسماً فتقسمها أيضاً بين الاثبات والنفي... وهكذا تذهب إلى ما شئت أن تقسم إذا كانت هناك ثمرة من التقسيم.
مثلاً إذا أردت تقسيم الكلمة، فتقول:
1- الكلمة تنقسم إلى: ما دل على الذات وغيره
2- طرف النفي (الغير) إلى: ما دل على الزمان وغيره
فتحصل لنا ثلاثة أقسام: ما دلّ على الذات وهو (الاسم)، وما دلّ على الزمان وهو (الفعل)، وما لم يدل على الذات والزمان وهو (الحرف). والتعبير المألوف عند المؤلفين أن يقال: «الكلمة إما أن تدل على الذات أو لا، واﻷول الاسم، والثاني إما أن تدل على الزمان أو لا؛ واﻷول الفعل؛ والثاني الحرف». ويمكن وضع هذه القسمة على هذا النحو:
الكلمة
ما دل على الذات غيره
ما دل على الزمان غيره
(مثال ثان) إذا أردنا تقسيم الجوهر إلى أنواعه فيمكن تقسيمه على هذا النحو:
ينقسم
1- الجوهر إلى: ما يكون قابلاً للابعاد وغيره
2- ثم طرف الاثبات (القابل) إلى: نام وغيره
3- ثم طرف النفي (غير النامي) إلى: جامدوغيره
4- ثم طرف الاثبات في التقسيم (2) إلى: حساس وغيره
وهكذا يمكن أن تستمر بالقسمة حتى تستوفي أقسام الحساس إلى جميع أنواع الحيوان. ولك أيضاً أن تقسم الجامد وغير الحساس. وقد رأيت انا قسمنا تارة طرف الاثبات وأخرى طرف النفي. ويمكن وضع هذه القسمة على هذا النحو:
الجوهر
قابل للابعاد غيره
نام غيره
حساس غيره غيره جامد غيره
صاهل غيره
ناهق غيره
وهذه القسمة الثنائية تنفع على اﻷكثر في الشيء الذي لا تنحصر أقسامه، وإن كانت مطولة، ﻷنك تستطيع بها أن تحصر كل ما يمكن أن يفرض من اﻷنواع أو اﻷصناف بكلمة (غيره)، ففي المثال اﻷخير ترى (غير الناهق) يدخل فيه جميع ما للحيوان من اﻷنواع غير الناطقة والصاهلة والناهقة، فاستطعت أن تحصر كل ما للحيوان من أنواع.
وتنفع هذه القسمة أيضاً فيما إذا أريد حصر اﻷقسام حصراً عقلياً كما يأتي، وتنفع أيضاً في تحصيل الحد والرسم. وسيأتي بيان ذلك.
2- طريقة القسمة التفصيلية:
وذلك بأن تقسم الشيء ابتداء إلى جميع أقسامه المحصورة كما لو أردت أن تقسم الكلي إلى: نوع وجنس وفصل وخاصة وعرض عام.
والقسمة التفصيلية على نوعين عقلية واستقرائية:
1- (العقلية): وهي التي يمنع العقل أن يكون لها قسم آخر، كقسمة الكلمة المتقدمة، ولا تكون القسمة عقلية إلاّ إذا بنيتها على أساس النفي والاثبات: (القسمة الثنائية) فلأجل اثبات أن القسمة التفصيلية عقلية يرجعونها إلى القسمة الثنائية الدائرة بين النفي والاثبات، ثم إذا كانت اﻷقسام أكثر من اثنين يقسمون طرف النفي أو الاثبات إلى النفي والاثبات... وهكذا كلما كثرت اﻷقسام، على ما تقدم في الثنائية.
2- (الاستقرائية): وهي التي لا يمنع العقل من فرض آخر لها، وانما تذكر اﻷقسام الواقعة التي علمت بالاستقراء والتتبع، كتقسم اﻷديان السماوية إلى: اليهودية والنصرانية واﻹسلامية وكتقسيم مدرسة معينة إلى: صف أول وثان وثالث، عندما لا يكون غير هذه الصفوف فيها، مع امكان حدوث غيرها.
التعريف بالقسمة
إن القسمة بجميع أنواعها هي عارضة للمقسم في نفسها، خاصة به غالباً.
ولما اعتبرنا في القسمة أن تكون جامعة مانعة فاﻷقسام بمجموعها مساوية للمقسم، كما انها غالباً تكون أعرف منه. وعليه يجوز تعريف المقسم بقسمته إلى أنواعه أو أصنافه، ويكون من باب تعريف الشيء بخاصته. وهو التعريف بالرسم الناقص، كما كان التعريف بالمثال من هذا الباب.
ولنضرب لك مثلاً لذلك: أنا إذا قسمنا الماء بالتحليل الطبيعي إلى أوكسجين وهيدروجين وعرفنا أن غيره من اﻷجسام لا ينحلّ إلى هذين الجزأين، فقد حصل تمييز الماء تمييزاً عرضيّاً عن غيره بهذه الخاصة، فيكون ذلك نوعاً من المعرفة للماء المطمئن إليها. وكذا لو عرفنا أن الورق ينحل إلى القطن والنورة مثلاً نكون قد عرفناه معرفة نطمئن إليها تميزه عن غيره.. وهكذا في جميع أنواع القسمة.
كسب التعريف بالقسمة
أو
كيف نفكر لتحصيل المجهول التصوري
أنت تعرف ان المعلوم التصوري منه ما هو بديهي لا يحتاج إلى كسب كمفهوم الوجود والشيء، ومنه ما هو نظري تحتاج معرفته إلى كسب ونظر.
ومعنى حاجتك فيه إلى الكسب ان معناه غير واضح في ذهنك وغير محدد ومتميز، أو فقل غير مفهوم لديك ولا معروف، فيحتاج إلى التعريف، والذي يعرّفه للذهن هو الحد والرسم. وليس الحد أو الرسم للنظري موضوعاً في الطريق في متناول اليد، وإلا فما فرضته نظرياً مجهولاً لم يكن كذلك بل كان بديهياً معروفاً. فالنظري عندك في الحقيقة ليس هو إلا الذي تجهل حده أو رسمه.
إذن، المهم في اﻷمر أن نعرف الطريقة التي نحصل بها الحد والرسم. وكل ما تقدم من اﻷبحاث في التعريف هي في الحقيقة أبحاث عن معنى الحد والرسم وشروطهما أو أجزائهما. وهذا وحده غير كافٍ ما لم نعرف طريقة كسبهما وتحصيلهما، فانه ليس الغني هو الذي يعرف معنى النقود وأجزاءها وكيف تتألف، بل الغني من يعرف طريقة كسبها فيكسبها، وليس المريض يشفى إذا عرف فقط معنى الدواء وأجزاءه بل لابد أن يعرف كيف يحصله ليتناوله.
وقد أغفل كثير من المنطقيين هذه الناحية، وهي أهم شيء في الباب. بل هي اﻷساس، وهي معنى التفكير الذي به نتوصل إلى المجهولات. ومهمتنا في المنطق أن نعرف كيف نفكر لنكسب العلوم التصورية والتصديقية.
وسيأتي ان طريقة التفكير لتحصيل العلم التصديقي هو الاستدلال والبرهان. اما تحصيل العلم التصوري فقد اشتهر عند المناطقة ان الحد لا يكتسب بالبرهان، وكذا الرسم. والحق معهم ﻷن البرهان مخصوص لاكتساب التصديق، ولم يحن الوقت بعد لاُبيِّن للطالب سرّ ذلك، وإذا لم يكن البرهان هي الطريقة هنا فما هي طريقة تفكيرنا لتحصيل الحدود والرسوم؟ وطبعاً لابدّ أن تكون هذه الطريقة طريقة فطرية يصنعها كل انسان في دخيلة نفسه يخطئ فيها أو يصيب. ولكن نحتاج إلى الدلالة عليها لنكون على بصيرة في صناعتها. وهذا هو هدف علم المنطق. وهذا ما نريد بيانه، فنقول:
الطريق منحصر بنوعين من القسمة: القسمة الطبيعية بالتحليل العقلي وتسمى طريقة التحليل العقلي، والقسمة المنطقية الثنائية. ونحن أشرنا في غضون كلامنا في التعريف والقسمة إلى ذلك. وقد جاء وقت بيانه فنقول:
طريقة التحليل العقلي
إذا توجهت نفسك نحو المجهول التصوري (المشكل)، ولنفرضه (الماء) مثلاً عندما يكون مجهولاً لديك ـ وهذا هو الدور اﻷول() ـ فأول ما يجب أن تعرفه نوعه. أي تعرف انه داخل في أي جنس من اﻷجناس العالية أو ما دونها، كأن تعرف أن الماء ـ مثلاً ـ من السوائل. وهذا هو (الدور الثاني). وكلما كان الجنس الذي عرفت دخول المجهول تحته قريباً كان الطريق أقصر لمعرفة الحد أو الرسم. وسيتضح.
وإذا اجتزت الدور الثاني الذي لابدّ منه لكل من أراد التفكير بأية طريقة كانت، انتقلت إلى الطريقة التي تختارها للتفكير ولابدّ أن تتمثل فيها اﻷدوار الثلاثة اﻷخيرة أو الحركات الثلاث التي ذكرناها للفكر: الذاهبة والدائرية والراجعة.
وإذ نحن اخترنا اﻵن (طريقة التحليل العقلي) أولاً، فلنذكرها متمثلة في الحركات الثلاث:
فانك عندما تجتاز الدور الثاني تنتقل إلى الثالث وهو الحركة الذاهبة حركة العقل من المجهول إلى المعلومات. ومعنى هذه الحركة بطريقة التحليل المقصود بيانها هو أن تنظر في ذهنك إلى جميع اﻷفراد الداخلة تحت ذلك الجنس الذي فرضت المشكل داخلاً تحته. وفي المثال تنظر إلى أفراد السوائل سواء كانت ماء أو غير ماء باعتبار ان كلها سوائل.
وهنا ننتقل إلى الرابع، وهو (الحركة الدائرية) أي حركة العقل بين المعلومات. وهو أشق اﻷدوار وأهمها دائماً في كل تفكير، فإن نجح المفكر فيه، انتقل إلى الدور اﻷخير الذي به حصول العلم، وإلا بقي في مكانه يدور على نفسه بين المعلومات من غير جدوى. وهذه الحركة الدائرية بين المعلومات في هذه الطريقة، هي أن يلاحظ الفكر مجاميع أفراد الجنس الذي دخل تحته المشكل، فيفرزها مجموعة مجموعة، فلأفراد المجهول مجموعة، ولغيره من أنواع الجنس اﻷخرى كل واحد مجموعة من اﻷفراد. وفي المثال يلاحظ مجاميع السوائل: الماء، والزئبق، واللبن، والدهن، إلى آخرها. وعند ذلك يبدأ في ملاحظتها ملاحظة دقيقة، ليعرف ما تمتاز به مجموعة أفراد المشكل بحسب ذاتها وحقيقتها عن المجاميع اﻷخرى، أو بحسب عوارضها الخاصة بها. ولابد هنا من الفحص الدقيق والتجربة ليعرف في المثال الخصوصية الذاتية أو العرضية التي يمتاز بها الماء عن غيره من السوائل، في لونه وطعمه، أو في وزنه وثقله، أو في أجزائه الطبيعية. ولا يستغني الباحث عن الاستعانة بتجارب الناس والعلماء وعلومهم. والبشر من القديم _ كما قلنا في أول مبحث القسمة ـ اهتموا بفطرتهم في تقسيم اﻷشياء وتمييز اﻷنواع بعضها عن بعض، فحصلت لهم بمرور الزمن الطويل معلومات قيمة هي ثروتنا العلمية التي ورثناها من أسلافنا. وكل ما نستطيعه من البحث في هذا الشأن هو التعديل والتنقيح في هذه الثروة، واكتشاف بعض الكنوز من اﻷنواع التي لم يهتد إليها السابقون، على مرور الزمن وتقدم المعارف.
فإن استطاع الفكر أن ينجح في هذا الدور (الحركة الدائرية) بأن عرف ما يميز المجهول تمييزاً ذاتياً أي عرف فصله، أو عرف ما يميزه تمييزاً عرضياً أي عرف خاصته، فإن معنى ذلك انه استطاع أن يحلل معنى المجهول إلى جنس وفصل، أو جنس وخاصة، تحليلاً عقلياً، فيكمل عنده الحد التام أو الرسم التام بتأليفه مما انتهى إليه التحليل. كما لو عرف الماء في المثال بأنه سائل بطبعه لا لو له ولا طعم ولا رائحة أو انه له ثقل نوعي مخصوص أو انه قوام كل شيء حي.
ومعنى كمال الحد أو الرسم عنده قد انتهى إلى الدور اﻷخير، وهو (الحركة الراجعة) أي حركة العقل من المعلوم إلى المجهول. وعندها ينتهي التفكير بالوصول إلى الغاية من تحصيل المجهول.
وبهذا اتضح معنى التحليل العقلي الذي وعدناك ببيانه سابقاً في القسمة الطبيعية، وهو انما يكون باعتبار المتشاركات والمتباينات، أي انه بعد ملاحظة المتشاركات بالجنس يفرزها ويوزعها مجاميع أو فقل أنواعاً بحسب ما فيها من المميزات المتباينة فيستخرج من هذه العملية الجنس والفصل مفردات الحد، أو الجنس والخاصة مفردات الرسم، فكنت بذلك حللت المفهوم المراد تعريفه إلى مفرداته.
(تنبيه): ان الكلام المتقدم في الدور الرابع فرضناه فيما إذا كنت من أول اﻷمر، لما عرفت نوع المشكل، عرفت جنسه القريب، فلم تكن بحاجة إلا للبحث عن مميزاته عن اﻷنواع المشتركة معه في ذلك الجنس.
أما لو كنت قد عرفت فقط جنسه العالي كأن عرفت ان الماء جوهر لا غير، فانك ﻷجل أن تكمل لك المعرفة، لابد أن تفحص (أولاً) لتعرف أن المشكل من أي اﻷجناس المتوسطة، بتمييز بعضها عن بعض بفصولها أو خواصها على نحو العملية التحليلية السابقة، حتى نعرف أن الماء جوهر ذو أبعاد أي جسم.
ثم تفحص (ثانياً) بعملية تحليلية أخرى لتعرفه من أي اﻷجناس القريبة هو، فنعرف انه سائل، ثم تفحص (ثالثاً) بتلك العملية التحليلية لتميزه عن السوائل اﻷخرى بثقله النوعي مثلاً أو بأنه قوام كل شيء حي، فيتألف عندك تعريف الماء على هذا النحو مثلاً (جوهر ذو أبعاد سائل قوام كل شيء حي) ويجوز أن تكتفي عن ذلك فتقول (سائل قوام كل شيء حي) مقتصراً على الجنس القريب.
وهذه الطريقة الطويلة من التحليل التي هي عبارة عن عدة تحليلات يلتجىء إليها اﻹنسان إذا كانت اﻷجناس متسلسلة ولم يكن يعرف الباحث دخول المجهول إلا في الجنس العالي. ولكن تحليلات البشر التي ورثناها تغنينا في أكثر المجهولات عن ارجاعها إلى اﻷجناس العالية، فلا نحتاج على اﻷكثر إلا لتحليل واحد لنعرف به ما يمتاز به المجهول عن غيره.
على أنه يجوز لك أن تستغني بمعرفة الجنس العالي أو المتوسط، فلا تجري إلا عملية واحدة للتجليل لتميز المشكل عن جميع ما عداه مما يشترك معه في ذلك الجنس العالي أو المتوسط، غير أن هذه العملية لا تعطينا إلا حداً ناقصاً أو رسماً ناقصاً.
طريقة القسمة المنطقية الثنائية
انك بعد الانتهاء من الدورين اﻷولين أي دور مواجهة المشكل ودور معرفة نوعه، لك أن تعمد إلى طريقة أخرى من التفكير تختلف عن السابقة.
فإن السابقة كانت النظرة فيها إلى اﻷفراد المشتركة في ذلك الجنس ثم تمييزها بعضها عن بعض لاستخراج ما يميز المجهول.
أما هذه فانك تتحرك إلى الجنس الذي عرفته فتقسمه بالقسمة المنطقية الثنائية إلى اثبات ونفي: الاثبات بما يميز المجهول تمييزاً ذاتياً أو عرضياً، والنفي بما عداه. وذلك إذا كان المعروف الجنس القريب، فنقول في مثال الماء الذي عرف انه سائل: (السائل إما عديم اللون وإما غيره)، فتستخرج بذلك الحد التام أو الرسم التام وتحصل لديك الحركات الثلاث كلها.
أما لو كان الجنس الذي عرفته هو الجنس العالي أو المتوسط فانك تأخذ أولاً الجنس العالي مثلاً، فتقسمه بحسب المميزات الذاتية أو العرضية، ثم تقسم الجنس المتوسط الذي حصلته بالتقسيم اﻷول إلى أن يصل التقسيم إلى اﻷنـواع السافلة ـ على النحو الذي مثلنا به في القسمة الثنائية للجوهر ـ وبهذا تصير الفصول كلها معلومة على الترتيب فتعرف بذلك جميع ذاتيات المجهول على التفصيل.
تمرينات
على التعريف والقسمة
(1) انقد التعريفات اﻵتية، وبين ما فيها من وجوه الخطأ إن كان:
أ- الطائر: حيوان يبيض و- اللبن: مادة سائلة مغذية
ب- اﻹنسان: حيوان بشري ز- العدد: كثرة مجتمعة من آحاد
ج- العلم: نور يقذف في القلب ح- الماء: سائل مفيد
د- القدام: الذي خلفه شيء ط- الكوكب: جرم سماوي منير
هـ- المربع: شكل رباعي قائم الزوايا ي- الوجود: الثابت العين
(2) من أي أنواع التعريف تعريف العلم بأنه (حصول صورة الشيء في العقل)، وتعريف المركب بأنه (ما دل جزء لفظه على جزء معناه حين هو جزء). وبين ما إذا كان الجنس مذكوراً فيها أم لا.
(3) من أي أنواع التعريف تعريف الكلمة بأنها (قول مفرد) وتعريف الخبر بأنه (قول يحتمل الصدق والكذب).
(4) عرف النحويون الكلمة بعدة تعريفات:
أ- لفظ وضع لمعنى مفرد.
ب- لفظ موضوع مفرد.
ج- قول مفرد.
د- مفرد.
فقارن بينها، واذكر أولاها وأحسنها، والخلل في أحدها إن كان.
(5) لو عرفنا اﻷب بأنه (من له ولد)، فهذا التعريف فاسد قطعاً، ولكن هل تعرف من أية جهة فساده؟ وهل ترى يلزم منه الدور؟ - وإذا كان يلزم منه الدور أو لا يلزم فهل تستطيع أن تعلل ذلك؟
(6) اعترض بعض اﻷصوليين على تعريف اللفظ المطلق المقابل للمقيد بأنه (ما دل على شايع في جنسه)، فقال انه تعريف غير مطرد ولا منعكس، فهل تعرف الطريق لرد هذا الاعتراض من أساسه على الاجمال. وأنت إذا حققت ان هذا التعريف ماذا يسمى يسهل عليك الجواب، فتفطَّن!
(7) جاء في كتاب حديث للمنطق تعريف الفصل بأنه (صفة أو مجموع صفات كلية بها تتميَّز أفراد حقيقة واحدة من أفراد غيرها من الحقائق المشتركة معها في جنس واحد). انقده واذكر وجوده الخلل فيه على ضوء ما درسته في تعريف الفصل وشروط التعريف.
(8) إن التي نسميها بالكليات الخمسة كان أرسطو يسميها (المحمولات)، وعنده ان المحمول لابدّ أن يكون من أحد الخمسة، فاعترضه بعض مؤلفي المنطق الحديث بأن هذه الخمسة لا تحتوي جميع أنواع المحمولات، ﻷنه لا يدخل فيه مثل (البشر هو اﻹنسان).
فالمطلوب أن تجيب عن هذا الاعتراض، على ضوء ما درسته في بحث (الحمل وأنواعه). وبين صواب ما ذهب إليه أرسطو.
(9) وعرف هذا البعض المتقدم اللفظين المتقابلين بأنهما (اللفظان اللذان لا يصدقان على شيء واحد في آن واحد). انقده على ضوء ما درسته في بحث التقابل وشروط التعريف.
(10) كيف تفكر بطريقة التحليل العقلي لاستخراج تعريف الكلمة والمفرد والمثلث والمربع.
(11) استخرج بطريقة القسمة المنطقية الثنائية تعريف الفصل تارة والنوع أخرى.
(12) فرق بين القسمة العقلية وبين الاستقرائية في القسمات التفصيلية اﻵتية مع بيان الدليل على ذلك:
أ- قسمة فصول السنة إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء.
ب- قسمة أوقات اليوم إلى فجر وصبح وضحى وظهر وعصر وأصيل وعشاء وعتمة.
ج- قسمة الفعل إلى ماض ومضارع وأمر.
د- قسمة الاسم إلى نكرة ومعرفة.
هـ - قسمة الاسم إلى مرفوع ومنصوب ومجرور.
و- قسمة الحكم إلى وجوب وحرمة واستحباب وكراهة واباحة.
ز- قسمة الصوم إلى واجب ومستحب ومكروه ومحرم.
ح- قسمة الصلاة إلى ثنائية وثلاثية ورباعية.
ط- قسمة الحج إلى تمتع وقران وإفراد.
ي- قسمة الخط إلى مستقيم ومنحن ومنكسر.
ثم اقلب ما يمكن من هذه القسمات إلى قسمة ثنائية، واستخرج منها بعض ريفات لبعض اﻷقسام، واختر خمسة على اﻷقل.
انتهى الجزء اﻷول
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
الباب الرابع
القضايا وأحكامها
وفيه فصلان:
الفصل اﻷول: القضايا
القضية:
تقدم في الباب اﻷول ان الخبر هو القضية، وعرفنا الخبر ـ أو القضية ـ بأنه (المركب التام الذي يصح أن نصفه بالصدق أو الكذب).
وقولنا: المركب التام، هو (جنس قريب) يشمل نوعي التام، الخبر والانشاء. وباقي التعريف (خاصة) يخرج بها الانشاء، ﻷن الوصف بالصدق أو الكذب من عوارض الخبر المختصة به، كما فصلناه هناك، فهذا التعريف تعريف بالرسم التام.
وﻷجل أن يكون التعريف دقيقاً نزيد عليه كلمة (لذاته)، فنقول: القضية هي المركب التام الذي يصح أن نصفه بالصدق أو الكذب لذاته.
وكذا ينبغي زيادة كلمة (لذاته) في تعريف الانشاء. ولهذا القيد فائدة، فانه قد يتوهم غافل فيظن ان التعريف اﻷول للخبر يشمل بعض الانشاءات فلا يكون مانعاً، ويخرج هذا البعض من تعريف الانشاء فلا يكون جامعاً.
وسبب هذا الظن ان بعض الانشاءات قد توصف بالصدق والكذب، كما لو استفهم شخص عن شيء يعلمه، أو سأل الغني سؤال الفقير، أو تمنى انسان شيئاً هو واجد له، فان هؤلاء نرميهم بالكذب، وفي عين الوقت نقول للمستفهم الجاهل والسائل الفقير والمتمني الفاقد اليائس انهم صادقون. ومن المعلوم أن الاستفهام والطلب بالسؤال والتمني من أقسام الانشاء.
ولكنا إذا دققنا هذه اﻷمثلة وأشباهها يرتفع هذا الظن، ﻷننا نجد ان الاستفهام الحقيقي لا يكون إلا عن جهل، والسؤال لا يكون إلا عن حاجة، والتمني لا يكون إلا عن فقدان ويأس، فهذه الانشاءات تدل بالدلالة الالتزامية على اﻷخبار عن الجهل أو الحاجة أو اليأس، فيكون الخبر المدلول عليه بالالتزام هو الموصوف بالصدق أو الكذب، لا ذات الانشاء.
فالتعريف اﻷول للخبر في حد نفسه لا يشمل هذه الانشاءات، ولكن ﻷجل التصريح بذلك دفعاً للالتباس، نضيف كلمة (لذاته)، ﻷن هذه الانشاءات المذكورة لئن اتصفت بالصدق أو الكذب، فليس هذا الوصف لذاتها، بل ﻷجل مداليلها الالتزامية.
أقسام القضية
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
القضية: حمليَّة وشرطية:
1- (الحملية) مثل: الحديد معدن، الربا محرم، الصدق ممدوح، الكاذب ليس بمؤتمن، البخيل لا يسود.
وبتدقيق هذه اﻷمثلة نجد: أن كل قضية منها لها طرفان ونسبة بينهما، ومعنى هذه النسبة اتحاد الطرفين وثبوت الثاني للأول، أو نفي الاتحاد والثبوت. وبالاختصار نقول: معناها ان (هذا ذاك) أو (هذا ليس ذاك) فيصح تعريف الحملية بأنها:
ما حكم فيها بثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه
2- (الشرطية) مثل:
إذا أشرقت الشمس فالنهار موجود.
وليس إذا كان اﻹنسان تماماً كان أميناً.
ومثل: اللفظ إما أن يكون مفرداً أو مركباً.
وليس اﻹنسان إما أن يكون كاتباً أو شاعراً.
وعند ملاحظة هذه القضايا نجد: ان كل قضية منها لها طرفان، وهما قضيتان باﻷصل. ففي المثال اﻷول لولا (إذا) و (فاء الجزاء) لكان قولنا (أشرقت الشمس) خبراً بنفسه وكذا (النهار موجود). وهكذا باقي اﻷمثلة، ولكن لما جمع المتكلم بين الخبرين ونسب أحدهما إلى اﻵخر جعلهما قضية واحدة وأخرجهما عما كانا عليه من كون كل منهما خبراً يصح السكوت عليه، فانه لو قال (أشرقت الشمس...) وسكت فانه يعد مركباً ناقصاً، كما تقدم في بحث المركب.
وأما هذه النسبة بين الخبرين باﻷصل، فليست هي نسبة الثبوت والاتحاد كالحملية، ﻷن لا اتحاد بين القضايا، بل هي إما نسبة الاتصال والتصاحب، والتعليق، أي تعليق الثاني على ا ﻷول أو نفي ذلك كالمثالين اﻷولين، وإما نسبة التعاند والانفصال والتباين أو نفي ذلك كالمثالين اﻷخيرين.
ومن جميع ما تقدم نستطيع أن نستنتج عدة أمور:
(اﻷول): تعريف القضية الشرطية بأنها (ما حكم فيها بوجود نسبة بين قضية وأخرى أو لا وجودها).
الشرطية: متصلة ومنفصلة:
(الثاني): ان الشرطية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة، ﻷن النسبة:
1- إن كانت هي الاتصال بين القضيتين وتعليق احداهما على ا ﻷخرى أو نفي ذلك، كالمثالين اﻷولين، فهي المسماة (بالمتصلة).
2- وإن كانت هي الانفصال والعناد بينهما أو نفي ذلك، كالمثالين اﻷخيرين فهي المسماة (بالمنفصلة).
الموجبة والسالبة:
(الثالث): ان القضية بجميع أقسامها سواء كانت حملية أو متصلة أو منفصلة، تنقسم إلى، موجبة وسالبة، ﻷن الحكم فيها:
1- إن كان بنسبة الحمل أو الاتصال أو الانفصال فهي (موجبة).
2- وإن كان بسلب الحمل أو الاتصال أو الانفصال فهي (سالبة).
وعلى هذا فليس من حق السالبة أن تسمى حملية أو متصلة أو منفصلة، ﻷنها سلب الحمل أو سلب الاتصال أو سلب الانفصال، ولكن تشبيهها لها بالموجبة سميت باسمها.
ويسمى الايجاب والسلب (كيف القضية)، ﻷنه يسأل بـ (كيف) الاستفهامية عن الثبوت وعدمه.
أجزاء القضية
قلنا: إن كل قضية لها طرفان ونسبة، وعليه ففي كل قضية ثلاثة أجزاء، ففي الحملية:
الطرف اﻷول: المحكوم عليه، ويسمى (موضوعاً).
الطرف الثاني: المحكوم به، ويسمى (محمولاً).
النسبة: والدال عليها يسمى (رابطة)
وفي الشرطية:
الطرف اﻷول: يسمى (مقدماً)
والطرف الثاني: يسمى (تالياً).
والدال على النسبة: يسمى (رابطة).
وليس من حق أطراف المنفصلة: أن تسمى مقدماً وتالياً، ﻷنها غير متميزة بالطبع كالمتصلة، فإن لك أن تجعل أيا شئت منها مقدماً وتالياً، ولا بتفاوت المعنى فيها، ولكن إنما سميت بذلك فعلى نحو العطف على المتصلة تبعاً لها، كما سميت السالبة باسم الموجبة الحملية أو المتصلة أو المنفصلة.
أقسام القضية باعتبار الموضوع
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
الحملية: شخصيَّة، وطبيعية، ومهملة، ومحصورة.
المحصورة: كليّة وجزئية
نبتدئ بالتقسيم باعتبار الموضوع للحملية، ثم نتبعه بتقسيم الشرطية، فنقول:
تنقسم الحملية باعتبار الموضوع إلى اﻷقسام اﻷربعة المذكورة في العنوان ﻷن الموضوع إما أن يكون جزئياً حقيقياً أو كلياً:
أ - فإن كان جزئياً سميت القضية (شخصية) و (مخصوصة) مثل: محمد رسول الله. الشيخ المفيد مجدد القرن الرابع. بغداد عاصمة العراق. أنت عالم. هو ليس بشاعر. هذا العصر لا يبشر بخير.
ب- وإن كان كلياً، ففيه ثلاث حالات تسمى - في كل حالة - القضية المشتملة عليه باسم مخصوص، فانه:
1- أما أن يكون الحكم في القضية على نفس الموضوع الكلي بما هو كلي مع غض النظر عن أفراده، على وجه لا يصح تقدير رجوع الحكم إلى اﻷفراد، فالقضية تسمى (طبيعية)، ﻷن الحكم فيها على نفس الطبيعة من حيث هي كلية، مثل: اﻹنسان نوع. الناطق فصل. الحيوان جنس. الضاحك خاصة... وهكذا، فانك ترى ان الحكم في هذه اﻷمثلة لا يصح ارجاعه إلى أفراد الموضوع، ﻷن الفرد ليس نوعاً ولا فصلاً ولا جنساً ولا خاصة.
2- وأما أن يكون الحكم فيها على الكلي بملاحظة أفراده، بأن يكون الحكم في الحقيقة راجعاً إلى اﻷفراد، والكلي جعلي عنواناً ومرآة لها، إلا أنه لم يبين فيه كمية اﻷفراد، لا جميعها ولا بعضها، فالقضية تسمى (مهملة) لاهمال بيان كمية أفراد الموضوع، مثل: اﻹنسان في خسر. رئيس القوم خادمهم. ليس من العدل سرعة العذل. المؤمن لا يكذب.
فانه ليس في هذه اﻷمثلة دلالة على أن الحكم عام لجميع ما تحت الموضوع أو غير عام.
(تنبيه) قال الشيخ الرئيس في الاشارات بعد بيان المهملة: «فإن كان ادخال اﻷلف واللام يوجب تعميماً وشركة وادخال التنوين يوجب تخصيصاً، فلا مهملة في لغة العرب، وليطلب ذلك في لغة أخرى. وأما الحق في ذلك فلصناعة النحو ولا نخالطها بغيرها...». والحق وجود المهملة في لغة العرب إذا كانت اللام للحقيقة، فيشار بها إلى نفس الطبيعة من حيث وجودها في مصاديقها، من دون دلالة على إرادة الجميع أو البعض. نعم إذا كانت للجنس فانها تفيد العموم. ويفهم ذلك من قرائن اﻷحوال. وهذا أمر يرجع فيه إلى كتب النحو وعلوم البلاغة.
3- وأما أن يكون الحكم فيها على الكلي بملاحظة أفراده، كالسابقة، ولكن كمية أفراده مبينة في القضية، إما جميعاً أو بعضاً، فالقضية تسمى (محصورة) وتسمى (مسوَّرة) أيضاً. وهي تنقسم بملاحظة كمية اﻷفراد إلى:
أ- (كلية): إذا كان الحكم على جميع اﻷفراد، مثل: كل إمام معصوم. كل ماء طاهر. كل ربا محرم. لا شيء من الجهل بنافع. ما في الدار ديار.
ب- (جزئية): إذا كان الحكم على بعض اﻷفراد، مثل: بعض الناس يكذبون. قليل من عبادي الشكور. وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين. ليس كل إنسان عالماً. رب أكلة منعت أكلات.
لا اعتبار إلا بالمحصورات
القضايا المعتبرة التي يبحث عنها المنطقي، ويعتد بها، هي المحصورات، دون غيرها من باقي اﻷقسام. وهذا ما يحتاج إلى البيان:
أما (الشخصية)، فلأن مسائل المنطق قوانين عامة، فلا شأن لها في القضايا الشخصية التي لا عموم فيها.
وأما (الطبيعية)، فهي بحكم الشخصية، ﻷن الحكم فيها ليس فيه تقنين قاعدة عامة، وانما الحكم ـ كما قلنا ـ على نفس المفهوم بما هو من غير أن يكون له مساس بأفراده. وهو بهذا الاعتبار كالمعنى الشخصي لا عموم فيه، فان اﻹنسان في مثال (اﻹنسان نوع) لا عموم فيه. ﻷن كلا من أفراده ليس بنوع.
وأما (المهملة)، فهي في قوة الجزئية، وذلك ﻷن الحكم فيها يجوز أن يرجع إلى جميع اﻷفراد ويجوز أن يرجع إلى بعضها دون البعض اﻵخر، كما تقول: (رئيس القوم خادمهم)، فانه إذا لم يبين في هذه القضية كمية اﻷفراد، فانك تحتمل ان كل رئيس قوم يجب أن يكون كخادم لقومه. وربما كان هذا الحكم من القائل غير عام لكل من يصدق عليه رئيس قوم، فقد يكون رئيس مستغنياً عن قومه إذ لا تكون قوته مستمدة منهم. وعلى كلا التقديرين يصدق (بعض الرؤساء لقومهم كخدم لهم)، ﻷن الحكم إذا كان في الواقع للكل، فإن البعض له هذا الحكم قطعاً أما البعض اﻵخر فهو مسكوت عنه. وإذا كان في الواقع للبعض، فقد حكم على البعض.
إذن الجزئية صادقة على كلا التقديرين قطعاً. ولا نعني بالجزئية إلا ما حكم فيها على بعض اﻷفراد من دون نظر إلى البعض الباقي بنفي ولا اثبات. فانك إذا قلت (بعض اﻹنسان حيوان)، فهي صادقة، ﻷنها ساكتة عن البعض اﻵخر فلا تدليل على أن الحكم لا يعمه. ولا شك ان بعض اﻹنسان حيوان وإن كان البعض الباقي في الواقع أيضاً حيواناً ولكنه مسكوت عنه في القضية.
وإذا كانت القضايا المعتبرة هي المحصورات خاصة سواء كانت كلية أو جزئية فإذا روعي مع (كم) القضية() كيفها، ارتقت القضايا المعتبرة إلى أربعة أنواع: الموجبة الكلية. السالبة الكلية. الموجبة الجزئية. السالبة الجزئية.
السور وألفاظه
يسمى اللفظ الدال على كمية أفراد الموضوع (سور القضية) تشبيهاً له بسور البلد الذي يحدها ويحصرها. ولذا سميت هذه القضايا (محصورة) و (مسورة). ولكل من المحصورات اﻷربع سور خاص بها:
1- (سور الموجبة الكلية): كل. جميع. عامة. كافة. لام الاستغراق... إلى غيرها من اﻷلفاظ التي تدل على ثبوت المحمول لجميع أفراد الموضوع.
2- (سور السالبة الكلية): لا شيء. لا واحد. النكرة في سياق النفي... إلى غيرها من اﻷلفاظ الدالة على سلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع.
3- (سور الموجبة الجزئية): بعض. واحد. كثير. قليل. ربما. قلما... إلى غيرها مما يدل على ثبوت المحمول لبعض أفراد الموضوع.
4- (سور السالبة الجزئية): ليس بعض. بعض... ليس. ليس كل. ما كل... أو غيرها مما يدل على سلب المحمول عن بعض أفراد الموضوع.
وطلباً للاختصار نرمز لسور كل قضية برمز خاص كما يلي:
(كل): للموجبة الكلية
(لا): للسالبة الكلية
(ع): للموجبة الجزئية.
(س): للسالبة الجزئية
وإذا رمزنا دائماً للموضوع بحرف (ب) وللمحمول بحرف (حـ) فيكون رموز المحصورات اﻷربع كما يلي:
كل ب حـ ... ... ... ... الموجبة الكلية
لا ب حـ ... ... ... ... السالبة الكلية
ع ب حـ ... ... ... ... الموجبة الجزئية
س ب حـ ... ... ... ... السالبة الجزئية
تقسيم الشرطية
إلى شخصية، ومهملة، ومحصورة
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
لاحظنا ان الحملية تنقسم إلى اﻷقسام اﻷربعة السابقة باعتبار موضوعها. وللشرطية تقسيم يشبه ذلك التقسيم، ولكن لا باعتبار الموضوع، إذ لا موضوع لها، بل باعتبار اﻷحوال واﻷزمان التي يقع فيها التلازم أو العناد.
فتنقسم الشرطية بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام فقط: شخصية، مهملة، محصورة. وليس من أقسامها الطبيعية التي لا تكون إلا باعتبار الموضوع بما هو مفهوم موجود في الذهن.
1- (الشخصية): وهي ما حكم فيها بالاتصال، أو التنافي، أو نفيهما، في زمن معين شخصي، أو حال معين كذلك.
مثال المتصلة- إن جاء علي غاضباً فلا أسلم عليه. إذا مطرت السماء اليوم فلا أخرج من الدار. ليس إذا كان المدرس حاضراً اﻵن فإنه مشغول بالدرس.
مثال المنفصلة- إما أن تكون الساعة اﻵن الواحدة أو الثانية. وإما أن يكون زيد وهو في البيت نائماً أو مستيقظاً. ليس إما أن يكون الطالب وهو في المدرسة واقفاً أو في الدرس.
2- (المهملة): وهي ما حكم فيها بالاتصال أو التنافي أو رفعهما في حال أو زمان ما، من دون نظر إلى عموم اﻷحوال واﻷزمان أو خصوصهما.
مثال المتصلة- إذا بلغ الماء كراً فلا ينفعل بملاقاة النجاسة. ليس إذا كان اﻹنسان كاذباً كان محموداً.
مثال المنفصلة- القضية إما أن تكون موجبة أو سالبة. ليس إما أن يكون الشيء معدناً أو ذهباً.
3- (المحصورة): وهي ما بُيِّن فيها أحوال الحكم وأوقاته كلاً أو بعضاً وهي على قسمين كالحملية:
أ – (الكلية): وهي إذا كان اثبات الحكم أو رفعه فيها يشمل جميع اﻷحوال أو اﻷوقات.
مثال المتصلة- كلما كانت اﻷمة حريصة على الفضيلة كانت سالكة سبيل السعادة. ليس أبداً، أو ليس البتة إذا كان اﻹنسان صبوراً على الشدائد كان غير موفق في أعماله.
مثال المنفصلة- دائماً إما أن يكون العدد الصحيح زوجاً أو فرداً. ليس أبداً، أو ليس البتة إما أن يكون العدد الصحيح زوجاً أو قابلاً للقسمة على اثنين.
ب- (الجزئية): إذا كان اثبات الحكم أو رفعه فيها يختص في بعض غير معين من اﻷحوال واﻷوقات.
مثال المتصلة- قد يكون إذا كان اﻹنسان عالماً كان سعيداً. وليس كلما كان اﻹنسان حازماً كان ناجحاً في أعماله.
مثال المنفصلة- قد يكون إما أن يكون اﻹنسان مستلقياً أو جالساً (وذلك عندما يكون في السيارة مثلاً إذ لا يمكنه الوقوف). قد لا يكون إما أن يكون اﻹنسان مستلقياً أو جالساً (وذلك عندما يمكنه الوقوف منتصباً).
السور في الشرطية
السور في الحملية يدل على كمية أفراد الموضوع. أما في الشرطية فدلالته على عموم اﻷحوال واﻷزمان أو خصوصها. ولكل من المحصورات اﻷربع سور يختص بها كالحملية:
1- (سور الموجبة الكلية): كلما. مهما. متى. ونحوها، في المتصلة. ودائماً، في المنفصلة.
2- (سور السالبة الكلية): ليس أبداً. ليس البتة. في المتصلة والمنفصلة.
3- (سور الموجبة الجزئية): قد يكون، فيهما.
4- (سور السالبة الجزئية): قد لا يكون، فيهما. وليس كلما، في المتصلة خاصة.
الخلاصة:
القضية
حملية شرطية
محصورة مهملة طبعية شخصية متصلة منفصلة
كلية جزئية شخصية مهملة محصورة كلية جزئية
موجبة سالبة
تقسيمات الحملية
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تمهيد:
تقدم ان الحملية تنقسم باعتبار الكيف إلى موجبة وسالبة، وباعتبار الموضوع إلى شخصية وطبيعية ومهملة ومحصورة، والمحصورة إلى كلية وجزئية. وهذه تقسيمات تشاركها الشرطية فيها في الجملة كما تقدم.
واﻵن نبحث في هذا الفصل عن التقسيمات الخاصة بالحملية، وهي: تقسيمها (أولاً) باعتبار وجود موضوعها في الموجبة. وتقسيمها (ثانياً) باعتبار تحصيل الموضوع والمحمول وعدولهما. وتقسيمها (ثالثاً) باعتبار جهة النسبة. فهذه تقسيمات ثلاثة:
1- الذهنية. الخارجية. الحقيقية.
إن الحملية الموجبة هي ما أفادت ثبوت شيء لشيء. ولا شك أن ثبوت شيء لشيء فرع لثبوت المثبت له، أي ان الموضوع في الحملية الموجبة يجب أن يفرض موجوداً قبل فرض ثبوت المحمول له، إذ لولا أن يكون موجوداً لما أمكن أن يثبت له شيء، كما يقولون في المثل (العرش ثم النقش). فلا يمكن أن يكون سعيد في مثل (سعيد قائم) غير موجود، ومع ذلك يثبت له القيام.
وعلى العكس من ذلك السالبة فانها لا تستدعي وجود موضوعها، ﻷن المعدوم يقبل أن يسلب عنه كل شيء. ولذا قالوا (تصدق السالبة بانتفاء الموضوع). فيصدق نحو «أب عيسى بن مريم لم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يتكلم... وهكذا»، ﻷنه لم يوجد فلم تثبت له كل هذه اﻷشياء قطعاً، فيقال لمثل هذه السالبة (سالبة بانتفاء الموضوع).
والمقصود من هذا البيان ان الموجبة لابدّ من فرض وجود موضوعها في صدقها وإلا كانت كاذبة.
ولكن وجود موضوعها:
1- تارة يكون في الذهن فقط فتسمى (ذهنية) مثل: كل اجتماع النقيضين مغاير لاجتماع المثلين. كل جبل ياقوت ممكن الوجود. فان مفهوم اجتماع النقيضين وجبل الياقوت غير موجودين في الخارج، ولكن الحكم ثابت لهما في الذهن.
2- وأخرى يكون وجود موضوعها في الخارج على وجه يلاحظ في القضية خصوص اﻷفراد الموجودة المحققة منه في أحد اﻷزمنة الثلاثة نحو: كل جندي في المعسكر مدرّب على حمل السلاح. بعض الدور المائلة للانهدام في البلد هدمت. كل طالب في المدرسة مجد. وتسمى القضية هذه (خارجية).
3- وثالثة يكون وجوده في نفس اﻷمر والواقع، بمعنى ان الحكم على اﻷفراد المحققة الوجود والمقدرة الوجود معاً، فكلما يفرض وجوده وإن لم يوجد أصلاً فهو داخل في الموضوع ويشمله الحكم.
نحو: كل مثلث مجموع زواياه يساوي قائمتين. بعض المثلث قائم الزاوية. كل انسان قابل للتعليم العالي. كل ماء طاهر.
فانك ترى في هذه اﻷمثلة ان كل ما يفرض للموضوع من أفراد (سواء كانت موجودة بالفعل أو معدومة ولكنها مقدرة الوجود) تدخل فيه ويكون لها حكمه عند وجودها. وتسمى القضية هذه (حقيقية).
2- المعدولة والمحصلة
موضوع القضية الحملية أو محمولها قد يكون شيئاً (محصلاً) بالفتح، أي يدل على شيء موجود، مثل: انسان. محمد. أسد. أو صفة وجودية مثل: عالم. عادل. كريم. يتعلم.
وقد يكون موضوعها أو محمولها شيئاً معدولاً أي داخلاً عليه حرف السلب على وجه يكون جزءاً من الموضوع أو المحمول مثل: لا إنسان. لا عالم. لا كريم. غير بصير.
وعليه فالقضية باعتبار تحصيل الموضوع والمحمول وعدولهما، تنقسم إل قسمين: محصلة ومعدولة.
1- (المحصلة): ما كان موضوعها ومحمولها محصلاً سواء كانت موجبة أو سالبة مثل: الهواء نقي. الهواء ليس نقياً. وتسمى أيضاً (محصلة الطرفين).
2- (المعدولة): ما كان موضوعها أو محمولها أو كلاهما معدولاً، سواء كانت موجبة أو سالبة. وتسمى معدولة الموضوع أو معدولة المحمول أو معدولة الطرفين حسب دخول العدول على أحد طرفيها أو كليهما. ويقال لمعدولة أحد الطرفين: محصلة الطرف اﻵخر: الموضوع أو المحمول.
مثال معدولة الطرفين: كل لا عالم هو غير صائب الرأى. كل غير مجد ليس هو بغير مخفق في الحياة.
مثال معدولة الموضوع أو محصلة المحمول: غير العالم مستهان. غير العالم ليس بسعيد.
تنبيه
تمتاز معدولة المحمول عن السالبة محصلة المحمول:
1- في المعنى: فان المقصود بالسالبة سلب الحمل، وبمعدولة المحمول حمل السلب، أي يكون السلب في المعدولة جزءاً من المحمول فيحمل المسلوب بما هو مسلوب على الموضوع.
2- في اللفظ: فان السالبة تجعل الرابطة فيها بعد حرف السلب لتدل على سلب الحمل، والمعدولة تجعل الرابطة فيها قبل حرف السلب لتدل على حمل السلب.
وغالباً تستعمل (ليس) في السالبة و (لا) أو (غير) في المعدولة.
الخلاصة:
الحملية الموجبة
ذهنية خارجية حقيقية
الحملية
محصلة معدولة
3- الموجهات
مادة القضية:
كل محمول إذا نسب إلى موضوع، فالنسبة فيه لا تخلو في الواقع ونفس اﻷمر من احدى حالات ثلاث (بالقسمة العقلية).
1- (الوجوب). ومعناه: ضرورة ثبوت المحمول لذات الموضوع ولزومه لها، على وجه يمتنع سلبه عنه، كالزوج بالنسبة إلى اﻷربعة، فإن اﻷربعة لذاتها يجب أن تتصف بأنها زوج. وقولنا (لذات الموضوع) يخرج به ما كان لزومه ﻷمر خارج عن ذات الموضوع، مثل ثبوت الحركة للقمر، فانها لازمة له، ولكن لزومها لا لذاته، بل لسبب وضع الفلك وعلاقته باﻷرض.
2- (الامتناع). ومعناه: استحالة ثبوت المحمول لذات الموضوع فيجب سلبه عنه، كالاجتماع بالنسبة إلى النقيضين، فان النقيضين لذاتهما لا يجوز أن يجتمعا.
وقولنا: (لذات الموضوع) يخرج به ما كان امتناعه ﻷمر خارج عن ذات الموضوع، مثل سلب التفكير عن النائم، فان التفكير يمتنع عن النائم. ولكن لا لذاته، بل ﻷنه فاقد للوعي.
(تنبيه) - يفهم مما تقدم ان الوجوب والامتناع يشتركان في ضرورة الحكم، ويفترقان في أن الوجوب ضرورة الايجاب، والامتناع ضرورة السلب.
3- (الامكان). ومعناه: أنه لا يجب ثبوت المحمول لذات الموضوع، ولا يمتنع، فيجوز الايجاب والسلب معاً، أي ان الضرورتين ضرورة الايجاب وضرورة السلب مسلوبتان معاً، فيكون الامكان معنى عدمياً يقابل الضرورتين تقابل العدم والملكة، ولذا يعبر عنه بقولهم (هو سلب الضرورة عن الطرفين معاً)، أي طرف الايجاب وطرف السلب للقضية.
ويقال له: (الامكان الخاص) أو (الامكان الحقيقي) في مقابل (الامكان العام) الذي هو أعم من الامكان الخاص.
الامكان العام:
والمقصود منه: ما يقابل احدى الضرورتين ضرورة الايجاب أو السلب فهو أيضاً معناه سلب الضرورة، ولكن سلب ضرورة واحدة لا الضرورتين معاً، فإذا كان سلب (ضرورة الايجاب) فمعناه ان طرف السلب ممكن، وإذا كان سلب (ضرورة السلب) فمعناه ان طرف الايجاب ممكن.
فلو قيل: هذا الشيء ممكن الوجود أي انه لا يمتنع أو فقل ان ضرورة السلب (وهي الامتناع) مسلوبة، وإذا قيل: هذا الشيء ممكن العدم أي انه لا يجب، أو فقل ان ضرورة الايجاب (وهي الوجوب) مسلوبة.
ولذا عبر عنه الفلاسفة بقولهم: (هو سلب الضرورة عن الطرف المقابل) أي مع السكوت عن الطرف الموافق، فقد يكون مسلوب الضرورة وقد لا يكون. وهذا الامكان هو الشايع استعماله عند عامة الناس والمتداول في تعبيراتهم. وهو كما قلنا أعم من الامكان الخاص، ﻷنه إذا كان امكاناً للايجاب فانه يشمل الوجوب والامكان الخاص، وإذا كان امكاناً للسلب فانه يشمل الامتناع والامكان الخاص.
مثال امكان الايجاب ـ قولهم (الله ممكن الوجود)، و(الانسان ممكن الوجود)، فان معناه في المثالين ان الوجود لا يمتنع، أي ان الطرف المقابل وهو عدمه ليس ضرورياً، ولو كان العدم ضرورياً لكان الوجود ممتنعاً لا ممكناً. وأما الطرف الموافق وهو ثبوت الوجود فغير معلوم. فيحتمل أن يكون واجباً كما في المثال اﻷول، ويحتمل ألا يكون واجباً كما في المثال الثاني، بأن يكون ممكن العدم أيضاً، أي انه ليس ضروري الوجود كما لم يكن ضروري العدم، فيكون ممكناً بالامكان الخاص، فشمل هنا الامكان العام الوجوب والامكان الخاص.
مثال امكان السلب - قولهم: (شريك الباري ممكن العدم)، و(الانسان ممكن العدم)، فان معناه في المثالين ان الوجود لا يجب، أي ان الطرف المقابل وهو وجوده ليس ضرورياً ولو كان الوجود ضرورياً لكان واجباً وكان عدمه ممتنعاً لا ممكناً. وأما الطرف الموافق، وهو العدم فغير معلوم، فيحتمل أن يكون ضرورياً كما في المثال اﻷول (وهو الممتنع)، ويحتمل ألا يكون كذلك كما في الثاني: بأن يكون ممكن الوجود أيضاً، وهو الممكن (بالامكان الخاص)، فشمل هنا الامكان العام الامتناع والامكان الخاص.
وعلى هذا فالامكان العام معنى يصلح للانطباق على كل من حالات النسبة الثلاث: الوجوب والامتناع والامكان، فليس هو معنى يقابلها، بل في الايجاب يصدق على الوجوب والامكان الخاص، وفي السلب على الامتناع والامكان الخاص. وهذه الحالات الثلاث للنسبة التي لا يخلو من احداها واقع القضية تسمى (مواد القضايا) وتسمى (عناصر العقود) و(أصول الكيفيات). والامكان العام خارج عنها وهو معدود من الجهات على ما سيأتي.
جهة القضية
تقدم معنى مادة القضية التي لا تخرج عن احدى تلك الحالات الثلاث. ولهم اصطلاح آخر هنا وهو المقصود بالبحث، وهو قولهم (جهة القضية) والجهة غير المادة، فان المقصود بها: ما يفهم نويتصور من كيفية النسبة بحسب ما تعطيه العبارة من القضية.
والفرق بينهما مع ان كلا منهما كيفية في النسبة: ان المادة هي تلك النسبة الواقعية فينفس اﻷمر التي هي إما الوجوب أو الامتناع أو الامكان ولا يجب أن تفهم وتتصور في مقام توجه النظر إلى القضية، فقد تفهم وتبين في العبارة وقد لا تفهم ولا تبين. وأما الجهة فهي خصوص ما يفهم ويتصور من كيفية نسبة القضية عند النظر فيها فاذا لم يفهم شيء من كيفية النسبة فالجهة مفقودة، أي ان القضية لا جهة لها حينئذٍ، وهي أي الجهة لا يجب أن تكون مطابقة للمادة الواقعية فقد تطابقها وقد لا تطابقها.
فإذا قلت: (اﻹنسان حيوان بالضرورة)، فان المادة الواقعية هي الضرورة، والجهة فيها أيضاً الضرورة فقد طابقت في هذا المثال الجهة المادة وبتعبير آخر إن المادة الواقعية قد فهمت وبينت بنفسها في هذه القضية.
وأما إذا قلت في المثال: (اﻹنسان يمكن أن يكون حيواناً)، فان المادة في هذه القضية هي الضرورة لا تتبدل ﻷن الواقع لا يتبدل بتبدل التعبير والادراك. ولكن الجهة هنا هي الامكان العام، فانه هو المفهوم والمتصور من القضية، وهو لا يطابق المادة، ﻷنه في طرف الايجاب يتناول الوجوب والامكان الخاص كما تقدم، فيجوز أن تكون المادة واقعاً هي الضرورة كما في المثال، ويجوز أن تكون هي الامكان الخاص، كما لو كانت القضية هكذا (اﻹنسان يمكن أن يكون كاتباً).
وهكذا لو قلت (اﻹنسان حيوان دائماً) فإن المادة هي الضرورة والجهة هي الدوام الذي يصدق مع الوجوب والامكان الخاص، ﻷن الممكن بالامكان الخاص قد يكون دائم الثبوت كحركة القمر مثلاً، وكزرقة العين، فلم تطابق الجهة المادة هنا.
ثم ان القضية التي يبين فيها كيفية النسبة تسمى (موجَّهة) بصيغة اسم المفعول. وما أهمل فيها بيان الكيفية تسمى (مطلَقة) أو (غير موجهة).
ومما يجب أن يعلم انا إذ قلنا ان الجهة لا يجب أن تطابق المادة، فلا نعني انه يجوز أن تناقضها، بل يجب ألا تناقضها، فلو كانت مناقضة لها على وجه لا تجتمع معها، كما لو كانت المادة هي الامتناع مثلاً وكانت الجهة دوام الثبوت أو امكانه، فان القضية تكون كاذبة.
فيفهم من هذا ان من شروط صدق القضية الموجهة ألا تكون جهتها مناقضة لمادتها الواقعية.
أنواع الموجهات
تنقسم الموجهة إلى: بسيطة ومركبة.
و(المركبة): ما انحلت إلى قضيتين موجهتين بسيطتين، احداهما موجبة واﻷخرى سالبة. ولذا سميت مركبة، وسيأتي بيانها. أما البسيطة فخلافها، وهي لا
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تنحل إلى أكثر من قضية واحدة.
أقسام البسيطة:
واهم البسائط ثمان وإن كانت تبلغ أكثر من ذلك:
1ـ (الضرورية الذاتية). ويعنون بها ما دلت على ضرورة ثبوت المحمول لذات الموضوع أو سلبه عنه ما دام ذات الموضوع موجوداً من دون قيد ولا شرط, فتكون مادتها وجهتها الوجوب في الموجبة, والامتناع في السالبة نحو:
الإنسان حيوان بالضرورة. الشجر ليس متنفسا بالضرورة.
وعندهم ضرورية تسمى (الضرورية الأزلية) وهي التي حكم فيها بالضرورة الصرفة بدون قيد فيها حتى قيد ما دام ذات الموضوع, وهي تنعقد في وجود الله تعالى وصفاته, مثل: (الله موجود بالضرورة الأزلية), وكذا (الله حي عالم قادر بالضرورة الأزلية).
2ـ (المشروطة العامة), وهي من قسم الضرورية, ولكن ضرورتها مشروطة ببقاء عنوان الموضوع ثابتا لذاته, نحو: الماشي متحرك بالضرورة ما دام على هذه الصفة. أما ذات الموضوع بدون قيد عنوان الماشي فلا يجب له التحرك.
3ـ (الدائمة المطلقة), وهي ما دلت على دوام ثبوت المحمول لذات الموضوع أو سلبه عنه ما دام الموضوع بذاته موجودا, سواء كان ضروريا له أو لا, نحو: (كل فلك متحرك دائما. لا زال الحبشي اسود) فإنه لا يمتنع أن يزول سواد الحبشي وحركة الفلك, ولكنه لم يقع.
4ـ (العرفية العامة), وهي من قسم الدائمة, ولكن الدوام فيها مشروط ببقاء عنوان الموضوع ثابتا لذاته, فهي تشبه المشروطة العامة من ناحية اشتراط جهتها ببقاء عنوان الموضوع, نحو: (كل كاتب متحرك الأصابع دائما ما دام كاتبا), فتحرك الأصابع ليس دائما ما دام الذات, ولكنه دائم ما دام عنوان الكاتب ثابتا لذات الكاتب.
5ـ (المطلقة العامة) وتسمى الفعلية, وهي ما دلت على إن النسبة واقعة فعلا, وخرجت من القوة إلى الفعل ووجدت بعد أن لم تكن, سواء كانت ضرورية أو لا, وسواء كانت دائمة أو لا, وسواء كانت واقعة في الزمان الحاضر أو في غيره نحو: (كل إنسان ماش بالفعل وكل فلك متحرك بالفعل).
وعليه فالمطلقة العامة أعم من جميع القضايا السابقة.
6ـ (الحينية المطلقة), وهي من قسم المطلقة, فتدل على فعلية النسبة أيضا, لكن فعليتها حين اتصاف ذات الموضوع بوصفه وعنوانه, نحو: (كل طائر خافق الجناحين بالفعل حين هو طائر), فهي تشبه المشروطة والعرفية من ناحية اشتراط جهتها بوصف الموضوع وعنوانه.
7ـ (الممكنة العامة), وهي ما دلت على سلب ضرورة الطرف المقابل للنسبة المذكورة في القضية, فإن كانت القضية موجبة دلت على سلب ضرورة السلب, وإن كانت سالبة دلت على سلب ضرورة الإيجاب.
ومعنى ذلك أنها تدل على أن النسبة المذكورة في القضية غير ممتنعة سواء كانت ضرورية أو لا, وسواء كانت واقعة أو لا, وسواء كانت دائمة أو لا نحو (كل إنسان كاتب بالإمكان العام) أي أن الكتابة لا يمتنع ثبوتها لكل إنسان فعدمها ليس ضروريا, وإن اتفق أنها لا تقع لبعض الأشخاص.
وعليه فالممكنة العامة أعم من جميع القضايا السابقة.
8ـ (الحينية الممكنة), وهي من قسم الممكنة ولكن امكانها بلحاظ اتصاف ذات الموضوع بوصفه وعنوانه, نحو: (كل ماش مضطرب اليدين بالامكان العام حين هو ماش).
والحينية الممكنة يؤتى بها عندما يتوهم المتوهم ان المحمول يمتنع ثبوته للموضوع حين اتصافه بوصفه.
أقسام المركبة:
قلنا فيما تقدم: أن المركبة ما انحلت إلى قضيتين موجبة وسالبة ونزيدها هنا توضيحا, فنقول: أن المركبة تتألف من قضية مذكورة بعبارة صريحة هي الجزء الأول منها (سواء كانت موجبة أو سالبة, وباعتبار هذا الجزء الصريح تسمى المركبة موجبة أو سالبة) ومن قضية أخرى تخالف الجزء الأول بالكيف وتوافقه بالكم غير مذكورة بعبارة صريحة, وإنما يشار إليها, بنحو كلمة (لا دائما) و (لا بالضرورة).
وإنما يلتجأ إلى التركيب, عندما تستعمل قضية موجبة عامة تحتمل وجهين الضرورة واللاضرورة أو الدوام واللادوام, فيراد بيان أنها ليست بضرورية أو ليست بدائمة, فيضاف الى القضية مثل كلمة لا بالضرورة أو لا دائما.
مثل ما إذا قال القائل: (كل مصل يتجنب الفحشاء بالفعل) فيحتمل أن يكون ذلك ضروريا لا ينفك عنه ويحتمل إلا يكون ضروريا, فلأجل دفع الاحتمال ولأجل التنصيص على انه ليس بضروري تُقيدُ القضية بقولنا (لا بالضرورة).
كما يحتمل أن يكون ذلك دائما ويحتمل إلا يكون, ولأجل دفع الاحتمال وبيان أنه ليس بدائم تقيد القضية بقولنا (لا دائما).
فالجزء الأول وهو (كل مصلٍّ يتجنب الفحشاء بالفعل) قضية موجبة كلية مطلقة عامة, والجزء الثاني وهو (لا بالضرورة) يشار به إلى قضية سالبة كلية ممكنة عامة لان معنى (لا بالضرورة) أن تجنب الفحشاء ليس بضروري لكل مصل, فيكون مؤداه أنه يمكن سلب تجنب الفحشاء على المصلي ويعبر عن هذه القضية بقولهم: (لا شيء من المصلي بمتجنب للفحشاء بالإمكان العام).
وكذا لو كان الجزء الثاني هو (لا دائما) فإنه يشار به إلى قضية سالبة كلية ولكنها مطلقة عامة, لان معنى (لا دائما) أن تجنب الفحشاء لا يثبت لكل مصلٍّ دائما, فيكون المؤدي (لا شيء من المصلي بمتجنب للفحشاء بالفعل).
وأهم القضايا المركبة المتعارفة ست:
1ـ (المشروطة الخاصة) وهي المشروطة العامة المقيدة باللادوام الذاتي. والمشروطة العامة هي الدالة على ضرورة ثبوت المحمول للموضوع ما دام الوصف ثابتا له, فيحتمل فيها أن يكون المحمول دائم الثبوت لذات الموضوع وإن تجرد عن الوصف ويحتمل إلا يكون. ولأجل دفع الاحتمال وبيان انه غير دائم الثبوت لذات الموضوع تقيد القضية باللادوام الذاتي, فيشار به إلى قضية مطلقة عامة.
فتتركب المشروطة الخاصة ـ على هذا ـ من مشروطة عامة صريحة ومطلقة عامة مشار إليها بكلمة (لا دائما) نحو (كل شجر نام بالضرورة ما دام شجراً لا دائما) أي لا شيء من الشجر بنام بالفعل. وإنما سميت خاصة لأنها أخص من المشروطة العامة.
2ـ (العرفية الخاصة) وهي العرفية العامة المقيدة باللادوام الذاتي. ومعناه ان المحمول وإن كان دائماً ما دام الوصف هو غير دائم ما دام الذات, فيرفع به احتمال الدوام ما دام الذات. ويشار باللادوام الى قضية مطلقة عامة كالسابق نحو: (كل شجر نام دائما ما دام شجرا لا دائما) أي لا شيء من الشجر بنام بالفعل.
فتتركب العرفية الخاصة من عرفية عامة صريحة ومطلقة عامة مشار اليها بكلمة (لا دائما). وانما سميت خاصة لانها اخص من العرفية العامة.
إذ العرفية العامة تحتمل الدوام ما دام الذات وعدمه, والعرفية الخاصة مختصة بعدم الدوام ما دام الذات.
3ـ (الوجودية اللاضرورية) وهي المطلقة العامة المقيدة باللاضرورية الذاتية, لان المطلقة العامة يحتمل فيها ان يكون المحمول ضروريا لذات الموضوع ويحتمل عدمه, ولأجل التصريح بعدم ضرورة ثبوته لذات الموضوع تقيد بكلمة (لا بالضرورة) وسلب الضرورة معناه الامكان العام, لان الامكان العام هو سلب الضرورة عن الطرف المقابل, فإذا سلبت الضرورة عن الطرف المذكور صريحا في القضية ولنفرضه حكما ايجابيا فمعناه أن الطرف المقابل وهو السلب موجه بالإمكان العام.
وعليه فيشار بكلمة (لا بالضرورة) إلى ممكنة عامة, فإذا قلت: (كل إنسان متنفس بالفعل لا بالضرورة) فإن (لا بالضرورة) إشارة إلى قولك: لا شيء من الإنسان بمتنفس بالإمكان العام.
فتتركب إذن الوجودية اللاضرورية من مطلقة عامة وممكنة عامة, وإنما سميت وجودية لأن المطلقة العامة تدل على تحقق الحكم ووجوده خارجا, وسميت لا ضرورية لتقيدها باللاضرورة.
4ـ (الوجودية اللادائمة), وهي المطلقة العامة المقيدة بالادوام الذاتي, لأن المطلقة العامة يحتمل فيها أن يكون المحمول دائم الثبوت لذات الموضوع ويحتمل عدمه, ولأجل التصريح بعدم الدوام تقيد القضية بكلمة (لا دائما), فيشار بها إلى مطلقة عامة كما تقدم, فتتركب الوجودية اللادائمة من مطلقتين عامتين, وسميت وجودية للسبب المتقدم.
نحو (لا شيء من الإنسان بمتنفس بالفعل لا دائما) أي أن كل إنسان متنفس بالفعل.
5ـ (الحينية اللادائمة), وهي الحينية المطلقة المقيدة بالادوام الذاتي, لأن الحينية المطلقة معناها أن المحمول فعلي الثبوت للموضوع حين اتصافه بوصفه, فيحتمل فيها الدوام ما دام الموضوع وعدمه, ولأجل التصريح بعدم الدوام تقيد (باللادوام الذاتي) الذي يشار به الى مطلقة عامة كما تقدم, فتتركب الحينية اللادائمة من حينية مطلقة, ومطلقة عامة. نحو (كل طائر خافق الجناحين بالفعل حين هو طائر لا دائما), أي لا شيء من الطائر بخافق الجناحين بالفعل.
6ـ (الممكنة الخاصة), وهي الممكنة العامة المقيدة باللاضرورة الذاتية, ومعناها أن الطرف الموافق المذكور في القضية ليس ضروريا كما كان الطرف المخالف حسب التصريح في القضية ليس ضروريا أيضا, فيرفع بقيد اللاضرورة احتمال الوجوب إذا كانت القضية موجبة واحتمال الامتناع إذا كانت سالبة. ومفاد مجموع القضية بعد التركيب هو الإمكان الخاص الذي هو عبارة عن سلب الضرورة عن الطرفين.
فتتركب الممكنة الخاصة من ممكنتين عامتين, وتكون فيها الجهة نفس المادة الواقعية إذا كانت صادقة.
ويكفي لإفادة ذلك تقييد القضية بالإمكان الخاص اختصارا, فنقول: (كل حيوان متحرك بالامكان الخاص) أي كل حيوان متحرك بالإمكان العام, ولا شيء من الحيوان بمتحرك بالإمكان العام.
والتعبير بالامكان الخاص بمنزلة ما لو قيدت الممكنة العامة باللاضرورة, كما لو قلت في المثال: (كل حيوان متحرك بالامكان العام لا بالضرورة).
الخلاصة:
تمرينات
1ـ اذكر ماذا بين الضرورية الذاتية وبين الدائمة المطلقة من النسب الأربع وكذا ما بين الضرورية الذاتية وبين المشروطة العامة والعرفية العامة.
2ـ اذكر النسبة بين الدائمة المطلقة وبين كل من المطلقة العامة والعرفية العامة!
3ـ ما النسبة بين المشروطة العامة والعرفية العامة, وكذا بين الضرورية الذاتية والمشروطة الخاصة.
4ـ لو انا قيدنا المشروطة العامة باللاضرورية الذاتية هل يصح التركيب؟
5ـ هل ترى يصح تقييد الحينية المطلقة باللاضرورية الذاتية؟ واذا صح ماذا ينبغي ان نسمي هذه القضية المركبة؟
6ـ هل يصح تقييد الدائمة المطلقة باللاضرورة الذاتية؟
7ـ اذكر مثالا واحدا من نفسك لكل من الموجهات البيسطة ثم اجعلها مركبة بواحدة من التركيبات الستة المذكورة الممكنة لها.
تقسيمات الشرطية الأخرى
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تقدم أن الشرطية تنقسم باعتبار نسبتها إلى متصلة ومنفصلة, وباعتبار الكيف الى موجبة وسالبة, وباعتبار الأحوال والأزمان إلى شخصية ومهملة ومحصورة, والمحصورة الى كلية وجزئية. وقد بقي تقسيم كل من المتصلة والمنفصلة إلى أقسامها.
اللزومية والاتفاقية
تنقسم المتصلة باعتبار طبيعة الاتصال بين المقدم والتالي الى لزومية واتفاقية:
1ـ (اللزومية) وهي التي بين طرفيها اتصال حقيقي لعلاقة توجب استلزام احدهما للآخر, بأن يكون أحدهما علة للآخر, أو معلولين لعلة واحدة.
نحو (إذا سخن الماء فإنه يتمدد) والمقدم علة للتالي. ونحو (إذا تمدد الماء فإنه ساخن) والتالي علة للمقدم, بعكس الأول. ونحو (إذا غلا الماء فانه يتمدد) وفيه الطرفان معلولان لعلة واحدة, لأن الغليان والتمدد معلولان للسخونة إلى درجة معينة.
2ـ (الاتفاقية) وهي التي ليس بين طرفيها اتصال حقيقي لعدم العلقة التي توجب الملازمة, ولكنه يتفق حصول التالي عند حصول المقدم, كما لو اتفق أن محمدا الطالب لا يحضر الدرس إلا بعد شروع المدرس؛ فتؤلف هذه القضية الشرطية (كلما جاء محمد فإن المدرس قد سبق شروعه في الدرس). وليس هنا أية علاقة بين مجيء محمد وسبق شروع الدرس, وإنما ذلك بمحض الصدفة المتكررة.
ومن لم يتنور بنور العلم والمعرفة كثيرا ما يقع في الغلط فيظن في كثير من الاتفاقيات أنها قضايا لزومية لمجرد تكرر المصادفة.
أقسام المنفصلة
للمنفصلة تقسيمات:
أ. العنادية والاتفاقية:
وهذا التقسيم باعتبار طبيعة التنافي بين الطرفين, كالمتصلة فتنقسم إلى:
1ـ (العنادية) وهي التي بين طرفيها تناف وعناد حقيقي, بأن تكون ذات النسبة في كل منهما, تنافي وتعاند ذات النسبة في الآخر, نحو (العدد الصحيح أما أن يكون زوجا أو فردا).
2ـ (الاتفاقية) وهي التي لا يكون التنافي بين طرفيها حقيقيا ذاتيا, وإنما يتفق أن يتحقق أحدهما بدون الآخر لأمر خارج عن ذاتهما, نحو: (أما أن يكون الجالس في الدار محمدا أو باقرا) إذا اتفق أن علم أن غيرهما لم يكن. ونحو: (هذا الكتاب أما أن يكون في علم المنطق وأما أن يكون مملوكا لخالد) إذا اتفق أن خالدا لا يملك كتابا في علم المنطق واحتمل أن يكون هذا الكتاب المعين في هذا العلم.
ب ـ الحقيقية ومانعة الجمع ومانعة الخلو:
وهذا التقسيم باعتبار امكان اجتماع الطرفين ورفعهما وعدم إمكان ذلك, فتنقسم إلى:
1ـ (حقيقية) وهي ما حكم فيها بتنافي طرفيها صدقا وكذبا في الإيجاب وعدم تنافيهما كذلك في السلب, بمعنى أنه لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما في الإيجاب, ويجتمعان ويرتفعان في السلب.
مثال الإيجاب ـ العدد الصحيح أما أن يكون زوجا أو فردا, فالزوج والفرد لا يجتمعان ولا يرتفعان.
مثال السلب ـ ليس الحيوان أما أن يكون ناطقا وأما أن يكون قابلا للتعليم فالناطق والقابل للتعليم يجتمعان في الإنسان ويرتفعان في غيره.
وتستعمل الحقيقية في القسمة الحاصرة: الثنائية وغيرها. واستعمالها أكثر من أن يحصى.
2ـ (مانعة جمع), وهي ما حكم فيها بتنافي طرفيها أو عدم تنافيهما صدقا لا كذبا, بمعنى أنه لا يمكن اجتماعهما ويجوز أن يرتفعا معاً في الإيجاب ويمكن اجتماعهما ولا يمكن ارتفاعهما في السلب.
مثال الإيجاب ـ أما أن يكون الجسم أبيض أو أسود. فالأبيض والأسود لا يمكن اجتماعهما في جسم واحد ولكنه يمكن ارتفاعهما في الجسم الأحمر.
مثال السلب ـ ليس أما أن يكون الجسم غير ابيض أو غير أسود فإن غير الأبيض وغير الأسود يجتمعان في الأحمر, ولا يرتفعان في الجسم الواحد بان لا يكون غير أبيض ولا غير أسود بل يكون أبيض وأسود. وهذا محال.
وتستعمل مانعة الجمع في جواب من يتوهم إمكان الاجتماع بين شيئين, كمن يتوهم أن الإمام يجوز أن يكون عاصيا لله, فيقال له: (أن الشخص أما أن يكون إماما أو عاصيا لله) ومعناه أن الإمامة والعصيان لا يجتمعان وإن جاز أن يرتفعا بأن يكون شخص واحد ليس إماما وعاصيا.
هذا في الموجبة وأما في السالبة فتستعمل في جواب من يتوهم استحالة اجتماع شيئين, كمن يتوهم امتناع اجتماع النبوة والإمامة في بيت واحد, فيقال له (ليس إما أن يكون البيت الواحد فيه نبوة أو إمامة) ومعناه أن النبوة والإمامة لا مانع من اجتماعهما في بيت واحد.
3ـ (مانعة خلو) وهي ما حكم فيها بتنافي طرفيها أو عدم تنافيهما كذبا لا صدقا, بمعنى أنه لا يمكن ارتفاعهما ويمكن اجتماعهما في الإيجاب ويمكن ارتفاعهما ولا يمكن اجتماعهما في السلب:
مثال الإيجاب ـ الجسم إما أن يكون غير أبيض أو غير أسود, أي أنه لا يخلو من أحدهما وإن اجتمعا. ونحو (أما أن يكون الجسم في الماء أو لا يغرق) فإنه يمكن اجتماعهما بان يكون في الماء ولا يغرق ولكن لا يخلو الواقع من احدهما لامتناع أن لا يكون الجسم في الماء ويغرق.
مثال السلب ـ ليس إما أن يكون الجسم أبيض وإما أن يكون أسود, ومعناه أن الواقع قد يخلو من احدهما وان كانا لا يجتمعان.
وتستعمل مانعة الخلو الموجبة في جواب من يتوهم إمكان أن يخلو الواقع من الطرفين, كمن يتوهم أنه يمكن أن يخلو الشيء من أن يكون علة ومعلولا, فيقال له: (كل شيء لا يخلو إما أن يكون علة أو معلولا), وإن جاز أن يكون شيء واحد علة ومعلولا معا: علة لشيء ومعلولا لشيء آخر.
وإما السالبة فتستعمل في جواب من يتوهم أن الواقع لا يخلو من الطرفين, كما يتوهم انحصار أقسام الناس في عاقل لا دين له, ودين لا عقل له, فيقال له: (ليس الانسان إما أن يكون عاقلا لا دّين له أو ديّنا لا عقل له) بل يجوز أن يكون شخص واحد عاقلا ودّينا معا.
تنبيه
قد يغفل المبتدئ عن بعض القضايا, فلا يسهل عليه إلحاقها بقسمها من أنواع القضايا, لا سيما في التعبيرات الدارجة في ألسنة المؤلفين التي لم توضع بصورة فنية مضبوطة كما تقتضيها قواعد المنطق. وهذه الغفلة قد توقعه في الغلط عند الاستدلال أو لا يهتدي إلى وجه الاستدلال في كلام غيره. وتكثر هذه الغفلة في الشرطيات.
فلذلك وجب التنبيه على أمور تنفع في هذا الباب نرجو أن يستعين بها المبتدئ.
1ـ تأليف الشرطيات
أن الشرطية تتألف من طرفين هما قضيتان بالأصل, والمنفصلة بالخصوص قد تتألف من ثلاثة أطراف فأكثر. فالطرفان أو الإطراف التي هي القضايا بالأصل قد تكون من الحمليات أو من المتصلات أو من المنفصلات أو من المختلفات بأن تتألف المتصلة مثلاً من حملية ومتصلة. وترتقي أقسام تأليف الشرطيات إلى وجوه كثيرة لا فائدة في إحصائها. وعلى الطالب أن يلاحظ ذلك بنفسه, ولا يغفل عنه, فقد ترد عليه شرطية مؤلفة من متصلة ومنفصلة, فيظن أنها أكثر من قضية. وللتوضيح نذكر بعض الوجوه وأمثلتها:
فمثلاً قد تتألف المتصلة من حملية ومتصلة نحو: (إن كان العلم سببا للسعادة فإن كان الانسان عالما كان سعيدا), فإن المقدم في هذه القضية حملية والتالي متصلة وهو إن كان الانسان عالما كان سعيدا.
وقد تتألف المتصلة من حملية ومنفصلة نحو: (إذا كان اللفظ مفردا فإما أن يكون اسما أو فعلا أو حرفا) فالمقدم حملية والتالي منفصلة ذات ثلاثة أطراف.
وقد تتألف المنفصلة من حملية ومتصلة نحو (إما أن لا تكون حيلولة الأرض مسببا لخسوف القمر أو إذا حالت الأرض بين القمر والشمس كان القمر منخسفا).
وهكذا قد تتألف المتصلة أو المنفصلة من متصلتين أو منفصلتين أو متصلة ومنفصلة ويطول ذكر أمثلتها.
ثم أن الشرطية التي تكون طرفا في شرطية أيضاً تأليفها يكون من الحمليات أو الشرطيات أو المختلفات وهكذا فتنبه لذلك.
2ـ المنحرفات
ومن الموهمات في القضايا انحراف القضية عن استعمالها الطبيعي ووضعها المنطقي, فيشتبه حالها بأنها من أي نوع, ومثل هذه تسمى (منحرفة).
وهذا الانحراف قد يكون في الحملية, كما لو اقترن سورها بالمحمول, مع أن الاستعمال الطبيعي أن يقرن بالموضوع, كقولهم: الانسان بعض الحيوان, أو الانسان ليس كل الحيوان. وحق الاستعمال فيهما أن يقال: بعض الحيوان انسان.
وليس كل حيوان انسانا.
وقد يكون الانحراف في الشرطية, كما لو خلت عن أدوات الاتصال والعناد, فتكون بصورة حملية وهي في قوة الشرطية, نحو (لا تكون الشمس طالعة أو يكون النهار موجودا) فهي إما في قوة المتصلة وهي قولنا: (كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا وإما في قوة المنفصلة وهي قولنا: أما أن لا تكون الشمس طالعة وإما أن يكون النهار موجودا.
ونحو (ليس يكون النهار موجودا إلا والشمس طالعة) وهي أيضا في قوة المتصلة أو المنفصلة المتقدمتين. ونحو (لا يجتمع المال إلا من شح أو حرام) فإنها في قوة المنفصلة وهي قولنا: إما أن يجتمع المال من شح أو من حرام, أو في قوة المتصلة وهي قولنا: أن اجتمع المال فاجتماعه أما من شح أو من حرام. وهذه متصلة مقدمها حملية وتاليها منفصلة بالأصل.
وعلى الطالب أن يلاحظ ويدقق القضايا المستعملة في العلوم, فإنها كثيرا ما تكون منحرفة عن أصلها فيغفل عنها. وليستعمل فطنته في إرجاعها إلى أصلها.
تطبيقات
1ـ كيف ترد هذه القضية إلى أصلها (ليس للإنسان إلا ما سعى)؟
الجواب: أن هذه قضية فيها حصر فهي تنحل إلى حمليتين موجبة وسالبة, فهي منحرفة. والحمليتان هما: كل إنسان له نتيجة سعيه. وليس للإنسان ما لم يسع إليه.
2ـ من أي القضايا قوله: (أزرى بنفسه من استشعر الطمع)؟
الجواب: أنها قضية منحرفة عن متصلة وهي في قوة قولنا: كلما استشعر المرء الطمع أزرى بنفسه.
3ـ كيف ترد هذه القضية إلى أصلها: (ما خاب من تمسك بك)؟
الجواب: أنها منحرفة عن حملية موجبة كلية وهي: كل من تمسك بك لا يخيب.
تمرينات
1ـ لو قال القائل: (كلما كان الحيوان مجترا كان مشقوق الظلف) أو قال: (كلما كان الانسان قصيرا كان ذكيا) فماذا نعد هاتين القضيتين من اللزوميات أو من الاتفاقيات؟
2ـ بين نوع هذه القضايا وارجع المنحرفة إلى أصلها.
أ ـ إذا ازدحم الجواب خفى الصواب.
ب ـ إذا كثرت المقدرة قلت الشهوة.
ج ـ من نال استطال.
د ـ رضي بالذل من كشف عن ضره.
هـ ـ إنما يخشى الله من عباده العلماء.
3ـ قولهم (الدهر يومان يوم لك ويوم عليك) من أي انواع القضايا. واذا كانت منحرفة فأرجعها إلى تصلها وبين نوعها.
4ـ من أي القضايا قول علي $ ( لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا). وإذا كانت منحرفة فارجعها إلى أصلها وبين نوعها.
الخلاصة:
الشرطية
منفصلة
متصلة
اتفاقية
عنادية
لزومية
اتفاقية
حقيقية
مانعة جمع
مانعة خلو
الفصل الثاني
في أحكام القضايا أو النسب بينها
تمهيد:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
كثيرا ما يعاني الباحث مشقة في البرهان على مطلوبه مباشرة, بل قد يمتنع عليه ذلك أحيانا, فيلتجئ إلى البرهان على قضية أخرى لها نسبة مع القضية المطلوبة ليقارنها بها: فقد يحصل له من العلم بصدق القضية المبرهن عليها العلم بكذب القضية المطلوبة, أو بالعكس. وذلك إذا كان هناك تلازم بين صدق أحداهما وكذب الأخرى. وقد يحصل له من العلم بصدق القضية المبرهن عليها العلم بصدق القضية المطلوبة أو من العلم بكذب الأولى العلم بكذب الثانية. وذلك إذا كان صدق الأولى يستلزم صدق الثانية أو كان كذبها يستلزم كذبها.
فلا بد للمنطقي قبل الشروع في مباحث الاستدلال وبعد إلمامه بجملة من القضايا أن يعرف النسب بينها, حتى يستطيع أن يبرهن على مطلوبه أحيانا من طريق البرهنة على قضية أخرى لها نسبتها مع القضية المطلوبة, فينتقل ذهنه من القضية المبرهن على صدقها أو كذبها إلى صدق أو كذب القضية التي يحاول تحصيل العلم بها.
والمباحث التي تعرف بها النسب بين القضايا هي مباحث التناقض والعكس المستوي وعكس النقيض وملحقاتها. وتسمى (أحكام القضايا). ونحن نشرع ـ إن شاء الله تعالى ـ في هذه المباحث على هذا الترتيب المتقدم.
التناقض
الحاجة إلى هذا البحث والتعريف به:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
قلنا في التمهيد: أن كثيرا ما تمس الحاجة الى الاستدلال على قضية ليست هي نفس القضية المطلوبة. ولكن العلم بكذبها يلزمه العلم بصدق القضية المطلوبة او بالعكس, عندما يكون صدق أحداهما يلزم كذب الأخرى.
والقضيتان اللتان لهما هذه الصفة هما القضيتان المتناقضتان, فإذا أردت مثلا أن تبرهن على صدق القضية (الروح موجودة), مع فرض انك لا تتمكن على ذلك مباشرة, فيكفي أن تبرهن على كذب نقيضها وهو (الروح ليست موجودة) فإذا علمت كذب هذا النقيض لا بد أن تعلم صدق الأولى, لان النقيضين لا يكذبان معا. وإذا برهنت على صدق النقيض لا بد أن تعلم كذب الأولى لأن النقيضين لا يصدقان معا.
وربما يظن أن معرفة نقيض القضية أمر ظاهر كمعرفة نقائض المفردات, كالإنسان واللانسان, التي يكفي فيها الاختلاف بالإيجاب والسلب. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة إذ يجوز أن تكون الموجبة والسالبة صادقتين معا, مثل: بعض الحيوان انسان, وبعض الحيوان ليس بانسان. ويجوز أن تكونا كاذبتين معا, مثل: كل حيوان انسان, ولا شيء من الحيوان بإنسان.
وعليه, لا غنى للباحث عن الرجوع إلى قواعد التناقض المذكورة في علم المنطق لتشخيص نقيض كل قضية.
تعريف التناقض:
قد عرفت فيما سبق المقصود من التناقض الذي هو أحد أقسام التقابل, ولنضعه هنا بعبارة جامعة فنية في خصوص القضايا, فنقول (تناقض القضايا: اختلاف في القضيتين يقتضي لذاته ان تكون احداهما صادقة والاخرى كاذبة).
ولا بد من قيد (لذاته) في التعريف, لانه ربما يقتضي اختلاف القضيتين تخالفهما في الصدق والكذب, ولكن لا لذات الاختلاف, بل لامر آخر, مثل: كل إنسان حيوان, ولا شيء من الإنسان بحيوان, فانه لما كان الموضوع أخص من المحمول صدقت إحدى الكليتين وكذبت الأخرى. إما لو كان الموضوع أعم من المحمول لكذبا معا نحو كل حيوان انسان ولا شيء من الحيوان بانسان, كما تقدم.
ونعني بالاختلاف الذي يقتضي تخالفهما في الصدق هو الاختلاف الذي يقتضي ذلك في أية مادة كانت القضيتان, ومهما كانت النسبة بين الموضوع والمحمول, كالاختلاف بين الموجبة الكلية والسالبة الجزئية.
شروط التناقض
لا بد لتحقق التناقض بين القضيتين من اتحادهما في أمور ثمانية, واختلافهما في أمور ثلاثة:
الوحدات الثمان:
تسمى الأمور التي يجب اتحاد القضيتين المتناقضتين فيها (الوحدات الثمان) وهي ما يأتي:
1ـ (الموضوع), فلو اختلفا فيه لم يتناقضا مثل: العلم نافع, الجهل ليس بنافع.
2ـ (المحمول), فلو اختلفا فيه لم يتناقضا مثل: العلم نافع, العلم ليس بضار.
3ـ (الزمان), فلا تناقض بين (الشمس مشرقة) أي في النهار وبين (الشمس ليست بمشرقة) أي في الليل.
4ـ (المكان), فلا تناقض بين (الأرض مخصبة) أي في الريف وبين (الأرض ليست بمخصبة) أي في البادية.
5 ـ (القوة والفعل) أي لا بد من اتحاد القضيتين في القوة والفعل, فلا تناقض بين (محمد ميت) أي بالقوة وبين (محمد ليس بميت) أي بالفعل.
6ـ (الكل والجزء), فلا تناقض بين (العراق مخصب) أي بعضه وبين (العراق ليس بمخصب) أي كله.
7ـ (الشرط), فلا تناقض بين (الطالب ناجح آخر السنة) أي أن اجتهد وبين (الطالب غير ناجح) أي إذا لم يجتهد.
8ـ (الإضافة) فلا تناقض بين (الأربعة نصف) أي بالإضافة إلى الثمانية, وبين (الأربعة ليست بنصف) أي بالإضافة إلى العشرة.
تنبيه
هذه الوحدات الثمان هي المشهورة بين المناطقة. وبعضهم يضيف إليها (وحدة الحمل) من ناحية كونه حملا أوليا أو حملا شايعا. وهذا الشرط لازم, فيجب لتناقض القضيتين أن يتحدا في الحمل, فلو كان الحمل في إحداهما أوليا وفي الأخرى شايعا, فإنه يجوز أن يصدقا معا, مثل قولهم (الجزئي جزئي) أي بالحمل الأولى (الجزئي ليس بجزئي) أي بالحمل الشايع, لان مفهوم الجزئي من مصاديق مفهوم الكلي, فإنه يصدق على كثيرين.
الاختلاف
قلنا: لا بد من اختلاف القضيتين المتناقضتين في أمور ثلاثة. وهي (الكم والكيف والجهة).
الاختلاف بالكم والكيف:
أما الاختلاف بالكم والكيف, فمعناه أن إحداهما إذا كانت موجبة كانت الأخرى سالبة, وإذا كانت كلية كانت الثانية جزئية. وعليه.
الموجبة الكلية .. نقيض .. .. السالبة الجزئية
الموجبة الجزئية .. نقيض .. السالبة الكلية
لانهما لو كانتا موجبتين أو سالبتين لجاز إن يصدقا أو يكذبا معا. ولو كانتا كليتين لجاز أن يكذبا معا, كما لو كان الموضوع أعم, على ما مثلنا سابقا. ولو كانتا جزئيتين لجاز أن يصدقا معا, كما لو كان الموضوع أيضا أعم. نحو: بعض المعدن حديد. وبعض المعدن ليس بحديد.
الاختلاف بالجهة
أما الاختلاف بالجهة, فأمر يقتضيه طبع التناقض كالاختلاف بالإيجاب والسلب, لأن نقيض كل شيء رفعه, فكما يرفع الإيجاب بالسلب والسلب بالإيجاب, فلا بد من رفع الجهة بجهة تناقضها.
ولكن الجهة التي ترفع جهة أخرى قد تكون من إحدى الجهات المعروفة, فيكون لها نقيض صريح, مثل رفع الممكنة العامة بالضرورية وبالعكس, لأن الإمكان هو سلب الضرورة.
وقد لا تكون من الجهات المعروفة التي لها عندنا اسم معروف, فلا بد أن نلتمس لها جهة من الجهات المعروفة تلازمها, فنطلق عليها اسمها فلا يكون نقيضا صريحا, بل لازم النقيض.
مثلا (الدائمة) تناقضها (المطلقة العامة) ولكن لا بالتناقض الصريح, بل احداهما لازمة لنقيض الأخرى, فإذا قلت: (الأرض متحركة دائما), فنقيضها الصريح سلب الدوام, ولكن سلب الدوام ليس من الجهات المعروفة, فنلتمس له جهة لازمة, فنقول: لازم عدم الدوام أن سلب التحرك عن الأرض حاصل في زمن من الأزمنة أي (ان الأرض ليست متحركة بالفعل). وهذه مطلقة عامة تكون لازمة لنقيض الدائمة.
وإذا قلت: (كل إنسان كاتب بالفعل), فنقيضها الصريح إن الإنسان لم تثبت له الكتابة كذلك, أي بالفعل. ولازم ذلك دوام السلب أي (ان بعض الإنسان ليس بكاتب دائما) وهذه دائمة وهي لازمة لنقيض المطلقة العامة.
ولا حاجة إلى ذكر تفصيل نقائض الموجهات, فلتطلب من المطولات ان أرادها الطالب, على انه في غنى عنها وننصحه الا يتعب نفسه بتحصيلها فأنها قليلة الجدوى.
من ملحقات التناقض:
التداخل والتضاد والدخول تحت التضاد
تقدم أن التناقض في المحصورات الأربع يقع بين الموجبة الكلية والسالبة الجزئية, وبين الموجبة الجزئية والسالبة الكلية, أي بين المختلفتين في الكم والكيف.
ويبقى أن تلاحظ النسبة بين البواقي أي بين المختلفتين بالكم فقط أو بالكيف فقط, ومعرفة هذه النسب تنفع أيضا في الاستدلال على قضية لمعرفة قضية أخرى لها نسبة معها كما سيأتي:
وعليه نقول: المحصورتان إن اختلفتا كما وكيفا فهما المتناقضتان وقد تقدم التناقض. وان اختلفتا في احدهما فقط فعلى ثلاثة أقسام.
1ـ (المتداخلتان) وهما المختلفتان في الكم دون الكيف أعني الموجبتين أو السالبتين. وسميتا متداخلتين لدخول احداهما في الاخرى لان الجزئية داخلة في الكلية.
ومعنى ذلك: ان الكلية إذا صدقت صدقت الجزئية المتحدة معها في الكيف, ولا عكس.
ولازم ذلك ان الجزئية إذا كذبت كذبت الكلية المتحدة معها في الكيف ولا عكس.
مثلا (كل ذهب معدن) فإنها صادقة ولا بد أن تصدق معها (بعض الذهب معدن) قطعا.
ومثل (بعض الذهب أسود) فإنها كاذبة ولا بد أن تكذب معها (كل ذهب أسود).
2ـ (المتضادتان) وهما المختلفتان في الكيف دون الكم, وكانتا كليتين. وسميتا متضادتين لانهما كالضدين يمتنع صدقهما معا ويجوز أن يكذبا معا.
ومعنى ذلك أنه إذا صدقت احداهما لا بد أن تكذب الأخرى, ولا عكس, أي لو كذبت احداهما لا يجب أن تصدق الأخرى.
فمثلاً إذا صدق (كل ذهب معدن) يجب أن يكذب (لا شيء من الذهب بمعدن).
ولكن إذا كذب (كل معدن ذهب) لا يجب بأن يصدق (لا شيء من المعدن بذهب), بل هي كاذبة في المثال.
3ـ (الداخلتان تحت التضاد) وهما المختلفتان في الكيف دون الكم, وكانتا جزئيتين. وإنما سميتا داخلتين تحت التضاد, لانهما داخلتان تحت الكليتين كل منهما تحت الكلية المتفقة معها في الكيف, من جهة, ولانهما على عكس الضدين في الصدق والكذب, أي أنهما يمتنع اجتماعهما على الكذب, ويجوز ان يصدقا معاً.
ومعنى ذلك: أنه إذا كذبت احداهما لا بد أن تصدق الأخرى, ولا عكس, أي أنه لو صدقت احداهما لا يجب أن تكذب الأخرى.
فمثلاً إذا كذب (بعض الذهب أسود) فإنه يجب أن يصدق (بعض الذهب ليس بأسود).
ولكن إذا صدق (بعض المعدن ذهب) لا يجب أن يكذب (بعض المعدن ليس بذهب), بل هذه صادقة في المثال.
وقد جرت عادة المنطقيين من القديم أن يضعوا لتناسب المحصورات جميعا لأجل توضحيها لوحا على النحو الآتي:
العكوس
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
سبق في أول هذا الفصل أن قلنا: أن الباحث قد يحتاج للاستدلال على مطلوبة إلى أن يبرهن على قضية أخرى لها علاقة مع مطلوبة يستنبط من صدقها صدق القضية المطلوبة للملازمة بينهما في الصدق. وهذه الملازمة واقعة بين كل قضية و (عكسها المستوي) وبينها وبين (عكس نقيضها). فنحن الآن نبحث عن القسمين:
العكس المستوي
أما العكس المستوي فهو: (تبديل طرفي القضية مع بقاء الكيف والصدق).
أي أن القضية المحكوم بصدقها تحول إلى قضية تتبع الأولى في الصدق وفي الإيجاب والسلب, بتبديل طرفي الأولى بأن يجعل موضوع الأولى محمولا في الثانية والمحمول موضوعا, أو المقدم تاليا والتالي مقدما.
وتسمى الأولى (الأصل) والثانية (العكس المستوي). فكلمة (العكس) هنا لها اصطلاحان: اصطلاح في نفس التبديل, واصطلاح في القضية التي وقع فيها التبديل.
ومعنى أن العكس تابع للأصل في الصدق: أن الأصل إذا كان صادقا وجب صدق العكس. ولكن لا يجب أن يتبعه في الكذب, فقد يكذب الأصل والعكس صادق. ولازم ذلك أن الأصل لا يتبع عكسه في الصدق, ولكن يتبعه في الكذب فإذا كذب العكس كذب الأصل, لأنه لو صدق الأصل يلزم منه صدق العكس والمفروض كذبه.
فهنا قاعدتان تنفعان في الاستدلال:
1ـ إذا صدق الأصل صدق عكسه.
2ـ إذا كذب العكس كذب أصله.
وهذه القاعدة الثانية متفرعة على الأولى. كما علمت.
شروط العكس
علمنا أن العكس إنما يحصل بشروط ثلاثة: تبديل الطرفين وبقاء الكيف وبقاء الصدق. أما الكم فلا يشترط بقاؤه, وإنما الواجب بقاء الصدق وهو قد يقتضي بقاء الكم في بعض القضايا وقد يقتضي عدمه في البعض الآخر.
والمهم فيما يأتي معرفة القضية التي يقتضي بقاء الصدق في عكسها بقاء الكم أو عدم بقائه.
ولو تبدل الطرفان وكان الكيف باقيا. ولكن لم يبق الصدق, فلا يسمى ذلك عكسا. بل يسمى (انقلابا).
الموجبتان تنعكسان موجبة جزئية:
أي أن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية. والموجبة الجزئية تنعكس كنفسها. فإذا قلت:
كل حـ ب فعكسها ع ب حـ
و ع حـ ب فعكسها ع ب حـ
ولا ينعكسان الى كل ب حـ
البرهان:
(1) في الكلية: أن المحمول فيها إما أن يكون أعم من الموضوع أو مساويا له.
وعلى التقديرين تصدق الجزئية قطعا لان الموضوع في التقديرين يصدق على بعض أفراد المحمول, فإذا قلت:
كل ماء سائل يصدق بعض السائل ماء
وكل انسان ناطق يصدق بعض الناطق انسان
ولكن لا تصدق الكلية على كل تقدير, لان الموضوع في التقدير الأول لا يصدق على جميع أفراد المحمول, لأنه اخص من المحمول, فإذا قلت:
(كل سائل ماء) فالقضية كاذبة وهو المطلوب
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpg
(2) وفي الجزئية: أما أن يكون المحمول أعم مطلقا من الموضوع أو اخص مطلقا, أو أعم من وجه, أو مساويا. وعلى بعض هذه التقادير وهو التقدير الأول والثالث لا يصدق العكس موجبة كلية, لأنه إذا كان المحمول أعم مطلقا أو من وجه, فإن الموضوع لا يصدق على جميع أفراد المحمول إنما يصدق لو كان أخص أو مساويا. إما عكسه إلى الموجبة الجزئية فإنه يصدق على كل تقدير, فإذا قلت:
بعض السائل ماء يصدق بعض الماء سائل
وبعض الماء سائل يصدق بعض السائل ماء
وبعض الطير أبيض يصدق بعض الأبيض طير
وبعض الإنسان ناطق يصدق بعض الناطق انسان
السالبة الكلية تنعكس سالبة كلية
فيبقى الكم والكيف معا, فإذا صدق قولنا:
صدق لا شيء من الحيوان بشجر
لا شيء من الشجر بحيوان
والبرهان واضح: لان السالبة الكلية لا تصدق إلاَّ مع تباين الموضوع والمحمول تباينا كليا. والمتباينات لا يجتمعان أبدا, فيصح سلب كل منهما عن جميع أفراد الآخر, سواء جعلت هذا موضوعا أو ذاك موضوعا.
وللتدريب على إقامة البراهين من طريق النقيض والعكس نقيم البرهان على هذا الأمر بالصورة الآتية:
المفروض لا ب حـ قضية صادقة
المدعى لا حـ ب صادقة أيضا
البرهان:
لو لم تصدق لا حـ ب
لصدق نقيضها ع حـ ب
ولصدق ع ب حـ (العكس المستوي للنقيض)
وإذا لاحظنا هذا العكس المستوي (ع ب حـ) ونسبناه الى الأصل (لا ب حـ) وجدناه نقيضا له, فلو كان (ع ب حـ) صادقا وجب ان يكون (لا ب حـ) كاذبا, مع ان المفروض صدقه.
فوجب ان تكون لا حـ ب صادقة وهو المطلوب
تعقيب:
بهذا البرهان تعرف الفائدة في النقيض والعكس المستوي عند الاستدلال لأنا لا بد أن نرجع في هذا البرهان إلى الوراء, فنقول:
المفروض أن لا ب حـ صادقة
فتكذب ع ب حـ نقيضها
وهذا النقيض عكس ع حـ ب فيكذب أيضا
لانه اذا كذب العكس كذب الأصل (القاعدة الثانية)
واذا كذب هذا الأصل اعني ع حـ ب
صدق نقيضه لا حـ ب وهو المطلوب
فاستفدت (تارة) من صدق الأصل كذب نقيضه, و (أخرى) من كذب العكس كذب أصله, و (ثالثة) من كذب الأصل صدق نقيضه.
وسيمر عليك مثل هذا الاستدلال كثيرا, فدقق فيه جيدا, وعليك بإتقانه.
السالبة الجزئية لا عكس لها:
أي لا تنعكس أبدا لا إلى كلية ولا إلى جزئية, لأنه يجوز ان يكون موضوعها اعم من محمولها مثل (بعض الحيوان ليس بإنسان). والأخص لا يجوز سلب الأعم عنه بحال من الأحوال لا كليا ولا جزئيا, لأنه كلما صدق الأخص صدق الأعم معه, فكيف يصح سلب الأعم عنه, فلا يصدق قولنا (لا شيء من الإنسان بحيوان) ولا قولنا (بعض الإنسان ليس بحيوان).
المنفصلة لا عكس لها:
أشرنا في صدر البحث إلى أن العكس المستوي يعم الحملية والشرطية: ولكن عند التأمل نجد أن المنفصلة لا ثمرة لعكسها, لأنها أقصى ما تدل عليه تدل على التنافي بين المقدم والتالي. ولا ترتيب طبيعي بينهما, فأنت بالخيار في جعل ايهما مقدما والثاني تاليا من دون أن يحصل فرق في البين, فسواء أن قلت: العدد إما زوج أو فرد, أو قلت: العدد إما فرد أو زوج, فإن مؤداهما واحد.
فلذا قالوا: المنفصلة لا عكس لها. أي لا ثمرة فيه.
نعم لو حولتها إلى حملية فإن أحكام الحملية تشملها, كما لو قلت في المثال مثلا: العدد ينقسم إلى زوج وفرد فإنها تنعكس إلى قولنا: ما ينقسم إلى زوج وفرد عدد.
عكس النقيض
وهو العكس الثاني للقضية الذي يستدل بصدقها على صدقه. ولو طريقتان.
1ـ طريقة القدماء, ويسمى (عكس النقيض الموافق) لتوافقه مع أصله في الكيف, وهو (تحويل القضية إلى أخرى موضوعها نقيض محمول الأصل ومحمولها نقيض موضوع الأصل, مع بقاء الصدق والكيف).
وبالاختصار هو: (تبديل نقيضي الطرفين مع بقاء الصدق والكيف).
فالقضية: كل كاتب إنسان, تحول بعكس النقيض الموافق الى:
كل (لا إنسان) هو (لا كاتب)
2ـ طريقة المتأخرين, ويسمى (عكس النقيض المخالف), لتخالفه مع أصله في الكيف, وهو (تحويل القضية إلى أخرى موضوعها نقيض محمول الأصل ومحمولها عين موضوع الأصل, مع بقاء الصدق دون الكيف).
فالقضية: كل كاتب إنسان, تحول بعكس النقيض المخالف إلى:
لا شيء من (اللانسان) بكاتب
قاعدة عكس النقيض
من جهة الكم
حكم السوالب هنا حكم الموجبات في العكس المستوي, وحكم الموجبات حكم السوالب هناك, أي أن:
1ـ السالبة الكلية تنعكس جزئية: سالبة في الموافق وموجبة في المخالف.
2ـ السالبة الجزئية تنعكس جزئية أيضا: سالبة في الموافق موجبة في المخالف.
3ـ الموجبة الكلية تنعكس كلية: موجبة في الموافق سالبة في المخالف.
4ـ الموجبة الجزئية لا تنعكس أصلا بعكس النقيض.
البرهان
ولا بد من إقامة البرهان على كل واحد من تلك الأحكام السابقة, وفي هذه البراهين تدريب للطالب على الاستفادة من النقيض والعكس في الاستدلال. وقد استعملنا الأسلوب المتبع في الهندسة النظرية لإقامة البرهان. فمن ألف أسلوب الكتب الهندسية يسهل عليه ذلك. وقد تقدم مثال منه في البرهان على عكس السالبة الكلية بالعكس المستوي موضحا().
ويجب أن يعلم أنا نرمز للنقيض بحرف عليه فتحة, للاختصار وللتوضيح. في كل ما سيأتي, على هذا النحو:
بَ ................نقيض الموضوع
حـَ ................ نقيض المحمول
برهان عكس السالبة الكلية:
فلأجل إثبات عكس السالبة الكلية بعكس النقيض نقيم برهانين: برهانا على عكسها بالموافق وبرهانا على عكسها بالمخالف, فنقول:
(أولا) المدعى أنها تنعكس سالبة جزئية بعكس النقيض الموافق ولا تنعكس سالبة كلية, فهنا مطلوبان, أي أنه إذا صدقت.
لا ب حـ
صدقت س حـَ بَ (المطلوب الاول)
ولا تصدق لا حـَ بَ (المطلوب الثاني)
البرهان:
أن من المعلوم:
1ـ أن السالبة الكلية لا تصدق إلا إذا كان بين طرفيها تباين كلي. وهذا بديهي.
2ـ أن النسبة بين نقيضي المتباينين هي التباين الجزئي, وقد تقدم البرهان على ذلك في بحث النسب في الجزء الأول.
3ـ أن مرجع التباين الجزئي إلى سالبتين جزئيتين, كما أن مرجع التباين الكلي إلى سالبتين كليتين. وهذا بديهي أيضا.
وينتج من هذه المقدمات الثلاث أنه:
إذا صدق لا ب حـ (أي يكون بين الطرفين تباين كلي)
صدقت س بَ جـَ السالبة الجزئية بين النقيضين
وصدقت أيضا س حـَ بَ السالبة الجزئية بين النقيضين
وهو (المطلوب الأول)
ثم يفهم من المقدمة الثانية أن التباين الكلي لا يتحقق دائما بين نقيضي المتباينين, إذ ربما يكون بينهما العموم والخصوص من وجه.
أي أن السالبة الكلية بين نقيضي المتباينين لا تصدق دائما.
أو فقل لا تصدق دائما لا حـَ بَ (المطلوب الثاني)
(ثانيا) المدعى أن السالبة الكلية تنعكس موجبة جزئية بعكس النقيض المخالف ولا تنعكس موجبة كلية, فهنا مطلوبان, أي أنه إذا صدقت:
لا ب حـَ
صدقت ع حـَ ب (المطلوب الأول)
ولا تصدق كل حـَ ب (المطلوب الثاني)
البرهان:
لما كان بين ب, حـ تباين كلي كما تقدم فمعناه أن احدهما يصدق مع نقيض الآخر.
أي أن ب يصدق مع حـَ
وإذا تصادق ب و حـَ
صدق على الأقل ع حـَ ب (المطلوب الأول)
ثم أنه تقدم أن نقيضي المتباينين قد تكون بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه, فيصدق على هذا التقدير:
حـَ مع ب
ولا يصدق حينئذ حـَ مع ب والا لاجتمع النقيضان ب, بَ
فلا يصدق كل حـَ ب (المطلوب الثاني)
برهان عكس السالبة الجزئية:
ولآجل إثبات عكس السالبة الجزئية بعكس النقيض أيضا نقيم برهانين للموافق والمخالف, فنقول:
(أولا) المدعى أن السالبة الجزئية تنعكس سالبة جزئية بعكس النقيض الموافق, ولا تنعكس كلية, فهنا مطلوبان, أي انه إذا صدقت:
س ب حـ
صدقت س حـ ب (المطلوب الاول)
ولا تصدق لا حـَ بَ (المطلوب الثاني)
البرهان:
من المعلوم أن السالبة الجزئية تصدق في ثلاثة فروض:
1ـ أن يكون بين طرفيها عموم من وجه. وحينئذ يكون بين نقيضيهما تباين جزئي, كما تقدم في بحث النسب.
2ـ أن يكون بينهما تباين كلي, وبين نقيضيهما أيضا تباين جزئي كما تقدم.
3ـ أن يكون الموضوع أعم مطلقاً من المحمول, فيكون نقيض المحمول أعم مطلقا من نقيض الموضوع.
وعلى جميع هذه التقارير الثلاثة تصدق السالبة الجزئية:
س حَ بَ (المطلوب الأول)
إما للتباين الجزئي بينهما أو لان نقيض ح أعم مطلقا من نقيض ب.
ثم على بعض التقارير يكون بين نقيضي الطرفين عموم وخصوص من وجه أو مطلقا, فلا تصدق السالبة الكلية:
لا حَ بَ (المطلوب الثاني)
(ثانيا) المدعى أن السالبة الجزئية تنعكس موجبة جزئية بعكس النقيض المخالف, ولا تنعكس كلية, فهنا مطلوبان, أي إذا صدقت:
س ب ح
صدقت ع حـ َ ب (المطلوب الأول)
ولا تصدق كل حـَ ب (المطلوب الثاني)
البرهان:
تقدم أن على جميع التقادير الممكنة للموضوع والمحمول في السالبة الجزئية إما أن يكون بين نقيضيهما تباين جزئي أو أن نقيض المحمول أعم مطلقا, فيلزم على التقديرين أن يصدق:
بعض حَ بدون بَ
فيصدق بعض حَ مع ب
لان النقيضين (وهما بَ, ب) لا يرتفعان
أي يصدق ع حَ ب (المطلوب الأول)
ثم أن نقيضي الموضوع والمحمول قد يكون بينهما عموم من وجه.
وقد تصدق ع حَ بَ
ويمكن تحويلها إلى س حَ ب صادقة
لان الأولى موجبة معدولة المحمول فيمكن جعلها سالبة محصلة المحمول إذ السالبة المحصلة المحمول أعم من الموجبة المعدولة المحمول إذا اتفقا في الكم, وإذا صدق الأخص صدق الأعم قطعا, فإذا كانت:
س حَ ب صادقة
كذب نقيضها كل حَ ب (المطلوب الثاني)
برهان عكس الموجبة الكلية:
ولأجل إثبات عكس الموجبة الكلية بعكس النقيض, نقيم أيضا برهانين للموافق والمخالف فنقول:
(أولا) المدعى أنها تنعكس موجبة كلية بعكس النقيض الموافق, أي أنه إذا صدقت:
كل ب ح (المفروض)
صدقت كل حَ ب (المطلوب)
البرهان:
لو لم تصدق كل حَ بَ
لصدقت س حَ بَ نقيضها
فتصدق س ب ح (عكس نقيضها الموافق)
فتكذب كل ب ح (نقيض العكس المذكور)
وهذا خلف أي خلاف الفرض, لان هذا (نقيض العكس المذكور) هو نفس الأصل المفروض صدقه.
فوجب أن تصدق كل حَ بَ (وهو المطلوب)
(ثانيا) المدعى أن الموجبة الكلية تنعكس سالبة كلية بعكس النقيض المخالف, أي أنه إذا صدقت:
كل ب ح (المفروض)
صدقت لا ح ب (المطلوب)
البرهان:
لو لم تصدق لا حَ ب
لصدقت ع حَ ب نقيضها
فتصدق ع ب حَ عكسها المستوي
وهذه موجبة جزئية معدولة المحمول, فتحول الى سالبة جزئية محصلة المحمول, وقد تقدم, فيحدث أن:
س ب ح
فتكذب كل ب ح نقيضها
وهذا خلف, لأنه الأصل المفروض صدقه
فوجب أن تصدق لا حَ ب (وهو المطلوب)
الموجبة الجزئية لا تنعكس
يكفينا للبرهنة على عدم انعكاس الموجبة الجزئية بعكس النقيض الموافق والمخالف مطلقا أن نبرهن على عدم انعكاسها إلى الجزئية. وبطريق أولى يعلم عدم انعكاسها إلى الكلية, لأنه تقدم أن الجزئية داخلة في الكلية, فإذا كذبت الجزئية كذبت الكلية. وعليه فنقول:
(أولا) المدعى أن الموجبة الجزئية لا تنعكس إلى موجبة جزئية بعكس النقيض الموافق.
فإذا صدقت ع ب ح
لا يلزم أن تصدق ع ح بَ
البرهان:
من موارد صدق الموجبة الجزئية, أن يكون بين طرفيها عموم من وجه, فيكون حينئذ بين نقيضيهما نسبة التباين الجزئي الذي هو أعم من التباين الكلي والعموم من وجه, فيصدق على تقدير التباين الكلي:
لا ح ب
فيكذب نقيضها ع ح ب (وهو المطلوب)
(ثانيا) المدعى أن الموجبة الجزئية لا تنعكس الى السالبة الجزئية بعكس النقيض المخالف.
فإذا صدقت ع ب ح
لا يلزم أن تصدق س ح ب
البرهان:
قد تقدم على تقدير التباين الكلي بين نقيضي الطرفين في الموجبة الجزئية والسالبة الكلية:
لا ح ب
فتصدق كل حَ ب لان سلب السلب إيجاب
فيكذب نقيضها س حَ ب (وهو المطلوب)
ولأجل أن يتضح لك عدم انعكاس الموجبة الجزئية بعكس النقيض تدبر هذا المثال وهو (بعض اللانسان حيوان), فإن هذه القضية لا تنعكس بعكس النقيض الموافق الى (بعض اللاحيوان انسان) ولا إلى (كل لا حيوان انسان) لانهما كاذبتان, لأنه لا شيء من اللاحيوان بانسان.
ولا تنعكس بالمخالف الى (ليس لا حيوان لا انسان) ولا إلى (لا شيء من اللاحيوان بلا انسان), لانهما كاذبتان أيضا, لان كل لا حيوان هو لا انسان.
تمرينات
1ـ إذا كانت هذه القضية (كل عاقل لا تبطره النعمة) صادقة. فبين حكم القضايا الآتية في صدقها أو كذبها. مع بيان السبب:
أـ بعض العقلاء لا تبطره النعمة.
ب ـ ليس بعض العقلاء لا تبطره النعمة.
ج ـ جميع من لا تبطرهم النعمة عقلاء.
د ـ لا شخص من العقلاء لا تبطره النعمة.
هـ ـ كل من تبطره النعمة غير عاقل.
و ـ لا شخص ممن تبطره النعمة بعاقل.
زـ بعض من لا تبطره النعمة عاقل.
2ـ إذا كانت هذه القضية (بعض المعادن ليس يذوب بالحرارة) كاذبة, فاستخرج القضايا الصادقة والكاذبة التي تلزم من كذب هذه القضية.
3ـ استدل() فخر المحققين في شرحه (الإيضاح) على أن الماء يتنجس بالتغيير التقديري بالنجاسة فقال: (أن الماء مقهور بالنجاسة عند التغيير التقديري. لأنه كلما لم يصيرِّ الماء مقهورا لم يتغير بها على تقدير المخالفة. وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا: كلما تغير الماء على تقدير المخالفة بالنجاسة كان مقهورا).
فبين أي عكس نقيض هذا. وكيف استخراجه. ولاحظ ان القضية المستعملة هنا شرطية متصلة.
من ملحقات العكوس:
النقض
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
من المباحث التي لا تقل شأنا عن العكوس في استنباط صدق القضية من صدق أصلها, مباحث (النقض), فلا باس بالتعرض لها إلحاقا لها بالعكوس, فنقول: ـ
النقض: هو تحويل القضية إلى أخرى لازمة لها في الصدق مع بقاء طرفي القضية على موضعهما. وهو على ثلاثة أنواع:
1ـ أن يجعل نقيض موضوع الأولى موضوعا للثانية ونفس محمولها محمولا, ويسمى هذا التحويل (نقض الموضوع), والقضية المحولة (منقوضة الموضوع).
2ـ أن يجعل نفس موضوع الأولى موضوعا للثانية ونقيض محمولها محمولا, ويسمى التحويل (نقض المحمول) والقضية المحول (منقوضة المحمول).
3ـ أن يجعل نقيض الموضوع موضوعا ونقيض المحمول محمولا. ويسمى التحويل (النقض التام). والقضية المحولة (منقوضة الطرفين).
ولنبحث عن قاعدة كل واحد من هذه الأنواع. ولنبدأ بقاعدة نقض المحمول لأنه الباب للباقي كما ستعرف السر في ذلك:
قاعدة نقض المحمول
علينا لاستخراج منقوضة المحمول صادقة ـ على تقدير صدق أصلها ـ أن نغير كيف القضية ونستبدل محمولها بنقيضه. مع بقاء الموضوع على حاله, وبقاء الكم.
ولا بد من إقامة البرهان على منقوضة محمول كل واحدة من المحصورات, فنقول:
1ـ (الموجبة الكلية) منقوضة محمولها سالبة كلية نحو كل انسان حيوان فتحول بنقض محمولها إلى: (لا شيء من الانسان بلا حيوان).
وللبرهان على ذلك نقول:
إذا صدقت كل ب ح (المفروض)
صدقت لا ب حـ (المطلوب)
البرهان:
إذا صدقت كل ب ح
صدقت لا حَ ب عكس نقيضها المخالف
وينعكس بالعكس المستوي إلى لا ب حَ وهو المطلوب
2ـ (الموجبة الجزئية) منقوضة محمولها سالبة جزئية, نحو بعض الحيوان إنسان, فتتحول بنقض محمولها إلى: (ليس كل حيوان لا انسان. أي انه إذا صدقت:
ع ب ح (المفروض)
صدقت س ب حَ (المطلوب)
البرهان:
لو لم تصدق س ب حَ
لصدق نقيضها كل ب حَ
فتصدق لا ب ح (نقض المحمول)
فيكذب نقيضها ع ب ح
ولكنه عين الأصل فهو خلاف الفرض.
فيجب ان يصدق س ب حَ (وهو المطلوب)
3ـ (السالبة الكلية) منقوضة محمولها موجبة كلية, نحو لا شيء من الماء بجامد, فتتحول بنقض محمولها الى:( كل ماء غير جامد).
أي أنه إذا صدقت:ـ
لا ب ح (المفروض)
صدقت كل ب حَ (المطلوب)
البرهان:
لو لم تصدق كل ب حَ
لصدق نقيضها س ب حَ
فتصدق ع ب ح لان سلب السلب ايجاب
فيكذب نقيضها لا ب ح
ولكنه عين الأصل فهو خلاف الفرض.
فيجب أن يصدق كل ب حَ (وهو المطلوب)
4ـ (السالبة الجزئية) منقوضة محمولها موجبة جزئية, نحو ليس كل معدن ذهبا, فتتحول بنقض محمولها إلى: (بعض المعدن غير ذهب). أي انه إذا صدقت:ـ
س ب ح (المفروض)
صدقت ع ب حَ (المطلوب)
البرهان:
إذا صدقت س ب ح (الأصل)
صدقت ع حَ ب (عكس النقيض المخالف)
وينعكس بالعكس المستوي الى ع ب حَ وهو المطلوب
تنبيهات
طريقة تحويل الأصل:
(التنبيه الأول) الطريقة التي اتبعناها في البرهان على منقوضة محمول الموجبة الكلية والسالبة الجزئية طريق جديدة في البرهان, ينبغي أن نسميها الآن (طريقة تحويل الأصل) قبل مجيء بحث القياس فتدخل في أحد أقسامه() كالطريق السابقة التي سميناها: (طريقة البرهان على كذب النقيض).
وقد رأيت أننا في هذه الطريقة (طريقة تحويل الأصل) أجرينا التحويلات التي سبقت معرفتنا لها على الأصل, ثم على المحول من الأصل تباعا, حتى انتهينا إلى المطلوب: فقد رأيت في الموجبة الكلية إنا حولنا الأصل الى عكس النقيض المخالف, فيصدق على تقدير صدق أصله, ثم حولنا هذا العكس الى العكس المستوي, فخرج لنا نفس المطلوب أعني (منقوضة المحمول), فيصدق التحويل الثاني على تقدير صدق عكس نقيض الأصل (التحويل الأول) الصادق على تقدير صدق الأصل فيصدق التحويل الثاني على تقدير صدق الأصل, وهذا هو المقصود إثباته فتوصلنا إلى المطلوب بأقصر طريق.
وسنتبع هذه الطريق السهلة فيما يأتي لنقض الموضوع والنقض التام, ويمكن أجراؤها أيضا في البرهان على عكوس النقيض باستخدام منقوضة المحمول. وعلى الطالب ان يستعمل الحذق وينتبه إلى أنه أي التحويلات ينبغي استخدامه حتى يتوصل إلى مطلوبه.
تحويل معدولة المحمول:
(التنبيه الثاني) وقد استعملنا في عكس النقيض ونقض المحمول طريقتين من التحويل الملازم للأصل في الصدق, وفي الحقيقة هما من باب نقض المحمول, ولكن لبداهتهما استدللنا بهما قبل أن يأتي البرهان على منقوضة المحمول ولذا لم نسمها بنقض المحمول, وهما: ـ
أ ـ (تحويل الموجبة بالمعدولة الى سالبة محصلة المحمول موافقة لها في الكم), لان مؤداهما واحد, وإنما الفرق أن السلب محمول في الموجبة والحمل مسلوب في السالبة.
ب ـ تحويل السالبة المعدولة المحمول إلى موجبة محصلة المحمول موافقة لها في الكم, لأن سلب إيجاب. وهذا بديهي واضح.
تمرينات
1ـ برهن على نقض محمول الموجبة الكلية بطريق البرهان على كذب النقيض.
2ـ برهن على نقض محمول السالبة الجزئية بطريق البرهان على كذب النقيض.
3ـ برهن على نقيض محمول السالبة الجزئية بطريقة تحويل الأصل, بأخذ عكس النقيض الموافق أولا, ثم استمر إلى أن تستخرج منقوضة المحمول.
4ـ جرب هل يمكن البرهان على نقض محمول الموجبة الجزئية بطريقة تحويل الأصل.
5ـ برهن على نقض محمول السالبة الكلية بطريقة تحويل الأصل. وانظر ماذا ستكون النتيجة, وبين ما تجده.
6ـ برهن على عكس النقيض المخالف والموافق لكل من المحصورات. عدا الموجبة الجزئية, بطريقة تحويل الأصل, واستخدم لهذا الغرض قاعدتي نقض المحمول والعكس المستوي فقط.
7ـ جرب أن تبرهن على عكس النقيض المخالف والموافق للموجبة الجزئية بهذه الطريقة, وانظر انك ستقف فلا تستطيع الوصول الى النتيجة, فبين أسباب الوقوف.
قاعدة النقض التام ونقض الموضوع
لاستخراج (منقوضة الطرفين) صادقة علينا أن نستبدل بموضوع القضية الأصلية نقيضه فنجعله موضوعا وبمحمولها نقيضه فنجعله محمولا, مع تغيير الكم دون الكيف.
ولاستخراج (منقوضة الموضوع) صادقة علينا أن نستبدل بموضوع القضية الأصلية نقيضه فنجعله موضوعا ونبقي المحمول على حاله, مع تغيير الكم والكيف معا.
ولا ينقض بهذين النقضين الا الكليتان. ولا بد من البرهان لكل من المحصورات:
1ـ (الموجبة الكلية) نقضها التام موجبة جزئية, ونقض موضوعها سالبة جزئية, نحو كل فضة معدن, فنقضها التام: (بعض اللافضة هو لا معدن) ونقض موضوعها: (بعض اللافضة ليس هو معدنا).
وللبرهان على ذلك نقول:
المفروض صدق كل ب ح
والمدعى صدق ع بَ حَ (المطلوب الاول)
وصدق س بَ ح (المطلوب الثاني)
البرهان:
اذا صدق كل ب ح
صدق كل حَ بَ عكس النقيض الموافق
فيصدق عكسه المستوي ع بَ حَ (وهو المطلوب الاول)
وتنقض محمول هذا الأخير فيحدث س بَ ح (وهو المطلوب الثاني)
2ـ (السالبة الكلية) نقضها التام سالبة جزئية, ونقض موضوعها موجبة جزئية نحو: لا شيء من الحديد بذهب, فنقضها التام: (بعض اللاحديد ليس بلا ذهب), ونقض موضوعها: (بعض اللاحديد ذهب).
وللبرهان على ذلك نقول:
المفروض صدق لا ب ح
والمدعى صدق س بَ حَ (المطلوب الأول)
وصدق ع بَ حَ (المطلوب الثاني)
البرهان:
اذا صدق لا ب ح
صدق لا ح ب العكس المستوي
فيصدق عكس نقيضه الموافق س بَ حَ (وهو المطلوب الأول)
وننقض محمول هذا التخير فيحدث ع بَ ح (وهو المطلوب الثاني)
3, 4ـ (الجزئيتان) ليس لهما نقض تام ولا نقض موضوع. وللبرهنة على ذلك يكفي البرهان على عدم نقضهما إلى الجزئية, فيعلم بطريق أولى عدم نقضهما إلى الكلية, كما قدمنا في عدم انعكاس الموجبة الجزئية بعكس النقيض, فنقول:
(في الموجبة الجزئية):
المفروض صدق ع ب ح
المدعى لا تصدق دائما ع بَ حَ (المطلوب الاول)
ولا تصدق دائما س بَ حَ (المطلوب الثاني)
البرهان:
تقدم في عكس النقيض في الموجبة الجزئية أن في بعض تقاديرها تكون النسبة بين نقيضي طرفيها التباين الكلي, فتصدق حينئذ السالبة الكلية:
لا بَ حَ
فيكذب نقيضها ع بَ حَ (وهو المطلوب الأول)
وتصدق أيضا منقوضة محمول هذه السالبة الكلية
كل بَ ح
فيكذب نقيضها س بَ حَ (وهو المطلوب الثاني)
(وفي السالبة الجزئية):
المفروض صدق س ب ح
والمدعى لا تصدق دائما س بَ حَ (المطلوب الاول)
ولا تصدق دائما ع بَ ح (المطلوب الثاني)
البرهان:
في السالبة الجزئية قد يكون الموضوع أعم من المحمول مطلقا نحو بعض الحيوان ليس بانسان, ولما كان:
(أولا) نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص مطلقا. فتصدق إذن الموجبة الكلية:
كل بَ حَ
فيكذب نقيضها س بَ حَ (وهو المطلوب الاول)
و (ثانيا) نقيض الأعم يباين عين الأخص تباينا كليا, فتصدق إذن السالبة الكلية:
لا بَ ح
فيكذب نقيضها ع بَ ح (وهو المطلوب الثاني)
لوح نسب المحصورات
الأصل
كل ب ح
ع ب ح
لا ب ح
س ب ح
النقيض
س ب ح
لا ب ح
ع ب ح
كل ب ح
العكس المستوي
ع ح ب
ع ح ب
لا ح ب
عكس النقيض الموافق
ك حَ بَ
س حَ بَ
س حَ بَ
عكس النقيض المخالف
لا حَ ب
ع حَ ب
ع حَ ب
نقض المحمول
لا ب ح
س ب حَ
كل ب حَ
ع ب حَ
نقض الطرفين
ع بَ ح
س بَ حَ
نقض الموضوع
س بَ ح
ع بَ ح
البديهة المنطقية
أو
الاستدلال المباشر البديهي
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
جميع ما تقدم من أحكام القضايا (النقيض والعكوس والنقض) هي من نوع الاستدلال المباشر بالنسبة إلى القضية المحولة عن الأصل, أي النقيض والعكس والنقض, لأنه يستدل في النقض من صدق إحدى القضيتين على كذب الأخرى وبالعكس, ويستدل في الباقي من صدق الأصل على صدق ما حول أليه عكسا أو نقضا, أو من كذب العكس والنقض على كذب الأصل.
وسميناه مباشرا لان انتقال الذهن إلى المطلوب, أعني كذب القضية أو صدقها, إنما يحصل من قضية واحدة معلومة فقط, بلا توسط قضية أخرى.
وقد تقدم البرهان على كل نوع من أنواع الاستدلال المباشر. وبقي نوع آخر منه بديهي لا يحتاج إلى أكثر من بيانه. وقد يسمى (البديهية المنطقية) فنقول:
من البديهيات في العلوم الرياضية أنه إذا أضفت شيئا واحداً إلى كل من الشيئين المتساويين فإن نسبة التساوي لا تتغير, فلو كان:
ب = ح
وأضفت إلى كل منهما عددا معينا مثل عدد (4) لكان:
ب+4=ح+4
وكذلك إذا طرحت من كل منهما عددا معينا أو ضربتهما فيه أو قسمتهما عليه كعدد 4 فإن نسبة التساوي لا تتغير, فيكون:
ب – 4 = ح – 4
و ب * 4 = ح * 4
و ب ÷ 4 = ح ÷4
وكذا لا تتغير النسبة لو كان ب أكبر من حَ أو أصغر منه فانه يكون
ب + 4 أكبر من ح + 4 أو أصغر منه
و ب – 4 أكبر من ح – 4 أو أصغر منه وهكذا
ونظير ذلك نقول في القضية, فإنه لو صح أن تزيد كلمة على موضوع القضية ونفس الكلمة على محمولها, فإن نسبة القضية لا تتغير بمعنى بقاء الكم والكيف والصدق.
فإذا صدق: كل انسان حيوان واضفت كلمة (رأس) الى طرفيها
صدق: كل (رأس) انسان (رأس) حيوان.
أو أضفت كلمة (يحب) مثلا
صدق: كل (من يحب) انسانا (يحب) حيوانا
وإذا صدق: لا شيء من الحيوان بحجر
صدق: لا شيء من الحيوان (مستلقيا) بحجر (مستلقيا)
وإذا صدق: بعض المعدن ليس بذهب
صدق: بعض (قطعة) المعدن ليس (بقطعة) ذهب
وهكذا يمكن لك أن تحول كل قضية صادقة إلى قضية أخرى صادقة, بزيادة كلمة تصح زيادتها على الموضوع والمحمول معا, بغير تغيير في كم القضية وكيفها, سواء كانت الكلمة مضافة أو حالا أو وصفا أو فعلا أو أي شيء آخر من هذا القبيل.
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
الباب الخامس
الحجة وهيئة تأليفها
او
مباحث الاستدلال
تصدير:
إن أسمى هدف للمنطقي وأقصى مقصد له (مباحث الحجة), أي مباحث المعلوم التصديقي الذي يستخدم للتوصل إلى معرفة المجهول التصديقي. اما ما تقدم من الأبواب فكلها في الحقيقة مقدمات لهذا المقصد حتى مباحث المعرف, لأن المعرف إنما يبحث عنه ليستعان به على فهم مفردات القضية من الموضوع والمحمول.
و (الحجة) عندهم عبارة عما يتألف من قضايا يتجه بها إلى مطلوب يستحصل بها وإنما سميت (حجة) لأنه يحتج بها على الخصم لإثبات المطلوب, وتسمى (دليلاً) لأنها تدل على المطلوب, وتهيئتها وتأليفها لأجل الدلالة يسمى (استدلالاً).
ومما يجب التنبيه عليه قبل كل شيء: أن القضايا ليست كلها يجب أن تطلب بحجة, وإلاّ لما انتهينا إلى العلم بقضية أبداً, بل لا بد من الانتهاء إلى قضايا بديهية ليس من شأنها أن تكون مطلوبة, وإنما هي المبادئ للمطالب, وهي رأس المال للمتجر العلمي.
طرق الاستدلال ـ او اقسام الحجة
من منا لم يحصل له العلم بوجود النار عند رؤية الدخان؟ ومن ذا الذي لا يتوقع صوت الرعد عند مشاهدة البرق في السحاب؟ ومن ذا الذي لا يستنبط أن النوم يجم القوى, وان الحجر يبتل بوضعه في الماء, وأن السكينة تقطع الاجسام الطرية؟ وقد نحكم على شخص بأنه كريم لأنه يشبه في بعض صفاته كريماً نعرفه, او نحكم على قلم بأنه حسن لأنه يشبه قلماً جربناه... وهكذا إلى آلاف من امثال هذه الاستنتاجات تمرّ علينا كل يوم. وفي الحقيقة إن هذه الاستنتاجات الواضحة التي لا يخلو منها ذو شعور ترجع كلها إلى انواع الحجة المعروفة التي نحن بصدد بيانها, ولكن على الأكثر لا يشعر المستنبط انه سلك أحد تلك الأنواع وإن كان من علماء المنطق. وقد تعجب لو قيل لك إن تسعة وتسعين في المائة من الناس هم منطقيون بالفطرة من حيث لا يعلمون.
ولمّا كان الانسان ـ مع ذلك ـ يقع في كثير من الخطأ في أحكامه, او يعتذّر عليه تحصيل مطلوبه, لم يستغن عن دراسة الطرق العلمية للتفكير الصحيح والاستدلال المنتج.
والطرق العلمية للاستدلال ـ عدا طريق الاستدلال المباشر الذي تقدم البحث عنه ـ هي ثلاثة أنواع رئيسة:
1ـ (القياس), وهو أن يستخدم الذهن القواعد العامة المسلم بصحتها في الانتقال إلى مطلوبه. وهو العمدة في الطرق.
2ـ (التمثيل), وهو أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر لجهة مشتركة بينهما.
3ـ (الاستقراء), وهو أن يدرس الذهن عدة جزئيات, فيستنبط منها حكماً عاماً.
1ـ القياس
تعريفه:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
عرفوا القياس بأنه: >قول مؤلف من قضايا متى سلمت لزم عنه لذاته قول آخر<.
الشرح:ـ
1ـ (القول): جنس. ومعناه المركب التام الخبري, فيعم القضية الواحدة والأكثر.
2ـ (مؤلف من قضايا.. إلى آخره): فصل. والقضايا جمع منطقي أي ما يشمل الأثنين, ويخرج بقيد القضايا الاستدلال المباشر, لأنه كما سبق قضية واحدة على تقدير التسليم بها تستلزم قضية أخرى.
3ـ (متى سلمت): من التسليم. وفيه إشارة إلى أن القياس لا يشترط فيه أن تكون قضاياه مسلّمة فعلاً, بل شرط كونه قياساً أن يلزم منه على تقدير التسليم بقضاياه قول آخر, كشأن الملازمة بين القضية وبين عكسها او نقضها, فإنه على تقدير صدقها تصدق عكوسها ونقوضها. واللازم يتبع الملزوم في الصدق فقط, دون الكذب, كما تقدم في العكس المستوي, لجواز كونه لازماً أعم. ومنه يعرف: أن كذب القضايا المؤلفة لا يلزم منه كذب القول اللازم لها, نعم كذبه يستلزم كذبها.
4ـ (لزم عنه): يخرج به الاستقراء والتمثيل, لأنهما وان تألفا من قضايا لا يتبعهما القول الآخر على نحو اللزوم لجواز تخلفه عنهما لأنهما أكثر ما يفيدان الظن, إلاّ بعض الاستقراء. وسيأتي.
5ـ (لذاته): يخرج به قياس المساواة. كما سيأتي في محله, فإن قياس المساواة إنما يلزم منه القول الآخر لمقدمة خارجة عنه, لا لذاته. مثل:
ب ـ يساوي حـ . وحـ يساوي د .. ينتج ب يساوي د
ولكن لا لذاته, بل لصدق المقدمة الخارجية وهي: مساوي المساوي مساو.
ولذا لا ينتج مثل قولنا: ب نصف جـ . و جـ نصف د, لان نصف النصف ليس نصفاً, بل ربعاً.
الاصطلاحات العامة في القياس:
لا بد ـ اولاً ـ من بيان المصطلحات العامة, عدا المصطلحات الخاصة بكل نوع التي سيرد ذكرها في مناسباتها. وهي :ـ
1ـ (صورة القياس). ويقصد بها هيئة التأليف الواقع بين القضايا.
2ـ (المقدمة). وهي كل قضية تتألف منها صورة القياس. والمقدمات تسمى أيضاً (مواد القياس).
3ـ (المطلوب). وهو القول اللازم من القياس. ويسمى (مطلوباً) عند أخذ الذهن في تأليف المقدمات.
4ـ (النتيجة). وهي المطلوب عينه, ولكن يسمى بها بعد تحصيله من القياس.
5ـ (الحدود). وهي: الأجزاء الذاتية للمقدمة. ونعني بالأجزاء الذاتية الأجزاء التي تبقى بعد تحليل القضية فإذا فككنا وحللنا الحملية ـ مثلاً إلى أجزائها لا يبقى منها إلاّ الموضوع والمحمول, دون النسبة, لأن النسبة إنما تقوم بالطرفين للربط بينهما, فإذا أُفرد كل منهما عن الآخر فمعناه ذهاب النسبة بينهما. واما السور والجهة فهما من شؤون النسبة فلا بقاء لهما بعد ذهابها. وكذلك إذا حللنا الشرطية إلى أجزائها لا يبقى منها الا المقدم والتالي.
فالموضوع والمحمول او المقدم والتالي هي الأجزاء الذاتية للمقدمات. وهي (الحدود) فيها.
ولنوضح هذه المصطلحات بالمثال, فنقول:
1. شارب الخمر: فاسق.
2. وكل فاسق: ترد شهادته.
3. ... شارب الخمر: ترد شهادته.
فبواسطة نسبة كلمة (فاسق) إلى شارب الخمر في القضية رقم (1). ونسبة ردّ الشهادة إلى (كل فاسق) في القضية رقم (2) استنبطنا النسبة بين رد الشهادة والشارب في القضية رقم (3).
فكل واحدة من القضيتين (1) و(2) :مقدمة
وشارب الخمر, وفاسق, وترد شهادته :حدود
والقضية رقم (3) :مطلوب ونتيجة
والتأليف بين المقدمتين :صورة القياس
ولا يخفى أنّا استعملنا هذه العلامة ... النقط الثلاث, ووضعناها قبل النتيجة. وهي علامة هندسية تستعمل للدلالة على الانتقال إلى المطلوب وتقرأ (إذن). وسنستعملها عند استعمال الحروف فيما ياتي للاختصار وللتوضيح.
اقسام القياس
بحسب مادته وهيئته
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
قلنا إن المقدمات تسمى (مواد القياس), وهيئة التأليف بينها تسمى (صورة القياس), فالبحث عن القياس من نحوين:
1. من جهة (مادته), بسبب اختلافها مع قطع النظر عن الصورة, بأن تكون المقدمات يقينية او ظنية او من المسلّمات او المشهورات او الوهميات او المخيلات او غيرها مما سيأتي في بابه. ويسمى البحث فيها (الصناعات الخمس) الذي عقدنا لأجله الباب السادس الآتي, فإنه ينقسم القياس بالنظر إلى ذلك إلى:
البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة.
2. من جهة (صورته) بسبب اختلافها, مع قطع النظر عن شأن المادة. وهذا الباب معقود للبحث عنه من هذه الجهة. وهو ينقسم من هذه الجهة إلى قسمين اقتراني واستثنائي, باعتبار التصريح بالنتيجة او بنقيضها في مقدماته وعدمه.
(فالاول) وهو المصرح في مقدماته بالنتيجة او بنقيضها, يسمى (استثنائياً), لاشتماله على كلمة الاستثناء, نحو:
(1) ان كان محمد عالما, فواجب احترامه.
(2) لكنه عالم.
(3) ... فمحمد واجب احترامه.
فالنتيجة رقم (3) مذكورة بعينها في المقدمة رقم (1).
(1) لو كان فلان عادلا, فهو لا يعصي الله.
(2) ولكنه قد عصى الله.
(3) ... ما كان فلان عادلاً.
فالنتيجة رقم (3) مصرح بنقيضها في المقدمة رقم (1).
(والثاني) وهو غير المصرح في مقدماته بالنتيجة ولا بنقيضها, يسمى (اقترانياً), كالمثال المتقدم في اول البحث, فإن النتيجة وهي >شارب الخمر ترد شهادته< غير مذكورة بهيئتها صريحاً في المقدمتين ولا نقيضها مذكور, وإنما هي مذكورة بالقوة باعتبار وجود أجزائها الذاتية في المقدمتين, أعني الحدين, وهما (شارب الخمر, وترد شهادته)؛ فإن كل واحد منهما مذكور في مقدمة مستقلة.
٭٭٭
ثم الاقتراني قد يتألف من حمليات فقط, فيسمى (حملياً). وقد يتألف من شرطيات فقط, او شرطية وحملية, فيسمى (شرطياً) مثاله.
(1) كلما كان الماء جارياً, كان معتصماً.
(2) وكلما كان معتصماً, كان لا ينجس بملاقاة النجاسة.
(3) ... كلما كان الماء جارياً, كان لا ينجس بملاقاة النجاسة.
فمقدمتاه شرطيتان متصلتان.
مثال ثان: (1) الاسم كلمة.
(2) والكلمة إما مبنية او معربة.
(3) ... الاسم إما مبني او معرب.
فالمقدمة رقم (1) حملية, والمقدمة رقم (2) شرطية منفصلة.
ونحن نبحث أولاً عن الاقترانيات الحملية, ثم الشرطية, ثم الاستثنائي.
خلاصة التقسيم:
الحجة
قياس
تمثيل استقراء
اقتراني
الاقتران الحملي
حدوده:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
يجب ان يشتمل القياس الاقتراني على مقدمتين لينتجا المطلوب. ويجب أيضاً أن تشتمل المقدمتان على حدود ثلاثة: حد متكرر مشترك بينهما, وحد يختص بالاولى, وحد بالثانية. والحد المتكرر المشترك هو الذي يربط بين الحدين الآخرين, ويحذف في النتيجة التي تتألف من هذين الحدين إذ يكون أحدهما موضوعاً لها والآخر محمولاً, فهو كالشمعة تفني نفسها لتضيء لغيرها.
ولنعد إلى المثال المتقدم في المصطلحات العامة, لتطبيق الحدود عليه, فنقول:
أـ (فاسق): هو المتكرر المشترك الذي اعطى الربط بين:
ب ـ (شارب الخمر), وهو الحد المختص بالمقدمة الاولى, وبين:
ج ـ (ترد شهادته), وهو الحد المختص بالمقدمة الثانية.
تنتج المقدمتان: (شارب الخمر ترد شهادته), بحذف الحد المشترك وقد سموا كل واحد من الحدود الثلاثة باسم خاص().
أ. (الحد الاوسط) او (الوسط) وهو الحد المشترك, لتوسطه بين رفيقيه في نسبة أحدهما إلى الآخر. ويسمى أيضاً (الحجة) لأنه يحتج به على النسبة بين الحدين.
ويسمى أيضاً (الواسطة في الإثبات), لأن به يتوسط في إثبات الحكم بين الحدين. ونرمز له بحرف (م).
ب ـ (الحد الأصغر), وهو الحد الذي يكون موضوعاً في النتيجة. وتسمى المقدمة المشتملة عليه (صغرى), سواء كان هو موضوعاً فيها ام محمولاً. ونرمز له بحرف (ب).
ج ـ (الحد الأكبر), وهو الذي يكون محمولاً في النتيجة. وتسمى المقدمة المشتملة عليه (كبرى), سواء كان هو محمولاً فيها او موضوعاً. ونرمز له بحرف (حـ). والحدان معاً يسميان (طرفين).
فاذا قلنا:
كل ب م
كل م حـ
ينتج ... كل ب حـ بحذف المتكرر (م)
القواعد العامة للاقتراني:
للقياس الاقتراني ـ سواء كان حملياً أو شرطياً ـ قواعد عامة أساسية يجب توفرها فيه, ليكون منتجاً, وهي:
1 ـ تكرر الحد الاوسط.
أي يجب أن يكون مذكوراً بنفسه في الصغرى والكبرى من غير اختلاف, وإلاّ لما كان حداً أوسط متكرراً, ولمّا وجد الارتباط بين الطرفين. وهذا بديهي.
مثلاً إذا قيل: (الحائط فيه فارة. وكل فارة لها أُذنان).
فانه لا ينتج. (الحائط له أُذنان).
لأن الحد الذي يتخيل أنه حد اوسط هنا لم يتكرر, فإن المحمول في الصغرى (فيه فارة) والموضوع في الكبرى (فارة) فقط. ولأجل أن يكون منتجاً فإما أن نقول في الكبرى (وكل ما فيه فارة له أُذنان) ولكنها كاذبة. وأما أن نعتبر المتكرر كلمة (فارة) فقط, فتكون النتيجة هكذا (الحائط فيه ما له أُذنان), وهي صادقة.
مثال ثان ـ إذا قيل: (الذهب عين. وكل عين تدمع).
فإنه لا ينتج: (الذهب يدمع).
لآن لفظ (عين) مشترك لفظي, والمراد منه في الصغرى غير المراد منه في الكبرى, فلم يتكرر الحد الاوسط, ولم يتكرر إلا اللفظ فقط.
2. إيجاب إحدى المقدمتين:
فلا إنتاج من سالبتين, لأن الوسط في السالبتين لا يساعدنا على إيجاد الصلة والربط بين الأصغر والأكبر, نظراً إلى أن الشيء الواحد قد يكون مبايناً لأمرين وهما لا تباين بينهما, كالفرس المباين للإنسان والناطق, وقد يكون مبايناً لامرين هما متباينان في أنفسهما كالفرس المباين للإنسان والطائر, والإنسان والطائر أيضاً متباينان.
وعليه, فلا نعرف حال الحدين لمجرد مباينتهما للمتكرر انهما متلاقيان خارج الوسط ام متباينان, فلا ينتج الإيجاب ولا السلب. فاذا قلنا:
لا شيء من الإنسان بفرس لا شيء من الفرس بناطق.
فإنه لا ينتج السلب: (لا شيء من الإنسان بناطق), لأن الطرفين متلاقيان.
ولو أبدلنا بالمقدمة الثانية قولنا:
لا شيء من الفرس بطائر.
فإنه لا ينتج الإيجاب: (كل إنسان طائر), لأن الطرفين متباينان. ويجري هذا الكلام في كل سالبتين.
3. كلية احدى المقدمتين:
فلا إنتاج من مقدمتين جزئيتين, لأن الوسط فيهما لا يساعدنا أيضاً على إيجاد الصلة بين الأصغر والأكبر, لأن الجزئية لا تدل على أكثر من تلاقي طرفيها في الجملة, فلا يعلم في الجزئيتين أن البعض من الوسط الذي يتلاقى به مع الأصغر هو نفس البعض الذي يتلاقى به مع الأكبر, ام غيره. وكلاهما جائز. ومعنى ذلك أّنا لا نعرف حال الطرفين الأصغر والأكبر امتلاقيان ام متباينان, فلا ينتج الإيجاب ولا السلب, كما نقول مثلا:
أولاًـ بعض الإنسان حيوان. وبعض الحيوان فرس.
فإنه لا ينتج الإيجاب: (بعض الإنسان فرس). وإذا أبدلنا بالمقدمة الثانية قولنا: بعض الحيوان ناطق.
فإنه لا ينتج السلب: (بعض الإنسان ليس بناطق).
ثانياً: بعض الإنسان حيوان وبعض الحيوان ليس بناطق.
فإنه لا ينتج السلب: (بعض الإنسان ليس بناطق). وإذا أبدلنا بالمقدمة الثانية قولنا: بعض الحيوان ليس بفرس.
فإنه لا ينتج الإيجاب: (بعض الإنسان فرس). وهكذا يجري هذا الكلام في كل جزئيتين مهما كان موضع الوسط في المقدمتين موضوعاً أو محمولاً أو مختلفاً.
4ـ النتيجة تتبع أخس المقدمتين:
يعني إذا كانت إحدى المقدميتن سالبة كانت النتيجة سالبة لأن السلب أخس من الإيجاب. وإذا كانت جزئية كانت النتيجة جزئية لأن الجزئية أخس من الكلية.
وهذا الشرط واضح لأن النتيجة متفرعة عن المقدمتين معاً فلا يمكن أن تزيد عليهما فتكون أقوى منهما.
5ـ لا إنتاج من سالبة صغرى وجزئية كبرى:
ولا بد أن تفرض الصغرى كلية وإلاّ لاختل الشرط الثالث. ولا بد أن تفرض الكبرى موجبة وإلاّ لاختل الشرط الثاني.
فإذا تألف القياس من سالبة كلية صغرى وجزئية موجبة كبرى, فإنه لا يعلم أن الأصغر والأكبر متلاقيان او متباينان خارج الوسط, لأن السالبة الكلية تدل على تباين طرفيها أي الأصغر مع الاوسط هنا. والجزئية الموجبة تدل على تلاقي طرفيها في الجملة أي الاوسط والأكبر هنا, فيجوز أن يكون الأكبر خارج الاوسط مبايناً للأصغر كما كان الاوسط مبايناً له ويجوز أن يكون ملاقياً له فمثلاً إذا قلنا:
لا شيء من الغراب بإنسان, وبعض الإنسان أسود
فإنه لا ينتج السلب: (بعض الغراب ليس بأسود) ولو أبدلنا بالمقدمة الثانية قولنا: بعض الإنسان ابيض فانه لا ينتج الإيجاب: (بعض الغراب ابيض).
وأنت هنا في المثال بالخيار في وضع الاوسط موضوعا في المقدمتين او محمولا او مختلفا, فان الامر لا يختلف والعقم تجده كما هو في الجميع.
الأشكال الأربعة
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
قلنا: إن القياس الاقتراني لا بد له من ثلاثة حدود: أوسط وأصغر وأكبر. ونضيف عليه هنا, فنقول:
إن وضع الاوسط مع طرفيه في المقدمتين يختلف, ففي الحملي قد يكون موضوعاً فيهما او محمولاً فيهما, او موضوعاً في الصغرى ومحمولاً في الكبرى, او بالعكس.
فهذه أربع صور. وكل واحدة من هذه الصور تسمى (شكلاً). وكذا في الشرطي يكون تالياً ومقدماً.
فالشكل في اصطلاحهم ـ على هذا ـ هو >القياس الاقتراني باعتبار كيفية وضع الاوسط من الطرفين<. ولنتكلم عن كل واحد من الأشكال الأربعة في الحملي, ثم نتبعه بالاقتراني الشرطي.
الشكل الاول
وهو ما كان الاوسط فيه محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى. أي يكون وضع الحدين في المقدمتين مع الاوسط عين وضع أحدهما مع الآخر في النتيجة: فكما يكون الأصغر موضوعاً في النتيجة يكون موضوعاً في الصغرى, وكما يكون الأكبر محمولاً في النتيجة يكون محمولاً في الكبرى.
ولهذا التفسير فائدة نريد أن نتوصل إليها. فإنه لأجل أن الأصغر وضعه في النتيجة عين وضعه في الصغرى, وأن الأكبر وضعه في النتيجة عين وضعه في الكبرى, كان هذا الشكل على مقتضى الطبع, وبيّن الإنتاج بنفسه لا يحتاج إلى دليل وحجة, بخلاف البواقي ولذا جعلوه اول الأشكال. وبه يستدل على باقيها.
شروطه:
لهذا الشكل شرطان:
1. (إيجاب الصغرى), إذ لو كانت سالبة, فلا يعلم أن الحكم الواقع على الأوسط في الكبرىأ يلاقي الأصغر في خارج الأوسط ام لا, فيتحمل الأمران, فلا ينتج الإيجاب ولا السلب كما نقول مثلاً:
لا شيء من الحجر بنبات وكل نبات نامٍ
فانه لا ينتج الإيجاب: (كل حجر نام). ولو أبدلنا بالصغرى قولنا (لا شيء من الإنسان بنبات).
فإنه لا ينتج السلب: (لا شيء من الإنسان بنام). اما إذا كانت الصغرى موجبة فإن ما يقع على الأوسط في الكبرى لا بد أن يقع على ما يقع عليه الاوسط في الصغرى.
2. (كلية الكبرى), لأنه لو كانت جزئية لجاز أن يكون البعض من الأوسط المحكوم عليه بالأكبر غير ما حكم به على الأصغر, فلا يتعدى الحكم من الأكبر إلى الأصغر بتوسط الأوسط. وفي الحقيقة إن هذا الشرط راجع إلى (القاعدة الاولى), لأن الاوسط في الواقع على هذا الفرض غير متكرر؛ كما نقول مثلا:
كل ماء سائل وبعض السائل يلتهب بالنار
فإنه لا ينتج (بعض الماء يلتهب بالنار), لأن المقصود بالسائل الذي حكم به على الماء خصوص الحصة منه التي تلتقي مع الماء, وهي غير الحصة من السائل الذي يلتهب بالنار, وهو النفط مثلاً. فلم يتكرر الاوسط في المعنى, وإن تكرر لفظاً.
هذه شروطه من ناحية الكم والكيف, اما من ناحية الجهة فقد قيل إنه يشترط فيه (فعلية الصغرى). ولكنا أخذنا على أنفسنا ألاّ نبحث عن الموجهات, لأن أبحاثها المطولة تضيع علينا كثيراً مما تجب أن نعلمه. وليس فيها كبير فائدة لنا.
ضروبه:
كل مقدمة من القياس في حد نفسها يجوز أن تكون واحدة من المحصورات الأربع, فإذا اقترنت الصور الأربع في الصغرى مع الأربع في الكبرى. خرجت عندنا ست عشرة صورة للاقتران تحدث من ضرب أربعة في أربعة. وذلك في جميع الأشكال الأربعة.
والصورة من تأليف المقدمتين تسمى بثلاثة أسماء: (ضرب) و(اقتران) و(قرينة).
وهذه الاقترانات او الضروب الستة عشر بعضها منتج, فيسمى (قياساً). وبعضها غير منتج, فيسمى (عقيماً). وبحسب الشرطين في الكم والكيف لهذا الشكل الاول تكون الضروب المنتجة أربعة فقط. اما البواقي فكلها عقيمة, لأن الشرط الاول تسقط به ثمانية ضروب, وهي حاصل ضرب السالبتين من الصغرى في الأربع من الكبرى, والشرط الثاني تسقط به أربعة حاصل ضرب الجزئيتين من الكبرى في الموجبتين من الصغرى, فالباقي أربعة فقط.
وكل هذه الأربعة بيّنة الإنتاج, ينتج كل واحد منها واحدة من المحصورات الأربع, فالمحصورات كلها تستخرج من أضرب هذا الشكل. ولذا سمي (كاملاً) و(فاضلاً). وقد رتبوا ضروبه على حسب ترتب المحصورات في نتائجه: فالاول ما ينتج الموجبة الكلية, ثم ما ينتج السالبة الكلية, ثم ما ينتج الموجبة الجزئية, ثم ما ينتج السالبة الجزئية.
(الاول) من موجبتين كليتين, ينتج موجبة كلية.
كل ب م
وكل م حـ مثاله
... كل ب حـ
(الثاني) من موجبة كلية وسالبة كلية, ينتج سالبة كلية.
كل ب م
و لا م حـ مثاله
... لا ب حـ
(الثالث) من موجبة جزئية وموجبة كلية, ينتج موجبة جزئية.
ع ب م
وكل م حـ مثاله
... ع ب حـ
(الرابع) من موجبة جزئية وسالبة كلية, ينتج سالبة جزئية.
ع ب م
و لا م حـ مثاله
... س ب حـ
الشكل الثاني
وهو ما كان الوسط فيه محمولاً في المقدمتين معاً, فيكون الأصغر فيه موضوعاً في الصغرى والنتيجة, ولكن الأكبر يختلف وضعه فإنه موضوع في الكبرى محمول في النتيجة. ومن هنا كان هذا الشكل بعيداً عن مقتضى الطبع, غير بيّن الإنتاج يحتاج إلى الدليل على قياسيته. ولأجل أن الأصغر فيه متحد الوضع في النتيجة والصغرى موضوعاً فيهما كالشكل الاول؛ كان أقرب إلى مقتضى الطبع من باقي الأشكال الأخرى, لأن الموضوع أقرب إلى الذهن.
شروطه:
للشكل الثاني شرطان أيضاً: اختلاف المقدمتين في الكيف وكلية الكبرى.
(الاول) الاختلاف في الكيف, فإذا كانت إحداهما موجبة كانت الأخرى سالبة, لأن هذا الشكل لا ينتج مع الاتفاق في الكيف, لأن الطرفين الأصغر والأكبر قد يكونان متباينين, ومع ذلك يشتركان في أن يحمل عليهما شيء واحد او يشتركان في أن يسلب عنهما شيء آخر, ثم قد يكونان متلاقيين ويشتركان أيضاً في أن يحمل عليهما او يسلب عنهما شيء واحد فلا ينتج الإيجاب ولا السلب.
مثال ذلك:
الأنسان والفرس متباينان ويشتركان في حمل الحيوان عليهما وسلب الحجر عنهما, فنقول:
أ. كل إنسان حيوان. وكل فرس حيوان
ب. لا شيء من الإنسان بحجر ولا شيء من الفرس بحجر
والحق في النتيجة فيهما السلب. ثم الإنسان والناطق أيضاً يشتركان في حمل الحيوان عليهما وسلب الحجر عنهما, فتبدل في المثالين بالفرس الناطق, فيكون الحق في النتيجة فيهما الإيجاب.
اما إذا اختلف الحكمان في الصغرى والكبرى على وجه لا يصح جمعهما على شيء واحد, وجب أن يكون المحكوم عليه في إحداهما غير المحكوم عليه في الأخرى. فيتباين الطرفان الأصغر والأكبر, وتكون النسبة بينهما نسبة السلب, فلذا تكون النتيجة في الشكل الثاني سالبة دائماً, تتبع أخس المقدمتين.
(الشرط الثاني) كلية الكبرى, لأنه لو كانت جزئية مع الاختلاف في الكيف لم يعلم حال الأصغر والأكبر متلاقيان ام متنافيان, لأن الكبرى الجزئية مع الصغرى الكلية إذا اختلفتا في الكيف لا تدلان إلا على المنافاة بين الأصغر وبعض الأكبر المذكور في الكبرى. ولا تدلان على المنافاة بين الأصغر والبعض الآخر من الأكبر الذي لم يذكر, كما لا تدلان على الملاقاة, فيحصل الاختلاف.
مثال ذلك:
كل مجتر ذو ظلف وبعض الحيوان ليس بذي ظلف
فإنه لا ينتج السلب: (بعض المجتر ليس بحيوان). ولو أبدلنا بالأكبر كلمة طائر, فإنه لا ينتج الإيجاب: (بعض المجتر طائر).
ضروبه:
بحسب الشرطين المذكورين في هذا الشكل تكون الضروب المنتجة منه أربعة فقط, لأن الشرط الاول تسقط به ثمانية, حاصل ضرب السالبتين من الصغرى في السالبتين من الكبرى فهذه أربعة, وحاصل ضرب الموجتين في الموجبتين, فهذه أربعة أخرى. والشرط الثاني تسقط به أربعة وهي السالبتان في الصغرى مع الموجبة الجزئية في الكبرى, والموجبتان في الصغرى مع السالبة الجزئية في الكبرى.
فالباقي أربعة ضروب منتجة, كلها يبرهن عليها بتوسط الشكل الاول كما سترى:
(الضرب الاول) من موجبة كلية وسالبة كلية, ينتج سالبة كلية
مثاله:
كل مجتر ذو ظلف
ولا شيء من الطائر بذي ظلف
... لا شيء من المجتر بطائر
ويبرهن عليه بعكس الكبرى بالعكس المستوي, ثم ضم العكس إلى نفس الصغرى, فيتألف من الضرب الثاني من الشكل الاول, وينتج نفس النتيجة المطلوبة, فيقال باستعمال الرموز:
المفروض ـ كل ب م و لا حـ م
المدعى أنه ينتج ـ ... لا ب حـ
(البرهان): نعكس الكبرى بالعكس المستوي إلى (لا م ج) ونضمها إلى الصغرى فيحدث:
كل ب م. و لا م ج (الضرب الثاني من الشكل الاول)
ينتج ... لا ب ج (وهو المطلوب)
(الثاني) من سالبة كلية وموجبة كلية ينتج سالبة كلية
مثاله:
لا شيء من الممكنات بدائم
وكل حق دائم
... لا شيء من الممكنات بحق
يبرهن عليه بعكس الصغرى, ثم يجعلها كبرى وكبرى الأصل صغرى لها, ثم بعكس النتيجة, فيقال:
المفروض لا ب م. كل جـ م
المدعى ... لا ب ج
البرهان:
إذا صدقت لا ب م
صدقت لا م ب (العكس المستوي)
فنضم هذا العكس إلى كبرى الأصل بجعله كبرى لها فيكون:
كل جـ م و لا م ب (الضرب الثاني من الاول)
... لا ج ب
وتنعكس إلى لا ب جـ (وهو المطلوب)
(الثالث) من موجبة جزئية وسالبة كلية, ينتج سالبة جزئية.
مثاله: ـ بعض المعدن ذهب
ولا شيء من الفضة بذهب
... بعض المعدن ليس بفضة
ويبرهن عليه بما برهن به على الضرب الاول, فيقال:
المفروض ع ب م و لا جـ م
المدعى ... س ب ج
البرهان: إذا صدقت لا جـ م (الكبرى)
صدقت لا م جـ (العكس المستوي)
وبضمه إلى الصغرى يحدث:
ع ب م و لا م حـ (الضرب الرابع من الاول)
... س ب جـ (وهو المطلوب)
(الرابع) من سالبة جزئية وموجبة كلية, ينتج سالبة جزئية.
مثاله: بعض الجسم ليس بمعدن
وكل ذهب معدن
... بعض الجسم ليس بذهب
ولا يبرهن عليه (بطريقة العكس)() التي ذكرناها في الضروب الثلاثة, لأن الصغرى سالبة جزئية لا تنعكس. وعكس الكبرى جزئية, لا يلتئم منها ومن الصغرى قياس, لأنه لا قياس من جزئيتين. فنفزع حينئذ للبرهان عليه إلى طريقة أخرى تسمى (طريقة الخلف), فيقال:
المفروض س ب م. وكل جـ م
المدعى ... س ب جـ
البرهان:
لو لم تصدق س ب ج
لصدق نقيضها كل ب ج (النتيجة)
فنجعل هذا النقيض صغرى لكبرى الأصل, فيتألف قياس من الضرب الاول من الشكل الاول:
كل ب ج . وكل ج م
... كل ب م
فيكذب نقيض هذه النتيجة س ب م
وهو عين الصغرى المفروض صدقها
وهذا خلاف الفرض
فوجب صدق س ب ج (وهو المطلوب)
تمرين
برهن على كل واحد من الضروب الثلاثة الاولى بطريقة الخلف التي برهّنا بها على الضرب الرابع.
الشكل الثالث
وهو ما كان الاوسط فيه موضوعا في المقدمتين معا, فيكون الأكبر محمولا في الكبرى والنتيجة معا, ولكن الأصغر يختلف وضعه فانه محمول في الصغرى موضوع في النتيجة. ومن هنا كان هذا الشكل بعيدا عن مقتضى الطبع, وابعد من الشكل الثاني. لان الاختلاف كان في موضوع النتيجة الذي هو اقرب إلى الذهن. وكان الاختلاف في الثاني في محمولها. ولأجل ان الأكبر فيه متحد الوضع في الكبرى والنتيجة كالشكل الاول كان اقرب من الرابع.
شروطه:
لهذا الشكل شرطان أيضاً: إيجاب الصغرى, وكلية أحدى المقدمتين.
أما (الاول) فلانه لو كانت الصغرى سالبة. فلا نعلم حال الأكبر المحمول على الاوسط بالسلب او الإيجاب, ايلاقي الأصغر الخارج عن الوسط او يفارقه.
لانه لو كانت الكبرى موجبة فان الاوسط يباين الأصغر ويلاقي الأكبر. وشيء واحد قد يلاقي ويباين شيئين متلاقيين او شيئين متباينين, كالناطق يلاقي الحيوان ويباين الفرس وهما متلاقيان ويلاقي الحيوان ويباين الشجر وهما متباينان.
ولو كانت الكبرى سالبة أيضاً, فان الاوسط يباين الأصغر والأكبر معا. والشيء الواحد قد يباين شيئين متلاقيين وقد يباين شيئين متباينين, كالذهب المباين للفرس والحيوان وهما متلاقيان ويباين الشجر والحيوان وهما متباينان. فإذا قيل:
أ. لا شيء من الناطق بفرس وكل ناطق حيوان
فانه لا ينتج السلب. ولو وضعنا مكان فرس (شجر) فانه لا ينتج الإيجاب.
ب.لا شيء من الذهب بفرس لاشيء من الذهب بحيوان
فانه لا ينتج السلب. ولو وضعنا مكان فرس (شجر) فانه لا ينتج الإيجاب.
واما (الثاني) وهو كلية إحدى المقدمتين, فلأنه قد تقدم في القاعدة الثالثة من القواعد العامة للقياس انه لا ينتج من جزئيتين. وليس هنا ما يقتضي اعتبار كلية خصوص إحدى المقدمتين.
ضروبه:
بحسب الشرطين المذكورين تكون الضروب المنتجة من هذا الشكل ستة فقط. لان الشرط الاول تسقط به ثمانية ضروب كالشكل الأول. والشرط الثاني يسقط به ضربان: الجزئيتان الموجبتان, والجزئية الموجبة مع الجزئية السالبة, فالباقي ستة يحتاج كل منها إلى برهان. ونتائجها جميعا جزئية. (الضرب الأول) من موجبتين كليتين, ينتج موجبة جزئية.
مثاله: كل ذهب معدن
وكل ذهب غالي الثمن
بعض المعدن غالي الثمن
ويبرهن عليه بعكس الصغرى, ثم ضمها إلى كبرى الأصل, فيكون من ثالث الشكل الاول, لينتج المطلوب.
المفروض كل م ب وكل م حـ
المدعى ع ب حـ
البرهان:
إذا صدقت كل م ب
صدقت ع ب م (العكس المستوي)
فنضم العكس إلى كبرى الأصل ليكون
ع ب م وكل م حـ (ثالث الاول)
ع ب حـ (المطلوب)
ولا ينتج كلية لجواز أن يكون ب اعم من حـ ولو من وجه, كالمثال.
(الثاني) من كليتين والكبرى سالبة, ينتج سالبة جزئية.
مثاله:
كل ذهب معدن
ولا شيء من الذهب بفضة
... بعض المعدن ليس بفضة
ويبرهن عليه بعكس الصغرى كالاول, فنقول:
المفروض كل م ب و لا م حـ
المدعى ... س ب حـ
البرهان: نعكس الصغرى فتكون (ع ب م) فنضمها إلى الكبرى فيحدث:
ع ب م و لا م حـ (رابع الاول)
.... س ب حـ (المطلوب)
(الثالث) من موجبتين والصغرى جزئية, ينتج موجبة جزئية.
مثاله:
بعض الطائر ابيض
وكل طائر حيوان
... بعض الأبيض حيوان
البرهان: بعكس الصغرى كالاول, فنقول:
المفروض ع م ب وكل م حـ
المدعى... ع ب حـ
البرهان: نعكس الصغرى إلى (ع ب م), ونضمها إلى الكبرى فيحدث:
ع ب م وكل م حـ (ثالث الاول)
ع ب حـ (المطلوب)
(الرابع) من موجبتين والكبرى جزئية ينتج موجبة جزئية
مثاله:
كل طائر حيوان
بعض الطائر ابيض
بعض الحيوان ابيض
ويبرهن عليه بعكس الكبرى, ثم جعلها صغرى وصغرى الأصل كبرى لها, ثم بعكس النتيجة, فنقول:
المفروض كل م ب وع م حـ
المدعى... ع ب حـ
البرهان: نعكس الكبرى إلى (ع حـ م) ونجعلها صغرى لصغرى الأصل فيحدث:
ع حـ م كل م ب (ثالث الاول)
ع حـ ب
وينعكس بالعكس المستوي إلى ع ب حـ (المطلوب)
(الخامس) من موجبة كلية وسالبة جزئية, ينتج سالبة جزئية
مثاله:
كل حيوان حساس
وبعض الحيوان ليس بانسان
... بعض الحساس ليس بانسان
ولا يبرهن عليه بطريق العكس, لان السالبة الجزئية لا تنعكس؛ والموجبة الكلية تنعكس إلى جزئية ولا قياس بين جزئيتين. فلذلك يبرهن عليه بالخلف؛
فنقول:
المفروض كل م ب و س م حـ
المدعى س ب حـ
البرهان: لو لم تصدق س ب حـ
لصدق نقيضها كل ب حـ
نجعله كبرى لصغرى الأصل فيحدث:
كل م ب وكل ب حـ (الاول من الاول)
كل م حـ
س م حـ وهو عين الكبرى الصادقة
فيكذب نقيضها
(هذا خلف) فيجب ان يصدق س ب حـ (المطلوب)
(السادس) من موجبة جزئية وسالبة كلية, ينتج سالبة جزئية
مثاله:
بعض الذهب معدن
ولا شيء من الذهب بحديد
... بعض المعدن ليس بحديد
ويبرهن عليه بعكس الصغرى, ثم ضمه إلى كبرى الأصل ليكون من رابع الشكل الاول, لينتج المطلوب.
المفروض ع م ب و لا م حـ
المدعى ... س ب حـ
البرهان: نعكس الصغرى إلى (ع ب م), فنضمه إلى الكبرى ليحدث:
ع ب م و لا م حـ (رابع الاول)
... س ب حـ (المطلوب)
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تنبيهات
طريقة الخلف:
1. أن كلا من ضروب الشكل الثالث يمكن إقامة البرهان عليه بطريقة الخلف. كضروب الثاني.
و (الخلف): استدلال غير مباشر يبرهن به على كذب نقيض المطلوب. ليستدل به على صدق المطلوب. وهو في الأشكال خاصة يؤخذ نقيض النتيجة المطلوب إثباتها. فيقال لو لم تصدق لصدق نقيضها. وإذ فرض صدق النقيض يضم إلى إحدى المقدمتين المفروض صدقها. ليتألف من النقيض وهذه المقدمة ضرب من ضروب الشكل الاول. فينتج ما يناقض المقدمة الأخرى الصادقة بالفرض. هذا خلف. فلا بد أن تكذب هذه النتيجة. وكذبها لا بد أن ينشا من كذب نقيض المطلوب. فيثبت صدق المطلوب. وقد تقدمت امثلته.
وعلى الطالب أن يجري استعماله في جميع الضروب شحذا لذهنه. وليلاحظ أية مقدمة يجب أن يختارها من القياس المفروض. ليلتئم من النقيض ومن المقدمة الضرب المنتج.
دليل الافتراض:
2. وقد يستدل بدليل (الافتراض) على إنتاج بعض الضروب الذي تكون إحدى مقدمتيه جزئية من هذا الشكل او من الثاني. ولا بأس بشرحه تنويراً لأفكار الطلاب. وان كانوا في غنى عنه بدليل العكس والخلف. وله مراحل ثلاث:
الاولى ـ (الفرض), وهو أن نفرض اسماً خاصاً للبعض الذي هو مورد الحكم في القضية الجزئية, فنفرضه حرف (د). لأن في قولنا مثلاً: (بعض الحيوان ليس بإنسان) لا بد أن يقصد في البعض شيء معين يصح سلب الإنسان عنه. مثل فرس وقرد وطائر ونحوها. فنصطلح على هذا الشيء المعين ونسميه (د), ففي مثل القضية: (بعض م ب) يكون (د) عبارة أخرى عن قولنا (بعض م).
الثانية ـ (استخراج قضيتين صادقتين بعد الفرض), فانه بعد الفرض المذكور نستطيع ان نحصل على قضيتين صادقتين قطعا:
1. قضية موجبة كلية, موضوعها الاسم المفروض (د) ومحمولها موضوع القضية الجزئية, ففي المثال المتقدم تكون (كل د م) صادقة, لان (د) بعض م حسب الفرض, والاعم يحمل على جميع افراد الاخص قطعا.
2. قضية كلية: موجبة او سالبة تبعا لكيف الجزئية, موضوعها الاسم المفروض (د), ومحمولها محمول الجزئية, ففي المثال تكون (كل د ب) صادقة, لان (د) هو البعض الذي هو كله (ب). واذا كانت الجزئية سالبة مثل (س م ب) تكون (لا د ب) صادقة, لان (د) هو البعض المسلوب عنه (ب).
الثالثة ـ (تأليف الاقترانات المنتجة للمطلوب), لانا بعد استخراج تلك القضيتين تزيد ثروة معلوماتنا, فنستعملها في تاليف اقترانات نافعة منهما ومن المقدمتين للقياس المفروض صدقهما, لاستخراج النتيجة المطلوب اثبات صدقها.
ولنجرب هذا الدليل بعد ان فهمنا مراحله, في الاستدلال على الضرب الخامس من الشكل الثالث, فنقول:
المفروض كل م ب و س م حـ (الخامس من الثالث)
المدعى ... س ب حـ
البرهان: بالافتراض
نفرض بعض م (في السالبة الجزئية س م حـ) الذي هو ليس حـ , انه (د), فنستخرج القضيتين الصادقتين:
1. كل د م
2. لا د حـ
ثم ناخذ القضية رقم (1). ونجعلها صغرى لصغرى الاصل, فيحدث:
كل د م و كل م ب (اول الشكل الاول)
... كل د ب
ثم هذه النتيجة نجعلها صغرى للقضية رقم (2), فيحدث:
كل د ب و لا د حـ (ثاني الشكل الثالث)
... س ب حـ (وهو المطلوب)
ولنجربه ـ ثانيا ـ في الاستدلال على الضرب الرابع من الشكل الثاني, فنقول: ـ
المفروض س ب م و كل حـ م
المدعى ... س ب حـ
البرهان: بالافتراض.
نفرض (بعض ب) الذي هو ليس م انه (د) وذلك في السالبة الجزئية (س ب م), فنستخرج القضيتين الصادقتين:
(1) كل د ب
(2) لا د م
ثم ناخذ القضية رقم (2) ونجعلها صغرى لكبرى الاصل, فيحدث:
لا د م و كل حـ م (ثاني الشكل الثاني)
... لا د حـ
ثم نعكس القضية رقم (1) الى: ع ب د
ونضم هذا العكس الى النتيجة الاخيرة ونجعله صغرى فيحدث:
ع ب د و لا د حـ (رابع الشكل الاول)
... س ب حـ (وهو المطلوب)
فرايت انا استعملنا ـ في الاثناء ـ العكس المستوي للقضية رقم (1), لانه لولاه لما استطعنا ان نؤلف قياسا الا من الشكل الثالث الذي هو متاخر عن الثاني. وكذلك نستعمل هذا العكس في دليل الافتراض على الضرب الثالث من الثاني.
وعلى الطالب ان يستعمل دليل الافتراض في غير ما ذكرنا من الضروب التي تكون احدى مقدماتها جزئية, لزيادة التمرين.
الرد:
3ـ ومن البراهين على انتاج الاشكال الثلاثة عدا الاول (الرد), وهو تحويل الشكل الى الشكل الاول: اما بتبديل المقدمتين في الشكل الرابع, واما بتحويل احدى المقدمتين الى عكسها المستوي, ففي الشكل الثاني تعكس الكبرى في بعض ضروبه القابلة للعكس, وفي الثالث تعكس الصغرى في بعض ضروبه القابلة للعكس, كما سبق.. وفي بعض ضروبهما قد نحتاج الى استعمال نقض المحمول او عكس النقيض اذا لم نتمكن من العكس المستوي, حتى نتوصل الى الشكل الاول المنتج نفس النتيجة المطلوبة.
وعلى الطالب ان يطبق ذلك بدقة على جميع ضروب الشكلين لغرض التمرين.
الشكل الرابع
وهو ما كان الاوسط فيه موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى عكس الاول, فيكون وضع الاصغر والاكبر في النتيجة يخالف وضعهما في المقدمتين. ومن هنا كان هذا الشكل ابعد الجميع عن مقتضى الطبع غامض الانتاج عن الذهن.
ولذا تركه جماعة من علماء المنطق في مؤلفاتهم واكتفوا بالثلاثة الاولى.
شروطه:
يشترط في إنتاج هذا الشكل الشروط الثلاثة العامة في كل شكل التي تقدم ذكرها في القواعد العامة.
وهي: ألا يتألف من سالبتين, ولا من جزئيتين, ولا من سالبة صغرى وجزئية كبرى. ويشترط أيضا فيه شرطان خاصان به:
1. ألا تكون إحدى مقدماته سالبة جزئية.
2. كلية الصغرى إذا كانت المقدمتان موجبتين, فلو ان الصغرى كانت موجبة جزئية, لما جاز أن تكون الكبرى موجبة, بل يجب ان تكون سالبة كلية.
ضروبه:
بحسب الشروط الخمسة تكون الضروب المنتجة منه خمسة فقط: لانه بالشرط الاول تسقط اربعة حاصل ضرب السالبتين في السالبتين. وبالثاني تسقط ثلاثة: الجزئيتان سواء كانتا موجبتين او مختلفتين بالايجاب والسلب. وبالثالث يسقط واحد: السالبة الكلية مع الموجبة الجزئية. وبالرابع ضربان: السالبة الجزئية صغرى او كبرى مع الموجبة الكلية. وبالخامس ضرب واحد: الموجبة الجزئية الصغرى مع الموجبة الكلية الكبرى.
فالباقي خمسة ضروب نقيم عليها البرهان:
(الضرب الاول) ـ من موجبتين كليتين, ينتج موجبة جزئية
مثاله:
كل إنسان حيوان
وكل ناطق إنسان
... بعض الحيوان ناطق
ويبرهن عليه بالرد, بتبديل المقدمتين احداهما في مكان الأخرى, فيرتد إلى الشكل الاول, ثم نعكس النتيجة ليحصل المطلوب, فيقال.
المفروض كل م ب و كل حـ م
... ... ع ب حـ
البرهان: بالرد بتبديل المقدمتين فيحدث:
كل حـ م كل م ب (الاول من الاول)
... كل حـ ب
وينعكس إلى ع ب حـ (وهو المطلوب)
وإنما لا ينتج هذا الضرب كلية لجواز ان يكون الأصغر اعم من الأكبر, كالمثال.
(الثاني) ـ من موجبة كلية وموجبة جزئية, ينتج موجبة جزئية
مثاله: كل انسان حيوان
وبعض الولود انسان
... بعض الحيوان ولود
ويبرهن عليه بالرد بتبديل المقدمتين ثم بعكس النتيجة, ولا ينتج كليا لجواز عموم الاصغر.
(الثالث) ـ من سالبة كلية وموجبة كلية, ينتج سالبة كلية
مثاله:
لا شيء من الممكن بدائم
وكل محل للحوادث ممكن
... لا شيء من الدائم بمحل للحوادث.
ويبرهن عليه ايضا بالرد بتبديل المقدمتين, ثم بعكس النتيجة.
(الرابع) من موجبة كلية وسالبة كلية, ينتج سالبة جزئية
مثاله:
كل سائل يتبخر
ولا شيء من الحديد بسائل
... بعض ما يتبخر ليس بحديد
ولا يمكن البرهان عليه بالرد بتبديل المقدمتين, لان الشكل الاول لا ينتج من صغرى سالبة. ولكن يبرهن بعكس المقدمتين, وتاليف قياس الشكل الاول من العكسين. لينتج المطلوب, فيقال:
المفروض كل م ب و لا حـ م
المدعى ... س ب حـ
البرهان: نعكس المقدمتين الى:
ع ب م لا م حـ (رابع الاول)
... س ب حـ (وهو المطلوب)
الخامس ـ من موجبة جزئية وسالبة كلية. ينتج سالبة جزئية
مثاله:
بعض السائل يتبخر
لا شيء من الحديد بسائل
... بعض ما يتبخر ليس بحديد
وهذا ايضا لا يبرهن عليه بتبديل المقدمتين, لعين السبب, ويمكن ان يبرهن عليه بعكس المقدمتين كالسابق, بلا فرق.
تمرينات
1. برهن على الضرب الثاني ثم الخامس من الشكل الرابع بدليل الافتراض.
2. برهن على الضرب الثالث ثم الرابع من الشكل الرابع بدليل الخلف.
3. برهن على الضرب الرابع من الشكل الثاني بطريقة (الرد), ولكن باخذ منقوضة محمول كل من المقدمتين ثم اخذ العكس المستوي لمنقوضة الكبرى, لينتج المطلوب.
4. برهن على الضرب الخامس من الشكل الثالث بطريقة (الرد). ولكن باخذ منقوضة محمول كل من المقدمتين ثم اخذ العكس المستوي لمنقوضة الكبرى لتاليف قياس من الشكل الاول, ثم عكس نتيجة هذا القياس لعكس النقيض الموافق, ليحصل المطلوب.
5. برهن على الضرب الاول ثم الثاني من الشكل الثاني بطريقة (الرد) ولكن باخذ منقوضة محمول كل من المقدمتين: وعليك الباقي من البرهان فانك ستحتاج الى استخدام العكس المستوي في كل من الضربين لتصل الى المطلوب, ويتبع ذلك حسن التفاتك ومهارتك في موقع استعماله.
6. جرب ان تبرهن على الضرب الثالث من الشكل الثاني بطريقة الرد باخذ منقوضة المحمول لكل من المقدمتين. واذا لم تتمكن من الوصول الى النتيجة فبين السر في ذلك.
7. برهن على ضربين من ضروب الثالث بطريقة الخلف واختر منها ما شئت.
(يحسن بالطالب ان يضع بين يديه امثلة واقعية للضروب التي يبرهن عليها في جميع هذه التمرينات, ليتضح له الامر بالمثال اكثر).
الاقتران الشرطي
تعريفه وحدوده:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تقدم معنى القياس الاقتراني الحملي وحدوده. ولا يختلف عنه الاقتراني الشرطي الا من جهة اشتماله على القضية الشرطية: اما بكلا مقدمتيه او مقدمة واحدة, فلذلك تكون حدوده نفس حدود الحملي من جهة اشتماله على الاوسط والاصغر والاكبر, غاية الامر ان الحد قد يكون المقدم او التالي من الشرطية, كما انه قد يكون الاوسط خاصة جزأ من المقدم او التالي, وسيجئ.
فإذن يصح ان نعرفه بانه: (الاقتراني الذي كان بعض مقدماته او كلها من القضايا الشرطية).
اقسامه:
للاقتراني الشرطي تقسيمات:
1. (تقسيمه من جهة مقدماته): فقد يتألف من متصلتين, او منفصلتين, او مختلفتين بالاتصال والانفصال, او من حملية ومتصلة, او من حملية ومنفصلة. فهذه أقسام خمسة.
2. (تقسيمه باعتبار الحد الاوسط جزءا تاما او غير تام): فانه لما كانت الشرطية مؤلفة تأليفاً ثانياً, أي أنها مؤلفة من قضيتين بالأصل, وكل منهما مؤلفة من طرفين. فلاشتراك بين قضيتين شرطيتين تارة في جزء تام أي في جميع المقدم او التالي في كل منهما, وأخرى في جزء غير تام أي في بعض المقدم او التالي في كل منهما. وثالثة في جزء تام من مقدمة وجزء غير تام من اخرى. فهذه ثلاثة اقسام:
(الاول) ـ ما اشتركت فيه المقدمتان في جزء تام منهما, نحو: كلما كان الانسان عاقلا قنع بما يكفيه.
وكلما قنع بما يكفيه استغنى.
كلما كان الانسان عاقلا استغنى.
(الثاني) ما اشتركت فيه المقدمتان في جزء غير تام منهما, نحو:
إذا كان القرآن معجزة, فالقرآن خالد.
وإذا كان الخلود معناه البقاء فالخالد لا يتبدل.
... اذا كان القرآن معجزة, فاذا كان الخلود معناه البقاء, فالقرآن لا يتبدل.
فلاحظ بدقة أن التالي من الصغرى (فالقرآن خالد) والتالي من الكبرى (فالخالد لا يتبدل), يتألف منهما قياس اقتراني حملي من الشكل الاول, ينتج (القرآن لا يتبدل).
فنجعل هذه النتيجة تاليا لشرطية مقدمها مقدم الكبرى, ثم نجعل هذه الشرطية تاليا لشرطية مقدمها مقدم الصغرى. وتكون هذه الشرطية الاخيرة هي (النتيجة) المطلوبة.
وهذه هي طريقة اخذ النتيجة من هذا القسم إذا تالف من متصلتين. ونحن نكتفي بهذا المقدار من بيان هذا القسم. ولا نذكر اقسامه ولا شروطه لطول الكلام عليها ولمخالفته للطبع الجاري.
(الثالث) ما اشتركت فيه المقدمتان في جزء تام من احداهما غير تام من الاخرى. وانما نتصور هذا القسم في المؤلف من الحملية والشرطيةوسياتي شرحه وشرح شروطه. أما في الشرطيات المحضة فلا بد ان نفرض احدى الشرطيتين بسيطة والاخرى مركبة من حملية وشرطية بالاصل, ليكون الحد المشترك جزءا تاما من الاولى وغير تام من الثانية, نحو:
اذا كانت النبوة من الله فاذا كان محمد نبيا فلا يترك امته سدى.
واذا لم يترك امته سدى وجب ان ينصب هاديا.
... اذا كانت النبوة من الله, فاذا كان محمدا نبيا وجب ان ينصب هاديا.
فلاحظ: ان تالي الصغرى مع الكبرى يتألف منهما قياس شرطي من القسم الاول, وهو ما اشتركت فيه المقدمتان بجزء تام, فينتج على نحو الشكل الاول: (اذا كان محمد نبيا وجب ان ينصب هاديا), ثم نجعل هذه النتيجة تاليا لشرطية مقدمها مقدم الصغرى, فتكون هذه الشرطية الجديدة هي النتيجة المطلوبة.
وهذه هي طريقة اخذ النتيجة من هذا القسم الثالث اذا تألف من متصلتين.
ونكتفي بهذا البيان عن هذا القسم في الشرطيات المحضة, للسبب المتقدم في القسم الثاني.
٭٭٭
يبقى الكلام عن القسم الاول وهو ما اشتركت فيه المقدمتان بجزء تام منهما, وعن القسم الثالث في المؤلف من حملية وشرطية. ولما كانت هذه الاقسام موافقة للطبع الجاري, نحن نتوسع في البحث عنها الى حد ما, فنقول: ينقسم ـ كما تقدم ـ الاقتراني الشرطي الى خمسة اقسام من جهة كون المقدمتين من المتصلات او المنفصلات او المختلفات, فنجعل البحث متسلسلا حسب هذه الاقسام:
1. المؤلف من المتصلات
هذا النوع ـ اذا اشتركت مقدمتاه بجزء تام منهما ـ يلحق بالاقتراني الحملي حذو القذة بالقذة: من جهة تأليفه للاشكال الاربعة, ومن جهة شروطها في الكم والكيف, ومن جهة النتائج, وبيانها بالعكس والخلف والافتراض.
فلا حاجة الى التفصيل والتكرار. وانما على الطالب ان يغير الحملية بالشرطية المتصلة. نعم يشترط ان يتألف من لزوميتين. وهذا شرط عام لجميع اقسام الاقترانات الشرطية المتصلة, لان الاتفاقيات لا حكم لها في الانتاج, نظرا الى أن العلاقة بين حدودها ليست ذاتية, وانما يتألف منها صورة قياس غير حقيقي.
2. المؤلف من المنفصلات
تمهيد:
المنفصلة انما تدل على العناد بين طرفيها في الصدق والكذب, فاذا اقترنت بمنفصلة اخرى تشترك معها في جزء تام او غير تام, فقد لا يظهر الارتباط بين الطرفين على وجه نستطيع ان نحصل على نتيجة ثابتة, لان عناد شيء لامرين لا يستلزم العناد بينهما انفسهما ولا يستلزم عدمه. وهذا نظير ما قلناه في السالبتين في القاعدة الثانية من القواعد العامة من ان مبانية شيء لامرين لا يستلزم تباينهما ولا عدمه, فإذن لا انتاج بين منفصلتين, فلا قياس مؤلف من المنفصلات.
وهذا صحيح الى حد ما اذا اردنا ان نجمد على المنفصلتين على حالهما, ولكن المنفصلة تستلزم متصلة, فيمكن تحويلها اليها, فاذا حولنا المنفصلتين معا تالف القياس من متصلتين ينتج متصلة. واذا اردنا ان نصر على جعل النتيجة منفصلة, فان المتصلة ايضا يمكن تحويلها الى منفصلة لازمة لها, فنحصل على نتيجة منفصلة كما نريد.
وعليه لا بد لنا اولا من معرفة تحويل المنفصلة الى متصلة لازمة لها وبالعكس, قبل البحث عن هذا النوع من القياس, فنقول:
تحويل المنفصلة الموجبة الى متصلة:
قد بينا في محله ان اقسام المنفصلة ثلاثة:
1. (الحقيقية) وهي تستلزم اربع متصلات موافقة لها في الكم والكيف فيجوز تحويلها الى كل واحد منها, فمنها متصلتان مقدم كل واحدة منهما عين احد الطرفين والتالي نقيض الاخر. لان الحقيقة لما دلت على استحالة الجمع بين طرفيها, فاذا تحقق احدهما فانه يستلزم انتفاء الاخر. ومنها متصلتان مقدم كل واحدة منهما نقيض احد الطرفين والتالي عين الاخر, لان الحقيقة ايضا تدل على استحالة الخلو من طرفيها فاذا ارتفع احدهما فهو يستلزم تحقق الاخر, فاذا صدق قولنا:
العدد اما زوج أو فرد (قضية حقيقية)
صدقت المتصلات الاربع:
1. اذا كان العدد زوجا فهو ليس بفرد.
2. اذا كان العدد فردا فهو ليس بزوج.
3. اذا لم يكن العدد زوجا فهو فرد.
4. اذا لم يكن العدد فردا فهو زوج.
2. (مانعة الجمع) وهي تستلزم المتصلتين الاوليتين اللتين مقدم كل واحدة منهما عين احد الطرفين والتالي نقيض الاخر, لانها كالحقيقة في دلالتها على استحالة الجمع, ولا تدل على استحالة الخلو, فاذا صدق:
الشيء اما شجر او حجر (مانعة جمع)
صدقت المتصلتان:
1. اذا كان الشيء شجرا فهو ليس بحجر.
2. اذا كان الشيء حجرا فهو ليس بشجر.
ولا تصدق المتصلتان:
3. اذا لم يكن الشيء شجرا فهو حجر
4. اذا لم يكن الشيء حجرا فهو شجر
3 ـ (مانعة الخلو) وهي تستلزم المتصلتين الاخيرتين فقط اللتين مقدم كل واحدة منهما نقيض احد الطرفين والتالي عين الاخر, لانها كالحقيقية في دلالتها على استحالة الخلو, ولا تدل على استحالة الجمع, فاذا صدق:
زيد اما في الماء او لا يغرق (مانعة خلو)
صدقت المتصلتان:
3. اذا لم يكن زيد في الماء فهو لا يغرق
4. اذا غرق زيد فهو في الماء
ولا تصدق المتصلتان الاوليان:
1. اذا كان زيد في الماء فهو يغرق
2. اذا غرق زيد فهو ليس في الماء
تحويل المنفصلة السالبة الى متصلة
اما المنفصلة السالبة كلية أو جزئية فانها تحول الى متصلة سالبة جزئية: الحقيقية الى أربع على نحو الموجبة, وكل من مانعتي الجمع والخلو الى اثنين على نحو الموجبة أيضاً, فاذا قلنا على نحو الحقيقية:
ليس البتة اما أن يكون الاسم معرباً او مرفوعاً
فانه تصدق المتصلات الاربع الآتية:
1. قد لا يكون اذا كان الاسم معربا فهو ليس بمرفوع
2. قد لا يكون اذا كان الاسم مرفوعا فهو ليس بمعرب
3. قد لا يكون اذا لم يكن الاسم معربا فهو مرفوع
4. قد لا يكون اذا لم يكن الاسم مرفوعا فهو معرب
ولا تصدق بعض هذه المتصلات كليا في هذا المثال, فلو جعلنا المتصلة رقم (ا) مثلا كلية هكذا:
ليس ألبتة اذا كان الاسم معربا فهو ليس بمرفوع
فانها كاذبة, لصدق نقيضها وهو:
قد يكون اذا كان الاسم معربا فهو ليس بمرفوع
وهكذا تحول مانعة الجمع والخلو السالبتان. وعلى الطالب ان يضع امثلة لهما.
تحويل المتصلة الى منفصلة
والمتصلة اللزومية الموجبة تستلزم مانعة الجمع ومانعة الخلو, المتفقتين معها في الكم والكيف, فيجوز تحويلها اليهما.
الاولى ـ (مانعة الجمع) تتالف من عين المقدم ونقيض التالي, لان المقدم لما كان يستلزم التالي فهو لا يجتمع مع نقيضه قطعا, والا لاجتمع النقيضان أي التالي ونقيضه, فاذا صدق:
كلما غرق زيد فهو في الماء
صدقت
دائما اما زيد قد غرق او ليس في الماء (مانعة جمع)
الثانية ـ (مانعة الخلو) تتالف من نقيض المقدم وعين التالي, بعكس الاولى, لان المقدم لما كان لا يجتمع مع نقيض التالي, فلا يخلو الامر من نقيض المقدم وعين التالي, والا لو خلا منهما بان يرتفعا معا (وارتفاع نقيض المقدم بالمقدم وارتفاع التالي بنقيضه) فمعناه انه جاز اجتماع المقدم ونقيض التالي. وهذا خلف. ففي المثال المتقدم لا بد ان تصدق:
دائما اما زيد لم يغرق او في الماء (مانعة خلو)
والسالبة تحمل على الموجبة في تحويلها الى مانعة الجمع, ومانعة الخلو المتفقتين معها في الكم والكيف.
التأليف من المنفصلات وشروطه
بعد هذا التمهيد المتقدم نشرع في موضوع البحث, فنقول: لما كان المقدم والتالي في المنفصلة لا امتياز بينهما, فكذلك لا يكون بين المنفصلتين المؤلفتين امتياز بالطبع, فايهما جعلتها الصغرى صح لك, فلا تتألف من هذا النوع الاشكال الأربعة.
ولكن لما كانت المنفصلتان يحولان إلى متصلتين. فينبغي ان تراعى صورة التأليف بين المتصلتين, وعلى أي شكل تكون الصورة, ولا بد من مراعاة شروط ذلك الشكل الحادث, ولذا قد يضطر إلى جعل إحدى المقدمتين بالخصوص صغرى, ليأتلف شكل متوفرة فيه الشروط.
اما شروط هذا النوع فللمنطقيين فيها كلام واختلاف كثير. والظاهر ان الاختلاف ناشئ من عدم مراعاة وجوب تحويل المنفصلة الى متصلة, فيلاحظ اخذ النتيجة من المنفصلتين رأساً, فذكر بعضهم أو أكثرهم ان من جملة الشروط ايجاب المقدمتين معا والا يكونا مانعتي جمع ولا حقيقيتين. ولكن لو حولنا المنفصلتين الى متصلتين فانا نجدهما ينتجان ولو كانت احداهما سالبة او كلاهما مانعتي جمع او حقيقيتين. غير انه يجب ان تؤلف المتصلتان على صورة قياس من احد الاشكال الاربعة حاويا على شروط ذلك القياس, كما قدمنا فمثلا لو كانت المقدمتان مانعتي جمع وجب تحويلهما الى متصلتين يؤلفان قياسا من الشكل الثالث. كما سياتي مثاله.
اما لو تالفا على غير هذا الشكل فانهما لا ينتجان لعدم توفر شروط ذلك الشكل.
وعليه فنستطيع ان نقول: لهذا النوع شرط واحد عام, وهو ان يصح تحويل المنفصلتين الى متصلتين يؤلفان قياسا من احد الاشكال الاربعة حاويا على شروط ذلك الشكل. وعلى الطالب ان يبذل جهده لاستخراج جميع المتصلات اللازمة للمقدمتين, ثم يقارن بعضها ببعض ليحصل على صورة القياس المنتج لمطلوبه.
طريقة اخذ النتيجة:
مما تقدم كله نعرف الطريقة التي يلزم اتباعها لاستخراج النتيجة في هذا النوع. ونحن حسب الفرض انما نبحث عن خصوص القسم الأول منه, وهو ما اشتركت فيه المقدمتان بجزء تام منهما. فعلينا أن نتبع ما يأتي:
1. نحول كلا من المنفصلتين الى جميع المتصلات التي يمكن ان تحول اليها.
وقد تقدم ان الحقيقية تحول الى اربع متصلات وكلا من مانعتي الجمع والخلو الى اثنتين.
2. نقارن بين المتصلات المحولة من احدى المقدمتين وبين المتصلات المحولة من الاخرى, فنختار الصورة التي يتكرر فيها حد اوسط وتكون على شكل تتوفر فيه شروطه. وعلى الاكثر تكون الصورة المنتجة أكثر من واحدة. ويكفينا ان نختار واحدة منها تنتج المطلوب.
3. ناخذ النتيجة متصلة, ونحولها ـ اذا شئنا ـ الى منفصلة لازمة لها اما مانعة جمع او مانعة خلو.
فمثلا لو كان القياس مؤلفا من حقيقتين, نحول الاولى الى أربع متصلات والثانية الى اربع أيضاً, فيحدث من مقارنة الاربع بالاربع ست عشرة صورة. وعند فحصها نجد ثماني منها لا يتكرر فيها حد اوسط فلا يتألف منها قياس. والثماني الباقية ينتج بعضها الملازمة بين عيني الطرفين في الحقيقيتين, وبعضها الآخر الملازمة بين نقيضيهما, وذلك بمختلف الاشكال, وينبغي ان يختار الطالب منها ما هو أمس بمطلوبه.
ولاجل التمرين نختبر بعض الامثلة:
لو أن حاكما جيء له بمتهم في قتل, وعلى ثوبه بقعة حمراء, ادعى المتهم انها حبر, فاول شيء يصنعه الحاكم, لأجل التوصل إلى إبطال دعوى المتهم او تأييده, أن يقول:
هذه البقعة اما دم او حبر (مانعة جمع)
وهي اما دم او لا تزول بالغسل (مانعة خلو)
فتحول مانعة الجمع الى المتصلتين:
1. كلما كانت البقعة دما فهي ليست بحبر.
2. كلما كانت حبرا فهي ليست بدم.
وتحول مانعة الخلو الى المتصلتين:
3. كلما لم تكن البقعة دما فلا تزول بالغسل.
4. كلما زالت البقعة بالغسل فهي دم.
وبمقارنة المتصلتين رقم 1, 2 بالمتصلتين رقم 3 , 4 تحدث اربع صور: اثنتان منها لا يتكرر فيهما حد اوسط, وهما المؤلفتان من رقم 1, 3 ومن رقم 2 , 4 .
اما المؤلفة من رقم 1, 4 فهي من الشكل الاول اذا جعلنا رقم 4 صغرى, فينتج ما ياتي:
كلما كانت البقعة تزول بالغسل فليست بحبر.
ويمكن تحويل هذه النتيجة (المتصلة) الى المنفصلتين:
اما ان تزول البقعة بالغسل واما ان تكون حبرا (مانعة جمع) واما ألا تزول بالغسل او ليست بحبر (مانعة خلو)
واما المؤلفة من رقم 2, 3 فهي من الشكل الاول أيضا ينتج ما يلي: كلما كانت البقعة حبرا فلا تزول بالغسل
ويمكن تحويل هذه النتيجة الى المنفصلتين:
اما ان تكون البقعة حبرا واما ان تزول بالغسل (مانعة جمع)
واما الا تكون حبرا او لا تزول بالغسل (مانعة خلو)
ولاحظ ان هاتين المنفصلتين عين المنفصلتين للنتيجة الاولى. وليس الفرق الا بتبديل الطرفين التالي والمقدم. وليس هذا ما يوجب الفرق في المنفصلة اذ لا تقدم طبعي بين جزءيها كما تقدم مرارا.
3. المؤلف من المتصلة والمنفصلة
اصنافه:
وهذا النوع أيضا ينقسم إلى الأقسام الثلاثة, ونحن حسب الفرض إنما نبحث عن القسم الأول منه وهو المشترك في جزء تام من المقدمتين.
وأصناف هذا القسم أربعة, لأن المتصلة إما صغرى أو كبرى, وعلى التقديرين إما أن يكون الحد المشترك مقدمها أو تاليها, فهذه أربعة. أما المنفصلة فلا فرق فيها بين أن يكون الحد المشترك مقدمها أو تاليها, إذ لا امتياز بالطبع بين جزءيها.
شروطه وطريقة اخذ النتيجة:
لا يلتئم الإنتاج من المتصلة والمنفصلة إلاّ برد المنفصلة إلى متصلة. فيتألف القياس حينئذ من متصلتين. فيرجع إلى النوع الأول وهو المؤلف من متصلتين في شروطه وانتاجه, فإن أمكن بإرجاع المنفصلة إلى المتصلة تاليف قياس منتج من أحد الأشكال الأربعة حاوياً على الشروط فذاك, وإلاّ كان عقيماً.
وبعضهم اشترط فيه إلاّ تكون المنفصلة سالبة, وهذا الشرط صحيح إلى حد ما لأن المنفصلة السالبة إنما تحوّل إلى متصلة سالبة حزئية والسالبة الجزئية ليس لها موقع في الإنتاج في جميع الأشكال إلا في الضرب الخامس من الشكل الثالث, المؤلف من موجبة كلية وسالبة جزئية والضرب الرابع من الشكل الثاني المؤلف من سالبة جزئية وموجبة كلية. وهذان الضربان نادران.
وعليه فالمنفصلة السالبة إذا أمكن ـ بتحويلها إلى متصلة سالبة جزئية ـ أن تؤلف مع المتصلة المذكورة في الأصل أحد الضربين المذكورين, فإن القياس يكون منتجاً, فليس هذا الشرط صحيحاً على إطلاقه. مثلاً إذا قلنا:
ليس البتة إما أن يكون هذا إنساناً أو فرساً (مانعة خلو)
وكلما كان هذا إنساناً كان حيواناً
فإنهما لا ينتجان, لأنه اذا حولنا المنفصلة إلى متصلة لا تؤلف مع المتصلة المفروضة شكلاً منتجاً, إذ أن هذه المنفصلة مانعة الخلو تحوّل إلى المتصلتين:
(1) قد لا يكون اذا لم يكن هذا إنساناً فهو فرس.
(2) قد لا يكون إذا لم يكن هذا فرساً فهو انسان.
فلو قرنا المتصلة رقم (1) بالمتصلة الأصلية لا يتكرر فيهما حد أوسط, ولو قرنا المتصلة (2) بالأصلية كان من الشكل الأول أو الرابع, ولا ينتج السالبة الجزئية فيهما.
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpg
ولو أردنا أن نبدل من المتصلة الأصلية قولنا:
كلما كان هذا ناطقاً كان انساناً.
فإنها تؤلف مع المتصلة رقم (2) الضرب الرابع من الشكل الثاني, فينتج:
قد لا يكون إذا لم يكن هذا فرساً فهو ناطق.
(4) المؤلف من الحملية والمتصلة
اصنافه:
يجب في هذا النوع أن يكون الإشتراك في جزء تام من الحملية غير تام من المتصلة, كما تقدمت الإشارة اليه, فله قسم واحد لأن جزء الحملية مفرد, وجزء الشرطية قضية بالأصل, فلا يصح فرض أن يكون الجزء بالمشترك تاماً فيهما ولا غير تام فيهما. وهذا واضح.
ولهذا النوع أربعة أصناف, لأن المتصلة اما صغرى أو كبرى, وعلى التقديرين فالشركة إما في مقدم المتصلة أو في تاليها, فهذه أربعة. والقريب منها إلى الطبع صنفان. وهما ما كانت الشركة فيهما في تالي المتصلة, سواء كانت صغرى أو كبرى.
طريقة اخذ النتيجة:
ولأخذ النتيجة في جميع هذه الأصناف الأربعة نتبع ما يلي:
1ـ أن نقارن الحملية مع طرف المتصلة التي وقعت فيه الشركة, فنؤلف منهما قياساً حملياً من أحد الأشكال الأربعة حاوياً على شروط الشكل, لينتج (قضية حملية).
2ـ ناخذ نتيجة التأليف السابق وهي الحملية الناتجة, فنجعلها مع طرف المتصلة الآخر الخالي من الاشتراك, لنؤلف منهما النتيجة متصلة أحد طرفيها نفس طرف المتصلة الخالي من الاشتراك سواء كان مقدماً أو تالياً, فيجعل أيضاً مقدماً او تالياً, والطرف الثاني الحملية الناتجة من التأليف السابق.
مثاله:
كلما كان المعدن ذهباً, كان نادراً.
كل نادر ثمين.
... كلما كان المعدن ذهباً, كان ثميناً.
فقد ألفنا قياساً حملياً من تالي المتصلة ونفس الحملية أنتج من الشكل الاول (كان المعدن ثميناً). ثم جعلنا هذه النتيجة تالياً للنتيجة المتصلة مقدمها مقدم المتصلة الاولى وهو طرفها الذي لم تقع فيه الشركة.
مثال ثان:
لا احد من الأحرار بذليل.
وكلما كانت الحكومة ظالمة, فكل موجود في البلد ذليل.
... كلما كانت الحكومة ظالمة, فلا أحد من الأحرار بموجود في البلد.
فقد ألفنا قياساً حملياً من الحملية وتالي المتصلة أنتج من الشكل الثاني (لا أحد من الأحرار بموجود في البلد), جعلنا هذه النتيجة تالياً لمتصلة مقدمها مقدم المتصلة في الأصل, وهو طرفها الذي لم تقع فيه الشركة.
الشروط:
اما شروط إنتاج هذه الأصناف الأربعة, فلا نذكر منها إلا شروط القريب إلى الطبع منها, وهما الصنفان اللذان تقع الشركة فيهما في تالي المتصلة, سواء كانت صغرى او كبرى, كما مثلنا لهما. وشرطهما:
أولاً ـ أن يتألف من الحملية وتالي المتصلة شكل يشتمل على شروطه المذكورة في القياس الحملي.
ثانياً ـ أن تكون المتصلة موجبة, فلو كانت سالبة, فيجب أن تحوّل إلى موجبة لازمة لها بنقض محمولها, أي تحول إلى منقوضة المحمول. وحينئذ يتألف القياس الحملي من الحملية في الأصل ونقيض تالي المتصلة, مشتملاً على شروط الشكل الذي يكون منه.
مثاله:
ليس البتة إذا كانت الدولة جائرة, فبعض الناس أحرار.
وكل سعيد حر.
فإن المتصلة السالبة الكلية, تحول إلى منقوضة محمولها موجبة كلية, هكذا:
كلما كانت الدولة جائرة, فلا شيء من الناس بأحرار.
وبضمها إلى الحملية ينتج من الشكل الثاني, على نحو ما تقدم في أخذ النتيجة, هكذا:
كلّما كانت الدولة جائرة, فلا شيء من الناس بسعداء.
(تنبيه) ـ لهذا النوع وهو المؤلف من الحملية والمتصلة أهمية كبيرة في الاستدلال, لا سيما أن قياس الخلف ينحل إلى أحد صنفيه المطبوعين. وليكن هذا على بالك, فإنه سيأتي كيف ينحل قياس الخلف إليه.
5ـ المؤلف من الحملية والمنفصلة
وهذا النوع كسابقه يجب أن يكون الاشتراك فيه في جزء تام من الحملية غير تام من المنفصلة. وقد تقدم وجهه.
غير أن الشركة فيه للحملية قد تكون مع جميع أجزاء المنفصلة وهو القريب إلى الطبع وقد تكون مع بعضها, وعلى التقديرين تقع الحملية إما صغرى أو كبرى, فهذه أربعة أصناف.
مثاله:
1ـ الثلاثة عدد.
2ـ العدد اما زوج او فرد.
3ـ الثلاثة اما زوج او فرد.
وهذا المثال من الصنف الأول المؤلف من حملية صغرى مع كون الشركة مع جميع أجزاء المنفصلة, لأن المنفصلة في المثال بتقدير (دائماً إما العدد زوج وإما العدد فرد).
فكلمة (العدد) المشتركة بين المقدمتين موجودة في جزئي المنفصلة معاً.
أما اخذ النتيجة في المثال فقد رأيت أنا أسقطنا الحد المشترك, وهو كلمة (عدد), وأخذنا جزء الحملية الباقي مكانه في النتيجة التي هي منفصلة أيضا. وهو على منهاج الشكل الأول في الحملي.
وهكذا نصنع في أخذ نتائج هذا النوع. ونكتفي بهذا المقدار من البيان عن هذا النوع.
خاتمـــة
قد أطلنا في بحث الاقترانات الشرطية على خلاف المعهود في كتب المنطق المعتاد تدريسها, نظراً الى كثرة فائدتها والحاجة إليها فإن أكثر البراهين العلمية تبتني على الاقترانات الشرطية. وإن كنا تركنا كثيرا من الأبحاث التي لا يسعها هذا المختصر, واقتصرنا على أهم الاقسام التي هي أشد علوقاً بالطبع.
القياس الاستثنائي
تعريفه وتاليفه:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تقدم ذكر هذا القياس وتعريفه؛ وهو من الأقيسة الكاملة؛ أي التي لا يتوقف الإنتاج فيها على مقدمة أخرى, كقياس المساواة ونحوه على ما سيأتي في التوابع.
ولمّا تقدم أن الاستثنائي يذكر فيه بالفعل إما عين النتيجة أو نقيضها, فهنا نقول: يستحيل أن تكون النتيجة مذكورة بعينها أو بنقيضها على أنها مقدمة مستقلة مسلّم بصدقها, لأنه حينئذ يكون الإنتاج مصادرة على المطلوب. فمعنى أنها مذكورة بعينها أو بنقيضها أنها مذكورة على أنها جزء من مقدمة.
ولما كانت هي بنفسها قضية ومع ذلك تكون جزء قضية, فلا بد أن يفرض أن المقدمة المذكورة فيها قضية شرطية لأنها تتألف من قضيتين بالأصل. فيجب ان تكون ـ على هذا ـ إحدى مقدمتي هذا القياس شرطية. أما المقدمة الاخرى فهي الاستثنائية أي المشتملة على أداة الاستثناء التي من أجلها سمي القياس استثنائياً.
والاستثنائية يستثنى فيها أحد طرفي الشرطية أو نقيضه لينتج الطرف الآخر أو نقيضه على ما سيأتي تفصيله.
تقسيمه:
وهذه الشرطية قد تكون متصلة وقد تكون منفصلة وبحسبها ينقسم هذا القياس إلى الاتصالي والانفصالي.
شروطه:
ويشترط في هذا القياس ثلاثة أمور:
1ـ كلية إحدى المقدمتين, فلا ينتج من جزئيتين.
2ـ ألاّ تكون الشرطية اتفاقية.
3ـ إيجاب الشرطية. ومعنى هذا الشرط في المتصلة خاصة أن السالبة تحوّل إلى موجبة لازمة لها, فتوضع مكانها.
ولكل من القسمين المتقدمين حكم في الإنتاج, ونحن نذكرهما بالتفصيل:
حكم الاتصالي
لأخذ النتيجة من الاستثنائي الاتصالي طريقتان.
1ـ استثناء عين المقدم لينتج عين التالي, لأنه إذا تحقق الملزوم تحقق اللازم قطعاً, سواء أكان اللازم أعم أم مساوياً. ولكن لو استثنى عين التالي فإنه لا يجب أن ينتج عين المقدم, لجواز أن يكون اللازم أعم. وثبوت الأعم لا يلزم منه ثبوت الأخص.
مثاله:
كلما كان الماء جارياً كان معتصماً. لكن هذا الماء جار.
... فهو معتصم.
فلو قلنا: (لكنه معتصم) فانه لا ينتج (فهو جار), لجواز أن يكون معتصماً وهو راكد كثير.
2. استثناء نقيض التالي, لينتج نقيض المقدم. لأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم قطعاً, حتى لو كان اللازم أعم, ولكن لو استثنى نقيض المقدم فإنه لا ينتج نقيض التالي, لجواز أن يكون اللازم أعم. وسلب الأخص لا يستلزم سلب الأعم, لأن نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم.
مثاله:
كلما كان الماء جارياً كان معتصماً. لكن هذا الماء ليس بمعتصم. فهو ليس بجار.
فلو قلنا: (لكنه ليس بجار) فانه لا ينتج (ليس بمعتصم) لجواز ألا يكون جارياً, وهو معتصم لأنه كثير.
حكم الانفصالي
لأخذ النتيجة من الاستثنائي الانفصالي ثلاث طرق:
1ـ اذا كانت الشرطية (حقيقية) فإن استثناء عين أحد الطرفين ينتج نقيض الآخر, واستثناء نقيض أحدهما ينتج عين الآخر, فإذا قلت:
العدد إما زوج أو فرد.
فإن الاستثناء يقع على أربع صور هكذا:
أـ لكن هذا العدد زوج ينتج فهو ليس بفرد
ب ـ لكن هذا العدد فرد ينتج فهو ليس بزوج
ج ـ لكن هذا العدد ليس بزوج ينتج فهو فرد
د ـ لكن هذا العدد ليس بفرد ينتج فهو زوج
وهو واضح لا عسر فيه. هذا إذا كانت المنفصلة ذات جزءين. وقد تكون ذات ثلاثة أجزاء فأكثر, مثل (الكلمة إما اسم أو فعل أو حرف) فإذا استثنيت عين أحدها فقلت مثلاً (لكنها اسم) فانه ينتج حمليات بعدد الأجزاء الباقية فتقول: (فهي ليست فعلاً, وليست حرفاً).
وإذا استثنيت نقيض أحدهما فقلت مثلاً: (لكنها ليست اسماً) فانه ينتج منفصلة من أعيان الأجزاء الباقية, فتقول: (فهذه الكلمة إما فعل أو حرف). وقد يجوز بعد هذا أن تعتبر هذه النتيجة مقدمة لقياس استثنائي آخر, فتستثنى عين أحد أجزائها أو نقيضه, لينحصر في جزء معين.
وهكذا يمكن أن تستعمل هذه الطريقة لو كانت أجزاء المنفصلة أكثر من ثلاثة فتستوفي الاستثناءات حتى يبقى قسم واحد ينحصر فيه الآمر. وقد تسمى هذه الطريقة طريقة الدوران والترديد أو برهان السبر والتقسيم, أو برهان الاستقصاء, كما سبق أن برهنا به لبيان النسبة بين النقيضين في بحث النسب في الجزء الاول.
وهذه الطريقة نافعة كثيراً في المناظرة والجدل.
2ـ اذا كانت الشرطية (مانعة خلو), فإن استثناء نقيض أحد الطرفين ينتج عين الآخر ولا ينتج استثناء عين احدهما نقيض الآخر لأن المفروض أنه لا مانع من الجمع بين العينين فلا يلزم من صدق أحدهما كذب الآخر.
3ـ اذا كانت الشرطية (مانعة جمع), فإن استثناء عين أحد الطرفين ينتج نقيض الاخر. ولا ينتج استثناء نقيض أحدهما عين الآخر, لأن المفروض أنه يجوز أن يخلو الواقع منهما فلا يلزم من كذب أحدهما صدق الآخر. وهذا وما قبله واضح.
خاتمة في لواحق القياس
القياس المضمر أو الضمير:
إنا في أكثر كلامنا وكتاباتنا نستعمل الأقيسة وقد لا نشعر بها. ولكن على الغالب لا نلتزم بالصورة المنطقية للقياس: فقد نحذف إحدى المقدمات أو النتيجة اعتمادا على وضوحها أو ذكاء المخاطب أو لغفلة, كما أنه قد نذكر النتيجة أولاً قبل المقدمات أو نخالف الترتيب الطبيعي للمقدمات. ولذا يصعب علينا أحيانا أن نرد كلامنا إلى صورة قياس كاملة.
والقياس الذي تحذف منه النتيجة أو إحدى المقدمات يسمى (القياس المضمر) وما حذفت كبراه فقط يسمى (ضميراً) كما إذا قلت (هذا انسان لأنه ناطق). وأصله هو.
هذا ناطق (صغرى)
وكل ناطق انسان (كبرى)
... فهذا انسان (نتيجة)
فحذفت منه الكبرى وقدمت النتيجة.
وقد تقول (هذا إنسان لأن كل ناطق إنسان) فتحذف الصغرى مع تقديم النتيجة.
وقد تقول (هذا ناطق, لأن كل ناطق إنسان) فتكتفي بالمقدمتين عن ذكر النتيجة, لأنها معلومة. وقس على ذلك ما يمر عليك.
كسب المقدمات بالتحليل:
أظنكم تتذكرون أنا في أول الكتاب ذكرنا أن العقل تمرّ عليه خمسة أدوار لأجل أن يتوصل إلى المجهول. وقلنا إن الأدوار الثلاثة الأخيرة منها هي (الفكر) وقد طبقنا هذه الأدوار على كسب التعريف في آخر الجزء الأول. والآن حل الوقت الذي نطبق فيه هذه الأدوار على كسب المعلوم التصديقي بعدما تقدم من درس أنواع القياس.
فلنذكر تلك الأدوار الخمسة لنوضحها.
1ـ (مواجهة المشكل). ولا شك أن هذا الدور لازم لمن يفكر لكسب المقدمات لتحصيل أمر مجهول لأنه لو لم يكن عنده أمر مجهول مشكل قد التفت إليه وواجهه فوقع في حيرة من الجهل به لما فكر في الطريق إلى حله. ولذا يكون هذا الدور من مقدمات الفكر لا من الفكر نفسه.
2ـ (معرفة نوع المشكل). والغرض من معرفة نوعه أن يعرف من جهة الهيئة أنه قضية حملية أو شرطية متصلة أو منفصلة؛ موجبة أو سالبة معدولة أو محصلة موجهة أو غير موجهة وهكذا. ثم يعرفه من جهة المادة أنه يناسب أي العلوم والمعارف أو أي القواعد والنظريات. ولا شك أن هذه المعرفة لازمة قبل الاشتغال بالتفكير وتحصيل المقدمات وإلاّ لوقف في مكانه وارتطم ببحر من المعلومات لا تزيده إلا جهلاً فيتلبّد ذهنه ولا يستطيع الانتقال إلى معلوماته فضلاً عن أن ينظمها ويحل بها المشكل. فلذا كان هذا الدور لا بد منه للتفكير؛ وهو من مقدماته لا منه نفسه.
3 ـ (حركة العقل من المشكل الى المعلومات). وهذا أول أدوار الفكر وحركاته, فإن الإنسان عندما يفرغ من مواجهة المشكل ومعرفة نوعه يفزع فكره إلى طريق حله فيرجع إلى المعلومات التي اختزنها عنده ليفتش عنها ليقتنص منها ما يساعده على الحل. فهذا الفزع والرجوع إلى المعلومات هو حركة للعقل وانتقال من المجهول إلى المعلوم, وهو مبدأ التفكير, فلذا كان أول أدوار الفكر.
4. (حركة العقل بين المعلومات). وهذا هو الدور الثاني للفكر وهو أهم الأدوار والحركات وأشقها, وبه يمتاز المفكرون وعنده تزل الأقدام ويتورط المغرورون فمن استطاع ان يحسن الفحص عن المعلومات ويرجع إلى البديهيات فيجد ضالته التي توصله حقا إلى حل المشكل فهذا الذي أوتي حظاً عظيماً من العلم. وليس هناك قواعد مضبوطة لفحص المعلومات وتحصيل المقدمات الموصلة إلى المطلوب من حل المشكل وكشف المجهول.
ولكن لنا طريقة عامة يمكن الركون إليها لكسب المقدمات نسميها (التحليل) ولأجلها عقدنا هذا الفصل فنقول:
إذا واجهنا المشكل فلا بد أنه قضية من القضايا ولتكن حملية فإذا أردنا حله من طريق الاقتراني الحملي نتبع ما يلي:
أولاً ـ نحلل المطلوب وهو حملية بالفرض إلى موضوع ومحمول ولا بد أن الموضوع يكون الحد الأصغر في القياس والمحمول الحد الأكبر فيه فنضع الأصغر والأكبر كلاً منهما على حدة.
ثانياًـ ثم نطلب كل ما يمكن حمله على الأصغر والأكبر وكل ما يمكن حمل الأصغر والأكبر عليه سواء كان جنساً أو نوعاً أو فصلاً أو خاصة أو عرضاً عاماً. ونطلب أيضاً كل ما يمكن سلبه عن كل واحد منهما وكل ما يمكن سلب كل واحد منهما عنه. فتحصل عندنا عدة قضايا حملية إيجابية وسلبية.
ثالثاً ـ ثم ننظر فيما حصلنا عليه من المعلومات. فنلائم بين القضايا التي فيها الحد الأصغر يكون موضوعاً أو محمولاً من جهة وبين القضايا التي فيها الحد الأكبر يكون موضوعاً أو محمولاً من جهة أخرى, فإذا استطعنا ان نلائم بين قضيتين من الطرفين على وجه يتألف منهما شكل من الاشكال متوفرة فيه الشروط فقد نجحنا واستطعنا أن نتوصل إلى المطلوب وإلاّ فعلينا أن نلتمس طريقاً آخر.
وهذه الطريقة عيناً تتبع إذا كان المطلوب قضية شرطية فنؤلف معلوماتنا من قضايا شرطية إذا لم نختر ارجاع الشرطية إلى حملية لازمة لها.
واذا اردنا حل المطلوب من طريق القياس الاستثنائي نتبع ما يلي:
أولاً ـ نفحص عن كل ملزومات المطلوب وعن كل لوازمه ثم عن كل ملزومات نقيضه وعن كل لوازمه.
ثانياً ـ ثم نفحص عن كل ما يعاند نقيضه صدقاً وكذباً أو صدقاً فقط أو كذباً فقط.
ثالثاًـ ثم نؤلف من الفحص الأول قضايا متصلة إذا وجدنا ما يؤلفها ونستثني عين المقدم ونقيض التالي من كل من القضايا فأيّهما يصح, يتألف به قياس استثنائي اتصالي ننتقل منه إلى المطلوب.
أو نؤلف من الفحص الثاني قضايا منفصلة حقيقية أو من اختيها إذا وجدنا أيضاً ما يؤلفها ونستثني عين الجزء الآخر المعاند للمطلوب أو نقيضه ونستثني نقيض الجزء الآخر في جميع القضايا المؤلفة فأيها يصح, يتألف به قياس استثنائي انفصالي ننتقل منه إلى المطلوب.
5ـ (حركة العقل من المعلومات إلى المجهول) وهذه الحركة آخر مرحلة من الفكر عندما يتم له تأليف قياس منتج فإنه لا بد أن ينتقل منه إلى النتيجة التي تكون هي المطلوب وهي حل المشكل.
القياسات المركبة
تمهيد وتعريف:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
لا بد للاستدلال على المطلوب من الانتهاء في التحليل إلى مقدمات بديهية لا يحتاج العلم بها إلى كسب ونظر, وإلا لتسلسل التحليل إلى غير النهاية, فيستحيل تحصيل المطلوب. والانتهاء الى البديهيات على نحوين: تارة ينتهي التحليل من أول الأمر إلى كسب مقدمتين بديهيتين فيقف, ونحصل المطلوب منهما, فيتألف منهما قياس يسمى (بالقياس البسيط), لأنه قد حصل المطلوب به وحده. وهذا مفروض جميع الأقيسة التي تكلمنا عن أنواعها وأقسامها.
وأخرى ينتهي التحليل من أول الأمر إلى مقدمتين إحداهما كسبية أو كلاهما كسبيتان, فلا يقف الكسب عندهما حينئذ, بل تكون المقدمة الكسبية مطلوباً آخر لا بد لنا من كسب المقدمات ثانياً لتحصيله, فنلتجئ إلى تأليف قياس آخر تكون نتيجته نفس الكسبية, أي أن نتيجة هذا القياس الثاني تكون مقدمة للقياس الأول. ولو كانت المقدمتان معاً كسبيتين فلا بد حينئذ من تأليف قياسين لتحصيل المقدمتين.
ثم إن هذه المقدمات المؤلفة ثانياً لتحصيل مقدمة القياس الأول أو مقدمتيه إن كانت كلها بديهية وقف عليها الكسب, وإن كانت بعضها أو كلها كسبية احتاجت إلى تأليف اقيسة بعددها... وهكذا حتى نقف في مطافنا على مقدمات بديهية لا تحتاج إلى كسب ونظر. ومثل هذه التأليفات المترتبة التي تكون نتيجة أحدها مقدمة في الآخر لينتهي بها إلى مطلوب واحد هو المطلوب الأصلي تسمى (القياس المركب), لأنه يتركب من قياسين أو أكثر.
فالقياس المركب إذن هو: >ما تألف من قياسين فأكثر لتحصيل مطلوب واحد<.
وفي كثير من الأحوال نستعمل القياسات المركبة, فلذلك قد نجد في بعض البراهين مقدمات كثيرة فوق اثنتين مسوقة لمطلوب واحد, فيظنها من لا خبرة له أنها قياس واحد, وهي في الحقيقة ترد إلى قياسات متعددة متناسقة على النحو الذي قدمناه, وإنما حذفت منه النتائج المتوسطة, أو بعض المقدمات على طريقة (القياس المضمر) الذي تقدّم شرحه. وإرجاعها إلى أصلها قد يحتاج إلى فطنة ودربة.
اقسام القياس المركب:
وعلى ما تقدم ينقسم القياس المركب إلى موصول ومفصول:
1ـ (الموصول), وهو الذي لا تنطوى فيه النتائج؛ بل تذكر مرة نتيجة لقياس ومرة مقدمة لقياس آخر, كقولك:
أ ـ كل شاعر حساس
ب ـ وكل حساس يتألم
... كل شاعر يتألم.
ثم تأخذ هذه النتيجة فتجعلها مقدمة لقياس آخر لينتج المطلوب الأصلي الذي سقت لأجله القياس المتقدم, فنقول من رأس:
أ. كل شاعر يتألم
ب. وكل من يتألم قوي العاطفة
... كل شاعر قوي العاطفة.
وهذه عين النتيجة السابقة في الوصول. والمفصول أكثر استعمالاً في العلوم اعتماداً على وضوح النتائج المتوسطة فيحذفونها.
والقياسات المركبة قد يسمى بعضها بأسماء خاصة لخصوصية فيها ولا بأس بالبحث عن بعضها تنويراً للأذهان. منها:
قياس الخلف
قد سبق منا ذكر لقياس الخلف مرتين: مرة في أول تنبيهات الشكل الثالث وسميناه (طريقة الخلف) وشرحناه هناك بعض الشرح. وقد كنا استخدمناه للبرهان على بعض ضروب الشكلين الثاني والثالث. ومرة أخرى نبهنا عليه في آخر القسم الرابع من الاقتراني الشرطي وهو المؤلف من متصلة وحملية إذ قلنا إن قياس الخلف ينحل إلى قياس شرطي من هذا القسم. ومن الخير للطالب الآن أن يرجع إلى هذين البحثين قبل الدخول في التفصيلات الآتية.
والذي ينبغي أن يعلم أن الباحث قد يعجز عن الاستدلال على مطلوبه بطريقة مباشرة, فيحتال إلى اتخاذ طريقة غير مباشرة فيلتمس الدليل على بطلان نقيض مطلوبه ليثبت صدق مطلوبه لأن النقيضين لا يكذبان معاً. وإبطال النقيض لأثبات المطلوب هو المسمى (بقياس الخلف), ولذا أشرنا فيما سبق في تنبيهات الشكل الثالث إلى أن طريقة الخلف من نوع الاستدلال غير المباشر. ومن هنا يحصل لنا تعريف قياس الخلف بأنه:
>قياس مركب يثبت المطلوب بابطال نقيضه<.
أما أنه قياس مركب فلأنه يتألف من قياسين: اقتراني شرطي مؤلف من متصلة وحملية واستثنائي.
كيفيته:
إذا أردنا إثبات المطلوب بإبطال نقيضه, فعلينا أن نستعمل الطريقة التي سنشرحها ولنرجع قبل كل شيء إلى الموارد التي استعملنا لها قياس الخلف فيما سبق, ولنختر منها للمثال (الضرب الرابع من الشكل الثاني), فنقول:
المفروض صدق ـ ا ـ س ب م و ـ 2ـ كل جـ م
المدعى صدق النتيجة: س ب جـ
و(خلاصة البرهان) بالخلف أن نقول: لو لم يصدق المطلوب لصدق نقيضه ولكن نقيضه ليس بصادق لأن صدقه يستلزم الخلف, فيجب أن يكون المطلوب صادقاً. وهذا كما ترى قياس استثنائي يستدل على كبراه بلزوم الخلف. ولبيان لزوم الخلف عند صدق النقيض يستدل بقياس اقتراني شرطي مؤلف من متصلة مقدمها المطلوب منفياً وتاليها نقيض المطلوب ومن حملية مفروضة الصدق.
و(تفصيل البرهان) بالخلف نتبع ما يأتي من المراحل مع التمثيل بالمثال الذي اخترناه.
1ـ نأخذ نقيض المطلوب (كل ب جـ ) ونضمه إلى مقدمة مفروضة الصدق ولتكن الكبرى وهي (كل جـ م) فيتألف منهما قياس من الشكل الأول.
كل ب جـ , كل جـ م
ينتج كل ب م
2ـ ثم نقيس هذه النتيجة الحاصلة الى المقدمة الأخرى المفروضة الصدق وهي (س ب م) فنجد أنهما نقيضان: فإما أن تكذب (س ب م) والمفروض صدقها, هذا خلف أي خلاف ما فرض من صدقها, واما ان تكذب هذه النتيجة الحاصلة وهي (كل ب م). وهذا هو المتعين.
3ـ ثم نقول حينئذ: لا بد أن يكون كذب هذه النتيجة المتقدمة ناشئاً من كذب إحدى المقدمتين, لأن تأليف القياس لا خلل فيه حسب الفرض, ولا يجوز كذب المقدمة المفروضة الصدق, فلا بد أن يتعين كذب المقدمة الثانية التي هي (نقيض المطلوب) كل ب جـ , فيثبت المطلوب (س ب جـ) .
4ـ وبالأخير يوضع الاستدلال هكذا:
أ. من قياس اقتراني شرطي.
1ـ الصغرى التي هي قولنا (لو لم يصدق س ب جـ فكل ب حـ)
2ـ الكبرى المفروض صدقها هو قولنا (كل جـ م)
فينتج حسبما ذكرناه في أخذ نتيجة النوع الرابع من الشرطي:
(لو لم يصدق س ب جـ فكل ب م)..
ب ـ من قياس استثنائي.
1ـ الصغرى نتيجة الشرطي السابق وهي:
لو لم يصدق س ب جـ فكل ب م.
2ـ الكبرى قولنا: و(لكن كل ب م كاذبة)
لأنه نقيضها وهو (س ب م) صادق حسب الفرض
فينتج: >يجب أن يكون (س ب ج) صادقاً< وهو المطلوب
قياس المساواة
من القياسات المشكلة التي يمكن إرجاعها إلى القياس المركب (قياس المساواة) وإنما سمي قياس المساواة لأن الأصل فيه المثال المعروف (أ مساو لب وب مساو لج ينتج أ مساو لج), وإلاّ فهو قد يشتمل على المماثلة والمشابهة ونحوهما كقولهم:
الإنسان من نطفة والنطفة من العناصر, فالإنسان من العناصر, وكقولهم: الجسم جزء من الحيوان والحيوان جزء من الإنسان, فالجسم جزء من الإنسان.
وصدق قياس المساواة يتوقف على صدق مقدمة خارجية محذوفة وهي نحو مساوي المساوي مساوٍ, وجزء الجزء جزء, والمماثل للمماثل مماثل... وهكذا.
ولذا لا ينتج لو كذبت المقدمة الخارجية نحو: (الاثنان نصف الأربعة والأربعة نصف الثمانية), فانه لا ينتج: الاثنان نصف الثمانية, لأن نصف النصف ليس نصفاً.
تحليل هذا القياس:
وهذا القياس كما ترى على هيئة مخالفة للقياس المألوف المنتج, إذ لا شركة فيه في تمام الوسط, لأن موضوع المقدمة الثانية وهو (ب) جزء من محمول الأولى وهو (مساو لب), فلا بد من تحليله وإرجاعه إلى قياس منتظم بضم تلك المقدمة الخارجية المحذوفة إلى مقدمتيه ليصير على هيئة القياس. وفي بادئ النظر لا ينحل المشكل بمجرد ضم المقدمة الخارجية, فلا يظهر كيف يتألف قياس تشترك فيه المقدمات في تمام الوسط, وأنه من أي انواع القياس ولذا عد عسر الانحلال إلى الحدود المترتبة في القياس المنتج لهذه النتيجة وعده بعضهم من القياسات المفردة, وبعضهم عده من المركبة.
والأصح أن نعده من المركبات, فنقول إنه مركب من قياسين.
(القياس الأول) ـ: صغراه ـ المقدمة الأولى (أ مساوٍ لب)
وكبراه ـ (كل مساوٍ لب مساوٍ لمساوي ج)
>وهذه الكبرى صادقة مأخوذة من المقدمة الثانية من قياس المساواة أي (ب مساو لج) لأنه بحسبها يكون (ما يساوي ج) عبارة ثانية عن (ب) فلو قلت: كل ما يساوي ب يساوي ب, تكون قضية صادقة بديهية ويصح أن تبدل عبارة (ما يساوي ج) بحرف (ب) فنقول مكانها (مساو لب مساو لمساوي ج). وعليه يكون هذا القياس الأول من الشكل الأول الحملي والأوسط فيه: مساوٍ لب<.
فينتج (أ مساوٍ لمساوي ج)
(القياس الثاني) ـ : صغراه ـ النتيجة السابقة من الأول (أ مساوٍ لمساوي ج).
وكبراه ـ المقدمة الخارجية المذكورة وهي (المساوي لمساوي ج مساوٍ لج) فينتظم قياساً من الشكل الأول الحملي أيضاً والأوسط فيه (مساوٍ لمساوي ج).
فينتج أ مساو لج (وهو المطلوب)
2 ـ الاستقراء
تعريفه:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
عرفنا الاستقراء فيما سبق بأنه هو >أن يدرس الذهن عدة جزئيات فيستنبط منها حكماً عاماً< كما لو درسنا عدة أنواع من الحيوان فوجدنا كل نوع منها يحرك فكه الأسفل عند المضغ, فنستنبط منها قاعدة عامة, وهي: إن كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ.
والاستقراء هو الأساس لجميع أحكامنا الكلية وقواعدنا العامة, لأن تحصيل القاعدة العامة والحكم الكلي لا يكون إلاّ بعد فحص الجزئيات واستقرائها فإذا وجدناها متحدة في الحكم نلخص منها القاعدة او الحكم الكلي. فحقيقة الاستقراء هو الاستدلال بالخاص على العام, وعكسه القياس, وهو الاستدلال بالعام على الخاص, لأن القياس لا بد أن يشتمل على مقدمة كلية الغرض منها تطبيق حكمها العام على موضوع النتيجة.
أقسامه:
والاستقراء على قسمين تام وناقص لأنه إما أن يتصفح فيها حال الجزئيات بأسرها أو بعضها.
والأول (التام), وهو يفيد اليقين. وقيل بأنه يرجع إلى القياس المقسم() المستعمل في البراهين, كقولنا: كل شكل إما كروي وإما مضلع وكل كروي متناه وكل مضلع متناه, فينتج (كل شكل متناه).
والثاني ـ (الناقص) وهو ألاّ يفحص المستقري إلاّ بعض الجزئيات كمثال الحيوان من أنه يحرك فكه الأسفل عند المضغ, بحكم الاستقراء لأكثر أنواعه.
وقالوا إنه لا يفيد إلاّ الظن لجواز أن يكون أحد جزئياته ليس له هذا الحكم, كما قيل إن التمساح يحرك فكه الأعلى عند المضغ.
شبهة مستعصية
إن القياس الذي هو العمدة في الأدلة على المطالب الفلسفية وهو المفيد لليقين لما كان يعتمد على مقدمة كلية على كل حال, فإن الأساس فيه لا محالة هو الاستقراء, لما قدمنا أن كل قاعدة كلية لا تحصل لنا إلاّ بطريق فحص جزئياتها.
ولا شك أن أكثر القواعد العامة غير متناهية الأفراد, فلا يمكن تحصيل الاستقراء التام فيها.
فيلزم على ذلك أن تكون أكثر قواعدنا التي نعتمد عليها لتحصيل الأقيسة ظنية, فيلزم أن تكون أكثر أقيستنا ظنية وأكثر أدلتنا غير برهانية في جميع العلوم والفنون. وهذا ما لا يتوهمه أحد.
فهل يمكن أن ندعي أن الاستقراء الناقص يفيد العلم اليقيني, فنخالف جميع المنطقيين الأقدمين. ربما تكون هذه الدعوى قريبة إلى القبول, إذ تجد أنا نتيقّن بامور عامة ولم يحصل لنا استقراء جميع أفرادها, كحكمنا قطعاً بأن الكل أعظم من الجزء, مع استحالة استقراء جميع ما هو كل وما هو جزء, وكحكمنا بأن الاثنين نصف الأربعة مع استحالة استقراء كل اثنين وكل أربعة, وكحكمنا بأن كل نار محرقة وان كل إنسان يموت مع استحالة استقراء جميع أفراد النار والإنسان... وهكذا ما لا يحصى من القواعد البديهية فضلاً عن النظرية.
حل الشبهة
فنقول في حل الشبهة إن الاستقراء على أنحاء:
ـ 1 ـ أن يبنى على صرف المشاهدة فقط, فإذا شاهد بعض الجزئيات او أكثرها أن لها وصفاً واحداً, استنبط أن هذا الوصف يثبت لجميع الجزئيات كمثال استقراء بعض الحيوانات أنها تحرك فكها الأسفل عند المضغ. ولكن هذا الاستنباط قابل للنقض فلا يكون الحكم فيه قطعياً وعلى هذا النحو اقتصر نظر المنطقيين القدماء في بحثهم.
ـ 2ـ أن يبنى مع ذلك على التعليل أيضاً. بأن يبحث المشاهد لبعض الجزئيات عن العلة في ثبوت الوصف فيعرف أن الوصف إنما ثبت لتلك الجزئيات المشاهدة لعلة أو خاصية موجودة في نوعها ولا شبهة عند العقل أن العلة لا يتخلف عنها معلولها أبداً. فيجزم المشاهد المستقري حينئذ جزماً قاطعاً بثبوت الوصف لجميع جزئيات ذلك النوع وإن لم يشاهدها. كما إذا شاهد الباحث أن بعض العقاقير يؤثر الإسهال فبحث عن علة هذا التأثير وحلل ذلك الشيء إلى عناصره, فعرف تاثيرها في الجسم الإسهال في الأحوال الاعتيادية, فانه يحكم بالقطع أن هذا الشيء يحدث هذا الأثر دائماً.
وجميع الاكتشافات العلمية وكثير من أحكامنا على الأمور التي نشاهدها من هذا النوع, وليست هذه الأحكام قابلة للنقض فلذلك تكون قطعية, كحكمنا بأن الماء ينحدر من المكان العالي, فإنا لا نشك فيه مع أنا لم نشاهد من جزئياته إلاّ أقل القليل, وما ذلك إلا لأنا عرفنا السر في هذا الانحدار. نعم اذا انكشف للباحث خطأ ما حسبه أنه عله وأن للوصف علة أخرى فلا بد أن يتغير حكمه وعلمه.
3 ـ أن يبنى على بديهة العقل, كحكمنا بأن الكل أعظم من الجزء فإن تصور الكل وتصور الجزء وتصور معنى أعظم هو كاف لهذا الحكم. وليس هذا في الحقيقة استقراء لأنه لا يتوقف على المشاهدة, فإن تصور الموضوع والمحمول كاف للحكم وإن لم تشاهد جزئياً واحداً منها.
ـ 4ـ أن يبنى على المماثلة الكاملة بين الجزئيات, كما إذا اختبرنا بعض جزئيات نوع من الثمر فعلمنا بأنه لذيذ الطعم مثلاً فإنا نحكم حكماً قطعياً بأن كل جزئيات هذا النوع لها هذا الوصف, وكما إذا برهنا مثلاً على أن مثلثاً معيناً تساوي زواياه قائمتين فإنا نجزم جزماً قاطعاً بإن كل مثلث هكذا, فيكفي فيه فحص جزئي واحد, وما ذلك إلا لأن الجزئيات متماثلة متشابهة في التكوين فوصف واحد منها يكون وصفاً للجميع بغير فرق.
وبعد هذا البيان لهذه الأقسام الأربعة يتضح أن ليس كل استقراء ناقص لا يفيد اليقين إلا إذا كان مبنياً على المشاهدة المجردة, ويسمى القسم الثاني وهو الاستقراء المبني على التعليل في المنطق الحديث (بطريق الاستنباط) أو طريق البحث العلمي وله أبحاث لا يسعها هذا الكتاب.
3ـ التمثيل
تعريفه:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
هذا ثالث أنواع الحجة وبه تنتهي مباحث (الباب الخامس). والتمثيل على ما عرفناه سابقاً هو >أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر لجهة مشتركة بينهما<. وبعبارة اخرى هو: >إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر مشابه له<.
و(التمثيل) هو المسمى في عرف الفقهاء (بالقياس) الذي يجعله اهل السنة من أدلة الأحكام الشرعية. والإمامية ينفون حجيته ويعتبرون العمل به محقاً للدين وتضييعاً للشريعة.
مثاله: إذا ثبت عندنا أن النبيذ يشابه الخمر في تاثير السكر على شاربه, وقد ثبت عندنا أن حكم الخمر هو الحرمة, فلنا أن نستنبط أن النبيذ أيضاً حرام أو على الأقل محتمل الحرمة للاشتراك بينهما في جهة الإسكار.
اركانه:
وللتمثيل أربعة أركان:
1. (الأصل) وهو الجزئي الأول المعلوم ثبوت الحكم له, كالخمر في المثال.
2. (الفرع) وهو الجزئي الثاني المطلوب إثبات الحكم له كالنبيذ في المثال.
3. (الجامع) وهو جهة الشبه بين الأصل والفرع. كالإسكار في المثال.
4. (الحكم) المعلوم ثبوته في الأصل والمراد إثباته للفرع, كالحرمة في المثال.
فإذا توفرت هذه الأركان انعقد التمثيل, فلو كان الأصل غير معلوم الحكم أو فاقداً للجامع المشترك لا يحصل التمثيل. وهذا واضح.
قيمته العلمية:
إن التمثيل على بساطته من الأدلة التي لا تفيد إلاّ الاحتمال. لأنه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر بل في عدة أمور أن يتشابها من جميع الوجوه, فإذا رأيت شخصاً مشابها لشخص آخر في طوله أو في ملامحه أو في بعض عاداته وكان أحداهما مجرماً قطعاً فإنه ليس لك أن تحكم على الآخر بأنه مجرم أيضاً, لمجرد المشابهة بينهما في بعض الصفات أو الأفعال.
نعم إذا قويت وجوه الشبه بين الأصل والفرع وكثرت يقوى عندك الاحتمال حتى يقرب من اليقين ويكون ظناً. والقيافة من هذا الباب, فإنا قد نحكم على شخص أنه صاحب أخلاق فاضلة أو شرير بمجرد أن نراه لأنا كنا قد عرفنا شخصاً قبله يشبهه كثيراً في ملامحه أو عاداته وكان ذا خلق فاضل أو شريراً... ولكن كل ذلك لا يغني عن الحق شيئاً.
غير أنه يمكن أن نعلم أن (الجامع) أي جهة المشابهة علة تامة لثبوت الحكم في الأصل, وحينئذ نستنبط على نحو اليقين أن الحكم ثابت في الفرع لوجود علته التامة فيه, لأنه يستحيل تخلف المعلول عن علته التامة. ولكن الشأن كله إنما هو في إثبات أان الجامع علة تامة للحكم. لأنه يحتاج إلى بحث وفحص ليس من السهل الحصول عليه حتى في الأمور الطبيعية. والتمثيل من هذه الجهة يلحق بقسم الاستقراء المبني على التعليل الذي أشرنا اليه سابقاً, بل هو نفسه.
أما اثبات أن الجامع هو العلة التامة لثبوت الحكم في المسائل الشرعية, فليس لنا طريق إليه إلا من ناحية الشارع نفسه, ولذا لو كانت العلة منصوصاً عليها من الشارع فإنه لا خلاف بين الفقهاء جميعاً في الاستدلال بذلك على ثبوت الحكم في الفرع, كقوله $: >ماء البئر واسع لا يفسده شيء... لأن له مادة<, فإنه يستنبط منه أن كل ماء له مادة كماء الحمّام وماء حنفية الإسالة فهو واسع لا يفسده شيء.
وفي الحقيقة أن التمثيل المعلوم فيه أن الجامع علة تامة يكون من باب القياس البرهاني المفيد لليقين, إذ يكون فيه الجامع حدا أوسط والفرع حداً أصغر والحكم حداً أكبر, فنقول في مثال الماء:
1. ماء الحمّام له مادة.
2. وكل ماء له مادة واسع لا يفسده شيء (بمقتضى التعليل في الحديث).
ينتج.. ماء الحمّام واسع لا يفسده شيء.
وبهذا يخرج عن اسم التمثيل واسم القياس باصطلاح الفقهاء الذي كان محل الخلاف عندهم.
تمرينات على الاقيسة
1 ـ استدل بعضهم على نفي الوجود الذهني بأنه لو كانت الماهيات موجودة في الذهن لكان الذهن حاراً بارداً بتصور الحرارة والبرودة ومستقيماً ومستديراً وهكذا واللازم باطل فالملزوم مثله. والمطلوب ان تنظم هذا الكلام قياساً منطقياً مع بيان نوعه.
2 ـ استدل بعضهم على أن الله تعالى عالم بأن فاقد الشيء لا يعطيه, وهو سبحانه قد خلق فينا العلم فهو عالم, فبين نوع هذا الاستدلال ونظمه.
3 ـ المروي أن العلماء ورثة الأنبياء ولكنهم لمّا لم يرثوا منهم المال والعقار فقد ورثوا العلم والأخلاق, فهل هذا استدلال منطقي؟ وبين نوعه.
4 ـ استدل بعضهم على ثبوت الوجود الذهني فقال: >لا شك في أنا نحكم حكماً إيجابياً على بعض الأشياء المستحيلة كحكمنا بأن اجتماع النقيضين يغاير اجتماع الضدين. والموجبة تستدعي وجود موضوعها ولما لم يكن هذا الوجود في الخارج فهو في الذهن< فكيف تنظم هذا الدليل على القواعد المنطقية مع بيان نوعه وأنه بسيط أو مركب. مع العلم أن قوله: >ولما لم يكن هذا الوجود ..الخ< عبارة عن قياس استثنائي.
5 ـ واستدلوا على لزوم وجود موضوع القضية الموجبة بأن ثبوت شيء لشيء يستدعى ثبوت المثبت له, فكيف تنظم هذا الكلام قياساً منطقياً.
6 ـ ضع القضايا الآتية في صورة قياس مع بيان نوعه وشكله >صاحب الحجة البرهانية لا يغلب< لأنه >كان على حق< و >كل صاحب حق لا يغلب<. وإذا كانت القضية الاولى شرطية على هذه الصورة: >إذا كانت الحجة برهانية فصاحبها لا يغلب< فكيف تؤلف المقدمات لتجعل هذه الشرطية نتيجة لها ومن أي نوع يكون القياس حينئذ.
7 ـ ضع القضايا الآتية في صورة قياس مع بيان نوعه: >إنما يخشى الله من عباده العلماء< ولكن >لما لم يخش خالد الله سبحانه فهو ليس من العلماء<.
8 ـ ما الشكل الذي ينتج جميع المحصورات الأربع.
9 ـ افحص عن السر في الشكل الثالث الذي يجعله لا ينتج إلا جزئية.
10ـ في أي شكل يجوز فيه أن تكون كبراه جزئية ويكون منتجاً.
11ـ اذا كانت إحدى المقدمتين في القياس جزئية فلماذا يجب أن تكون المقدمة الأخرى كلية.
12ـ إذا كانت الصغرى في القياس سالبة فهل يجوز أن تكون الكبرى جزئية ولماذا؟
13ـ كيف نحصل النتيجة من هذين المنفصلتين: >الإنسان إما عالم أو جاهل< حقيقية. و>الإنسان إما جاهل أو سعيد< مانعة خلو.
14ـ هل يمكن أن نؤلف من المنفصلتين الآتيتين قياساً منتجاً: >إما أن يسعى الطالب أو لا ينجح في الامتحان< مانعة خلو. و>الطالب إما أن يسعى أو يتهاون< مانعة جمع.
15ـ جاء سائل إلى شخص وألخ بالطلب كثيراً فاستنتج المسؤول من الحاحه أنه ليس بمستحق وهذا الاستنتاج بطريق قياس الاستثناء فكيف تستخرجه؟
16ـ ارجع البراهين في قاعدة نقض المحمول (من صفحة 186 الى 190 ) إلى قياسات منطقية طبقاً لما عرفته من القواعد في القياس البسيط والمركب.
17ـ حاول أن تطبق أيضاً البراهين في عكس النقيض على قواعد القياس.
18ـ البرهان على نقض محمول الموجبة الكلية (صفحة 186 ) يمكن إرجاعه إلى قياس المساواة وإلى قياس شرطي من متصلتين, فكيف ذلك؟ وكذلك نظائره.
انتهى الجزء الثاني
المنطق
بقلم
المغفور له المجتهد المجدد
الشيخ محمّد رضا المظفر
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpg
البابُ السادِس
الصّناعات الخمس
تمهيد:
تقدم أن للقياس مادة وصورة. والبحث عنه يقع من كلتا الجهتين. وما تقدم في (الباب الخامس) كان بحثاً عنه من جهة صورته, أي هيئة تأليفه, على وجه لو تألف القياس بحسب الشروط التي للهيئة وكانت مقدماته (أي مواده) مسلّمة صادقة كان منتجاً لا محالة, أي كانت نتيجته صادقة تبعاً لصدق مقدماتها. ومعنى ذلك أن القياس إذا احتفظ بشروط الهيئة فإن مقدماته لو فرض صدقها فإن صدقها يستلزم صدق النتيجة.
ولا يبحث هناك عماً إذا كانت المقدمات صادقة في أنفسها أم لا, بل إنما يبحث عن الشروط التي بموجبها يستلزم صدق النتيجة, على تقدير فرض صدق المقدمات.
وقد حل الآن الوفاء بما وعدناك به من البحث عن القياس من جهة مادته.
والمقصود من المادة مقدماته في أنفسها مع قطع النظر عن صحة تأليفها بعضها مع بعض. وهي تختلف من جهة الاعتقاد بها والتسليم بصدقها وعدمهما, وإن كانت صورة القياس واحدة لا تختلف: فقد تكون القضية التي تقع مقدمة مصدقاً بها وقد لا تكون. والمصدق بها قد تكون يقينية وقد تكون غير يقينية, على التفصيل الذي سيأتي.
وبحسب اختلاف المقدمات, وبحسب ما تؤدي إليه من نتائج, وبحسب أغراض تأليفها, ينقسم القياس الى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة.
والبحث عن هذه الاقسام الخمسة او استعمالها هي (الصناعات الخمس), فيقال مثلا: صناعة البرهان. صناعة الجدل... هكذا.
وقبل الدخول في بحثها واحدة واحدة تذكر من باب المقدمة انواع القضايا المستعملة في القياس واقسامها. او فقل حسب الاصطلاح العلمي (مبادئ الاقيسة). ثم نذكر بعد ذلك الصناعات في خمسة فصول:
المقدمة : في مبادئ الأقيسة
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
سبق أن قلنا في تصدير الباب الخامس: أنه لا يجب في كل قضية أن تطلب بدليل وحجة, بل لا بد من الانتهاء في الطلب إلى قضايا مستغنية عن البيان وإقامة الحجة.
والسّر في ذلك أن مواد الأقيسة سواء كانت يقينية أو غير يقينية إما أن تكون في حد نفسها مستغنية عن البيان وإقامة الحجة, بمعنى أنه ليس من شأنها أن تكون مطلوبة بحجة, وإما ان تكون محتاجة إلى البيان. ثم هذه الأخيرة المحتاجة لا بد أن ينتهي طلبها الى مقدمات مستغنية بنفسها عن البيان والا لزم التسلسل في الطلب الى غير النهاية. او نقول: انه يلزم من ذلك إلاّ ينتهي الإنسان الى علم أبداً, ويبقى في جهل إلى آخر الآباد. والوجدان يشهد على فساد ذلك.
وهاتيك المقدمات المستغنية عن البيان تسمّى (مبادئ المطالب) أو (مبادئ الأقيسة). وهي ثمانية أصناف: يقينيات, ومظنونات, ومشهورات, ووهميات, ومسلمات, ومقبولات, ومشبهات, ومخيلات. ونذكرها الان بالتفصيل:
1. اليقينات
تقدم في أول الجزء الأول أن لليقين معنيين: اليقين بالمعنى الأعم وهو مطلق الاعتقاد الجازم, واليقين بالمعنى الأخص وهو الاعتقاد المطابق للواقع الذي لا يحتمل النقيض لا عن تقليد.
والمقصود باليقين هنا هو هذا المعنى الأخير, فلا يشمل الجهل المركب ولا الظن ولا التقليد وإن كان معه جزم.
توضيح ذلك إن اليقين بالمعنى الأخص يتقوم من عنصرين: (الأول) إن ينضم إلى الاعتقاد بمضمون القضية اعتقاد ثانٍ ـ إما بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل ـ أن ذلك المعتقد به لا يمكن نقضه. وهذا الاعتقاد الثاني هو المقوم لكون الاعتقاد جازماً أي اليقين بالمعنى الأعم. و (الثاني) أن يكون هذا الاعتقاد الثاني لا يمكن زواله. وإنما يكون كذلك اذا كان مسبباً عن علته الخاصة الموجبة له فلا يمكن انفكاكه عنها. وبهذا يفترق عن التقليد لأنه ان كان معه اعتقاد ثان فان هذا الاعتقاد يمكن زواله لأنه ليس عن علة توجبه بنفسه, بل إنما هو من جهة التبعية للغير ثقة به وإيماناً بقوله فيمكن فرض زواله, فلا تكون مقارنة الاعتقاد الثاني للأول واجبة في نفس الأمر.
ولأجل اختلاف سبب الاعتقاد من كونه حاضراً لدى العقل أو غائباً يحتاج إلى الكسب.. تنقسم القضية اليقينية إلى بديهية, ونظرية كسبية تنتهي لا محالة إلى البديهيات, فالبديهيات ـ إذن ـ هي أصول اليقينيات, وهي على ستة أنواع بحكم الاستقراء: اوليات, ومشاهدات, وتجربيات, ومتواترات, وحدسيات, وفطريات
1ـ الأوليات:
وهي قضايا يصدّق بها العقل لذاتها, أي بدون سبب خارج عن ذاتها, بأن يكون تصور الطرفين مع توجه النفس الى النسبة بينهما() كافياً في الحكم والجزم بصدق القضية, فكلما وقع للعقل أن يتصور حدود القضية ـالطرفين ـ على حقيقتها وقع له التصديق بها فوراً عندما يكون متوجهاً لها. وهذا مثل قولنا >الكل أعظم من الجزء< و >النقيضان لا يجتمعان<.
وهذه (الأوليات) منها ما هو جلي عند الجميع إذ يكون تصور الحدود حاصلاً لهم جميعاً كالمثالين المتقدمين, ومنها ما هو خفي عند بعض لوقوع الالتباس في تصور الحدود, ومتى ما زال الالتباس بادر العقل إلى الاعتقاد الجازم.
ونحن ذاكرون هنا مثالاً دقيقاً على ذلك مستعينين بنباهة الطالب الذكي على إيضاحه. وهو قولهم >الوجود موجود< فإن بعض الباحثين اشتبه عليه معنى موجود, إذ يتصور أن معناه (أنه شيء له الوجود), فقال: لا يصح الحكم على الوجود بأنه موجود, وإلاّ لكان للوجود وجود آخر, وهذا الآخر أيضا موجود, فيلزم أن يكون له وجود ثالث ... وهكذا, فيتسلسل إلى غير النهاية. ولأجله أنكر هذا القائل أصالة الوجود وذهب إلى أصالة الماهية.
ولكن نقول: إن هذا الزعم ناشىء عن غفلة عن معنى (موجود) فإنه قد يتضح للفظ موجود معنى آخر واسع من الاول. وهو المعنى المشترك الذي يشمله ويشمل معنى ثانياً, وهو ما لا يكون الوجود زائداً عليه بل لكونه موجوداً هو بعينه كونه وجوداً, لا أن له وجوداً آخر, وذلك بأن يكون معنى موجود منتزعاً من صميم ذات الوجود لا بإضافة وجود آخر زائد عليه. فإنه يقال ـ مثلاً ـ : الإنسان موجود وهو صحيح, ولكن بإضافة الوجود إلى الإنسان, ويقال أيضاً: الوجود موجود. وهو صحيح أيضاً, ولكن بنفسه لا بإضافة وجود ثان إليه, وهو أحق بصدق الموجود عليه. كما يقال: الجسم أبيض بإضافة البياض إليه. ويقال: البياض أبيض, ولكنه بنفسه لا بياض آخر, وصدق الأبيض عليه أولى من صدقه على الجسم الذي صار أبيض بتوسط إضافة البياض إليه.
وعلى هذا يكون المشتق منتزعاً من نفس الذات المتصفة بدلاً من إضافة شيء خارج عنها إليها. فتكون كلمة أبيض (وكذلك كلمة موجود ونحوها) معناها أعم مما كان منتزعاً من اتصاف الذات بالمبدأ الخارج عنها ومما كان منتزعاً من نفس الذات التي هي نفس المبدأ.
فإذا زال الالتباس واتضح للعقل معنى كلمة (موجود) لا يتردد في صحة حملها على الوجود, بل يراه أولى في صدق الموجود عليه من غيره, كما لم يتردد في صحة حمل الأبيض على البياض. ولا تحتاج مثل هذه القضية وهي (الوجود موجود) إلى البرهان, بل هي من الأوليات, وإن بدت غير واضحة للعقل قبل تصور معنى موجود وصارت من أدق المباحث الفلسفية ويبتني عليها كثير من مسائل علم الفلسفة الدقيقة.
2ـ المشاهدات:
وتسمى أيضاً (المحسوسات), وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحس, ولا يكفي فيها تصور الطرفين مع النسبة, ولذا قيل: من فقد حساً فقد فقد علماً.
والحس على قسمين: (ظاهر) وهو خمسة أنواع البصر والسمع والذوق والشم واللمس. والقضايا المتيقنة بواسطته تسمى (حسيات) كالحكم بأن الشمس مضيئة وهذه النار حارة وهذه الثمرة حلوة وهذه الوردة طيبة الرائحة.. وهكذا. وحس (باطن), والقضايا المتيقنة بواسطته تسمى (وجدانيات), كالعلم بان لنا فكرة وخوفاً وألماً ولذة وجوعاً وعطشاً... ونحو ذلك.
3ـ التجربيات:
أو المجربات, وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في إحساسنا, فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب أن يرسخ في النفس حكم لا شك فيه, كالحكم بأن كل نار حارة, وأن الجسم يتمدد بالحرارة, ففي المثال الاخير عندما نجرب أنواع الجسم المختلفة من حديد ونحاس وحجر وغيرها مرات متعددة ونجدها تتمدد بالحرارة فإنا نجزم جزماَ باتاً بأن ارتفاع درجة حرارة الجسم من شأنها أن تؤثر التمدد في حجمه, كما أن هبوطها يؤثر التقلص فيه. وأكثر مسائل العلوم الطبيعية والكيمياء والطب من نوع المجربات.
وهذا الاستنتاج في التجربيات من نوع الاستقراء الناقص المبني على التعليل الذي قلنا عنه في الجزء الثاني أنه يفيد القطع بالحكم. وفي الحقيقة إن هذا الحكم القطعي يعتمد على قياسين خفيين: استثنائي واقتراني يستعملهما الإنسان في دخيلة نفسه وتفكيره من غير التفات غالباً.
والقياس الاستثنائي هكذا:
لو كان حصول هذا الأثر اتفاقيا لا لعلة توجبه لما حصل دائما. ولكنه قد حصل دائما (بالمشاهدة)
... حصول هذا الأثر ليس اتفاقياً بل لعلة توجبه.
والقياس الاقتراني هكذا:
الصغرى (نفس نتيجة القياس السابق) حصول هذا الأثر معلول لعلة الكبرى (بديهية أولية) كل معلول لعلة يمتنع تخلفه عنها
... (ينتج من الشكل الأول) هذا الأثر يمتنع تخلفه عن علته
وهاتان المقدمتان للاستثنائي بديهيتان, وكذا كبرى الاقتراني, فرجع الحكم في القضايا المجربات الى القضايا الأولية والمشاهدات في النهاية.
ثم لا يخفى أنا لا نعني من هذا الكلام أن كل تجربة تستلزم حكماً يقينياً مطابقاً للواقع, فإن كثيراً من أحكام سواد الناس المبنية على تجاربهم ينكشف خطأهم فيها, إذ يحسبون ما ليس بعلة علة, أو ما كان علة ناقصة علة تامة, أو ياخذون ما بالعرض مكان ما بالذات.
وسر خطأهم أن ملاحظتهم للأشياء في تجاربهم لا تكون دقيقة على وجه تكفي لصدق المقدمة الثانية للقياس الاستثنائي المتقدم, لأنه قد يكون حصول الأثر في الواقع ليس دائمياً فظن المجرب أنه دائمي اعتمادا على اتفاقات حسبها دائمية اما لجهل او غفلة او لقصور لصدق المقدمة الثانية للقياس الاستثنائي المتقدم, لأنه قد يكون حصول الاثر في الواقع ليس دائميا فظن المجرب أنه دائمي اعتماداً على اتفاقات حسبها دائمية إما لجهل أو غفلة أو لقصور إدراك او تسرع في الحكم, فأهمل جملة من الحوادث ولم يلاحظ فيها تخلف الاثر. وقد تكون ملاحظته للحوادث قاصرة بأن يلاحظ حوادث قليلة وجد حصول الاثر مع ما فرضه علة, وفي الحقيقة ان العلة شيء آخر اتفق حصوله في تلك الحوادث فلذا لم يتخلف الآثر فيها. ولو استمّر في التجربة وغيّر فيما يجربه لوجد غير ما اعتقده أولاً.
مثلاًـ قد يجرب الإنسان الخشب يطفو على الماء في عدة حوادث متكررة, فيعتقد أن ذلك خاصية في الخشب والماء, فيحكم خطأ أن كل خشب يطفو على الماء.
ولكنه لو جرّب بعض أنواع الخشب الثقيل الوزن لوجد أنه لا يطفو في الماء العذب, بل قد يرسب إلى القعر او إلى وسط الماء, فانه لا شك حينئذ يزول اعتقاده الاول.
ولو غيّر التجربة في عدة أجسام غير الخشب, ودقق في ملاحظته ووزن الأجسام والوسائل بدقة وقاس وزن بعضها ببعض, لحصل له حكم آخر بأن العلة في طفو الخشب على الماء أن الخشب أخف وزناً من الماء. وتحصل له قاعدة عامة هي أن الجسم الجامد يطفو على السائل إذا كان أخف وزناً منه, ويرسب إلى القعر إذا كان أثقل وزناً, وإلى وسطه اذا ساواه في الوزن فالحديد مثلاً يرسب في الماء, ويطفو في الزئبق لأنه أخف وزناً منه.
4ـ المتواترات:
وهي قضايا تسكن إليها النفس سكوناً يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع. وذلك بواسطة أخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ويمتنع اتفاق خطأهم في فهم الحادثة(), كعلمنا بوجود البلدان النائية التي لم نشاهدها وبنزول القرآن الكريم على النبي @ وبوجود بعض الأمم السالفة أو الأشخاص.
وبعض حصر عدد المخبرين لحصول التواتر في عدد معين. وهو خطأ, فإن المدار إنما هو حصول اليقين من الشهادات عندما يعلم امتناع التواطؤ على الكذب وامتناع خطأ الجميع. ولا يرتبط اليقين بعدد مخصوص من المخبرين تؤثر فيه الزيادة والنقصان.
5ـ الحدسيات:
وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس من النفس قوي جداً يزول معه الشك ويذعن الذهن بمضمونها, مثل حكمنا بأن القمر وزهرة وعطارد وسائر الكواكب السيارة مستفاد نورها من نور الشمس, وأن انعكاس شعاع نورها إلى الأرض يضاهي انعكاس الأشعة من المرآة إلى الأجسام التي تقابلها. ومنشأ هذا الحكم أو الحدس اختلاف تشكلها عند اختلاف نسبتها من الشمس قرباً وبعداً. وكحكمنا بأن الأرض على هيئة الكرة, وذلك لمشاهدة السفن ـ مثلاًـ في البحر أول ما يبدو منها اعاليها ثم تظهر بالتدريج كلما قربت من الشاطىء. وكحكم علماء الهيئة حديثاً بدوران السيارات حول الشمس وجاذبية الشمس لها لمشاهدة اختلاف أوضاع هذه السيارات بالنسبة إلى الشمس وإلينا, على وجه يثير الحدس بذلك.
والحدسيات جارية مجرى المجربات في الأمرين المذكورين, أعني تكرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي, فإنه يقال في القياس مثلاً: هذا المشاهد من الاختلاف في نور القمر لو كان بالاتفاق أو بأمر خارج سوى الشمس لما استمر على نمط واحد على طول الزمن. ولما كان على هذه الصورة من الاختلاف, فيحدس الذهن أن سببه انعكاس أشعة الشمس عليه.
وهذا القياس المقارن للحدس يختلف باختلاف العلل في ماهياتها باختلاف الموارد, وليس كذلك المجربات فان لها قياساً واحداً لا يختلف, لأن السبب فيها غير معلوم الماهية إلاّ من جهة كونه سبباً فقط. وهذه الجهة لا تختلف باختلاف الموارد.
وذلك لأن الفرق بين المجربات والحدسيات أن المجربات إنما يحكم فيها بوجود سبب ما وأن هذا السبب موجود في الشيء الذي تتفق له هذه الظاهرة دائماً من غير تعيين لماهية السبب. أما في الحدسيات فإنها بالإضافة إلى ذلك يحكم فيها بتعيين ماهية السبب أنه أي شيء هو. وفي الحقيقة إن الحدسيات مجربات مع إضافة, والإضافة هي الحدس بماهية السبب, ولذا ألحقوا الحدسيات بالمجربات. قال الشيخ العظيم خواجا نصير الدين الطوسي في شرح الإشارات: >إن السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية وفي الحدسيات معلوم بالوجهين<.
ومن مارس العلوم يحصل له من هذا الجنس على طريق الحدس قضايا كثيرة قد لا يمكنه إقامة البرهان عليها ولا يمكنه الشك فيها. كما لا يسعه أن يشرك غيره فيها بالتعليم والتلقين إلاّ أن يرشد الطالب إلى الطريق التي سلكها. فإن استطاع الطالب بنفسه سلوك الطريق قد يفضيه إلى الاعتقاد
ما لم يحصل للجاحد نفس الطريق الى الحدس.
وكذلك المجربات والمتواترات لا يمكن إثباتها بالمذاكرة والتلقين ما لم يحصل للطالب ما حصل للمجرب من التجربة وللمتيقن بالخبر من التواتر. ولهذا يختلف الناس في الحدسيات والمجربات والمتواترات وإن كانت كلها من أقسام البديهيات. وليس كذلك الأوليات فإن الناس في اليقين بها شرع سواء, وكذلك المحسوسات عند من كانوا صحيحي الحواس. ومثلها الفطريات الآتي ذكرها.
6ـ الفطريات:
وهي القضايا التي قياساتها معها, أي أن العقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات, بل لا بد لها من وسط, إلاّ أن هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتى يحتاج إلى طلب وفكر, فكلما أحضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه.
مثل حكمنا بأن الأثنين خمس العشرة, فإن هذا حكم بديهي إلا أنه معلوم, بوسط, لأن الأثنين عدد قد انقسمت العشرة إليه والى اربعة أقسام أخرى كل منها يساويه, وكل ما ينقسم عدد إليه وإلى أربعة أقسام أخرى كل منها يساويه فهو خمس ذلك العدد, فالاثنان خمس العشرة. ومثل هذا القياس حاضر في الذهن لا يحتاج إلى كسب ونظر. ومثل هذا القياس يجري في كل نسبة عدد إلى آخر, غير أن هذه النسب يختلف بعضها عن بعض في سرعة مبادرة الذهن إلى المطلوب وعدمها بسبب قلة الأعداد وزيادتها, أو بسبب عادة الأنسان على التفكر فيها وعدمه. فإنك ترى الفرق واضحاً في سرعة انتقال الذهن بين نسبة 2 إلى 4 وبين نسبة 13 إلى 26 , مع أن النسبة واحدة وهي النصف. أو بين نسبة 3 إلى 12 وبين نسبة 17 إلى 68 مع أن النسبة واحدة هي الربع...وهكذا.
تمرينات
1ـ بيّن أي قسم من البديهيات الست يشترك في معرفتها جميع الناس, وأي قسم منها يجوز أن يختلف في معرفتها الناس.
2ـ هل يضر في بداهة الشيء أن يجهله بعض الناس؟ ولماذا؟ (راجع بحث البديهي في الجزء الأول).
3ـ ارجع إلى ما ذكرناه في الجزء الأول من أسباب التوجه لمعرفة البديهي. وبيّن حاجة كل قسم من البديهيات الست إلى أي سبب منها. ضع ذلك في جدول.
4ـ عين كل مثال من الأمثلة الآتية أنه من أي الأقسام الستة وهي:
أـ ان لكل معلول علة.
ب ـ لا يتخلف المعلول عن العلة.
ج ـ يستحيل تقدم المعلول على العلة.
د ـ يستحيل تقدم الشيء على نفسه.
هـ ـ الضدان لا يجتمعان.
وـ الظرف أوسع من المظروف.
زـ الصلاة واجبة في الإسلام.
ح ـ السماء فوقنا والأرض تحتنا.
ط ـ إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
ي ـ الثلاثة لا تنقسم بمتساويين.
ياـ انتفاء الملزوم لا يلزم منه انتفاء اللازم لجواز كونه أعم.
يب ـ نقيضا المتساويين متساويان.
5ـ يقول المنطقيون إن إنتاج الشكل الأول بديهي فمن أي البديهيات هو؟
6ـ بنى علماء الرياضيات جميع براهينهم على مبادئ بسيطة يدركها العقل الأول وهلة يسمونها البديهيات نذكر بعضها, فبين أنها من أي أقسام البديهيات الست وهي:ـ
أـ إذا أضفنا أشياء متساوية إلى أخرى متساوية كانت النتائج متساوية.
ب ـ اذا طرحنا أشياء متساوية من أخرى متساوية كانت البواقي متساوية.
ج ـ المضاعفات الواحدة للاشياء المتساوية تكون متساوية, فإن كان شيئان متساويين كان ثلاثة أمثال أحدهما مساوياً لثلاثة أمثال الآخر.
دـ اذا انقسم كل من الأشياء المتساوية إلى عدد واحد من أجزاء متساوية كانت هذه الأجزاء في الجميع متساوية.
هـ ـ الأشياء التي يمكن أن ينطبق كل منها على الآخر انطباقاً تاماً فهي متساوية.
(راجع بحث البديهية المنطقية آخر الباب الرابع (في الجزء2) تجد توضيح بعض هذه البديهيات الرياضية).
2. المظنونات
مأخوذة من (الظن). والظن في اللغة أعم من اصطلاح المنطقيين هنا فإن المفهوم منه لغة حسب تتبع موارد استعماله هو الاعتقاد في غائب بحدس أو تخمين من دون مشاهدة أو دليل أو برهان, سواء كان اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع ولكن غير مستند إلى علته كالاعتقاد تقليداً للغير, أو كان اعتقاداً جازماً غير مطابق للواقع وهو الجهل المركب, أو كان اعتقاداً غير جازم بمعنى ما يرجح فيه أحد طرفي القضية النفي أو الإثبات مع تجويز الطرف الآخر. وهو يساوق الظن بالمعنى الأخص باصطلاح المنطقيين المقابل لليقين بالمعنى الأعم.
والظن المقصود به باصطلاح المناطقة هو المعنى الأخير فقط, وهو ترجيح أحد طرفي القضية النفي أو الإثبات مع تجويز الطرف الآخر. وهو الظن بالمعنى الأخص.
فالمظنونات ـ على هذا ـ هي قضايا يصدق بها اتباعاً لغالب الظن مع تجويز نقيضه, كما يقال مثلا: فلان يسارّ عدوي فهو يتكلم عليّ, أو فلان لا عمل له فهو سافل. أو فلان ناقص الخلقة في أحد جوارحه ففيه مركب النقص.
3ـ المشهورات
وتسمى (الذايعات) ايضا.
وهي قضايا اشتهرت بين الناس وذاع التصديق بها عند جميع العقلاء أو أكثرهم او طائفة خاصة. وهي على معنيين:
1ـ المشهورات بالمعنى الاعم, وهي التي تطابقت على الاعتقاد بها اراء العقلاء كافة, وان كان الذي يدعو الى الاعتقاد بها كونها اولية ضرورية في حدّ نفسها ولها واقع وراء تطابق الاراء عليها. فتشمل المشهورات بالمعنى الأخص الاتية وتشمل مثل الأوليات والفطريات التي هي من قسم اليقينيات البديهية.
وعلى هذا فقد تدخل القضية الواحدة مثل قولهم (الكلّ أعظم من الجزء) في اليقينيات من جهة, وفي المشهورات من جهة أخرى.
2ـ المشهورات بالمعنى الأخص او المشهورات الصرفة, وهي أحق بصدق وصف الشهرة عليها, لانها القضايا التي لا عمدة لها في التصديق إلا الشهرة وعموم الاعتراف بها, كحسن العدل وقبح الظلم, وكوجوب الذب عن الحرم واستهجان ايذاء الحيوان لا لغرض.
فلا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها, بل واقعها ذلك, فلو خلّي الانسان وعقله المجرد وحَّسه ووهمه ولم تحصل له اسباب الشهرة الاتية, فانه لا يحصل له حكم بهذه القضايا ولا يقضي عقله او حسّه او همه فيها بشيء. ولا ينافي ذلك أنه بنفسه يمدح العادل ويذم الظالم ولكن هذا غير الحكم بتطابق الآراء عليها. وليس كذلك حال حكمه بأن الكل أعظم من الجزء كما تقدم فانه لو خلّي ونفسه كان له هذا الحكم. وعلى هذا فيكون الفرق بين المشهورات واليقينيات مع أن كلا منها تفيد تصديقاً جازماً ـ أن المعتبر في اليقينيات كونها مطابقة لما عليه الواقع ونفس الأمر المعبر عنه بالحق واليقين, والمعتبر في المشهورات مطابقتها لتوافق الآراء عليها, اذ لا واقع لها غير ذلك. وسياتي ما يزيد هذا المعنى توضيحاً.
ولذلك ليس المقابل للمشهور هو الكاذب, بل الذي يقابله الشنيع وهو الذي ينكره الكافة أو الأكثر. ومقابل الكاذب هو الصادق.
اقسام المشهورات:
اعلم ان المشهورات قد تكون مطلقة وهي المشهورة عند الجميع, وقد تكون محدودة وهي المشهورة عند قوم كشهرة امتناع التسلسل عند المتكلمين().
وتنقسم أيضاً الى جملة اقسام بحسب اختلاف أسباب الشهرة. وهي حسب الاستقراء يمكن عدّ أكثرها كما يلي:
1ـ الواجبات القبول:
وهي ما كان السبب في شهرتها كونها حقاً جلياً, فيتطابق من اجل ذلك على الاعتراف بها جميع العقلاء كالاوليات والفطريات ونحوهما. وهي التي تسمى بالمشهورات بحسب المعنى الأعم كما تقدم, من جهة عموم الاعتراف بها.
2ـ التأديبات الصلاحية:
وتسمى المحمودات والآراء المحمودة. وهي ما تطابق عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامة للحكم بها باعتبار أن بها حفظ النظام وبقاء النوع, كقضية حسن العدل وقبح الظلم. ومعنى حسن العدل أن فاعله ممدوح لدى العقلاء, ومعنى قبح الظلم أن فاعله مذموم لديهم. وهذا يحتاج الى التوضيح والبيان, فنقول:
إن الانسان إذا أحس اليه أحد بفعل يلائم مصلحته الشخصية فانه يثير في نفسه الرضا عنه, فيدعوه ذلك الى جزائه, واقل مراتبه المدح على فعله. واذا أساء اليه أحد بفعل لا يلائم مصلحته الشخصية فانه يثير في نفسه السخط عليه, فيدعوه ذلك الى التشفي منه والانتقام, واقل مراتبه ذمّه على فعله. وكذلك الانسان يصنع إذا أحسن أحد بفعل يلائم المصلحة العامة من حفظ النظام الاجتماعي وبقاء النوع الانساني, فانه يدعوه ذلك الى جزائه وعلى الأقل يمدحه ويثني عليه, وان لم يكن ذلك الفعل يعود بالنفع لشخص المادح, وانما ذلك الجزاء لغاية حصول تلك المصلحة العامة التي تناله بوجه. وإذا أساء أحد بفعل لا يلائم المصلحة العامة ويخلّ بالنظام وبقاء النوع, فإن ذلك يدعوه الى جزائه بذمه على الأقل, وان لم يكن يعود ذلك الفعل بالضرر على شخص الذام, وانما ذلك لغرض دفع المفسدة العامة التي يناله ضررها بوجه.
وكل عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذم لغرض تحصيل تلك الغاية العامة. وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذم لأجل تحصيل المصلحة العامة تسمى (الاراء المحمودة) والتأديبات الصلاحية. وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء. وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعاً بما في ذلك من مصلحة عامة.
وهذا هو معنى التحسين والتقبيح العقليين اللذين وقع الخلاف في اثباتهما بين الاشاعرة والعدلية, فنفتهما الفرقة الاولى واثبتتهما الثانية. فإذ يقول العدلية بالحسن القبح العقليين يريدون ان الحسن والقبح من الاراء المحمودة والقضايا المشهورة التي تطابقت عليها الاراء لما فيها من التاديبات الصلاحية, وليس لها واقع وراء تطابق الاراء().
والمراد من (العقل) اذ يقولون ان العقل يحكم بحسن الشيء او قبحه هو (العقل العملي) ويقابله (العقل النظري). والتفاوت بينهما انما هو بتفاوت المدركات, فان كان المدرك مما ينبغي ان يعلم مثل قولهم (الكل اعظم من الجزء) الذي لا علاقة له بالعمل, يسمى ادراكه (عقلا نظريا). وان كان المدرك مما ينبغي ان يفعل ويؤتى به اولا يفعل مثل حسن العدل وقبح الظلم, يسمى ادراكه (عقلا عمليا).
ومن هذا التقرير يظهر كيف اشتبه الامر على من نفى الحسن والقبح في استدلالهم على ذلك, بأنه لو كان الحسن والقبح عقليين لما وقع التفاوت بين هذا الحكم وحكم العقل بان الكل اعظم من الجزء, لان العلوم الضرورية لا تتفاوت. ولكن لا شك بوقوع التفاوت بين الحكمين عند العقل.
وقد غفلوا في استدلالهم اذ قاسوا قضية الحسن والقبح على مثل قضية الكل اعظم من الجزء. وكانهم ظنوا أن كل ما حكم به العقل فهو من الضروريات, مع ان قضية الحسن والقبح من المشهورات بالمعنى الاخص ومن قسم المحمودات خاصة, والحاكم بها هو العقل العملي. وقضية الكل اعظم من الجزء من الضروريات الاولية والحاكم بها هو العقل النظري. وقد تقدم الفرق بين العقلين كما تقدم الفرق بين المشهورات والضروريات. فكان قياسهم قياسا مع الفارق العظيم, والتفاوت واقع بينهما لا محالة, ولا يضر هذا في كون الحسن والقبح عقليين, فانه اختلط عليهم معنى العقل الحاكم في مثل هذه القضايا, فظنوه شيئاً واحداً, كما لم يفرقوا بين المشهورات واليقينيات فحسبوهما شيئاً واحداً, مع أنهما قسمان متقابلان.
3ـ الخلقيات:
وتسمى الاراء المحمودة أيضاً وهي ـ حسب تعريف المنطقيين ـ ما تطابق عليها اراء العقلاء من اجل قضاء الخلق الانساني بذلك؛ كالحكم بوجوب محافظة الحرم أو الوطن, وكالحكم بحسن الشجاعة والكرم وقبح الجبن والبخل.
والخلق ملكة في النفس تحصل من تكرر الافعال الصادرة من المرء على وجه يبلغ درجة يحصل منه الفعل بسهولة, كالكرم فانه لا يكون خلقا للانسان الا بعد أن يتكرر منه فعل العطاء بغير بدل حتى يحصل منه الفعل بسهولة من غير تكلف.
(أقول): هكذا عرفوا الخلقيات والخلق. فجعلوا السبب في حصول الشهرة فيها هو الخلق بهذا المعنى باعتباره داعيا للعقل العملي الى ادراك أن هذا مما ينبغي فعله أو مما ينبغي تركه. ولكنا ـ اذا وقفنا ـ نجد أن الاخلاق الفاضلة غير عامة عند الجمهور, بل القليل منهم من يتحلى بها, مع أنه لا ينكر أن الخلقيات مشهورة يحكم بها حتى من لم يرزق الخلق الفاضل, فان الجبان يرى حسن الشجاعة ويمدح صاحبها ويتمناها لنفسه اذا رجع الى نفسه وأصغى اليها, ولكنه يجبن في موضع الحاجة الى الشجاعة, وكذلك البخيل والمتكبر والكاذب. ولو كان الخلق بذلك المعنى هو السبب للحكم فيها لحكم الجبان بحسن الجبن وقبح الشجاعة, والبخيل بقبح الكرم وحسن الامساك, والكذاب بقبح الصدق وحسن الكذب....وهكذا. والصحيح في هذا الباب أن يقال: إن الله تعالى خلق في قلب الانسان حساً وجعله حجة عليه يدرك به محاسن الافعال ومقابحها, وذلك الحس هو (الضمير) بمصطلح علم الاخلاق الحديث, وقد يسمى بالقلب أو العقل العملي او العقل المستقيم أو الحس السليم عند قدماء الاخلاق. وتشير اليه كتب الاخلاق عندهم.
فهذا الحس في القلب أو الضمير هو صوت الله المدوي في دخيلة نفوسنا يخاطبها به ويحاسبها عليه. ونحن نجده كيف يؤنب مرتكب الرذيلة ويقّر عين فاعل الفضيلة. وهو موجود في قلب كل انسان, وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند استجوابها عن الافعال, فهي تشترك جميعا في التمييز بين الفضيلة والرذيلة, وان اختلفت في قوة هذا التمييز وضعفه, كسائر قوى النفس اذ تتفاوت في الافراد قوة وضعفا.
ولاجل هذا كانت (الخلقيات) من المشهورات, وان كانت الاخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر, بل هي من خاصة الخاصة.
نعم الاصغاء الى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على كل انسان الا بالانقطاع الى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته واهوائه. كما أن الخلق عامة لا يحصل له وان كان له ذلك الاصغاء الا بتكرر العمل واتخاذه عادة حتى تتكوّن عنده ملكة الخلق التي يسهل معها الفعل. وبالاخص الخلق الفاضل, فان افعاله التي تحققه تحتاج الى مشقة وجهاد ورياضة, لانها دائما في حرب مع الشهوات والرغبات. وليس الظفر الا بعد الحرب.
4ـ الانفعاليات:
وهي التي يقبلها الجمهور بسبب انفعال نفساني عام, كالرقة والرحمة والشفقة والحياة والانفة والحمية والغيرة, ونحو ذلك من الانفعالات التي لا يخلو منها انسان غالباً.
فترى الجمهور يحكم ـ مثلاً ـ بقبح تعذيب الحيوان لا لفائدة, وذلك اتباعا لما في الغريزة من الرقة والرحمة. بل الجمهور بغريزته يحكم بقبح تعذيب ذي الروح مطلقا وان كان لفائدة لو لا أن تصرف عنه الشرايع والعادات.
والجمهور يمدح من يعين الضعفاء والمرضى ويعني برعاية الايتام والمجانين لانه مقتضى الرحمة والشفقة, كما يحكم بقبح كشف العورة لانه مقتضى الحياء, ويمدح المدافع عن الاهل والعشيرة أو الوطن والامة لانه مقتضى الحمية والغيرة.. الى غير ذلك من الاحكام العامة عند الناس.
5ـ العاديات:
وهي التي يقبلها الجمهور بسبب جريان العادة عندهم, كاعتيادهم احترام القادم بالقيام, والضيف بالضيافة, والرجل الديني أو الملك بتقبيل يده, فيحكمون لاجل ذلك بوجوب هذه الاشياء لمن يستحقها.
والعادات العامة كثيرة. وقد تكون عادة لاهل بلد فقط أو قطر أو أمة أو جميع الناس, فتختلف لاجلها القضايا التي يحكم بها حسب العادة, فتكون مشهورة عند أهل بلد أو قطر أو أمة غير مشهورة عند غيرهم, بل يكون المشهور ضدها.
والناس يمدحون المحافظ على العادات, ويذمون المخالف المستهين بها. سواء كانت العادات سيئة أو حسنة, فنراهم يذمون من يرسل لحيته اذا كانوا اعتادوا حلقها, ويذمون الحليق لانهم اعتادوا ارسالها. ونراهم يذمون من يلبس غير المالوف لمجرد انهم لم يعتادوا لبسه.
ومن أجل ذلك نرى الشارع حَّرم (لباس الشهرة), والظاهر ان سر التحريم أن لباس الشهرة يدعو الى اشمئزاز الجمهور من اللابس وذمهم له. واهم أغراض الشارع الالفة بين الناس وتقاربهم واجتماع كلمتهم. وورد عنه (رحم الله امرأ جبّ الغيبة عن نفسه).
كما ورد في الشريعة الاسلامية المطهرة ان منافيات المّروة مضرة في العدالة كالاكل حال المشي في الطريق العام أو السوق والجلوس في الاماكن العامة كالمقاهي لشخص ليس من عادة صنفه ذلك. وما منافيات المروة الا منافيات العادة المالوفة.
6ـ الاستقرائيات:
وهي التي يقبلها الجمهور بسبب استقرائهم التام أو الناقص, كحكمهم بان تكرار الفعل الواحد ممل, وان الملك الفقير لا بد أن يكون ظالما, الى كثير من امثال ذلك من القضايا الاجتماعية والاخلاقية ونحوها.
وكثيراً ما يكفي عوام الناس وجمهورهم بوجود مثال واحد أو أكثر للقضية, فتشتهر بينهم عندما لم يقفوا على نقض ظاهر لها, كتشاؤم الاوربيين من رقم (13) لان واحدا منهم أو أكثر اتفق له ان نكب عندما كان له هذا الرقم, وكتشاؤم العرب من نعاب الغراب وصيحة البومة كذلك. ومثل هذا كثير عند الناس.
4ـ الوهميات
والمقصود بها القضايا الوهمية الصرفة. وهي قضايا كاذبة الا أن الوهم يقضي بها قضاء شديد القوة, فلا يقبل ضدها وما يقابلهاحتى مع قيام البرهان على خلافها.
فان العقل يؤمن بنتيجة البرهان ولكن الوهم يعاند ولا يزال يتمثل ما قام البرهان على خلافه كما ألفه, ممتنعا من قبول خلافه.
ولذا تعد الوهميات من المعتقدات:
الا ترى أن وهم الاكثر يستوحش من الظلام ويخاف منه, مع ان العقل لا يجد فرقا في المكان بين ان يكون مظلما أو منيراً, فان المكان هو المكان في الحالين, وليس للظلمة تأثير فيه يوجب الضرر أو الهلاك. ويخاف أيضاً من الميت وهو جماد لا يتحرك ولا يضر لا ينفع, ولو عادت اليه الحياة ـ فرضا ـ فهو انسان مثله كما كان حيا, وقد يكون من أحب الناس اليه.
ومع توجه النفس الى هذه البديهية العقلية ينكرها الوهم ويعاند, فيستولي على النفس فقد تضطرب من الظلمة ومن الميت, لان البديهة الوهمية أقوى تاثيراً على النفس من البرهان.
ولاجل ان يتضح لك هذا الامر جرب نفسك واسأل اصدقاءك: كيف يتمثل لاحدكم في وهمه دورة شهور السنة؟ تامل ما أريد ان أقول لك. فان الانسان ـ على الاكثر ـ لا بد أن يتوهم دورة شهور السنة أو ايامها بشكل محسوس من الاشكال الهندسية (تأمل في نفسك جيداً) انه لا بد ان نتوهم هذه الدورة على شكل دائرة منتظمة, أو غير منتظمة, أو مضرساً بعدد الشهور, أو شكلاً مضلعاً متساوي الاضلاع أو غير منتظم في اضلاع اربعة أو اكثر أو اقل. مع ان السنة ودورة ايامها وشهورها من المعاني المجردة غير المحسوسة, وهذا واضح للعقل, غير ان الوهم اذا خطرت له السنة تمثلها في شكل هندسي وهمي يخترعه في ايام طفولته من حيث لا يشعر, ويبقى وهمه معاندا مصراً على هذا التمثل الكاذب. ولعلم الانسان بكذب هذا الوهم وسخافته قد يخجل من ذكره لغيره ولكنه لا ينفك عنه في سره. وإنما أذكر هذا المثال لانه يسير لا خطر في ذكره وهو يؤدي الغرض من ذكره.
والسر في ذلك أن الوهم تابع منقاذ للحس ومكبل به, فما لا يقبله الحس لا يقبله الوهم الا لابسا ثوب المحسوس, وان كانت له قابلية ادراك المجردات عن الحس كقابليته لادراك المحسوسات.
فاذا كانت احكام الوهم جارية في نفس المحسوسات فان العقل يصدقه فيها فيتطابقان في الحكم, كما في الاحكام الهندسية, ومثل ما اذا حكم الوهم بأن هذين الجسمين لا يحلان في مكان واحد بوقت واحد, فإن العقل أيضاً يساعده فيه لحكمه بأن كل جسمين مطلقاً كذلك, فيتطابقان.
وإذا كانت احكامه في غير المحسوسات, وهي التي نسميها بالقضايا الوهمية الصرفة, فلا بد أن تكون كاذبة لاصرار الوهم على تمثيلها على نهج المحسوسات.
وهي بحسب ضرورة العقل ليست منها, كما سبق في الامثلة المتقدمة, فان العقل هو الذي ينزع عنها ثوب الحس الذي اضفاه عليها الوهم.
ومن امثلة ذلك حكم الوهم بأن كل موجود لا بد ان يكون مشاراً اليه وله وضع وحيز. ولا يمكنه ان يتمثله الا كذلك, حتى انه يتمثل الله تعالى في مكان مرتفع علينا, وربما كانت له هيئة انسان مثلا. ويعجز أيضاً عن تمثيل القبلية والبعدية غير الزمانية, ويعجز عن تمثيل اللا نهاية, فلا يتمثل عنده كيف أنه تعالى كان وليس معه شيء حتى الزمان, وأنه سرمدي لا أول لوجوده ولا آخر. وان كان العقل ـ حسبما يسوق اليه البرهان ـ يستطيع ان يؤمن بذلك ويصدق به تصديقا لا يتمثل في النفس, لان الوهم له السيطرة والاستيلاء عليها من هذه الجهة.
فإن كان الوهم مسيطراً على النفس على وجه لا يدع له مجالا للتصديق بوجود مجرد عن الزمان والمكان, فان العقل عندما يمنعها من تجسيمه وتمثيله كالمحسوس تهرب النفس من حكم العقل وتلتجىء إلى أن تنكر وجوده رأساً شأن الملحدين.
ومن أجل هذا كان الناس ـ لغلبة الوهم على نفوسهم ـ بين مجسم وملحد. وقلَّ من يتنور بنور العقل ويجرد نفسه عن غلبة اوهامها, فيسمو بها الى ادراك ما لا يناله الوهم. ولذا قال تعالى في كتابه المجيد: }وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين{ فنفى الايمان عن أكثر الناس. ثم هؤلاء المؤمنون القليلون قال عنهم: }وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون{ يعني أنهم في حين ايمانهم هم مشركون. وما ذلك الا لانهم لغلبة الوهم انما يعبدون الاصنام التي ينحتونها باوهامهم, والا كيف يجتمع الايمان والشرك في آن واحد اذا اريد بالشرك من الاية معناه المعروف وهو العبادة للاصنام الظاهرية.
والخلاصة, ان القضايا الوهمية الصرفة التي نسميها (الوهميات) هي عبارة عن احكام الوهم في المعاني المجردة عن الحس. وهي قضايا كاذبة لا ظل لها من الحقيقة, ولكن بديهة الوهم لا تقبل سواها. ولذلك يستخدمها المغالط في اقيسته, كما سياتي في (صناعة المغالطة). الا ان العقل السليم من تأثير الوهم يتجرد عنه ولا يخضع لحكمه, فيكشف كذب احكامه للنفس.
5ـ المسلمات
وهي قضايا حصل التسالم بينك وبين غيرك على التسليم بأنها صادقة, سواء كانت صادقة في نفس الامر, أو كاذبة كذلك, أو مشكوكة.
والطرف الآخر ان كان خصما فإن استعمال المسلمات في القياس معه يراد به افحامه. وان مسترشدا فإنه يراد به ارشاده واقناعه ليحصل له الاعتقاد بالحق بأقرب طريق عندما لا يكون مستعداً لتلقي البرهان وفهمه.
ثم ان المسلمات اما (عامة) سواء كان التسليم بها من الجمهور عندما تكون من المشهورات او كان التسليم بها من طائفة خاصة كأهل دين او ملة او علم خاص.
وخصوص هذه المسلمات في علم خاص تسمى (الاصول الموضوعة) لذلك العلم, عندما يكون التسليم بها عن مسامحة على سبيل حسن الظن من المتعلم بالمعلم. وهذه الاصول الموضوعة هي مبادئ ذلك العلم التي تبتني عليها براهينه وان كان قد يبرهن عليها في علم آخر, واما اذا كان التسليم بها من المتعلم من باب المجاراة مع الاستنكار والتشكيك بها كما يقع ذلك في المجادلات فتسمى حينئذ بـ (المصادرات).
واما (خاصة) اذا كان التسليم بها من شخص معين وهو طرفك الآخر في مقام الجدل والمخاصمة, كالقضية التي تؤخذ من اعترافات الخصم, ليبتني عليها الاستدلال في ابطال مذهبه أو دفعه.
6ـ المقبولات
وهي قضايا مأخوذة ممن يوثق بصدقه تقليداً, اما لأمر سماوي كالشرايع والسنن المأخوذة عن النبي والامام المعصوم, واما لمزيد عقله وخبرته كالمأخوذات من الحكماء وافاضل السلف والعلماء الفنيين من آراء في الطب أو الاجتماع أو الاخلاق أو نحوها, وكأبيات تورد شواهد لشاعر معروف, وكالامثال السائرة التي تكون مقبولة عند الناس وان لم تؤخذ من شخص معين, وكالقضايا الفقهية الماخوذة تقليدا عن المجتهد.
ان هذه القضايا وامثالها هي من أقسام المعتقدات. والاعتقاد بها أما على سبيل القطع أو الظن الغالب, ولكن ـ على كل حال ـ منشأ الاعتقاد بها هو التقليد للغير الموثوق بقوله كما قدمنا. وبهذا تفترق عن اليقينيات والمظنونات.
وقد تكون قضية واحدة يقينية عند شخص ومقبولة عند شخص آخر باعتبارين, كما قد تكون من المشبهات أو المسلمات باعتبار ثالث أو رابع...وهكذا.
7ـ المشبهات
وهي قضايا كاذبة يعتقد بها, لأنها تشبه اليقينيات او المشهورات في الظاهر, فيغالط فيها المستدل غيره لقصور تمييز ذلك الغير بين ما هو هو وبين ما هو غيره, او لقصور نفس المستدل, او لغير ذلك.
والمشابهة اما من ناحية لفظية مثل ما لو كان اللفظ مشتركاً أو مجازاً فاشتبه الحال فيه, واما من ناحية معنوية مثل ما لو وضع ما ليس بعلة علة ونحو ذلك. وتفصيل اسباب الاشتباه يأتي في (صناعة المغالطة), لان مادة المغالطة هي المشبهات والوهميات. وأهمها المشبهات.
8 ـ المخيلات
وهي قضايا ليس من شأنها ان توجب تصديقا, الا انها توقع في النفس تخييلات تؤدي الى انفعالات نفسية, من انبساط في النفس او انقباض, ومن استهانة بالامر الخطير او تهويل او تعظيم للشيء اليسير, ومن سرور وانشراح او حزن وتالم, ومن شجاعة واقدام او جبن واحجام.
وتاثير هذه القضايا (التي هي مواد مواد صناعة الشعر كما سيأتي) في النفس ناشئ من تصوير المعنى بالتعبير تصويرا خياليا خلاباً وان كان لا واقع له.
وكلما استعملت المجازات والتشبيهات والاستعارات وأنواع البديع في مثل هذه القضايا كانت أكثر تاثيرا في النفس, لان هذه المزايا تضفي على الالفاظ والمعاني جمالا يستهوي المشاعر ويثير التخيلات. واذا أنضم اليها الوزن والقافية او التسجيع والازدواج زاد تأثيرها. ثم يتضاعف الاثر اذا كان الصوت المؤدي لها رقيقا ومشتملا على نغمة موسيقية مناسبة للوزن ونوع التخييل.
كل ذلك يدل على ان المخيلات ليس تاثيرها في النفس لاجل كونها تتضمن حقيقة يصدق بها, بل حتى لو علم كذبها فان لها ذلك التاثير المنتظر منها. وما ذلك الا لان التصوير فيها للمعنى مع ما ينضم اليه من مساعدات هو الذي يستهوي النفس ويؤثر فيها. وسياتي تفصيل ذلك في صناعة الشعر.
وبهذا ينتهي ما اردناه من الكلام على مواد الاقيسة في هذه المقدمة. ولا بد قبل الدخول في الصناعات الخمس من بيان الحصر فيها وبيان فائدتها على الاجمال؛
فنقول:
أقسام الاقيسة بحسب المادة
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تقدم في التمهيد لهذا الباب أن القياس بحسب اختلاف المقدمات من حيث المادة وبحسب ما تؤدي اليه من نتائج وبحسب اغراض تأليفها, ينقسم الى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة.
بيان ذلك: إن القياس ـ بحسب اختلاف المقدمات من جهة كونها يقينية أو غير يقينية ـ اما ان يفيد تصديقاً واما تاثيراً آخر غير التصديق من التخيل والعجب ونحوهما. ثم (الأول) اما ان يفيد تصديقا جازما لا يقبل احتمال الخلاف أو تصديقا غير جازم يجوز فيه الخلاف أي (ظنيا). ثم ما يفيد تصديقا جازما اما أن يعتبر فيه ان يكون تأليفه لغرض ان ينتج حقا أم لا. ثم ما يعتبر فيه انتاج الحق اما ان تكون النتيجة حقا واقعا ام لا.
فهذه خمسة أنواع:
1ـ ما يفيد تصديقا جازما وكان المطلوب حقا واقعا, وهو (البرهان) والغرض منه معرفة الحق من جهة ما هو حق واقعا.
2ـ ما يفيد تصديقا جازما, وقد اعتبر فيه ان يكون المطلوب حقا ولكنه ليس بحق واقعا. وهو (المغالطة).
3ـ ما يفيد تصديقا جازما ولكن لم يعتبر فيه أن يكون المطلوب حقا, بل المعتبر فيه عموم الاعتراف أو التسليم, وهو (الجدل). والغرض منه افحام الخصم والزامه.
4ـ ما يفيد تصديقا غير جازم. وهو (الخطابة) والغرض منه اقناع الجمهور.
5ـ ما يفيد غير التصديق من التخيل والتعجب ونحوهما وهو (الشعر) والغرض منه حصول الانفعالات النفسية.
ثم ان البحث عن كل واحد من هذه الصناعات الخمس أو القدرة على استعمالها عند الحاجة يسمى (صناعة), فيقال: صناعة البرهان وصناعة المغالطة...الخ.
والصناعة اصطلاحا ملكة نفسانية وقدرة مكتسبة يقتدر بها على استعمال أمور لغرض من الاغراض, صادرا ذلك الاستعمال عن بصيرة بحسب الامكان, كصناعة الطب والتجارة والحياكة مثلا. ولذا من يغلط في اقيسته لا عن بصيرة ومعرفة بموقع الغلط لا يقال ان عنده صناعة المغالطة, بل من عنده الصناعة هو الذي يعرف أنواع المغالطات ويميز بين القياس الصحيح من غيره ويغالط في اقيسته عن عمد وبصيرة.
والصناعة على قسمين علمية وعملية, وهذه الصناعات الخمس من الصناعات العلمية النافعة, وسيأتي في البحث الآتي بيان فائدتها.
الخلاصة:
القياس
فائدة الصناعات الخمس على الاجمال:
اما منافع هذه الصناعات الخمس والحاجة اليها, فان صناعتي البرهان والمغالطة تختص فائدتهما على الاكثر بمن يتعاطى العلوم النظرية ومعرفة الحقائق الكونية, ولكن منفعة صناعة البرهان له فبالذات كمعرفة الاغذية في نفعها لصحة الانسان, ومنفعة صناعة المغالطة له فبالعرض كمعرفة السموم في نفعها للاحتراز عنها.
واما الثلاث الباقية, فان فائدتها عامة للبشر وتدخل في أكثر المصالح المدنية والاجتماعية. وأكثر ما تظهر فائدة صناعة الجدل لاهل الاديان وعلماء الفقة وأهل المذاهب السياسية لحاجتهم الى المناظرة والنقاش.
وأكثر ما تظهر فائدة صناعتي الخطابة والشعر للسياسيين وقواد الحروب ودعاة الاصلاح لحاجتهم الى اقناع الجمهور ورضاهم وبعث الهمم فيهم وتحريض الجنود والاتباع على الاقدام والتضحية. بل كل رئيس وصاحب دعوة حقة أو باطلة لا يستغني عن استعمال هذه الصناعات الثلاث للتأثير على أتباعه ومريديه ولتكثير أنصاره.
ومن العجب اهمال اكثر المؤلفين في المنطق بحث هذه الصناعات, تفريطا بغير وجه مقبول, الا اولئك الذين ألفوا المنطق مقدمة للفلسفة, فان من حقهم ان يقتصروا على مباحث البرهان والمغالطة, كما صنع صاحب الاشارات والحاج هادي السبزواري في منظومته, اذ لا حاجة لهم في باقي الصناعات.
وأهم ما يحتاج اليه منها ثلاث: البرهان والجدل والخطابة. وقد ورد في القران الكريم الترغيب في استعمال الاساليب الثلاثة في الدعوة الالهية وذلك قوله تعالى: }وادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن{, فان الحكمة هي البرهان, والموعظة الحسنة من صناعة الخطابة, ومن آداب الجدل أن يكون بالتي هي أحسن.
هذا كل ما أردنا ذكره في المقدمة. وقد آن الشروع في بحث هذه الصناعات في خمسة فصول. وعلى الله التكلان.
الفصل الاول
صناعة البرهان
ـ 1ـ
حقيقة البرهان
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ان العلوم الحقيقية التي لا يراد بها الا الحق الصراح لا سبيل لها الا سبيل البرهان, لانه هو وحده ـ من بين انواع القياس الخمسة ـ يصيب الحق ويستلزم اليقين بالواقع. والغرض منه معرفة الحق من جهة ما هو حق, سواء كان سعي الانسان للحق لاجل نفسه ليناجيها به وليعمر عقله بالمعرفة, أو لغيره لتعليمه وارشاده الى الحق.
ولذلك يجب على طالب الحقيقة الا يتبع الا البرهان, وان استلزم قولا لم يقل به احد قبله.
وقد عرفوه بأنه: >قياس مؤلف من يقينيات ينتج يقينا بالذات اضطرارا< وهو نعم التعريف سهل واضح مختصر.
ومن الواضح أن كل حجة لا بد ان تتألف من مقدمتين, والمقدمتان قد تكونان من القضايا الواجبة القبول, وهي اليقينيات التي مرَّ ذكرها, وقد لا تكونان منها, بل تكون واحدة منهما أو كلتاهما من أنواع القضايا الأخرى السبع التي تقدم شرحها في مقدمة هذا الباب.
ثم المقدمة اليقينية اما أن تكون في نفسها بديهية من احدى البديهيات الست المتقدمة, واما ان تكون نظرية تنتهي الى البديهيات.
فاذا تألفت الحجة من مقدمتين يقينيتين سميت (برهانا). ولا بدَّ أن ينتجا قضية يقينية لذات القياس المؤلف منهما اضطرارا, عندما يكون تأليف القياس في صورته يقينيا أيضا, كما كان في مادته, فيستحيل حينئذ تخلف النتيجة لاستحالة تخلف المعلول عن علته, فيعلم بها اضطرارا لذات المقدمتين, بما لهما من هيئة التأليف على صورة قياس صحيح.
وهذا معنى أن نتيجة البرهان ضرورية. ويعنون بالضرورة هنا معنى آخر غير معنى (الضرورة) في الموجهات, على ما سيأتي.
والخلاصة ان البرهان يقيني واجب القبول مادة وصورة, وغايته ان ينتج اليقين الواجب القبول, أي اليقين بالمعنى الاخص.
ـ 2 ـ
البرهان قياس
ذكرنا في تعريف البرهان بانه (قياس), وعليه فلا يسمى الاستقراء ولا التمثيل برهانا. وعلل بعضهم ذلك بأن الاستقراء والتمثيل لا يفيدان اليقين, ويجب في البرهان أن يفيد اليقين.
والحق ان الاستقراء قد يفيد اليقين, وكذلك التمثيل على ما تقدم في بابهما في الجزء الثاني, بل تقدم ان أساس أكثر كبريات الاقيسة هو الاستقراء المعلل, ومع ذلك لا يسمى الاستقراء ولا التمثيل برهانا. والسر في ذلك ان الاستقراء المفيد لليقين وكذا التمثيل انما يفيد اليقين حيث يعتمد على القياس, كما شرحناه في التجريبات. وأشرنا في الجزء الثاني ص 295 الى أن الاستقراء التام يرجع الى القياس المقسم فراجع. اما الاستقراء الناقص المبني على المشاهدة فقط فانه لا يفيد اليقين لانه لا يرجع الى القياس ولا يعتمد عليه. فاتضح بالاخير ان المفيد لليقين هو القياس فقط.
وليس معنى ذلك ان العلوم تستغني عن الاستقراء والتمثيل أو التقليل من شأنهما في العلوم, بل العلوم الطبيعية بأنواعها وعلم الطب ونحوه كلها تبتني على المجربات التي لا تحصل للعقل بدون الاستقراء والتمثيل, ولكن انما تفيد اليقين حيث تعتمد على القياس. فرجع الامر كله الى القياس.
ـ 3 ـ
البرهان لمّي وانيَّ
ان العمدة في كل قياس هو الحد الاوسط فيه, لانه هو الذي يؤلف العلاقة بين الاكبر والاصغر, فيوصلنا الى النتيجة (المطلوب). وفي البرهان خاصة لا بد أن يفرض الحد الاوسط علة لليقين بالنتيجة, أي لليقين بنسبة الأكبر الى الأصغر, والا لما كان الاستدلال به اولى من غيره. ولذا يسمى الحد الأوسط (واسطة في الاثبات).
وعليه فالحد الاوسط اما ان يكون ـ مع كونه واسطة في الاثبات ـ واسطة في الثبوت أيضا, أي يكون علة لثبوت الاكبر للاصغر, واما أن لا يكون واسطة في الثبوت.
فان كان الاول (أي انه واسطة في الاثبات والثبوت معا) فان البرهان حينئذ يسمى (برهان لِمَ) او (البرهان اللمي), لانه يعطي اللمية() في الوجود والتصديق معا, فهو معط للمية مطلقاً فسمى به, كقولهم: >هذه الحديدة ارتفعت حرارتها وكل حديدة ارتفعت حرارتها فهي متمددة فينتج هذه الحديدة متمددة< فالاستدلال بارتفاع الحرارة على التمدد استدلال بالعلة على المعلول. فكما اعطت الحرارة الحكم بوجود التمدد في الذهن للحديدة كذلك هي معطية في نفس الامر والخارج وجود التمدد لها.
وان كان الثاني (أي انه واسطة في الاثبات فقط ولم يكن واسطة في الثبوت), فيسمى (برهان ان) او (البرهان الانَّي), لانه يعطي الانية(). والانية مطلق الوجود.
ـ 4 ـ
أقسام البرهان الانَّي
والبرهان الإنَّي على قسمين:
1ـ ان يكون الاوسط معلولاً للاكبر في وجوده في الاصغر, لا علة, عكس (برهان لم), كما لو قيل في المثال المتقدم: >هذه الحديدة متمددة, وكل حديدة متمددة مرتفعة درجة حرارتها<. فالاستدلال بالتمدد على ارتفاع درجة الحرارة استدلال بالمعلول على العلة. فيقال فيه: انه يستكشف بطريق الان من وجود المعلول على وجود العلة, فيكون العلم بوجود المعلول سببا للعلم بوجود العلة. فلذلك يكون المعلول واسطة في الاثبات أي علة للعلم بالعلة, وإن كان معلولا لها في الخارج. ويسمى هذا القسم من البرهان الإنَّي (الدليل).
2ـ ان يكون الاوسط والاكبر معاً معلولين لعلة واحدة, فيستكشف من وجود أحدهما وجود الآخر, فكل منهما اذا سبق العلم به يكون العلم به علة للعلم بالآخر, ولكن لا لأجل أن أحدهما علة للآخر, بل لكونهما متلازمين في الوجود لاشتراكهما في علة واحدة اذا وجدت لا بد أن يوجدا معا فاذا علم بوجود احدهما يعلم منه وجود علته لاستحالة وجود المعلول بلا علة, واذا علم بوجود العلة علم منها وجود المعلول الآخر لاستحالة تخلف المعلول عن العلة. فيكون العلم ـ على هذا ـ بأحد المعلولين مستلزما للعلم بالآخر بواسطة.
وليس لهذا القسم الثاني اسم خاص. وبعضهم لا يسميه البرهان الاني, بل يجعل البرهان الاني مختصا بالقسم الأول المسمى بالدليل, ويجعل هذا القسم واسطة بينه وبين اللمي. فتكون اقسام البرهان ثلاثة: لمي واني وواسطة بينهما.
وفي الحقيقة ان هذا القسم فيه استكشافان واستدلالان: استدلال بالمعلول على العلة المشتركة, ثم استدلال بالعلة المشتركة على المعلول الاخر, كما تقدم, ففيه خاصة البرهان الاني في الاستدلال الاول وخاصة البرهان اللمي في الاستدلال الثاني. فلذا جعلوه واسطة بينهما لجمعه بين الطريقتين. والاحسن جعله قسما ثانيا للاني ـ كما صنع كثير من المنطقيين ـ رعاية للاستدلال الاول فيه. والامر سهل.
ـ 5 ـ
الطريق الاساس الفكري لتحصيل البرهان
عند العقلاء قضيتان أوليتان لا يشك فيهما الا مكابر أو مريض العقل, لانهما اساس كل تفكير, ولم يتم اختراع ولا استنباط ولا برهان بدونهما, حتى الاعتقاد بوجود خالق الكائنات وصفاته مرتكز عليهما. وهما:
1ـ (ان كل ممكن لا بد له من علة في وجوده). ويعبر عن هذه البديهة أيضا بقولهم: (استحالة وجود الممكن بلا علة).
2ـ (كل معلول يجب وجوده عند وجود علته). ويعبر عنها أيضا بقولهم: (استحالة تخلف المعلول عن العلة).
ولما كان اليقين بالقضية من الحوادث الممكنة فلا بد له من علة موجبة لوجوده, بناء على البديهة الأولى. وهذه العلة قد تكون من الداخل وقد تكون من الخارج.
(الأول)ـ ان تكون من الداخل. ومعنى ذلك ان نفس تصور اجزاء القضية (طرفي النسبة) علة للحكم والعلم بالنسبة, كقولنا: >الكل أعظم من الجزء< وقولنا: >النقيضان لا يجتمعان<. والبديهيتان اللتان مرَّ ذكرهما في صدر البحث أيضا من هذا الباب, فان نفس تصور الممكن والعلة كاف للحكم باستحالة وجود الممكن بلا علة, ونفس تصور العلة والمعلول كاف للحكم باستحالة تخلفه عن علته. فلا يحتاج اليقين في مثل هذه القضايا الى شيء آخر وراء نفس تصوَّر طرفي القضية. ولذا تسمى هذه القضايا بـ (الاولية) كما تقدم في بابها, لانها اسبق من كل قضية لدى العقل. ولاجل هذا قالوا ان القضايا الاوليات هي العمدة في مبادئ البرهان.
(الثاني)ـ ان تكون العلة من الخارج. وهذه العلة الخارجة على نحوين:
1ـ أن تكون أحدى الحواس الظاهرة أو الباطنة, وذلك في المشاهدات والمتواترات اللتين هما من البديهيات الست. وقضاياها من الجزئيات, فإن العقل هو الذي يدرك أن هذه النار حارة أو مكة موجودة, ولكن ادراكه لهذه الاشياء ليس ابتداء بمجرد تصوَّر الطرفين ولا بتوسط مقدمات عقلية. وانما بتوسط احدى الحواس وهي جنوده التي يستعين بها في ادراك المشاهدات ونحوها, فإنه يدرك الطعم بالذوق واللون بالبصر والصوت بالسمع... وهكذا, ثم يدرك بقوة أخرى بأن ماله هذا اللون الاصفر مثلا له هذا الطعم الحامض.
وقول الحكماء ان العقل لا يدرك الجزئيات, فإن غرضهم أنه لا يدرك الجزئيات بنفسه بدون استعمال آلة ادراكية, والا فليس المدرك للكليات والجزئيات الا القوة العاقلة. ولا يمكن أن يكون للسمع والبصر ونحوهما وجود وادراك مع قطع النظر عنها, غير ان ادراك القوة العاقلة للمحسوسات لا يحتاج الى أكثر من استعمال آلة الادراك المختصلة في ذلك المحسوس.
ويختص ادراك القوة العاقلة بتوسط الآلة في خصوص الجزئيات, لأن الحسَّ بانفراده لا يفيد رأياً كلياً, لأن حكمه مخصوص بزمان الاحساس فقط, وإذا أراد أن يتجاوز الادراك الى الأمور الكلية فلا بد أن يستعين بمقدمات عقلية وقياسات منطقية ليستفيد منها الرأي الكلي. فالمشاهدات وكذلك المتوترات تصلح لأن تكون مبادئ يقتنص منها التصورات الكلية والتصديقات العامة, بل لو لا تتبع المشاهدات لم نحصل على كثير من المفاهيم الكلية والآراء العلمية. ولذا قيل (من فقد حسا فقد علما). وتفصيل هذه الابحاث يحتاج الى سعة من القول لا يساعد عليه هذا الكتاب.
2ـ ان تكون العلة الخارجة هي القياس المنطقي. وهذا القياس على قسمين:
(القسم الاول) ـ ان يكون حاضراً لدى العقل لا يحتاج الى إعمال فكر, فلا بد أن يكون معلوله وهو اليقين بالنتيجة حاضراً أيضاً ضروري الثبوت. وهذا شأن المجربات والحدسيات والفطريات التي هي من أقسام البديهيات, اذ قلنا سابقا ان المجربات والحدسيات تعتمد على قياس خفي حاضر لدى الذهن, والفطريات قضايا قياساتها معها.
وانما سميت (ضرورية) لضرورة اليقين بها بسبب حضور علتها لدى العقل بلا كسب.
وإلى هنا انتهى بنا القول إلى استقصاء جميع البديهيات الست (التي هي أاساس البراهين وركيزة كل تفكير ورأس المال العلمي لتاجر العلوم), والى استقصاء أسباب اليقين بها. فالاوليات علة يقينها من الداخل, والمشاهدات والمتواترات علتها من الخارج وهي الالة الحاسة, والثلاث الباقية علتها من الخارج ايضا وليست هي الا القياس الحاضر.
(القسم الثاني) ان لا يكون القياس حاضراً لدى العقل, فلا بد للحصول على اليقين من السعي لاستحضاره بالفكر والكسب العلمي, وذلك بالرجوع إلى البديهيات (وهذا هو موضع الحاجة الى البرهان), فاذا حضر هذا القياس انتظم البرهان اما على طريق اللم أو الإن. فاستحضار علة اليقين غير الحاضرة هو الكسب وهو المحتاج إلى النظر والفكر. والذي يدعو الى هذا الاستحضار البديهية الأولى المذكورة في صدر البحث وهي استحالة وجود الممكن بلا علة, واذا حضرت العلة انتظم البرهان ـ كما قلنا ـ أي يحصل اليقين بالنتيجة, وذلك بناء على البديهية الثانية, وهي استحالة تخلف المعلول عن العلة.
فاتضح من جميع ما ذكرنا كيف نحتاج الى البرهان وسر الحاجة إليه, وأنه يرتكز اساسه على هاتين البديهتين اللتين هما الطريق الاساس الفكري لتحصيل كل برهان.
ـ 6 ـ
البرهان اللمي مطلق وغير مطلق
قد عرفت ان البرهان اللمي ما كان الاوسط فيه علة لثبوت الأكبر للاصغر ومعنى ذلك أنه علة للنتيجة. وهذا على نحوين:
1ـ ان يكون علة لوجود الأكبر في نفسه على الاطلاق, ولاجل هذا يكون علة لثبوته للاصغر, باعتبار أن المحمول الذي هو الاكبر هنا ليس وجوده الا وجوده لموضوعه وهو الأصغر, وليس له وجود مستقل عن وجود موضوعه, كالمثال المتقدم وهو مثال عليه ارتفاع الحرارة لتمدد الحديدة. ويسمى هذا النحو (البرهان اللمي المطلق).
2ـ ان لا يكون علة لوجود الأكبر على الاطلاق, وانما يكون علة لوجوده في الأصغر. ويسمى هذا النحو (البرهان اللمي غير المطلق). وانما صح ان يكون علة لوجود الاكبر في الاصغر وليس علة لنفس الاكبر فباعتبار ان وجود الأكبر في الأصغر غير علة نفس الأكبر. والمقتضي لكون البرهان لميّاً ليس الا علية الأوسط لوجود الأكبر في الأصغر, سواء كان علة أيضا لوجود الأكبر في نفسه, كما في النحو الأول أي البرهان اللمي المطلق, او كان معلولا للأكبر في نفسه, أو كان معلولاً للأصغر, أو ليس معلولا لكل منهما.
مثال الأول ـ وهو ما كان معلولاً للأكبر ـ قولنا: >هذه الخشبة تتحرك إليها النار. وكل خشبة تتحرك إليها النار توجد فيها النار< فوجود النار أكبر, وحركة النار أوسط, والحركة علة لوجود النار في الخشبة, ولكنَّها ليست علة لوجود النار مطلقاً, بل الأمر بالعكس فإن حركة النار معلولة لطبيعة النار.
ومثال الثاني ـ وهو ما كان معلولاً للأصغر ـ قولنا: >المثلث زواياه تساوي قائمتين. وكل ما يساوي قائمتين نصف زوايا المربع< فالأوسط (مساواة القائمتين) معلول للأصغر وهو (زوايا المثلث): وهو في الوقت نفسه علة لثبوت الأكبر (نصف زوايا المربع) للاصغر (زوايا المثلث).
ومثال الثالث ـ وهو ما لم يكن معلولاً لكل من الأصغر والأكبر ـ نحو: >هذا الحيوان غراب. وكل غراب أسود< فالغراب وهو الأوسط ليس معلولاً للأصغر ولا للأكبر, مع أنه علة لثبوت وصف السواد لهذا الحيوان.
ـ 7ـ
معنى العلة في البرهان اللمي
قلنا: ان البرهان اللمي ما كان فيه الأوسط علة لثبوت الأكبر للأصغر, وقد يسبق ذهن الطالب إلى أن المراد من العلة خصوص العلة الفاعلية, ولكن في الواقع أن العلة تقال على أربعة أنواع والبرهان اللمي يقع بجميعها, وهي:
1ـ (العلة الفاعلية) أو الفاعل أو السبب أو مبدأ الحركة. ما شئت فعبر. وقد يعبر عنها بقولهم (ما منه الوجود), ويقصدون المفيض والمفيد للوجود() أو المسبب للوجود كالباني للدار والنجار للسرير والاب للولد ونحو ذلك.
ومثال أخذ الفاعل في البرهان: >لم صار الخشب يطفو على الماء؟ فيقال: لان الخشب ثقله النوعي أخف من ثقل الماء النوعي<. ومثاله أيضاً ما تقدم في مثال تمدد الحديد بالحرارة.
2ـ (العلة المادية) أو المادة التي يحتاج إليها الشيء ليتكون ويحقق بالفعل بسبب قبوله للصورة. وقد يعبر عنها بقولهم (ما فيه الوجود) كالخشب والمسمار للسرير, والجص والآجر والخشب ونحوها للدار, والنطفة للمولود. ومثال أخذ المادة في البرهان قولهم: >ِلمَ يفسد الحيوان؟ فيقال: لانه مركب من الاضداد<.
3ـ (العلة الصورية) أو الصورة. وقد يعبَّر عنها بقولهم: (ما به الوجود), أي الذي يحصل به الشيء بالفعل, فانه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكوَّن الشيء ولم يتحقق, كهيئة السرير والدار وصورة الجنين التي بها يكون انسانا. ومثال أخذ الصورة في البرهان قولهم: >ِلمَ كانت هذه الزاوية قائمة؟ فيجاب: لأن ضلعيها متعامدان<.
4ـ (العلة الغائية) أو الغاية. وقد يعبر عنها بقولهم: (ما له الوجود), أي التي لاجلها وجد الشيء وتكوَّن, كالجلوس للكرسي والسكنى للبيت. ومثال أخذ الغاية في البرهان قولهم: >أنشأت البيت؟ فيجيب: لكي اسكنه< و >ِلمَ يرتاض فلان؟ فيجاب: لكي يصح<. وهكذا.
ـ 8 ـ
تعقيب وتوضيح في اخذ العلل حدودا وسطى
لا شك انما يحصل البرهان على وجه يجب أن يعلم الذهن بوجود المعلول عند العلم بوجود العلة, إذا كانت العلة على وجه إذا حصلت لا بد ان يحصل المعلول عندها. ومعنى ذلك ان العلة لا بد أن تكون كاملة تامة السببية, والا اذا فرض حصول العلة ولا يحصل عندها المعلول لا يلزم من العلم بها العلم به.
وعليه يمكن للمتأمل أن يعقب على كلامنا السابق, فيقول: إن العلة التامة التي لا يتخلف عنها المعلول هي الملتئمة من العلل الأربع في الكائنات المادية, اما كل واحدة منها فليست بعلة تامة, فكيف صح أن تفرضوا وقوع البرهان اللمي في كل واحدة منها؟
وهذا كلام صحيح في نفسه, ولكن إنما صح فرض وقوع البرهان اللمي في واحدة من الأربع ففي موضع تكون العلل الباقية مفروضة الوقوع متحققة وإن لم يصرح بها, فيلزم حينئذ من فرض وجود تلك العلة التي أخذت حداً أوسط وجود المعلول بالفعل لفرض حصول باقي العلل. لا لأنه يكتفى بأحدى العلل الاربع مجردة في التعليل, ولا لأن الواحدة منها هي مجموع العلل, بل لانها ـ حسب الفرض ـ لا ينفك وجودها عن وجود جميعها, فتكون كل واحدة مشتملة على البواقي بالقوة وقائمة مقامها. ولنتكلم عن كل واحدة من العلل كيف يكون فرض وجودها فرضا للبواقي فنقول:
اما العلة الصورية فإنه اذا فرض وجود الصورة فقد فرض وجود المعلول بالفعل لأن فعلية الصورة فعلية لذيها, فلا بد ـ مع فرض وجود المعلول ـ أن تكون العلل كلها حاصلة والا لما وجد وصار فعليا.
وكذا (العلة الغائية) فانما يفرض وجود الغاية بعد فرض وجود ذي الغاية وهو المعلول, لأن الغاية في وجودها الخارجي متاخرة عن وجود المعلول بل هي معلولة له, وانما العلة له هي الغاية بوجودها الذهني العلمي.
واما (العلة المادية) فإنه في كثير من الأمور الطبيعية يلزم عند حصول استعداد المادة لقبول الصورة حصول الصورة بالفعل, كما لو وضعت البذرة ـ مثلاً ـ في أرض طيبة في الوقت المناسب وقد سقيت بالماء فلا بد ان يحصل النبات, باعتبار ان الفاعل قوة طبيعية في جوهر المادة فلا يمكن الا أن يصدر عنها فعلها عند حصول الاستعداد التام, لأنه اذا طلبت المادة ـ عند استعدادها ـ بلسان حالها أن يفيض بارئ الكائنات عليها الوجود, فانه ـ تعالى ـ لا بخل في ساحته, فلا بد ان يفيض عليها وجودها اللائق بها. واذا وجدت الصورة فهو فرض وجود المعلول, لأن معنى حصول الصورة ـ كما سبق ـ حصول المعلول بالفعل.
نعم بعض الأمور الطبيعية لا يلزم من حصول استعداد المادة حصول الصورة بالفعل. وذلك عندما يكون حدوث تلك الصورة متوقفة على حركة من علة محركة خارجة, كاستعداد النخلة للثمر, فإنما تتم ثمرتها بالفعل بعد التلقيح, والتلقيح حركة من فاعل محرك خارج وهو الملقح. ومن هذا الباب الأمور الصناعية فإن مجرد استعداد الخشب لأن يصير كرسياً لا يصيره كرسياً بالفعل ما لم يعمل الصانع في نشره وتركيبه على الوجه المناسب. وعليه لا يقع البرهان اللمي في أمثال هذه المواد, فلا تقع كل مادة حداً أوسط فلذا لا يصح أن يعلل كون الشيء كرسيا بقولنا: لأنه خشب.
واما (العلة الفاعلية), فليس يجب من فرض الفاعل في كثير من الأشياء وجود المعلول, بل لا يؤخذ حداً أوسط الا اذا كان فاعلا تاما, بمعنى أنه مشتمل على تمام جهات تأثيره, كما اذا دل على استعداد المادة ووجود جميع الشرائط, فيما اذا كان المعلول من الأمور الطبيعية المادية. وذلك كفرض وجود الحرارة في الحديد الذي يلزم منه بالضرورة وجود التمدد, فالفاعل بدون الموضوع القابل لا يكون فاعلاً تاما, كما لا يكون القابل بدون الفاعل قابلاً بالفعل.
ومن هذا الكلام يعلم ويتضح أنه ليس على المطلوب الواحد ـ في الحقيقة ـ الا برهان لمي واحد مشتمل على جميع العلل بالفعل أو بالقوة, وان تعددت البراهين ـ بحسب الظاهر ـ بتعدد العلل حسب اختلافها, فالسؤال بلمَ إنما يطلب به معرفة العلة التامة, فإذا أجيب بالعلة الناقصة فإنه لا ينقطع السؤال بلم. وما دام هنا شرط أو جزء من العلة لم يذكر فالسؤال باق حتى يجاب بجميع العلل التي تتألف منها العلة التامة. وحينئذ يسقط السؤال بلم وينقطع.
ـ 9 ـ
شروط مقدمات البرهان
ذكروا لمقدمات شروطا ارتقت في أكثر عباراتهم إلى سبعة, وهي:
1ـ أن تكون المقدمات كلها يقينية (وقد سبق أن ذلك هو المقوم لكون القياس برهانا وتقدم أيضاً معنى اليقين هنا). فلو كانت أحدى مقدمتيه غير يقينية لم يكن برهاناً, وكان اما جدلياً أو خطابياً أو شعرياً أو مغالطياً على حسب تلك المقدمة. ودائما يتبع القياس في تسميته أخس مقدماته.
2ـ أن تكون المقدمات أقدم وأسبق بالطبع من النتائج لأنها لا بد أن تكون عللا لها بحسب الخارج. وهذا الشرط مختص ببرهان (ِلمَ).
3ـ أن تكون أقدم عند العقل بحسب الزمان من النتائج حتى يصح التوصل بها إلى النتائج. فإن الأقدم في نفس الأمر وهو الأقدم بالطبع شيء والأقدم بالنسبة إلينا وبحسب عقولنا شيء آخر, فإنه قد يكون ما هو الأقدم بحسب الطبع كالعلة ليس أقدم بالنسبة إلى عقولنا بأن يكون العلم بالمعلول أسبق وأقدم من العلم بها, فإنه لا يجب في كل ما هو أقدم بحسب الطبع أن يكون أقدم عند العقل في المعرفة.
4ـ أن تكون أعرف عند العقول من النتائج ليصح أن تعرفها, لأن المعرَّف يجب أن يكون أعرف من المعرَّف. ومعنى أنها أعرف أن تكون أكثر وضوحاً ويقينا لتكون سببا لوضوح النتائج, بداهة أن الوضوح واليقين يجب أن يكون أولاً وبالذات للمقدمات, وثانياً وبالعرض للنتائج.
5ـ ان تكون مناسبة للنتائج, ومعنى مناسبتها أن تكون محمولاتها ذاتية أولية لموضوعاتها, على ما سيأتي من معنى الذاتي والأولي هنا, لأن الغريب لا يفيد اليقين بما لا يناسبه لعدم العلة الطبيعية بينهما. وبعبارة أخرى ـ كما قال الشيخ الرئيس في كتاب البرهان من الشفا ص 72 ـ >فإن الغربية لا تكون عللا, ولو كانت المحمولات البرهانية يجوز أن تكون غريبة لم تكن مبادئ البرهان عللا, فلا تكون مبادئ البرهان عللا للنتيجة<.
6ـ أن تكون ضرورية اما بحسب الضرورة الذاتية أو بحسب الوصف. وليس المراد من (الضروري) هنا المعنى المقصود منه في القياس, فإنه إذا قيل هناك: (كل حـ ب بالضرورة) يعنون به أن كل ما يوصف بأنه (حـ) كيفما اتفق وصفه به فهو موصوف بأنه (ب) بالضرورة وان لم يكن موصوفا بأنه (حـ) بالضرورة. واما هنا فيعنون به المشروطة العامة أي ان كل ما يوصف بانه (حـ) بالضرورة فانه موصوف بأنه (ب).
7ـ ان تكون كلية. وهنا أيضا ليس المراد من (الكلية) المعنى المراد في القياس.
بل المراد أن يكون محمولها مقولا على جميع أشخاص الموضوع في جميع الازمنة قولاً أولياً وإن كان الموضوع جزئياً أو مهملا, فالكلية هنا يصح أن تقابلها الشخصية.
والمقصود من معنى الكلية في القياس أن يكون المحمول مقولا على كل واحد وان لم يكن في كل زمان. ولم يكن الحمل أوليا فتقابل الكلية هناك القضية الجزئية والمهملة.
وهذان الشرطان الأخيران يختصان بالنتائج الضرورية الكلية, فلو جوزنا أن تكون نتيجة البرهان غير ضرورية وغير كلية, فما كان بأس في ان تكون أحدى المقدمات ممكنة أو غير كلية بذلك المعنى من الكلية, لأنه ليس يجب في جميع مطالب العلوم أن تكون ضرورية أو كلية, إلا أن يراد من الضرورية ضرورية الحكم وهو الاعتقاد الثاني وان كانت جهة القضية هي الامكان, فإن اليقين ـ كما تقدم يجب أن يكون الاعتقاد الثاني فيه لا يمكن زواله. ولكن هذا الشرط عين الشرط يقينية المقدمات وهو الشرط الاول.
ـ 10 ـ
معنى الذاتي في كتاب البرهان
تقدم انه يشترط في مقدمات البرهان أن تكون المحمولات ذاتية للموضوعات وللذاتي في عرف المنطقيين عدة معاني أحدهما الذاتي في كتاب البرهان. ولا بأس ببيانها جميعاً ليتضح المقصود هنا, فنقول:
1ـ الذاتي في باب الكليات, ويقابله (العرضي). وقد تقدم في الجزء الاول ص 90.
2ـ الذاتي في باب الحمل والعروض, ويقابله (الغريب), اذ يقولون: >ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية<. وهو له درجات وفي الدرجة الأولى ما كان موضوعه مأخوذا في حده, كالانف في حد الفطوسة حينما يقال (الانف أفطس) فهذا المحمول ذاتي لموضوعه, لأنه إذا أريد تعريف الأفطس أخذ الأنف في تعريفه. ثم قد يكون موضوع المعروض له ماخوذا في حده, كحمل المرفوع على الفاعل فإن الفاعل لا يؤخذ في تعريف المرفوع ولكن الكلمة التي هي معروضة للفاعل تؤخذ في تعريفه كما تؤخذ في تعريف الفاعل. وقد يكون جنس المعروض له مأخوذا في حده, كحمل المبني على الفعل الماضي مثلاً فإن الفعل لا يؤخذ في تعريف المبني ولكن جنسه وهو الكلمة هي التي تؤخذ في حده. وقد يكون معروض الجنس ماخوذا في حده كحمل المنصوب على المفعول المطلق مثلا فان المفعول المطلق لا يؤخذ في حده المنصوب ولا جنسه, وهو المفعول يؤخذ في حده بل معروض المفعولية وهو الكلمة تؤخذ في حده. ويمكن جمع هذه المحمولات الذاتية بعبارة واحدة فيقال:
(المحمول الذاتي للموضوع ما كان موضوعه أو أحد مقوماته واقعاً في حده) لأن جنس الموضوع مقوم له وكذا معروضه لأنه يدخل في حده وكذا معروض جنسه كذلك.
3ـ (الذاتي) في باب الحمل أيضاً, وهو ما كان نفس الموضوع في حد ذاته كافيا لانتزاع المحمول بدون حاجة إلى ضم شيء إليه وهو الذي يقال له: (المنتزع عن مقام الذات) ويقابله ما يسمى المحمول بالضميمة, مثل حمل الموجود على الوجود وحمل الأبيض على البياض, لا مثل حمل الموجود على الماهية وحمل الأبيض على الجسم, فإن هذا هو المحمول بالضميمة فإن الماهية موجودة ولكن لا بذاتها بل لعروض الوجود عليها, والجسم أبيض ولكن لا بذاته بل لضم البياض إليه وعروضه عليه بخلاف حمل الموجود على الوجود فإنه ذاتي له بدون ضم وجود آخر له بل بنفسه موجود, وكذا حمل الأبيض على البياض فإنه أبيض بذاته بدون ضم بياض آخر إليه فهو ذاتي له.
4ـ (الذاتي) في باب الحمل أيضا, ولكنه في هذا القسم وصف لنفس الحمل لا للمحمول كما في الاصطلاحين الاخيرين, فيقال الحمل الذاتي ويقال له الاولي أيضا. ويقابله الحمل الشايع الصناعي وقد تقدم ذلك في الجزء الأول.
5ـ (الذاتي) في باب العلل, ويقابله (الاتفاقي), مثل ان يقال: اشتعلت النار فاحترق الحطب وابرقت السماء فقصف الرعد, فإنه لم يكن ذلك اتفاقيا بل اشتعال النار يتبعه احراق الحطب اذا مسها والبرق يتبعه الرعد لذاته, لا مثل ما يقال: فتح الباب فابرقت السماء, أو نظر لي فلان فاحترق حطبي أو حسدني فلان فاصابني مرض فإن هذه وأمثالها تسمى أمور اتفاقية.
اذا عرفت هذه المعاني للذاتي فاعلم أن مقصودهم من الذاتي في كتاب البرهان ما يعم المعنى الأول والثاني ويجمعهما في البيان ان يقال: >الذاتي هو المحمول الذي يؤخذ في حد الوضوع أو الموضوع أو احد مقوماته يؤخذ في حده<.
ـ11 ـ
معنى الاوّلي
والمراد من الأولي هنا هو المحمول لا بتوسط غيره أي لا يحتاج إلى واسطة في العروض في حمله على موضوعه, كما نقول: حسم أبيض وسطح أبيض فإن حمل أبيض على السطح حمل أوَّلي اما حمله على الجسم فبتوسط السطح فكان واسطة في العروض, لأن حمل الابيض على السطح أولاً وبالذات وعلى الجسم ثانياً وبالعرض.
والتدقيق في معنى الذاتي والاولي له موضع آخر لا يسعه هذا المختصر. ولكن مما يجب ان يعلم هنا ان بعض كتب أصول الفقه المتأخرة وقع فيها تفسير الذاتي الذي هو في باب موضوع العلم المقابل له الغريب, بمعنى الاولي المذكور هنا.
فوقعت من أجل ذلك اشتباهات كثيرة نستطيع التخلص منها إذا فرقنا بين الذاتي والاوَّلي ولا نخلط أحدهما بالآخر.
صناعة الجدل أو آداب المناظرة
ونضعها في ثلاثة مباحث: الأول في القواعد والأصول, والثاني في المواضع, والثالث في الوصايا.
المبحث الاول ـ القواعد والاصول ـ
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ـ 1 ـ
مصطلحات هذه الصناعة
لهذه الصناعة ـ ككل صناعة ـ مصطلحات خاصة بها والآن نذكر بعضها في المقدمة للحاجة فعلاً, ونرجئ الباقي إلى مواضعه.
1ـ كلمة (الجدل), إن الجدل لغة هو اللدد واللجاج في الخصومة بالكلام, مقارناً غالباً لاستعمال الحيلة الخارجة أحياناً عن العدل والإنصاف. ولذا نهت الشريعة الإسلامية عن المجادلة, لا سيما في الحج والاعتكاف.
وقد نقل مناطقة العرب هذه الكلمة واستعملوها في الصناعة التي نحن بصددها والتي تسمى باليونانية (طوبيقا).
وهذه لفظة (الجدل) أنسب الألفاظ العربية إلى معنى هذه الصناعة على ما سيأتي توضيح المقصود بها, حتى من مثل لفظ المناظرة, والمحاورة والمباحثة, وإن كانت كلّ واحدة منها تناسب هذه الصناعة في الجملة, كما استعملت كلمة (المناظرة) في هذه الصناعة أيضا, فقيل (آداب المناظرة) وألفت بعض المتون بهذا الاسم.
وقد يطلقون لفظ (الجدّل) أيضاً على نفس استعمال الصناعة كما أطلقوه على ملكة استعمالها, فيريدون به حينئذ القول المؤلف من المشهورات أو المسلمات الملزم للغير والجاري على قواعد الصناعة. وقد يقال له أيضاً: القياس الجدلي أو الحجة الجدلية أو القول الجدلي. أما مستعمل الصناعة فيقال له: (مجادل) و(جدلي).
2ـ كلمة (الوضع). ويراد بها هنا (الرأي المعتقد به أو الملتزم به), كالمذاهب والملل والنحل والأديان والآراء السياسية والاجتماعية والعلمية, وما إلى ذلك.
والإنسان كما يعتنق الرأي ويدافع عنه لأنه عقيدته, قد يعتنقه لغرض آخر فيتعصب له ويلتزمه وإن لم يكن عقيدة له, فالرأي على قسمين: رأي معتقد به ورأي ملتزم به, وكل منهما يتعلق به غرض الجدلي لإثباته أو نقضه, فأراد أهل هذه الصناعة أن يعبروا عن قسمين بكلمة واحدة جامعة, فاستعملوا كلمة (الوضع) اختصاراً, ويريدون به مطلق الرأي الملتزم سواء أكان معتقداً به أم لا.
كما قد يسمّون أيضا نتيجة القياس في الجدل (وضعاً) وهي التي تسمى في البرهان (مطلوبا). وعلى هذا يكون معنى الوضع قريباً من معنى الدعوى التي يراد إثباتها أو إبطالها.
ـ 2 ـ
وجه الحاجة الى الجدل
إن الإنسان لا ينفك عن خلاف ومنازعات بينه وبين غيره من أبناء جلدته, في عقائده وآرائه من دينية وسياسية واجتماعية ونحوها, فتتألف بالقياس إلى كل وضع طائفتان: طائفة تناصره وتحافظ عليه, وأخرى تريد نقضه وهدمه وينجر ذلك إلى المناظرة والجدال في الكلام, فيلتمس كلّ فريق الدليل والحجّة لتأييد وجهة نظره وإفحام خصمه أمام الجمهور.
والبرهان سبيل قويم مضمون لتحصيل المطلوب, ولكن هناك من الأسباب ما يدعو إلى عدم الأخذ به في جملة من المواقع, واللجوء إلى سبيل آخر, وهو سبيل الجدل الذي نحن بصدده. وهنا تنبثق الحاجة إلى الجدل, فإّنه الطريقة المفيدة بعد البرهان. أما الأسباب الداعية إلى عدم الأخذ بالبرهان فهي أمور.
1ـ إن البرهان واحد في كلّ مسألة لا يمكن أن يستعمله كل من الفريقين المتنازعين لأن الحق واحد على كلّ حال, فإذا كان الحق مع أحد الفريقين فإنّ الفريق الآخر يلتجئ إلى سبيل الجدل لتأييد مطلوبه.
2ـ إن الجمهور أبعد ما يكون عن إدراك المقدمات البرهانية إذا لم تكن من المشهورات الذايعات بينهم, وغرض المجادل على الأكثر إفحام خصمه أمام الجمهور فيلتجئ هنا إلى استعمال المقدمات المشهورة بالطريقة الجدلية وإن كان الحق في جانبه ويمكنه استعمال البرهان.
3ـ انه ليس كل احد يقوى على إقامة البرهان او إدراكه فيلتجئ المنازع إلى الجدل لعجزه عن البرهان أو لعجز خصمه عن إدراكه.
4ـ إن المبتدئ في العلوم قبل الوصول إلى الدرجة التي يتمكن فيها من إقامة البرهان على المطالب العلمية يحتاج إلى ما يمّرن ذهنه وقوته العقلية على الاستدلال على المطالب بطريقة غير البرهان, كما قد يحتاج إلى تحصيل القناعة والاطمئنان إلى تلك المطالب قبل أن يتمكن من البرهان عليها. وليس له سبيل إلى ذلك إلاّ سبيل الجدّل.
وبمعرفة هذه الأسباب تظهر لنا قوة الحاجة الى الجدل ونستطيع ان نحكم بأنّه يجب لكل من تهمه المعرفة وكلّ من يريد أن يحافظ على العقائد والآراء أية كانت أن يبحث عن صناعة الجدل وقوانينها وأصولها. والمتكفل بذلك هذا الفن الذي عني به متقدموا الفلاسفة من اليونانيين وأهمله المتأخرون في الدورة الإسلامية إهمالاً لا مبرر له عدا فئة قليلة من أعاظم العلماء كالرئيس ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي إمام المحققين.
ـ 3 ـ
المقارنة بين الجدل والبرهان
قلنا إن الجدل أسلوب آخر من الاستدلال, وهو يأتي بالمرتبة الثانية بعد البرهان, فلا بد من بحث المقارنة بينهما وبيان ما يفترقان فيه فنقول:
1ـ إن البرهان لا يعتمد إلاّ على المقدمات التي هي حق من جهة ما هو حق, لتنتج الحق, أما (الجدل) فإنّما يعتمد على المقدمات المسلمة من جهة ما هي مسلمة, ولا يشترط فيها أن تكون حقاّ, وإن كانت حقاّ واقعاّ, إذ لا يطلب المجادل الحق بما هو حق ـ كما قلنا ـ بل إنّما يطلب إفحام الخصم وإلزامه بالمقدمات المسلمة سواء أكانت مسلمة عند الجمهور وهي المشهورات العامة والذائعات, أم مسلمة عند طائفة خاصة يعترف بها الخصم, أم مسلمة عند شخص الخصم خاصة.
2ـ إن الجدل لا يقوم إلا بشخصين متخاصمين, أما البرهان فقد يقام لغرض تعليم الغير وإيصاله إلى الحقائق فيقوم بين شخصين كالجدل, وقد يقيمه الشخص ليناجي به نفسه ويعلّمها لتصل إلى الحق.
3ـ انه تقدم في البحث السابق أن البرهان واحد في كل مسألة لا يمكن أن يقيمه كل من الفريقين المتنازعين. أما الجدل فإنه يمكن ان يستعمله الفريقان معاً ما دام الغرض منه إلزام الخصم وإفحامه لا الحق بما هو حق, وما دام إنه يعتمد على المشهورات والمسلّمات التي قد يكون بعضها في جانب الإثبات وبعضها الآخر في عين الوقت في جانب النفي. بل يمكن لأحد الفريقين أن يقيم كثيراً من الأدلة الجدلية بلا موجب للحصر على رأي واحد, بينما إن البرهان لا يكون إلاّ واحداً لا يتعدد في المسألة الواحدة, وإن تعدد ظاهراً بتعدد العلل الأربع على ما تقدم في بحث البرهان.
4ـ إن صورة البرهان لا تكون إلاّ من القياس على ما تقدم في بحث البرهان أما المجادل فيمكن أن يستعمل القياس وغيره من الحجج كالاستقراء والتمثيل, فالجدل أعم من البرهان من جهة الصورة, غير أن أكثر ما يعتمد الجدل على القياس والاستقراء.
ـ 4 ـ
تعريف الجدل
ويظهر بوضوح من جميع ما تقدم صحة تعريف فن الجدل بما يلي:
(إنه صناعة علمية يقتدر معها ـ حسب الإمكان ـ على إقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد وعلى محافظة أي وضع يتفق, على وجه لا تتوجه عليه مناقضة).
وإنما قيد التعريف بعبارة (حسب الإمكان) فلأجل التنبيه على أن عجز المجادل عن تحصيل بعض المطالب لا يقدح في كونه صاحب صناعة, كعجز الطبيب مثلاً عن مداواة بعض الأمراض فإنه لا ينفي كونه طبيباً.
ويمكن التعبير عن تعريف الجدل بعبارة أخرى كما يلي:
(الجدل صناعة تمكن الإنسان من إقامة الحجج المؤلفة من المسلمات أو من ردها حسب الإرادة ومن الاحتراز عن لزوم المناقضة في المحافظة على الوضع).
ـ5ـ
فوائد الجدل
مما تقدم تظهر لنا الفائدة الأصلية من صناعة الجدل ومنفعتها المقصودة بالذات, وهي أن يتمكن المجادل من تقوية الآراء النافعة وتأييدها ومن إلزام المبطلين والغلبة على المشعوذين, وذوي الآراء الفاسدة على وجه يدرك الجمهور ذلك. ولهذا الصناعة فوائد أخر تقصد منها بالعرض, نذكر بعضها:
1ـ رياضة الأذهان وتقويتها في تحصيل المقدمات واكتسابها, إذ يتمكن ذو الصناعة من إيراد المقدمات الكثيرة والمفيدة في كل باب ومن إقامة الحجة على المطالب العلمية وغيرها.
2ـ تحصيل الحق واليقين في المسألة التي تعرض على الإنسان, فإنه بالقوة الجدلية التي تحصل له بسبب هذه الصناعة يتمكن من تأليف المقدمات لكل من طرفي الإيجاب والسلب في المسألة. وحينئذ بعد الفحص عن حال كل منهما والتأمل فيهما قد يلوح الحق له, فيميز أنه في أي طرف منهما, ويزيف الطرف الآخر الباطل.
3ـ التسهيل على المتعلم المبتدئ لمعرفة المصادرات في العلم الطالب له, بسبب المقدمات الجدلية, إذ أنه بادئ بدء ينكرها ويستوحش منها, لأنه لم يقو بعد على الوصول إلى البرهان عليها. والمقدمات الجدلية تفيده التصديق بها وتسهل عليه الاعتقاد بها فيطمئن إليها قبل الدخول في العلم ومعرفة براهينها.
4ـ وتنفع هذه الصناعة أيضا طالب الغلبة على خصومه, إذ يقوى على المحاورة والمخاصمة والمراوغة وإن كان الحق في جانب خصمه, فيستظهر على خصمه الضعيف عن مجادلته ومجاراته, لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المنازعات في الآراء السياسية والاجتماعية.
5ـ وتنفع أيضا الرئيس للمحافظة على عقائد أتباعه عن المبتدعات.
6ـ وتنفع أيضا الذين يسمّونهم في هذا العصر المحامين الذين اتخذوا المحاماة والدفاع عن حقوق الناس مهنة لهم, فإنهم أشد ما تكون حاجتهم إلى معرفة هذه الصناعة, بل إنها جزء من مهنتهم في الحقيقة.
ـ6ـ
السؤال والجواب
تقدم أن الجدل لا يتم إلاّ بين طرفين متنازعين فالجدلي شخصان: (أحدهما) محافظ على وضع وملتزم له غاية سعيه ألا يلزمه الغير ولا يفحمه و(ثانيهما) ناقض له وغاية سعيه ان يلزم المحافظ ويفحمه.
و(الاول) يسمى (المجيب). واعتماده على المشهورات في تقرير وضعه, إما المشهورات المطلقة أو المحدودة بحسب تسليم طائفة معينة. و (الثاني) يسمى (السائل) واعتماده في نقض وضع المجيب على ما يسلّمه المجيب من المقدمات وإن لم تكن مشهورة.
ولتوضيح سرّ التسمية بالسائل والمجيب نقول: إن الجدل إنما يتم بأمرين سؤال وجواب, وذلك لأن المقصود الأصلي من صناعة الجدل عندهم ان تتم بهذه المراحل الأربع:
1ـ أن يوجه من يريد نقض وضع ما أسئلة إلى خصمه المحافظ على ذلك الوضع بطريق الاستفهام, بأن يقول: (هل هذا ذاك؟) أو (أليس إذا كان كذا فكذا؟) ويتدرج بالأسئلة من البعيد عن المقصود, إلى القريب منه حسبما يريد أن يتوصل به إلى مقصوده من تسليم الخصم, من دون أن يشعره بأنه يريد مهاجمته ونقض وضعه, أو يشعره بذلك ولكن لا يشعره من أية ناحية يريد مهاجمته منها, حتى لا يراوغ ويحتال في الجواب.
2ـ أن يستل السائل من خصمه من حيث يدري ولا يدري الاعتراف والتسليم بالمقدمات التي تستلزم نقض وضعه المحافظ عليه.
3ـ أن يؤلف السائل قياساً جدلياً مما اعترف وسلّم به خصمه (المجيب) بعد فرض اعترافه وتسليمه, ليكون هذا القياس ناقضاً لوضع المجيب.
4ـ أن يدافع المحافظ (المجيب) ويتخلص عن المهاجمة ـ إن استطاع ـ بتأليف قياس من المشهورات التي لا بد أن يخضع لها السائل والجمهور.
وهذه الطريقة من السؤال والجواب هي الطريقة الفنية المقصودة لهم في هذه الصناعة وهي التي تظهر بها المهارة والحذق في توجيه الأسئلة والتخلص من الاعتراف أو الإلزام. ومن هذه الجهة كانت التسمية بالسائل والمجيب, لا لمجرد وقوع سؤال وجواب بأي نحو اتفق. والمقصود من صناعة الجدل اتقان تأدية هذه الطريقة حسبما تقتضيه القوانين والأصول الموضوعة فيها.
ونحن يمكننا أن نتوسع في دائرة هذه الصناعة, فنتعدى هذه الطريقة المتقدمة إلى غيرها, بأن نكتفي بتأليف القياس من المشهورات أو المسلمات لنقض وضع او للمحافظة على وضع, لغرض افحام الخصوم, على أي نحو يتفق هذا التأليف وان لم يكن على نحو السؤال والجواب ولم يمر على تلك المراحل الاربع بترتيبها. ولعل تعريف الجدل المتقدم لا يابى هذه التوسعة.
بل يمكن ان نتعدى الى ابعد من ذلك حينئذ, فلا نخص الصناعة بالمشافهة, بل نتعدى بها إلى التحرير والمكاتبة. وفي هذه العصور لا سيما الأخيرة منها بعد انتشار الطباعة والصحف أكثر ما تجري المناقشات والمجادلات في الكتابة, وتبتني على المسلمات والمشهورات, على غير الطريقة البرهانية, من دون أن تتألف صورة سؤال وجواب. ومع ذلك نسميها قياسات جدلية, أو ينبغي أن نسميها كذلك, وتشملها كثير من أصول صناعة الجدل وقواعدها فلا ضير في دخولها في هذه الصناعة وشمول بعض قواعدها وآدابها لها.
ـ7ـ
مبادئ الجدل
أشرنا فيما سبق إلى أن مبادئ الجدل الأولية التي تعتمد عليها هذه الصناعة هي المشهورات والمسلمات, وأن المشهورات مبادئ مشتركة بالنسبة إلى السائل والمجيب, والمسلمات مختصة بالسائل.
كما أشرنا إلى أن المشهورات يجوز أن تكون حقاً واقعاً وللجدلي أن يستعملها في قياسه. أما استعمال الحق غير المشهور بما هو حق في هذه الصناعة فإنه يعد مغالطة من الجدلي لأنه في استعمال أية قضية لا يدعي أنها في نفس الأمر حق. وانما يقول: إن هذا الحكم ظاهر واضح في هذه القضية ويعترف بذلك الجميع ويكون الحكم مقبولا لدى كل احد.
ثم أنا أشرنا في بحث (المشهورات) أن للشهرة أسباباً توجبها, وذكرنا أقسام المشهورات حسب اختلاف أسباب الشهرة, فراجع. والسرّ في كون الشهرة لا تستغني عن السبب أن شهرة المشهور ليست ذاتية, بل هي أمر عارض, وكل عارض لا بد له من سبب. وليست هي كحقية الحق التي هي أمر ذاتي للحق لا تعلل بعلة.
وسبب الشهرة لا بد أن يكون تألفه الأذهان وتدركه العقول بسهولة, ولولا ذلك لما كان الحكم مقبولاً عند الجمهور وشايعاً بينهم.
وعلى هذا يتوجه علينا سؤال وهو: إذا كانت الشهرة لا تستغني عن السبب, فكيف جعلتم المشهورات من المبادئ الأولية أي ليست مكتسبة؟
والجواب إن سبب حصول الشهرة لوضوحه لدى الجمهور تكون أذهان الجمهور غافلة عنه ولا تلتفت الى سرّ انتقالها إلى الحكم المشهور, فيبدو لها أن المشهورات غير مكتسبة من سبب كأنها من تلقاء نفسها انتقلت إليها, وإنما يعتبر كون الحكم مكتسباً إذا صدر الانتقال إليه بملاحظة سببه. وهذا من قبيل القياس الخفي في المجربات والفطريات التي قياساتها معها, على ما أوضحناه في موضعه, فإنما مع كونها لها قياس وهو السبب الحقيقي لحصول العلم بها عدّوها من المبادئ غير المكتسبة, نظراً إلى أن حصول العلم فيها عن سبب خفي غير ملحوظ للعالم ومغفول عنه لوضوحه لديه.
ثم لا يخفى أنه ليس كل ما يسمى مشهوراً هو من مبادئ الجدل, فإن الشهرة تختلف بحسب اختلاف الأسباب في كيفية تأثيرها في الشهرة. وبهذا الاعتبار تنقسم المشهورات إلى ثلاثة أقسام:
1ـ المشهورات الحقيقية, وهي التي لا تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل فيها.
2ـ المشهورات الظاهرية, وهي المشهورات في بادئ الرأي التي تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل مثل قولهم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً), فإنه يقابله المشهور الحقيقي وهو: (لا تنصر الظالم وإن كان اخاك).
3ـ الشبيهة بالمشهورات, وهي التي تحصل شهرتها بسبب عارض غير لازم تزول الشهرة بزواله, فتكون شهرتها في وقت دون وقت وحال دون حال, مثل استحسان الناس في العصر المتقدم لإطلاق الشوارب تقليداً لبعض الملوك والامراء, فلما زال هذا السبب زالت هذه العادة وزال الاستحسان.
ولا يصلح للجدل إلاّ القسم الأول دون الأخيرين, أما الظاهرية فإنما تنفع فقط في صناعة الخطابة كما سيأتي, وأما الشبيهة بالمشهورات فنفعها خاص بالمشاغبة كما سيأتي في صناعة المغالطة.
ـ8ـ
مقدمات الجدل
كل ما هو مبدأ للقياس معناه أنه يصلح أن يقع مقدمة له ولكن ليس يجب في كل ما هو مقدمة أن يكون من المبادئ, بل المقدمة إما أن تكون نفسها من المبادئ أو تنتهي إلى المبادئ. وعليه فمقدمات القياس الجدلي يجوز أن تكون في نفسها مشهورة. ويجوز أن تكون غير مشهورة, ترجع إلى المشهورة كما قلنا في مقدمات البرهان إنها تكون بديهية وتكون نظرية تنتهي إلى البديهية.
والرجوع إلى المشهورة على نحوين:
أـ أن تكتسب شهرتها من المقارنة والمقايسة إلى المشهورة. وتسمى (المشهورة بالقرائن). والمقارنة بين القضيتين إما لتشابهما في الحدود أو لتقابلهما فيها. وكل من التشابه والتقابل يوجب انتقال الذهن من تصور شهرة إحداهما إلى تصور شهرة الثانية, وإن لم يكن هذا الانتقال في نفسه واجباً, وإنما تكون شهرة أحداهما مقرونة بشهرة الأخرى.
مثال التشابه: قولهم إذا كان إطعام الضيف حسناً فقضاء حوائجه حسن أيضاً, فإنّ حسن إطعام الضيف مشهور وللتشابه بين الإطعام وقضاء الحوائج تستوجب المقارنة بينهما انتقال الذهن إلى حسن قضاء حوائج الضيف. ومثال التقابل: قولهم: إذا كان الإحسان إلى الأصدقاء حسناً كانت الإساءة إلى الأعداء حسنة, فإن التقابل بين الأحسان والإساءة وبين الأصدقاء والأعداء يستوجب انتقال الذهن من إحدى القضيتين إلى الأخرى بالمقارنة والمقايسة.
ب ـ أن تكون المقدمة مكتسبة شهرتها من قياس مؤلف من المشهورات منتج لها بان تكون هذه المقدمة المفروضة مأخوذة من مقدمات مشهورة. نظير المقدمة النظرية في البرهان إذا كانت مكتسبة من مقدمات بديهية.
ـ9ـ
مسائل الجدل
كل قضية كان السائل قد أورد عينها في حال سؤاله أو أورد مقابلها فإنها تسمى (مسالة الجدل) وبعد أن يسلّم بها المجيب ويجعلها السائل جزءاً من قياسه هي نفسها تسمى (مقدمة الجدل).
إذا عرفت ذلك فكل قضية لها ارتباط في نقض الوضع الذي يراد نقضه تصلح أن تقع مورداً لسؤال السائل, ولكن بعض القضايا يجدر به أن يتجنبها نذكر بعضها:
(منها) أنه لا ينبغي للسائل أن يجعل المشهورات مورداً لسؤاله, فإن السؤال عنها معناه جعلها في معرض الشك والترديد وهذا ما يشجع المجيب على إنكارها ومخالفة المشهور. فلو التجأ السائل لإيراد المشهورات فليذكرها على سبيل التمهيد للقواعد التي يريد أن يستفيد منها لنقض وضع المجيب. باعتبار أن تلك المشهورات مفروغ عنها لا مفّر من الاعتراف بها.
و(منها) أنه لا ينبغي له أن يسأل عن ماهية الأشياء ولا عن لميتها (علّيتها) لأن مثل هذا السؤال إنما يرتبط بالتعلم والاستفادة لا بالجدل والمغالبة, بل السؤال عن الماهية لو احتاج إليه فينبغي أن يضعه على سبيل الاستفسار عن معنى اللفظ, أو على سبيل السؤال عن رأيه وقوله في الماهية, بأن يسأل هكذا (هل تقول إن الإنسان هو الحيوان الناطق أو لا ؟) أو يسأل هكذا: (لو لم يكن حد الإنسان هو الحيوان الناطق فما حده إذن؟).
وكذلك السؤال في اللمية لا بد أن يجعل السؤال عن قوله ورأيه فيها لا عن أصل العلية.
ـ10ـ
مطالب الجدل
إن الجدل ينفع في جميع المسائل الفلسفية والاجتماعية والدينية والعلمية والسياسية والأدبية وجميع الفنون والمعارف وكل قضية من ذلك تصلح أن تكون مطلوبة به. ويستثنى من ذلك قضايا لا تطلب بالجدل.
منها (المشهورات الحقيقية المطلقة) لأنها لما كانت بهذه الشهرة لا يسع لأحد إنكارها والتشكيك بها حتى يحتاج إثباتها إلى حجة. وحكمها من هذه الجهة حكم البديهيات فإنه لا تطلب بالبرهان. ويجمعها أنها غير مكتسبة فلا تكتسب بحجة.
ومن ينكر المشهورات لا تنفع معه حجة جدلية لأن معنى إقامتها إرجاعه إلى القضايا المشهورة وقد ينكرها أيضاً. ومثل هذا المنكر للمشهورات لا ردّ له إلا العقاب أو السخرية والاستهزاء أو إحساسه: فمن ينكر مثل حسن عبادة الخالق وقبح عقوق الوالدين فحقه العقاب والتعذيب. ومنكر مثل أن القمر مستمد نوره من الشمس يسخر به ويضحك عليه. ومنكر مثل أن النار حارة يكوى بها ليحس بحرارتها.
نعم قد يطلب المشهور بالقياس الجدلي في مقابل المشاغب كما تطلب القضية الأولية بالبرهان في مقابل المغالط.
أما المشهورات المحدودة أو المختلف فيها فلا مانع من طلبها بالحجة الجدلية في مقابل من لا يراها مشهورة أو لا يعترف بشهرتها, لينبهه على شهرتها بما هو أعرف وأشهر.
ومنها (القضايا الرياضية ونحوها) لأنها مبتنية على الحس والتجربة, فلا مدخل للجدل فيها ولا معنى لطلبها بالمشهورات كقضايا الهندسة والحساب والكيمياء والميكانيك ونحو ذلك.
ـ11ـ
ادوات هذه الصناعة
عرفنا فيما سبق أن الجدل يعتمد على المسلّمات والمشهورات غير أن تحصيل ملكة هذه الصناعة (بأن يتمكن المجادل من الانتفاع بالمشهورات والمسلّمات في وقت الحاجة عند الاحتجاج على خصمه أو عند الاحتراز من الانقطاع والمغلوبية) ليس بالأمر الهين كما قد يبدو لأول وهلة. بل يحتاج إلى مران طويل حتى تحصل له الملكة شأن كل ملكة في كل صناعة. ولهذا المران موارد أربعة هي أدوات للملكة إذا استطاع الإنسان أن يحوز عليها فإن لها الاثر البالغ في حصول الملكة وتمكن الجدلي من بلوغ غرضه.
ونحن واصفون هنا هذه الأدوات. وليعلم الطالب أنه ليس معنى معرفة وصف هذه الأدوات أنه يكون حاصلاً عليها فعلاً, بل لا بد من السعي لتحصيلها بنفسه عملا واستحضارها عنده, فإن من يعرف معنى المنشار لا يكون حاصلاً لديه ولا يكون ناشراً للخشب, بل الذي ينشره من تمكن من تحصيل نفس الآلة وعمل بها في نشر الخشب. نعم معرفة أوصاف الآلة طريق لتحصيلها والانتفاع بها.
والأدوات الأربع المطلوبة هي كما يلي:
(الأداة الأولى) ـ أن يستحضر لديه أصناف المشهورات من كل باب ومن كل مادة على اختلافها, ويعدها في ذاكرته لوقت الحاجة, وأن يفصل بين المشهورات المطلقة وبين المحدودة عند أهل كل صناعة أو مذهب, وأن يميز بين المشهورات الحقيقية وغيرها, وأن يعرف كيف يستنبط المشهور ويحصل على المشهورات بالقرائن وينقل حكم الشهرة من قضية إلى أخرى.
فإذا كمل له كل ذلك وجمعه عنده فإن احتاج إلى استعمال مشهور: كان حاضراً لديه متمكناً به من الاحتجاج على خصمه.
وهذه الأداة لازمة للجدلي, لأنه لا ينبغي له أن ينقطع أمام الجمهور ولا يحسن منه أن يتأنى ويطلب التذكر أو المراجعة فإنه يفوت غرضه ويعد فاشلاً لأن غايته آنية, وهي الغلبة على خصمه أمام الجمهور. فيفوت غرضه بفوات الآوان, على العكس من طالب الحقيقة بالبرهان, فإن تأنيه وطلبه للتذكر والتأمل لا ينقصه ولا ينافي غرضه من تحصيل الحقيقة ولو بعد حين.
ومما ينبغي أن يعلم أن هذه الملكة (ملكة استحضار المشهور عند الحاجة) يجوز أن تتبّعض, بأن تكون مستحضرات المجادل خاصة بالموضوع المختص به: فالمجادل في الأمور الدينية مثلاً يكفي أن يستحضر المشهورات النافعة في موضوعه خاصة, ومن يجادل في السياسة إنما يستحضر خصوص المشهورات المختصة بهذا الباب فيكون صاحب ملكة في جدل السياسة فقط... وهكذا في سائر المذاهب والآراء.
وعليه فلا يجب في الجدلي المختص بموضوع أن تكون ملكته عامة لجميع المشهورات في جميع العلوم والآراء.
(الأداة الثانية) ـ القدرة والقوة على التمييز بين معاني الألفاظ المشتركة والمنقولة والمشككة والمتواطئة والمتباينة والمترادفة وما إليها من أحوال الألفاظ, والقدرة على تفصيلها على وجه يستطيع أن يرفع ما يطرأ من غموض واشتباه فيها, حتى لا يقتصر على الدعوى المجردة في إيرادها في حججه, بل يتبين وجه الاشتراك أو التشكيك أو غير ذلك من الأحوال.
وهناك أصول وقواعد قد يرجع إليها لمعرفة المشترك اللفظي وتمييزه عن المشترك المعنوي ولمعرفة باقي أحوال اللفظ: لا يسعها هذا الكتاب المختصر. ولأجل أن يتنبه الطالب لهذه الأبحاث نذكر مثالاً لذلك, فنقول:
لو اشتبه لفظ في كونه مشتركاً لفظياً أو معنوياً فانه قد يمكن رفع الاشتباه بالرجوع إلى اختلاف اللفظ بحسب الاعتبارات, مثل كلمة (قوة) فإنها تستعمل بمعنى القدرة كقولنا قوة المشي والقيام مثلاً, وتستعمل بمعنى القابلية والتهيؤ للوجود مثل قولنا الأخرس ناطق بالقوة والبذرة شجرة بالقوة. فلو شككنا في أنها موضوعة لمعنى أعم أو لكل من المعنيين على حدة, فإنه يمكن أن نقيس اللفظ الى ما يقابله فنرى في المثال أن اللفظ بحسب كل معنى يقابله لفظ آخر وليس له مقابل واحد, فمقابل القوة بالمعنى الأول الضعف ومقابلها بالمعنى الثاني الفعلية. ولتعدد التقابل نستظهر أن لها معنيين لا معنى واحداً وإلاّ لكان لها مقابل واحد.
وكذلك يمكن ان تستظهر أن للفظة معنيين على نحو الاشتراك اللفظي, إذا تعدد جمعها بتعدد معناها, مثل لفظة (أمر) فإنها بمعنى شيء تجمع على (أمور) وبمعنى طلب الفعل تجمع على (أوامر). فلو كان لها معنى واحد مشترك لكان لها جمع واحد.
ثم إن كثيراً ما تقع المنازعات بسبب عدم تحقيق معنى اللفظ, فينحو كل فريق من المتنازعين منحى من معنى اللفظ غير ما ينحوه الفريق الآخر ويتخيل كل منهما أن المقصود لهما معنى واحد هو موضع الخلاف بينهما. ومن له خبرة في أحوال اللفظ يستطيع أن يكشف مثل هذه المغالطات ويوقع التصالح بين الفريقين. ويمكن التمثيل لذلك بالنزاع في مسألة جواز رؤية الله, فيمكن أن يريد من يجيز الرؤية هي الرؤية القلبية أي الادراك بالعقل بينما أن المقصود لمن يحيلها هي الرؤية بمعنى الإدراك بالبصر. فتفصيل معنى الرؤية وبيان أن لها معنيين قد يزيل الخلاف والمغالطة. وهكذا يمكن كشف النزاع في كثير من الأبحاث. وهذا من فوائد هذه الأداة.
(الأداة الثالثة) ـ القدرة والقوة على التمييز بين المتشابهات سواء كان التمييز بالفصول أو بغيرها. وتحصل هذه القوة (الملكة) بالسعي في طلب الفروق بين الأشياء المتشابهة تشابهاً قريباً لا سيما في تحصيل وجوه اختلاف أحكام شيء واحد بل تحصل بطلب المباينة بين الأشياء المتشابهة بالجنس.
وتظهر فائدة هذه الأداة في تحصيل الفصول والخواص للأشياء, فيستعين بذلك على الحدود والرسوم. وتظهر الفائدة للمجادل كما لو ادعى خصمه مثلاً أن شيئين لهما حكم واحد باعتبار تشابهها فيقيس أحدهما على الآخر, أو أن الحكم ثابت للعام الشامل لهما, فإنه أي المجادل إذا ميز بينهما وكشف ما بينهما من فروق تقتضي اختلاف أحكامها ينكشف اشتباه الخصم ويقال له مثلاً: إن قياسك الذي ادعيته قياس مع الفارق.
مثاله ما تقدم في بحث المشهورات في دعوى منكر الحسن والقبح العقليين إذ استدل على ذلك بأنه لو كان عقلياً لما كان فرق بينه وبين حكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء مع أن الفرق بينهما ظاهر. فاعتقد المستدل أن حكمي العقل في المسألتين نوع واحد واستدل بوجود الفرق على إنكار حكم العقل في مسألة الحسن والقبح.
وقد أوضحنا هناك فرق بين العقلين وبين الحكمين بما أبطل قياسه فكان قياساً مع الفارق. وهذا المثال أحد موارد الانتفاع بهذه الأداة.
(الأداة الرابعة) ـ القدرة على بيان التشابه بين الأشياء المختلفة عكس الأداة الثالثة, سواء كان التشابه بالذاتيات أو بالعرضيات. وتحصل هذه القدرة (الملكة) بطلب وجوه التشابه بين الأمور المتباعدة جداً أو المتجانسة, وبتحصيل ما به الاشتراك بين الأشياء وإن كان أمراً عدمياً.
ويجوز أن يكون وجه التشابه نسبة عارضة. والحدود في النسبة إما أن تكون متصلة أو منفصلة: أما المتصلة فكما لو كان شيء واحد منسوباً أو منسوباً إليه في الطرفين, أو أنه في أحد الطرفين منسوباً وفي الثاني منسوباً إليه, فهذه ثلاثة أقسام:
(مثال الاول) ما لو قيل: نسبة الإمكان إلى الوجود كنسبته إلى العدم. و(مثال الثاني) ما لو قيل نسبة البصر إلى النفس كنسبة السمع إليها. و (مثال الثالث) ما لو قيل: نسبة النقطة إلى الخط كنسبة الخط إلى السطح.
أما المنفصلة ففيما إذا لم يشترك الطرفان في شيء واحد أصلاً كما لو قيل: نسبة الأربعة إلى الثمانية كنسبة الثلاثة إلى الستة.
وفائدة هذه الأداة اقتناص الحدود والرسوم بالاشتراك مع الأداة السابقة. فإن هذه الأداة تنفع لتحصيل الجنس وشبه الجنس, والأداة السابقة تنفع في تحصيل الفصول والخواص كما تقدم.
وتنفع هذه الأداة في إلحاق بعض القضايا ببعض آخر في الشهرة أو في حكم آخر, ببيان ما به الاشتراك في موضوعيهما, بعد أن يعلل الحكم بالأمر المشترك كما في التمثيل.
وتنفع هذه الأداة أيضاً الجدلي فيما لو ادعى خصمه الفرق في الحكم بين شيئين, فيمكنه أن يطالب بإيراد الفرق, فاذا عجز عن بيانه لا بد أن يسلم بالحكم العام ويذعن. وإن كان بحسب التحقيق العلمي لا يكون العجز عن إيراد الفرق بل حتى نفس عدم الفرق مقتضياً لالحاق شيء بشبيهه في الحكم.
المبحث الثاني ـ المواضع
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ـ1ـ
معنى الموضع
للتعبير (بالموضع) أهمية خاصة في هذه الصناعة, فينبغي أن نتقن جيداً معنى هذه اللفظة قبل البحث عن أحكامه, فنقول:
الموضع ـ باصطلاح هذه الصناعةـ هو الأصل أو القاعدة الكلية التي تتفرع منها قضايا مشهورة.
وبعبارة ثانية أكثر وضوحاً, الموضع: كل حكم كلي تنشعب منه وتتفرع عليه أحكام كلية كثيرة كل واحد منها بمثابة الجزئي بالإضافة إلى ذلك الكلي الأصل لها, وفي عين الوقت كل واحد من هذه الأحكام المتشعبة مشهور في نفسه يصح أن يقع مقدمة في القياس الجدلي بسبب شهرته.
ولا يشترط في الأصل (الموضع) أن يكون في نفسه مشهوراً, فقد يكون وقد لا يكون. وحينما يكون في نفسه مشهوراً صح أن يقع ـ كالحكم المنشعب منه ـ مقدمة في القياس الجدلي, فيكون موضعاً باعتبار ومقدمة باعتبار آخر.
مثال الموضع قولهم: >إذا كان أحد الضدين موجوداً في موضوع كان ضده الآخر موجوداً في ضد ذلك الموضوع<. فهذه القاعدة تسمى موضعاً, لأنه تنشعب منها عدة أحكام مشهورة تدخل تحتها مثل قولهم: >إذا كان الإحسان للاصدقاء حسناً فالإساءة إلى الأعداء حسنة أيضاً<, وقولهم: >إذا كانت معاشرة الجهال مذمومة فمقاطعة العلماء مذمومة<, وقولهم: >إذا جاء الحق زهق الباطل< وقولهم: >إذا كثرت الأغنياء قلّت الفقراء<... وهكذا. فهذه الأحكام وأمثالها أحكام جزئية بالقياس إلى الحكم الأول العام, وفي نفسها أحكام كلية مشهورة.
(مثال ثانٍ للموضع): قولهم: >إذا كان شيء موجوداً في وقت أو موضع أو حال أو موضوع أو نافع أو جميل فهو مطلقاً ممكن أو نافع أو جميل< فهذه القاعدة تسمى موضعاً, لأنه تنشعب منها عدة أحكام مشهورة, مثل أن يقال: >إذا كذب الرجل مرة فهو كاذب مطلقاً< و >إذا كان السياسي يذيع السرّ في بيته فهو مذيع للسرّ مطلقاً< و >اذا صبر الإنسان في حال الشدة فهو صابر مطلقاً< و >إذا ملك الإنسان العقار فهو مالك مطلقاً< ومثل إن يقال: >إذا أمكن الطالب أن يجتهد في مسألة فقهية فالاجتهاد ممكن له مطلقاً< و >إذا كان الصدق نافعاً في الحال الاعتيادية فهو نافع مطلقاً< و >إذا حسنت مجاملة العدو في حال اللقاء فهي حسنة مطلقاً<... وهكذا تتشعب من ذلك الموضع كثير من أمثال هذه الأحكام المشهورة التي هي من جزئياته.
وأكثر المواضع ليست مشهورة. وإنما الشهرة لجزئياتها فقط. والسرّ في ذلك:
1ـ إن تصور العام أبعد عن عقول العامة من تصور الخاص, فلا بد أن تكون شهرة كل عام أقل من شهرة ما هو أخص منه. لأن صعوبة التصور تستدعي صعوبة التصديق. وهذه الصعوبة تمنع الشهرة وإن لم تمنعها فإنها تقللها على الأقل.
2ـ إن العام يكون في معرفة النقض أكثر من الخاص, لأن نقض الخاص يستدعي نقض العام ولا عكس. ولهذا يكون الاطلاع على كذب العام أسهل وأسرع.
ولأجل التوضيح نجرب ذلك في الموضع الأول المذكور آنفاً:
فإنا عند ملاحظة الأضداد نجد أن السواد والبياض مثلاً من الأضداد, مع أنهما معاً يعرضان على موضوع واحد وهو الجسم, لا أن البياض يعرض على نوع من الجسم مثلاً والسواد يعرض على ضده كما يقتضيه هذا الموضع.
إذن هذا الموضع كاذب لا قاعدة كلية فيه. فانظر كيف اطلعنا بسهولة على كذب هذا العام.
أما الأحكام المشهورة المنشعبة منه كمثال الإحسان الى الأصدقاء والإساءة إلى الأعداء, فإن النقض المتقدم للوضع لا يستلزم نقضها, لما قلناه إن نقض العام لا يستدعي نقض الخاص. مثلاً نجد امتناع تعاقب الضدين مثل الزوجية والفردية على موضوع واحد بأن يكون عدد واحد مرة زوجاً ومرة فرداً, فكون بعض أصناف الأضداد كالبياض والسواد يجوز تعاقبهما على موضوع واحد لا يستلزم ان يكون كل ضدين كذلك, فجاز أن يكون الإحسان والإساءة من قبيل الزوجية والفردية لا من قبيل السواد والبياض.
وحينئذ يجب ملاحظة جزئيات هذا الحكم المنشعب من الموضع, فإذا لا حظناها ولم نعثر فيما بينها على نقض له ولم نطلع على مشهور آخر يقابله, فلا بد أن يكون في موضع التسليم ولا يلتفت إلى الأضداد الأخرى الخارجة عنه.
والخلاصة إن كذب الموضع لا يستكشف منه كذب الحكم المنشعب منه المشهور.
ـ2ـ
فائدة الموضع وسر التسمية
وعلى ما تقدم يتوجه السؤال عن الفائدة من المواضع في هذه الصناعة إذا كانت الشهرة ليست له!
والجواب: إن الفائدة منه هي أن صاحب هذه الصناعة يستطيع أن يعد المواضع ويحفظها عنده أصولا وقواعد عامة, ليستنبط منها المشهورات النافعة له في الجدل عند الحاجة للإبطال أو الإثبات. وإحصاء المواضع (القواعد العامة) أسهل وأجدى في التذكر من إحصاء جزئياتها (المشهورات المنشعبة منها).
ولذا قالوا ينبغي للمجادل ألاّ يصرح بالموضع الذي استنبط منه المشهور؛ بل يحتفظ به بينه وبين نفسه, حتى لا يجعله معرضاً للنقض والرد, لأن نقضه ورده ـ كما تقدم ـ أسهل وأسرع.
ومن أجل هذا سمّي الوضع موضعاً لأنه موضع للحفظ والانتفاع والاعتبار.
وقيل: إنما سمي موضعاً لانه يصلح أن يكون موضع بحث ونظر. وهو وجيه أيضاً وقيل غير ذلك, ولا يهم التحقيق فيه.
ـ3ـ
اصناف المواضع
جميع المواضع في المطالب الجدلية إنما تتعلق بإثبات شيء لشيء أو نفيه عنه, أي تتعلق بالإثبات والإبطال.
وهذا على إطلاقه مما لا يسهل ضبطه وإعداد المواضع بحسبه. فلذلك وجب على من يريد إعداد المواضع وضبطها ليسهل عليه ذلك أن يصنفها ليلاحظ في كل صنف ما يليق به من المواضع ويناسبه.
والتصنيف في هذا الباب إنما يحسن بتقسيم المحمولات حسبما يليق بها في هذه الصناعة. وقد بحث المنطقيون هنا عن أقسام المحمولات بالأسلوب المناسب لهذه الصناعة, وإن اختلف عن الأسلوب المعهود في بحث الكليات.
ونحن لأجل أن نضع خلاصة لأبحاثهم وفهرساً لمباحثهم في هذا الباب نسلك طريقتهم في التقسيم, فنقول:
إن المحمول إما أن يكون مساوياً للموضوع في الانعكاس() وإما أن لا يكون:
و (الأول) لا يخلو عن أحد أمرين:
(أ) ـ أن يكون دالاً على الماهية. والدال على الماهية أحد شيئين حد أو أسم.
والاسم ساقط عن الاعتبار هنا لأن حمله على الموضوع حمل لفظي لا حقيقي, فلا يتعلق به غرض المجادل. فينحصر الدال على الماهية في (الحدّ) فقط.
(ب) ـ أن لا يكون دالاً على الماهية. ويسمى هنا (خاصة) وقد يسمى أيضا (رسماً), لأنه يكون موجباً لتعريف الماهية بتمييزها عمّا عداها.
و (الثاني) لا يخلو ـ أيضا عن أحد أمرين:
(أ)ـ أن يكون واقعاً في طريق ما هو. ويسمى هنا (جنساً). والجنس بهذا الاصطلاح يشمل الفصل باصطلاح باب الكليات, إذ لا فائدة تظهر في هذا الفن بين الجنس والفصل.
وإنما كان الفصل من أقسام ما ليس بمساوٍ للموضوع, فلانه بحسب مفهومه وذاته بالقوة يمكن أن يقع على الأشياء المختلفة بالحقيقة, وأن كان فعلاً لا يقع إلاّ على الأشياء المتفقة الحقيقة, فإن الناطق مثلاً لا يقع فعلاً إلا على أفراد الإنسان, ولكنه بالقوة وبحسب مفهومه يصلح للصدق على غير الإنسان لو كان له النطق, فلا يمتنع فرض صدقه على غير الإنسان. فلم يكن مفهوماً مساوياً للإنسان. وبهذا الاعتبار يسمى هنا (جنساً).
(ب)ـ أن لا يكون واقعاً في طريق ما هو, ويسمى (عرضاً). والعرض شامل للعرض العام وللعرض الذي هو أخص من الموضوع, إذ أن كلاً منهما غير مساوٍ للموضوع, كما أنه غير واقع في جواب ما هو.
وعلى هذا فالمحمولات أربعة: حد, وخاصة, وجنس, وعرض. أما (النوع) فلا يقع محمولاً, لأنه إما أن يحمل على الشخص أو على الصنف, ولا اعتبار بحمله على الشخص هنا, لأن موضوعات مباحث الجدل كليات. وأما الصنف فحمل النوع عليه بمثابة حمل اللوازم, لأن النوع ليس نوعاً للصنف, فيدخل النوع من هذه الجهة في باب العرض.
وعليه فالنوع بما هو نوع لا يقع محمولاً في القضية. بل إنما يقع موضوعاً فقط.
إذا عرفت أقسام المحمولات على النحو المتقدم الذي يهم الجدلي ـ فاعلم أنه لا يتعلق غرض المجادل في مقام المخاصمة في أن محموله في مطلوبه أي قسم منها, فإن كل غرضه أن يتوصل إلى إثبات حكم أو إبطاله, أما أنه جنس أو خاصة أو أي شيء آخر فليس ذلك يحتاج إليه.
وإنما الذي يحتاج إليه قبل المخاصمة والمجادلة أو يعد المواضع لاستنباط المشهورات التي تنفعه عند المخاصمة. وإعداد هذه المواضع في هذه الصناعة يتوقف على تفصيل المحمولات حسب تلك الأقسام ليعرف لكل محمول ما يناسبه من المواضع.
وعليه فالمواضع منها ما يخص الحد ـ مثلاًـ فينظر لأجل إثباته في أنه يجب أن يكون موجوداً لموضوعه وأنه مساوٍ له وأنه واقع في طريق ما هو وأنه قائم مقام الاسم في الدلالة على الموضوع.
ومنها ما يخص الخاصة, فينظر لأجل إثباتها في أنها يجب أن تكون موجودة لموضوعها وأنه مساوية له وأنه غير واقعة في طريق ما هو ... وهكذا باقي أقسام المحمولات.
فتكون المواضع ـ على ما تقدم ـ أربعة أصناف:
ثم إن هناك مواضع عامة للإثبات والإبطال لا يخص أحد المحمولات الأربعة بالخصوص وتنفع في جميع المحمولات. وتسمى (مواضع الإثبات والإبطال).
فيضاف هذا الصنف إلى الأصناف السابقة, فتكون خمسة.
ثم لا حظوا إن كثيراً ما يهم الجدلي إثبات أن هذا المحمول أشد من غيره أو اضعف أو أولى وغير أولى. وهذا إنما يصح فرضه في الأعراض الخاصة لأنها هي التي تقبل التفاوت. فزادوا صنفاً سادساً وسمّوه (مواضع الأولى والآثر) ثم لا حظوا أنه قد يتوجه نظر الجدلي إلى بحث آخر, وهو إثبات الاتحاد بين الشيئين إما بحسب الجنس أو النوع أو العارض أو الوجود؛ فسمّوا المواضع في ذلك (مواضع هو هو).
وعلى هذا فتكون المواضع سبعة, وتفصيل هذه المواضع يحتاج إلى فن مستقل لا تسعه هذه الرسالة المختصرة. على أن كل مجادل مختص بفن كالفقيه والمتكلم والمحامي والسياسي لا بد أن يتقن فنّه قبل أن يبرز إلى الجدال فيطلع على ما فيه من مشهورات ومسلّمات وما يقتضيه من المشهورات. فلا تكون له كبير حاجة إلى معرفة المواضع في علم المنطق وتحضيرها من طريقه.
ولأجل ألا نكون قد حرمنا الطالب من التنبه للمقصود من المواضع نذكر بعض المواضع لبعض الأصناف السبعة المتقدمة, ونحيله على الكتب المطولة في هذا الفن إذا أراد الاستزادة, فنقول.
ـ4ـ
مواضع الإثبات والإبطال
مواضع الإثبات والإبطال نفعها عام في جميع المحمولات كما تقدم, وإثبات وإبطال الأعراض داخلة في هذا الباب أيضاً. وأشهر المواضع في هذا الباب عدّوها عشرين موضعاً, وما ذكرناه من أمثلة المواضع فيما سبق هي من مواضع الإثبات والإبطال. ونذكر الآن مثالاً واحداً غيرها, وهو:
أن العارض على المحمول عارض على موضوعه, فيمكن أن تثبت عروض شيء للموضوع بعروضه لمحموله, وتبطل عروضه للموضوع بعدم عروضه لمحموله, فمثلاً يقال: الجمهور عاطفي. فالجمهور موضوع وعاطفي محمول. وهذا المحمول وهو العاطفي يوصف بأنه تقوى فيه طبيعة المحاكاة فيثبت من ذلك ان الجمهور يوصف بأنه تقوى فيه طبيعة المحاكاة.
ويقال أيضاً: السياسي نفعي. ثم إن هذا المحمول, وهو النفعي, يوصف بانه يقدّم منفعته الخاصة على المصلحة العامة. فيثبت أن السياسي يقدم منفعته الخاصة على المصلحة العامة.
ويقال أيضا: الصادق عادل. ثم إن هذا المحمول, وهو العادل. لا يوصف بكونه ظالماً أي لا يعرض عليه الظلم. فيبطل بذلك كون الصادق ظالماً.
ومعنى هذا الموضع أنك تستنبط من مشهورين مشهوراً ثالثاً. والمشهوران هما حمل المحمول على موضوعه واتصاف المحمول بصفة كالمثالين الأولين, فتستنبط المشهور الثالث وهو حمل صفة المحمول على الموضوع. أو المشهوران هما حمل المحمول على موضوعه وعدم اتصاف المحمول بصفة كالمثال الأخير, فتستنبط منهما المشهور الثالث وهو إبطال اتصاف الموضوع بتلك الصفة.
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ـ5ـ
مواضع الأولى والآثر
أصل هذا الباب ترجيح شيء واحد من شيئين بينهما مشاركة في بعض الوجوه. والألفاظ المستعملة المتداولة في التفضيل هي كلمة آثر وأولى وأفضل وأكثر وأازيد وأشد وأشرف وأقدم وما يجري مجرى ذلك. وما يقابل كل واحد منها, مثل الأنقص والأخس والأقل والأضعف وهكذا. ولكل من كلمات التفضيل هذه خصوصية يطول الكلام في شرحها.
وإنما يحتاج إلى المواضع في هذا الباب ففي الأمور التي لا يظهر فيها التفاضل لأول وهلة, وإلاً فما هو ظاهر التفاضل فيه مثل إن الشمس أكثر ضوءاً من القمر يكون إيراد المواضع لإثباته حشواً ولغواً.
وكثيراً ما يقع التنازع بين الناس في تفضيل شخص على شخص أو شيء على شيء, من ماكولات وملبوسات ومسكونات ومراتب ووظائف وأخلاق وعادات ...وهكذا.
والتنازع تارة يكون من هو الأفضل مع الاتفاق على وجه الفضيلة, كأن يتنازع شخصان في أن حاتم الطائي أكثر كرماً أم معن بن زائدة مع الاتفاق بينهما على أن الكرم فضيلة وأنه قد اتصفا بها معاً. ومثل هذا النزاع إنما يتوقف على ثبوت حوادث تاريخية تكشف عن الأفضلية وليس على هذا الفن.
وأخرى يكون النزاع في وجه الافضلية كأن يتنازعا في أنه أيهما أولى بأن يوصف بالكرم, مع الاتفاق على أن معناً ـ مثلاً ـ يجود بفضل ما له وحاتماً يجود بكل ما يملك, ومع الاتفاق أيضاً على أن ما جاد به معن أكثر بكثير في تقدير المال مما جاد به حاتم. وحينئذ يكون النزاع في العبرة في الأفضلية بالكرم هل هو بمقدار العطاء فيكون معن أفضل من حاتم أو بما يتحقق به معنى الإيثار فيكون حاتم أفضل.
ويمكن أن يتمسك القائل الأول بموضع في هذا الباب, وهو (إن ما يفيد خيراً أكثر فهو آثر وأولى بالفضل), فيكون معن أفضل. ويمكن أن يتمسك القائل الثاني بموضع آخر فيه, وهو >إن ما ينبعث من تضحية أكثر بالحاجة والنفس فهو آثر وأولى بالفضل< فيكون حاتم أفضل. فهذان موضعان من هذا الباب يمكن أن يستدل بهما الخصمان المتجادلان.
هذا أقصى ما أمكن بيانه من المواضع. وعليك بالمطولات في استقصائها إن أردت, ومن الله تعالى التوفيق.
المبحث الثالث ـ الوصايا
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ـ1ـ
تعليمات للسائل
تقدم في الباب الأول من هو (السائل). وعليه ـ لتحصيل غرضه وهو الحصول على اعتراف (المجيب) ـ أن يتبع التعليمات الثلاثة الآتية:ـ
1ـ أن يحضر لديه ـ قبل توجيه السؤال ـ الموضع أو المواضع التي منها يستخرج المقدمة المشهورة اللازمة له.
2ـ أن يهييء في نفسه ـ قبل السؤال أيضاً ـ الطريقة والحيلة التي يتوسل بها لتسليم المجيب بالمقدمة والتشنيع على منكرها.
3ـ لما كان من اللازم عليه أن يصرح بما يضمره في نفسه من المطلوب الذي يستلزم نقض وضع الخصم ـ فليجعل هذا التصريح آخر مراحل أسئلته وكلامه, بعد أن يأخذ من الخصم الاعتراف والتسليم بما يريد ويتوثق من عدم بقاء مجال عنده للإنكار.
هذه هي الخطوط الأولى الرئيسة التي يجب أن يتبعها السائل في مهمته. ثم لأخذ الاعتراف طرق كثيرة, ينبغي أن يتبع إحدى الوصايا () الآتية لتحقيقها:
1ـ ألاّ يطلب من أول الأمر التسليم من الخصم بالمقدمة اللازمة لنقض وضعه. وبعبارة ثانية: ينبغي ألاّ يقتحم الميدان في الجدل في أول جولة بالسؤال عن نفس المقدمة المطلوبة له. والسر في ذلك أن المجيب حينئذ يكون في مبدأ قوته وانتباهه, فقد يتنبه الى مطلوب السائل, فيسرع في الإنكار ويعاند.
2ـ وإذا انتهى به السؤال عن المطلوب, فلا ينبغي أيضاً أن يوجه السؤال رأساً عن نفس المطلوب, خشية أن يشعر الخصم فيفّر من الاعتراف, بل له مندوحة عن ذلك باتّباع أحد الطرق أو الحيل() الاتية:ـ
(الاولى)ـ ان يوجه السؤال عن امر اعم من مطلوبه, فاذا اعترف بالاعم الزمه قهرا بالاعتراف بالاخص بطريقة القياس الاقتراني.
(الثانية)ـ ان يوجه السؤال عن امر اخص, فاذا اعترف به, فبطريقة الاستقراء يستطيع ان يلزم خصمه بمطلوبه.
(الثالثة)ـ ان يوجه السؤال عن امر يساويه, فاذا اعترف به, فبطريقة التمثيل يتمكن من الزامه اذا كان ممن يرى التمثيل حجة.
(الرابعة)ـ ان يعدل عن السؤال عن الشيء الى السؤال عما يشتق منه, مثل ما اذا اراد ان يثبت ان الغضبان مشتاق للانتقام فقد ينكر الخصم ذلك لو سئل عنه فيدعى مثلا ان الاب يغضب على ولده ولا يشتاق الى الانتقام منه, فيعدل الى السؤال عن نفس الغضب, فيقال: اليس الغضب هو شهوة الانتقام؟ فاذا اعترف به يقول له: إذن الغاضب مشتهٍ للانتقام.
(الخامسة)ـ ان يقلب السؤال بما يوهم الخصم ان يريد الاعتراف منه بنقيض ما يريد, كما لو أراد ـ مثلا اثبات ان اللذة خير, فيقول: أليست اللذة ليست خيراً؟
فهذا السؤال قد يوهم المخاطب أنّه يريد الاعتراف بنقيض المطلوب, فيبادر عادة الى الاعتراف بالمطلوب إذا كان من طبعه العناد لما يريده السائل.
ولكلّ من هذه الحيل الخمس مواضع قد تنفع فيها احداها ولا تنفع الاخرى.
فعلى السائل الذكي ان يختار ما يناسب المقام.
3ـ ألا يرتب المقدمات في المخاطبة ترتيباً قياسياً على وجه يلوح للخصم انسباقها الى المطلوب, بل ينبغي ان يشوش المقدمات ويخل بترتيبها فيراوغ في الوصول الى المطلوب على وجه لا يشعر الخصم.
4ـ ان يتظاهر في سؤاله أنّه كالمستفهم الطالب للحقيقة المقدم للانصاف على الغلبة, بل ينبغي أن يلوح عليه الميل الى مناقضة نفسه وموافقة خصمه, لينخدع به الخصم المعاند فيطمئن اليه. وحينئذ يسهل عليه استلال الاعتراف منه من حيث يدري ولا يدري.
5ـ ان يأتي بالمقدمات في كثير من الأحوال على سبيل مضرب المثل أو الخبر, ويدعي في قوله ظهور ذلك وشهرته وجري العادة عليه, ليجد الخصم إن جحدها أمام الجمهور مما يوجب الاستخفاف به والاستهانة له, فيجبن عن انكارها.
6ـ أن يخلط الكلام بما لا ينفع في مقصوده, ليضيع على الخصم ما يريده من المقدمة المطلوبة بالخصوص. والأفضل أن يجعل الحشو حقاً مشهوراً في نفسه, فإنه يضطر إلى التسليم به, وإذا سلّم به أمام الجمهور قد يندفع مضطراً إلى التسليم بما هو مطلوب انسياقاً مع الجمهور الذي يفقد على الأكثر قوة التمييز.
7ـ إن من الخصوم من هو مغرور بعلمه معتد بذكائه, فلا يبالي أن يسلّم في مبدأ الأمر بما يلقى عليه من الأسئلة, ظناً منه بأن السائل لا يتمكن من أن يظفر منه بتسليم ما يهدم وضعه وبأنه يتمكن حينئذ من اللجاج والعناد.
فمثل هذا الشخص ينبغي للسائل أن يمهد له بتكثير الأسئلة عما لا جدوى له في مقصوده, حتى اذا استنفذ غاية جهده قد يتسرب إليه الملل والضجر فيضيع عليه وجه القصد أو يخضع للتسليم.
8ـ إذا انتهى إلى مطلوبه من الاستلزام لنقض وضع الخصم فعليه أن يعبر عنه بأسلوب قوي الأداء لا يشعر بالشك والترديد, ولا يلقيه على سبيل الاستفهام, فإن الاستفهام هنا يضعف أسلوبه فيفتح به للخصم مجالاً لإنكار الملازمة أو إنكار المشهور, فيرجع الكلام من جديد جذعاً. وقد يشق عليه أن يوجه هذه المرة أسئلة نافعة في المقصود, فيغلب على أمره.
9ـ أن يفهم نفسية الجماعات والجماهير من جهة أنها تنساق إلى الأغراء وتتاثر ببهرجة الكلام حتى يستغل ذلك للتأثير فيها, والمفروض أن الغرض الأصيل من الجدل التغلب على الخصم أمام الجمهور. وينبغي له أن يلاحظ أفكار الحاضرين ويجلب رضاهم باظهار أن هدفه نصرتهم وجلب المنفعة لهم, ليسهل عليه أن يجرهم إلى جانبه فيسلموا بما يريد التسليم به منهم. وبهذا يستطيع ان يقهر خصمه على الموافقة للجمهور في تسليم ما سلّموا به, لأن مخالفة الجمهور فيما اتفقوا عليه أمامهم يشعر الإنسان بالخجل والخيبة.
10ـ وهو آخر وصايا السائل ـ اذا ظهر على الخصم العجز عن جوابه وانقطع عن الكلام فلا يحسن منه أن يلح عليه أو يسخر منه أو يقدح فيه, بل لا يحسن أن يعقبه بكل كلام يظهر مغلوبيته وعجزه, فإن ذلك قد يثير الجمهور نفسه ويسقط احترامه عندهم فيخسر تقديرهم من حيث يريد النجاح والغلبة.
ـ2ـ
تعليمات للمجيب
إن (المجيب) ـ كما قدمنا ـ مدافع عن مهاجمة خصمه (السائل). والمدافع ـ غالباً ـ أضعف كفاحاً من المهاجم وأقرب إلى المغلوبية, لأن المبادأة بيد المهاجم, فهو يستطيع ان ينظم هجومه بالاسئلة كيف يشاء, ويترك منها ما يشاء. والمجيب على الاكثر مقهور على مماشاة السائل في المحاورة.
وعلى هذه فمهمة بالمجيب أشق وأدق, واللازم له عدة طرق مترتبة يسلكها بالتدريج أولاً فأولاً, فإن لم يسلك الأول أخذ بالثاني وهكذا. وهي حسب الترتيب:
أولاًـ ان يحاول الالتفاف على السائل, بأن يحوّر الكلام ـ إن استطاع ـ فيعكس عليه الدائرة بتوجيه الأسئلة مهاجماً ولا بد أن السائل له وضع يلتزم به يخالف وضع المجيب. فينقلب حينئذ المهاجم مدافعاً والمدافع مهاجماً. وبهذه الطريقة يصبح أكثر تمكنا من الأخذ بزمام المحاورة, بل يصبح في الحقيقة هو السائل.
ثانياًـ إذا عجز عن الطريقة الأولى, وهي الالتفاف, يحاول إرباك السائل وإشغاله بأمور تبعد عليه المسافة كسباً للوقت كيما يعد عدته للجواب الشافي, مثل أن يجد في أسئلته لفظاً مشتركاً فيستفسر عن معانيه ليتركه يفصلها ثم يناقشه فيها. أو هو يتولى تفصيلها ليذكر أي المعاني يصح السؤال عنه وأيها لا يصح. وفي هذه قد تحصل فائدة أخرى فإنه بتفصيل المعاني المشتركة قد تنبثق له طريقة للهرب عمّا يلزمه به السائل بأن يعترف ـ مثلاًـ بأحد المعاني الذي لا يلزم منه نقض وضعه.
ثالثاًـ إذا لم تنجح الطريقة الثانية وهي طريقة الإشغال والإرباك يحاول ـ إن استطاع ـ الامتناع من الاعتراف بما يستلزم نقض وضعه. وينبغي أن يعلم أنه لا ضير عليه بالاعتراف بالمشهورات إذا كان وضعه مشهوراً حقيقياً, لأنه ـ غالباًـ لا ينتج المشهور إلا مشهوراً, فلا يتوقع من المشهورات أن تنتج ما يناقض وضعه المشهور.
وليس معنى الهرب من الاعتراف أن يمتنع من الاعتراف بكل شيء يلقى عليه. فإن هذه الحالة قد تظهره أمام الجمهور بمظهر المعاند المشاغب فيصبح موضعا للسخرية والنقد, بل يحاول الهرب من الاعتراف بخصوص ما يوجب نقض وضعه.
رابعاـ إذا وجد أن الطريقة الثالثة لا تنفع وهي طريقة الهرب من الاعتراف (وذلك عندما يكون المسؤول عنه الذي يحذر من الاعتراف به مشهوراً مطلقاً, لان العناد في مثله أكثر قبحاً من الالتزام به)ـ فعليه الا يعلن عن إنكاره له صراحة, لأنه لو فعل ذلك في مثله فهو يخسر أمام الحاضرين كرامة نفسه, وفي نفس الوقت يخسر وضعه الملتزم له. فلا مناص له حينئذ من اتباع أحد طريقين:
(الاول)ـ أن يعلن الاعتراف. ولا ضير عليه في ذلك, لأنه إن دل على شيء فإنّما يدل على ضعف وضعه الذي يلتزمه لا على قصور نفسه وعلمه. وهذا وإن كان من وجهة يكشف عن قصور نفسه إذ يلتزم بما لا ينبغي الالتزام به, ولكن ينبغي له لتلاقي ذلك في هذا الموقف (وهو أدق المواقف التي تمر على المجيب المنصف المحب للحق والفضيلة) أن يعلن أنه طالب للحق ومؤثر للانصاف والعدل له أو عليه.
وهذا لعله يعوض عما يخسر من المحافظة على وضعه بالاحتفاظ على سمعته وكرامته.
(الثاني)ـ اذا وجد انه يعز عليه اعلان الاعتراف فان اخر ما يمكنه أن يفعله أن يتلطف في أسلوب الامتناع الذي التزمه لا يعترفون بذلك, فيلقي تبعة الانكار على غيره. أو يقول: كيف يطلب مني الاعتراف وأنا بعد لم أوضح مقصودي, فيؤجل ذلك الى مراجعة أو مشاورة, أو نحو ذلك من أساليب الهرب من التصريح بالانكار أو من التصريح بالاعتراف.
خامساـ بعد أن تعز عليه جميع السبل من الهرب من الاعتراف, ويعترف بالمشهور, فإنه يبقى له طريق واحد لا غير. وهو مناقشة الملازمة بين المشهور المعترف به وبين نقض وضعه, بأن يلحق المشهور ـ مثلاً ـ بقيود وشرائط تجعله لا ينطبق على مورد النزاع, أو نحو ذلك من الأساليب التي يتمكن بها من مناقشة الملازمة. وهذه مرحلة دقيقة شاقة تحتاج الى علم ومعرفة وفطنة.
ـ3ـ
تعليمات مشتركة للسائل والمجيب او اداب المناظرة
(أولا)ـ ان يكون ماهرا في عدة اشياء:
1ـ في إيراد عكس القياس, بأن يتمكن من جعل القياس الواحد أربعة اقيسة بحسب تقابل التناقض والتضاد.
2ـ في إيراد العكس المستوي وعكس النقيض ونقض المحمول والموضوع, فإن هذا يفيده في التوسع بإيراد الحجج المتعددة على مطلوبه أو ابطال مطلوب غيره.
3ـ في إيراد مقدمات كثيرة لاثبات كل مطلوب من مواضع مختلفة وكذلك إبطاله. الى غير ذلك من أشياء تزيد في قوة إيراد الحجج المتعددة.
(ثانياً) ـ ان يكون لسناً منطقياً يستطيع ان يجلب انتباه الحاضرين وانظارهم نحوه, ويحسن ان يثير اعجابهم به وتقديرهم لبراعته الكلامية.
(ثالثاً)ـ ان يتخير الالفاظ الجزلة الفخمة, ويتجنب العبارات الركيكة العامية, ويتقي التمتمة والغلطة في الالفاظ والاسلوب, للسبب المتقدم.
(رابعاً)ـ ألا يدع لخصمه مجال الاستقلال بالحديث فيستغل أسماع الحاضرين وانتباههم له, لأن استغلال الحديث في الاجتماع مما يعين على الظهور عل الغير والغلبة عليه.
(خامساً)ـ أن يكون متمكنا من إيراد الامثال والشواهد من الشعر والنصوص الدينية والفلسفية والعلميّة وكلمات العظماء والحوادث الصغيرة الملائمة. وذلك عند الحاجة طبعا. بل ينبغي أن يكثر من ذلك ما وجد اليه سبيلاً, فانه يعنيه كثيراً على تحقيق مقصوده والغلبة على خصمه. والمثل والواحد قد يفعل في النفوس ما لا تفعله الحجج المنطقية من الانصياع اليه والتسليم به.
(سادساً)ـ أن يتجنب عبارة الشتم واللعن, والسخرية والاستهزاء, ونحو ذلك مما يثير عواطف الغير ويوقظ الحقد والشحناء. فإنَّ هذا يفسد الغرض من المجادلة التي يجب أن تكون بالتي هي احسن.
(سابعاً)ـ ألا يرفع صوته فوق المألوف المتعارف, فاّن هذا لا يكسبه إلا ضعفاً, ولا يكون إلا دليلاً على الشعور بالمغلوبية, بل الذي يجب عليه أن يلقي الكلام القوي الأداء لا يشعر بالتردد والارتباك والضعف والانهيار, وإن أداه بصوت منخفض هادئ فإن تأثيره هذا الاسلوب أعظم بكثير من تأثير إسلوب الصياح والصراخ.
(ثامناً)ـ أن يتواضع في خطاب خصمه, ويتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم والكلمات النابية القبيحة.
(تاسعاً)ـ أن يتظاهر بالاصغاء الكامل لخصمه, ولا يبدأ بالكلام الا من حيث ينتهي من بيان مقصوده, فان الاستباق الى الكلام سؤالاً وجواباً قبل أن يتم خصمه كلامه يربك على الطرفين سير المحادثة ويعقد البحث من جهة ويثير غضب الخصم من جهة اخرى.
(عاشراً)ـ أن يتجنب (حد الامكان) مجادلة طالب الرياء والسمعة ومؤثر الغلبة والعناد ومدعي القوة والعظمة, فان هذا ـ من جهة ـ يعديه بمرضه فينساق بالاخير مقهوراً الى ان يكون شبيها به في هذا المرض. و ـ من جهة اخرى ـ لا يستطيع مع مثل هذا الشخص أن يتوصل الى نتيجة مرضية في المجادلة.
ولو اضطر الى مجادلة مثل هذا الخصم, فلا ضير عليه أن يستعمل الحيل في محاورته ويغالطه في حججه, بل لا ضير عليه في استعمال حتى مثل الاستهزاء والسخرية واخجاله.
و (الوصية الاخيرة) لكل مجادل ـ مهما كان ـ الا يكون همه الا الوصول الى الحق وايثار الانصاف وأن ينصف خصومه من نفسه, ويتجنب العناد بالاصرار على الخطأ, فانّه خطأ ثان, بل ينبغي أن يعلن ذلك ويطلبه من خصمه بالحاح حتى لا يشذّ الطرفان عن طلب الحق والعدل والانصاف.
وهذا أصعب شيء يأخذ الانسان به نفسه, فلذلك عليه أن يستعين على نفسه بطلب المعونة من الله سبحانه فإنّه تعالى مع المتقين الصابرين.
الفصل الثالث
صناعة الخطابة
وهو يقع في ثلاثة مباحث:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
1ـ في الاصول والقواعد.
2ـ في الانواع.
3ـ في التوابع.
المبحث الاول ـ الاصول والقواعد
ـ1ـ
وجه الحاجة الى الخطابة
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
كثيراً ما يحتاج المشرعون ودعاة المبادئ والسياسيون ونحوهم الى إقناع الجماهير فيما يريدون تحقيقه, إذ تحقيق فكرتهم أو دعوتهم لا تتم إلا برضا الجمهور عنها وقناعتهم بها.
والجمهور لا يخضع للبرهان ولا يقنع به, كما لا يخضع للطرق الجدلية, لأنَّ الجمهور تتحكم به العاطفة أكثر من التعقل والتبصر, بل ليس له الصبر على التأمل والتفكير ومحاكمة الادلة والبراهين, وانما هو سطحي التفكير فاقد للتمييز الدقيق. تؤثر فيه المغريات وتبهره العبارات البراقة وتقنعه الظواهر الخلاّبة. ولعدم صبره على التمييز الدقيق نجده اذا عرضت عليه فكرة لا يتمكن من التفكيك بين صحيحها وسقيمها فيقبلها كلها او يرفضها كلها.
وعليه, فيحتاج من يريد التأثير على الجماهير في إقناعهم ان يسلك مسلكاً آخر غير مسلك البرهان والجدل المتقدمين, فان الذي يبدو أن الطرق العقلية عاجزة عن التأثير على عقائد الناس وتحويلها لعجزها عن التأثير على عواطفهم المتحكمة فيهم.
بل لا يقتصر هذا الامر على الجمهور بما هو جمهور, فإن كلّ فرد من أفراد العامة إذا كان قليل الثقافة والمعرفة هو أبعد ما يكون عن الإقتناع بالطرق البرهانية او الجدلية, بل أكثرالخاصة المثقفين ـ وإن ظنوا في أنفسهم المعرفة وحرية الرأي ـ ينجذبون الى الطرق المقنعة المؤثرة على العواطف وينخدعون بها. بل لا يستغنون عنها في كثير من آرائهم واعتقاداتهم, بالرغم على قناعتهم بمعرفتهم وثقافتهم التي قد يتخيلون أنهم قد بلغوا بها الغاية.
فيجب أن تكون المخاطبة التي يتلقاها الجمهور والعامي وشبهه من نوع لا تكون مرتفعة ارتفاعاً بعيداً عن درجة مثله. ولذا قيل: >كلم الناس على قدر عقولهم<.
ولم تبق لنا صناعة هذا الغرض غير صناعة الخطابة, فإن الاسلوب الخطابي أحسن شيء للتاثير على الجمهور والعامي. وكلّ شخص إستطاع أن يكون خطيباً بالمعنى المقصود من الخطابة في هذا الفن فإنّه هو الذي يستطيع أن يستغل الجمهور والعوام ويأخذ بأيديهم الى الخير أو الشر.
فهذا وجه حاجتنا ـ معاشر الناس ـ الى صناعة الخطابة, ولزم على من يريد قيادة الجمهور الى الخير ان يتعلم هذه الصناعة, وهي عبارة عن معرفة طرق الإقناع.
فان الخطابة انجح من غيرها في الاقناع, كما ان الجدل في الالزام انفع.
ـ2ـ
وظائف الخطابة وفوائدها
مما تقدم نستطيع أن نعرف أن وظائف الخطابة هو الدفاع عن الرأي, وتنوير الرأي العام في أيّ أمر من الأمور, والحض على الاقتناع بمبدأ من المبادئ, والتحريض على اكتساب الفضائل والكمالات واجتناب الرذائل والسيئات, وآثارة شعور العامة وإيقاظ الوجدان والضمير فيهم. وبالاختصار وظيفتها إعداد النفوس لتقبل ما يريد الخطيب أن تقتنع به.
وبهذا تعرف أن فائدة الخطابة فائدة كبيرة, بل هي ضرورة اجتماعية في حياة الناس العامة.
وهي ـ بعد ـ وظيفة شاقة, إذ أنّها تعتمد ـ بالاضافة الى معرفة هذه الصناعة ـ على مواهب الخطيب الشخصية التي تصقل بالتمرين والتجارب ولا تكتسب بهذه الصناعة ولا بغيرها, وإنما وظيفة هذه الصناعة توجبه تلك المواهب وإعداد ما يلزم لمعرفة طرق اكتساب ملكة الخطابة, مع المران الطويل وكثرة التجارب. وسيأتي التنصيص على حاجة الخطابة الى المواهب الشخصية.
ـ3ـ
تعريف هذه الصناعة وبيان معنى الخطابة
يمكن مما تقدم أن نتصيد تعريف صناعة الخطابة على النحو الآتي حسبما هو معروف عند المنطقيين: >إنها صناعة علمية بسببها يمكن إقناع الجمهور في الأمر الذي يتوقع حصول التصديق به بقدر الامكان<.
هذا هو تعريف أصل هذه الصناعة التي غايتها حصول ملكة الخطابة التي بها يتمكن الشخص الخطيب من إقناع الجمهور. والمراد من القناعة هو التصديق بالشيء مع الاعتقاد بعدم إمكان أن يكون له ما ينقض ذلك التصديق, أو مع الاعتقاد بإمكان ما ينقضه إلاّ أنَّ النفس تصير بسبب الطرق المقنعة أميل الى التصديق من خلافه. وهذا الاخير هو المسمى عندهم (بالظن) على نحو ما تقدم في هذا الجزء.
ثمّ أَنّه ليس المراد من لفظ (الخطابة) التي وضعت لها هذه الصناعة مجرد معنى الخطابة المفهوم من لفظها في هذا العصر, وهو أنْ يقف الشخص ويتكلم بما يسمع المجتمعين بأي إسلوب كان, بل إسلوب البيان واداء المقاصد بما يتكفل إقناع الجمهور هو الذي يقوم معنى الخطابة وإنّ كان بالكتابة او المحاورة كما يحصل في محاورة المرافعة عند القضاة والحكام.
وهذه الصناعة تتكفل ببيان هذا الاسلوب, وكيف يتوصل الى إقناع الناس بالكلام, وما لهذا الاسلوب من مساعدات واعوان من صعود على مرتفع ورفع صوت ونبرات خاصة وما الى ذلك مما سياتي شرحه.
ـ4ـ
اجزاء الخطابة
الخطابة تشتمل على جزءين: العمود والاعوان.
أـ (العمود). ويقصدون بالعمود هنا مادة قضايا الخطابة التي تتألف منها الحجّة الإقناعية. وتسمى الحجّة الإقناعية باصطلاح هذه الصناعة (التثبيت) على ما سياتي. وبعبارة أخرى: العمود هو كل قول منتج لذاته للمطلوب انتاجاً بحسب الإقناع. وإنما سمي عموداً فباعتبار أنّه قوام الخطابة وعليه الاعتماد في الإقناع.
ب ـ (الاعوان). ويقصدون بها الاقوال والافعال والهيئات الخارجية عن العمود المعينة له على الاقناع المساعدة له على التأثير المهيئة للمستمعين على قبوله.
وكل من الأمرين (العمود والاعوان) يعد في الحقيقة جزءاً مقوماً للخطابة, لأنّ العمود وحده قد لا يؤدي تمام الغرض من الإقناع, بل على الاكثر يفشل في تحقيقه. والمقصود الأصلي من الخطابة هو الإقناع كما تقدم, فكل ما هو مقتض له دخيل في تحققه لا بّد انْ يكون في الخطابة دخيلاً, وإن كان من الامور الخارجة عن مادة القضايا التي تتألف منه الحجّة (العمود).
وقولنا هنا: >مقتض للإقناع< نقصد به أعم مما يكون مقتضيا لنفس الإقناع أو مقتضيا للاستعداد له. والمقتضي لنفس الإقناع ليس العمود وحده ـ كما ربما يتخيل ـ بل شهادة الشاهد ايضاً تقتضيه مع أنّها من الاعوان.
وشهادة الشاهد على قسمين شهادة قول وشهادة حال. فهذه أربعة أقسام ينبغي البحث عنها: العمود والشهادة القولية وشهادة الحال والمقتضي للإستعداد للاقناع.
ويمكن فتح البحث فيها بإسلوب آخر من التقسيم بأنْ تقول:
الخطابة تشتمل على عمود واعوان. ثم الاعوان على قسمين أما بصناعة وحيلة وأما بغير صناعة وحيلة. والأول وهو ما كان بصناعة وحيلة ويسمى (استدراجات) فعلى ثلاثة اقسام: استدراجات بحسب القائل أو بحسب القول أو بحسب المستمع. والثاني هو ما كان بغير صناعة وحيلة يسمى (نصرة) و(شهادة). وهي ـ الشهادة ـ على قسمين شهادة قول وشهادة حال. فهذه ستة أقسام:
1ـ العمود.
2ـ استدراجات القائل.
3ـ استدراجات بحسب القول.
4ـ استدراجات بحسب المستمع.
5ـ شهادة القول.
6ـ شهادة الحال.
فهذه الستة هي ـ بالاخير ـ تكون أجزاء الخطابة, فينبغي البحث عنها واحدة واحدة.
ـ5ـ
العمود
(العمود) ـ وقد تقدم معناه ـ يتألف من المظنونات أو المقبولات أو المشهورات أو المختلفة بينها. وقد سبق شرح هذه المعاني تفصيلاً في مقدمة الصناعات الخمس, فلا نعيد.
واستعمال (المشهورات) في الخطابة باعتبار مالها من التأثير على السامعين في الإقناع. ولذا لا يعتبر فيها إلاً أنْ تكون مشهورات ظاهرية, وهي التي تحمد في بادئ الرأي وإنْ لم تكن مشهورات حقيقية. وبهذا تفترق الخطابة عن الجدل, اذ الجدل لا يستعمل فيه إلاّ المشهورات الحقيقية. وقد سبق ذلك في الجدل.
وقلنا هناك: >ان الظاهرية تنفع فقط في صناعة الخطابة< وانما قلنا ذلك فلان الخطابة غايتها الاقتناع ويكتفي بما هو مشهور او مقبول لدى المستمعين وإن كان مشهورا في بادئ الرأي وتذهب شهرته بالتعقيب, اذ ليس فيها رد وبدل ومناقشة وتعقيب, على العكس من الجدل المبني على المحاورة والمناقضة, فلا ينبغي فيه إستعمال المشهورات الظاهرية, إذ يعطي بذلك مجال للخصم لنقضها وتعقيبها بالرد.
أما المظنونات والمقبولات فواضح اعتبارها في عمود الخطابة.
ـ6ـ
الاستدراجات بحسب القائل
وهي من أقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة وحيلة. وذلك بأن يظهر الخطيب قبل الشروع في الخطابة بمظهر مقبول القول عندهم. ويتحقق ذلك على نحوين:
1ـ أن يثبت فضيلة نفسه ـ إذا لم يكن معروفا لدى المستمعين ـ أما بتعريفه هو لنفسه أو بتعريف غيره يقدمه لهم بالثناء, بأن يعرف نسبه وعلمه ومنزلته الاجتماعية أو وظيفته اذا كان موظفاً أو نحو ذلك.
ولمعرفة شخصية الخطيب الأثر البالغ ـ إذا كانت له شخصية محترمة ـ في سهولة إنقياد المستمعين اليه والإصغاء له وقبول قوله, فإن الناس تنظر الى من قال, لا الى ما قيل, وذلك اتباعا لطبيعة المحاكاة التي هي من غريزة الانسان, لا سيما في محاكاته لمن يستطيع أن يسيطر على مشاعره واعجابه. ولا سيما في المجتمعات العامة, فإن غرائز الإنسان ـ وبالخصوص غريزة المحاكاة ـ تحيا في حال الاجتماع أو تقوى.
2ـ أن يظهر بما يدعو الى تقديره واحترامه, وتصديقه والوثوق بقوله. وذلك يحصل بأمور (منها) لباسه وهندامه, فاللازم على الخطيب أن يقدر المجتمعين ونفسياتهم وما يقدر من مثله أن يظهر به, فقد يقتضي أن يظهر بأفخر اللباس وبأحسن بزة تليق بمثله وقد يقتضي أن يظهر بمظهر الزاهد الناسك. وهذا يختلف باختلاف الدعوة وباختلاف الحاضرين. وعلى كل حال ينبغي أنْ يكون الخطيب مقبول الهيئة عند الحاضرين حتى لا يثير تهكمهم او اشمئزازهم أو تحقيرهم له. و(منها) ملامح وجهه وتقاطيع جبينه ونظرات عينيه وحركات يديه وبدنه, فإن هذه أمور معبرة ومؤثرة في السامعين إذا استطاع الخطيب أن يحسن التصرف بها حسبما يريده من البيان والاقناع. وبعبارة اصرح ينبغي أن يكون ممثلاً في مظهره, فيبدو حزيناً في موضع الحزن وقد يلزم له أن يبكي او يتباكي, ويبدو مسروراً مبتشاً في موضع السرور, ويبدو بمظهر الصالح الواثق من قوله المؤمن بدعوته في موضع ذلك...وهكذا.
وكثير من الواعظين يتأثر الناس بهم بمجرد النظر اليهم قبل أن يتفوهوا, وكم من خطيب في مجالس ذكرى مصرع سيد الشهداء $ يدفع الناس الى البكاء والرقة بمجرد مشاهدة هيئته وسمته قبل أنْ يتكلم.
ـ7ـ
الاستدراجات بحسب القول
وهي أيضاً من اقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة وحيلة. وذلك بأن تكون لهجة كلامه مؤثرة مناسبة للغرض الذي يقصده اما برفع صوته أو بخفضه أو ترجيعه أو الاسترسال فيه بسرعة أو التاني به أو تقطيعه. كل ذلك حسب ما تقتضيه الحال من التأثير على المستمعين.
وحسب الصوت وحسن الالقاء والتمكن من التصرف بنبرات الصوت وتغييره حسب الحاجة من أهم ما يتميز به الخطيب الناجح. وذلك في أصله موهبة ربانية يختص بها بعض البشر من غير كسب غير أنها تقوى وتنمو بالتمرين والتعلم كجميع المواهب الشخصية. وليس هناك قواعد عامة مدونة يمكن بها ضبط تغييرات الصوت ونبراته حسب الحاجة, وانما معرفة ذلك تتبع نباهة الخطيب في إختياره للتغيرات الصوتية المناسبة التي يجدها بالتجربة والتمرين مؤثرة في المستمعين.
ولاجل هذا يظهر لنا كيف يفشل بعض الخطباء, لأنّه يحاول المسكين تقليد خطيب ناجح في لهجته والقائه, فيبدو نابياً سخيفاً, إذ يظهر بمظهر المتصنع الفاشل.
والسر أنّ هذا أمر يدرك بالغريزة والتجربة قبل أن يدرك بالتقليد للغير.
ـ8ـ
الاستدراجات بحسب المخاطب
وهي أيضاً من أقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة من الخطيب. وذلك بأن يحاول استمالة المستمعين وجلب عواطفهم نحوه ليتمكن قوله فيهم ويتهياوا للاصغاء اليه: مثل ان يحدث فيهم انفعالاً نفسياً مناسباً لغرضه كالرقة والرحمة, أو القوة والغضب, أو يضحكهم بنكتة عابرة لتنفتح نفوسهم للاقبال عليه. ومثل أن يشعرهم بأنهم يتخلقون بأخلاق فاضلة كالشجاعة والكرم أو الانصاف والعدل أو إيثار الحق, أو يتحلون بالوطنية الصادقة والتضحية في سبيل بلادهم, أو نحو ذلك ممّا يناسب غرضه. وهذا يكون بمدحهم والثناء عليهم أو بذكر سوابق محمودة لهم أو لآبائهم أو أسلافهم.
وإذا اضطر الى التعريض بخصومه الحاضرين فيظهر بأنهم الاقلية القليلة فيهم, أو يتظاهر بأنّه لا يعرف بأنهم موجودون في الاجتماع, او أنّهم لا قيمة لهم ولا وزن عند الناس.
وليس شيء أفسد للخطيب من التعريض بذم المستمعين أو تحقيرهم او التهكم بهم أو اخجالهم, فإنّ خطابه سيكون قليل الأثر او عديمه اصلاً, وإن كان يأتي بذلك بقصد اثارة الحمية والغيرة فيهم, لان هذه الامور ـ بالعكس ـ تثير غضبهم عليه وكرهه والاشمئزاز من كلامه. ولاثارة الحمية طرق أخرى غير هذه.
وبعبارة أشمل وأدق إن التجاوب نفسي بين الخطيب والمستمعين شرط أساسي في التأثر بكلامه, فإذا ذمهم أو تهكم بهم بعَّدهم عنه وخسر هذا التجاوب النفسي. وهكذا لو اضجرهم بطول الكلام أو التكرار الممل أو التعقيد في العبارة أو ذكر ما لا نفع فيه لهم أو ما الفوا استماعه.
والخطيب الحاذق الناجح من يستطيع ان يمتزج بالمستمعين ويهيمن عليهم بأن يجعلهم يشعرون بانه واحد منهم وشريكهم في السراء والضراء, وبانه يعطف على منافعهم ويرعى مصالحهم, وبأنه يحبهم ويحترمهم, لا سيما الخطيب السياسي والقائد في الحرب.
ـ9ـ
شهادة القول
وهي من اقسام (النصرة) التي ليست بصناعة وحيلة, ومن أقسام ما يقتضي نفس الاقناع. وهي تحصل اما بقول من يقتدي به مع العلم بصدقه كالنبي والامام, أو مع الظن بصدقه كالحكيم والشاعر. واما بقول الجماهير أو الحاكم أو النظارة, وذلك بتصديقهم للخطيب أو تاييدهم له بهتاف او تصفيق أو نحوها. واما بوثائق ثابتة كالصكوك والمسجلات والآثار التاريخية ونحوها.
وهذه الشهادة ـ على أنها من الأعوان ـ تفيد بنفسها الإقناع. وقد تكون بنفسها عموداً لو صح أخذها مقدمة في الحجّة الخطابية, وتكون حينئذ من قسم (المقبولات) التي قلنا أن الحجّة الخطابية قد تتالف منها.
ـ10 ـ
شهادة الحال
وهي أيضاً من أقسام (النصرة) التي ليست بصناعة وحيلة ومن أقسام ما يقتضي نفس الاقناع. وهذه الشهادة تحصل اما بحسب نفس القائل أو بحسب القول.
1ـ ما هي بحسب القائل: إما لكونه مشهوراً بالفضيلة من الصدق والامانة والمعرفة والتمييز, أو معروفاً بما يثير احترامه أو الاعجاب به أو التقدير لما يقوله ويحكم به, كأن يكون معروفاً بالبراعة الخطابية أو الشجاعة النادرة أو بالثراء الكثير أو بالحنكة السياسية أوصاحب منصب رفيع أو نحو ذلك. وقد قلنا ان لمعرفة الخطيب الأثر البالغ في التاثير على المستمعين, فكيف إذا كان محبوباً أو موضع الاعجاب أو الثقة. وكلما كبرت سمعة الخطيب وتمكن حبه واحترامه من القلوب كان قوله أكثر قبولاً وابعد اثراً.
واما لكونه تظهر عليه امارات الصدق ـ وان لم يكن معروفاً بأنحاء المعرفة السابقة ـ مثل أن تطفح على وجهه اسارير السرور إذا بشر بخير, أو علامات الخوف والهلع إذا انذر بشر, أو هيئة الحزن إذا حدث عما يحزن... وهكذا.
ولتقاطيع وجه الخطيب وملامحه ونبرات صوته الأثر الفعال في شعور المستمعين بأن ما يقوله كان مؤمناً به أو غير مؤمن به. والوجه الجامد القاحل من التعبير لا يستجيب له المستمع. ولذا اشتهر ان الكلمة اذا خرجت من القلب دخلت في القلب. وما هذا إلا لأنّ ايمان الخطيب بما يقول يظهر على ملامح وجهه ونبرات صوته رضي أم أبى, فيدرك المستمع ذلك حينئذ بغريزته, فيؤثر على شعوره بمقتضى طبيعة المحاكاة والتقليد.
2ـ ما هي بحسب القول: مثل الحلف على صدق قول والعهد() أو التحدي كما تحدى نبينا الاكرم @ قومه أن يأتوا بسورة أو آية من مثل القرآن المجيد واذ عجزوا عن ذلك التجأوا الى الاعتراف بصدقه. ومثل ما لو تحدى الصانع أو الطبيب او نحوهما خصمه المشارك له في صناعته بأن يأتي بمثل ما يعمل, ويقول له: إن عجزت عن مثل عملي فاعترف بفضلي عليك واخضع لقولي.
ـ11ـ
الفرق بين الخطابة والجدل
لما كانت صناعة الجدل يشتركان في كثير من الاشياء استدعى ذلك التنبيه على جهات الافتراق بينهما, لئلا يقع الخلط بينهما:
اما اشتراكهما ففي الموضوع, فإن موضوع كل منهما عام غير محدد بعلم ومسالة, كما قلنا في الجدل: انه يقع في جميع المسائل الفلسفية والدينية والاجتماعية وجميع الفنون والمعارف. والخطابة كذلك, وما يستثنى هناك يستثنى هنا. ويشتركان أيضا في الغاية, فان غاية كل منهما الغلبة, ويشتركان في بعض مواد قضاياهما, إذ تدخل المشهورات فيهما كما تقدم.
أما افتراقهما ففي هذه الامور الثلاثة نفسها:
1ـ في الموضوع, فان الخطابة يستثنى من عموم موضوعها المطالب العلمية التي يطلب فيها اليقين, فان استعمال الإسلوب الخطابي فيها معيب مستهجن إذا كان المخاطب بها الخاصة, وإن جاز استعمال الاسلوب الجدلي لالزام الخصم وافحامه او لتعليم المبتدئين. كما أنه ـ على العكس ـ لا يحسن من الخطيب ان يستعمل البراهين العلمية والمسائل الدقيقة لغرض الإقناع.
2ـ في الغاية, فان غاية الجدلي الغلبة بالزام الخصم وإن لم تحصل له حالة القناعة. وغاية الخطابة الغلبة بالإقناع.
3ـ في المواد, فقد تقدم في الكلام عن العمود بيان الفرق فيها, إذ قلنا: أن الخطابة تستعمل فيها مطلق المشهورات الظاهرية, وفي الجدل لا تستعمل إلا الحقيقية.
وهناك فروق أخرى لا يهمنا التعرض لها. وسيأتي في باب إعداد المنافرات التشابه بين الجدل والمنافرة بالخصوص والفرق بينهما كذلك.
ـ12ـ
اركان الخطابة
اركان الخطابة المقومة لها ثلاثة: القائل (وهو الخطيب), والقول (وهو الخطاب). والمستمع.
ثم المستمع ثلاثة أشخاص على الأكثر: مخاطب وحاكم ونظارة, وقد يكون مخاطباً فقط:
1ـ (المخاطب), وهو الموجه إليه الخطاب, وهو الجمهور أو من هو الخصم في المفاوضة والمحاورة.
2ـ (الحاكم), وهو الذي يحكم للخطيب او عليه, اما لسلطة عامة له في الحكم شرعية أو مدنية, أو لسلطة خاصة برضا الطرفين إذ يحكمانه ويضعان ثقتهما به, وإن لم تكن له سلطة عامة.
3ـ (النظارة), وهم المستمعون المتفرجون الذين ليس لهم شأن الا تقوية الخطيب أو توهينه, مثل أن يهتفوا له أو يصفقوا باستحسان ونحوه, حسبما هو عادة شعبهم في تأييد الخطباء, ومثل أن يسكتوا في موضع التأييد والاستحسان أو يظهروا توهينه بهتاف ونحوه وذلك إذا أرادوا توهينه. والنظارة عادة مالوفة عند بعض الامم الغربية في المحاكمات ولهم تأثير في سير المحاكمة وربما يسمونهم (العدول) أو (المعدلين).
وليس وجود الحاكم والنظارة يلازم في جميع أصناف الخطابة, بل في خصوص المشاجرات كما سيأتي.
ـ13ـ
اصناف المخاطبات
إن الغرض الاصلي لصاحب الصناعة الخطابية ـ على الأغلب ـ إثبات فضيلة شيء ما أو رذيلته, أو اثبات نفعه أو ضرره. ولكن لا أي شيء كان, بل الشيء الذي له نفع أو ضرر للعموم بوجه من الوجوه على نحو له دخالة في المخاطبين وعلاقة بهم.
وهذا الشيء لا يخلو عن حالات ثلاث:
1ـ ان يكون حاصلا فعلا, فالخطابة فيه تسمى (منافرة).
2ـ ان يكون غير حاصل فعلاً ولكنه حاصل في الماضي, فالخطابة فيه تسمى (مشاجرة).
3ـ ان يكون غير حاصل فعلاً أيضاً ولكنه يحصل في المستقبل فالخطابة فيه تسمى (مشاورة). وهي أهم الاصناف.
فالمفاوضات الخطابية على ثلاثة أصناف.
1ـ (المنافرات) المتعلقة بالحاصل فعلا, فان قرر الخطيب فضيلته أو نفعه سميت (مدحاً), وان قرر ضد ذلك سميت (ذماً).
2ـ (المشاجرات) وتسمى (الخصاميات) أيضاً, وهي المتعلقة بالحاصل سابقاً. ولا بدّ أن تكون الخطابة لأجل تقرير وصول فائدته ونفعه أو ما فيه من عدل وإنصاف إن كان نافعاً, ولأجل تقرير وصول ضرورة أو ما فيه من ظلم وعدوان. فمن الجهة الاولى تسمى الخطابة (شكراً) أما أصالةً عن نفسه او نيابةً عن غيره. وإنما سميت كذلك لان تقرير الخطيب يكون اعترافاً منه للمخاطبين بفضيلة ذلك الشيء فلا يقع فيه نزاع منهم. ومن الجهة الثانية تسمى الخطابة (شكاية) اما عن نفسه أو عن غيره. والمدافع يسمى (معتذراً) والمعترف به (نادماً).
3ـ (المشاورات) المتعلقة بما يقع في المستقبل. ولا محالة أن الخطابة حينئذ لا تكون من جهة وجوده, أو عدمه, فإن هذا ليس شأن هذه الصناعة. بل لا بدّ أن تكون من جهة ما فيه من نفع وفائدة فينبغي أن يفعل, فتكون الخطابة فيه ترغيباً وتشويقاً وإذنا في فعله. أو من جهة ما فيه من ضرر وخسارة فينبغي الا يفعل, فتكون الخطابة فيه تحذيراً وتخويفاً ومنعاً من فعله.
٭٭٭
فهذه الأنواع الثلاثة هي الأغراض الأصلية التي تقع للخطيب, وقد يتوصل الى غرضه ببيان أمور تقع في طريقه وتكون ممهدة للوصول اليه ومعينة للإقناع وتسمى (التصديرات), مثل أن يمدح شيئاً أو شخصاً, فينتقل منه الى المشاورة للتنظير بما وقع أو لغير ذلك.
والتشبيب الذي يستعمله الشعراء سابقاً في صدر مدائحهم من هذا القبيل, فإن الغرض الأصلي هو المدح, والتشبيب تصدر به القصيدة للتوصل اليه. وكثيراً ما لا يكون الشاعر عاشقاً وإنما يتشبه به اتباعاً لعادة الشعراء.
وفي هذا العصر يمهد خطباء المنبر الحسيني امام مقصودهم من ذكر فاجعة الطف ببيان امور تاريخية او اخلاقية او دينية من موعظة ونحوها. وما ذاك الا لجلب انتباه السامعين او لاثارة شعورهم وانفعالاتهم مقدمة للغرض الاصلي من ذكر الفاجعة.
ـ14ـ
صور تأليف الخطابة ومصطلحاته
قد قلنا في الجدل: ان المعول في تأليف صوره غالباً على القياس والاستقراء, وفي الخطابة أكثر ما يعول على القياس والتمثيل, وإن استعمل الاستقراء احياناً.
ولا يجب في القياس وغيره عند استعماله هنا أن يكون يقينياً من ناحية تأليفه, أي لا يجب أن يكون حافظاً لجميع شرائط الانتاج, بل يكفي أن يكون تأليفه منتجاً بحسب الظن الغالب وإن لم يكن منتجاً دائماً, كما لو تألف القياس مثلاً على نحو الشكل الثاني من موجبتين, كما يقال: فلان يمشي متأنياً فهو مريض, فحذفت كبراه الموجبة وهي (كل مريض يمشي متأنياً) مع أن الشكل الثاني من شروطه اختلاف المقدمتين بالكيف.
وكذلك قد يستعمل التمثيل في الخطابة خالياً من جامع حيث يفيد الظن بأن هناك جامعاً, مثل ان يقال: مر بالامس من هناك رجل مسرع وكان هارباً واليوم يمر مسرع آخر من هنا, فهو هارب.
وكذلك يستعمل الاستقراء فيها بدون استقصاء لجميع الجزئيات, مثل أن يقال: الظالمون قصيرو الاعمار, لأن فلان الظالم وفلان وفلان قصيرو الاعمار, فيعد جزئيات كثيرة يظن معها الحاق القليل بالأعم الاغلب.
وبحسب تأليف صور الخطابة مصطلحات ينبغي بيانها, فنقول:
1ـ (التثبيت). والمقصود به كل قول يقع حجة في الخطابة ويمكن فيه أن يوقع التصديق بنفس المطلوب بحسب الظن, سواء كان قياساً أو تمثيلاً.
2ـ (الضمير). والمقصود به التثبيت اذا كان قياساً. والضمير باصطلاح المناطقة في باب القياس كل قياس حذفت منه كبراه. ولما كان اللائق في الخطابة ان تحذف من قياسها كبراه للاختصار من جهة ولا خفاء كذب الكبرى من جهة اخرى, سموا كل قياس هنا (ضميراً), لأنّه دائماً أو غالباً تحذف كبراه.
3ـ (التفكير). وهو الضمير نفسه, ويسمى (تفكيراً) باعتبار اشتماله على الحد الأوسط الذي يقتضيه الفكر.
4ـ (الاعتبار). ويقصدون به التثبيت إذا كان تمثيلاً, فيقولون مثلاً: >يساعد على هذا الامر الاعتبار<. وهذه الكلمة شايعة الاستعمال عند الفقهاء, وما احسب إلا أنهم يريدون هذا المعنى منها.
5ـ (البرهان). وهو كلّ اعتبار يستتبع المقصود بسرعة, فهو غير البرهان المصطلح عليه في صناعة البرهان. فلا تغرنك كلمة البرهان في بعض الكتب الجدلية والخطابية.
6ـ (الموضع). والمقصود به هنا كل مقدمة من شأنها أن تكون جزء من التثبيت, سواء كانت مقدمة بالفعل أو صالحة للمقدمية. وهو غير الموضع المصطلح عليه في صناعة الجدل. ومعنى الموضع هناك يسمى (نوعاً) هنا وسيأتي في الباب الثاني. ولا بأس بالبحث عن الضمير والتمثيل اختصاراً هنا:
ـ15ـ
الضمير
للضمير شأن خاص في هذه الصناعة, فإن على الخطيب أن يكون متمكناً من إخفاء كبراه في أقيسته أو إهمالها. إن باقي الصناعات قد تحذف الكبرى في أقيستها ولكن لا حاجة وغرض خاص, بل لمجرد الإيجاز عند وضوح الكبرى, اما في الخطابة فإن اخفاءها غالباً ما يضطر اليه الخطيب بما هو خطيب لأحد أمور:
1ـ إخفاء عدم الصدق الكلي فيها, مثل أن يقول: >فلان يكف غضبه عن الناس فهو محبوب<, فإنه لو صرح بالكبرى وهي >كل من كف غضبه عن الناس هو محبوب لهم< ربما لا يجدها السامع صادقة صدقا كلياً, وقد يتنبه بسرعة الى كذبها, إذ قد يعرف شخصاً معيناً متمكناً من كف غضبه ومع ذلك لا يحبه الناس.
2ـ تجنب أن يكون بيانه منطقياً وعلمياً معقداً, فلا يميل اليه الجمهور الذي من طبعه الميل الى الصور الكلامية الواضحة السريعة الخفيفة. والسر أن ذكر الكبرى يصبغه بصبغة الكلام المنطقي العلمي الذي ينصرف عن الاصغاء اليه الجمهور. بل قد يثير شكوكهم وعدم حسن ظنهم بالخطيب أو سخريتهم به.
3ـ تجنب التطويل, فإن ذكر الكبرى غالباً يبدو مستغنياً عنه والجمهور إذا أحس أن الخطيب يذكر ما لا حاجة الى ذكره أو يأتي بالمكررات يسرع اليه الملل والضجر والاستيحاش منه. وقد يؤثر فيه ذلك انفعالاً معكوساً فيثير في نفوسهم التهمة له في صدق قوله. فلذلك ينبغي للخطيب دائماً تجنب زيادة الشرح والتكرار الممل فإنه يثير التهمة في نفوس المستمعين وشكوكهم في قولهم وضجرهم منه.
وبعد هذا, فلو اضطر الخطيب الى ذكر الكبرى كما لو كان حذفها يوجب أن يكون خطابه غامضاً ـ فينبغي أن يوردها مهملة حتى لا يظهر كذبها لو كانت كاذبة, وإلا يوردها بعبارة منطقية جافة.
وصنعة الخطابة تعتمد كثيرا على المقدرة في إيراد الضمير أو إهمال الكبرى فمن الجميل بالخطيب أن يراقب هذا في خطابه. وهذا ما يحتاج الى مران وصنعة وحذق, والله تعالى قبل ذلك هو المسدد للصواب الملهم للمعرفة.
ـ16ـ
التمثيل
سبق أن قلنا في الفصل 14: ان الخطابة تعتمد على القياس والتمثيل. وفي الحقيقة تعتمد على التمثيل أكثر, نظراً الى أنّه أقرب الى أذهان العامة وأمكن في نفوسهم. وهو في الخطابة يقع على أنحاء ثلاثة:
1ـ ان يكون من أجل إشتراك الممثل به مع المطلوب في معنى عام يظن انه العلة للحكم في الممثل به. وهذا النحو هو التمثيل المنطقي الذي تقدم الكلام فيه اخر الجزء الثاني.
2ـ ان يكون من أجل التشابه في النسبة فيهما, كما يقال مثلاً: كلما زاد تواضع المتعلم زادت معارفه بسرعة, كالأرض كلما زاد إنخفاضها انحدرت اليها المياه الكثيرة بسرعة.
وكل من هذين القسمين قد يكون الإشتراك والتشابه في النسبة حقيقة وقد يكون بحسب الرأي الواقع, كقوله تعالى:}مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفاراً{, أو كقوله تعالى: }مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة...{.
وقد يكون بحسب رأي يظهر ويلوح سداده لأول وهلة, ويعلم عدم صحته بالتعقيب, كقول عمر بن الخطاب يوم السقيفة: >هيهات لا يجتمع اثنان في قرن<.
والقرن بالتحريك الحبل الذي يقرن به البعيران, قال ذلك ردا على قول بعض الانصار: >منا أمير ومنكم أمير<. بينما أن هذا القائل غرضه ان الامارة مرة لنا ومرة لكم لا على ان يجتمع أميران في وقت واحد حتى يصبح تشبيهه باجتماع اثنين في قرن.
على أنه اية استحالة في الممثل به, وهو أن يجتمع بعيران في حبل واحد يقرنان به لو أراد هذا القائل اجتماع أميرين في آن واحد, فالاستحالة في الممثل نفسه لا في المثل به.
3ـ أن يكون التمثيل بحسب الاشتراك بالإسم فقط, وقد ينطلي هذا أمره على غير المتنبه المثقف. وهو مغالطة ولكن لا بأس بها في الخطابة حيث تكون مقنعة وموجبة لظن المستمعين بصدقها.
مثاله أن يحبب الخطيب شخصاً ويمدحه لأنَّ شخصاً آخر محبوب ممدوح له هذا الاسم. أو يتشاءم من شخص ويذمه لأن آخر له اسمه معروف بالشر والمساوئ.
ويشبه أن يكون من هذا الباب قول الارجاني:
يزداد دمعي على مقدار بعدهم تزايد الشهب أثر الشمس في الافق
فحكم بتزايد الدموع على مقدار بعد الاحبة قياساً على تزايد الشهب بمقدار تزايد بعد الشمس في الأفق, لإشتراك الدموع والشهب بالإسم إذ تسمى الدموع بالشهب مجازاً ولاشتراك الحبيب والشمس بالاسم إذ يسمى الحبيب شمساً مجازاً.
المبحث الثاني ـ الانواع
ـ1ـ
تمهيد
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تقدم في الفصل 14 من الباب الاول: ان الموضع في اصطلاح هذه الصناعة كل مقدمة من شأنها أن تكون جزءاً من التثبيت. وهو غير الموضع باصطلاح صناعة الجدل.
بل ان ما هو بمنزلة الموضع في صناعة الجدل يسمى هنا (نوعاً) وهو أي النوع: كل قانون تستنبط منه المواضع أي المقدمات الخطابية.
مثلاً يقال لنقل الحكم من الضد الى ضده (نوع), إذ منه تستخرج المواضع الموصلة الى المطلوب الخطابي, فيقال مثلاً: اذ كان خالد عدواً فهو يستحق الاساءة فاخوه لما كان صديقاً فهو يستحق الاحسان. فهذه القضية (موضع) وهي من (نوع) نقل الحكم من الضد الى ضده.
ثمّ انه لما كان المجادل مضطرا الى احضار المواضع في ذهنه واعدادها لكي يستنبط منها ما يحتاجه من المقدمات المشهورة ـ فكذلك الخطيب يلزمه أن يحضر لديه ويعد الأنواع لكي يستنبط منها ما يحتاجه من المواضع (المقدمات المقنعة).
وكل خطيب في أي صنف من أصناف المفاوضات الخطابية له أنواع خاصة وقواعد كلية تخصه يستفيد منها في خطابه, فلذلك اقتضى أنْ ننبه على بعض هذه الأنواع في أصناف الخطابة للاستيناس وللتنبيه على نظائرها كما صنعنا في مواضع الجدل, فنقول:
ـ2ـ
الانواع المتعلقة بالمنافرات
تقدم في البحث 13 معنى (المنافرات) انها التي تثبت مدحاً او ذماً, اما للاشخاص أو للاشياء, باعتبار ما هو الحاصل في الحال, فيقرر الخطيب فضيلته أو نفعه في المدح أو يقرر ضدهما في الذم. وانما سميت (منافرات) فلأنَّ بها يتنافر الناس ويختلفون, ويروم بعضهم قهر بعض بقوله وبيانه.
ومن هذه الناحية تشبه الخطابة الجدل, وانما الفرق من وجهين:
1ـ انه في الخطابة ينفرد الخطيب في ميدانه, وفي الجدل يكون الكلام للخصمين سؤالا وجوابا وردا وبدلا.
2ـ ان غرض الخطيب ان يبعث المستمعين على عمل الأفعال الحسنة والتنفر من الافعال السيئة لا لمجرد المدح والذم, والمجادل ليس غرضه إلا التغلب على خصمه, وليس همه أن يعمل به أحد أو لا يعمل. وبالاختصار غرض الخطيب اقناع الغير بفضل الفاضل ونقص المفضول ليعمل على مقتضى ذلك, وغرض المجادل ارغام الغير على الاعتراف بذلك.
وبين الاسلوبين بون بعيد, فإنَّ الأول يتطلب الرفق واللين والاستحواذ على مشاعر المخاطب ورضاه, والثاني لا يتطلب ذلك فان غرضه يتم حتى لو اعترف الخصم مرغماً مقهوراً.
اذا عرفت ذلك, فعلى الخطيب في المنافرات أن يكون مطلعاً على انواع جمال الاشياء وقبحها. ولكل شيء جمال وقبح بحسبه: ففي الانسان جماله بالفضائل وقبحه بالرذائل, وباقي الاشياء جمالها بكمال صفاتها اللائقة بها وقبحها بنقصها.
ثم الانسان ـ مثلاًـ فضيلته أن تكون له ملكة تقتضي فعل الخيرات بسهولة, كفضيلة الحكمة والعلم والعدالة والاحسان والشجاعة والعفة والكرم والمروة والهمة والحلم وأصالة الرأي. وهذه أصول الفضائل, ويتبعها مما يدخل تحتها كالايثار الذي يدخل تحت نوع الكرم, او مما يكون سبباً لها كالحياء الذي يكون سبباً للعفة, أو ممّا يكون علامة عليها كصبر الامين على تحمل المكارة في سبيل المحافظة على الأمانة, فإنّ هذا الصبر علامة على العدالة.
واما باقي الاشياء غير الانسان فكمالها بحصول الصفات المطلوبة لمثلها, وقد قلنا لكل شيء جمال وقبح بحسبه, فكما الدار ـ مثلاً ـ وجمالها باشتمالها على المرافق المحتاج اليها وسعتها وجدة بنائها وملاءمة هندستها للذوق العام, وهكذا. وكمال المدينة ـمثلاًـ وجمالها بسعة شوارعها وتنسيقها ونظافتها وكثرة حدائقها وتهيئة وسائل الراحة فيها والامن, وحسن مائها وهوائها وجدة بناء دورها... وهكذا.
وعلى الخطيب بالاضافة الى ذلك أن يكون قادراً على مدح ما هو قبيح بمحاسن قد يظن الجمهور أنها مما يستحق عليها المدح والثناء, مثل أن يصور فسق الفاسق بأنّه من باب لطف المعاشرة وخفة الروح. ويصور بلاهة الأبله أنها بساطة نفس وصفاء سريرة وقلة مبالاة بأمور الدنيا واعتباراتها. ويصور متتبع عورات الناس الهماز الغماز بأنّه محب للصراحة أو انه لا تاخذه في سبيل قول الحق لومة لائم. ويصور الحاكم المرتشي بأنّه يسهل بالرشوة أمور الناس ويقضي حوائجهم...
وهكذا يمكن تحوير كثير من الرذائل والنقائص الى ما يشبه أن يكون من الفضائل والكمالات في نظر الجمهور. وكذلك ـ على العكس ـ يمكن تحوير جملة من الفضائل الى ما يشبه أنْ يكون من الرذائل والنقائص في نظر الجمهور, كوصف المحافظ على دينه بانه جاف متزمت أو رجعي خرافي أو وصف الشجاع بأنّه مجنون متهور أو وصف الكريم بأنّه مسرف مبذر... وهكذا. والكثير من هذا يحتاج الى حذلقة وبعد نظر.
وإذ عرفت وجوه مقتضيات المدح يمكن أن تعرف بمناسبتها وجوه مقتضيات الذم لأنّها اضدادها.
ـ3ـ
الانواع المتعلقة بالمشاجرات
تقدم معنى المشاجرات من أنها تتعلق بالحاصل سابقاً. وذلك لبيان ما حدث كيف حدث؟ هل حدث على وجه جميل ممدوح أو على وجه مذموم؟
فتكون المشاجرة شكراً أو شكاية أو اعتذاراً أو ندماً واستغفاراً.
و(الشكر) إنما يكون بذكر محاسن ما حدث وكمالاته إنساناً أو غير إنسان, على حسب ما تقدم من البيان الإجمالي عن محاسن الأشياء وكمالاتها في المنافرات, فلا حاجة الى اعادته.
وانما الذي ينبغي بيانه ما يختص (بالشكاية) ثم الأعتذار والندم, فنقول: لا تصح الشكاية إلا من الظلم والجور. وحقيقة الجور: >هو الإضرار بالغير على سبيل المخالفة للشرع بقصد وإرادة<.
والمقصود من (الشرع) ما هو أعم من الشريعة المكتوبة وغير المكتوبة, والمكتوبة مثل الأحكام المنزلة الالهية والقوانين المدنية والدولية, وغير المكتوبة ما تطابق عليها آراء العقلاء, أو آراء امة بعينها وكان المعتدي منها, او آراء قطرة أو عشيرته أو نحو ذلك.
فما تطابق عليها آراء الجميع هي المشهورات المطلقة, والباقي هي من المشهورات الخاصة. ومثال الأخير (النهوة) باصطلاح عرب العراق في العصور الأخيرة, فإنّها عند غير المنحصرين منهم شريعة غير مكتوبة, وهي ان للرجل الحق في منع تزوج ابنة عمه من اجنبي, فالاجنبي إذا تزوجها من دون رخصة ابن عمها وإذنه عدُّوه في عرفهم جائراً غاصباً وقد يهدر دمه. وإنْ كان هذا العرف يعد في الشريعة المكتوبة الاسلامية وغيرها ظلماً وجوراً وإن (الناهي) هو الجائر الظالم.
ثم (المخالفة للشرع) أما أنْ تقع في المال أو العرض أو النفس, ثم اما ان تكون على شخص أو اشخاص معنيين, أو تقع على جماعة اجتماعية كالدولة والوطن والامة والعشيرة.
وعلى هذا فينبغي للخطيب المشتكي أن يعرف معنى الجور وبواعثه واسبابه, وما هي الأسباب التي تقتضي سهولته أو صعوبته, ومتى يكون عن إرادة وقصد, وكيف يكون كذلك. وكل هذه فيها أبحاث واسعة تطلب من المطولات.
وأما (الاعتذار) فحقيقته التنصل مما ذكره المتظلم المشتكي ودفع تظلمه. وهو يقع بأحد أمرين:
1ـ انكار وقوع الظلم رأساً.
2ـ انكار وقوعه على وجه يكون ظلماً وجوراً, فإن كثيراً من الافعال انما تقع عدلاً حسنة وظلماً قبيحة بالوجوه والاعتبار اما من جهة القصد واما من جهة اختلاف الشريعة المكتوبة مع الشريعة غير المكتوبة كما مثلناه (بالنهوة).
وأما (الندم) فهو الإقرار والإعتراف بالظلم. وقد يسمى استغفاراً. وذلك بأن يلتمس العفو عن العقوبة والتفضل بإسقاط ما يلزم من غرامة ونحوها. وللإستغفار والاعتذار أساليب يطول شرحها.
ـ4ـ
الانواع المتعلقة بالمشاورات
لما كانت غاية الخطيب في المشاورة اقناع الجمهور على فعل ما هو خير لهم وفيه مصلحتهم, والاقلاع عن المساوئ والشرور وما يضرهم ـ ناسب ألا يبحث إلاّ عما يقع تحت اختيارهم من الخيرات والشرور, أو ما له مساس باختيارهم وإن كان في نفسه خارجاً عن اختيارهم.
وهذا الثاني كالارض السبخة ـ مثلاً ـ فإنًّ سوءها وضررها ليس باختيار المزارعين ولا من افعالهم, ولكن يمكن أن يكون لها مساس باختيارهم بأن يتجنبوا الزراعة فيها مثلاً, فيمكن أن يوصي الخطيب بذلك ويدخل في غرضه.
اما ما لا يقع تحت اختيارهم وما ليس له مساس به أصلاً فليس للمشاورة أنْ يتعرض له.
والانواع التي تتعلق بالمشاورات على قسمين رئيسين:
(القسم الأول) ما يتعلق بالأمور العظام, وهي أربعة:
1ـ (الأمور المالية العامة), من نحو صادرات الدولة ووارداتها, وما يتعلق في دخل الأمة ومصروفاتها. فالخطيب فيها ينبغي أنْ يطلع على القوانين التي تخصها وعلى العلوم التجارية والمالية وما له دخل في زيادة الثروة أو نقصها.
ـ (الحرب والسلم). فالخطيب فيه لا يستغني عن معرفة القوانين العسكرية والعلوم الحربية واصول تنظيم الجيوش وقيادتها, مع الاطلاع على تاريخ الحروب والوقائع, وسر نشوبها واخمادها, والوسائل اللازمة للهجوم والدفاع, وما يتحقق به النصر وما يتمكن به من النجاة من الهزيمة. كما ينبغي ان يكون عارفاً بما يثير الغيرة والحمية في نفوس الجنود وما يشجعهم ويثبت عزائمهم, ويشحذ هممهم, ويهون عليهم الموت في سبيل الغاية التي يحاربون لأجلها. وأن يكون عارفاً بما يثير في نفوس الأعداء الخوف والرهبة وضعف الهمة واليأس من النصر وتوقع الهزيمة, ونحو ذلك مما يسمى في الاصطلاح الجديد (بحرب الاعصاب).
3ـ (المحافظة على المدن). والعلوم التي تخصها ولا يستغني الخطيب عن معرفتها هي علوم هندسة البناء والمسح وتنظيم الشوارع, وما تحتاجه البلدة في مجاري مياهها وتنويرها وتعبيد طرقها ونظافتها, ونحو ذلك.
4ـ (الاجتماعيات العامة). كالشرايع والسنن من دينية أو مدنية أو سياسية. ففي المصلحة الدينية ـمثلاًـ ينبغي للخطيب أن يكون عارفاً بالشريعة السماوية, حافظاً لآثارها مطلعاً على تاريخها, ملماً بأصول العقائد وفروع تلك الشريعة.
أما لو كان خطيباً في غاية سياسية أو نحوها, فينبغي أن يكون خبيراً بما يخصها من قوانين وعلوم وما يكتنفها من تاريخ وحوادث وتقلبات. فالسياسي يحتاج الى العلوم السياسية والخبرة بأمورها, والأخلاقي يحتاج الى علم الأخلاق, والحاكم والمحامي الى القوانين الشرعية والمدنية.
وعلى الاجمال ان الخطيب في الامور الاجتماعية ـ لاسيما مريد المحافظة على سنة أو دولة ـ يلزم فيه أنْ يكون أعلم وأمهر الخطباء الآخرين, واعرف بنفسيات الجمهور ومصالحهم, لأنَّ موقفه مع الجمهور من أدق المواقف واصعبها.
بل هذا الباب ـ من باب المشاورة ـ على العموم من أخطر أبواب الخطابة وأشقها, فقد يسقط الرجل الديني والسياسي في نظر الجمهور لاتفه الاسباب. وكم شاهدنا وسمعنا رئيس دولة, أو مرشد قطر, أو مرجعاً دينياً لفرقة, بينما هو في القمة من عظمته إذا به يهوي بين عشية وضحاها من برجه الرفيع محطماً, لخطأه صغيرة ارتكبها, أو لأمر فعله أو قاله معتقداً فيه الصلاح فاتهمه الجمهور بالخيانة أو الخطل, أو ظنوا فيما عمله أو رآه الفساد والضرر.
والجمهور لا صبر له على كتمان رأيه أو تأجيل التعبير عنه الى وقت آخر, كما لا يعرف المجاملة والمداراة والمداهنة والمماشاة؛ ولا يفهم البرهان والدليل حينئذ إلا القوة تسكته أو السيف يفنيه.
٭ ٭ ٭
هذا, وأنّ حصر كل ما ينبغي للخطيب في باب الاجتماعيات من معرفة لا يسعه هذا المختصر, وكفى ما أشرنا اليه.
ونزيد هنا انه على العموم من أهم ما يلزم له ـ بعد معرفة كل ما يتعلق بفرعه المختص به ـ أن يكون مطلعاً على علم الاجتماع وعلم النفس. وأهم من ذلك الخبرة في تطبيقهما, وتشخيص نفسيات الجماهير المستمعين له, ومعرفة تاريخ من سبقه من القادة والرؤساء والاستفادة من تجاربهم منضمة الى تجاربه الشخصية. وأهم من ذلك كله المواهب الشخصية التي أشرنا اليها سابقاً, فإنّه كم من خطيب موهوب يبز أعلم العلماء وهو لم يدرس علوم الاجتماع, اذا يسوقه ذكاؤه وفطرته الى معرفة ما يقتضيه ذلك الاجتماع وما يتطلبه, فيستطيع أن يهيمن عليه ويسخره ببيانه ويسخره بإسلوبه.
٭ ٭ ٭
(القسم الثاني) الرئيسي ما يتعلق بالامور الجزئية
وهي غير محدودة ولا معدودة, فلذلك لا يمكن ضبطها, وانما يتبع فيها نباهة الخطيب وفطنته. غير أنها تشترك في شيء واحد عام هو طلب صلاح الحال. فلذلك من جهة عامة ينبغي للخطيب أن يعرف:
(أولاً)ـ معنى صلاح الحال, مثل أن يقال إنه في الانسان استجماع الفضائل النفسية والجسمية, أو الحصول على الخيرات والمنافع التي بها السعادة في الدنيا والاخرة, أو الحصول على الملذات واشباع الشهوات مع محبة القلوب واحترام الناس في الحضور والثناء عليه في الغيبة...وهكذا, على حسب اختلاف الآراء والانظار في معنى صلاح حال الانسان.
و(ثانياً)ـ الأمور التي بها يتحقق صلاح الحال, مثل فضيلة النفس بالحكمة والاخلاق ونحوها مما تقدم, ومثل فضيلة البدن بالصحة وقوة العضلات والجمال واعتدال البنية, ومثل طهارة الأصل ونباهة الذكر والكرامة والشرف والثروة وكثرة الاتباع والانصار وحسن الحظ ونحو ذلك.
و(ثالثاً)ـ طرق اكتساب هذه الامور واحدة واحدة, وأحسن الوسائل وأسهلها في الحصول عليها. مثل ان يعرف أن الحكمة والمعرفة تحصل بالجد والتحصيل والاخلاص لله والتجرد عن مغريات الدنيا, وان الصحة تحصل بالرياضة وتنظيم المأكولات, وان الثروة تحصل بالزراعة أو التجارة او الصناعة...
وهكذا.
و(رابعاً)ـ الأمور النافعة في تحصيل تلك الخيرات والمعينة لوسائلها كالسعي وانتهاز الفرص والتضحية بكثير من الملذات, والصدق والامانة. وبعكسها الامور الضارة كالركون الى الراحة والكسل وايثار اللذة واللهو والبطالة ونحو ذلك.
و(خامساً)ـ ما هو الافضل من الخيرات والانفع, وبأي شيء تتحقق الافضلية, مثل أن الأعم الشامل أفضل مما هو دونه في الشمول, والدائم خير من غير الدائم, وما هو أكثر نفعاً أحسن مما هو أقل, وما يستتبع نفعاً آخر أنفع مما لا يستتبع...هكذا.
٭ ٭ ٭
هذه جملة الأنواع المتعلقة باصناف الخطابة الثلاثة, وهناك أنواع أخرى مشتركة بطول الكلام عليها كأنواع ما يعد للاستدراجات وما يتعلق بامكان الأمور أضربنا عنها اختصاراً.
٭ ٭ ٭
المبحث الثالث ـ التوابع
ـ1ـ
تمهيد
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
تقدم ص 372 معنى العمود والأعوان, وذكرنا هناك أقسام الاعوان من الشهادة والاستدراجات التي هي خارجة عن نفس العمود. وكل ذلك من أجزاء الخطابة.
وهناك وراء أجزاء الخطابة أمور خارجة عنها مزينة لها وتابعة ومتتمة لها, باعتبار مالها من التأثير في تهيئة المستمعين لقبول قول الخطيب. وهي على الاجمال ترتبط كلها بنفس القول والخطابة. فلذلك تسمى (بالتوابع) وتسمى أيضاً (التحسينات) و (التزيينات).
وهي ثلاثة أنواع: (1) ما يتعلق بنفس الألفاظ (2) ما يتعلق بنظمها وترتيبها (3) ما يتعلق بالأخذ بالوجوه. ونحن نشير الى هذه الأقسام ونوضحها على حسب هذا الترتيب, فنقول:
ـ2ـ
حال الالفاظ
والمراد منها ما يتعلق بهيئة اللفظ مفرداً كان أومركباً, والتي ينبغي للخطيب أن يراعيها. وأهمها الأمور الاتية:
1ـ أن تكون الالفاظ مطابقة للقواعد النحوية والصرفية في لغة الخطيب فإن اللحن والغلط يشوه الخطاب ويسقط أثره في نفوس المستمعين.
2ـ ان تكون الالفاظ من جهة معانيها صحيحة صادقة, بان لا تشتمل ـ مثلاً ـ على المبالغات الظاهر عليها الكذب.
3ـ ألا تكون ركيكة الاسلوب, ولا متكلفاً بها على وجه تخرج عن المحاورة التي تصلح لمخاطبة العامة والجمهور, بل يبغي أن يكون إسلوبها معتدلاً على نحو ترتفع به عن ركاكة الإسلوب العامي ولا تبلغ درجة إسلوب محاورة الخاصة الذي لا ينتفع به الجمهور.
4ـ أن تكون وافية في معناها بلا زيادة وفضول, ولا نقصان مخّل.
5ـ أن تكون خالية من الحشو الذي يفكك نظام الجمل وارتباطها, أو يوجب اغلاق الكلام وصعوبة فهمه.
6ـ أن يتجنب فيها الابهام والايهام واحتمال اكثر من معنى, وان كان ذلك مما قد يحسن في الكلام الشعري, ويحسن من الكهان الذين يريدون ألا يظهر كذبهم في تنبؤاتهم. ولكنه لا يحسن ذلك من الخطيب إلا إذا كان سياسياً حينما يقضي موقفه عليه الفرار من مسؤولية التصريح.
7ـ أن تكون معتدلة في الإيجاز والاطناب, لأنّ الإيجاز قد يخّل بالمعنى والتطويل يورث الملل. والحالات تختلف في ذلك, فقد يكون المستمعون كلهم أو أكثرهم على حال من الذكاء والمعرفة يحسن في خطابهم الإيجاز, وقد يكون المطلوب يستدعي التاكيد والتكرار والتهويل فيحسن التطويل حتى مع المستمعين الأذكياء.
وعلى كل حال, ينبغي بل يجب تجنب التكرار الذي لا فائدة فيه في جميع المواقع وكذلك ايراد الالفاظ المترادفة لا يحسن الاكثار منه.
8ـ ان تكون خالية من الالفاظ الغريبة والوحشية وغير المتداولة, ومن التعبيرات التي يشمئز منها المستمعون كالالفاظ الفحشية, فلو اضطر الى التعبير عن معانيها فليستعمل بدلها الكنايات.
9ـ أن تكون مشتملة على المحسنات البديعية والاستعارات والمجازات والتشبيهات, فان هذه كلها لها الاثر الكبير في طراوة الكلام وجاذبيته وحلاوته.
ولكن يجب أن يعلم ان الاستعارات والمحسنات ونحوها لا تخلو عن غرابة وبعد على فهم الناس, فلا ينبغي الخروج بها عن حد الاعتدال وينبغي أن يراعى فيها الاقرب الى طبع العامة ويفضل منها ما هو مطبوع على المتصنع المتكلف به.
ويحسن أن نشبهها بالغرباء في مجالس الاصدقاء فإنَّ حضورهم لا يخلو من فائدة ولكنهم لا بدّ أنْ يؤثروا ضيقاً وانقباضاً في نفوس الاصدقاء.
10ـ أن تكون الجمل مزدوجة موزونة المقاطع. ومعنى الوزن هنا ليس الوزن المقصود به في الشعر, بل معادلتها على الوجوه الاتية, وهي على أنحاء متفاوتة متصاعدة:
أـ أن تكون مقاطيع الجمل متقاربة في الطول والقصر, وأن كانت حروفها وكلماتها غير متساوية, مثل قوله: >بكثرة الصمت تكون الهيبة, وبالنصفة يكثر المواصلون<.
ب ـ ان يكون عدد كلمات المقاطيع متساوية نحو: >العلم وراثة كريمة, والآداب حلل مجددة<.
ج ـ أن تكون الكلمات بالاضافة الى تساويها متشابهة وحروفها متعادلة نحو:
>أقوى ما يكون التصنع في أوائله, وأقوى ما يكون الطبع في آخره<.
دـ أن تكون المقاطيع مع ذلك في المد وعدمه متعادلة نحو: >طلب العادة أفضل الافكار وكسب الفضيلة أنفع الاعمال< فالافكار تعادل الاعمال في المد.
هـ ـ أن تكون الحروف الاخيرة من المقاطيع متشابهة كما لو كانت مسجعة نحو: >الصبر على الفقر قناعة, والصبر على الذل صراعة<.
وأحسن الأوزان في الجمل أن تكون متعادلة مثنى أو ثلاث, اما ما زاد على ذلك فلا يحسن كثيراً, بل قد لا يستساغ ويكون من التكلف الممقوت.
ـ3ـ
نظم وترتيب الاقوال الخطابية
كل كلام يشتمل على ايضاح مطلوب خطابياً أو غير خطابي لا بدّ أن يتألف من جزءين أساسين, هما الدعوى والدليل عليها. والنظم الطبيعي يقتضي تقديم الدعوى على الدليل وقد تقتضي مصلحة الاقناع العكس, وهذا أمر يرجع تقديره الى نفس المتكلم.
أما الأقوال الخطابية فالمناسب لها على الأغلب ـ بالاضافة الى ذينك الجزءين الأساسين ـ أن تشتمل على ثلاثة أمور أخرى: تصدير واقتصاص وخاتمة. ونحن نبينها بالاختصار:
الأول ـ (التصدير). وهو ما يوضح امام الكلام ومقدمة له ليكون بمنزلة الاشارة والايذان بالغرض المقصود للخطيب. والفائدة منه اعداد المستمعين وتهيئتهم الى التوجه نحو الغرض. وهو يشبه تنحنح المؤذن قبل الشروع, وترنم المغني في ابتداء الغناء. وكذلك كل أمر ذي بال يراد منه لفت الانظار اليه ينبغي تصديره بشيء مؤذن به.
والأحسن في الخطابة ان يكون التصدير مشعراً بالمقصود وملوحا به, لأنه إنما يؤتى به لفائدة تهيئة المستمعين لتقبل الغرض المقصود. ولأجل هذا يفتتح خطباء المنبر الحسيني خطاباتهم بالصلاة على الحسين $ والتظلم له. ويفتتح الكتاب رسائلهم بالبسملة ونحوها وبالسلام والشوق الى المرسل اليه, وبما قد يشعر بالمراد, كما هو المألوف عند أصحاب الرسائل في العصور المتقدمة.
ولكن ينبغي للخطيب اوالكاتب ـ اذا راى ان التصدير مما لا بد منه ـ ان يلاحظ فيه أمرين :ـ
1ـ ألا يفتتح خطابه بما ينفر المخاطبين أو يثير سخطهم, كأن يأتي ـ مثلاًـ بما يشعر التشاؤم في موضع التهنئة والفرح والسرور أو ما يشعر بالسرور في موضع التعزية والحزن, أو يعبر بما يشعر بتعاظمه على المخاطبين, ونحو ذلك.
2ـ ان يحاول الاختصار جهد الامكان بشرط أن يورده بعبارة مفهمة متينة, فإن الاطالة في التصدير يضجر المخاطبين فينتقض عليه الغرض قبل الوصول الى مطلوبه, إلا إذا كان استدراجه لهم يتوقف على الاطالة, كما لو أراد أن يذم خصماً أو فعلاً, أو يثني على نفسه أو رأيه.
وعلى كل حال ان التصدير بالكلام المكرر المألوف أو اطالته بالكلام الفارغ من أشنع ما يصنعه بعض الخطباء والكتاب, وهو على المعجز أكثر منه دليلاً على المقدرة, كما أن الافضل في الاعتذار أن يترك التصدير اصلاً. لأنّه قد يثير الظن بانه يريد التعلل والتهرب من الجواب والدفاع.
الثاني ـ (الاقتصاص) وهو ما يذكر بياناً على التصديق بالمطلوب وشارحا له بقصة صغيرة تؤيده, فإنًّ القصة من اروع ما يعين على الاقناع ويقرب الغوض الى الاذهان, وكانها من أقوى الادلة عليه لا سيما عند العامة. واصبحت القصة في العصور الاخيرة أدباً وفناً قائماً برأسه يستعين بها دعاة الافكار الحديثة لتلقين العامّة واقناعهم, وإن كانت من صنع الخيال, والسر في أن طبيعية الإنسان شهوة الاستماع الى القصة فيلتذ بها. وذلك لاشباع غريزة حب الاطلاع أو لغير ذلك من غرائزه, وقد يعتبرها شاهداً ودليلاً باعتبارها تجربة ناجحة.
ثم الخطيب أو الكاتب بعد الاقتصاص ينبغي أن يشرع في بيان ما يريد اقناع الجمهور به.
الثالث ـ (الخاتمة) وهي أن يأتي بملخص ما سبق الكلام فيه وبما يؤذن بوداع المخاطبين من دعاء وتحية ونحوهما حسبما هو مألوف.
ولا شك أن الخاتمة كالتصدير فيها تزيين للقول وتحسين له, لا سيما في الرسائل والمكاتبات.
ـ4ـ
الاخذ بالوجوه
المقصود بالاخذ بالوجوه تظاهر الخطيب بأمور معبرة عن حاله ومؤثرة في المستمع على وجه تكون خارجة عن ذات الخطيب وأحواله وخارجة عن نفس الفاظه وأحوالها, وتكون الصناعة وحيلة. ولذلك يسمى هذا الأمر نفاقاً ورياء, وليس المقصود به أنه يجب ألا تكون له حقيقة كما قد تعطيه كلمة النفاق والرياء.
وهذا الأمر مع فرضه من الأمور الخارجة عن ذات الخطيب ولفظه, فهو له تعلق باحدهما فهو لذلك على نوعين:
1ـ ما يتعلق بلفظه, والمقصود به ما يختص هيئة اداء اللفظ وكيفية النطق به, فإن الخطيب الناجح من يستطيع أن يؤدي الفاظه بأصوات ونبرات مناسبة للانفعال النفسي عنده أو الذي يريد أن يتظاهر به, ومناسبة لما يريد أن يحدثه في نفوس المخاطبين من انفعالات, وان يلقيها بنغمات مناسبة لمقصوده والمعنى الذي يريد افهامه للمخاطبين: فيرتفع صوته عند موضع الشدة والغضب مثلا ويخفضه عند موضع اللين, ويسرع به مرة ويتانى أخرى, وبنغمة محزنة مرة ومفرحة أخرى ...وهكذا حسب الانفعالات النفسية وحسب المقاصد.
وقد قلنا سابقاً في الاستدراجات ان هذه امور ليس لها قواعد مضبوطة ثابتة, بل هي تنشأ من موهبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده تصقل بالمران والتجربة.
وعلى كل حال ينبغي أن يكون الالقاء معبراً عما يجيش في نفس الخطيب من مشاعر وحالات نفسية او يتكفلها, ومعبراً عما يريد ان يحدثه في نفوس المخاطبين, كما ينبغي أن يكون معبراً أيضاً عن مقاصده واغراضه الكلامية, فإن جملة واحدة قد تلقى بلهجة استفهام وقد تلقي نفسها بلهجة خبر من دون احداث أي تغيير في نفس الالفاظ, والفرق يحصل بالنغمة واللهجة.
وهذه القدرة على تأدية الكلام المعبر بلهجاته ونغماته ونبراته شرط اساس لنجاح الخطيب, إذ بذلك يستطيع أن يمتزج بأرواح المستمعين ويبادلهم العواطف ويجذبهم اليه. والقاء الكلام الجامد لا يثير انفعالاتهم ولا تتفتح له قلوبهم ولا عقولهم, بل يكون على العكس مملاً مزعجاً.
2ـ ما يتعلق بالخطيب, وهو ما يخص معرفته عند المستمعين وهيئته ومنظره الخارجي ليكون قوله مقبولاً. وقد تقدم ذكر بعضه في الاستدراجات. وهو على وجهين قولي وفعلي: ـ
أما القولي فمثل الثناء عليه أو على رأيه واظهار نقصان خصمه أو ما يذهب اليه وتقرير ما يقتضي اعتقاد الخير به والثقة بقوله.
واما الفعلي فمثل الصعود على مرتفع كالمنبر فان مشاهدة الخطيب لها أكبر الأثر في الاصغاء اليه وملاحقة تسلسل كلامه والانطباع بافكاره وانفعالاته النفسية. ومثل الظهور بمنظر جذاب ولباس مقبول لمثله فإن لذلك أيضاً أثره البالغ في نفوس المخاطبين. ومثل الاشارات باليد والعين والرأس وحركات البدن وتقاطيع الوجه وملامحه, فإن كل هذه تعبر عن الانفعالات والمقاصد اذا احسن الخطيب ان يضعها في مواضعها. وهكذا كل فعل له تاثير على مشاعر السامعين على نحو ما اشرنا اليه في الاستدراجات.
والعوام أطوع إلى الاستدراجات من نفس الكلام المعقول المنطقي, ولهذا السبب تجد أن المتزهد المتقشف يسيطر على نفوسهم وإن كان فاسد العقيدة أو غير مرضي القول أو سيء التصرفات.
٭٭٭
ثم انه ينبغي ان يجعل من باب الاخذ بالوجوه الذي يستعين به الخطيب على التأثير هو (الشعر), فإنه ـ كما سيأتي ـ أكد في التأثير على العواطف وأمكن في القلوب.
فلا ينبغي ان تفوت الخطيب الاستعانة بالشعر, فيمزج به كلامه ويلطف به خطابه, لا سيما الامثال والحكم منه, ولا سيما ما كان, مشهورا لشعراء معروفين.
وسياتي في البحث الآتي الكلام عن صناعة الشعر:
الفصل الرابع
صناعة الشعر
تمهيد:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ان الشعر صناعة لفظية تستعملها جميع الأمم على اختلافها. والغرض الاصلي منه التأثير على النفوس لإثارة عواطفها: من سرور وابتهاج, أو حزن وتألم, أو اقدام وشجاعة, أو غضب وحقد, أو خوف وجبن, أو تهويل أمر وتعظيمه, أو تحقير شيء وتوهينه, أو نحو ذلك من انفعالات النفس.
والركن المقوم للكلام الشعري المؤثر في انفعالات النفوس ومشاعرها أن يكون فيه تخييل وتصوير, إذ للتخييل والتصوير الأثر الأول في ذلك كما سيأتي بيانه فلذلك قيل: إن قدماء المناطقة من اليونانيين جعلوا المادة المقومة للشعر القضايا المتخيلات فقط, ولم يعتبروا فيه وزناً ولا قافية.
أما العرب ـ وتبعتهم أمم أخرى ارتبطت بهم كالفرس والترك ـ فقد اعتبروا في الشعر الوزن المخصوص المعروف عند العروضيين, واعتبروا أيضاً القافية على ما هي معروفة في علم القافية, وإن اختلفت هذه الامم في خصوصياتها. اما ما ليس له وزن وقافية فلا يسمونه شعراً وان اشتمل على القضايا المخيلات.
ولكن الذي صرح به الشيخ الرئيس في منطق الشفا أن اليونانيين كالعرب كانوا يعتبرون الوزن في الشعر, حتى أنه ذكر أسماء الاوزان عندهم.
وهكذا يجب ان يكون, فإن للوزن أعظم الأثر في التخييل وانفعالات النفس, لأنَّ فيه من النغمة والموسيقى ما يلهب الشعور ويحفزه, وما قيمة الموسيقى إلا بالتوقيع على وزن مخصوص منظم. بل القافية كالوزن في ذلك وإن جاءت بعده في الدرجة.
ومن الواضح أن الشعر الموزون المقفى يفعل في النفوس ما لا يفعله الكلام المنثور, سواء كان هذا الفرق بسبب العادة إذ الوزن صار مألوفاً عند العرب وشبههم وتربى لديهم ذوق ثان غير طبيعي؛ ام ـ على الاصح ـ كان بسبب تأثر النفس بالوزن والقافية بالغريزة كتأثرها بالموسيقى المنظمة بلا فرق. والعادة ليس شأنها أن تخلق الغرائز والأذواق, بل تقويها وتشحذها وتنميها.
بل حتى الكلام المنثور المقفى والمزدوج المعادلة جمله بدون أن يكون له وزن شعري له وقع على النفوس يهزها, كما سبق الكلام عليه في توابع الخطابة نعم المبالغة في التسجيع الذي يبدو متكلفاً به ـ على النحو الذي ألفته القرون الاسلامية الأخيرة ـ أفقدت الكلام رونقه وتأثيره.
وعلى هذا, فالوزن والقافية يجب أن يعتبرا من أجزاء الشعر ومقوماته, لا من محسناته وتوابعه, ما دام المنطقي إنّما يهمه من الشعر هو التخييل, وكل ما كان اقوى تأثيراً وتصويراً كان أدخل في غرضه. ويصح ـ على هذا ـ أن يعد الوزن والقافية من قبيل (الأعوان) نظير التي ذكرناها في الخطابة. اما (العمود) فهو نفس القضايا المخيلات, فكما تنقسم أجزاء الخطابة الى عمود وأعوان فكذلك الشعر.
نعم ان الكلام المنظوم المقفى اذا لم يشتمل على التصوير والتخييل لا يعد من الشعر عند المناطقة, فلا ينبغي أن يسمى المنظوم في المسائل العلمية أو التاريخية المجردة مثلاً شعراً وان كان شبيهاً به صورة. وقد يسمى شعراً عند العرب او بالأصح عند المستعربين.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أنا عندما اعتبرنا الوزن والقافية فلا نقصد بذلك خصوص ما جرت عليه عادة العرب فيهما, على ما هما مذكوران في علمي العروض والقافية بل كل ما له تفاعيل لها جرس وإيقاع في النفس ـ ولو مثل >البنود< وماله قوافي مكرره مثل (الموشحات والرباعيات) ـ فإنه يدخل في عداد الشعر.
أما (الشعر المنثور) المصطلح عليه في هذا العصر فهو شعر ايضاً, ولكنّه بالمعنى المطلق الذي قيل عنه انه مصطلح مناطقة اليونان, فقد فَقَدَ ركناً من أركانه وجزءاً من أجزائه.
والانصاف ان اهمال الوزن والقافية يضعف القيمة الشعرية للكلام ويضعف أثر التخييلي في النفوس, وان جاز اطلاق اسم الشعر عليه إذا كانت قضاياه تخييلية.
تعريف الشعر:
وعلى ما تقدم من الشرح ينبغي ان نعّرف الشعر بما ياتي:
>انه كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية مقفاة<.
وقلنا: (متساوية), لأنّ مجرد الوزن من دون تساو بين الابيات ومصارعها فيه لا يكون له ذلك التأثير إذ يفقد مزية النظام فيفقده تأثيره. فتكرار الوزن على تفعيلات متساوية هو الذي له الأثر في انفعال النفوس.
فائدته:
ان للشعر نفعاً كبيراً في حياتنا الاجتماعية, وذلك لإثارة النفوس عند الحاجة في هياجها, لتحصيل كثير من المنافع في مقاصد الانسان فيما يتعلق بانفعالات النفوس واحساساتها, في المسائل العامة: من دينية أو سياسية أو اجتماعية, أو من الأمور الشخصية الفردية. ويمكن تلخيص أهم فوائده في الأمور الآتية:
1ـ اثارة حماس الجند في الحروب.
2ـ اثارة حماس الجماهير لعقيدة دينية أو سياسية, أو اثارة عواطفه لتوجيهه الى ثورة فكرية او اقتصادية.
3ـ تأييد الزعماء بالمدح والثناء وتحقير الخصوم بالذم والهجاء.
4ـ هياج اللذة والطرب وبعث السرور والابتهاج لمحض الطرب والسرور, كما في مجالس الغناء.
5ـ اهاجة الحزن والبكاء والتوجع والتألم, كما في مجالس العزاء.
6ـ اهاجة الشوق الى الحبيب أو الشهوة الجنسية, كالتشبيب والغزل.
7ـ الاتعاظ عن فعل المنكرات واخماد الشهوات, او تهذيب النفس وترويضها على فعل الخيرات, كالحكم والمواعظ والاداب.
السبب في تاثيره على النفوس:
وبعد معرفة تلك الفوائد يبقى ان نسال عن شيئين: (الاول) عن السبب في تاثير الشعر على النفس لاثارة تلك الانفعالات. و (الثاني) بماذا يكون الشعر شعراً أي مخيلا؟
والجواب على السؤال الاول ان نقول:
ان الشعر قوامه التخييل, والتخييل ـ من البديهي ـ انه من أهم الأسباب المؤثرة على النفوس, لأن التخييل أساسه التصوير والمحاكاة والتمثيل لما يراد من التعبير عن معنى, والتصوير له من الوقع في النفوس ما ليس لحكاية الواقع باداء معناه مجرداً عن تصويره, فإن الفرق عظيم بين مشاهدة الشيء في واقعه وبين مشاهدة تمثيله بالصورة أو بمحاكاته بشيء آخر يمثله. اذ التصوير والتمثيل يثير في النفس التعجب والتخييل فتلتذ به وترتاح له, وليس لواقع الحوادث المصورة والممثلة قبل تصويرها وتمثيلها ذلك الأثر من اللذة والارتياح شاهدها الانسان.
واعتبر ذلك فيمن يحاكون غيرهم في مشية او قول او انشاد او حركة او نحو ذلك فانه يثير اعجابنا ولذتنا او ضحكنا, مع انه لا يحصل ذلك الاثر النفسي ولا بعضه لو شاهدنا نفس المحكيين في واقعهم. وما سر ذلك الا التخييل والتصوير في المحاكاة.
وعلى هذا كلما كان التصوير دقيقاً معبراً كان أبلغ أثرا في النفس. ومن هنا كانت السينما من أعظم المؤثرات على النفوس, وهو سر نجاحها واقبال الجمهور عليها, لدقة تعبيرها وبراعة تمثيلها عن دقائق الأشياء التي يراد حكايتها.
والخلاصة: ان تأثير الشعر في النفوس من هذا الباب, لأنّه بتصويره يثير الاعجاب والاستغراب والتخييل, فتلتذ به النفس وتتأثر به حسبما يقتضيه من التأثير. ولذا قالوا: ان الشاعر كالمصور الفنان الذي يرسم بريشته الصور المعبرة.
وحق ان نقول حينئذ: ان الشعر من الفنون الجميلة الغرض منه تصوير المعاني المراد التعبير عنها, ليكون مؤثراً في مشاعر الناس, ولكنّه تصوير بالالفاظ.
بماذا يكون الشعر شعراً:
اذا عرفت ما تقدم فلنعد الى السؤال الثاني, فنقول: بماذا يكون الشعر شعراً أي مخيلا؟ والجواب: أن التصوير في الشعر كما المعنا اليه في التمهيد يحصل بثلاثة اشياء:
1ـ (الوزن), فان لكل وزن شأناً في التعبير عن حال من احوال النفس ومحاكاته له, ولهذا السبب يوجب انفعالاً في النفس, فمثلاً بعض الاوزان يوجب الطيش والخفة, وبعضها يقتضي الوقار والهدوء , وبعضها يناسب الحزن والشجى, وبعضها يناسب الفرح والسرور.
فالوزن ـ على كل حال ـ بحسب ما له من ايقاعات موسيقية يثير التخيل واللذة في النفوس. وهذا امر غريزي في الانسان. واذا ادى الوزن بلحن ونغمة تناسبه مع صوت جميل كان أكثر ايقاعاً وأشدّ تأثيراً في النفس, لا سيما ان لكل نغمة صوتية أيضاً تعبيراً عن حال: فالنغمة الغليظة ـ مثلاًـ تعبر عن الغضب, والنغمة الرقيقة عن السرور وهيجان الشوق, والنغمة الشجية عن الحزن. فإذا انضمت النغمة الى الوزن تضاعف أثر الشعر في التخييل, ولذلك تجد الاختلاف الكثير في تأثير الشعر باختلاف انشاده بلحن وبغير لحن, وباختلاف طرق الالحان وطرق الانشاد, حتى قد يبلغ الى درجة النشوة والطرب فيثير عاطفة عنيفة عاصفة.
2ـ المسموع من القول يعني الألفاظ نفسها, فإن لكل حرف أيضاً نغمة وتعبيراً عن حال, كما أن تراكيبها لها ذلك الاختلاف في التعبير عن أحوال النفس والاختلاف في التأثير فيها, فهناك ـ مثلاً ـ ألفاظ عذبة رقيقة, وألفاظ غليظة ثقيلة على السمع, والفاظ متوسطة.
ثم ان للفظ المسموع ايضا تاثيرا في التخييل اما من جهة جوهره كأن يكون فصيحاً جزلاً, او من جهة حيلة بتركيبه, كما في أنواع البديع المذكورة في علمه, وكالتشبيه والاستعارة والتورية ونحوها المذكورة في علم البيان.
3ـ نفس الكلام المخيل, أي معاني الكلام المفيدة للتخييل, وهي القضايا المخيلات التي هي العمدة في قوام الشعر ومادته التي يتألف منها.
وإذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة كان الشعر كاملاً, وحق ان يسمى (الشعر التام). وبها يتفاضل الشعراء وتسمو قيمته إلى أعلى المراتب أو تهبط الى الحضيض.
وبها تختلف رتب الشعراء وتعلو وتنزل درجاتهم: فشاعر يجري ولا يجري معه فيستطيع ان يتصرف في النفوس, حتى يكاد تكون له منزلة الانبياء من ناحية التأثير على الجماهير, وشاعر لا يستحق إلا أن تصفعه وتحقره, حتى يكاد يكون اضحوكة للمسهزئين, وبينهما درجات لا تحصى.
اكذبه اعذبه:
من المشهورات عند شعراء اللغة العربية قولهم: >الشعر اكذبه اعذبه< وقد استخف بعض الادباء المحدثين بهذا القول, ذهاباً الى ان الكذب من أقبح الأشياء فكيف يكون مستملحاً, مضافاً الى أن القيمة للشعر إنّما هي بالتصور المؤثر فإذا كان كاذباً فليس في الكذب تصوير لواقع الشيء.
وهذا النقد حق لو كان المراد من الشعر الكاذب مجرد الاخبار عن الواقع كذباً. غير ان مثل هذا الاخبار ـ كما تقدم ـ ليس من الشعر في شيء وإن كان صادقاً.
وإنما الشعر بالتصوير والتخييل. ولكن يجب أن نفهم أن تصوير الواقع تارة يكون بما له من الحقيقة الواقعة بلا تحوير ولا اضافة شيء على صورته ولا مبالغة فيه او حيلة في تمثيلة. ومثل هذا يكون ضعيف التأثير على النفس ولا يوجب الالتذاذ المطلوب.
وتارة أخرى, يكون بصورة تخييلية ـ على ما نوضحه فيما بعد ـ بان تكون كالرتوش التي تصنع للصورة الفوتوغرافية اما بتحسين أو بتقبيح, مع أن الواقع من ملامح ذي الصورة محفوظ فيها, أو كالصورة الكاريكاتورية التي تحكي صورة الشخص بملامحه المميزة له مع ما يفيض عليها المصور من خياله من تحريفات للتعبير عن بعض اخلاقه او حالاته او افكاره او نحو ذلك.
فهذا التعبير أو التصوير من جهة صادق, ومن جهة أخرى كاذب, ولكنه في عين كونه كاذبا هو صادق. وهذا من العجيب. ولكن معناه ان المراد الجدي ـ أي المقصود بيانه واقعاً وجداً ـ من هذا التخييل صادق, في حين ان نفس التخييل الذي ينبغي ان نسميه المراد الاستعمالي كاذب.
وليتضح لك هذا المعنى تأمل نظيره في تصويره الصورة الكاريكاتورية, فإن المصور قد يضفي على الصورة ما يدل على الغضب أو الكبرياء من ملامح تخيلها المصور وليست هي حقيقية لصاحب الصورة بالشكل الذي تخيله المصور, وهي مراد استعمالي كاذب. أما المراد الجدي وهو بيان أن الشخص غضوب أو متكبر فإن التعبير عنه يكون صادقاً, لو كان الشخص واقعاً كذلك أي غضوباً أو متكبراً.
فإذن, إنما التخييل الكاذب وقع في المراد الاستعمالي لا الجدي.
وكذلك نقول في الشعر, ولا سيما ان أكثر ما يأتي فيه التخييل بالمبالغات, كالمبالغة بالمدح أو الذم أو التحسين أو التقبيح؛ والمبالغة ليست كذبا في المراد الجدي إذا كان واقعه كذلك ولكنها كاذبة في المراد الاستعمالي. وليس هذا من الكذب القبيح المذموم ما دام هو ليس مراد جدياً يراد الاخبار عنه حقيقة.
مثلاً قد يشبه الشعراء الخصر الدقيق بالشعرة الدقيقة فهذا تصوير لدقة الخصر. فإن أريد به الاخبار حقيقة وجداً عن أن الخصر دقيق كالشعرة أي أن المراد الجدي هو ذلك, فهو كذب باطل وسخيف, وليس فيه أي تأثير على النفس ولا تخييل, فلا يعد شعراً. ولكن في الحقيقة أن المراد الجدّي منه اعطاء صورة للخصر الدقيق لبيان ان حسنه في دقته يتجاوز الحد المالوف في الناس, وانما يكون هذا كاذباً إذا كان الخصر غير دقيق لأن الواقع يخالف المراد الجدي. اما المراد الاستعمالي وهو التشبيه بالشعرة فهو كاذب, ولا ضير فيه ولا قبح ما دام المراد به التوصل الى التعبير عن ذلك المراد الجدي بهذه الصورة الخيالية.
وبمثل هذا يكون التعبير مستغرباً وصورة خيالية قد تشبه المحال, فتجلب الانتباه وتثير الانفعال لغرابتها.
وكلما كانت الصورة الخيالية غريبة بعيدة تكون أكثر أثراً في إلتذاذ النفس واعجابها. ولذا نقول أن الشعر كلما كان مغرقاً في الكذب في المراد الاستعمالي بذلك المعنى من الكذب كان أكثر عذوبة وهذا معنى (اكذبه اعذبه) لا كما ظنه بعض من لا قدم له ثابتة في المعرفة. على أن التخييل وان كان حقيقة أي في مراده الجدّي أيضاً فإنّه يأخذ أثره من النفس, كما سنوضحه في البحث الاتي:
القضايا المخيلات وتاثيرها:
ونزيد على ما تقدم فنقول:
إن المخيلات ليس تأثيرها في النفس من أجل أنّها تتضمن حقيقة يعتقد بها, بل حتى لو علم بكذبها فإنّ لها ذلك التأثير المنتظر منها, لأنّه ما دام أن القصد منها هو التأثير على النفوس في احساساتها وانفعالاتها فلا يهم ألا تكون صادقة, إذ ليس الغرض منها الاعتقاد والتصديق بها.
والجمهور والنفوس غير المهذبة تتأثر بالمخيلات أكثر من تأثرها بالحقائق العلمية, لأن الجمهور أو الفرد غير المهذب عاطفي أكثر من أن يكون متبصراً, وهو اطوع للتخييل من الاقناع.
ألا ترى ان الكلام المخيل الشعري قد يجيب امراً مبغوضاً للنفس, وقد يبغض شيئاً محبوباً لها. واعتبر ذلك في اشمئزاز بعض الناس من أكلة لذيذة قد أقبل على أكلها فقيل له: انه وقع فيها بعض ما تعافه النفس كالخنفساء مثلاً, أو شبهت له ببعض المهوعات. فإن الخيال حينئذ قد يتمكن منه فيعافها حتى لو علم بكذب ما قيل.
ولا تنس القصة المشهورة لملك الحيرة النعمان بن المنذر مع نديمه الربيع وقد كان يأكل معه, فجاءه لبيد الشاعر, وهو غلام, مع قومه للانتقام من الربيع في قصة مشهورة في مجامع الأمثال, فقال لبيد مخاطباً للنعمان:
مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه ان استه من برص ملمعه
وانه يدخل فيها اصبعه يدخلها حتى يواري اشجعه
فرفع النعمان يده من الطعام وتنكر لنديمه هذا, وأبى أن يستكشف صدق هذا القول فيه, بالرغم على الحاجة, وقال له ما ذهب مثلاً من أبيات:
قد قيل ذلك ان حقاً وان كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا
واعتبر ذلك أيضاً في تصوير الانسان بهذه الصورة اللفظية البشعة (أوله نطفة مذرة, وآخره جيفة قذرة. وهو ما بين ذلك يحمل العذرة). فإن هذه صورة حقيقية للانسان ولكنها ليست كل ماله من صور, وللنفس على كل حال محاسنها التي ينبغي أن يعجب بها, لا سيما من صاحبها, واعجاب المرء بنفسه وحبه لها اساس حياته كلها. ولكن مثل ذلك التصوير البشع ياخذ من النفس أثره من التنفر والاشمئزاز, حتى لو كان أبعد شيء في التأثير في التصديق والاعتقاد بحقارة النفس. وسبب هذا التأثر النفسي هو التخيل الذي قد يقلع المتكبر عن غطرسته ويخفف من اعجابه بنفسه. وهذا هو المقصود من مثل هذه الكلمة.
واعتبر أيضاً بالشعر العربي, فكم رفع وضيعا أو وضع رفيعاً, وكم اثار الحروب واورى الاحقاد. وكم قرب بين المتباعدين وآخى بين المتعادين. ورب بيت صار سبة لعشيرة وآخر صار مفخرة لقوم. على أن كل ذلك لم يغير واقعاً ولا اعتقاداً. ومرد ذلك كله الى الانفعالات النفسية وحدها, وقد قلنا انها اعظم تاثيراً على الجمهور الذي هو عاطفي بطبعه وعلى الافراد غير المهذبة التي تتغلب عليها العاطفة أكثر من التبصر.
والخلاصة: ان التصوير والتخييل مؤثر في النفس وان كان كاذباً بل ـ وقد سبق ـ كلما كانت الصورة أبعد وأغرب كانت أبلغ أثراً في اعجاب النفس والتذاذها.
وأحسن مثال لذلك قصص ألف ليلة وليلة, وكليلة ودمنة, والقصص في الأداب الحديث.
والسبب الحقيقي لانفعال النفس بالقضايا المخيلات الاستغراب الذي يحصل لها بتخييلها, على ما اشرنا اليه فيما تقدم.
الا ترى أن المضحكات والنوادر عند اول سماعها تأخذ أثرها في النفس من ناحية اللذة والانبساط أكثر مما لو تكررت وألفت الاذان سماعها. بل قد تفقد مزيتها وتصبح تافهة باهتة لا تهتز النفس لها. بل قد يؤثر تكرارها الملل والاشمئزاز.
واذا قيل في بعض الشعر انه >هو المسك ما كررته يتضوع< فهو من مبالغات الشعراء. واذا صح ذلك فيمكن ذلك لاحد وجهين: (الأول) أن يكون فيه من المزايا والنكات ما لا يتضح لأول مرة أولا يتمثل للنفس جيداً, فإذا تكررت قراءته استمري أكثر وانكشفت مزاياه بصورة اجلى فتتجده قيمته بنظر المستمع. (الثاني) ان عذوبة اللفظ وجزالته لا تفقد مزيتها بالتكرار وليست كالتخييل.
هل هناك قاعدة للقضايا المخيلات؟
قد تقدم ان قوام الشعر بثلاثة أمور: الوزن والالفاظ والمعاني المخيلة, فلا بد لمن يريد أن يتقن صناعة الشعر من الرجوع الى القواعد التي تضبط هذه الامور, فنقول:
أما (الوزن والالفاظ) فلها قواعد مضبوطة في فنون معروفة يمكن الرجوع اليها, وليس في علم المنطق موضع ذكرها, لأنّ المنطق انما يهمه النظر في الشعر من ناحية تخييلية فقط.
واما (الوزن) من ناحية ماهيته فانما يبحث عنه في علم الموسيقى. ومن ناحية استعماله وكيفيته فيبحث عنه في علم العروض.
واما (الالفاظ) فهي من شأن علوم اللغة وعلوم البلاغة والبديع.
وعلى هذا فلا بد للشاعر من معرفة كافية بهذه الفنون اما بالسليقة أو بالتعلم والممارسة, مع ذوق يستطيع به أن يدرك جزالة اللفظ وفصاحته ويفرق بين الالفاظ من ناحية عذوبتها وسلاستها. والناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً في أذواقها, وان كان لكل امة ولكل اهل لغة ذوق عام مشترك. وللممارسة وقراءة الشعر الكثير الأثر الكبير في تنمية الذوق وصقله.
أما (القضايا المخيلات) فليس لها قاعدة مضبوطة يمكن تحريرها والرجوع اليها, لأنّها ليست من قبيل القضايا المشهورات والمظنونات يمكن حصرها وبيان أنواعها, اذ القضايا المخيلات ـ كما سبق ـ كلما كانت بعيدة نادرة وغريبة مستبعدة كانت أكثر تأثيراً في التخييل والتذاذ النفس. وقد سبق أيضاً بيان السبب الحقيقي في انفعال النفس بهذه القضايا.
وعليه فالقضايا المخيلات لا يمكن حصرها في قواعد مضبوطة, بل >الشعراء في كل وادٍ يهيمون<. وليس لهم طريق واحد مستقيم معلوم.
من أين تتولد ملكة الشعر؟
لا يزال غير واضح لنا سر ندرة الشعراء الحقيقيين في كل امة. بل لا تجد من كل أمة من تحصل له قوة الشعر في رتبة عالية فينبغ فيه ويتمكن من الابداع والاختراع إلاّ النادر القليل وفي فترات متباعدة قد تبلغ القرون.
ومن العجيب ان هذه الملكة ـ على ما بها من اختلاف في الشعراء قوة وضعفاًـ لا تتولد في أكثر الناس, وإن شاركوا الشعراء في تذوق الشعر وممارسته وتعلمه.
وكل ما نعلمه عن هذه الملكة انها موهبة ربانية كسائر مواهبه تعالى التي يختص بها بعض عباده, كموهبة حسن البيان أو الخطابة أو التصوير أو التمثيل ... وما الى ذلك مما يتعلق بالفنون الجميلة وغيرها.
ومن أجل هذا الاختصاص الرباني اعتبر الشعراء نوابغ البشر. وقد وجدنا العرب كيف كانت تعتز بشعرائها, فاذا نبغ في قبيلة شاعر أقاموا له الاحتفالات وتهنئها به القبائل الأخرى. ولو كان يتمكن أكثر الناس من أن يكونوا شعراء لما صحت منهم هذه العناية بشاعرهم ولما عدّوه نبوغا.
غير أن هذه الموهبة ـ كسائر المواهب الاخرى ـ تبدأ في تكوينها في النفس كالبذرة لا يحس بها حتى صاحبها, فإذا اكتشفها صاحبها من نفسه صدفة وسقاها بالتعليم والتمرين تنمو وتستمر في النمو, حتى قد يصبح شجرة باسقة تؤتي أكلها كل حين.
ولكن اكتشاف الموهبة ليس بالأمر الهين وقد يكتشفها الغير العارف قبل صاحبها نفسه. وقد تذوي وتموت المواهب في كثير من النفوس اذا أهملت في السن المنكر لصاحبها.
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow01.jpghttps://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/arrow02.jpg
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
صلة الشعر بالعقل الباطن:
والحق أن الشاعر البارع ـ كالخطيب البارع ـ يستمد في ابداعه من عقله الباطن اللاشعوري, فيتدفق الشعر على لسانه كالالهام من حيث يدري ولا يدري, على اختلاف عظيم للشعراء والخطباء في هذه الناحية.
وليس الشعر والخطابة كسائر الصناعات الأخرى التي يبدع فيها الصانع عن روية وتأمل دائما. والى هذا اشار صحار العبدي, لما سأله معاوية: ما هذه البلاغة فيكم؟ فقال: >شيء يختلج في صدورنا فتقذفه السنتنا كما يقذف البحر الدرر< وهذه لفتة بارعة من هذا الاعرابي ادركها بفطرته وصورها على طبع سجيته.
ومن أجل ما قلناه من استمداد الشاعر من منطقة اللاشعور تجده قد لا يواتيه الشعر, وهو في أشد ما يكون من يقظته الفكرية ورغبته الملحة في انشائه. قال الفرزدق(): >قد يأتي عليّ الحين وقلع ضرس عندي اهون من قول بيت شعر<.
وبالعكس قد يفيض الشعر ويتدفق على لسان الشاعر من غير سابق تهيؤ فكري, والشعراء وحدهم يعرفون مدى صحة هذه الحقيقة من أنفسهم.
واحسب انه من أجل هذا زعم العرب أو شعراؤهم خاصة ان لكل شاعر شيطاناً أو جنياً يلقي عليه الشعر. والغريب أن بعضهم تخيله شخصا يمثل له وأسماه باسم مخصوص. وكل ذلك لأنهم رأوا من أنفسهم أن الشعر يواتيهم على الأكثر من وراء منطقة الشعور وعجزوا عن تفسيره بغير الشيطان والجن.
وعلى كل حال فإن قوة الشعر اذا كانت موجودة في نفس الفرد لا تخرج ـ كما تقدم ـ من حد القوة الى حد الفعلية اعتباطاً من دون سابق تمرين وممارسة للشعر بحفظ وتفهم ومحاولة نظمه مره بعد أخرى. وقد أوصى بعض الشعراء ناشئا ليتعلم الشعر ان يحفظ قسماً كبيراً من المختار منه, ثم يتناساه مدة طويلة, ثم يخرج الى الحدائق الغناء, ليستلهمه, وكذلك فعل ذلك الناشيء فصار شاعراً كبيراً.
ان الامر بحفظه وتناسبه فلسفة عميقة في العقل الباطن توصل اليها ذلك الشاعر بفطرته وتجربته: ان هذا هو شحن القوة للعقل الباطن, لتهيئته لالهام الشعور في ساعة الانشراح والانطلاق التي هي احدى ساعات تيقظ العقل الباطن وانفتاح المجرى النفسي بين منطقتي اللاشعور والشعور, او بالاصح احدى ساعات اتحاد المنطقتين. بل هي من افضل تلك الساعات. وما اعز انفتاح هذا المجرى على الانسان الا على من خلق ملهما فيؤاتيه بلا اختيار.
الفصل الخامس
صناعة المغالطة
وفيها ثلاثة مباحث: المقدمات, اجزاء الصناعة الذاتية, واجزاء الصناعة العرضية.
المبحث الاول ـ المقدمات
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ـ1ـ
معنى المغالطة وبماذا تتحقق
كل قياس نتيجته تكون نقضا لوضع من الاوضاع يسمى باصطلاح المنطقيين (تبكيتا)(), باعتبار انه تبكيت لصاحب ذلك الوضع.
فاذا كانت مواده من اليقينيات قيل له (تبكيت برهاني).
واذا كانت من المشهورات والمسلمات قيل له (تبكيت جدلي).
واذا لم تكن مواده من اليقينيات ولا من المشهورات والمسلمات, او كانت منها ولكن لم تكن صورة القياس صحيحة على حسب قوانينه ـ فلا بد أن يكون القياس حينئذ شبيها بالحق واليقين او شبيها بالمشهور مادة أو هيئة, فيلتبس أمره على المخاطب ويروج عليه ويكون عنده في معرض التسليم لقصور فيه أو غفلة, وإلا فلا يستحق أن يسمى قياسا.
وعلى هذا, فهو إن كان شبيها بالبرهان سمي (سفسطائيا), وصناعته (سفسطة).
وإن كان شبيها بالجدل سمي (مشاغبيا) وصناعته (مشاغبة).
وسبب كل من السفسطة والمشاغبة لا يخلو عن أحد شيئين: اما الغلط حقيقة من القايس, واما تعمد تغليط الغير وايقاعه في الغلط مع انتباهه إلى الغلط. وعلى كل منهما يقال له (مغالط), وقياسه (مغالطة), باعتبار أنه في كلا الحالين يكون ناقضا لوضع ما.
وعلى هذا فـ (المغالطة) التي نعينها هنا تشمل القسمين: الغلط وتعمد التغليط. ومن أجل ذلك الاعتبار (أي اعتبار نقضه لوضع ما) قيل له (تبكيت مغالطي), وان كان في الحقيقة تضليلا لا تبكيتا, كما قد يقال له بحسب غرض آخر (امتحان أو عناد) كما سياتي.
٭ ٭ ٭
واعلم ان سبب وقوع تلك المواد في القياس الذي يصح جعله قياساً هو رواجها على العقول. وسبب الرواج مشابهتها للحق أو المشهور. ولا تروج على العقول فيشتبه عليها الحال لولا قلة التمييز وضعف الانتباه, فيخلط الذهن بين المتشابهين ويجعل الحكم الخاص باحدهما للآخر, من غير أن يشعر بذلك, سواء كان قلة التمييز والخلط من نفس القايس أو من قبل المخاطب إذ يروج عليه ذلك.
وهذا نظير ما لو وضع الحاسب أحد العددين مكان الآخر لمشابهة بينهما فيشتبه عليه, فيقع له الغلط في الحساب بجمع أو طرح أو نحوهما.
مثلا, لو أن احداً تمثل في ذهنه معنى من معاني المشترك في موضع معنى آخر له, وهو غافل عن استعماله في المعنى الآخر, فلا محالة يعطي للمعنى الذي تمثله الحكم المختص بذلك المعنى الآخر, فيغلط. وقد يتعمد ذلك ليوقع بالغلط غيره من قليلي التمييز.
والخلاصة: أنه لولا قلة التمييز وضعف الانتباه والقصور الذهني لما تحققت مغالطة ولما تمت لها صناعة.
ومن سوء الحظ أن البشر مرتكس الى قمة رأسه بالمغالطات والخلافات, بسبب القصور الذهني العام لا يكاد يخلو منه انسان ـ ولو قليلا ـ الا من خصه الله تعالى برحمته من عباده الصالحين الذين هم في الناس كالنقطة في البحر الخضم.
}إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ امنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ{
ـ2ـ
اغراض المغالطة
و(المغالطة) بمعنى تعمد تغليط الغير قد تقع عن قصد صحيح لمصلحة محمودة, مثل اختباره وامتحان معرفته, فتسمى (امتحانا), أو مدافعته وتعجيزه إذا كان مبطلا مصرا على باطله, فتسمى (عنادا).
وقد تقع عن غرض فاسد, مثل الرياء بالعلم والمعرفة والتظاهر في حبهما, ومثل طلب التفوق على غيره.
والذي يدفع الانسان الى هذا الرياء وطلب التفوق شعوره بالنقص من الناحية العلمية, فيريد في دخيلة نفسه أن يعوض عن هذا النقص. واذ يعرف من نفسه العجز عن التعويض بالطريق المستقيم وهو التعلم والمعرفة الحقيقية يلتجئ الى التظاهر بما يسد نقصه بزعمه.
وهو في هذا يشبه من يريد أن يستر نقصه في منزلته الاجتماعية بطريق التكبر والتعاظم, او يستر نقصه في عيوبه الاخلاقية بالطعن في الناس وغيبتهم.
ولذلك يلتجئ هذا الانسان ـ الذي فيه مركب النقص ـ إلى أن يلتمس طرق الحيل والمغالطات عند مواجهة أهل العلم, ليظهر أمام الناس بمظهر العالم القدير, فيجهد نفسه في تحصيل أصول المغالطة وقواعدها, لتكون له ملكة ذلك والقدرة على المصاولة الخادعة. ولم يدر ـ هذا المسكين ـ أن الالتجاء الى الرياء والتظاهر كالالتجاء إلى التكبر ونقد الناس تعبير صارخ عن نقصه الكامن في الوقت الذي يريد فيه ـ خداعا لنفسه ـ ان يستر على نقصه ويظهر بالكمال.
أعاذنا الله تعالى من الاباطيل والاحابيل, وهدانا الصراط المستقيم.
ـ3ـ
فائدة هذه الصناعة
ومع كل ما قلناه فإن لصناعة المغالطة فائدة لا يستهان بها لدى أهل العلم, وذلك من ناحيتين:
1ـ أنه بها قد يتمكن الباحث من النجاة من الوقوع في الغلط ويحفظ نفسه من الباطل, لأنه إذا عرف مواقع المغالطة ومداخلها يعرف الطريق إلى الهرب من الغلط والاشتباه.
2ـ أنه بها قد يتمكن من مدافعة المغالطين وكشف مداخل غلطهم. وعلى هذا ففائدة الباحث من تعلم صناعة المغالطة كفائدة الطبيب في تعلمه للسموم وخواصها, فانه يتمكن بذلك من الاحتراز منها, ويستطيع أن يأمر غيره بالاحتراز ويداوي من يتناولها.
ثم لهذه الصناعة فائدة أخرى, وهي أن يقدر بها على مغالطة المغالط ومقابلة المغالطين المشعوذين بمثل طريقتهم, كما قيل في المثل المشهور: >ان الحديد بالحديد يفلح<().
وقد سبق أن قلنا أن البشر مرتكس إلى قمة رأسه بالمغالطات والخلافات, فما أحوج طالب الحق السابح في بحر المعارف إلى أن يزيح عنه الزبد الطافح على الماء من رواسب غلطات الماضين, بمعرفة ما يصطنعه المغالطون من أوهام.
ولكن ذوي الطباع السليمة والآراء المستقيمة في غنى عن معرفة مواضع الغلط بتعلم القوانين والأصول في هذه الصناعة, فإن لهم بمواهبهم الشخصية الكفاية وإن كان لا تخلو هذه الصناعة من زيادة بصيرة لهم.
ـ4ـ
موضوع هذه الصناعة وموادها
ليس موضوع هذه الصناعة محدودا بشيء خاص, بل تتناول كل ما تتعلق به صناعة البرهان والجدل: فموضوعاتها بازاء موضوعاتهما, ومسائلها بازاء مسائلهما, بل ان مباديها بازاء مباديهما, أي أن مباديها مشابهة لمباديهما.
غير أن هاتين الصناعتين حقيقيتان, وهذه صورية ظاهرية, لأن المشابهة بحسب الرواج والظاهر, كما قلنا سابقاً, من جهة ضعف قوة التمييز والقصور الذهني.
ومواد هذه الصناعة هي المشبهات والوهميات على ما بيناه في مقدمة الصناعات. والوهميات من وجه داخلة في المشبهات, باعتبار التوهم فيها أن المعقولات لها حكم المحسوسات.
ـ5ـ
اجزاء هذه الصناعة
ولهذه الصناعة جزءان كالجزءين في صناعة الخطابة: (أحدهما) كالعمود في الخطابة, وهي القضايا التي بذاتها تقتضي المغالطة, وهي نفس التبكيت, ولنسمها:
(اجزاء الصناعة الذاتية).
(ثانيهما) كالاعوان في الخطابة, وهي ما تقتضي المغالطة بالعرض, وهي الأمور الخارجة عن التبكيت, كالتشنيع على المخاطب وتشويش أفكاره باخجاله والاستهزاء به, ونحو ذلك مما سياتي. ولنسمها: (أجزاء الصناعة العرضية).
وقد عقدنا المبحث الثاني الآتي في الأجزاء الذاتية والمبحث الثالث في الأجزاء العرضية:
المبحث الثاني
اجزاء الصناعة الذاتية
تمهيد:
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
اعلم أن الغلط الواقع في نفس التبكيت وهو القياسي المغالطي, اما أن يقع من جهة مادته وهي نفس المقدمات, أو من جهة صورته وهي التأليف بينها, أو من الجهتين معاً. ثم أن هناك غلطاً يقع في القضايا وإن لم تؤلف قياساً.
ثم الغلط الواقع في مادة القياس على ثلاثة أنواع:
1ـ من جهة كذبها في نفسها وقد البست بالصادقة, أو شناعتها في نفسها وقد التبست بالمشهورة.
2ـ من جهة أنها ليست غير النتيجة واقعاً مع توهم أنها غيرها, فتكون مصادرة على المطلوب.
3ـ من جهة أنها ليست أعرف من النتيجة مع ظن أنها أعرف.
ثم أن النوع الأول (وهو الكذب أو الشناعة والالتباس بالصادقة أو المشهورة) أهم الانواع وأكثر ما تقع المغالطات من جهته. وهو تارة يكون من جهة اللفظ وأخرى من جهة المعنى.
فهذه جملة أنواع الغلط.
ثم يمكن إرجاع الانواع الأخرى حتى الغلط من جهة صورة القياس إلى الغلط من جهة المعنى. فتقسم أنواع المغالطات إلى قسمين رئيسين:
1ـ المغالطات اللفظية
2ـ المغالطات المعنوية (فنعقدهما في بحثين)
ـ1ـ
المغالطات اللفظية
ان الغلط من جهة لفظية اما أن يقع في اللفظ المفرد أو المركب:
(الاول)ـ ما في اللفظ المفرد. وهو على ثلاثة انواع:
1ـ ما يكون في جوهر اللفظ من جهة اشتراكه بين اكثر من معنى. ويسمى (اشتراك الاسم).
2ـ ما يكون في حال اللفظ وهيئته في نفسه. وذلك للاشتباه بسبب اتحاد شكله.
3ـ ما يكون في حال اللفظ وهيئته, ولكن بسبب أمور خارجة عنه عارضة عليه. وذلك للاشتباه بسبب اختلاف الاعراب والاعجام.
(الثاني)ـ ما في اللفظ المركب. وهو على ثلاثة أنواع أيضاً:
1ـ ما يكون نفس التركيب يقتضي المغالطة. ويسمى (المماراة).
2ـ ما يكون توهم وجود التركيب يقتضيها. وذلك بأن يكون التركيب معدوما فيتوهم أنه موجود. ويسمى (تركيب المفصل).
3ـ ما يكون توهم عدمه يقتضيها. وذلك بأن يكون التركيب موجوداً فيتوهم أنه معدوم. ويسمى (تفصيل المركب).
فالمغالطات اللفظية ـ إذن ـ تنحصر في ستة أنواع. فلنشر إليها بالترتيب المتقدم:
1ـ المغالطة باشتراك الاسم:
ليس المراد بالاشتراك هنا الاشتراك اللفظي المتقدم معناه في الجزء الاول ص45 بل المراد منه أن يكون اللفظ صالحاً للدلالة على أكثر من معنى واحد, بأي نحو من انحاء الدلالة, سواء كانت بسبب الاشتراك اللفظي أو النقل أو المجاز أو الاستعارة أو التشبيه أو التشابه أو الاطلاق والتقييد أو نحو ذلك.
وأكثر اشتباه الناس وغلطهم ومغالطالتهم وخلافاتهم من أقدم العصور يرجع إلى هذه الناحية اللفظية, حتى أنه نقل عن افلاطون الحكيم أنه وضع كتاباً في خصوص صناعة المغالطة دون باقي اجزاء المنطق وحصرها في هذا القسم من المغالطات اللفظية واغفل باقي الاقسام.
ومن أجل هذا كان الزم شيء للباحثين أن يوضحوا ويحددا التعبير باللفظ عن مقاصدهم قبل كل بحث, حتى لا يلقى الكلام على عواهنه. فإن لكل لفظ اطاره الذهني الخاص به الذي قد يختلف باختلاف العصور أو البيئات أو العلوم والفنون, بل الاشخاص.
ويطول علينا ذكر الامثلة لهذا القسم. وحسبك كلمة الوجود والماهية في علم الفلسفة, وكلمة الحسن والقبح والرؤية في علم الكلام, وكلمة الحرية والوطن في الاجتماعيات... وهكذا. ونستطيع أن نلتقط من كل علم وفن أمثلة كثيرة لذلك.
2ـ المغالطة في هيئة اللفظ الذاتية:
وهي فيما اذا كان اللفظ يتعدد معناه من جهة تصريفه أو من جهة تذكيره وتأنيثه أو كونه اسم فاعل أو اسم مفعول. ولعدم تمييز أحدهما عن الآخر يقع الاشتباه والغلط, فيوضع حكم أحدهما للآخر. مثل لفظ (العدل) من جهة كونه مصدرا مرة وصفة أخرى. ولفظ (تقوم) من جهة كونه خطابا للمذكر مرة وللمؤنث الغائبة اخرى. ولفظ (المختار) و (المعتاد) اسم فاعل مرة واسم مفعول أخرى...
وهكذا.
3ـ المغالطة في الاعراب والاعجام:
وهي فيما إذا كان اللفظ يتعدد معناه بسبب أمور عارضة على هيئة خارجة عن ذاته, بأن يصحف اللفظ نطقا أو خطا باعجام أو حركات في صيغته أو اعرابه. مثل ما قال الرئيس ابن سينا بما معناه: ان الحكماء قالوا أنه تعالى بحت وجوده فصحفه بعضهم فظن أنهم قصدوا يجب وجوده.
(تنبيه) ان النوعين الاخيرين يرجعان في الحقيقة إلى الاشتباه من جهة الاشتراك في اللفظ غير أنهما من جهة هيئته لا جوهره. ولما كان النوع الأول يرجع إلى جوهر اللفظ خصوه باسم اشتراك الاسم. بل ان الأنواع الثلاثة الآتية ترجع من وجه إلى اشتراك اللفظ.
4ـ مغالطة المماراة:
وهي ما تكون المغالطة تحدث في نفس تركيب الألفاظ. وذلك فيما إذا لم يكن اشتراك في نفس الألفاظ ولا اشتباه فيها, ولكن بتركيبها وتأليفها يحصل الاشتراك والاشتباه. مثل قول عقيل لما طلب منه معاوية بن أبي سفيان أن يعلن سب أخيه علي بن ابي طالب $, فصعد المنبر وقال: أمرني معاوية أن اسب عليا. ألا فالعنوه !. وهذا الايهام جاء من جهة اشتراك عود الضمير, فأظهر أنه استجاب لدعوة معاوية وإنما قصد لعنه. ومثل هذا جواب من سئل: من افضل اصحاب رسول الله @ بعده؟ فقال: >من بنته في بيته<.
ومن قسم المماراة التورية والاستخدام المذكورين في أنواع البديع.
5ـ مغالطة تركيب المفصل:
وهي ما تكون المغالطة بسبب توهم وجود تأليف بين الألفاظ المفردة وهو ليس بموجود. وذلك بأن يكون الحكم في القضية مع عدم ملاحظة التأليف صادقا, ومع ملاحظته كاذبا, فيصدق الكلام مفصلا لا مركبا, فلذلك سمي هذا النوع (مغالطة تركيب المفصل). وسماه الشيخ الطوسي (المغالطة باشتراك القسمة).
وهو على نحوين: اما أن يكون التفصيل والتركيب في الموضوع أو المحمول.
(الأول)ـ أن يكون الموضوع له عدة اجزاء وكل جزء منها له حكم خاص, والاحكام بحسب كل جزء صادقة, واذا جعلنا الموضوع المركب من الأجزاء بما هو مركب كانت الاحكام بحسبه كاذبة. كما يقال مثلا:
الخمسة زوج وفرد.
وكل ما كان زوجا وفردا فهو زوج
(مثل ان يقال كل أصفر وحلو فهو أصفر)
... الخمسة زوج.
وهذه النتيجة كاذبة مع صدق المقدمتين. والسر في ذلك أنه في (الصغرى) الموضوع ـ وهو الخمسة ـ اذا لوحظ بحسب التفصيل والتحليل الى اثنين وثلاثة صح الحكم عليه ـ بحسب كل جزء ـ بانه زوج وفرد, أي الاثنان زوج والثلاثة فرد. اما اذا لوحظ بحسب التركيب فليس عدد الخمسة بما هي خمسة الا فردا, فيكون الحكم عليه بأنه زوج وفرد كاذبا.
وكذلك في (الكبرى) الموضوع ـ وهو ما كان زوجا وفردا ـ ان لوحظ بحسب التفصيل والتحليل كملاحظة ما هو أصفر وحلو في الحكم عليه بأنه أصفر, صح الحكم عليه بأنه زوج. اما إذا لوحظ بحسب التركيب فالحكم عليه بأنه زوج كاذب, لان المركب من الزوج والفرد فرد.
اما الموضوع في النتيجة (الخمسة زوج) فلا يصح أن يؤخذ إلا بحسب التركيب, لان الحكم على أي عدد بانه زوج فقط أو فرد فقط لا يصح الا اذا لوحظ بما هو مركب, ولا يصح أن يلاحظ بحسب التحليل والتفصيل إلا اذا حكم عليه بهما معا أو بانه زوج وزوج أو بانه فرد فرد. ومن هنا كان الحكم على الخمسة بانها زوج كاذبا.
فتحصل أن الموضوع في الصغرى والكبرى لوحظ بحسب التفصيل والتحليل, ولذا كانتا صادقتين. وفي النتيجة لوحظ بحسب التركيب فكانت كاذبة.
فاذا اشتبه الأمر على القايس أو المخاطب وركب ما هو مفصل وقعت المغالطة وكان الغلط.
(الثاني)ـ أن يكون المحمول له عدة اجزاء, وكل جزء اذا حكم به منفردا على الموضوع كان صادقا, واذا حكم بالجميع بحسب التركيب بينها ـ أي المركب بما هو مركب ـ كان كاذبا.
مثاله:
اذا كان زيد شاعرا غير ما هو في شعره, وكان ماهرا في فن آخر, وهو الخياطة مثلا ـ فإنه يصح أن يحكم عليه بانفراد بأنه شاعر مطلقا, ويصح أيضاً ان يحكم عليه بانفراد بأنه ماهر مطلقا. فاذا جمعت بين الحكمين في عبارة واحدة وقلت: زيد شاعر وماهر, فإن هذه العبارة توهم أن هذا الحكم وقع بحسب التركيب بين الحكمين, أي انه شاعر ماهر في شعره. وهو حكم كاذب حسب الفرض. ولكن اذا لوحظ بحسب التفصيل والتحليل الى حكمين احدهما غير مقيد بالآخر كان صادقاً.
6ـ مغالطة تفصيل المركب:
وهو ما تكون المغالطة بسبب توهم عدم التأليف والتركيب, مع فرض وجوده. وذلك بأن يكون الحكم في القضية بحسب التأليف والتركيب صادقا, وبحسب التفصيل والتحليل كاذبا فيصدق مركبا لا مفصلا. فلذا سمي هذا النوع (مغالطة تفصيل المركب). وسماه الشيخ الطوسي (المغالطة باشتراك التأليف).
مثاله: >الخمسة زوج وفرد<.
فإنه انما يصح إذا حمل الجزءان معاً بحسب التركيب بينهما على الخمسة بان تكون الواو عاطفة بمعنى جمع الأجزاء, كالحكم على الدار بانها آجر وجص وخشب, أي أنها مركبة من مجموع هذه الأجزاء. واما اذا حمل كل من الجزءين بانفراده بحسب التفصيل والتحليل بان تكون الواو عاطفة بمعنى الجمع بين الصفات كان الحكم كاذبا, كالحكم على شخص بأنه شاعر وكاتب, لان عدد الخمسة ليس الا فردا, بل يستحيل أن يكون عدد واحد فردا وزوجا معا.
فمن لاحظ الحمل في مثل هذه القضية بحسب التفصيل والتحليل أي توهم عدم التركب فقد كان غالطاً او مغالطا.
ـ2ـ
المغالطات المعنوية
نقصد بالمغالطة المعنوية كل مغالطة غير لفظية كما قدمنا. وهي على سبعة أنواع, لانها تنقسم بالقسمة الأولية إلى قسمين:
أـ ما تقع في التأليف بين جزئي() قضية واحدة.
ب ـ ما تقع في التأليف بين القضايا.
والأول له ثلاثة أنواع والثاني له أربعة أنواع. فهذه سبعة, لان:
(الاول) وهو ما يقع في التأليف بين جزئي القضية ينقسم بالقسمة الأولية إلى قسمين, لأنه اما أن يقع لخلل في الجزءين معاً أو في جزء واحد, والثاني اما ان يحذف الجزء ببدله أو يذكر ليس على ما ينبغي. فهذه ثلاثة أنواع:
1ـ (ايهام الانعكاس) وهو أن يقع الخلل في الجزءين معا. وذلك بأن ينعكس موضعهما فيجعل الموضوع محمولاً وبالعكس أو يجعل المقدم تالياً وبالعكس.
2ـ (اخذ ما بالعرض مكان ما بالذات) وهو أن يقع الخلل بجزء واحد, بأن يحذف الجزء ويذكر مكانه ما هو بدله, اما عارضه أو معروضه, واما لازمه أو ملزومه.
3ـ (سوء اعتبار الحمل) وهو أن يقع الخلل بجزء واحد بان يذكر ليس على ما ينبغي, اما بان يوضع معه ما ليس منه ولا من قيوده, أو يحذف ما هو منه ومن قيوده وشروطه.
و(الثاني) وهو ما يقع في التأليف بين القضايا, ينقسم بالقسمة الأولية إلى قسمين:
اما ان يكون التأليف غير قياسي أي لا تؤلف تلك القضايا قياسا, واما أن يكون التأليف قياسيا. و(الثاني) اما أن يقع الخلل في نفس تأليف المقدمات وذلك بخروجه عن الأصول والقواعد المقررة للقياس والبرهان والجدل, واما أن يقع بملاحظة المقدمات إلى النتيجة. و(الثاني) اما لان النتيجة عين احدى المقدمات, واما لان النتيجة غير مطلوبة بالقياس. فهذه أربعة أنواع:
1ـ (جمع المسائل في مسألة واحدة). وهو أن يقع الخلل في التأليف بين القضايا التي ليس تأليفها قياسيا, بأن يتوهم أن تلك القضايا قضية واحدة.
2ـ (سوء التأليف). وهو أن يقع الخلل في نفس تأليف المقدمات بخروجه على أصول وقواعد القياس والبرهان والجدل.
3ـ (المصادرة على المطلوب). وهو أن يقع الخلل في المقدمات بملاحظة النتيجة باعتبار أنها عين احدى المقدمات.
4ـ (وضع ما ليس بعلة علة). وهو ان يقع الخلل في المقدمات بملاحظة النتيجة باعتبار أنها ليست مطلوبة منها.
فكملت بذلك سبعة أنواع للمغالطات المعنوية نذكرها بالتفصيل:
1ـ ايهام الانعكاس:
وهو ـ كما قدمنا ـ أن يوضع المحمول والموضوع أو التالي والمقدم أحدهما مكان الآخر. وهذا ينشأ من عدم التمييز بين اللازم والملزوم والخاص والعام. وأكثر ما يقع ذلك في الأمور الحسية.
مثلا: لما كان كل عسل أصفر وسيالا, فقد يظن الظان أن كل ما هو أصفر وسيال فهو عسل.
مثل آخر: قد يظن الظان أن كل سعيد لا بد أن يكون ذا ثروة, حينما يشاهد أن كل ذي ثروة سعيد.
وأمثال هذه الأمور يقع الغلط فيها كثيراً عند العامة. ولأجله اشتراط المنطقيون في العكس المستوي للموجبة الكلية أن تعكس إلى موجبة جزئية, تجنبا عن هذا الغلط وضمانا لصدق العكس.
2ـ أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات:
وهو ان يوضع بدل جزء القضية الحقيقي غيره مما يشتبه به, كعارضه ومعروضه, أو لازمه وملزومه, ومن موارد ذلك:
1ـ ان تكون لموضوع واحد عدة عوارض ذاتية له, فيحمل أحد هذه العوارض على العارض الآخر, بتوهم أنه من عوارضه بينما هو في الحقيقة من عوارض موضوعه ومعروضه.
مثلاً يقال: أن كل ماء طاهر, وان كل ماء لا يتنجس بملاقاة النجاسة اذا بلغ كرا فقد يظن الظان من ذلك: ان كل طاهر لا يتنجس بملاقاة النجاسة اذا بلغ كرا.
يعني يظن ان خاصية عدم التنجس بملاقاة النجاسة عند بلوغ الكر هي خاصية للطاهر بما هو طاهر, لا للماء الطاهر, فيحسب ان الطاهر غير الماء من المايعات اذا بلغ كرا كان له هذا الحكم.
فقد حذف هنا الموضوع وهو (الماء), ووضع بدله عارضه وهو (الطاهر).
2ـ أن يكون لموضوع عارض, ولهذا العارض عارض آخر, فيحمل عارض العارض على الموضوع, بتوهم أنه من عوارضه بينما هو في الحقيقة من عوارض عوارضه.
مثلاً يقال: الجسم يعرض عليه أنه أبيض, والأبيض يعرض عليه أن مفرق للبصر, فيقال: الجسم مفرق للبصر. بينما أن الأبيض في الحقيقة هو المفرق للبصر, لا الجسم بما هو جسم.
فقد حذف هنا الموضوع وهو الأبيض, ووضع بدله معروضه وهو الجسم. وان شئت قلت حذف المحمول وهو الابيض ووضع بدله عارضه وهو مفرق للبصر.
3ـ سوء اعتبار الحمل:
وهو ـ كما تقدم ـ ان يورد الجزء ليس على ما ينبغي, وذلك بأن يوضع معه قيد ليس منه أو يحذف منه ما هو منه كقيده وشرطه.
فالأول ـ مثل ما قد يتوهمه بعضهم أن الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي موجودة في الذهن, فأخذ في الموضوع قيد (بما هي موجودة في الذهن), بينما أن الموضوع في قولنا: >المعاني وضعت لها الألفاظ< هي المعاني بما هي معان من حيث هي, لا بما هي موجودة في الذهن.
والثاني ـ يحصل في موارد اختلال أحدى الوحدات الثمان المذكورة في شروط التناقض, مثل ما حسبه بعضهم أن الماء مطلقاً لا يتنجس بملاقاة النجاسة, بينما أن الصحيح أن الماء بقيد اذا بلغ كرا له هذا الحكم, فحذف قيد (إذا بلغ كرا).
ومن هذا الباب ما تخيله بعضهم أن قولهم (الجزئي ليس الجزئي) من التناقض, إذ حذف قيد الموضوع, بينما أن المقصود في مثل هذا الحمل أن الجزئي بما له من المفهوم ليس بجزئي, لانه كلي, لا مصداق الجزئي أي الجزئي بالحمل الشايع.
فعدم التفرقة بين ما هو بالحمل الشايع وبين ما هو بالحمل الاولى أي بين المعنون والعنوان يعد من سوء اعتبار الحمل.
4ـ جمع المسائل في مسألة واحدة:
وهو الخلل الواقع في قضايا ليست بقياس, بأن يقع الخلل في القضية الواردة على نحو السؤال بحسب اعتبار نقيضها, كأن يورد السائل غير النقيض طرفا للسؤال مكان النقيض, بينما يجب أن يكون النقيض هو الطرف له, فتكثر الاسئلة عنده بذلك حقيقة مع أنه ظاهر لم يورد الا سؤالا واحدا, فتجتمع حينئذ المسائل في مسالة واحدة.
توضيح ذلك: ان السائل اذا سأل عن طرفي المتناقضين فليس له الا سؤال واحد عن الطرفين الايجاب والسلب, مثل أن يقول: >أزيد شاعر أم لا؟< فلا تكون عنده الا مسألة واحدة وليس لها الا جواب واحد اما الاثبات أو النفي (نعم! أو لا!).
اما اذا ردد السائل بين غير المتناقضين مثل أن يقول: >أزيد شاعر أم كاتب< فإن سؤاله هذا ينحل إلى سؤالين ومسألته الى مسألتين: أحدهما أكاتب هو أم لا؟ ثانيهما أشاعر هو أم لا؟. فيكون جمعا لمسألتين في مسألة واحدة.
وكلما تعددت الاطراف المسؤول عنها تعددت المسائل بحسبها.
وبقي أن نعرف لماذا يكون هذا من المغالطة؟ فنقول: أن ورود سؤال واحد ينحل إلى عدة اسئلة قد يوجب تحير المجيب ووقوعه في الغلط بالجواب. وليس هذا التغليط من جهة كون التأليف بين هذه القضايا التي ينحل إليها السؤال قياسيا, بل هي بالفعل لا تؤلف قياساً, فلذلك جعلنا هذا النوع مقابلا لانواع الخلل الواقع في التأليف القياسي الآتية:
نعم قد تنحل قضية إلى قضيتين مثل قولهم (زيد وحده كاتب), فإنها قضية واحدة ظاهرا, ولكنها تنحل إلى قضيتين: زيد كاتب وان من سواه ليس بكاتب.
ويمكن أن يقال عنها جمع المسائل في مسالة واحدة, باعتبار أن كل قضية يمكن ان تسمى مسالة باعتبار أنها قد تطلب ويسأل عنها.
ولو أنك جعلت مثلها جزء قياس فإن القياس الذي يتألف منها لا يكون سليما ويكون مغالطة, كما لو قيل: >الانسان وحده ضحاك. وكل ضحاك حيوان. ينتج الانسان وحده حيوان< والنتيجة كاذبة مع صدق المقدمتين. وما هذا الخلل إلا لأن أحدى مقدميته من باب جمع المسائل في مسألة واحدة, إذ تصبح القضية الواحدة أكثر من قضيتين فيكون القياس مؤلفا من ثلاث قضايا. مع أنه لا يتألف قياس بسيط من أكثر من مقدمتين.
وعليه يمكن أن يقال: أن جمع المسائل في مسالة واحدة مما يقع في تأليف قياسي ويوجب المغالطة. ولاجل هذا مثّل بعضهم لجمع المسائل بهذا المثال المتقدم.
ولكن الحق أن هذا المثال ليس بصحيح وإن وقع في كثير من كتب المنطق المعتبرة, لأن هذا الخلل في الحقيقة يرجع إلى (سوء التأليف) الآتي ولا يكون هذا نوعاً مقابلا للانواع التي تخص التأليف القياسي. على ان الظاهر من تعبيرهم بالمسألة في هذا الباب أرادة المسألة بمعناها اللغوي الحقيقي, لا القضية مطلقاً وإن كانت خبراً, وإلا لحسن أن يقولوا: جمع القضايا في قضية واحدة.
5ـ سوء التأليف:
وهو ـ كما تقدم ـ أن يقع خلل في تأليف القياس اما من جهة مادته أو صورته, اذ يكون خارجا على القواعد المقررة للقياس والبرهان والجدل. ويعرف سوء التأليف من معرفة شرائط القياس, فإنه إذا عرفنا شرائطه وقواعده فقد عرفنا الخلل بفقد واحد منها. وهذا قد يكون واضحا جليا, وقد يكون خفيا دقيقا. وقد يبلغ من الخفاء درجة لا تنكشف إلا للخاصة من العلماء.
والقياس المورد بحسب المغالطة ليس بقياس في الحقيقة, بل شبيه به. وكذا يكون شبيها بالبرهان والجدل. واطلاق اسمائها عليه كاطلاق اسم الشخص مثلاً على صورته الفوتوغرافية, فنقول: هذا فلان. وصورته في الحقيقة ليست اياه بل شبيهة به مباينة له وجودا وحقيقة.
وانما تتحقق صورة القياس الحقيقي ويستحق اسم القياس عليه اذا اجتمعت فيه الأمور الآتية:
1ـ ان تكون له مقدمتان.
2ـ ان تكون المقدمتان منفصلتين أحداهما عن الأخرى.
3ـ ان تكون كل من المقدمتين في الحقيقة قضية واحدة لا أنها تنحل إلى أكثر من قضية واحدة, لأن القياس لا يتألف من أكثر من مقدمتين إلا إذا كان أكثر من قياس واحد أي قياس مركب.
4ـ ان تكون المقدمتان أعرف من النتيجة, فلو كانا متساويين معرفة أو أخفى لا انتاج, كما في المتضائفين.
5ـ ان تكون حدوده متمايزه (أي الأصغر والأكبر والأوسط).
6ـ ان يتكرر الحد الأوسط في المقدمتين أي ان المقدمتين يجب أن يشتركا في الحد الأوسط.
7ـ ان يكون اشتراك المقدمتين والنتيجة في الحدين الاصغر والاكبر اشتراكا حقيقيا.
8ـ ان تكون صورة القياس منتجة بأن تكون حاوية على اشتراط الاشكال الاربعة. من ناحية الكم والكيف والجهة.
فإذا كانت النتيجة كاذبة مع فرض صدق المقدمتين فلا بد أن يكون كذبها لفقد أحد الأمورالمتقدمة, فيجب البحث عنه لكشف المغالطة فيه إن أراد تجنب الغلط والتخلص من المغالطة.
6ـ المصادرة على المطلوب:
وهي أن تكون إحدى المقدمات نفس النتيجة واقعا, وإن كانت بالظاهر بحسب رواجها على العقول غيرها, كما يقال مثلا: >كل انسان بشر. وكل بشر ضحاك. ينتج: كل انسان ضحاك< فإن النتيجة عين الكبرى فيه. وانما يقع الاشتباه ـ لو وقع في مثله ـ فلتغاير لفظي البشر والانسان, فيظن انهما متغايران معنى, فيروج ذلك على ضعيف التمييز.
والمصادرة قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية:
اما (الظاهرة) فعلى الاغلب تقع في القياس البسيط, كالمثال المتقدم.
واما (الخفية) فعلى الاغلب تقع في الاقيسة المركبة, اذ تكون النتيجة فيها بعيدة عن المقدمة في الذكر. ولاجل هذا تكون أكثر رواجا على المخاطبين المغفلين.
وكلما كانت أبعد في الذكر كانت المصادرة أخفى وأقرب إلى القبول.
مثال ذلك قولهم في علم الهندسة:
إذا قاطع خط خطين متوازيين فإن مجموع الزاويتين الحادثتين الداخلتين من جهة واحدة يساوي قائمتين... هذا هو مطلوب (أي نتيجة).
وقد يستدل عليه بقياس مركب بأن يقال مثلا: لو لم يكن مجموعهما يساوي قائمتين لتلاقى الخطان المتوازيان. ولو تلاقيا لحدث مثلث زاويتان منه فقط تساوي قائمتين. هذا خلف لأن المثلث دائما مجموع زواياه كلها تساوي قائمتين.
فإنه بالأخير استدل على تساوي مجموع الزاويتين الداخلتين من جهة واحدة للقائمتين بتساويهما للقائمتين. وهي مصادرة باطلة قد تخفى على المغفل لتركب الاستدلال وبعد النتيجة عن المقدمة التي هي نفسها.
واعلم أن المصادرة انما تقع بسبب اشتراك الحد الأوسط مع أحد الحدين الاخرين في واحدة من المقدمتين, فلا بد ان تكون هذه المقدمة محمولها وموضوعها شيئاً واحداً حقيقة. اما المقدمة الثانية فلا بد أن تكون نفس المطلوب (النتيجة). كما يتضح ذلك في مثال القياس البسيط.
والمصادرة ـ على هذا ـ ترجع في الحقيقة إلى أن القياس يكون فيها مؤلفا من مقدمة واحدة.
7ـ وضع ما ليس بعلة علة:
تقدم في بحث البرهان أن البرهان يتقوم بأن يكون الأوسط علة للعلم بثبوت الأكبر للأصغر, كما أنه يعتبر فيه المناسبة بين النتيجة والمقدمات, وضرورية المقدمات.
فإن اختل أحد هذه الأمور ونحوها بأن يظن أن الحد الأوسط علة لثبوت الأكبر للأصغر, أو يظن المناسبة بين النتيجة والمقدمات أو أنها ضرورية, وليست هي في الواقع كما ظن وتوهم ـ فإن كل ذلك يكون من باب وضع ما ليس بعلة علة.
ويكون جعل القياس المؤلف على حسبها برهانا مغالطة موجبة لتوهم أنه برهان حقيقي.
مثاله:
ما ظنه بعض الفلاسفة المتقدمين من جواز انقلاب العناصر بعضها الى بعض باعتبار أن العناصر أربعة وهي الماء والهواء والنار والتراب, فقالوا بانقلاب الهواء ماء والماء هواء. واستدلوا على الأول بما يشاهد من تجمع ذرات الماء على سطح الاناء الخارجي عند اشتداد برودته فظنوا أن الهواء انقلب ماء, وعلى الثاني بما يشاهد من تبخر الماء عند ورود الحرارة الشديدة عليه, فظنوا أن الماء انقلب هواء.
وباستدلالهم هذا قد وضعوا ما ليس بعلة علة, اذ حسبوا أن العلة في الانقلاب هو تجمع ذرات الماء على الاناء وتبخر الماء, بينما أن ما حسبوه علة ليس بعلة, فان الماء انما يتجمع من ذرات البخار الموجودة في الهواء والبخار هو ذرات الماء, فالماء لا الهواء تحول الى ماء, أي أن الماء تجمع. وكذلك حينما يتبخر الماء بالحرارة يتحول الى ذرات صغيرة من الماء هي البخار, فالماء قد تحول الى الماء لا الى الهواء, أي ان الماء تفرق.
المبحث الثالث
اجزاء الصناعة العرضية
وهي الأمور الخارجة عن نفس متن التبكيت, ومع ذلك موجبة لوقوع الغير في الغلط.
https://alhawzaonline.com/almaktaba-almakroaa/images/up1.gif
ويلتجئ إليها غالباً من يقصر باعه عن مجاراة خصمه بالكلام المقبول والقياس الذي عليه سمة البرهان أو الجدل. والحقد على الخصم والتعصب الأعمى لرأي أو مذهب هما اللذان يدعوان ان خفيف الميزان في المعرفة إلى اتخاذ هذه السبل في المغالطة, حينما يعجز عن مغالطة في نفس القياس التبكيتي.
ومن نافلة القول أن نذكر أن أكثرمن يتصدى للخصام والجدل في العقائد, والنقد والرد في المذاهب الاجتماعية والسياسية, هم من اولئك خفيفي الميزان, والا فالعلماء والمثقفون أكثر أدبا وصونا لكلامهم وحرصا على سلامة بيانهم, وإن تعصبوا وغالطوا. اما الطلاب الحق المخلصون له من العلماء فهم النخبة المختارة من البشر الذين يندر وجودهم ندرة الماس في الفحم, لا يتعصبون لغير الحق ولا يغالطون الا في الحق, رحمة بالناس وشفقة على عقائدهم, والحقيقة عندهم فوق جميع الاعتبارات لا تاخذهم فيها لومة لائم.
وعلى كل حال, فإن هذه الأمور الخارجة عن التبكيت الموجبة للمغالطة يمكن إرجاعها إلى سبعة امور:
1ـ التشنيع على الخصم بما هو مسلّم عنده او بما اعترف به. وذلك بان ينسبه الى القول بخلاف الحق او المشهور, سواء كان ما سلم به او اعترف به حقيقة هو خلاف الحق او المشهور او انه يظهره بذلك تنكيلا به.
وهذا لا فرق بين ان يكون تشنيعه عليه بقول كان قد قاله سابقا او يجره اليه بسؤال او نحوه, مثل ان يوجه سؤالا يردده بين طرفين غير مرددين بين النفي والاثبات, فيكون لهما وجه ثالث أو رابع لا يذكره ويخفيه على الخصم. ولا شك أن الترديد بين شيئين فقط يوهم لأول وهلة الحصر فيهما, فقد يظن الخصم الحصر فيوقعه فيما يوجب التشنيع عليه. كأن يقول له مثلاً: هل تعتقد أن طاعة الحكومة لازمة في كل شيء أو ليست لازمة أبداً فإن قال بالأول فقد تفرض الحكومة مخالفة ضميره أو واجبه الديني أو الوطني, وهذا شنيع, فيكون الاعتراف به مجالا للتشنيع عليه. وان قال بالثاني فإن هذا قد يوجب الاخلال بالنظام أو الوقوع في المهالك, وهذا شنيع أيضا, فيكون الاعتراف به مجالا التشنيع عليه. وقد يغفل الخصم المسؤول عن وجه ثالث فيه التفصيل بين الرأيين لينفذ نفسه من هذه الورطة.
وهذا ونحوه قد يوجب ارتباك الخصم وحيرته, فيغلط في اختياره ورأيه ويضيع عليه وجه الصواب.
2ـ ان يدفعه الى القول الباطل أو الشنيع, بأن يخدعه ليقول ذلك وهو غافل, فيوقعه في الغلط, اما بسؤال أو محاورة يوهمه فيها خلاف الواقع والمشهور.
3ـ أن يثير في نفسه الغضب أو الشعور بنقصه, فيربك عليه تفكيره وتوجه ذهنه, مثل أن يشتمه أو يقدح فيه أو يخجله أو يحقره أو يستهزئ به أو يسفهه أو يسأله عن اشياء يجهلها أو يلفت نظر الحاضرين أو ما فيه من عيوب جسمية أو نفسية.
4ـ ان يستعمل معه الألفاظ الغربية والمصطلحات غير المتداولة والعبارات المغلقة فيحيره ولا يدري ما يجيب به, فيغلط.
5ـ ان يدس في كلامه الحشو والزوائد الخارجة عن الصدد, أو الكلام غير المفهوم أو يطول في كلامه تطويلا مملا, بما يفقد الإحاطة بجميع الكلام وربط صدره بذيله.
6ـ أن يستعين على اسكاته وارباكه برفع الصوت والصراخ وحركات اليدين وضرب أحدهما بالآخرى والقيام والقعود, ونحوها من الحركات المثيرة المهيجة والمربكة.
7ـ أن يعيره بعبارات تبدو أنها تفقد آراء الخصم وصحتها في نظر العامة, أو تحمله على التشكيك أو الزهد فيها. وهذا أمر يستعجله أكثر المتخاصمين من القديم. مثل تعبير خصوم اتباع آل البيت عنهم بالرافضة وتعبير ذوي السلطات عن المطالبين بحقوقهم في هذا العصر بالثوار أو العصابات أو المفسدين أو قطاع الطريق أو نحو ذلك. وتعبير دعاة التجدد عن اهل الدين بالرجعيين وعن الآراء القديمة بالخرافات. وتعبير لمتمسكين بالقديم دعاة الاصلاح بالمتجددين أو الكافرين أو الزنادقة ... وهكذا يتخذ كل خصم لخصمه عبارات معيرة ومعبرة عن بطلان آرائه ومقاصده مما يطول شرحه.
عصمنا الله تعالى من المغالطات وقول الزور أنه أكرم مسؤول!
انتهى الجزء الثالث
ورد للمؤلف عدة رسائل في الثناء على الكتاب حين صدور الطبعة الأولى للجزء الأول, ونشرت كثير من الصحف تعاليق مطولة حوله. والمؤلف يعتز بهذه الرسالة التي وردته من العلامة الجليل حجة الاسلام الشيخ المرتضى من آل يس وكان يومئذ بالكاظمية, ففضل نشرها فقط في آخر الكتاب: ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
عليك مني افضل التحية والسلام.
وبعد فلا اكتمك أيها الاخ الكريم ان طبعي لم يعد ذلك الطبع الفاره الذي يتسع أفقه لاصطناع الكلام, أو التفنن في القول فيما يعرض له من الموضوعات التي تدعو الحاجة الى مواجهتها برأيه واضحا صريحا, على الرغم من أن هذا الانكماش الطبعي مما لا تقره الروح السائدة في هذا الجو المليء بالمجاملات, ولكن ماذا اصنع وقد منيت بهذا الانكماش فجاة لا بالاختيار, فزهدني في كثير من شؤون هذه الحياة التي كنت اتوفر عليها في كثير من التذوق والرغبة. لذلك فاني اعتذر إليك مما ساضعه بين يديك من كلمة صغيرة خضع لها هذا الطبع الشاذ طيعا, حين استحوذ عليه الشعور بالواجب, فاندفع إليها اندفاعا يسجل بها الحقيقة الراهنة, ويقرر بها الأمر الواقع لا أقل ولا أكثر, دون أن يكون للمجاملة فيها أي أثر يذكر.
وخلاصتها اني ما كدت أن افرغ من مطالعة كتابك القيم كتاب >المنطق< ـ الذي نعمت بالاطلاع عليه أخيرا من حيث لا احتسب ـ حتى وجدتني قد امتلات اعجابا به وتقديرا لمؤلفه, واكبارا للجهود العظيمة الماثلة في كل شان من شؤونه.
فقلت اذ ذاك مخاطبا اياك كاني اراك: ما اجدرك منذ اليوم ان تدعى >المظفر< حقا, اذ فتح الله على يديك هذا الفتح المبين. وعسى أن يكون لهذا الفتح ما بعده من الفتوح في ميادين العلم والأدب, حتى يتواصل الفتح ويتلاحق الظفر على يديك أيها البطل الفاتح المظفر. والسلام عليك وعلى شيخينا الجليلين الحسن والحسين ورحمة الله وبركاته.
16ـ 2ـ 1367 هـ
مرتضى آل يس 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق