قَوْلُهُ
تَعَالَى: ﴿أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ
لِلنَّبِيِّ ﷺ يَا مُحَمَّدُ إِلَى مَتَى تَعِدُنَا بِالْعَذَابِ وَلَا تَأْتِي
به! فنزلت "أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ".
(أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ
فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ.
(ثُمَّ جاءَهُمْ
مَا كانُوا يُوعَدُونَ) مِنَ الْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ (مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا
كانُوا يُمَتَّعُونَ). "مَا" الْأُولَى اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ
التَّقْرِيرُ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ "أَغْنى " وَ "مَا" الثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ الثَّانِيَةُ نَفْيًا لَا مَوْضِعَ لَهَا. وَقِيلَ: "مَا"
الْأُولَى حَرْفُ نَفْيٍ، وَ "مَا" الثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِ
"أَغْنى " وَالْهَاءُ الْعَائِدَةُ مَحْذُوفَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا
أَغْنَى عَنْهُمُ الزَّمَانُ الَّذِي كَانُوا يُمَتَّعُونَهُ. وَعَنِ
الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ أَمْسَكَ
بِلِحْيَتِهِ ثُمَّ قَرَأَ "أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ
جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ" ثُمَّ يَبْكِي وَيَقُولُ:
نَهَارُكَ
يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
فَلَا
أَنْتَ فِي الْأَيْقَاظِ يَقْظَانُ حَازِمُ ... وَلَا أَنْتَ فِي النُّوَّامِ نَاجٍ
فَسَالِمُ
تُسَرُّ
بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى ... كَمَا سُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ
حَالِمُ
وَتَسْعَى
إِلَى مَا سَوْفَ تَكْرَهُ غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
الفرار إلى الله عز وجل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فربنا جل جلاله رحيم بعباده، ومن رحمته سبحانه وتعالى بعباده أن ينزل بهم الشدة مما يُلجِئهم إلى الإنابة إليه، والتوبة مما هم عليه من خطايا وآثام؛ قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "ورحمته تعالى سبقت غضبه وغلبته، وظهرت في خلقه ظهورًا لا ينكر ... وعلم تعالى من مصالحهم ما لا يعلمون، وقدَّر لهم فيها ما لا يريدون، وما لا يقدرون، وربما أجرى عليهم مكاره توصلهم إلى ما يحبون، بل رحمهم بالمصائب والآلام".
فالله جلت قدرته قد يقْدر ما تحصل به الشدة في معايش الناس بنقصها، وقد يقدر الشدة في أنفس الناس بظهور الأمراض والأوبئة جزاء بعض أعمالهم؛ رجاء أن يرجعوا إليه بالتوبة، والإنابة، فالكافر باعتناق الإسلام، والعاصي المسلم بالرجوع إلى الله؛ فتصلح أحوالهم، وتستقيم أمورهم، وهذا من رحمة الله عز وجل بهم؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف: 48]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: "لعلهم يرجعون إلى الإسلام ويذعنون له، ليزول شركهم وشرهم".
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]؛ قال العلامة العثيمين رحمه الله: "العقوبات قد تكون سببًا للرجوع إلى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]
وقال الله جل وعلا: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21]؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال ابن عباس: يعني بالعذاب الأدنى: مصائب الدنيا، وأسقامها، وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه"، وقال العلامة السعدي رحمه الله: "ولما كانت الإذاقة من العذاب الأدنى في الدنيا قد لا يتصل بها الموت، أخبر تعالى أنه يذيقهم ذلك؛ لعلهم يرجعون إليه، ويتوبون من ذنوبهم".
والناس عندما يصابون بشيء من عذاب الله في الدنيا؛ منهم من يرجع إلى ربه، ومنهم من يبقى على غيه وضلاله، نسأل الله السلامة، ففرعون وملؤه من قومه أُصيبوا بأنواع من العذاب في الدنيا؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "أرسل الله على آل فرعون الجراد والقُمَّل والضفادع والدم، أربع آفات، الجراد يفسد الزروع بعد خروجها ويأكلها، القمل يفسد القوت إذا حُصد وأُدخل جاءه القمل وهو السوس الذي يتلفه ... والضفادع بالماء امتلأت مياههم ضفادع، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يشرب الماء بسبب الضفادع والعياذ بالله، والدم: الصحيح أن المراد به النزيف". ومع هذه العقوبات الدنيوية الشديدة ما تابوا ولا أنابوا إلى ربهم؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، وجهلهم وخبالهم". ولم يقف الأمر عند هذا، بل إنهم ضحكوا وسخروا من الآيات التي جاء بها موسى؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ [الزخرف: 47]، نسأل الله السلامة من حالهم.
ومن الناس من إذا أُصيب بعذاب الدنيا، رجع عما كان عليه من ضلال، فقد رجع بعض قوم قريش بعد أن أُصيبوا بعذاب الدنيا؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "منهم من رجع، ومنهم من لم يرجع، فإن قريشًا أُصيبوا بالجدب والسنين والقتل ببدر؛ فقد قُتِلَ شُرفاؤهم، والأسر أيضًا، ومع ذلك منهم من رجع، ومنهم من لم يرجع، فمن أراد الله له النجاة، أحيا قلبه بهذه المواعظ فرجع، ومن طبع الله على قلبه، بقي على ما هو عليه ولم يرجع".
اللهم اجعلنا ممن أحييت قلبه فاعتبر واتعظ بما يحدث حوله، فرجع إليك، وأناب إليك، وفر إليك؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50]؛ قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته"، وقال الإمام البغوي رحمه الله: "﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾: فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه، بالإيمان والطاعة"، وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ بالتوبة من ذنوبكم؛ والمعنى: اهربوا مما يوجب العقاب من الكفر والعصيان إلى ما يوجب الثواب من الطاعة والإيمان".
اللهم اجعلنا وجميع المسلمين ممن يهرب من عقابك وعذابك إلى ما يوجب رحمتك؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "الناس لا يعاقبون إلا بأسبابهم؛ لقوله: ﴿ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ [الروم: 41]، فيتفرع عن ذلك أن من أراد أن تُرفع عنه العقوبة فليتب إلى الله؛ فإن التوبة من أسباب رفع العقوبة وجلب المثوبة ... فالعقوبات قد تكون سببًا للرجوع إلى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41] ... وكم من إنسان صارت عقوبته بالضراء سببًا لرجوعه إلى ربه!".
اللهم اجعل فيما أصابنا صلاحًا لنا ولجميع المسلمين، يا رحمن، يا رحيم
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
الترغيب بالجنة والتحذير من النار
جمع وإعداد/علي بن نايف الشحود
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد خلق الله تعالى الإنس والجن لعبادته ، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات
وجعل لهذه الحياة الدنيا نهاية محددة ،لا يعلمها إلا الله وحده ، قال تعالى : {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (63) سورة الأحزاب
وهناك حياة أخرى بعدها يعرض الناس فيها على الله تعالى ، ويحاسبون على أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ،قال تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) [الزمر/68-74]
وقال تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) [آل عمران/185]
قال أبو العتاهية:
لا تَأْمَنِ الموتَ في طَرْف وفي نَفَس ولو تَمَنَعْتَ بالحُجَّابِ والـحَـرَسِ
فما تزالُ سِهَامُ الـمـوتِ نـافـذةً في جَنبِ مُدَّرعٍ منّـا ومُـتَّـرسِ
ما بالُ دينكَ تَرْضَى أن تُـدَنِّـسَـهُ وثوبُك الدهر مَغسولٌ من الدَّنَـسِ
ترجو النَجاةَ ولم تَسْلُكْ مسَالِـكَـهـا إن السفينةَ لا تجرِي علـى يَبَـس
وقال الشاعر عن الجنة :
لا تأسفن على الدنيا ومـا فيها فالموت لاشك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار البقاء رضوان خازنها والجار أحمد والجبار بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
يامن يشتري الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها
وقال آخر محذرا من النار:
إذا برزت ليوم العرض نار لها الناس الوقود مع الحجارة
يفر المرء حقاً من أخيــه ويُنكر في المعاد من استزاره
فلا الخل الحميم يُغيث خلاً ولا الجار المجير يُجير جاره
إذا جاء الجليل لفصل حكمٍٍ ونُشرت الصحائف مستطارة
فيفتضح المسيء بقبح فعله ومن يك مُحسناً فله البشارة
وقد قابل الله تعالى بين أهل الجنة وأهل النار في كثير من الآيات القرآنية ، كقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) [الانشقاق/6-15]
وقابل بين نعيم الجنة وعذاب النار،كقوله تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) [القمر/47-55]
وقال تعالى : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) [الكهف/29-31]
هذا وقد منَّ الله تعالى عليَّ فكتبت كتابين مطولين الأول (( الخصال الموجبة لدخول الجنة في القرآن والسُّنَّة )) والثاني (( الخِصالُ الموجبةُ لدخول النار ))
وهذا الكتاب هو مختصر لهما ، وفيه بعض الزيادات من القرآن الكريم ، وقد قسمته لأربعة فصول ، وهي :
الفصل الأول -صفات من يستحقُّ الجنة في القرآن الكريم
الفصل الثاني- صفة نعيم الجنة في القرآن والسنة
الفصل الثالث-صفة من يستحق دخول النار في القرآن الكريم
الفصل الرابع -صفة عذاب النار في القرآن والسُّنَّة
وقد قمت بشرح الآيات القرآنية بشكل مختصر ، وبشرح غريب الحديث ، والتعليق على بعض ما يلزم .
وقد سلكت فيه مسلك المعتدلين في قبول الأخبار ، وغالبها يدور بين الصحيح والحسن ن وفيه بعض الضعيف المتمم لهما ، واستبعدت الأحاديث الواهية والمنكرة فما دونهما ، وقد كثرت عند من كتب عن الجنة أو النار حتى الأئمة الكبار .
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) } [الحشر/18-20]
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة ،بمنِّه وكرمه آميــــن.
وكتبه
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
في 3 رجب 1429هـ الموافق 5/8/2008م
!!!!!!!!!!!!!!!
صفات من يستحقُّ الجنة في القرآن الكريم
قال تعالى : {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (25) سورة البقرة
ويُبَشِّرُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ في الآخِرَةِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في جَنَبَاتِهَا ، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالأَذى وَالآثامِ ومسَاوِئِ الأَخْلاَقِ ، كَالََكَيْدِ والمَكْرِ والخَدِيعَةِ . . وَتَأْتِيهِمُ الثِّمَارُ في الجَنَّةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي عَرَفُوهَا في الدُّنيا ( أَوْ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي أَتَتْهُمْ قَبْلَ ذلِكَ فِي الجَنَّةِ ، وَتَخْتَلفُ عَنْهَا طَعْماً مَعَ أَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي شَكْلِها وَمَنْظَرِهَا ) . وَكُلَّمَا رُزِقُوا مِنْها ثَمَرَةً قَالُوا : هذا مَا وُعِدْنا بِهِ في الدُّنيا جَزَاءً عَلَى الإِيمَان وَالعَمَلِ الصَّالِحِ . والذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً صَادِقاً ، وَعَملُوا عَمَلاً صَالِحاً يَبْقَوْوَ في الجَنَّةِ خَالِدينَ أبداً ، لاَ يَمُوتُونَ فِيها وَلا يَحُولُونَ عَنْها .
وقال تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (82) سورة البقرة
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، فَأَدَّوُا الوَاجِبَاتِ ، وانتَهَوا عَنِ المَعَاصِي فَهؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيها أَبَداً . فَدُخُولُ الجَنَّةِ مَنُوطٌ بِالإِيمَانِ الصَّحِيحِ ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ مَعاً .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (277) سورة البقرة
يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنيِنَ المُصَدِّقِينَ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، المُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ، وَعَامِلِي الصَّالِحَاتِ وَالمُزَكِّينَ ، وَيُخْبرُ عَنْهُمْ أنَّهُ يَحْفَظُ لَهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ لاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ فِي الدُّنيا .
وقال تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (57) سورة آل عمران
وَأمَّا المُهْتَدُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَيُثِيبُهُمْ ثَوَاباً وَافِياً عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، فِي الدُّنيا بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِالخُلُودِ فِي جَنَّتِهِ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المُتَجَاوِزِينَ لِحُدُودِهِ ، وَلاَ يَرْفَعُ لَهُمْ قَدْراً .
وقال تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} (57) سورة النساء
وَالذِينَ صَدَّقُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، فَإنَّ اللهَ سَيُثِيبُهُمْ عَلَى إيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحُ ، بِإدْخَالِهِمُ الجَنَّةَ التِي تَجْرِي فِي أَرْضِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَحُولُونَ عَنْهَا وَلاَ يَزُولُونَ ، وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، مِنَ الحَيْضِ وَالدَّنَسِ وَالأَذَى ، وَالأَخْلاَقِ الرَذِيلَةِ ، وَالصِّفَاتِ النَّاقِصَة ، وَيُدخِلُهُمْ فِي ظِلٍّ وَارِفٍ كَثِيفٍ لاَ حَرَّ فِيهِ وَلاَ قَرَّ .
وقال تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (122) سورة النساء
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالِ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ ، ثَنَى بَبَيَانِ حَالِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ ، الذِينَ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ ، وَلاَ يَمْتَثِلُونَ لأَمْرِهِ ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الكَرَامَةِ التَّامَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : إنَّ الذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الخَيْرَاتِ ، وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ المُنْكَرَاتِ ، سَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي فِيها الأَنْهَارُ ، وَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ، وَهُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ ، وَاللهُ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مَا وَعَدَ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ ، وَلَيْسَ أحَدٌ أصْدَقَ قَوْلاً مِنَ اللهِ .
وقال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} (173) سورة النساء
أمَّا الذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، فَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ . وَأمَّا الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، وَامْتَنَعُوا عَنْ عِبَادَتِهِ ، فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ، فَهُوَ تَعَالَى يُجَازِي المُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ بِالعَدْلِ وَالفَضْلِ ، وَيُجازِي المُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِالعَدْلِ . وَلَنْ يَجِدُوا لَهُمْ وَليّاً يَلِي أُمُورَهُمْ وَيُدَبِّرُها ، وَلاَ نَاصِراً يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأسِهِ .
وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) [يونس/9، 10]
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَاتَّقَوْهُ ، وَتَبَصَّرُوا بِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الكَوْنِ ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَاناً وَيَقِيناً ، وَعَمِلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ صَالِحَاتِ الأَعْمَالِ ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ سَتَكُونُ لَهُمْ نُوراً يَهْدِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ التِي وَعَدَهُمْ بِهَا رَبُّهُمْ ، وَهِيَ جَنَّةُ رِفهٍ وَنَعِيمٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا .
يَبْدَؤُونَ كُلَّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ عَلَى اللهِ بِكَلِمَةِ ( سُبْحَانَكَ الَّلهُمَّ ) أَيْ تَقْدِيساً وَتَنْزِيهاً لَكَ يَا رَبِّ . وَيُجِيبُهُمْ رَبُّهُمْ بِكَلِمَةِ ( سَلامٌ ) وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ ، وَتُحَيِّيهِمُ المَلاَئِكَةُ بِقَوْلِهِمْ ( سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) ، وَيُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِكَلِمَةِ سَلاَمٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } وَفِي آخِرِ كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ ، مِنْ دُعَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ رَبَّهُمْ ، أَوْ مَطْلَبٍ يَطْلُبُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ يَقُولُونَ : ( الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ )
ـــــــــــــــــ
قال تعالى : وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) [البقرة/265]
أمّا المُؤْمِنُونَ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ عَنْهُمْ ، وَهُمْ مُتَحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّ الله سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ بُسْتَانٍ ( جَنَّةٍ ) بِرَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَنِ الأَرْضِ ، فَأَصَابَهَا مَطَرٌ شَدِيدٌ ( وَابِلٌ ) ، فَأَثْمَرَتْ ضِعْفَيْنِ مِمَّا أَثْمَرَتْهُ غَيْرُها مِنَ الجِنَانِ ( أَوْ ضِعْفَينِ مِمَّا كَانَتَ تُثْمِرُهُ قَبْلاً ) فَإنْ لَمْ يُصِبْهَا المَطَرُ الشَّدِيدُ ، أصَابَهَا مَطَرٌ خَفِيفٌ يَكْفِيها لِجَوْدَةِ تُرْبَتِها ، وَحُسْنِ مَوْقِعِها ، فَهِي لاَ تُمْحِلُ أَبَداً . وَكَذَلِكَ عَمَلُ المُؤْمِنِ لا يَبُورُ أبداً ، بَلْ يَتَقَبَّلُهُ اللهُ وَيُكَثِّرَهُ وَيُنَمِّيهِ .
( وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى هُوَ : وَكَذَلِكَ الإِنْسَانُ الجَوَادُ البَرُّ إنْ أصَابَهُ خَيْرٌ كَثيرٌ أَغْدَقَ وَوَسَّعَ فِي الإِنْفَاقِ ، وَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ قَليلٌ أَنْفَقَ بِقَدَرِهِ ، فَخَيْرُهُ دَائِمٌ ، وَبِرُّهُ لاَ يَنْقَطِعُ ) .
وَاللهُ لا يَخْفَى عَلَيهِ شَيْءٌ مِنْ أعْمَالِ العِبَادِ .
ــــــــــــــــ
قال تعالى : قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) [الفرقان/15، 16]
قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينْ : أَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ لَكَ مِنْ حَالِ الأَشْقِيَاءِ ، الّذِينَ يُحْشَرونَ عَلَى وُجُوهِهِم إلى جَهَنَّمَ ، فَتَتَلَقَّاهُمْ بِوجِهٍ عَبُوسٍ وَتَغَيُّظٍ وَزَفِير ، وَيُلْقُونَ في أَمَاكِنَ ضَيِّقَةٍ مِنْها مُقْرَّنِين ، لا يَسْتِطِيعُونَ حَرَاكاً وَلاَ اسْتنصَاراً مِمَّا هُم فِيهِ . . . أَذِلِكَ خَيرٌ أمْ جنَّة الخُلدِ الَّّتِي وَعَدَ اللهُ بِها عِبَادَه المُتَّقِين ، وَأَعَدَّها لَهُم لِتَِكُونَ لَهُم جَزاءً وَمصِيراً عَلى مَا أَطَاعُوا رَبَّهم فِي الدُّنيا؟
وَلَهُم فِي الجَنَّةِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ المآكِلِ ، وَالْمَشَارِبِ ، وَالمَلاَبِسِ ، وَالمَسَاكِنِ ، وَالمَنَاظِرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ عَيْنٌ رَأتْ وَلاَ أُذنٌ سَمِعَتْ ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ أَبَداً سَرمَداً ، وَلاَ يَبْغُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ تَحَوُّلاً وَلاَ زَوَالاً ، وَهَذَا كُلُّه مِن فَضْلِ الله ، تَفَضَّل بِهِ عَلَيْهِمِ ، وَأَحْسَن بِهِ إِلَيْهِمْ ، وَهُوَ وَعْدٌ مِنْ اللهِ وَاجِبٌ الوُقُوعِ ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ .
وقال تعالى :مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) [الرعد/35 ]
صِفَةُ الجَنَّةِ التِي وَعَدَ اللهُ بِهَا المُتَّقِينَ ، وَنَعَتَهَا ، أَنَّهَا تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي أَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا ، وَحَيْثُ شَاءَ أَهْلُهَا يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِّيراً ، فِيهَا الفَوَاكِهُ وَالمَطَاعِمُ وَالمَشَارِبُ ، لاَ انْقِطَاعَ لَهَا وَلاَ فَنَاءَ (أُكُلُها دَائِمٌ) ، وَظِلُّهَا دَائِمٌ لاَ يَنْكَمِشُ وَلاَ يَزُولُ . وَهَذِهِ الجَنَّةُ التَي تَقَدَّمَتْ صِفَتُهَا ، هِيَ جَزَاءُ المُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ( عُقْبَى الذِينَ اتَّقَوا ) ، أَمَّا الكَافِرُونَ فَعُقْبَاهُمْ وَمَصِيرُهُمُ النَّارُ . وَلاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ الجَنَّةِ وَأَصْحَابُ النَّارِ .
وقال تعالى : وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) [النحل/30-32]
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ عَلَى رَسُولِهِ؟ قَالُوا : أَنْزَلَ القُرْآنَ ، فِيهِ خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ ، وَبَرَكَةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ ، وَآمَنَ بِهِ .
ثُمَّ يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا وَعَدَ بِهِ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ، فَقَالَ : مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا ، فَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَمَرَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ . . أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . وَإِنَّ دَارَ الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا الفَانِيَةِ ، وَالجَزَاءُ فِيهَا أَتَمُّ مِنَ الجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا ، وَنَعِمَتْ دَارُ الآخِرَةِ دَاراً لِلمُتَّقِينَ .
وَالدَّارُ التِي وَعَدَ اللهُ بِهَا المُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ فِي الآخِرَةِ هِيَ جَنَّاتُ مُقَامٍ ( عَدْنٍ ) ، يَدْخُلُونَهَا ، تَجْرِي فِي أَرْضِهَا الأَنْهَارُ ( مِنْ تَحْتِهَا ) بَيْنَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا ، وَلَهُمْ فِيهَا مَا يَطْلُبُونَ وَيَشْتَهُونَ ، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ ، وَأَحْسَنَ عَمَلَهُ .
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المُؤْمِنِينَ القَائِمِينَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ ، وَالمُنْتَهِينَ عَنْ جَمِيعِ مَا نَهَى عَنْهُ ( الطَّيِّبِينَ ) حِينَ تَحْضُرُهُمُ المَلاَئِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ ، فَقَالَ : إِنَّهُمْ طَيِّبُونَ ، مُخْلِصُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنْسِ ، وَالسُّوْءِ ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِم ، وَتُبَشِّرُهُمْ بِالجَنَّةِ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمْ ، وَعَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ .
وقال تعالى :وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) [ق/31-35]
وَأُدنِيَتِ الجَنَّةُ مِنَ المُتَّقِين ، الذِين آمَنُوا بِرَبِّهِم وَخَافُوهُ ، وَاجْتَنَبُوا مَعَاصِيَه ، حَتَّى أصْبَحَتْ على مرآى العِينِ مِنْهُم ، وَذَلِكَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم ، وَهُمْ يَرَوْنَ فيها مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ لَهُمْ مِنْ نَعِيمٍ لا نَفَاذَ لَهُ .
وَيُقَالَ للْمُتَّقِينَ - يَقُولُهُ الرَّبُّ تَعَالى أوْ يَقُولُه المَلاَئِكَةُ الأطْهَارُ - هَذا هُوَ النَّعِيمُ الذِي وَعَدَكُم بِهِ رَبُّكُمْ على ألسنةِ رُسُلِهِ الكِرَامِ ، وَجَاءَتْ بِهِ كُتُبُهُ ، وَقَدْ أعَدَّهُ اللهُ تَعَالى لِكُلِّ رِجَّاعٍ ثَوَّابٍ إلى رَبِّهِ ، مُقْلعٍ عَنْ مَعَاصِيهِ ، رَجَّاعٍ إلى اللهِ بالتَّوبَةِ .
مَنْ خَافَ اللهَ في سِرِّهِ في الوَقْتِ الذِي لَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَرَاهُ غَيرَ اللهِ ، وَجَاء اللهَ يَومَ القِيَامةِ بِقَلْبِ مُنِيبٍ خَاضِعٍ لَهُ .
وَيُقَالُ لهؤلاءِ الأبرارِ المُكَرَّمِينَ : ادْخُلُوا الجَنَّةَ سَالِمِينَ مِنَ العَذَابِ وَالهُمُومِ وَالخَوفِ ، واطْمَئِنُّوا وَقَرُّوا عَيناً فَهَذا يَوْمُ الخُلُودِ في هذا النَّعِيمِ ، فَهُو دَائِمٌ عَلَيكُم لاَ تَحُولُونَ عَنْهُ وَلا تَزُولُونَ ، وَلاَ أَنْتُمْ مِنْهُ تُخْرَجُونَ .
وَلَهُم فيها مَا يَطْلُبُونَ وَمَا يَشْتَهُونَ ، ثُمَّ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَوْقَ مَا سَألوا ممَّا لمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بَالٍ .
ــــــــــــــــ
قال تعالى : يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) [الشعراء/88، 89]
وفي يَومِ القِيامةِ ، يومَ يُبْعَثُ الخَلائِقُ ، لا يَقِي المَرءَ منْ عذابِ اللهِ مالُهُ ، ولوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الأرْضِ ذًهَباً ، ولا يَنْفَعُهُ بنُوهُ ، ولا أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ .
ولا يَنْفَعُهُ في ذَلكَ اليوم إِلاَّ إيمَانُه ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ ، وأَنْ يأْتِيَ اللهَ ربَّهُ بقلْبٍ سليمٍ ، مُبَرَّإٍ من الشِّرْكِ والدَّنَسِ ، والخَطَايا ، وقَدْ أَخْلَصَ الإِيمانَ للهِ ، وأخْلَصَ العَقِيدَةَ لَهُ ، وآمَنَ إيمَاناً صادقاً أنه لا إِلهَ إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وأنَّ السَّاعَةَ آتيةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وأنَّ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ .
ــــــــــــــ
قال تعالى : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) [الحاقة/19-24]
وَيُعْطَى النَّاسُ صُحُفَ أَعْمَالِهِمْ ، فَمَنْ تَنَاوَلَ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ بِيمِيِنِهِ فَيَقُولُ فَرِحاً مَسْرُوراً لِكُلِّ مَنْ يَلْقَاهُ : هَذِهِ هِيَ صَحِيفَةُ أَعْمَالِي ، خُذُوهَا فَاقْرَؤُوهَا ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِيهَا خَيرٌ وَحَسَنَاتٌ ، لأَنَّهُ مِمَّنْ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ .
إِنَّنِي كُنْتُ فِي الدُّنْيَا أَعْتَقِدُ يَقِيناً بِأَنَّنِي سَأْحَاسَبُ أَمَامَ اللهِ فِي هَذَا اليَوْمِ ، فَعَمِلْتُ خَيْراً قَدْرَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وَكُنْتُ أُؤَمِّلُ أَنْ يُحَاسِبَنِي اللهُ عَلَى أَعْمَالِي حِسَاباً يَسِيراً ، وَقَدْ صَدَقَ مَا اعْتَقَدْتُ وَمَا تَوَقَّعْتُ ، فَكَانَ حِسَابِي يَسِيراً .فَهُوَ يَعِيشُ عِيشَةً رَاضِيَةً خَالِيَةً مِنَ الهُمُومِ والأَكْدَارِ .
فِي جَنَّةٍ رَفِيعَةِ المَكَانِ والدَّرَجَاتِ ، فِيهَا الخُضْرَةُ وَالمِيَاهُ وَالظَّلاَلُ الوَارِفَةُ . فِيهَا أَشْجَارٌ ثِمَارُهَا دَانِيَةٌ مِمَّنْ يُرِيدُونَ قَطْفَهَا ، فَيَأْخُذُونَهَا بِدُونِ عَنَاءٍ .
ـــــــــــــ
الوفاء النذور والخوف من يوم الحساب
قال تعالى : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) [الإنسان/7-23]
وَهَؤُلاَءِ الأَبْرَارُ يُوفُونَ بِمَا أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ نُذُورٍ ، لأَنَّ مَنْ أَوْفَى بِمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَكْثَرَ وَفَاءً بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، وَيَتْرُكُونَ المُحَرَّمَاتِ التِي نَهَاهُمْ رَبُّهُمْ عَنْهَا ، خِيفَةَ سُوءِ الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ يَوْمٌ ضَرَرُهُ مُنْتَشِراً فَاشِياً عَامّاً عَلَى النَّاسِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ .
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ ، مَعَ شَهْوَتِهِمْ لَهُ ، وَرَغْبَتِهِمْ فِيهِ ، لِلْفَقِير العَاجِزِ عَن الكَسْبِ ( المِسْكِينِ ) ، وَاليَتِيمِ الذِي مَاتَ أَبُوهْ ، وَهُوَ دُونَ سِنِّ البُلُوغِ وَالأَسِيرِ العَاني الذِي لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ قُوتاً .
وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُطْعِمُونَ الفُقَرَاءَ وَالمَسَاكِينَ والأَيْتَامَ وَالأَسْرَى ، لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ثَوَابَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ وَحْدَهُ ، لاَ يَطْمَعُونَ فِي جَزَاءٍ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ عَلَى إِنْفَاقِهِمْ ، وَلاَ فِي شُكْرٍ مِنَ المُنْفَقِ عَلَيْهِ .
وَإِنَّنَا إِنَّمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَنَا رَبُّنَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ ، وَهُوَ يَوْمٌ طَوِيلٌ عَصِيبٌ ، تَعْبِسُ فِيهِ الوُجُوهُ وَتَكْلَحُ مِنْ شِدَّةِ أَهْوَالِهِ .
فَآمَنَهُمْ اللهُ شَرَّ مَا خَافُوهُ ، وَأَعْطَاهُمْ أَمناً تَكُونُ لَهُ وُجُوهُهُمْ نَضِرَةً ، وَسُرُوراً تُسَرُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ ، وَالقَلْبُ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الوَجْهُ .
وَجَزَاهُمُ اللهُ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الإِيْثَارِ ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ مِنَ الجُوعِ وَالعُرْيِ ، جَنَّةً لَهُمْ فِيهَا مَنْزِلٌ رَحْبٌ ، وَعَيْشٌ رَغْدٌ ، وَلِبَاسٌ مِنْ حَرِيرٍ .
وَيَجْلِسُونَ فِي الجَنَّةِ عَلَى السَّرَائِرِ والأَرَائِكِ ، وَهُمْ مُتَّكِئُونَ فِي وَضْعِ مَنْ هُوَ مُنَعَّمٌ ، لاَ يُقَاسُونَ حَرّاً مُزْعِجاً ، وَلاَ بَرْداً مُؤْلِماً .
وَتَدْنُو أَشْجَارُ الجَنَّةِ بِظِلالِهَا عَلَى هَؤُلاَءِ الأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ ، وَتُسَخِّرُ قُطُوفَهَا لأَمْرِهِمْ لِيَنَالُوا مِنْهَا مَا شَاؤُوا .
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ خَدَمُ الجَنَّةِ بِأَوَانِي الطَّعَامِ ، وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ خَالِصَةٍ ، وَبِأَكْوَابِ الشَّرَابِ ، وَهِيَ أَيْضاً مِنْ فِضَّةٍ ، وَقَدْ جُعِلَتْ هَذِهِ الأَكْوَابُ جَامِعَةً بَيَاضَ الفِضَّةِ ، وَصَفَاءَ الزُّجَاجِ وَشَفَافِيَّتَهُ .
وَهذِهِ القَوَارِيرُ يَحْمِلُهَا إِلَيهِم السُّعَاةُ وَقَدْ قَدَّرُوا مَا صَبُّوهُ فِيهَا عَلَى قَدَرِ كِفَايَةِ الشَّارِبِينَ وَرَيهِّمْ ، لاَ تَزِيدُ وَلاَ تَنْقُصُ .
وَيُسْقَى هُؤَلاَءِ الأَبْرَارُ فِي الجَنَّةِ كَأْساً مِنْ خَمْرِ الجَنَّةِ مُزِجَتْ بِالزَّنْجِبِيلِ ( فَهُمْ يُمْزَجُ الشَّرَابُ لَهُمْ مَرَّةً بِالكَافُورِ وَمَرَّةً بِالزَّنْجَبِيلِ فَالكَافُورُ بَارِدٌ وَالزَّنْجَبِيلُ حَارٌّ ) .
وَيُسْقَونَ فِي الجَنَّةِ مِنْ عَيْنٍ غَايَةٍ فِي السَّلاَسَةِ وَالاسْتِسَاغَةِ .
وَيَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ غِلْمَانٌ ( وِلْدَانٌ ) يَخْدِمُونَهُمْ ، وَهُمْ شَبَابٌ ، وُجُوهُهُمْ نَضِرَةٌ ، كَأَنَّهُمْ لِحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ ، وَنَضْرَةِ وُجُوهِهِمْ ، وَكَثْرَةِ انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ الحَاجَاتِ ، اللًّؤْلُؤْ المَنْثُورُ ، وَهُمْ لاَ يَهْرَمُونَ وَلاَ يَشِيبُونَ ، وَلاَ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهُمْ .
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ الجَنَّةِ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ نَعِيمٍ فِي الجَنَّةِ ، لَرَأَيْتَ نَعِيماً عَظِيماً ، وَمُلْكاً كَبِيراً لاَ يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ .
وَيَلْبَسُ أَهْلُ الجَنَّةِ الرَّفِيعَ مِنَ الحَرِيرِ ، مِمَّا يَلِي أَبْدَانَهُمْ كَالقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا ، وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ التِي لَهَا لَمَعَانٌ وَبَرِيقٌ ، مِمَّا يَلِي الخَارِجَ ، وَيَتَحَلَّوْنَ بِأَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ، وَيَسْقِيِهِمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً يُطَهِّرُ بَاطِنَ شَارِبِهِ مِنَ الحَسَدِ ، وَالحِقْدِ ، وَالغِلِّ ، وَرَدِيءِ الأَخْلاَقِ .
وَيُقَالُ لَهُمْ تَكْرِيماً : إِنَّ هَذَا الذِي أُعْطِيتُمُوهُ مِنَ الكَرَامَةِ إِنَّمَا كَانَ ثَوَاباً لَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَاتِ فِي الدُّنْيَا ، وَقَدْ شَكَرَ اللهُ لَكُمْ سَعْيَكُمْ فَأَثَابَكُمْ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ ثَوَاباً حَسَناً .
ــــــــــــــ
قال تعالى : وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) [البقرة/111، 112]
ادَّعَى اليَهُودُ ، وَادَّعَتِ النَّصَارَى أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إَلاَ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَتِهِمْ هُمْ . فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : تِلْكَ أَشْيَاءُ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللهِ بِغَيرِ وَجْهِ حَقٍّ ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَلاَ حُجَّةٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ . فَإِنْ كَانَ لِدَعْوَاهُمْ هذِهِ أَسَاسٌ فَلْيأتُوا بِبُرْهَانٍ عَلَيها . وَبِمَا أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ فَهُمْ إِذاً كَاذِبُونَ مُتَخَرِّصُونَ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَعْوَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى تِلْكَ فَيَقُولُ لَهُمْ : بَلَى سَيَدْخُلُ الجَنَّةَ الذِين يُسْلِمُونَ وُجُوهَهُمْ للهِ . وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِ مُطِيعِينَ مُخْلِصِينَ ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فُهؤُلاءِ يُوَفِّيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ ، وَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ ، وَيُذْهِبُ عَنْهُمُ الخَوْفَ وَالحَزَنَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الأَمْرِ ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنيا . فَرَحْمَةُ اللهِ لاَ يَخْتَصُّ بِهَا شَعْبٌ دُونَ شَعْبٍ ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ لَهَا ، وَأَخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ، كَانَ مِنْ أَهْلِهَا .
ـــــــــــــ
الذين صبروا على البأساء والضراء
قال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) [البقرة/214]
يُخَاطِبَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ هَدَاهُمْ إِلى السِّلْمِ ، وَإِلَى الخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَةِ الاخْتِلاَفِ ، إِلى نُورِ الوِفَاقِ ، بِاتِّبَاعِهِمْ هُدَى الكِتَابِ زَمَنَ التَّنْزيلِ ، الذِينَ يَظُنُّونَ مِنْهُمْ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ إِلى الإِسْلاَمِ فِيهِ الكِفَايَةُ لِدُخُولِ الجَنَّةِ دُونَ أَنْ يَتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ وَالأَذَى فِي سَبيلِ الحَقِّ ، وَهِدَايَةِ الخَلْقِ ، جَهْلاً مِنْهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الهُدَى مُنْذُ أَنْ خَلَقَهُمْ . فَيَقُولُ لَهُمْ : هَلْ تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ تُبْتَلَوا وَتُخْتَبَرُوا كَمَا فُعِلَ بِالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ ابْتُلُوا بِالفَقْرِ ( البَأَسَاءُ ) ، وَبِالأَسْقَامِ وَالأَمْرَاضِ ( الضَّرَّاءُ ) ، وَخُوِّفُوا وَهُدَّدُوا مِنَ الأَعْدَاءِ ( زُلْزِلُوا ) ، وَامتُحِنُوا امْتِحَاناً عَظِيماً ، وَاشْتَدَّتِ الأُمُورُ بِهِمْ حَتَّى تَسَاءَلَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ قَائِلِينَ : مَتَى يَأْتِي نَصْرُ اللهِ .
وَحِينَما تَثْبُتُ القُلُوبُ عَلَى مِثْلِ هذِهِ المِحَنِ المُزَلْزِلَةِ ، حِينَئِذٍ تَتِمُّ كَلِمَةُ اللهِ ، وَيَجِيءُ نَصْرُهُ الذِي يَدَّخِرُهُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِبَادِهِ الذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ أَنْ لاَ نَصْرَ إِلاَّ نَصْرُ اللهِ .
ــــــــــــــ
قال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران/142]
وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ .
ــــــــــــــ
قال تعالى : وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) [الأعراف/42، 43]
وَالذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ اللهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، بِجَوارِحِهِمْ ، فَهَؤُلاَءِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً .
وَالإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ سَهْلانِ مَيْسُورٌ فِعْلُهُمَا لِجَمِيعِ النَّاسِ ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ أَحَداً إلاَّ قَدْرَ طَاقَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ .
وَيَنْزِعُ اللهُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ وَحَسَدٍ ، فَيُصْبِحُونَ مُتَحَابِّينَ ، وَتَجْرِي الأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ فِي أَرْضِ الجَنَّةِ ، وَيَنْظُرُونَ إلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَيَقُولُونَ : الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا إلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ ، وَلَوْلاَ هُدَى اللهِ لَمَا كُنَّا اهْتَدَيْنَا إِليهِ ، لَقَدْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُ اللهِ هُوَ الحَقَّ . وَيُنَادُوْنَ ( يُنَادِيهِم اللهُ تَعَالَى أَوْ تُنَادِيهِم المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ ) : إنَّ هذِهِ الجَنَّةَ التِي أَنْتُمْ تَحُلُّونَهَا قَدْ أَوْرَثَكُمُ اللهُ إِيَّاهَا ثَوَاباً لَكُمْ وَجَزَاءً عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ .
وقال تعالى : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) [الزمر/73، 74]
وَيُوِجَّهُ المُتَّقُونَ إِلَى الجَنَّةِ جَمَاعَاتٍ إِثْرَ جَمَاعَاتٍ : المُقَرَّبُونَ ، ثُمَّ الأَبْرَارُ ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ . . فَإِذَا وَصَلُوا الجَنَّةَ تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا لاسْتِقْبَالِهِمْ ، وَيَسْتَقْبِلُهُمْ حُرَّاسُهَا ( خَزَنُتهَا ) بالتَّحِيَةِ وَالسَّلاَمِ ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ : طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ وَأَقْوَالُكُمْ ، وَطَابَ سَعْيُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ ، فَادْخُلُوا الجَنَّةَ لِتَمْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً .
وَيَقُولُ المُؤْمِنُونَ حِينَ يَعَايِنُونَ فِي الجَنَّةِ الجَزَاءَ الوَافِرَ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لَهُمْ ، وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ : الحَمْدُ للهِ الذِي كَانَ وَعَدَنَا عَلَى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ الكِرَامِ بِالثَّوَابِ الكَرِيمِ فِي الآخِرَةِ فَصَدّقْنَا مَا وَعَدَنَا بِهِ ، وَأَكْرَمَنَا بِأَنْ جَعَلَنَا نَتَصَرَّفُ فِي أَرْضِ الجِنَّةِ تَصَرُّفَ الوَارِثِ فِيمَا يَرِثُ ، فَنَتَّخِذُ مِنْهَا مَبَاءَةً وَمَسْكَناً حَيْثُ نَشَاءَ ، فَنِعْمَ الأَجْرُ أَجْرُنَا عَلَى عَمَلِنَا ، وَنِعْمَ الثَّوَابُ ثَوَابُنَا الذِي أَكْرَمَنَا بِهِ اللهُ تَعَالَى .
ــــــــــــــ
قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) [التوبة/111-112]
يُرَغِّبُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ فِي الجِهَادِ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَوِّضُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ عَنْ بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيَا ، وِلإِحْقَاقِ الحَقِّ ، وَإِقَامَةِ العَدْلِ فِي الأَرْضِ ، فَهُمْ حِينَ يُجَاهِدُونَ يَقْتُلُونَ أَعْدَاءَهُمْ ، وَيُقْتَلُونَ هُمْ ، وَهُمْ فِي كِلاَ الحَالَيْنِ مُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِهَذَا الجَزَاءِ الحَقِّ ، وَجَعَلَهُ حَقّاً عَلَيهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ .
ثُمَّ يَدْعُو اللهُ تَعَالَى مَنِ التَزَمَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِعَهْدِهِ للهِ إِلَى الاسْتِبْشَارِ بِذَلِكَ الفَوْزِ العَظِيمِ ، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ ، لأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَفَاءً بِالْعَهْدِ ، وَلاَ أَكْثََرَ مِنْهُ التِزَاماً بِالوَعْدِ الذِي يَقْطَعُهُ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رِبْحٌ أَكْبَرُ مِنَ الرّبِحِ الذِي يُحَقّقُهُ المُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ .
وَهُنَا يُعَدِّدُ اللهُ تَعَالَى صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالجَنَّةِ ، وَهُمُ : التَّائِبُونَ مِنْ الذُّنُوبِ كُلِّها ، التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ ، القَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ ، وَالمُحَافِظُونَ عَلَيهَا ، وَالحَامِدُ نَ للهِ عَلَى نِعَمِهِ وَأَفْضَالِهِ ، السَّائِحُونَ فِي الأَرْضِ ، لِلاعْتِبَارَِ وَ الاسْتِبْصَارِ بِمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ العِبَرِ وَ الآيَاتِ ، ( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَى السَّائِحِينَ هُنَا الصَّائِمُونَ ) وَالمُصَلُّونَ . وَهُمْ مَعْ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْعَوْنَ فِي نَفْعِ خَلْقِ اللهِ ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ ، بِأَمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ ، وَنَهِيهِمْ عَنِ المُنْكَرِ ، مَعَ العِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ ، وَيَجِبُ تَرْكَهُ طَاعَةً للهِ ( أَيْ إِنَّهُمْ يَحْفَظُونَ حُدُودَ اللهِ ) . وَيُبَشِّرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الكَرِيمَةِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
ــــــــــــــ
قال تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) [يونس/26]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الذِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ اللهِ ، وَيُحْسِنُونَ العَمَلَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ، سَيَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الحُسْنَى مِنَ اللهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ( وَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ، وَسَيُضَاعِفُ اللهُ لَهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ ( وَزِيَادَةٌ ) ، وَسَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ ، وَسَيُعْطِيهِمْ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } : ( الحُسْنَى الجَنَّةُ . وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ) . وَلاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ قَتَامٌ أَسْوَدُ ، مِمَّا يَعْتَرِي وُجُوهَ الكَفَرَةِ ، مِنَ القَتَرَةِ وَالغَبَرَةِ ، وَلاَ يَلْحَقُ بِالمُؤْمِنِينَ صَغَارٌ وَلاَ هَوَانٌ وَلاَ ذِلَّةٌ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى يَصِفُ المُؤْمِنِينَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً . } لاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ - لاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ وَلاَ يَعْلُوهَا .
وقال تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) [الذاريات/15-19]
أمَّا الذِينَ آمَنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ ، وَاتقَوا رَبَّهُمْ وَأطَاعُوهُ ، وَاجْتَنَبُوا مَعَاصِيَهِ ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ في ذَلكَ اليَومِ في بَسَاتِينَ وَجَنَّاتٍ تَجْري فيها الأنْهارُ . قَرِيرَةً أعينُهُمْ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهمْ مِنْ نَعيمٍ يَفُوقُ مَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ ، لأنهم كَانُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا يَعْمَلُونَ الأعمالَ الصَّالِحَةَ ، طَلَباً لمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ ، فَنَالُوا هذا الجَزَاءَ العَظِيمَ .
كَانُوا يَنَامُونَ القَلِيلَ مِنْ سَاعَاتِ الْلِّيلِ ، وَيَقُومُونَ لِلصلاةِ وَالعِبَادةِ في مُعْظَمِهِ . وَكَانُوا يُحيُون الْلِّيلَ مُتَهَجِّدِينَ ، فَإذا جَاءَ وَقْتُ السَّحَرِ أخَذُوا في الاسْتِغْفَارِ كَأنَّهمْ أسْلَفُوا في ليلتِهِم الذُّنُوبَ . وَجَعَلُوا في أمْوالِهِمْ جُزْءاً مُعَيِّناً خَصَّصُوهُ للسَّائِلِ المُحْتَاجِ ، وَلِلْمُتَعَفِّفِ الذِي لا يَجدُ ما يُغْنِيهِ ، وَلاَ يَسْألُ النَّاسَ ، وَلا يَفْطَنُ إليهِ أحَدٌ لِيَتَصَدَّق عَليه .
ـــــــــــــــ
المحافظون على الصلاة ، البعيدون عن الشهوات
قال تعالى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) [مريم/59-63]
ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلاَءِ الأَنْبِيَاءُ الصَّالِحِينَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ وَأَوَامِرِهِ المُؤَدِّينَ فَرَائِضَهُ ، خَلْفُ سُوءٍ ، تَرَكُوا الصَّلاَةَ وَإِقَامَتِهَا ، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَواتِ الدُّنْيا ، فَهَؤُلاَءِ سَوْفَ يَلْقَوْنَ خَسَارةً وَشَرّاً يَوْمَ القِيَامَةِ .
إِلاَّ مَنْ تَدَارَكَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ ، وَصِدْقِ الإِيمَانِ ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَرَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلاَةِ ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ ، وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ ، وَخِتَامَهُ ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ ، لأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَلاَ يُنْقِصُهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ .
( وَفِي الحَدِيثِ : " التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ " ) . ( أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه ) .
وَالجَنَّاتُ التِي يُدْخِلُهَا اللهُ تَعَالَى التَّائِبِينَ ، هِيَ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) ، التِي وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِهَا ، وَهِيَ مِنَ الغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ ، وَلَمْ يَرَوْهُ ، وَإِنَّمَا آمَنُوا بِهِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً ، فَإِنَّ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ سَيَحْصُلُ ، وَسَيَصِلُ إِلَى العِبَادِ ( أَوْ سَيَأْتِيهِ
وَفِي هَذِهِ الجَنَّاتِ لاَ يَسْمَعُ نُزَلاَؤُهَا كَلاَماً لَغْواً تَافِهاً لاَ مَعْنَى لَهُ ، وَلاَ فَائِدَةَ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَ المَلاَئِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِالسَّلاَمِ ، مِمَّا يُشْعِرُهُمْ بِالاطْمِئْنَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالرِّضَا ، وَيَأْتِيهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ ( بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) كَمَا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا .
وَالجَنَّةُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ أَوْصَافَهَا العَظِيمَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، هِيَ الَّتِي يُورِثُهَا عِبَادَهُ المُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَيَكْظِمُونَ الغَيْظَ ، وَيَعْفُونَ عَنِ النَّاسِ .
ـــــــــــــــ
قال تعالى : وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) [يس/20-27]
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ يَسْعَى مُسْرِعاً إِلَى حَيْثُ كَانَ يَجْتَمِعُ النَّاسُ وَهُمْ يُحَاوِرُونَ الرُّسُلَ ، فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْمِ اتِّبِعُوا رُسُلَ اللهِ إِلَيْكُمْ .
اتَّبِعُوا الذِينَ لا يَطْلُبُونَ أَجْرَاً عَلَى تَبْلِيِغِهِمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، وَلاَ يَطْلُبُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ إِلَى سَبِيلِ اللهِ القَوِيمِ ، فَإِذَا اتَّبَعْتمُوهُم اهْتَدَيْتُمْ بِهُدَاهُمْ
وَيَبْدُوا أَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ اتَّهَمُوا مَوَاطِنَهم ، الذي جَاءَ يَسْعَى مُسْرِعاً لِيُدَافِعَ عَنِ الرُّسُلِ ، وَلْيَنْصَحَ قَوْمَهُ ، بِأَنَّهُ مُوَالٍ لِلرُّسُلِ ، وَمُؤْمِنٌ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ، فَأَجَابَهم قَائلاً : وَلِمَاذَا لاَ يَعْبُدُ اللهَ ، وَلاَ يُخْلِصُ العِبَادَةَ لَهُ ، فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذي خَلَقَهُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الخَلْقُ جَمِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ .
وَهَلْ تُرِديدُونَنِي أَنْ أَعْبُدَ آلِهَةً غَيْرَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ الرَّحْمَنُ أَنْ يُنْزِلَ بِي ضُرّاً لَمْ تَنْفَعْنِي تِلْكَ الآلِهَةُ شَيْئاً ، وَلَمْ تَشْفَعْ لِي عِنْدَهُ ، وَلَمْ تُنْقِذْنِي مِنْ عَذَابِهِ .
إِنِّي إِنْ اتَّخَّْذْتُ تِلْكَ الأَصْنَامُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ ، كُنْتُ فِي ضَلاَلٍ بَيِّنٍ ، وَاضِحٍ .
ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ المُؤْمِنُ لِلرُّسُلِ الكِرامِ : إِنِّي آمَنْتُ بِربِّكُم الذي أَرْسَلَكُمْ ، وَاتَّبَعْتُكُمْ ، فَاشْهَدُوا لِي بِذَلِكَ ، عِنْدَ رَبِّكُمْ الكَّرِيمِ .
( وَهُنَاكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَاطَبَ قَوْمَهُ ، قَائِلاً إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذِي كَفَرْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ ) .
وَيُرْوَى أَنَّ القَوْمَ وَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ ، وَلَم يَجِدْ مَنْ يَدَافِعُ عَنْهُ بَيْنَهُمْ ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ تَعَالَى الجَنَّةَ ، وَأَكْرَمَهُ عَلَى حُسْنِ إِيْمَانِهِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ . وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ قَالَ لَهُ : ادْخُلِ الجَنَّةَ جَزَاءً لَكَ عَلَى مَا قَدَّمْتَ مِنْ إِيْمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ ، وَمَا أَسْلَفْتَ مِنْ إِحْسَانٍ . فَلَمَّا دَخَلَهَا ، وَعَايَنَ مَا أَكْرَمَهُ اللهُ بِهِ بِسَبَبِ إِيْمَانِهِ وَصَبْرِهِ ، قَالَ : يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا أَنَا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، والخَيْرِ العَمِيمِ ، بِسَبَبِ إِيْمَانِي بِرَبِّي ، وَتَصْدِيقي بِمَا جَاءَ بِهِ رُسُلُه الكِرَامُ .
ــــــــــــــ
قال تعالى : يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) [الزخرف/68-73]
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَحَابِّينَ فِي اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ : يَا عِبَادِي لاَ تَخَافُوا مِنْ عِقَابِي ، فَقَدْ آمَنْتُكُمْ مِنْهُ ، وَرَضِيتُ عَنْكُمْ ، وَلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ فِي الدُّنْيَا . فَالذِي أدَّخَرْتُهُ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ .
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ صِفَةَ الذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الأَمْنَ مِنَ اللهِ ، وَالرِّضَا ، فَلاَ يَخَافُونَ العَذَابَ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ فِي الدُّنْيَا ، فَقَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ هُمُ الذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَصَفَتْ نُفُوسُهُمْ ، وانْقَادَتْ لِشَرْعِ الله بَوَاطِنُهُمْ وَظَوَاهِرُهُمْ .
وَقَالَ لَهُمْ : ادْخُلُوا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ وَنُظَراؤُكُم الجَنَّةَ تَنْعَمُونَ فِيهَا وَتَسْعَدُونَ ( تُحْبَرُونَ ) بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ مِنْ عَطَاءٍ غَيْرِ مَمْنُونٍ وَلاَ مَقْطُوعٍ .
وَبَعْدَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِي الجَنَّةِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَوَانٍ مِنْ ذَهَب عَلَيْهَا أَنْوَاعُ الطَّعَامِ ، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ لِلشَّرَابِ مِنْ ذَهَبٍ ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الأَوَانِي والأَكْوَابِ مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ ، وَتَتَلَذُّذُ بِهِ الأَعْيُنُ ، فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْعَمُونَ وَيَتَلَذَّذُونَ ، وَيُقَالُ لَهُمْ إِكْمَالاً لِسُرُورِهِمْ : إِنَّهُمْ بَاقُونَ فِي هَذَا النَّعِيمِ فِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ أَبَداً .
ثُمَّ يُقَالُ لِهَؤُلاَءِ الرَّاتِعِينَ فِي هَذَا النَّعِيمِ الدَّائِمِ : إِنَّ هَذِهِ هِيَ الجَنَّةُ ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ بَاقِيَةً لَكُمْ كَالمِيَرَاثِ الذِي يَبْقَى عَنِ المُوَرِّثِ ، جَزَاءً لَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُم الصَّالِحَةِ ، وَإِيْمَانِكُمْ بِرَبِّكُمْ . وَلَكُمْ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الفَوَاكِه مَا لاَ حَصْرَ لَهُ تَأْكُلُونَ مِنْهَا مَا تَتَخَيَّرونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لِتَتِمَّ لَكُم النِّعْمَةُ والغِبْطَةُ والحُبُورُ .
ــــــــــــــــ
قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) [الأحقاف/13، 14]
إِنَّ الذِينَ قَالُوا : رَبُّنَا اللهُ لا إِلَهَ غَيرُهُ ، وَلاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ ، ثُمَّ ثَبَتُوا عَلَى تَصْدِيقِهِم بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهم بِشِرْكٍ أَوْ ظُلْمٍ ، وَلَمْ يُخالِفُوا أَمْرَ اللهِ ، أُولئِكَ لا خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيما يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ يَومَ القيامة وَلا يَحزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُم في الدُّنيا .
وََهَؤُلاءِ الذِينَ آمَنُوا بالله واستَقَامُوا عَلَى الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ ، هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخلُدُونَ فِيها أبداً ، ثَواباً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ الله وَجَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ فِي الدُّنيا .
ــــــــــــــــ
قال تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) [الأحقاف/15-16]
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهَ تَعَالى عِبَادَهَ بالإِيمانِ بِهِ وَبِتَصْدِيقِ رَسُولِهِ ، وبما جاءَ بِهِ مِنْ كِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، والاستِقَامَةِ عَلَى الإِيمانِ ، حَثَّ النَّاسَ عَلَى الإِحسَانِ إِلى الوَالِدَينِ فأَخبَرَ تَعَالَى : أَنَّهُ أَمَرَ الإِنسَانَ بالإِحسَانِ إِلى وَالديْهِ ، وَبِالحُنُوِّ عَلَيهِما ، وَجَعَلَ برَّهُما مِنْ أَفْضَلِ القُرُبَاتِ إِلى اللهِ ، وَجَعَلَ عُقُوقَهُما مِنَ كَبَائِرِ الذُّنوبِ ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالى سَبَبَ تَوصِيَتِهِ الإِنسَانَ بِبِرِّ وَالدَيهِ ، فَقَالَ : إِنَّ أُمَّهُ قَاسَتْ في حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَباً ، وَقَاسَتْ في وَضعِهِ مَشَقَّةً وأَلماً ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَدعي مِنَ الإِنسانِ الشكرَ ، واستِحقَاقَ التَّكريمِ ، وَجَميلَ الصُّحْبَةِ . وَمُدَّةُ حَمْلِ الطّفْلِ ، وفِطَامِهِ ، ثَلاثُونَ شَهْراً تَتَحَمَّلُ فِيها الأٌمُ أَعْظَمَ المَشَاقِّ . حَتَّى إِذَا بَلَغَ الطّفْلُ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ ، وَبَلَغَ أَربَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ قَالَ : رَبِّ أَلْهِمْنِي وَوَفِّقْنِي إِلى شُكْرِ نِعْمَتِكَ التِي أَنْعَمْتَ بِها عَلَيَّ ، وَعَلَى وَالِدَيَّّ ، مِنْ صِحَّةِ جِسْمٍ ، وَسَعَةِ عَيْشٍ ، واجْعْلَنْي أَعْمَل عَمَلاً صَالِحا يُرضِيكَ عَنِّي لأَنَالَ مَثُوبَتَهُ عِنْدَكَ ، وَاجَعْلِ اللهُمَّ الصَّلاَحَ سَارِياً في ذُرِّيَّتِي ، إِني تُبتُ إِليكَ مِنْ ذُنُوبِي التِي صَدَرتَ عَنِّي فِيما سَلَفَ مِنْ أَيَّامِي ، وَإِنِّي مِنَ المُستَسلِمِينَ لأَمرِكَ وَقَضَائِكَ .
وَهؤلاءِ المُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ ( التَّائِبُونَ إِلى اللهِ ، المُنِيبُونَ إِليهِ ، المُسْتَدْرِكُونَ مَا فَاتَ بِالتُّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ . . ) هُمُ الذِينَ يَتَقَبَّلُ اللهُ تَعَالى مِنْهُمْ أحسَنَ مَا عَمِلُوهُ في الدُّنيا ، وَيَصْفَحُ عَنْ سَيِّئاتهِمْ فَيَغْفِرُ لَهُمُ الكَثيرَ مِنَ الزَّلَلِ الذِي صَدَرَ مِنْهُم فِي حِيَاتِهم الدُّنيا ، ولمْ يَتَرسَّخْ فِعْلُهُ في نُفُوسِهِم ، وَيَقْبَلُ القَليلَ مِنَ العَمَلِ . وَهُمْ في عِدادِ أَهْلِ الجَنَّةِ تَحقيقاً للوَعْدِ الصِّدْقِ الذِي وَعَدَهُمْ بِهِ رَبُّهم فِي الدُّنيا ، وَلا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ أَبداً .
( وَرُوِيَ أَنَّ هذهِ الآيةَ نَزَلَتْ في سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ .
وَرُوِيَ أَيْضاً أَنَّها نَزَلَتْ في أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ . والآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مُوصىً بِوالِدَيهِ ، مَأْمُورٌ بِشُكْر أَنْعُمِ الله عَلَيهِ وَعليهِما ، وَبأَنْ يَعْمَلَ صَالِحاً ، وَأَنْ يَسْعَى في إِصْلاَحِ ذُرِّيَّتهِ ، وَأَنْ يَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُوِّفقَهُ إِلى عَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ) .
ـــــــــــــــــ
قال تعالى :وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَ [محمد/4-6]
واللهُ يَجْزِي الشَّهَداءَ الذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِهِ تَعَالى ، وَيَتَجَاوزُ عَنْ سَيَّئَاتِهِمْ ، وَيُثَمِّرُ لَهُمْ أعْمالَهُمْ وَيُنَمِّيها لَهُمْ .وسَيَهْدِي اللهُ الشُهَدَاءَ في سَبيلِهِ إلى طَريقِ الجَنَّةِ ، ويُصْلِحُ حَالَهم في الآخِرَةِ .وَيدُخْلِهُمَ ربُّهم الجَنَّةَ ، فَيَجِدُ كُلُّ وَاحِد فيها مَقَرَّهُ لا يَضِلُّ في طَلَبِه ، وَكَأنَّهُ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ .
ــــــــــــــــ
من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى
قال تعالى : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) [النازعات/40-41]
وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ سَيُسْأَلُ عَنْ أَعْمَالِهِ ، فَحَاذَرَ ذَلِكَ اليَوْمَ ، وَحَسَبَ حِسَابَهُ ، وَجَنَّبَ نَفْسَهُ الوُقُوعَ فِي المَحَارِمِ ، وَالانْسِيَاقِ وَرَاءَ الهَوَى وَالشَّهَوَاتِ . فَتَكُونُ الجَنَّةُ جَزَاءَهُ ، وَفِيهَا مَأْوَاهُ وَمَصِيرُهُ .
ــــــــــــــــ
الذين يؤثرون ما عند الله على متاع الدنيا
قال تعالى : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) [آل عمران/14، 15]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ فَطَرَ النَّاسَ عَلَى حُبِّ الشَّهَواتِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، مِنْ أنْواعٍ المَلَذَّاتِ مِنَ النِّسِاءِ وَالبَنِينَ ، وَالأَمْوَالِ وَالخَيْلِ وَالأنْعَامِ وَالحَرْث ، وَهِيَ زَهْرَةُ الحَيَاةِ الدُّنيا الفَانِيَةِ ، وَزِينَتُهَا الزَّائِلَةُ ، وَهِيَ لاَ تُقَاسُ بِمَا ادَّخَرَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنينَ الصَّالِحِينَ فِي الآخِرَةِ ، وَعِنْدَ اللهِ حُسْنُ المَرْجِعِ ، وَعِنْدَهُ حُسْنُ الثَّواب .
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ أتُرِيدُونَ أنْ أُخْبِرَكُمْ بِخَيْرٍ مِمّا زُيِّنَ للنَّاسِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا مِنْ نَعِيمِها الزَّائِلِ؟ هُوَ مَا أعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ ، الذِينَ أخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ وَأنَابُوا إليهِ ، مِنْ جَنَّاتٍ تَتَفَجَّرُ فِي أرْضِها الأنْهَارُ ، مُخَلَّدِينَ فِيها لا تَزُولُ عَنْهُمْ أبداً ، وَلاَ يَبْغُونَ عَنْهَا تَحَوُّلاً ، وَلَهُمْ فِيها أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالخُبْثِ وَالكَيْدِ وَسُوءِ الخُلُقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَعْتَرِي النِّسَاءَ . وَيَغْمُرُهُمْ رِضْوَانُ اللهِ فَلاَ يَسْخَطُ عَلَيهِمْ رَبُّهُمْ أبداً ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ ، يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ العَطَاءِ .
ــــــــــــــــ
قال تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) [آل عمران/190-195]
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ، وَمَا فِيها مِنْ مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ ، وَكَوَاكِبَ وَسَيَّارَاتٍ ، وَفِي خَلْقِ الأَرْضِ ، وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ ، وَأَنْهَارٍ وَجِبَالٍ وَأَشْجِارٍ وَنَبَاتْ ، وَفِي تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَتَقَارُضِهِمَا الطُّولَ وَالقِصَرَ ، وَيَطُولُ هَذا تَارةً ، وَيَطُولُ الآخَرَ تَارَةً أخْرَى . . . لآيَاتٍ وَبَرَاهِينَ وَحُجَجَاً وَدَلائِل عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ ، وَعَظِيمَ قُدْرَتِهِ ، لأهْلِ العُقُولِ وَالأَلْبَابِ الزّكِيَّةِ .وَيَصِفُ اللهُ تَعَالَى أُوْلِي الأَلْبَابِ فَيَقُولُ عَنْهُمْ : إِنَّهُمُ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قَائِمِينَ وَقَاعِدِينَ وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَلاَ يَقْطَعُونَ ذِكْرَ اللهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ ، بِسَرَائِرِهِمْ ، وَأَلْسِنَتِهِمْ . . . وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لِيَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَسْرَارِ خَلِيقَتِهِ ، وَمِنْ حِكَمٍ وَعِبَرٍ وَعِظَاتٍ ، تَدُلُ عَلَى الخَالِقِ ، وَقُدْرَتِهِ ، وَحِكْمَتِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا الخَلْقَ عَبَثاً وَبَاطِلاً ، رَبَّنَا تَنَزَّهْتَ عَنِ العَبَثِ وَالبَاطِلِ ، وَإنَّمَا خَلَقْتَهُ بِالحَقِّ ، وَالإِنْسَانِ مِنْ بَعْضِ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقْهُ عَبَثاً ، وَإِنَّمَا خَلَقْتَهُ لِحِكْمَةٍ . وَمَتَى حُشِرَ الخَلْقُ إلَيكَ حَاسَبْتَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، فَتَجْزِي الذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا ، وَتَجْزِي الذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . ثُمَّ يُتِمُّونَ دُعَاءَهُمْ سَائِلِينَ رَبَّهُمْ أنْ يَقِيَهُمْ عَذابَ النَّارِ .
ثُمَّ يُتَابِعُونَ دُعَائَهُمْ وَرَجَاءَهُمْ لِرَبِّهِمْ قََائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَهَنْتَهُ وَأَذْلَلْتَهُ ، وَأَظْهَرْتَ خِزْيَهُ لأَهْلِ الجَمْعِ يَوْمَ القِيَامَةَ ، وَالظَّالِمُونَ لاَ يَجِدُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللهِ . وَبَعْدَ أَنْ عَرَفُوا اللهَ حَقَّ المَعْرِفَةِ بِالذِّكْرِ وَالفِكْرِ ، عَبَّرُوا عَنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ سِرَاعاً ، فَقَالُوا : رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا دَاعِياً يَدْعُو النَّاسَ إلَى الإِيمَانِ بِكَ ( وَهُوَ الرَّسُولُ ) ، وَيَقُولُ : آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ، فآمَنَّا مُسْتَجِيبِينَ لَهُ ، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ، وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِئَاتِنَا ، فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ، وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارَ الصَّالِحِينَ وَأَلْحِقْنَا بِهِمْ .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ ، وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ أَمَامَ الخَلْقِ ، إنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيْعَادَ الذِي أَخْبَرَ عَنْهُ رُسُلُكَ الكِرَامُ ، وَهُوَ قِيَامُ الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ ، وَإنَّكَ تَجْزِي العَامِلِينَ الصَّالِحِينَ بِالخَيْرِ وَالحُسْنَى ، وَتَجْزِي الذِينَ أسَاؤُوا بِمَا يَسْتَحِقُونَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ .
لَمَّا سَأَلَ المُؤْمِنُونَ ذَوُو الأَلْبَابِ رَبَّهُمْ مَا سَأَلُوا فِي الآياتِ السَّابِقَاتِ ، اسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ لِصِدْقِهِمْ فِي إيمَانِهِمْ ، وَذِكْرِهِمْ وَتَفَكُّرِهِمْ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَتَنْزِيهِهِمْ رَبَّهُمْ عَنِ العَبَثِ ، وَتَصْدِيقِهِمْ رُسُلَهُ ، وَقَالَ لَهُمْ : إنَّهُ لاَ يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى ، وَإنَّهُ سَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ أَجْرَهُ ، وَجَمِيعُهُمْ لَدَيهِ سَوَاءٌ فِي الثَّوَابِ ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) ، فَالذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ وَأَتَوا إلى دَارِ الإِيمَانِ ، وَضَايَقَهُمُ المُشْرِكُونَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إلى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، لاَ لِشَيءٍ إلاَّ أنْ يَقُولُوا رَبَّنَا اللهُ ، وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَيُقْتَلُونَ صَابِرِينَ مُحْتَسَبِينَ . . . فَهؤُلاءِ جَمِيعاً سَيُكَّفِرُ اللهُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ ، وَسَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَيُنِيلُهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَثَوَاباً جَزِيلاً مِنْهُ ، لأنَّ اللهَ عَظِيمٌ ، وَالعَظِيمُ لاَ يُعْطِي إلاَّ جَزِيلاً . وَلِلْعِبَادِ الصَّالِحِينَ عِنْدَ اللهِ خَيْرُ الجَزَاءِ وَالثَّوابِ .
ــــــــــــــــ
قال تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) [النساء/13]
وَهَذِهِ الأَنْصِبَةُ التِي حَدَّدَهَا اللهُ تَعَالَى لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ المَيِّتِ هِيَ حُدُودُ اللهِ ، فَلاَ تَعْتَدُوا فِيها ، وَلاَ تَتَجَاوَزُوهَا . وَمَنْ يُطِعْ أَمْرَ اللهِ ، وَأَمْرَ رَسُولِهِ ، فَيمَا فَرَضَهُ اللهُ لِلْوَرَثَةِ ، فَلَمْ يُنْقِصْ لِبَعْضِهِمْ ، وَلَمْ يَزِدْ بَعْضَهُمْ بِحِيلةٍ أَدْخَلَهُ اللهُ جَنَّةً تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِداً فِيها ، وَهَذا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
ـــــــــــــــــ
قال تعالى : ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة/2-5]
لاَ شَكَّ في أَنَّ هَذَا القُرآنَ ( الكِتَابُ ) مُنْزَلٌ مِنْ عِندِ اللهِ ، وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لاَ يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ ( الغَيْبِ ) فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ . وَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِهَا وَيُتِمُّونَ - بِخُشُوعٍ تَامٍّ ، وَحُضُورِ قَلْبٍ - رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَتِلاوَتَهَا ، وَيُنْفِقُونَ ممَّا رَزَقَهُمُ اللهُ في وُجُوهِ الخَيرِ ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بما جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَبمَا أُنزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ ، وَلا يَجْحَدُونَ بما جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ في الآخِرَةِ .
فَهؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ : مِنْ إِيمَانٍ باللهِ ، وَإِيمَانٍ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ ، وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ، وَتَأْدِيةِ الزَّكَاةِ . . . هُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ ، وَهُمُ المُفْلِحُونَ الفَائِزُونَ الذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوهُ بعدَ السَّعيِ الحَثِيثِ فِي الحُصُولِ عَليهِ ، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا اجْتَنَبُوهُ .
وقال تعالى : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) [المائدة/12]
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَخَذَ العُهُودَ وَالمَوَاثِيقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَعْمَلُنَّ بِأَحْكَامِ التَّورَاةِ التِي تَحْوي شَرِيعَتَهُمْ . وَأَمَرَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ ، بِأنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ ، مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الاثْنَيِ عَشَرَ ، نَقِيباً يَكُونُ كَفِيلاً عَلَى جَمَاعَتِهِ ، بِالوَفَاءِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمرُوا بِهِ ، فَاخْتَارَ مُوسَى النُّقَبَاءَ ، وَأَخَذَ المِيثَاقَ وَتَكَفَّلَ لَهُ النُّقَبَاءُ بِالوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمُوا بِهِ .فَسَارَ بِهِمْ مُوسَى إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ التِي وَعَدَهُمُ اللهُ السُّكْنَى فِيهَا ، وَكَانَ فِيها الكَنْعَانِيُّونَ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا بَعَثَ مُوسَى النُّقَبَاءَ يَتَحَسَّسُونَ الأخْبَارَ ، فَرَأوا أجْسَامَ الكَنْعَانِيِّينَ قَوَّيةً ، فَهَابُوهُمْ ، وَرَجَعُوا يُحَدِّثُونَ قَوْمَهُمْ بِمَا رَأوا ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَنَكَثُوا المِيثَاقَ ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ إلاَّ نَقِيبَانِ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِبَني إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَان مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ : إنَّكُمْ بِحِفْظِي وَرِعَايَتِي ، وَإنِّي نَاصِرُكُمْ وَمُعِينُكُمْ مَا دُمْتُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى المِيثَاقِ ، وَإني مَشْرِفٌ عَلَيكُمْ ، وَمُبْصِرٌ لأَفْعَالِكُمْ ، سَمِيعٌ عَلِيمٌ بِضَمَائِرِكُمْ ، وَقَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِكُمْ ، فَإذا أقَمْتُمُ الصَّلاَةَ ، وَأدَّيتُمُوهَا حَقَّ أَدَائِها ، وَدَفَعْتُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جَمِيعاً ، وَصَدَّقْتُمُوهُمْ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ مِنَ الوَحْي ، وَنَصْرَتُمُوهُمْ وَآزَرْتُمُوهُمْ عَلَى الحَقِّ ( عَزَّرْتُمُوهُمْ ) ، وَأَنْفَقْتُم الأَمْوَالَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ ( أَقْرَضَتْمُ اللهُ ) . . . إذَا فَعَلْتُمْ كُلَّ ذَلِكَ لأكَفِّرنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ، وَأمْحُونَّ ذُنُوبَكُمْ ، وَأسْتُرُهَا عَلَيكُمْ ، وَلا أَؤاخِذُكُمْ عَلَيها وَلأدْخِلَنَّكُمْ فِي رَحْمَتِي ، وَأسْكِنُكُمْ جَنَّتِي التِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ . وَمَنْ خَالَفَ هَذا المِيثَاقَ بَعْدَ عَقْدِهِ وَتَوْكِيدِهِ ، فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الوَاضِحَ ، وَعَدَلَ عَنِ الهُدَى إلَى الضَّلالِ .
وقال تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة/71، 72]
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ ، وَمَوَدَّةٌ ، وَتَعَاوُنٌ ، وَتَرَاحُمٌ ، وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ : فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ ، وَيَأْمُرُونَ بِهِ ، وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ ، وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ . وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ ، فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ ، وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ .
وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخِرَةْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، يُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، فِي مَسَاكِنَ طَيِّبَةْ حَسَنَةِ البِنَاءِ ، وَطَيِّبَةِ القَرَارِ فِي هَذِهِ الجَنَّاتِ ، وَوَعَدَهُمْ بِرِضْوَانٍ مِنْهُ أَكْبَرَ وَأَجَلَّ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ . فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ : أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ : وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " ( رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمَالِكُ ) .
ـــــــــــــــــ
الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب
قال تعالى : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) [المائدة/82-85]
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّ أَكْثَر النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( الذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوهُ ) ، هُمُ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ . وَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ هُمُ النَّصَارَى ، الذِينَ قَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ يُتَابِعُونَ المَسِيحَ عَلَى دِينِهِ ، لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرِّقَّةِ وَالرَّأْفَةِ ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ ، وَيُبَصِّرُونَهُمْ بِمَا فِي دِينِهِمْ مِنْ سُمُوٍّ وَآدَابٍ وَفَضَائِلَ ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ رُهْبَاناً يَضْرِبُونَ لَهُمُ المَثَلَ فِي الزُّهْدِ وَالتَقَشُّفِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَزُخْرُفِهَا وَفِتْنَتِهَا ، وَيُنَمُّونَ فِي نُفُوسِهِمُ الخَوْفَ مِنَ اللهِ ، وَالانْقِطَاعَ لِلْعِبَادَةِ ، وَإنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الإِذْعَانِ لِلْحَقِّ ، حِينَمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أنَّهُ حَقٌّ . ( كَانَ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ يَشْتَرِكُونَ فِي بَعْضِ الصِفَاتِ التِي اقْتَضَتْ عَدَاوَتَهُمُ الشَّدِيدَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ : كَالكِبْرِ وَالعُتُوِّ وَالبَغْيِّ وَالأَثَرَةِ وَالقَسْوَةِ ، وَضَعْفِ العَاطِفَةِ الإِنْسَانِيَّةِ ( مِنْ حَنَانٍ وَرَحْمَةٍ ) وَالعَصَبِيَّةِ القَوْمِيَّةِ . وَكَانَ مُشْرِكُو العَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَرَقَّ مِنَ اليَهُودِ قُلُوباً ، وَأَعْظَمَ سَخَاءً وَإِيثَاراً ، وَأَكْثَرَ حُرِّيَّةً فِي الفِكْرِ وَاسْتِقْلالاً فِي الرَّأْيِ ) .
وَإذَا سَمِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ القُرْآنِ ، وَتُلِيَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ ، تُفيِضُ عُيُونُهُمْ بِالدَّمْعِ ( أَيْ يَبْكُونَ حَتَّى يَسيلَ الدَّمعُ مِنْ عُيُونِهِمْ ) ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ مَا بَيْنَهُ القُرْآنُ هُوَ الحَقُّ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ عُتُوٌّ وَلاَ اسْتِكْبَارٌ وَلا تَعَصُّبٌ كَمَا يَمْنَعُ غَيرَهُمْ . وَحِينَ يَسْمَعُونَ الحَقَّ الذِي جَاءَ بِهِ القُرْآنُ ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا جَاءَ فِي كُتُبِهِمْ ، يَتَضَرَّعُونَ إلى اللهِ بِأنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ إيمَانَهُمْ وَأنْ يَكْتُبَهُمْ مَعْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، لأنَّهُمْ يَعْلمُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ ، وَمِمَّا يَتَنَاقََلُونَهُ عَنْ أَسْلاَفِهِمْ ، أنَّ النَّبِيَّ الأَخِيرَ الذِي يَكْمُلُ بِهِ الدِّيْنُ ، وَيَتمُّ التَّشْرِيعُ ، يَكُونُ مُتَّبِعُوهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونُونَ حُجَّةً عَلَى المُشْرِكِينَ وَالمُبْطِلِينَ . وَيَقُولُ هَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّصَارَى : وَمَا الذِي يَمْنَعُنَا مِنْ أنْ نُؤْمِنَ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَمَا الذِي يَصُدُّنَا عَنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، بَعْدَ أنْ ظَهَرَ أنَّهُ رُوُحُ الحَقِّ الذِي بَشَّرَ بِهِ المَسِيحُ وَإِنَّنَا لَنَطْمَعُ أنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ بِالعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ . فَجَازَاهُمُ اللهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِرُسُلُهِ ، وَعَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِالحَقِّ ، وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ بِإدْخَالِهِمْ فِي رَحْمَتِهِ ، وَإسْكَانِهِمْ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي فِي جَنَبَاتِهَا الأَنْهَارُ ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أبَداً وَذَلِكَ هُوَ الجَزَاءُ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِمَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً .
وقال تعالى : وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف/156، 157]
وَأَثْبِتْ لَنَا ، بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ { واكتب لَنَا } حَيَاةً طَيِّبَةً فِي هذِهِ الدُّنيا ، مِنْ عَافِيةٍ وَبَسْطَةٍ في الرِّزْقِ ، وَتَوْفِيقٍ لِطَاعَةِ ، وَمَثُوبَةٍ حَسَنَةٍ فِي الآخِرَةِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، وَنَيْلِ رِضْوَانِكَ ، إِنَّنَا تُبْنَا إِلَيْكَ { هُدْنَآ إِلَيْكَ } مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ ، وَمِنْ تَقْصِيرِ العُقَلاءِ مِنّا فِي نَهْيِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيهِمْ .
وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دُعَاءِ مُوسَى قَائِلاً : لَقَدْ أَوْجَبْتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابِي خَاصّاً أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الكُفَّارِ وَالعُصَاةِ ، الذِينَ لَمْ يَتُوبُوا ، أَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ ، وَسَأُثْبِتُ رَحْمَتِي بِمَشِيئَتِي لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكُفْرَ وَالمَعَاصِيَ ، وَيُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَاتِ التِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُهُمْ ، وَلِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِي الدَّالَّةِ عَلَى الوحْدَانِيَّةِ ، وَيُصَدِّقُونَ رُسُلِي ، وَمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ الذِينَ يَشْمَلُهُمْ بِرَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ فَيَقُولُ : إِنَّهُمْ الذِينَ يَتَّبِعُونَ مُحَمَّداً النَّبيِّ الأُمِّيَّ ، الذِي لاَ يَكْتُبُ وَلاَ يَقْرَأُ ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ وَالبِشَارَةُ بِهِ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ الخَيْرَاتِ ، وَبِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، وَيَضَعُ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ ، كَاشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ ، وَالقِصَاصِ فِي القَتْلِ العَمْدِ أَوِ الخَطَإِ ، مِنْ غَيْرَ شَرْعٍ لِلدِّيَةِ ، وَقَطْعِ الأَعْضَاءِ الخَاطِئَةِ ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ ، وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ . . . فَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِمَا هُوَ يُسْرٌ وِسَمَاحَةٌ .
[ وَقَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم يُوصِي أَمِيرِينِ أَرْسَلَهُمَا فِي بَعْثَينِ إِلى اليَمَنِ : " بَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا " ] .
وَوَسَّعَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أُمُورَهَا ، وَسَهَّلَهَا لَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَالذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُميِّ ، حِينَ بُعِثَ ، مِنْ قَومِ مُوسَى وَعِيسَى ، وَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ، وَعَزَّرُوهُ بِأَنْ مَنَعُوهُ وَحَمَوْهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ ، مَعَ التَّعْظِيمِ وَالإِجْلاَلِ ، وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الأَعْظَمَ الذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ ، وَهُوَ القُرآنُ . . فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ، الفَائِزُونَ بالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ .
ــــــــــــــــ
قال تعالى : قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) [المائدة/119]
وَحِينَ تَبَرَّأَ عِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، مِنْ عِباَدَةِ مَنْ عَبَدُوهُ ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِدْقِهِ ، قَالَ تَعَالَى : هَذَا هُوَ اليَوْمُ الذِي يَنْفَعُ فِيهِ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، وَالمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ ، وَسَتَكُونُ للصَّادِقِينَ جَنَّاتٌ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، جَزَاءً وَفَاقاً لَهُمْ ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، وَلَقَدْ فَازُوا بِرِضَا رَبِّهِمْ وَرِضَوَانِهِ ، وَرَضُوا عَمَّا أَكْرَمَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ الذِي لاَ أَعْظَمَ مِنْهُ .
ـــــــــــــــ
المجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم
قال تعالى : لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) [التوبة/88-89]
إذَا تَخَلَّفَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الجِهَادِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَالمُؤْمِنِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَهَؤُلاَءِ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالخَيْرَاتِ : فِي الدُّنْيَا بِتَحْقِيقِ النَّصْرِ ، وَمَحُوِ الْكُفْرِ ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَالتَّمَتُّعِ بِالمَغَانِمِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِرِضَا اللهِ وَجَنَّاتِهِ .
وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
ـــــــــــــــ
السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن اتبع طريقهم
قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) [التوبة/100]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، ( وَهُمُ الذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ) ، وَمِنَ الأَنْصَارِ ( وَهُمُ الذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعَتَي العَقَبَةِ وَالرِّضْوَانِ ) ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَيُخْبِرُ تَعَالَى بِرِضَاهُ عَنْهُمْ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا ، مِنْ عِزٍّ وَنَصْرٍ وَمَغْنَمٍ وَهُدًى ، وَبِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ، مِنْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَوَانِبِهَا ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً . وَالفَوْزُ الذِي فَازَ بِهِ هَؤُلاَءِ الكِرامُ البَرَرَةُ هُوَ أَعْظَمُ الفَوْزِ .
ــــــــــــــــ
قال تعالى : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) [الرعد/19-24]
لا يَسْتَوِي المُهْتَدِي مِنَ النَّاسِ ، الذِي يَعْلَمُ أَنَّ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقُّ ، الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ ، مَعَ الضَّالِّ ، الذِي لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ ، لأنَّهُ يَكُونُ كَالأَعْمَى لاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ ، وَلاَ يَفْهَمُهُ ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ إِلَيْهِ ، وَلاَ صَدَّقَ بِهِ وَلاَ انْتَفَعَ . ؟ فَالذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ ، وَالبَصَائِرِ المُدْرِكَةِ ( أُولُو الأَلْبَابِ ) .
وَالمُهْتَدُونَ الذِينَ سَتَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَى ، هُمُ الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدُوا ، وَلاَ يُنْقِضُونَ عَهْدَهُمْ مَعَ عِبَادِهِ ، وَلاَ يَغْدُرُونَ بِذِمَّةٍ ، وَلا يَفْجُرُونَ وَلاَ يَخُونُونَ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصِلُونَ الأَرْحَامَ التِي أَمَرَ اللهُ بِوَصْلِهَا ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى الأَقْرِبَاءِ وَالفُقَرَاءِ ، وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالمَودَّةِ وَالحُسْنَى ، وَيَبْذُلُونَ المَعْرُوفَ ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِيمَا يَأْتُونَ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي ذَلِكَ ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، وَعَدَمِ الصَّفْحِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصْبِرُونَ عَنِ ارْتِكَابِ المَحَارِمِ وَالمَآثِمِ ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ مُقَارَفَتِهَا طَاعةً للهِ ، وَتَقَرُّباً إِلَيْهِ ، وَطَمَعاً بِمَرْضَاتِهِ وَجَزيلِ ثَوَابِهِ ، وَيُؤَدُّونَ الصَّلاةَ حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ عَلَى مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ ، مِنْ أَقْرِبَاءَ وَمُحْتَاجِينَ وَسَائِلِينَ . . فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ ، لاَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنَ الأَحْوَالِ ، فَإِذَا آذَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ بِالجَمِيلِ صَبْراً ، وَاحْتِمَالاً وَحِلْماً وَعَفْواً ، فَهَؤُلاَءِ لَهُمْ حُسْنُ العَاقِبَةِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .
وَتِلْكَ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ هِيَ دُخُولُ جَنَاتِ عَدْنٍ ، وَالإِقَامَةُ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا . وَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ مِنَ الآبَاءِ وَالأَزْوَاجِ وَالأَبْنَاءِ الصَّالِحِينَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ ، لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ؛ وَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ مُسْلِمِينَ مُهَنِّئِينَ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، وَبِرِضْوَانِ اللهِ عَلَيْهِمْ .وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ، وَأَمْنٌ دَائِمٌ لَكُمْ ، لَقَدْ صَبَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَاحْتَمَلْتُمُ المَشَاقَّ وَالآلاَمَ ، فَفُزْتُمْ بِرِضْوَانِ اللهِ ، فَنَعِمَتْ عَاقِبَتُكُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .
ـــــــــــــــ
قال تعالى : إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) [السجدة/15-19]
إِنَّمَا يُصَدِّقُ بآياتِ اللهِ الذِينَ إِذا وُعِظُوا بها استَمَعوا إِليها خَاشِعين ، وأَطَاعُوها مُمْتَثِلينَ ، وَخُرُّوا سُجَّداً للهِ خُضُوعاً وَخَشْيَةً ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتِّبَاعِها ، وَالانِقِيَادِ إِِليها .
وَهُمْ يَهْجُرونَ مَضَاجِعَهُمْ لِيَقُومُوا في اللِّيلِ إِلى الصَّلاةِ والنَّاسُ نِيَامٌ ، وَلِيَدْعُوا رَبَّهُمْ تَضَرُّعاً إِليهِ ، وَخَوْفاً مِنْ سَخطِهِ وَطَمَعاً فِي عَفْوِهِ عَنْهُمْ ، وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ ، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ مِنْ مَالٍ .
وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالى لِهؤلاءِ الكِرامِ البَرَرَةِ وَأَخْفَاهُ فِي الجَنَّاتِ مِنَ النًَّعيمِ المُقِيمِ ، واللذَائِذِ التِي لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلى مِثْلِها ، جَزَاءً وِفَاقاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، لَقَدْ أَخْفَوا أَعْمَالَهُمْ فَأَخْفَى اللهُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ .
ــــــــــــــ
من اصطفاهم الله تعالى من هذه الأمة
قال تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) [فاطر/32-35]
ثُمَّ جَعَلَ اللهُ تَعَالى القَائِمِينَ بالقُرآنِ العَظيمِ ، هُمُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ مِنْ عِبَادِهِ ، مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، وَأَوْرَثَهُمُ الكِتَابَ . وَقَالَ تَعَالى في مَكَانٍ آخَرَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِلقِيَامِ بِالقُرآنِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَجَعَلَهُمْ أقسَاماً ثَلاَثَةً :
- مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ ، مُرْتَكِبٌ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ .
- وَمِنْهُمْ مُقَتَصِدٌ ، وَهُوَ القَائِمُ بِالوَاجِبَاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَقَدْ يُقَصِّرُ في فِعْلِ بَعْضِ المُسْتَحَبَّاتِ ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ المَكْرُوهَاتِ .- وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ - وَهُوَ الفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ ، وَالمُسْتَحَبَّاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّماتِ والمَكْرُوهَاتِ .وَذَلِكَ المِيرَاثُ ، وَذَلِكَ الاصْطِفَاءُ ، فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لاَ يُقَدَّرُ قَدْرُهُ . وهؤلاءِ الكِرَامُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ من عباده ، الذين أُوْرِثُوا القُرآنَ ، والكُتُبَ السَّابِقَةَ ، سَتَكُونُ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) هِيَ مأْوَاهُمْ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَلْبَسُونَ فِيها حَلِيّاً مِنْ ذَهَبٍ ، وَلُؤْلُؤٍ ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنْ حَرِيرٍ ، وَهذِهِ الجَنَّاتُ هِيَ الفَضْلُ الكَبِيرُ الذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ .وَيَقُولُونَ حِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ، وَيَلْبَسُونَ الحَرِيرَ ، وَيَتَحَلَّونَ بِالذَّهَبِ وَاللُؤْلُؤِ : الْحَمْدُ للهِ الذِي أَذْهَبَ عَنَّا الخَوْفَ ( الحَزَنَ ) مِمَّا كُنَّا نَحْذَرُ وَنَتَخَوَّفُ . إِنَّ رَبَّنا سُبَحَانَهُ وَتَعَالى غَفُورٌ لِذُنُوبِ المُذْنِبِينَ ، شُكُورٌ لأَفْعَالِ المُطِيعِينَ . واللهُ تَعَالى هُوَ الذِي أَعْطَانَا هذِهِ المَنزِلَةَ وَهذَا المَقَامَ الكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ وَمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُنا لِتَبْلُغَ ذَلِكَ ، لاَ يَمَسُّنا فِي هذِه الدَّارِ عَنَاءٌ وَلاَ تَعَبٌ وَلاًَ إِعْيَاءٌ .
ــــــــــــــــ
وقال تعالى : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) [ص/45-54]
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ أَيْضاً صَبْرَ عِبَادِ اللهِ : إِبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ وَيَعْقًُوبَ ، الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ ، وَقَوَّاهُمْ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ الذِي يَرْضَى الله عَنْهُ ، وَآتَاهُمُ البَصِيرَةَ فِي الدِّينِ والفِقْهِ فِي أَسْرَارِهِ ، والعَمَلِ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ ، فَجَعَلَهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَ بِأَيْدِيهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ بِعُقُولِهِمْ .
( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى أُوْلِي الأَيْدِي : إنَّهُمْ ذَوُو قُوَّةٍ ، وَقَالَ فِي مَعْنَى ( وَالأَبْصَارِ ) ، إِنَّهُ الفِقْهُ فِي الدِّينِ ) .وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْلَصَهُمْ وَمَيَّزَهُمْ خَاصَّةٍ ، هِيَ ذِكْرُهُمُ الدَّار الآخِرَةَ لِيَعْمَلُوا لَهَا ، فَهَذِهِ مِيزَتُهُمْ وَرِفْعَتُهُمْ .
وَهَذِهِ السَّيرَةُ جَعَلَتْهُمْ عِنْدَ اللهِ مَجتَبْينَ أَخْيَاراً ، وَمُصْطَفَيْنَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ . وَاذْكُر أَنْبِيَاءَ اللهِ إِسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَ الكِفْلِ الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُصْطَفَيْن الأَخْيَارِ وَتَأَمَّلْ صَبْرَهُمْ ، وَرَحْمَةَ اللهِ بِهِمْ .
وَهَذَا الذِي تَقَدَّمَ سَرْدُهُ ، مِنْ أَخْبَارِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ ، فِيهِ ذِكْرٌ لَهُمْ ، وَشَرَفٌ ، وَإِشَادَةٌ بِمَحَاسِنِهِمْ ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ . والمُؤْمِنُونَ السُّعَدَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ المُنْقَلبُ الحَسَنُ ، وَالمآبُ الكَرِيمُ .
وَهَذَا المآبُ الحَسَنُ هُوَ جَنّاَتُ اسْتِقْرَارٍ وَإِقَامَةٍ مُفَتَّحَةٌ أَبْوَابُهَا إِكْرَاماً لَهُمْ لِيَدْخُلُوهَا آمِنِينَ .وَيَجْلِسُون فِي الجَنَّةِ مُتَّكِئِينَ عَلَى الأَرَائِكِ فِي وَضْعِ المُطْمَئِنِّ المُرْتَاحِ فِي جَلْسَتِهِ ، وَيَطْلُبُونَ مَا يَشَاؤُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الفَوَاكِهِ والشَّرَابِ بِلاَ تَحْدِيدٍ ، وَهَذَا هُوَ مُنْتَهَى النَّعِيمِ .
وَعِنْدَهُمْ نِسَاءٌ لاَ يَمْدُوْنَ أَبْصَارَهُنَّ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ حَيَاءً وَخَفَراً ، وَهُنَّ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي السِّنِّ مَعَهُمْ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الوِفَاقِ بَيْنَهُمْ .
وَهَذَا النَّعِيمُ فِي الجَنَّاتِ التِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى ، فَيمَا تَقَدَّمَ ، هُوَ مَا وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِأَنَّهُ سَيجْزِيهِمْ بِهِ فِي يَوْمِ الحِسَابِ فِي الآخِرَةِ .
ـــــــــــــــــ
قال تعالى : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) [غافر/7-9]
إِنَّ المَلاَئِكَةَ الذِينَ يَحْمِلُونَ عَرْشَ رَبِّهِمْ ، وَالمَلاَئِكَةَ الذِينَ هُمْ مِنْ حَوْلِهِ يُنَزِّهُونَ اللهَ تَعَالَى ، وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ ، وَلاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لِلمُسِيِئينَ الذِينِ تَابُوا وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهِمْ مِنْ فَعْلِ الخَيرِ ، وَتَرَكِ المُنْكَرِ ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يُجَنِّبَ ( يَقِي ) هَؤُلاَءِ التَّائِبِينَ الْمُنِيبِينَ عَذَابَ النَّارِ .
وَتُتَابعَ المَلاَئِكَةُ الأَطْهَارُ دُعَاءَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ ، فَيَسْأَلُونَ رَبَّهُم تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَهُم الجَنَّاتِ التِي وَعَدَهُمْ تَعَالَى بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ ، وَأَنْ يُدْخِلَ مَعَهُم الجَنَّاتِ الصَّالِحِينَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِيَّاتِهِمْ لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ ، فَإِن الاجْتِمَاعَ بِالأَهْلِ والعَشِيرَةِ فِي مَوَاضِعِ السُّرُورُ يَكُونَ أَكْمَلَ لِلْبَهْجَةِ والأُنْسِ ، فَأَنْتَ يَا رَبّ الغَالِبُ الذِي لاَ يُقَاوَمُ ، الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَفَعْلِهِ وَتَدْبِيرِهِ .وَاصْرِفْ عَنْهُمْ عَاقِبَةَ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ قَبْلَ تَوْبَتِهِمْ ( أَوِ اصْرِفْ عَنْهُمْ فِعْلَ السَّيِّئاتِ ) ، وَمَنْ تَصْرِفْ عَنْهُ عَاقِبَةَ مَا ارْتَكَبَ مِنْ السَّيِّئَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإِنَّكَ تَكُونَ قَدْ رَحِمْتَهُ ، وَنَجَّيْنَهُ مِنْ عَذَابِكَ ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ الأَكْبَرُ الذِي لاَ يَعْدِلُهُ فَوْزٌ .
ــــــــــــــــ
طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم
قال تعالى : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) [الفتح/17]
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالى في هذِهِ الآيَةِ الأَعْذَارَ المُبِيحَةَ للقُعُودِ عَنِ الجِهَادِ ، فَيَقُولُ : إِنَّهُ لا إِثمَ وَلاَ مَلاَمةَ عَلَى الذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عنِ الخُرُوجِ إِلى الجِهَادِ مَعَ المُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ مَا بِهِمْْ مِنْ عِلَلٍ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الخُرُوجِ ، وَمِنَ القِتَالِ : كَالعَمَى وَالعَرَجِ وَالمَرضِ . ثُمَّ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى الجِهَادِ ، وَرَغَّبَهُم فِيهِ ، وَبَيَّنَ لَهُم مَا أَعَدَّهُ لِلْمَجَاهِدِينَ مِنْ أجرٍ وَثَوابٍ في الآخِرَةِ ، فَقَالَ تَعَالى : وَمَنْ يُطِع اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَيُجِبِ الدَّعْوةَ إِلى مُجَاهَدَةِ الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ دِفَاعاً عَنْ دِينهِ ، وَإعلاءً لِكَلِمَةِ رَبِّهِ ، فَإِنَّ اللهَ سَيُدْخِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ جِنَّاتٍ تَجري الأَنْهارُ مِنْ تَحْتِها ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَرْفُضِ الخُرُوجَ إِلى الجِهَادِ فإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُه عَذَاباً أَلِيماً .
ـــــــــــــــــ
الذين لا يوادون من حادَّ الله ورسوله
قال تعالى : لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) ( المجادلة)
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ، وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ ، لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ ، وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ ، وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ ، هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ، وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ . وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ ، وَجُنْدُهُ ، وَحِزْبُهُ ، وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
ــــــــــــــــــ
الإيمان بالله ورسوله والمجاهدون في سبيله
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) [الصف/10-13]
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالمُصَدِّقُونَ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَآيَاتِهِ ، أَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلِّكُمْ عَلَى صَفَقَةٍ رَابِحَةٍ ، وَتِجَارَةٍ نَافِعَةٍ ، تَفُوزُونَ فِيهَا بِالرِّبْحِ العَظِيمِ ، وَتْنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ الأَلِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وَهِذِهِ الصَّفَقَةُ هِيَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَتَصَدِّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا أَنْزَلَهَ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ وَتُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ رَفْعِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَعِزَّةِ دِينِهِ ، بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ، كَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَكُمْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ فِي الدُّنْيَا : مِنَ النَّفْسِ وَالمَالِ وَالزَّوْجِ وَالوَلَدِ ، هَذَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّهُ اللهَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ فِي الآخِرَةِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
وَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ سَتَرَ اللهُ ذُنُوبِكُمْ وَمَحَاهَا ، وَأَدْخَلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَأَسْكَنَكُمْ مَسَاكِنَ طَيِبةً تَقَرُّ بِهَا العُيُونَ ، وَهَذا هُوَ مُنْتَهَى ما تَصْبُوا إِليهِ النُّفُوسُ ، وَهُوَ الفَوْزُ الذِي لاَ فَوْزَ أَعْظَمَ مِنْهُ .
وَلَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ، مَعَ الفَوْزِ فِي الآخِرَةِ ، الذِي وَعَدَكُمْ اللهُ بِهِ ، نِعْمَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَها ، وَهِيَ نَصْرٌ مِنَ اللهِ ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، تَجْنُونَ مَغَانِمَهُ ، وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ المُؤْمِنينَ بِهَذَا الجَزَاءِ .
ــــــــــــــــ
قال تعالى :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) [التحريم/8]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا سَبَقَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ .
" وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ : هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ ، فَتَسْتَغْفِرُ الله بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الحَاضِرِ ، ثُمَّ لاَ تَعُودُ إِليهِ أَبداً " ( أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ) .
ثُمَّ يُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا تَوْبَةً نَصُوحاً تَابَ اللهُ عَليهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، وَأَدخَلَهُمْ بِرَحْمَتِهِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ . وَهُوَ اليومُ الذِي يَرْفَعُ الله فِيهِ قَدْرَ رَسُولِهِ الكَرِيمِ ، وَقَدْرَ المُؤْمِنينَ مَعَهُ . وَيَجْعَلُ نُورَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَومِ يَسْعَى بَينَ أَيْدِيهِمْ ، حِينَ يَمْشُونَ وَكُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ ، وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يُبْقِي لَهُمْ نُورَهُمْ ، فَلا يَطْفِئُهُ حَتَّى يجُوزُوا الصِّرَاطَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِم السَّالِفَةِ ، وََيَقُولُونَ : رَبَّنَا العَظِيمَ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَلاَ يُعْجِزُكَ شَيءٌ .
ــــــــــــــــــ
قال تعالى : إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) [المعارج/19-38]
إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ سَرِيعَ الانْفِعَالِ والتَّأَثُّرِ ، فَهُوَ شَدِيدُ الجَزَعِ ، إِذَا مَسَّهُ مَكْرُوهٌ ، كَثِيرُ المَنْعِ ، إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نِعْمَةٌ . ثُمَّ فَسَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ والتِي بَعْدَهَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( هَلُوعاً ) ، فَقَالَ : إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ والضُّرُّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الحُزْنُ ، وَانْخَلَعَ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ ، وَيَئِسَ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيهِ خَيْرٌ بَعْدَهَا أَبَداً . وَإِذَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ بَخِلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، وَمَنَعَ حَقَّ اللهِ فِيهَا .
وَلاَ يَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ الإِنْسَانِ الذَمِيمَةِ ، التِي تَتَمَثَّلُ بِالهَلَعِ وَالجَزَعِ وَالمَنْعِ ، إِلاَّ المُؤْمِنِينَ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى الخَيْرِ ، وَهُمْ المُصَلُّونَ .
الذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا ، لاَ يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا شَاغِلٌ ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَضْلِ المُدَاوَمَةِ عَلَى العِبَادَةِ .
وَالذِينَ يَجْعَلُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيباً مُعَيَّناً يُنْفِقُونَهُ تَقَرُّباً مِنَ اللهِ ، وَطَلَباً لِمْرَضَاتِهِ .يُنْفِقُونَهُ عَلَى ذَوِي الحَاجَاتِ والبَائِسِينَ الذِينَ يَسْأَلُونَهُمُ العَوْنَ .
وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ المَعَادِ وَالحِسَابِ فَيَعْمَلُونَ لَهُ وَتَظْهَرُ آثَارُ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ .
وَالذِينَ هُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ تَرْكِهِم الفُرُوضَ وَالوَاجِبَاتِ ، وَمِنِ ارْتِكَابِ المَحْظُورَاتِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَباً فِي حِرْصِهِمْ عَلَى أَدَاءِ .
وَلاَ يَنْبَغِي لِعَاقِلِ أَنْ يَأَمَنَ عَذَابَ اللهِ ، وَإِنْ زَادَ فِي الطَّاعَاتِ ، وَلاَ يَأْمَنُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِأَمَانٍ مِنَ اللهِ .
والذِينَ يَكُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّسَاءِ ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى أَلاَّ يُقَارِفُوا مُحَرَّماً لَمْ يُبِحْهُ اللهُ لَهُمْ .
وَلاَ يَقْرَبُونَ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ اللهُ مِنْ أَزْوَاجٍ ، أَوْ مِنْ إِمَاءٍ يَمْلِكُونَهُنَّ ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَأْثَمُونَ ، وَلاَ يُلاَمُونَ إِذَا أَتَوا نِسَاءَهُمْ وَإِمَاءَهُمْ .وَمَنْ سَعَى إِلَى مُوَاقَعَةِ غَيْرِ مَنْ أَحَلَّهُنَّ اللهُ لَهُ مِنَ الأَزْوَاجِ وَالإِمَاءِ ، فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ ، مُتَجَاوِزٌ حُدُودَهُ .
وَالذِينَ إِذَا ائْتُمِنُوا عَلَى أَمَانَةٍ رَدُّوهَا إِلَى أَصْحَابِهَا ، وَلَمْ يَخُونُوا ، والذِينَ إٍِذَا عَاهُدُوا عَهْداً رَاعَوْهُ وَوَفَوْا بِهِ ، وَلَمْ يَغْدِرُوا ، وَلَمْ يَتَأَوَّلُوا .
وَالذِينَ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ ، إِذَا دُعُوا إِلَى أَدَائِهَا عِنْدَ الحُكَّامِ ، وَلاَ يَكْتمُونَهَا وَلاَ يُغَيِّرُونَهَا ، والشَّهَادَةُ أَمَانَةٌ مِنَ الأَمَانَاتِ التِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَدَائِهَا عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ والصَّحِيحِ .
والذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى أَدَاءِ صَلَواتِهِمْ فِي أَوْقَاتِهَا ، يُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُتمُّونَهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا ، وَخُشُوعِهَا ، وَيَجْتِهِدُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَسْتَبْعِدوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْهِيَهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَفَهْمِ مَا يَقْرَؤُونَ مِنَ القُرْآنِ وَإِدْرَاكِ مَا يَفْعَلُونَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَمِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ . وَهَؤُلاَءِ الذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِالصِّفَاتِ السَّالِفَةِ وَيَقُومُونَ بِالعِبَادَاتِ عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي جَنَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيُؤَمِّنُهُمْ مِنْ هَوْلِ الفَزَعِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، وَيُكْرِمُهُمْ بِفَيْضٍِ مِنَ الكَرَامَاتِ التِي اخْتَصَّ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ المُخْلِصِينَ .
ـــــــــــــــــ
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
قال تعالى : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) [آل عمران/104]
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ ، وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ ، تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين ، وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ ، وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ ، وَتَنْهَى عَنْهُ ، وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
وقال تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة/71، 72]
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ ، وَمَوَدَّةٌ ، وَتَعَاوُنٌ ، وَتَرَاحُمٌ ، وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ : فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ ، وَيَأْمُرُونَ بِهِ ، وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ ، وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ . وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ ، فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ ، وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ .
وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخِرَةْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، يُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، فِي مَسَاكِنَ طَيِّبَةْ حَسَنَةِ البِنَاءِ ، وَطَيِّبَةِ القَرَارِ فِي هَذِهِ الجَنَّاتِ ، وَوَعَدَهُمْ بِرِضْوَانٍ مِنْهُ أَكْبَرَ وَأَجَلَّ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ . فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ : أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ : وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " ( رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمَالِكُ )
ـــــــــــــــــــ
قال تعالى : أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) [يونس/62-64]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ ، لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا .
وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً ( أَوْلِيَاءَ اللهِ ) : بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ ، فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ ، لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ ، وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ ، وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ ، وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ ، وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ ( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا العَبْدُ ، أَوْ تُرَى لَهُ ، وَهِيَ فِي الآخِرَةِ الجَنَّةُ " ) ( رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُ ( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) ، وَلاَ يُغَيَّرُ وَلاَ يُخْلَفُ ، بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ . وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
ـــــــــــــــــ
قال تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) [الحديد/11-12]
مَنْ هَذَا الذِي يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَطَمَعاً فِي مَثُوبَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ ، مُحْتَسِباً أَجْرَهُ عِنْدَ اللهِ ، فَيَعُدُّ اللهُ لَهُ ذَلِكَ قَرْضاً للهِ تَعَالَى ، فَيُضَاعِفُ لَهُ ذَلِكَ القَرْضَ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً ، وَيُثيبُهُ مَثُوبَةً كَرِيمةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَرَى المُتَصَدِّقِينَ ، مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ، يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ ، وَتَكُونُ كُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ ، وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ : أَبْشِرُوا بِجَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا جَزَاءً لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ الصَّالِحَةِ ، وَهَذَا الذِي فُزْتُمْ بِهِ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
ــــــــــــــــ
أن يحكموا الله والرسول في كل أمور حياتهم
قال تعالى : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) [النور/51، 52]
أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَهَؤُلاءِ الذينَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ ، هُمُ المُفْلِحُونَ ، لأَنَّهُمْ يَنَالُونَ مَا يَطْلبُونَ ، وَيَسْلَمُونَ مِمَّا يَرْهَبُونَ .
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا بِهِ ، وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ ، وَمَنْ يَخْشَ اللهَ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ ، وَيَتَقَّهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ والأَعْمَالِ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ ، وَالآمِنُونَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
ـــــــــــــــ
قال تعالى : فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) [الروم/38]
وإِذا كَانَ اللهُ تَعَالى هُوَ الذِي يُبْسُطُ الرِّزْقَ ، وَيَقْدِرُهُ ، فأَعطِ يا أَيُّها النَّبِيُّ أَنتَ والمُؤِمِنُونَ ، مَا تَستَطِيعُونَ إِعطَاءَهُ مِنَ المَالِ لِلفُقَراءِ والمُحْتاجِينَ مِنَ الأَقَارِبِ والمَسَاكِينِ الذينَ لا مالَ لَهُمْ ، ولِلْمُسَافرينَ أبناءِ السَّبيلِ الذينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ ، وَهُمْ بَعيدُونَ عَنْ أَهْلِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ لِيتَمَكَّنُوا مِنَ العَوْدَةِ إِلى بَلَدِهِمْ .
ثمَّ يَقُولُ تَعالى : إِنّ الإِعطَاءِ لهؤلاءِ المُحتاجِينَ فيهِ خيرٌ للمُعْطِينَ عندَ اللهِ ، وهوَ الذِي يَتَقَبَّلُ العَملَ الصَّالِحَ ، ويَجزِي بهِ فَاعِلَهُ الثَّوابَ الجَزيلَ ، وَقَد رَبحَ هؤلاءِ المُعْطُونَ في صَفْقَتِهِمْ لأَنَّهُمْ أعْطَوا ما يَفْنَى ، وَحَصَلُوا عَلى مَا يَبْقَى ( وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى : { ذَلِكَ خَيرٌ لِمَنْ يُريدُ وَجْهَ اللهِ } هُوَ : ذَلِكَ خيرٌ لِلذِينَ يُريدُون النَّظرَ إِلى وجهِ اللهِ يومَ القِيامة ) .
ـــــــــــــــــ
قال تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) [الحشر/9]
أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ ، حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ ، فَقَالَ تَعَالَى : والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ ، وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، يُحِبُّونَ المُهَاجِرِينَ ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ ، كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ فِي دُورِهِمْ ، وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ . وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ ، وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ، لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ . وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ ، وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ .
( رُوِيَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ حُسْنَ مُوَاسَاةٍ فِي قَليلٍ ، وَلاَ حُسْنَ بَذْلٍ فِي كَثِيرٍ ، لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ ، وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَأ ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ . قَالَ : لاَ . مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ، وَدَعَوْتُمْ لَهُمُ اللهَ ) .وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ .وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ " . ( البُخَارِيُّ ) .وَمَنْ سَلِمَ مِنْ آفَةِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالبُخْلِ ، فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ .وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُحَّ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَطُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ " .
وقال تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) [التغابن/16-17]
فَابْذُلُوا فِي تَقْوَى اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الجَهْدِ وَالطَّاقَةِ ." وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَمَا نَهِيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) واسْمعُوا وَأَطِيعُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَاعْمَلُوا بِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ عَلَى الأَقَارِبِ وَالفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ ، وَأَحْسِنُوا إِلَى عِبَادِ اللهِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيكُمْ يَكْنْ ذَلِكَ خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . وَمَنْ يَبْتَعِدْ عَنِ البُخْلِ وَالحِرْصِ عَلَى المَالِ ، يَكُنْ مِنَ الفَائِزِينَ .ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ مَالٍ فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَتَقَرُّباً إِليهِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُدُّ ذَلِكَ الإِنْفَاقَ مُقَدَّماً إِلَيه تَعَالَى ، وَهُوَ يُخْلفُهُ وَيَرُدُّهُ إِلَى المُنْفقِينَ - أَضْعَافاً كَثِيرَةً - الحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِها إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ - وَيَمْحُو عَنْكُمْ بِها سَيِّئَاتِكُمْ ، وَيَسْتُرُهَا عَلَيْكُمْ ، وَاللهُ شكُورٌ يَجْزِي عَلَى القَلِيل بِالكَثِيرِ ، وَهُوَ كَثِيرُ الحِلْمِ وَالمَغْفِرَةِ ، يَغْفِرُ وَيَسْتُرُ ، وَلاَ يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ عِبَادَهُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالأَخْطَاءِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ مُسْتَغْفِرْينَ .
ـــــــــــــــــ
أن يتولوا الله ورسوله والمؤمنين
قال تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) [المائدة/55-56]
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ .
وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ ، وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ، وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَلاَّهُمُ اللهُ .
ــــــــــــــــــ
الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قال تعالى : الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) [التوبة/20-22]
فَالذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ دَرَجَةً وَمَقَاماً ، وَأَكْثَرُ مَثُوبَةً مِنَ الذِينَ عَمَّرُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ، وَسَقَوْا الحَاجَّ فِي الجَّاهِلِيةِ . وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ ، وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّاتِهِ .
وَهَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ مَلاَئِكَتِهِ حِينَ مَوْتِهِمْ ، بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانٍ ، وَبِأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِهِ الوَاسِعَةَ ، وَسَيبقَوْنَ فِيهَا أَبَداً فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ ، وَالرِضْوَانُ مِنَ اللهِ هُوَ نِهَايَةُ الإِحْسَانِ ، وَأَعْلَى النَّعِيمِ ، وَأَكْمَلُ الجَزَاءِ .
وَسَيَكُونُ هَؤُلاَءِ الكِرَامُ مُخَلَّدِينَ فِي الجَنَّةِ أَبَداً وَهَذا جَزَاءٌ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ، وَاللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ الأَجْرُ العَظِيمُ لِمَنْ آمَنَ وَجَاهَدَ ، وَقَامَ بِمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ الإِسْلاَمُ .
______________
صفة نعيم الجنة في القرآن والسنَّة
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ».[1]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ ، قَالَ : يَا جِبْرِيلُ ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا ، فَذَهَبَ فَنَظَرَ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ ، وَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ ، إِلاَّ دَخَلَهَا ، فَحَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ ، ثُمَّ قَالَ : اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : يَا رَبِّ ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَدْخُلُهَا أَحَدٌ ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ ، قَالَ : يَا جِبْرِيلُ ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا ، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : يَا رَبِّ ، وَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ ، فَيَدْخُلُهَا ، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ ، ثُمَّ قَالَ : اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا ، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : يَا رَبِّ ، وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا.[2]
ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل جبريل-عليه السلام- عندما رأى ما أعده الله تعالى من النعيم المقيم لعباده في الجنة,ظنّ أن كل من يسمع بالجنة ونعيمها سيعمل من أجل أن يدخلها, لذا قال" فوعزتك لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها".
بعد أن قال جبريل- عليه السلام- ذلك, أمر الله تعالى بالجنة فحفّت بالمكاره, ثمّ قال لجبريل:ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فرجع إليها,فإذا هي قد حفّت بالمكاره .فعلم بذلك أنّه لم يعد الطريق إليها سهلاً, بل هو طريق وعـرٌ محفـوف بالمتاعب والآلام والدموع والعرق والدم والتضحيات, وبذل كل ما في الوسع, ليس طريقًا مليئًا بالمتع والشهوات والنزوات, فمن أراد الجنة ونعيمها فليوطِّن نفسه لتحمل هذه المكاره التي حُفت بها الجنة- وهي الأمور التي تكرهها النفس لمشقتها- فلا يصل إلى الجنة أحدٌ إلا إذا تجرَّع من غصص هذه المكـاره التي تحيط بها, ففي الحديث الشريف قد شبه حال التكاليف الشاقة على النفس-التي حُفت بها الجنة-والتي ينبغي على من يريد الجنة أن يؤديها ويقـوم بها خير قيام كالصبر على المحن والبلايا والمصائب, والصبر على الطاعـات التي تشق على النفس كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك, شبّه كل ذلك بحـال أسوار ٍكثيفـةٍ من الأشواك التي يكمن فيها كل حيوان ضارٍّ من الوحوش والحيات والعقارب, وهذه الأسوار الكثيفـة الكريهـة محيطـة ببستان ٍعظيم ٍتلتف به من كل مكان بحيـث لا يستطيع أن يصل أحدٌ إلى هذا البستان ولا يحظى بالتنعم بما فيه إلا بعد أن يتخطى هذه الأسوار البغيضة, ويتجشم المشاق التي تلحقه حين سلوكه فيها,ولا شك أن ذلك يحتاج إلى جهادٍ طويل شاق,وصبر ٍدائم, كذلك الجنة لا ينالها ويحظى بنعيمها الدائم إلا من تخطى شدائد دنيــاه, مجاهدًا نفسه,صابرًا على ما يصيبه, راضيًا بقضاء الله تعالى,قائمًا بتكاليف الإسلام خير قيام,مضحيًا بالنفس والمال في سبيل نيل مطلوبه,فالجنة هي الثمن الذي اشترى الله به نفوس المؤمنين وأموالهم, قال تعالى: ( إنّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفُسَهمْ وأموالَهمْ بأنَّ لهمُ الجنّة َيُقاتِلون في سبيل ِاللهِ فيَـقتُـلونَ ويُـقتَـلونَ وعْـدًا عليهِ حقًا في التوراةِ والإنجيل ِوالقرآن ِومَنْ أَوْفـَى بعهدِهِ مِنَ اللهِ فاسْتَبشِرُوا بِبَيْعكمُ الذي بايَعْتُمْ به وذلك هو الفوزُ العظيـمُ) {التوبة:111} قال شمر بن عطية:ما من مسلم ٍإلا لله عزّ وجلّ في عنقه بيعة, وفَّّى بها أو مات عليها ثمّ تلا الآية السابقة[3].
بل أكدَّ الله تعالى الوعد الذي ذكره في هــذه الآية وأخبر بأنّه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه العظيمة : التوراة والإنجيــل والقرآن, ثمّ بشَّر من قام بمقتضى هذا العقد, ووفَّـَّى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم.
ورحم الله من قال:
يا سلعةَ الرحمن ِلست رخيصة ً......... بـل أنتِ غالية ٌعلى الكسلان ِ
يا سلعة الرحمـن ليس ينالُها ......... في الألـفِ إلا واحـدٌ لا اثنان ِ
يا سلعة الرحمن أين المشتري........ِ . فلقـد عُرِضتِ بأيسـر الأثمان ِ
يا سلعة الرحمن هل من خاطب ٍ......... فالمهرُ قبل المـوتِ ذو إمكان
يا سلعة الرحمن لـولا أنَّهـا ......... حُجِـبَتْ بكلِّ مكـاره ِالإنسان
ِما كان قـطُّ من متخلفٍ ......... وتَعَــلتْ دارُ الجـزاءِ الثاني
لكنَّها حُجِـبَتْ بكلِّ كـريهـةٍ.......... ليُصـدَّ عنها المبطلُ المتواني
وتنالهـا الهـممُ التي تَسْـمُو ........ إلى ربِّ العلا بمشيئةِ الرحمن ِ
فاتْعَـبْ ليوْم ِمعادِك الأدنى ......... تَجِدْ راحاتهِ يومَ المعادِ الثاني
ولنذكر- الآن- طرفًا من بعض التكاليف التي قد حُفَّت بها الجنة مع مشقتها على النفس:
وهو فرض كفاية على المسلمين ليكفُّوا شرَّ الأعداء عن حوزة الإسلام, ولنشر تعاليم الدين السمحة, وفضله عظيم،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - r - قَالَ « تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى خَرَجَ مِنْهُ { مَعَ مَا نَالَ } مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ » [4].
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِى سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَإِيمَانًا بِى وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِى فَهُوَ عَلَىَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّى أَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ »[5]. الكلم : الجرح
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ »[6].
وهو مع فرضيته وفضيلته إلا أنه مكروه على النفس, وذلك لأنَّ فيه مشقة وشدة, فإنَه إما أن يُقتل الإنسان أو يجرح, مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء, ومع أن النفس تكرهه إلا أنه خيرٌ لها, لذا قال تعالى: ( كُتِبَ عليكم القتـــالُ وهـو كُرْهٌ لَّكُم وعَسى أنْ تَكرهوا شَيْئًا وهو خَيرٌ لَّكم وعسى أنْ تُحبُّوا شيئًا وهـو شرٌّ لكم والله يعلمُ وأنتم لا تعلمـون) {البقرة:216}.
كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالإِنْفَاقِ عَلَى اليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ لِحِمَايَةِ المُجْتَمَعِ مِنْ دَاخِلِهِ ، كَذلِكَ فَرَضَ اللهُ الجِهَادَ عَلَى المُسْلِمِينَ ، وَمُحَارَبَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ ، لِيَكُفُّوا عَنْ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ شَرَّ أَعْدَائِها . وَالجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَة إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الأُمَّةِ سَقَطَ عَنِ البَاقِينَ ، وَالجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ غَزا أَوْ قَعَدَ ، فَالقَاعِدُ عَلَيهِ أَنْ يُعينَ إِذا اسْتَعَانَ بِهِ النَّاسُ ، وَأَنْ يُغيثَ إِذَا اسْتَغَاثُوا بِهِ ، وَأَنْ يَنْفِرَ إِذا اسُتُنْفِرَ .
وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّ الجِهَادَ فِيهِ كُرْهٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَى الأَنْفُسِ ، مِنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ ، إِلَى مَخَاطِرِ الحُرُوبِ وَمَا فِيهَا مِنَ جَرْحٍ وَقَتْلٍ وَأَسْرٍ ، وَتَرْكٍ لِلْعِيَالِ ، وَتَرْكٍ لِلتِّجَارَةِ وَالصَّنْعَةِ وَالعَمَلِ . . إلخ ، وَلكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الخَيْرُ لأَنَّهُ قَدْ يَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ بِالأَعْدَاءِ ، وَالاستِيلاءُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَبِلاَدِهِمْ . وَقَدْ يُحِبُّ المَرْءُ شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَهُ ، وَمِنْهُ القُعُودُ عَنِ الجِهَادِ ، فَقَدْ يَعْقُبُهُ استِيلاءُ الأَعْدَاءِ عَلَى البِلادِ وَالحُكْمِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْلَمُها العِبَادُ .
2-الصبر على النوائب, والرضا بقضاء الله:
قال تعالى: (أَمْ حَسِبتمْ أن تَدْخلُوا الجنَّة َوَلَمَّا يعلمِ اللهُ الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين){آل عمران:142}
وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ .
وقال تعالى: (أَمْ حَسبْتُمْ أن تَدْخُلوا الجنَّة َوَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْا من قبلِكم مَّسَّتْهُمُ البَأْســـاءُ والضــراءُ وزُلْزِلُوا حتى يقولَ الرســولُ والذين آمنُوا مَعَهُ مَتَى نصرُ اللهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللهِ قريبٌ){البقرة:214}
يُخَاطِبَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ هَدَاهُمْ إِلى السِّلْمِ ، وَإِلَى الخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَةِ الاخْتِلاَفِ ، إِلى نُورِ الوِفَاقِ ، بِاتِّبَاعِهِمْ هُدَى الكِتَابِ زَمَنَ التَّنْزيلِ ، الذِينَ يَظُنُّونَ مِنْهُمْ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ إِلى الإِسْلاَمِ فِيهِ الكِفَايَةُ لِدُخُولِ الجَنَّةِ دُونَ أَنْ يَتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ وَالأَذَى فِي سَبيلِ الحَقِّ ، وَهِدَايَةِ الخَلْقِ ، جَهْلاً مِنْهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الهُدَى مُنْذُ أَنْ خَلَقَهُمْ . فَيَقُولُ لَهُمْ : هَلْ تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ تُبْتَلَوا وَتُخْتَبَرُوا كَمَا فُعِلَ بِالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ ابْتُلُوا بِالفَقْرِ ( البَأَسَاءُ ) ، وَبِالأَسْقَامِ وَالأَمْرَاضِ ( الضَّرَّاءُ ) ، وَخُوِّفُوا وَهُدَّدُوا مِنَ الأَعْدَاءِ ( زُلْزِلُوا ) ، وَامتُحِنُوا امْتِحَاناً عَظِيماً ، وَاشْتَدَّتِ الأُمُورُ بِهِمْ حَتَّى تَسَاءَلَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ قَائِلِينَ : مَتَى يَأْتِي نَصْرُ اللهِ .وَحِينَما تَثْبُتُ القُلُوبُ عَلَى مِثْلِ هذِهِ المِحَنِ المُزَلْزِلَةِ ، حِينَئِذٍ تَتِمُّ كَلِمَةُ اللهِ ، وَيَجِيءُ نَصْرُهُ الذِي يَدَّخِرُهُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِبَادِهِ الذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ أَنْ لاَ نَصْرَ إِلاَّ نَصْرُ اللهِ .
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة .الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ، فهم يتطلعون فحسب إلى { نصر الله } ، لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ، مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان ، والصبر والثبات ، والتجرد لله وحده ، والشعور به وحده ، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية ، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم ، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها ، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة ، والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها ، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون ، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . . وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق : إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .
وابتلاء الله تعالى للعبـاد وامتحانهم إنَّمـا يكون لتنقيتـهم وترقيتـهم وليميـز الخبيث من الطيب, قال تعالى: (ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أن يُتْرَكُوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون*ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الذين صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذبين) {العنكبوت:1-3}.
إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب .
هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت ، وسنة جارية ، في ميزان الله سبحانه :
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } . .
والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء؛ ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله ، مغيب عن علم البشر؛ فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم . وهو فضل من الله من جانب ، وعدل من جانب ، وتربية للناس من جانب ، فلا يأخذوا أحداً إلا بما استعلن من أمره ، وبما حققه فعله . فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه!
ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .
إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص . وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء . وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة؛ وهي أمانة ثقيلة؛ وهي من أمر الله يضطلع بها الناس؛ ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة؛ ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان . وهذه هي الصورة البارزة للفتنة ، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة . ولكنها ليست أعنف صور الفتنة . فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، ربما كانت أمر وأدهى .
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعاً . وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم؛ وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك . وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً .
وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيار الضلالة؛ وهو وحده موحش غريب طريد وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام . فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة ، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان . ويجدها غنية قوية ، وهي مشاقة لله!
وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض ، وثقلة اللحم والدم ، والرغبة في المتاع والسلطان ، أو في الدعة والاطمئنان . وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه ، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس ، وفي ملابسات الحياة ، وفي منطق البيئة ، وفي تصورات أهل الزمان!
فإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى . وكان الابتلاء أشد وأعنف . ولم يثبت إلا من عصم الله . وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، وأمانة الله في ضمير الإنسان .وما بالله حاشا لله أن يعذب المؤمنين بالابتلاء ، وأن يؤذيهم بالفتنة . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق؛ وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه ، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع . وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل . وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات ، فلا يبقى صامداً إلا أصلبها عوداً؛ وأقواها طبيعة ، وأشدها اتصالاً بالله ، وثقة فيما عنده من الحسنيين : النصر أو الأجر ، وهؤلاء هم الذين يسلَّمون الراية في النهاية . مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار .وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن؛ وبما بذلوا لها من الصبر على المحن؛ وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات . والذي يبذل من دمه وأعصابه ، ومن راحته واطمئنانه ، ومن رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان؛ يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل؛ فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله .وما يشك مؤمن في وعد الله . فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فيها الخير للإيمان وأهله . وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ، ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ، ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء
قَالَ أَبَو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - r- : « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ » [7].
وعَنْ أَنَسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ r، أَنَّهُ قَالَ: عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ.[8]
( فمن رضي فله الرضا ) أي رضا الله تعالى عنه جزاء لرضاه . أو فله جزاء رضاه . وكذلك قوله فله السخط . ثم الظاهر أنه تفصيل لمطلق المبتلين لالمن أحبهم فابتلاهم . إذ الظاهر أنه تعالى يوفقهم للرضا فلا يسخط منهم أحد
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ r : مَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى ، وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"[9]
وعَنْ سَعْدٍ قَالَ : سُئِلَ النَّبِىُّ -r - : أَىُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ :« الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ صَلاَبَةٌ زِيدَ صَلاَبَةً ، وَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ ، وَلاَ يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِىَ عَلَى الأَرْضِ مَا لَهُ خَطِيئَةٌ ».[10]
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهي عبادة شاقة على النفس, وغالبًا ما يحدث للقائم بها شدائد ومشاكل وصعوبات كثيرة, لذا بعدما أوصى لقمان ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوصاه بالصبر لما سيقابله بسبب ذلك من إيذاء ومشقة,كما حكاه القرآن الكريم: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة َوَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَــا أَصَـابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) {لقمان:17}.
ثُمَّ قَالَ لُقمَانُ لابنِهِ ، يَا بُنَيَّ أَدِّ الصَّلاَة في أَوْقَاتِها ، وَأَتْمِمْهَا بِرُكُوعِها وَسُجُودِها وَخُشُوعِها ، لأَنَّ الصَّلاةَ تُذَكِّرُ العَبْدَ بِرَبِّهِ ، وَتَحْملُهُ عَلَى فِعْلِ المَعْرُوفِ ، والانْتِهَاءِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، وإِذا فَعَلَ الإنسَانُ ذلِكَ تَصْفُو نَفْسُهُ وَتَسْمُو ، وَيَسْهُلُ عَلَيها احْتِمَالُ الصِّعَابِ في اللهِ ، ثمَّ حَثَّ لُقْمَانُ ابْنَهُ عَلَى احتِمَالِ أَذَى النَّاسِ إِذا قَابَلُوه بِالسُّوءِ والأَذى عَلَى حَثِّهِ إِيًَّاهُمْ عَلَى فِعْلِ الخَيرِ ، والانْتِهَاءِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : إِنَّ هذا الذي أَوْصَاهُ بِهِ هُوَ مِنَ الأمُورِ التي يَنْبَغِي الحِرْصُ عَليها ، والتَّمَسُّكُ بِهَا ( مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) .
فالصلاة- مثلاً- أثقل شيءٍ على المنافقـين, وعلى النفوس الضعيفة قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ ) {البقرة:45}.
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالاسْتِعَانَةِ عَلَى أَدَاءِ التَّكَالِيفِ ، وَمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ ، بِالصَّبْرِ عَلَى الفَرَائِضِ ، وَضَبْطِ النَّفْسِ عَنِ المَعَاصِي ، وَبِالصَّلاةِ ، لَعَلَّهُمْ يَبْلُغُونَ مَا يُؤمِّلُونَ مِنْ خَيْرِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ . وَيُنَبِّهُهُمُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَنَّ القِيَامَ بِهذِهِ الوَصِيَّةِ التِي يَطْلبُ مِنَ النَّاسِ الأَخْذَ بِهَا مِنْ صَبْرٍ وَصَلاةٍ . . . أَمْرٌ شَاقٌ ثَقِيلٌ عَلَى النُّفُوسِ ، إِلاَّ النُّفُوسَ المُؤْمِنَةَ الخَاشِعَةَ المُسْتَكِينَةَ لِطَاعَةِ اللهِ ، المُتَذَلِّلَةَ مِنْ مَخَافَتِهِ .
والزكاة والصدقـة ثقيلتـان وشاقتان على البخــلاء والحريصين على جمع المال , ولا تخفى مشقة الحج وما يتطلبه من جهدٍ وسفر وصعـوبات وإنفـــاق وصبر ٍوجَلَد, والصيــام وما يتطلبه من صبـر ٍعلى الجوع والعطش والشهوةِ نهارًا, وغير ذلك من المشقات.
ولعلي أكون قد بيَّنتُ جانبًا من المكاره التي حُفت بها الجنة, والتي على المسلم أن يتحمل ما يعرض له منها ويصبر على ذلك ليفوز بنعيم الجنة,وهي وإن كانت تكاليف شاقَّة إلا أنّه لا يُدرك الغالي إلا بالعمل الشاق, فعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- :« مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ »[11]. أدلج : سار ليلا
ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل جبريل-عليه السلام- بعدما رأى حقيقة الجنة وقد حُفت بالمكاره يخشى ألا يدخلها أحد, لذا قال لربّه تعالى: "وعزَّتك لقد خفتُ ألا يدخلها أحد".
ـــــــــــــــ
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ r، قَالَ : مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ.. [12]
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي عَهْدِهِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ.[13]
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : هَذِهِ الأَخْبَارُ كُلُّهَا مَعْنَاهَا لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُرِيدُ جَنَّةً دُونَ جَنَّةِ الْقَصْدِ مِنْهُ ، الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَرْفَعُ يُرِيدُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْخِصَالَ ، أَوِ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، أَوْ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ الَّتِي يَدْخُلُهَا مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ تِلْكَ الْخِصَالَ ، لأَنَّ الدَّرَجَاتِ فِي الْجِنَانِ يَنَالُهَا الْمَرْءُ بِالطَّاعَاتِ ، وَحَطُّهُ عَنْهَا يَكُونُ بِالْمَعَاصِي الَّتِي ارْتَكَبَهَا.
وعَنْ عَطِيَّةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيَّ ، يَقُولُ : إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ rأُتِيَ ، فَقِيلَ لَهُ : لِتَنَمْ عَيْنُكَ وَلْتَسْمَعْ أُذُنُكَ وَلْيَعْقِلْ قَلْبِكَ ، قَالَ : فَنَامَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي وَعَقَلَ قَلْبِي ، قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : سَيِّدٌ بنى دَارًا وَصَنَعَ مَأْدُبَةً فَأَرْسَلَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ ، وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ ، وَلَمْ يَنَلِ الْمَأْدُبَةَ ، وَسَخَطَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ ، فَالسَّيِّدُ اللَّهُ ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ r، وَالْمَأْدُبَةُ الْجَنَّةُ "[14]
قال تعالى : {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (25) سورة يونس
وعَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:"جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ هِيَ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ أَوْسَطُهَا وَأَحْسَنُهَا".
وعَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:"الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلاهَا وَأَوْسَطُهَا، وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ".[15]
وعَنْ عَلِيٍّ ؛ فِي هَذِهِ الآيَةِ : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (85) سورة مريم ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : هَلْ تَدْرُونَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُحْشَرُونَ ؟ أَمَا وَاللهِ مَا يُحْشَرُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ لَمْ تَرَ الْخَلاَئِقُ مِثْلَهَا ، عَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ ، فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ يُنْطَلَقُ بِهِمْ حَتَّى يَقْرَعُوا بَابَ الْجَنَّةِ.[16]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ rأَنَّهُ قَالَ : " سِرْتُ وَسَارَ مَعِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَأَتَيْنَا عَلَى وَادٍ ، فَوَجَدْتُ رِيحًا طَيِّبَةً وَوَجَدْتُ رِيحَ الْمِسْكِ ، وَسَمِعْتُ صَوْتًا فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الْبَارِدَةُ الطَّيِّبَةُ , وَرِيحُ الْمِسْكِ ؟ ومَا هَذَا الصَّوْتُ ؟ قَالَ : هَذَا صَوْتُ الْجَنَّةِ تَقُولُ : يَا رَبِّ أَهْنِنِي بِأَهْلِي وَمَا وَعَدْتَنِي فَقَدْ كَثُرَ حَرِيرِي ، وَسُنْدُسِي ، وَإِسْتَبْرَقِي ، وَعَبْقَرِيِّي ، وَلُؤْلُؤِي ، وَمَرْجَانِي ، وَفِضَّتِي ، وَذَهَبِي وَأَبَارِيقِي ، وَفَوَاكِهِي ، وَعَسَلِي ، وَمَائِي ، فَآتِنِي مَا وَعَدْتَنِي قَالَ : لَكِ كُلُّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ وَمُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَمَنْ آمَنَ بِي وَبِرُسُلِي وَعَمِلَ صَالِحًا ، وَلَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِي أَنْدَادًا وَمَنْ خَشِيَنِي ، وَمَنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ وَمَنْ أَقْرَضَنِي جَزَيْتُهُ ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيَّ كَفَيْتُهُ ، أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ، لَا أُخْلِفُ الْمِيعَادَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ , تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، قَالَتْ : قَدْ رَضِيتُ "[17] .
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ rذَاتَ يَوْمٍ لأَصْحَابِهِ : أَلاَ هَلْ مُشَمِّرٍ لِلْجَنَّةِ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا هِيَ ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ ، وَقَصْرٌ مُشَيَّدٌ ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ ، قَالُوا : نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : قُولُوا : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ.[18]
مشمر للجنة : ساع لها غاية السعي ، طالب لها عن صدق ورغبة -مطرد : جارٍ يتبع بعضه بعضا
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ r وَذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ : أَلَا مُشَمِّرٌ لَهَا ، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَنُورٌ يَتَلَأْلَأُ ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ ، وَزَوْجَةٌ لَا تَمُوتُ فِي خُلُودٍ ، وَنَعِيمٍ فِي مَقَامٍ آبِدٍ "[19]
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا وَلاَ مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا ».[20]
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: إنَّمَا يُدْخِلُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مَنْ يَرْجُوهَا ، وَإِنَّمَا يُجَنِّبُ النَّارَ مَنْ يَخْشَاهَا ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ يَرْحَمُ.[21]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا حَرِيصٌ عَلَيْهَا "[22]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : " يُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا فِي الدُّنْيَا فَيُقَالُ : اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ قَالَ : فَيَنْغَمِسُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ : هَلْ رَأَيْتَ ضُرًّا قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا "[23]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا ، مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لاَ ، وَاللهِ ، يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا ، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لاَ ، وَاللهِ ، يَا رَبِّ ، مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ..[24]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: يُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ كَانَ بَلاَءً فِي الدُّنْيَا ، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُ : اصْبُغُوهُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ فِيهَا صَبْغَةً ، فَيَقُولُ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ : يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ أَوْ شَيْئًا تَكْرَهُهُ ؟ فَيَقُولُ : لاَ وَعِزَّتِكَ ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَكْرَهُهُ قَطُّ ، ثُمَّ يُؤْتَى بِأَنْعَمِ النَّاسِ كَانَ فِي الدُّنْيَا ، مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيَقُولُ : اصْبُغُوهُ فِيهَا صَبْغَةً ، فَيَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ قُرَّةَ عَيْنٍ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لاَ وَعِزَّتِكَ ، مَا رَأَيْتُ خَيْرًا قَطُّ ، وَلاَ قُرَّةَ عَيْنٍ قَطُّ.[25]
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ.[26].الشراك : أحد السيور من الجلد والتي تمسك بالنعل على ظهر القدم
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ ؛ أَنَّ مُوسَى ، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ، قَالَ : يَا رَبِ ، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْك ؟ أَوْلِيَاؤُك فِي الأَرْضِ خَائِفُونَ يُقْتَلُونَ ، وَيُطْلبُونَ وَيُقَّطَّعُون ، وَأَعْدَاؤُك يَأْكُلُونَ مَا شَاؤُوا ، وَيَشْرَبُونَ مَا شَاؤُوا ، وَنَحْوَ هَذَا ، فَقَالَ : انْطَلِقُوا بِعَبْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيَنْظُرُ مَا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ قَطُّ ، إِلَى أَكْوَابٍ مَوْضُوعَةٍ ، وَنَمَارِقَ مَصْفُوفَةٍ وَزَرَابِيِّ مَبْثُوثَةٍ ، وَإِلَى الْحُورِ الْعِينِ ، وَإِلَى الثِّمَارِ ، وَإِلَى الْخَدَمِ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ، فَقَالَ : مَا ضَرَّ أَوْلِيَائِي مَا أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَ مَصِيرُهُمْ إِلَى هَذَا ؟ ثُمَّ قَالَ : انْطَلِقُوا بِعَبْدِي ، فَانْطَلِقْ بِهِ إِلَى النَّارِ ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ فَصُعِقَ الْعَبْدُ ، ثُمَّ أَفَاقَ ، فَقَالَ : مَا نَفَعَ أَعْدَائِي مَا أَعْطَيْتُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَ مَصِيرُهُمْ إِلَى هَذَا ؟ قَالَ : لاَ شَيْءَ.[27]
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ - r- قَالَ : " إِنَّ مُوسَى قَالَ : أَيْ رَبِّ ، إِنَّ عَبْدَكَ الْمُؤْمِنَ تَقْتُرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ، قَالَ : فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا فَيَقُولُ : يَا مُوسَى ، هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ . فَيَقُولُ مُوسَى : وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ ، لَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لَمْ يَرَ بُؤْسًا قَطُّ " . قَالَ : " ثُمَّ قَالَ مُوسَى : أَيْ رَبِّ ، عَبْدُكَ الْكَافِرُ تُوَسِّعُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ، قَالَ : فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ : يَا مُوسَى ، هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ . فَقَالَ مُوسَى : أَيْ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ ، لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ ، لَمْ يَرَ خَيْرًا قَطُّ "[28] .قط : بمعنى أبدا ، وفيما مضى من الزمان
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r، قَالَ : حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ..[29]
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -r- قَالَ « لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ قَالَ فَوَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِىَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا. فَإِذَا هِىَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَيْهَا. فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا ».[30]
وذلك من التمثيل الحسن , إذ جعل الجنة والنـار محجوبتان بالمكاره والشهـوات ,فمن هتك الحجاب وصـل إلى المحجوب ,فهتك حجاب الجنة باقتحام بالمكاره-وهى العبادات الشاقة على النفس- وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات المحرمة
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ rقَالَ : أَلَا إِنَّ الْخَيْرَ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ ، أَلَا وَإِنَّ الشَّرَّ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ ، أَلَا وَإِنَّ الْجَنَّةَ حَزْنَةٌ بِرَبْوَةٍ ، أَلَا وَإِنَّ النَّارَ سَهْلَةٌ بِشَهْوَةٍ فَمَتَى مَا يُكْشَفُ بِرَجُلٍ حِجَابُ شَهْوَةٍ وَهَوًى أَشْفَى عَلَى النَّارِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَمَتَى مَا يُكْشَفُ بِرَجُلٍ حِجَابُ صَبْرٍ وَكُرْهٍ أَشْفَى عَلَى الْجَنَّةِ ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا ، فَاعْمَلُوا بِالْحَقِّ تَنْزِلُوا بِالْحَقِّ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ لَا يُقْضَى إِلَّا بِالْحَقِّ "[31]
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : كَانَتْ خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -r- إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، وَإِنَّ الآخِرَةَ وَعَدٌ صَادِقٌ يَقْضِى فِيهَا مَلِكٌ قَادِرٌ ، أَلاَ وَإِنَّ الْخَيْرَ كُلُّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِى الْجَنَّةِ ، أَلاَ وَإِنَّ الشَّرَ كُلُّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِى النَّارِ ، وَاعْمَلُوا وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذَرٍ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَأَنَّكُمْ مُلاَقُو اللَّهِ رَبِّكُمْ لاَ بُدَّ مِنْهُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) سورة الزلزلة ».[32]
أشفى : قارب
وعَنْ بُكَيْرُ بْنُ فَيْرُوزَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ "[33]
الإدلاج : السير في أول الليل والمراد التشمير والجد في الطاعة
وعَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ فَقَدْ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ "[34]
ـــــــــــــــ
لبيان شرف الجنة فإنه قد ذُكِر لها عدة أسماء في القرآن الكريم باعتبار صفاتها
وإن كان مسماها واحداً باعتبار الذات,فالاسم العام المتناول لتلك الدار وما فيها من النعيم هو( الجنة), قال تعالى : ( تِلْكَ الجَنَّـةُ الَتِي نُـورِثُ مِنْ عِبَادِنَـا مَن كَانَ تَقِيـاًّ){مريم:63 }
وقال تعالى : (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ){الأعراف 43 }.
*ومن أسمائها(دار السلام) لقوله تعالى : (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) {الأنعام127}.
*ومنها(دار المقامة) ففي الآية الكريمة(الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) {فاطر35}.
*ومنها(جنة المأوى ) لقوله تعالى : (عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى ) {النجم 15 }.
*ومنها(جنات عدن) قال تعالى :( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ )
{مريم61 } . وقال بعض العلماء:هذا الاسم لجميع الجنان إذ معنى عدن "إقامة "
*ومنها(دار الحيوان) إذ هي دار الحياة الدائمة التي لا موت فيها قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ) {العنكبوت 64}.
ومنها(الفردوس) قال تعالى : (أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) {المؤمنون10-11}.
وفى صحيح البخارى قال النبي-r-:" ِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ [35]" .
*ومنها(المقام الأمين) قال تعالى : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) {الدخان 51 }
*ومنها(مقعد صدق) قال تعالى: ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ *فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) {القمر54-55}
*ومنها(جنات النعيم) وهو اسمٌ جامع لجميع الجنات وما تشتمل عليه من النعيـم الظاهر والباطن, قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) { لقمان 8 }.
أَمَّا المُؤْمِنُونَ الأَبْرارُ الصَّالِحُونَ فإِنَّ الله تَعَالى سَيَجْزِيهِمْ بإِدْخَالِهِمْ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، فِي جَنَّاتٍ يَنْعَمُونَ فِيها .
ـــــــــــــــ
أول الناس دخولاً الجنة هو النبي محمد-r- ثم أمته، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « آتِى بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ ».[36]
وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - r - يَقُولُ : « نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِى فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانَا اللَّهُ ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ »[37] .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ - قَالَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - فَالْيَوْمُ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى ».[38]
فهذه الأمة المحمدية أسبق الأمم خروجاً من الأرض, وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف, وأسبقهم إلى ظلّ العرش , وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم, وأسبقهم إلى جواز الصراط , وأسبقهم إلى دخول الجنة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r : أَتَانِى جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدِى فَأَرَانِى بَابَ الْجَنَّةِ الَّذِى تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِى . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ وَدِدْتُ أَنِّى كُنْتُ مَعَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r أَمَا إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى.[39]
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ رَسُولِ اللهِ r ، أَنَّهُ قَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَنْ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلَقِ اللهِ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلَقِ اللهِ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ يُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ ، وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لاَ يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ : إِيتُوهُمْ فَحَيُّوهُمْ ، فَيَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ : رَبَّنَا نَحْنُ سُكَّانُ سَمَاوَاتِكَ ، وَخِيرَتُكَ مِنْ خَلْقِكَ أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلاَءِ ، فَنُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ ، قَالَ : إِنَّهُمْ كَانُوا عِبَادًا يَعْبُدُونِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ، وَتُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ ، وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لاَ يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً ، قَالَ : فَتَأْتِيهِمُ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ : {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد].[40]
وقد ذكر النبي-r- صفات أول من يدخلون الجنة ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - r- « أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، لاَ يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ ، أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ ، مِنَ الْحُسْنِ ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا » [41].
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - r- « إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّىٍّ فِى السَّمَاءِ إِضَاءَةً ، لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَتْفِلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ الأَنْجُوجُ عُودُ الطِّيبِ ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِى السَّمَاءِ » [42].
الألوة : العود الذى يتبخر به -المجامر : جمع مجمر وهو الذي يوضع فيه النار للبخور -الأنجوج : لغة فى العود الذي يتبخر به
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ نَجْمٍ فِى السَّمَاءِ إِضَاءَةً ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ لاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبْزُقُونَ أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ أَخْلاَقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى طُولِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا »[43]. الألوة :
ومعنى( رشحهم المسك) أي:عرقهم كالمسك في طيب رائحته,و(المجامر): جمع[مِجْمَر] و[مُجْمَر],والأول: هو الذي يوضع فيه النار للبخور, والثاني : هوالذي يُتبخر به وأُعدّ له الجمر.
ومعنى(الألوة):العود الهندي الذي يُتبخر به, وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: الألنجوج هو العود الذي يُتبخر به, ولفظ (الألنجوج) هنا تفسير ( الألوة), و(العود) تفسير التفسير وقوله(ستون ذراعًا في السماء)أي: في العلو والارتفاع"[44]
وَقَدْ يُقَال إِنَّ رَائِحَة الْعُود إِنَّمَا تَفُوح بِوَضْعِهِ فِي النَّار وَالْجَنَّة لَا نَار فِيهَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ بَعْد تَخْرِيج الْحَدِيث الْمَذْكُور : يُنْظَر هَلْ فِي الْجَنَّة نَار ؟ وَيُجَاب بِاحْتِمَالِ أَنْ يَشْتَعِل بِغَيْرِ نَار بَلْ بِقَوْلِهِ : كُنْ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مِجْمَرَة بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فِي الْأَصْل ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَشْتَعِل بِنَارٍ لَا ضَرَر فِيهَا وَلَا إِحْرَاق ، أَوْ يَفُوح بِغَيْرِ اِشْتِعَال
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : قَدْ يُقَال أَيّ حَاجَة لَهُمْ إِلَى الْمُشْط وَهُمْ مُرْد وَشُعُورهمْ لَا تَتَّسِخ ؟ وَأَيّ حَاجَة لَهُمْ إِلَى الْبَخُور وَرِيحهمْ أَطْيَب مِنْ الْمِسْك ؟
قَالَ : وَيُجَاب بِأَنَّ نَعِيم أَهْل الْجَنَّة مِنْ أَكْل وَشُرْب وَكِسْوَة وَطِيب وَلَيْسَ عَنْ أَلَم جُوع أَوْ ظَمَأ أَوْ عُرْي أَوْ نَتْن ، وَإِنَّمَا هِيَ لَذَّات مُتَتَالِيَة وَنِعَم مُتَوَالِيَة ، وَالْحِكْمَة فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنَعَّمُونَ بِنَوْعِ مَا كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا .
وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ تَنَعُّم أَهْل الْجَنَّة عَلَى هَيْئَة تَنَعُّم أَهْل الدُّنْيَا إِلَّا مَا بَيْنهمَا مِنَ التَّفَاضُل فِي اللَّذَّة ، وَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى أَنَّ نَعِيمهمْ لَا اِنْقِطَاع لَهُ[45] .
ـــــــــــــــ
في صفة دخول أهل الجنة الجنَّةَ
عن علي ، قال : يُسَاقُ الَّذِينَ اتَّقُوا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ، حَتَّى إِذَا أَتَوْا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا , وَجَدُوا عِنْدَهُ شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَاقِهَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ، فَعَمَدُوا إِلَى أَحَدِهِمَا كَأَنَّمَا أُمِرُوا فَشَرِبُوا مِنْهَا ، فَأَذْهَبَتْ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ قَذَرٍ وَأَذًى أَوْ بَأْسٍ ، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى الْأُخْرَى فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ بِنَضْرَةِ النَّعِيمِ ، فَلَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ تُغَيَّرْ أَبْشَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا ، وَلَمْ تَشْعَثْ أَشْعَارَهُمْ كَأَنَّمَا دُهِنُوا بِالدِّهَانِ ، ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى خَزَنَةِ الْجَنَّةِ فَقَالُوا: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (73) سورة الزمر، قال : قَالَ : ثُمَّ تَلْقَاهُمْ أَوْ تَلَقَّتْهُمُ الْوِلْدَانُ يُطَيَّفُونَ بِهِمْ ، كَمَا يُطَيَّفُ وَلَدَانُ أَهْلِ الدُّنْيَا بِالْحَمِيمِ يَقْدَمُ مِنْ غَيْبَتِهِ يَقُولُونَ لَهُ : أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْكَرَامَةِ ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ غُلَامٌ مِنْ أَهْلِ أُولَئِكَ الْوِلْدَانِ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَيَقُولُ : قَدْ جَاءَ فُلَانٌ بِاسْمِهِ الَّذِي كَانَ يُدْعَى بِهِ فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَأَيْتَهُ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا رَأَيْتُهُ ، وَهُوَ ذَا يَأْتِي فَيَسْتَخِفُّ إِحْدَاهُنَّ الْفَرَحَ حَتَّى تَقُومَ عَلَى بَابِهَا ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَنْزِلِهِ نَظَرَ إِلَى أَسَاسِ بُنْيَانِهِ ، فَإِذَا جَنْدَلُ اللُّؤْلُؤِ فَوْقَهُ أَخْضَرُ ، وَأَصْفَرُ وَأَحْمَرُ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِهِ فَإِذَا مِثْلُ الْبَرْقِ ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ لَأَلَمَّ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهُ ، ثُمَّ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى أَزْوَاجِهِ ، وَأَكْوَابٍ مَوْضُوعَةٍ ، مَصْفُوفَةٍ ، وَزَرَابِيٍّ مَبْثُوثَةٍ ، فَنَظَرَ إِلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ ، ثُمَّ اتَّكَوْا فَقَالُوا : {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (43) سورة الأعراف، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ تَحْيَوْنَ فَلَا تَمُوتُونَ أَبَدًا ، وَتُقِيمُونَ فَلَا تَظْعَنُونَ أَبَدًا ، وَتَصِحُّونَ فَلَا تَمْرَضُونَ أَبَدًا "[46]
أبشار : جمع بشرة وهي جلد الإنسان - الأسكفة : عتبة تكون تحت الباب - المرج : الأرض الواسعة ذات الكلأ والماء
وعَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَويِّ ، قَالَ : خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ ، يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا ، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لاَ زَوَالَ لَهَا ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ ، فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا ، لاَ يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا ، وَوَاللهِ لَتُمْلأَنَّ ، أَفَعَجبْتُمْ ، وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ ؛ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ r، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا ، فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا.
وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا ، فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ ، إِلاَّ أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا ، وَعِنْدَ اللهِ صَغِيرًا ، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ إِلاَّ تَنَاسَخَتْ ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا ، فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الأُمَرَاءَ بَعْدَنَا ".[47]
آذن : أعلم - حذاء : مسرعة الانقطاع - الأشداق : جوانب الفم -الصبابة : البقية اليسيرة من الشراب تبقى أسفل الإناء -الصرم : الانقطاع والذهاب -قرحت : خرجت بها قروح -الكظيظ : الممتلئ المزحوم
وعَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، قَالَ : خَطَبَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْهَا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ صَبَّهَا أَحَدُكُمْ ، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لاَ زَوَالَ لَهَا ، فَانْتَقِلُوا مَا بِحَضْرَتِكُمْ - يُرِيدُ مِنَ الْخَيْرِ - فَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ ، فَمَا يَبْلُغُ لَهَا قَعْرًا سَبْعِينَ عَامًا ، وَايْمُ اللهِ لَتُمْلَأَنَّ ، أَفَعَجِبْتُمْ وَلَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ r مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ مِنْهُ أَشْدَاقُنَا ، وَلَقَدِ الْتَقَطْتُ بُرْدَةً ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا ، وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا مَا مِنَّا أَحَدٌ الْيَوْمَ حَيٌّ إِلاَّ أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ عَظِيمًا فِي نَفْسِي صَغِيرًا عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ إِلاَّ تَنَاسَخَتْ حَتَّى تَكُونَ عَاقِبَتُهَا مُلْكًا سَتُبْلُونَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَنَا.[48]
وعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَا بَيْنَ كُلِّ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً ، وَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرَ الْمَاءِ ، وَبَحْرَ الْخَمْرِ ، وَبَحْرَ اللَّبَنِ ، وَبَحْرَ الْعَسَلِ ، ثُمَّ تُشَقَّقُ مِنْهُ بَعْدُ الأَنْهَارُ"[49]
وعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r- قَالَ « أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَاماً وَلَيَأْتِيَّنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَإِنَّهُ لَكَظِيظٌ »[50].
الكظيظ : الممتلئ المزحوم
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ r ، قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى.[51]
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - r- « لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ - شَكَّ فِى أَحَدِهِمَا - مُتَمَاسِكِينَ ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمُ الْجَنَّةَ ، وَوُجُوهُهُمْ عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ » [52].
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - r- قَالَ « لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعُونَ أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ - لاَ يَدْرِى أَبُو حَازِمٍ أَيُّهُمَا قَالَ - مُتَمَاسِكُونَ ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، لاَ يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ »[53] .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِىَّ -r- قَالَ « يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلاَثِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً ».[54]
الجرد : جمع أجرد وهو الذى نزع عنه الشعر -المرد : جمع أمرد والمَرد نقاء الخدين من الشعر
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ لاَ يَفْنَى شَبَابُهُمْ وَلاَ تَبْلَى ثِيَابُهُمْ ».[55]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ r، قَالَ : يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا ، مُرْدًا ، بيضًا ، جِعَادًا ، مُكَحَّلِينَ ، أَبْنَاءَ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ ، عَلَى خَلْقِ آدَمَ ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ سَبْعِ أَذْرُعٍ.[56]
الجرد : جمع أجرد وهو الذى نزع عنه الشعر -الجعاد : جمع جعد وهو منقبض الشعر غير منبسطه -المرد : جمع أمرد والمَرد نقاء الخدين من الشعر
وعَنِ الزُّبَيْدِيِّ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ ، أَنَّ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبٍ الْكِنْدِيَّ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ - سَقَطًا وَلاَ هَرَمًا ، إِنَّمَا النَّاسُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ - إِلاَّ بُعِثَ ابْنَ ثَلاَثِينَ سَنَةً ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانَ عَلَى مَسَحَةِ آدَمَ وَصُورَةِ يُوسُفَ وَقَلْبِ أَيُّوبَ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عُظِّمُوا وَفُخِّمُوا كَالْجِبَالِ.[57]
وعن سُلَيْمَ بن عَامِرٍ الْكَلاعِيِّ، قَالَ: قُلْنَا لِلْمِقْدَامِ بن مَعْدِي كَرِبٍ الْكِنْدِيِّ: يَا أَبَا كَرِيمَةَ، إِنَّ النَّاسَ يَدَّعُونَ أَنَّكَ لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ r، قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ، وَلَقَدْ أَخَذَ بِشَحْمَةِ أُذُنِي هَذِهِ وَإِنِّي لأَمْشِي مَعَ عَمٍّ لِي، ثُمَّ قَالَ لِعَمِّي:أَتَرَى أَنَّهُ يَذْكُرُهُ؟ قُلْنَا: يَا أَبَا كَرِيمَةَ. حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ:يُحْشَرُ مَا بَيْنَ السِّقْطِ إِلَى الشَّيْخِ الْفَانِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ، وَقَلْبِ أَيُّوبَ، وَحُسْنِ يُوسُفَ مُرْدًا مُكَحَّلِينَ، قُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِالْكَافِرِ؟ قَالَ:يُعَظَّمُ لِلنَّارِ حَتَّى يَصِيرَ غِلَظُ جِلْدِهِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَقَرِيضَةُ النابِ مِنْ أَسْنَانِهِ مِثْلُ أُحُدٍ.[58]
السقط : الذي لم يكتمل خلقه
ـــــــــــــــ
عَنْ الشَّعْبِيَّ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، عَلَى الْمِنْبَرِ ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ r يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ ، أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، فَيُقَالُ لَهُ : ادْخُلْ ، وَقَدْ نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ، قَالَ : فَيُقَالُ لَهُ : أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ قَالَ : فَيَقُولُ : نَعَمْ ، أَيْ رَبِّ ، قَدْ رَضِيتُ ، قَالَ : فَيُقَالُ لَهُ : فَإِنَّ لَكَ هَذَا وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ ، قَالَ : فَيَقُولُ : رَضِيتُ أَيْ رَبِّ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُ : فَإِنَّ لَكَ هَذَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهِ مَعَهُ ، فَيَقُولُ : رَضِيتُ أَيْ رَبِّ ، قَالَ : فَيُقَالُ لَهُ : فَإِنَّ لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ، فَقَالَ مُوسَى : أَيْ رَبِّ ، فَأَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً ؟ قَالَ: إِيَّاهَا أَرَدْتُ ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْهُمْ ، إِنِّي غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي ، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا ، فَلاَ عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، قَالَ : وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (17) سورة السجدة[59]
وعن الشَّعْبِيِّ ، قالَ : سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، عَنِ النَّبِيِّ r: أَنَّ مُوسَى ، قَالَ : رَبِّ ، أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : كَيْفَ أَدْخُلُ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ، فَيُقَالُ لَهُ : تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْجَنَّةِ مِثْلَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ، قَالَ : فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، فَيُقَالُ : لَكَ هَذَا وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ رَضِيتُ ، فَيُقَالُ لَهُ : إِنَّ لَكَ هَذَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ مَعَهُ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ رَضِيتُ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ[60].
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r- قَالَ « إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ وَمَثَّلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ فَقَالَ أَىْ رَبِّ قَدِّمْنِى إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِى ظِلِّهَا ». وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يُذْكُرْ « فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِى مِنْكَ ». إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَزَادَ فِيهِ « وَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ سَلْ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِىُّ قَالَ اللَّهُ هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ - قَالَ - ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَتَقُولاَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ - قَالَ - فَيَقُولُ مَا أُعْطِىَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ ».[61]
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ rقَالَ : إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قَبْلَ الْجَنَّةَ ، وَمَثَلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلِّهَا وَآكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا ، قَالَ اللَّهُ لَهُ : فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ ؟ فَيَقُولُ : لا وَعِزَّتِكَ ، فَيُقَدِّمُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا ، فَتُمَثَّلُ لَهُ شَجَرَةٌ أُخْرَى ذَاتُ ظِلٍّ وَثَمَرَةٍ وَمَاءٍ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلِّهَا وَآكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ، فَيَقُولُ لَهُ : هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ ؟ فَيَقُولُ : لا وَعِزَّتِكَ ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ ، فَيَبْرُزُ لَهُ بَابُ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَأَكُونُ تَحْتَ نِجَافِ الْجَنَّةِ ، فَأَنْظُرُ إِلَى أَهْلِهَا ، فَيُقَدِّمُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا ، فَيَرَى أَهْلَ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ، فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قَالَ : هَذَا لِي ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : تَمَنَّ ، فَيَتَمَنَّى وَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ سَلْ مِنْ كَذَا سَلْ مِنْ كَذَا ، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ ، قَالَ اللَّهُ لَهُ : هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ تَبْدُرُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعَيْنِ ، فَتَقُولانِ لَهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا ، وَأَحْيَانَا لَكَ ، فَيَقُولُ : مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ " [62]
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r، قَالَ : إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ، رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ ، وَمُثِّلَ لَهُ شَجَرَةٌ ذَاتُ ظِلٍّ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِ ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلِّهَا ، فَقَالَ اللَّهُ : هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ ، فَقَالَ : لاَ ، وَعِزَّتِكَ ، فَقَدَّمَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا ، وَمُثِّلَ لَهُ شَجَرَةٌ أُخْرَى ذَاتُ ظِلٍّ وَثَمَرَةٍ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِ ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ لأَكُونَ فِي ظِلِّهَا وَآكُلَ مِنْ ثُمَّرِهَا ، فَقَالَ اللَّهُ : هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتُك ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ ، فَقَالَ : لاَ ، وَعِزَّتِكَ ، فَيُقَدَّمَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا ، فَتُمَثَّلُ لَهُ شَجَرَةٌ أُخْرَى ذَاتُ ظِلٍّ وَثَمَرٍ وَمَاءٍ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِ ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ ، أَكُونُ فِي ظِلِّهَا ، وَآكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ، فَيَقُولُ : هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ ، فَيَقُولُ : لاَ ، وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُك غَيْرَهُ ، فَيُقَدِّمُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا.
قَالَ : فَيَبْرُزُ لَهُ بَابُ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِ ، قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَأَكُونُ تَحْتَ نِجَافِ الْجَنَّةِ وَأَنْظُرُ إِلَى أَهْلِهَا ، فَيُقَدِّمُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا ، فَيَرَى أَهْلَ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِ ، أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ، فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قَالَ : هَذَا لِي وَهَذَا لِي ، فَيَقُولُ اللَّهُ : تَمَنَّ ، فَيَتَمَنَّى ، وَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ : سَلْ مِنْ كَذَا وَكَذَا ، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِي ، قَالَ اللَّهُ : هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ ، قَالَ : ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، فَتَقُولاَنِ لَهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اخْتَارَك لَنَا ، وَاخْتَارَنَا لَكَ ، فَيَقُولُ : مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ.[63]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ، مَنْ يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ ، فَيُقَالَ لَهُ : ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ ، وَيُلَقَّنُ كَذَا وَكَذَا ، فَيُقَالَ لَهُ : ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: ذَلِكَ لَكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ.[64]
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ، لَرَجُلٌ لَهُ دَارٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ ، مِنْهَا غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا.[65]
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - r- يَقُولُ : " إِنَّ أَسْفَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَجْمَعِينَ دَرَجَةً لَمَنْ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ عَشَرَةُ الْآفٍ ، بِيَدِي كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيفَتَانِ ، وَاحِدَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، وَالْأُخْرَى مِنْ فِضَّةٍ ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ لَوْنٌ لَيْسَ فِي الْأُخْرَى مِثْلُهُ ، يَأْكُلُ مِنْ آخِرِهَا مِثْلَ مَا يَأْكُلُ مِنْ أَوَّلِهَا ، يَجِدُ لِآخِرِهَا مِنَ الطِّيبِ وَاللَّذَّةِ مِثْلَ الَّذِي يَجِدُ لِأَوَّلِهَا ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ رِيحَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ ، لَا يَبُولُونَ ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ ، وَلَا يَتَمَخَّطُونَ ، إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ " [66].
-أذفر : جيد إلى الغاية رائحته شديدة - التغوُّط : التبرُّز - الامتخاط : الاستنثار وإلقاء مخاط الأنف
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - r- قَالَ : " آخِرُ رَجُلَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنَ النَّارِ يَقُولُ اللَّهُ لِأَحَدِهِمَا : يَا ابْنَ آدَمَ ، مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ ؟ هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ رَجَوْتَنِي ؟ فَيَقُولُ : لَا يَا رَبِّ ، فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ ، وَهُوَ أَشَدُّ حَسْرَةً . وَيَقُولُ لِلْآخَرِ : يَا ابْنَ آدَمَ ، مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ ؟ هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ رَجَوْتَنِي ؟ فَيَقُولُ : لَا يَا رَبِّ ، إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أَرْجُوكَ " . قَالَ : " فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَقِرَّنِي تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا ، وَآكُلَ مِنْ ثِمَارِهَا ، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا ، فَيُقِرُّهُ تَحْتَهَا ، ثُمَّ يَرْفَعُ لَهُ شَجَرَةً هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى ، وَأَغْدَقُ مَاءً ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَقِرَّنِي تَحْتَهَا لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا فَأَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا [ وَآكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا ] ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ، فَيَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا ؟[ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا ] فَيُقِرُّهُ تَحْتَهَا ،[ وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا ] ثُمَّ يَرْفَعُ لَهُ شَجَرَةً عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ ، هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ ، وَأَغْدَقُ مَاءً ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، هَذِهِ [ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا فَ ] أَقِرَّنِي تَحْتَهَا [ فَأَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَآكُلُّ مِنْ ثَمَرِهَا ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ، فَيَقُولُ : ابْنَ آدَمَ ، أَلَمْ تُعَاهِدُنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا ] ، فَيُدْنِيهِ تَحْتَهَا وَيُعَاهِدُهُ أَلَّا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا . فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَلَا يَتَمَالَكُ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : سَلْ وَتَمَنَّ ، فَيَسْأَلُ وَيَتَمَنَّى مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ، وَيُلَقِّنُهُ اللَّهُ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ، فَيَسْأَلُ وَيَتَمَنَّى ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ : [ ابْنَ آدَمَ ] لَكَ مَا سَأَلْتَ " . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : " وَمِثْلُهُ مَعَهُ " . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : " وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ " . فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : حَدِّثْ بِمَا سَمِعْتَ ، وَأُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْتُ .[67]
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ r، قَالَ : إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ رَجُلٍ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ رَجُلٌ خَرَجَ زَحْفًا ، فَقِيلَ لَهُ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، فَيَدْخُلُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، قَدْ أَخَذَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ ، فَيُقَالُ لَهُ : أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيَقُولُ : تَمَنَّهْ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، تَنَافَسَ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ، وَتَضَايَقُوا فِيهَا ، فَأَنَا أَسْأَلُكَ مِثْلَهَا ، فَيَقُولُ : لَكَ مِثْلَهَا وَعَشَرَةَ أَضْعَافِ ذَلِكَ ، فَهُوَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً.[68]
وعَنْ مَسْرُوقِ بن الأَجْدَعِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ rقَالَ:"يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ قِيَامًا أَرْبَعِينَ سَنَةً شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُونَ فَصْلَ الْقَضَاءِ"، قَالَ:"وَيَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَيُّهَا النَّاسُ: أَلَمْ تَرْضَوْا مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ نَاسٍ مِنْكُمْ مَا كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ وَيَعْبُدُونَ فِي الدِّينِ، أَلَيْسَ ذَلِكَ عَدْلا مِنْ رَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى"، قَالَ:"فَلْيَنْطَلِقْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا"، قَالَ:"فَيَنْطَلِقُونَ وَيُمَثَّلُ لَهُمْ أَشْيَاءُ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْطَلِقُ إِلَى الشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْطَلِقُ إِلَى الْقَمَرِ، وَإِلَى الأَوْثَانِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَأَشْبَاهِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ"، قَالَ:"وَيُمَثَّلُ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ عِيسَى شَيْطَانُ عِيسَى، وَيُمَثَّلُ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ عُزَيْرًا شَيْطَانُ عُزَيْرٍ، وَيَبْقَى مُحَمَّدٌ rوَأُمَّتُهُ"،قَالَ:"فَيَتَمَثَّلُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فَيَأَتِيهِمْ فَيَقُولُ: مَا لَكُمْ لا تَنْطَلِقُونَ كَمَا انْطَلَقَ النَّاسُ؟"، قَالَ:"فَيَقُولُونَ إِنَّ لَنَا لإِلَهًا مَا رَأَيْنَاهُ بَعْدُ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَهُ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلامَةً إِذَا رَأَيْنَاهَا عَرَفْنَاهَا، قَالَ: فَيَقُولُ: مَا هِي؟ فَيَقُولُونَ: يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ"، قَالَ:"فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَيَخِرُّ كُلُّ مَنْ كَانَ بِظَهْرِهِ طَبَقٌ، وَيَبْقَى قَوْمٌ ظُهُورُهُمْ كَصَياصِيِّ الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، وَقَدْ كَانَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ، فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ فَيُعْطِيهِمْ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ رَجُلا يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِئُ مَرَّةً وَيَفِيءُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ فَمَشَى، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ"، قَالَ:"وَالرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ أَمَامَهُمْ حَتَّى يَمُرَّ فِي النَّارِ فَيَبْقَى أَثَرُهُ كَحَدِّ السَّيْفِ دَحْضُ مَزِلَّةٍ"، قَالَ:"وَيَقُولُ: مُرُّوا، فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ نُورِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالسَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الْفَرَسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي أُعْطِيَ نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمَيْهِ يَحْبُو عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ تَخِرُّ رِجْلُ، وَتَعْلَقُ رِجْلٌ، وَيُصِيبُ جَوَانُبَهُ النَّارُ، فَلا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَخْلُصَ، فَإِذَا خَلَصَ وَقَفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا أَنْ نَجَّانِي مِنْهَا بَعْدَ إِذْ رَأَيْتُهَا"، قَالَ:"فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى غَدِيرٍ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَغْتَسِلُ فَيَعُودُ إِلَيْهِ رِيحُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَلْوَانِهُمْ، فَيَرَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ خِلالِ الْبَابِ فَيَقُولُ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَتَسْأَلُ الْجَنَّةَ، وَقَدْ نَجِّيتُكَ مِنَ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حِجَابًا لا أَسْمَعُ حَسِيسَهَا"، قَالَ:"فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ"، قَالَ:"فَيَرَى أَوْ يُرْفَعُ لَهُ مَنْزِلٌ أَمَامَ ذَلِكَ كَأَنَّمَا هُوَ فِيهِ إِلَيْهِ حُلْمٌ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْطِنِي ذَلِكَ الْمَنْزِلَ، فَيَقُولُ لَهُ: فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَهُ تَسْأَلُ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَأَيُّ مَنْزِلٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ، قَالَ: وَيَرَى أَوْ يُرْفَعُ لَهُ أَمَامَ ذَلِكَ مَنْزِلٌ آخَرُ كَأَنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ حُلْمٌ، فَيَقُولُ: أَعْطِنِي ذَلِكَ الْمَنْزِلَ، فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ: فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَهُ تَسْأَلُ غَيْرَهُ، قَالَ: لا وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُ غَيْرَهُ وَأَيُّ مَنْزِلٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ، قَالَ: فَيُعْطَاهُ فَيَنْزِلَهُ ثُمَّ يَسْكُتُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا لَكَ لا تَسْأَلُ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ سَأَلْتُكَ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُكَ، وَأَقْسَمْتُ لَكَ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرْضَ أَنْ أُعْطِيَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقْتُهَا إِلَى يَوْمِ أَفْنَيْتُهَا وَعَشَرَةَ أَضْعَافِهِ؟ فَيَقُولُ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعِزَّةِ، فَيَضْحَكُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْلِهِ"، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ إِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ضَحِكَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَدْ سَمِعْتُكَ تُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ مِرَارًا كُلَّمَا بَلَغْتَ هَذَا الْمَكَانَ ضَحِكْتَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ rيُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ مِرَارًا كُلَّمَا بَلَغَ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ضَحِكَ حَتَّى تَبْدُوَ أَضْرَاسُهُ، قَالَ:"فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَكِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ، سَلْ، فَيَقُولُ: أَلْحِقْنِي بِالنَّاسِ، فَيَقُولُ: الْحَقِ النَّاسَ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ يَرْمُلُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ النَّاسِ رُفِعَ لَهُ قَصْرٌ مِنْ دُرَّةٍ فَيَخِرُّ سَاجِدًا، فَيُقَالَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ مَا لَكَ؟ فَيَقُولُ: رَأَيْتُ رَبِّي أَوْ تَرَاءَى لِي رَبِّي فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِكَ، قَالَ: ثُمَّ يَلْقَى رَجُلا فَيَتَهَيَّأُ لِلسُّجُودِ لَهُ فَيُقَالَ لَهُ: مَهْ، مَا لَكَ؟ فَيَقُولُ: رَأَيْتُ أَنَّكَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ مِنْ خُزَّانِكَ، عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكَ تَحْتَ يَدِي أَلْفُ قَهْرَمَانٍ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ أَمَامَهُ حَتَّى يَفْتَحَ لَهُ الْقَصْرَ"، قَالَ:"وَهُوَ فِي دُرَّةٍ، مُجَوَّفَةٍ سَقَائِفُهَا، وَأَبْوَابُهَا، وَأَغْلاقُهَا، وَمَفَاتِيحُهَا مِنْهَا تَسْتَقْبِلُهُ جَوْهَرَةٌ خَضْرَاءُ مُبَطَّنَةٌ بِحَمْرَاءَ كُلُّ جَوْهَرَةٍ تُفْضِي إِلَى جَوْهَرَةٍ عَلَى غَيْرِ لَوْنِ الأُخْرَى فِي كُلِّ جَوْهَرَةٍ سُرَرٌ وَأَزْوَاجٌ، وَوَصَائِفُ أَدْنَاهُنَّ حَوْرَاءُ عَيْنَاءُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ حُلَلِهَا، كَبِدُهَا مِرْآتُهُ وَكَبِدُهُ مِرْآتُهَا، إِذَا أَعْرَضَ عَنْهَا إِعْرَاضَةً ازْدَادَتْ فِي عَيْنِهِ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَعْرَضَتْ عَنْهُ إِعْرَاضَةً ازْدَادَ فِي عَيْنِهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ لَهَا: وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتِ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضِعْفًا، وَتَقُولُ لَهُ: وَأَنْتَ وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتَ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضِعْفًا، فَيُقَالُ لَهُ: أَشْرِفْ، قَالَ: فَيُشْرِفُ، فَيُقَالُ لَهُ: مُلْكُكَ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ يَنْفُذُهُ بَصَرُهُ".
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَلا تَسْمَعُ مَا يُحَدِّثُنَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ يَا كَعْبُ عَنْ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلا، فَكَيْفَ أَعْلاهُمْ، فَقَالَ كَعْبٌ:"يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ دَارًا فَجَعَلَ فِيهَا مَا شَاءَ مِنَ الأَزْوَاجِ، وَالثَّمَرَاتِ، وَالأَشْرِبَةِ، ثُمَّ أَطْبَقَهَا، ثُمَّ لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ مِنَ خَلْقِهِ، لا جِبْرِيلُ وَلا غَيْرُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ"، ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ: "فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيَنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [السجدة: 17]، قَالَ:"وَخَلَقَ دُونَ ذَلِكَ جَنَّتَيْنِ وَزَيَّنَهُمَا بِمَا شَاءَ وَأَرَاهُمَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ،ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ نَزَلَ تِلْكَ الدَّارَ الَّتِي لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ لَيَخْرُجُ فَيَسِيرُ فِي مُلْكِهِ فَمَا تَبْقَى خَيْمَةٌ مِنْ خِيَمِ الْجَنَّةِ إِلا دَخَلَهَا مِنْ ضَوْءِ وَجْهِهِ فَيَسْتَبْشِرُونَ بِرِيحِهِ، فَيَقُولُونَ: وَاهًا لِهَذَا الرِّيحِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ، قَدْ خَرَجَ يَسِيرُ فِي مُلْكِهِ"، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ قَدِ اسْتَرْسَلَتْ وَاقْبِضْهَا، فَقَالَ كَعْبٌ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَزَفْرَةً مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبِ، وَلا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ إِلا يَخِرُّ لِرُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ لَيَقُولُ: رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي، حَتَّى لَوْ كَانَ لَكَ عَمَلُ سَبْعِينَ نَبِيًّا إِلَى عَمَلِكَ لَظَنَنْتَ أَنَّكَ لا تَنْجُو" [69]
- الغمام : السحاب - الأوثان : جمع وَثَن وهو الصنم، وقيل : الوَثَن كلُّ ما لَه جُثَّة مَعْمولة من جَواهِر الأرض أو من الخَشَب والحِجارة، كصُورة الآدَميّ تُعْمَل وتُنْصَب فتُعْبَد وقد يُطْلَق الوَثَن على غير الصُّورة، والصَّنَم : الصُّورة بِلا جُثَّة - الدحض : الدحض والمزلة بمعنى واحد . وهو الموضع الذي تَزَلُّ فيه الأقدام ولا تستقر - مزلة : تنزلق فيه الأقدام - استحيا : انقبض وانزوى -القهرمان : الخازن الأمين المحافظ على ما في عهدته -مجوفة : مفرغة - الحُلَّة : ثوبَان من جنس واحد -الحلل : جمع الحُلَّة وهي ثوبَان من جنس واحد - الإعراض : الصد والانصراف - أشرف : أطل وأقبل واقترب وعلا ونظر وتطلع - عِلِّيُّون : اسم للسماء السابعة، وقيل : هو اسمٌ لدِيوَان الملائكة الحَفَظَة، تُرْفَع إليه أعمالُ الصالحين من العباد، وقيل : أراد أعْلَى الأمْكِنَة وأشْرَفَ المرَاتِب من اللّه في الدار الآخرة.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله : « هذا الحديث مما تهيب القول فيه شيوخنا ، فأجروه على ظاهر لفظه ، ولم يكشفوا عن باطن معناه ، على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل ما لا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب ، وقد تأوله بعضهم على معنى قوله : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (42) سورة القلم، فروي عن ابن عباس أنه قال : عن شدة وكرب . قال أبو سليمان : فيحتمل أن يكون معنى قوله : » يوم يكشف ربنا عن ساقه « . أي عن قدرته التي تنكشف عن الشدة والمعرة[70]
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِى تُحَدِّثُ بِهِ تَقُولُ إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ - أَوْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهُمَا - لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا إِنَّمَا قُلْتُ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمْرًا عَظِيمًا يُحَرَّقُ الْبَيْتُ وَيَكُونُ وَيَكُونُ ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِى أُمَّتِى فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ - لاَ أَدْرِى أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا - فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّأْمِ فَلاَ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِى كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ ». قَالَ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -r- قَالَ « فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِى خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلاَمِ السِّبَاعِ لاَ يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ أَلاَ تَسْتَجِيبُونَ فَيَقُولُونَ فَمَا تَأْمُرُنَا فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَهُمْ فِى ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ حَسَنٌ عَيْشُهُمْ ثُمَّ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَلاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلاَّ أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا - قَالَ - وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ - قَالَ - فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ - نُعْمَانُ الشَّاكُّ - فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ثُمَّ يُقَالُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ. وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ - قَالَ - ثُمَّ يُقَالُ أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَيُقَالُ مِنْ كَمْ فَيُقَالُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ - قَالَ - فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ».[71]
كبد جبل : كبد الجبل : استعارة ، والمراد : ما غمض من بواطنه. - أصغى ليتا : اللِّيت : صفحة العنق ، وإصغاؤه : إمالته. -يُصعَق : يغشى عليه ويموت. -الطَّل : النَّدى الذي ينزل من السماء في الصحو.
قَوْله : ( فَذَلِكَ يَوْم يُكْشَف عَنْ سَاق ) قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ وَمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآن { يَوْم يُكْشَف عَنْ سَاق } يَوْم يُكْشَف عَنْ شِدَّة وَهَوْل عَظِيم أَيْ يُظْهِر ذَلِكَ . يُقَال : كَشَفَتْ الْحَرْب عَنْ سَاقهَا إِذَا اِشْتَدَّتْ ، وَأَصْله أَنَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْره كَشَفَ عَنْ سَاقه مُسْتَمِرًّا فِي الْخِفَّة وَالنَّشَاط لَهُ .[72]
عن عبد الله بن عمر ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ rيَقُولُ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَسْفَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دَرَجَةً ؟ " قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " رَجُلُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ فَيَتَلَقَّاهُ غِلْمَانُهُ فَيَقُولُونَ مَرْحَبًا بِسَيِّدِنَا قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَزُورَنَا قَالَ : فَتُمَدُّ لَهُ الزَّرَابِيُّ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَيَرَى الْجِنَانَ فَيَقُولُ : لِمَنْ هَذَا ؟ فَيُقَالُ لَكَ حَتَّى إِذَا انْتَهَى رُفِعَتْ لَهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ وَزَبَرْجَدَةٌ خَضْرَاءُ لَهَا سَبْعُونَ شِعْبًا فِي كُلِّ شِعْبٍ سَبْعُونَ غَرْفَةً فِي كُلِّ غَرْفَةٍ سَبْعُونَ بَابًا فَيَقُولُونَ اقْرَأْ وَارْقَهْ ، فَيَرْقَى حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ اتَّكَأَ عَلَيْهِ سَعَتُهُ مِيلٌ فِي مِيلٍ لَهُ فِيهِ فُصُولٌ فَيُسْعَى إِلَيْهِ بِسَبْعِينَ صُحْفَةً مِنْ ذَهَبٍ لَيْسَ فِيهَا صُحْفَةٌ مِنْ لَوْنِ أُخْتِهَا يَجِدُ لَذَّةَ آخِرِهَا كَمَا يَجِدُ لَذَّةَ أَوَّلِهَا ثُمَّ يُسْعَى عَلَيْهِ بِأَلْوَانِ الْأَشْرِبَةِ فَيَشْرَبُ مِنْهَا مَا اشْتَهَى ثُمَّ يَقُولُ الْغِلْمَانُ : اتْرُكُوهُ وَأَزْوَاجَهُ فَيَنْطَلِقُ الْغِلْمَانُ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِذَا حَوْرَاءُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ جَالِسَةٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهَا عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً لَيْسَ مِنْهَا حُلَّةٌ مِنْ لَوْنِ صَاحِبَتِهَا فَيَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ وَالْعَظْمِ وَالْكِسْوَةُ فَوْقَ ذَلِكَ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا فَيَقُولُ : مَنْ أَنْتِ ؟ فَتَقُولُ : أَنَا مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مِنَ اللَّاتِي خُبِّئْنَ لَكَ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَصْرِفُ بَصَرَهُ ثُمَّ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى الْغُرَفِ فَوْقَهُ فَإِذَا أُخْرَى أَجْمَلُ مِنْهَا فَتَقُولُ : أَمَا آنَ لَكَ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيكَ نَصِيبٌ فَيَرْتَقِي إِلَيْهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَصْرِفُ بَصَرَهُ عَنْهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَ النَّعِيمُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ وَظَنُّوا أَنْ لَا نَعِيمَ أَفْضَلُ مِنْهُ تَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلِّلُونِي فَيَتَجَاوَبُونَ بِتَهْلِيلِ الرَّحْمَنِ ، ثُمَّ يَقُ