الثلاثاء، 7 أغسطس 2018

الفوائد - ابن قيم الجوزية ج2.



فصل لما سلم لآدم اصل العبودية لم يقدح فيه الذنب ابن آدم لو
لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة لما علم السيد ان ذنب عبده لم يكن قصدا لمخالفته ولا قدحا في حكمته علمه كيف يعتذر اليه فتلقى آدم م ربه كلمات فتاب عليه العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده ولا الجرأة على محارمه ولكن غلبات الطبع وتزيين النفس والشيطان وقهر الهوى والثقة بالعفو ورجاء المغفرة هذا من جانب العبد وأما من جانب الربوبية فجريان الحكم واظهار عز الربوبيه وذل العبودية وكمال الاحتياج وظهور آثار الأسماء الحسنى
كالعفو والغفور والتواب والحليم لمن جاء تائبا نادما والمنتقم والعدل وذي البطش الشديد لمن أصر ولزم المجرة فهو سبحانه يريد أن يرى عبده تفرده بالكمال ونقص العبد وحاجته اليه ويشهده كمال قدرته وعزته وكمال مغفرته وعفوه ورحمته وكمال بره وستره وحلمه وتجاوزه وصفحه وان رحمته به احسان اليه لا معارضة وانه ان لم يتغمده برحمته وفضله فهو هالك لا محالة فلله كم من تقدير الذنب من حكمة وكم فيه مع تحقيق التوبة للعبد من مصلحة ورحمة التوبة من الذنب كشرب الدواء للعليل ورب علة كانت سبب الصحة
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجساد بالعلل
لولا تقدير الذنب هلك ابن آدم من العجب ذنب يذل به احب اليه من طاعة يدل بها عليه شمعة النصر انما تنزل في شمعدان الانكسار لا يكرم العبد نفسه بمثل اهانتها ولا يعزها بمثل ذلها ولا يريحها بمثل تعبها كما قيل
سأتعب نفسي أو أصادف راحة ... فان هوان النفس في كرم النفس
ولا يشبعها بمثل جوعها ولا يؤمنها بمثل خوفها ولا يؤنسها بمثل وحشتها من كل ما سوى فاطرها وبارئها ولا يحييها بمثل امانتها كما قيل
موت النفوس جياتها ... من شاء أن يحيا يموت
شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرق من تذكر خنق الفخ هان عليه هجران الحبة يا معرقلا في شرك الهوى جمزة عزم وقد خرقت الشبكة لا بد من نفوذ القدر فاجنح للسلم لله ملك السموات والارض واستقرض منك حبة فبخلت بها وخلق سبعة ابحر وأحب منك دمعة فقحطت عينك بها اطلاق البصر ينقش قي القلب صورة المنظور والقلب كعبة والمعبود لا يرضى بمزاحمة
الأصنام لذات الدنيا كسوداء وقد غلبت عليك والحور العين يعجبن من سوء اختيارك عليهن غير أن زوبعة الهوى اذا ثارت سفت في عين البصيرة فخفيت الجادة سبحان الله تزينت الجنة للخطاب فجدوا في تحصيل المهر وتعرف رب العزة الي المحبين باسمائه وصفاته فعملوا على اللقاء وأنت مشغول بالجيف
لا كان من لسواك منه قلبه ... ولك اللسان مع الوداد الكاذب
المعرفة بساط لا يطأ عليه الا مقرب والمحبة نشيد لا يطرب عليه الا محب مغرم الحب غدير في صحراء ليست عليه جادة فلهذا قل وارده المحب يهرب الى العزلة والخلوة بمحبوبه والأنس بذكره كهرب الحوت الى الماء والطفل الى أمه
وأخرج من بين البيوت لعلنى ... أحدث عنك القلب بالسر خاليا
ليس للعابد مستراح الا تحت شجرة طوبي ولا للمحب قرار الا يوم المزيد اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت يا منفقا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه ليس في أعدائك أضر عليك منك
ما تبلغ الأعداء من جاهل ... من يبلغ الجاهل من نفسه
الهمة العليه من استعد صاحبها للقاء الحبيب وقدم التقادم بين يدي الملتقى فاستبشر عند القدوم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين تالله ما عدا عليك العدو الا بعد ان تولى عنك الولى فلا تظن ان الشيطان غلب ولكن الحافظ أعرض احذر نفسك فما أصابك بلاء قط الا منها ولا تهادنها فوالله ما أكرمها من لم يهنها ولا أعزها من لم يذلها ولا جبرها من لم يكسرها ولا أراحها من لم يتبعها ولا أمنها من لم يخوفها ولا فرحها من لم يحزنها سبحان الله ظاهرك متجمل بلباس التقوى وباطنك باطية
لخمر الهوى فكلما طيبت الثوب فاحت رائحة المسكر من تحته فتباعد منك الصادقون وانحاز اليك الفاسقون يدخل عليك لص الهوى وأنت في زاوية التعبد فلايرى منك طردا له فلا يزال بك حتي يخرجك من المسجد أصدق في الطلب وقد جاءتك المعونة فقال رجل لمعروف علمنى المحبة فقال المحبه لا تجيء بالتعليم
هو الشوق مدلولا على مقتل الفنا ... اذا لم يعد صبا بلقيا حبيبه
ليس العجيب من قوله يحبونه انما العجب من قوله يحبهم ليس العجب من فقير مسكين يحب محسنا اليه أنما العجب من محسن يحب فقيرا مسكينا
فصل القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده وصفاته فتارة يتجلى في
جلباب الهيبة والعظمة والجلال فتخضع الأعناق وتنكسر النفوس وتخشع الاصوات ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال وهو كمال الاسماء وجمال الصفات وجمال الافعال الدال على كمال الذات فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها بحب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله فيصبح فؤاد عبده فارغا الا من محبته فاذا أراد منه الغيران يعلق تلك المحبة به ابى قلبه واحشاؤه ذلك كل الاباء كما قيل
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل
فتبقى المحبة له طبعا لا تكلفا واذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والاحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله وقوي طمعه وسار الى ربه وحادى الرجاء يحدو ركاب سيره وكلما قوي الرجاء جد في العمل كما ان الباذر كلما قوي طمعه في المغل غلق ارضه بالبذر واذا ضعف رجاؤه قصر في البذر واذا تجلى بصفات العدل والانتقام
والغضب والسخط والعقوبة انقمعت النفس الأمارة وبطلت او ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص علي المحرمات وانقبضت أعنة رعوناتها فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر واذا تجلى بصفات الامر والنهي والعهد والوصية وارسال الرسل وانزال الكتب شرع الشرائع انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره والتبليغ لها والتواصي بها وذكرها وتذكرها والتصديق بالخبر والامتثال للطلب والاجتناب للنهى واذا تجلى بصفة السمع والبصر والعلم انبعث من العبد قوة الحياء فيستحي ربه ان يراه على ما يكره او يسمع منه ما يكره او يخفى في سريرته ما يمقته عليه فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسله تحت حكم الطبيعة والهوى واذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم اليهم ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض اليه والرضا به وما في كل ما يجريه علي عبده ويقيمه مما يرضى به هو سبحانه والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته به ورضاه بما يفعله به ويختاره له واذا تجلى بصفات العز والكبرياء اعطت نفسه المطمئنة ما وصلت اليه من الذل لعظمته والانكسار لعزته والخضوع لكبريائه وخشوع القلب والجوارح له فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته ويذهب طيشه وقوته وحدته
وجماع ذلك انه سبحانه يتعرف الي العبد بصفات آلهيته تارة وبصفات ربوبيته تارة فيوجب له شهود صفات الآلهية المحبة الخاصة والشوق الى لقائه والانس والفرح به والسرور بخدمته والمنافسة في قربه والتودد اليه بطاعته واللهج بذكره والفرار من الخلق اليه ويصير هو وحده همه دون ما سواه ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار اليه والاستعانة به والذل والخضوع والانكسار له وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته فى الهيته والهيته في ربوبيته وحمده في ملكه وعزه في عفوه
وحكمته في قضائه وقدره ونعمته في بلائه وعطاءه في منعه وبره ولطفه وأحسانه ورحمته في قيوميته وعذله في انتقامه وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه وعزه في رضاه وغضبه وحلمه في إمهاله وكرمه فى إقباله وغناه في اعراضه
وانت اذا تدبرت القرآن واجرته من التحريف وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وافكار المتكلفين أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته علي عرشه يدبر أمر عباده يأمر وينهي ويرسل الرسل وينزل الكتب ويرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويخفض ويرفع يرى من فوق سبع ويسمع ويعلم السر والعلانية فعال لما يريد موصوف بكل كمال منزه عن كل عيب لا تتحرك ذرة فما فوقها الا بأذنه ولا تسقط ورقه إلا بعلمه ولا يشفع زهد عنده إلا بأذنه ليس لعباده من دونه ولى ولا شفيع
فصل لما بايع الرسول أهل العقبة أمر أصحابه بالهجرة الي المدينة
فعلمت قريش أن أصحابه قد كثروا وأنهم سيمنعونه فاعلمت آراءها في استخراج الحيل فمنهم من رأى الحبس ومنهم من رأى النفي ثم اجتمع رأيهم على القتل فجاء البريد بالخبر من السماء وأمره أن يفارق المضجع فبات علي مكانه ونهض الصديق لرفقة السفر فلما فارقا بيوت مكة اشتد الحذر بالصديق فجعل يذكر الرصد فيسير أمامه وتارة يذكر الطلب فيتأخر وراءه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله الي أن انتهيا الى الغار فبدأ الصديق بدخوله ليكون وقاية له ان كان ثم موذ وأنبت الله شجرة لم تكن قبل فأظلمت المطلوب وأضلت الطالب وجاءت عنكبوت فحازت وجه الغار فحاكت ثوب نسجها علي منوال الستر فاحكمت الشقة حتى عمى على القائف المطلب وأرسل حمامتين فاتخذتا هناك عشا جعل
على أبصار الطالبين غشاوة وهذا أبلغ في الاعجاز من مقاومة القوم بالجنود فلما وقف القوم على رؤوسهم وصار كلامهم بسمع الرسول والصديق قال الصديق وقد اشتد به القلق يا رسول الله لو أن أحدهم نظر الي ما تحت قدميه لابصرنا تحت قدميه فقال رسول الله يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لما رأى الرسول حزنه قد اشتد لاكن علي نفسه قوي قلبه ببشارة لا تحزن ان الله معنا فظهر سر هذا الاقتران في المعية لفظا كما ظهر حكما ومعنى اذا يقال رسول الله وصاحب رسول الله فلما مات قيل خليفة رسول الله ثم انقطعت اضافة الخلافة بموته فقيل أمير المؤمنين فاقاما في الغار ثلاثا ثم خرجا منه ولسان القدر يقول لتدخلنها دخولا لم يدخله أحد قبلك ولا ينبغي لاحد من بعدك فلما استقلا علي البيداء لحقهما سراقة بن مالك فلما شارف الظفر أرسل عليه الرسول سهما من سهام الدعاء فساخت قوائم فرسه في الارض الى بطنها فلما علم انه لا سبيل له عليهما أخذ يعرض المال علي من قد رد مفاتيح الكنوز ويقدم الزاد الي شبعان أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني كان تحفة ثاني اثنين مدخرة للصديق دون الجميع فهو الثاني في الاسلام وفي بذل النفس وفي الزهد وفي الصحبة وفي الخلافة وفي العمر وفي سبب الموت لان الرسول مات عن أثر السم وأبو بكر سم فمات اسلم على يديه من العشرة عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وكان عنده يوم أسلم أربعون الف درهم فانفقها أحوج ما كان الاسلام اليها فلهذا اجلبت نفقته عليه ما نفعنى مال ما نفعنى مال أبي بكر فهو خير من مؤمن آل فرعون لان ذلك كان يكتم ايمانه والصديق اعلن به وخير من مؤمن آل ياسين لان ذلك جاهد ساعة والصديق جاهد سنين عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار ويصيح من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فألقى له حب المال علي روض الرضا واستلقى على فراش الفقر فنقل الطائر الحب الى حوصلة المضاعفة ثم علا على افنان شجرة الصدق يغرد
بفنون المدح ثم قال في محاريب الاسلام يتلو وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى نطقت بفضله الآيات والاخبار واجتمع على بيعته المهاجرون والانصار فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار أتري لم يسمع الروافض الكفار ثانى اثنين اذ هما فى الغار دعى الي الاسلام فما تلعثم ولا أبى وسار علي المحجة فما زل ولا كبا وصبر فى مدته من مدى العدى علي وقع الشبا واكثر فى الانفاق فما قلل حتى تخلل بالعبا تالله لقد زاد علي السبك فى كل دينار دينار ثاني اثنين إذ هما فى الغار من كان قرين النبي في شبابه من ذا الذي سبق إلي الإيمان من أصحابه من الذى أفتى بحضرته سريعا في جوابه من أول من صلي معه من آخر من صلى به من الذي ضاجعه بعد الموت فى ترابه فاعرفوا حق الجار نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الالحاظ فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره ولكن أين الفرار كم وقى الرسول بالمال والنفس وكان أخص به فى حياته وهو ضجيعه فى الرمس فضائله جليلة وهى خلية عن اللبس ياعجبا من يغطى عين ضوء الشمس في نصف النهار لقد دخلا غارا لا يسكنه لابث فاستوحش الصديق من خوف الحوادث فقال الرسول ما ظنك باثنين والله الثالث فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث فزال القلق وطاب عيش الماكث فقام مؤذن النصر ينادى على رؤوس منائر الامصار ثاني اثنين اذ هما فى الغار حبه والله رأس الحنيفة وبغضه يدل على خبث الطوية فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية لولا صحة مامته ما قيل ابن الحنيفة مهلا فأن ذم الروافض قد فار والله ما أحببناه لهوانا ولا نعتقد في غيره هوانا ولكن أخذنا بقول على وكفانا رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا تالله لقد أخذت من الروافض بالثار
تالله لقد وجب حق الصديق علينا فنحن نقضي بمدائحه ونفر بما نقر به من السنى عينا فمن كان رافضيا فلا يعد الينا وليقل لي أعذار تنبيه
اجتنب من يعادى أهل الكتاب والسنة لئلا يعديك خسرانه احترز من عدوين هلك بهما أكثر الخلق صاد عن سبيل الله بشبهاته وزخرف قوله ومفتون بدنياه ورئاسته من خلق فيه قوة واستعداد لشيء كانت لذته فى استعمال تلك القوة فيه فلذة من خلقت منه قوه وأستعداد للجماع أستعمال قوته فيه ولذ1ة من خلقت فيه قوة الغضب والثواب باستعمال قوته الغضبية فى متعلقها ومن خلقت فيه قوة الاكل والشرب فلذته باستعمال قوته فيهما ومن خلقت فيه قوة العلم والمعرفة فلذته باستعمال قوته وصرفها الى العلم ومن خلقت فيه قوة الحب لله والانابة اليه والعكوف بالقلب عليه والشوق اليه والأنس به فلذته ونعيمه استعمال هذه القوة فى ذلك وسائر اللذات دون هذه اللذة مضمحلة فانية واحمد عاقبتها أن تكون لا له ولا عليه تنبيه
يا أيها الأعزلاحذر فراسة المتقى فانه يرى عورة عملك من وراء ستر أتقوا فراسة المؤمن سبحان الله فى النفس كبر ابليس وحسد قابيل وعتو عاد وطغيان ثمود وجرأة نمرود واستطالة فرعون وبغى قارون وقحة هامان
وهوى بلعام وحيل اصحاب السبت وتمرد لوليد وجهل أبي جهل وفيها من أخلاق البهائم حرص الغراب وشره الكلب ورعونة الطاووس ودناءة الجعل وعقوق الضب وحقد الجمل ووثوب الفهد وصولة الاسد وفسق الفأرة وخبث الحية وعبث القرد وجمع النملة ومكر الثعلب وخفة الفراش ونوم الضبع غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند ولا تصلح سلعته لعقد ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم فما اشترى الا سلعة هذبها الايمان فخرجت من طبعها الى بلد سكانه التائبون العابدون سلم المبيع قبل أن يتلف في يدك فلا يقبله المشتري قد علم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها فسلمها ولك الامان من الرد قدر السلعة يعرف بقدر مشتريها والثمن المبذول فيه والمنادى عليها فاذا كان المشتري عظيما والثمن خطيرا والمنادى جليلا كانت السلعة نفيسة
يا بائعا نفسه بيع الهوان لو استرجعت ذا البيع قبل الفوت لم تخب
وبائعا طيب عيش ما له خطر ... بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا ولدى ... يوم التغابن تلقى غاية الحرب
وواردا صفو عيش كله كدر ... أمامك الورد حقا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا ... لكل داهية تدني من العطب
ترجوا الشفاء بأحداق بها مرض ... فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم ... وصفاللطخ جمال فيه مستلب
وواهبا نفسه من مثل ذا سفها ... لو كنت تعرف قدر النفس لم تهب
شاب الصبا والتصابي لم يشب ... وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها ... والفيء في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد جدوا انقشعت ... عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت ... ورسل ربك قد وافتك فى الطلب
ما فى الديار وقد سارت ركائب من ... تهواه للصب من شكر ولا أرب
فافرش الخد ذياك التراب وقل ... ما قاله صاحب الأشواق والحقب
ما ربع مية محفوفا يطيف به ... غيلان أشهى له من ربعك الخرب
منازلا كان يهواها ويألفها ... ايام كان منال الوصل عن كثب
ولا الخدود ولو أدمين من ضرج ... اشهى الى ناظرى من ربعك الخرب
وكلما جليت تلك الربوع له ... يهوى اليها هوى الماء فى الصبب
أحيى له الشوق تذكار العهود بها ... فلو دعى القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منزل فى الأرض يألفه ... وماله فى سواها الدهر من رغب
ما فى الخيام اخو وجدير يحك إن ... بثثته بعض شان الحب فاغترب
واسر فى غمرات الليل متهديا ... بنفحة الطيب لا بالعود والحطب
وعاد كل أخى جبن ومعجزة ... وحارب النفس لا تلقيك فى الحرب
وخذ لنفسك نورا تستضىء به ... يوم اقتسام الورى الانوار بالرتب
ان كان يوجب صبري رحمتي فرضا ... بسوء حالى وحل للضنا بدني
منحتك الروح لا أبغى لها ثمنا ... الا رضاك ووافقرى الا الثمن
أحن بأطراف النهار صبابه ... وبالليل يدعوني الهوى فأجيب
واذا لم يكن من العشق بد ... فمن عجز عشق غير الجميل
فلو أن ما أسعى لعيش معجل ... كفانى منه بعض ما أنا فيه
ولكنما أسمى لملك مخلد ... فوا أسفا إن لم أكن بملاقيه
يا من هو من أرباب الخبرة هل عرفت قيمة نفسك انما خلقت الأكوان كلها لك يا من غذى بلبان البر وقلب بأيدى الالطاف كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة وصورة وأنت المعنى وصدف وأنت الدر ومخيض وأنت الزبد منشور اختيارنا لك واضح الخط ولكن استخراجك ضعيف متي رمت طلبى فاطلبني عندك اطلبني منك تجدني قريبا ولا تطلبني من غيرك فانا أقرب اليك منه لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي انما أبعدنا ابليس اذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك فوا عجبا كيف صالحته وتركتنا لو كان في قلبك محبة لبان أثرها علي جسدك
ولما ادعيت الحب قالت كذبتي ... ألست أري الأعضاء منك كواسيا
لو تغذى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات
ولو كنت عذري الصبابة لم تكن ... بطينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
لو صحت محبتك لاستوحشت ممن لا يذكرك بالحبيب واعجبا لمن يدعى المحبة ويحتاج الي من يذكره بمحبوبة فلا يذكره الا بمذكر أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكر المحبوب
ذكرتك لا أني نستك ساعة ... وايسر ما في الذكر ذكر لساني
اذا سافر المحب للقاء محبوبه ركبت جنوده معه فكان الحب في مقدمة العسكر والرجاء يحدو بالمطى والشوق يسوقها والخوف يجمعها علي الطريق فاذا شارف قدوم بلد الوصل خرجت تقادم الحبيب باللقاء
فداو سقما بجسم انت متلفه ... وابرد غراما بقلب انت مضرمه
ولا تكلني على بعد الديار الي ... صبرى الضعيف فصبري أنت تعلمه
تلقى قلبه فقد ارسلته عجلا ... الى لقائك والأشواق تقدمه
فاذا دخل علي الحبيب افيضت عليه الخلع من كل ناحية ليمتحن أيسكن اليها فتكون حظه ام يكون التفاته الى من ألبسه اياها ملأوا مراكب القلوب متاعا لا تنفق الا على الملك فلما هبت رياح السحر اقلعت تلك المراكب فما طلع الفجر الا وهي بالمينا قطعوا بادية الهوى باقدام الجد فما كان الا القليل حتى قدموا من السفر فاعقبهم الراحة في طريق التلقى فدخلوا بلد الوصل وقد حاز ربح الأبد فرغ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة فاقاموا العيون تحرس تارة وترش أخرى سرادق المحبة لا يضرب الا في قاع نزه فارغ
نزه فؤادك من سوانا والقنا ... فنجنابنا حل لكل منزه
الصبر طلسم لكنز وصالنا ... من حل ذا الطلسم فاز بكنزه
اعرف قدر ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت لو تخيلت قرب الأحباب لاقمت المأتم على بعدك لو استنشقت ريح الأسحار لافاق منك قلبك المخمور من استطال الطريق ضعف مشيه
وما انت بالمشتاق ان قلت بيننا ... طوال الليالى أو بعيد المفاوز

أما علمت أن الصادق اذا هم القى بين عينيه عزمه اذا نزل آب في القلب حل آذار في العين هان سهر الحراس لما علموا ان أصواتهم بسمع الملك من لاح له حال الآخرة هان عليه فراق الدنيا اذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف يا أقدام الصبر احملي بقى القليل تذكر حلاوة الوصال يهن عليك مر المجاهدة قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر أعلي الهمم همة من استعد صاحبها للقاء الحبيب قدم التقادم بين يدي الملتقى فاستبشر بالرضا عند القدوم وقدموا لانفسهم الجنه ترضي منك باداء الفرائض والنار تندفع
عنك بترك المعاصي والمحبة لا تقنع منك الا ببذل الروح لله ما أحلى زمان تسعى فيه أقدام الطاعة علي ارض الاشتياق لما سلم القوب النفوس الى رائض الشرع علمها الوفاق في خلاف الطبع فاستقامت مع الطاعة كيف دارت دارت معها
واني اذا اصطكت رقاب مطيهم ... وثور حاد بالرفاق عجول
اخالف بين الراحتين على الحشا ... وأنظر أني ملثم فأميل
فصل علمت كلبك فهو يترك شهوته في تناول ما صاده احتراما لنعمتك وخوفا
من سطوتك وكم علمك معلم الشرع وأنت لا تقبل حرم صيد الجاهل والممسك لنفسه فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوي نفسه جمع فيك عقل الملك وشهوة البهيمة وهوى الشيطان وأنت للغالب عليك من الثلاثة أن غلبت شهوتك وهواك زدت على مرتبة ملك وان غلبك هواك وشهوتك نقصت عن مرتبة كلب لما صاد الكلب لربه أبيح صيده ولما أمسك علي نفسه حرم ما صاده مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة المعطي المانع فهو سبحانه يصرف عباده بين مقتضى هذين الاسمين فحظ العبد الصادق من عبوديته بهما الشكر عند العطاء والافتقار عند المنع فهو سبحانه يعطيه ليشكره ويمنعه ليفتقر اليه فلا يزال شكورا فقيرا
قوله تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه وان المؤمن دائما مع الله علي نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه فهو مع الله علي عدوه الداخل فيه والخارج عنه يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه كما يكون خواص الملك معه علي حرب اعدائه والبعيدون منه فارغون من ذلك غير مهتمين به
والكافر مع شيطانه ونفسه وهواه علي ربه وعبارات السلف علي هذه تدور ذكر بن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال عونا للشيطان علي ربه بالعداوة والشرك وقال ليث عن مجاهد قال يظاهر الشيطان علي معصية الله يعينه عليها وقال زيد بن أسلم ظهيرا أي مواليا والمعني أنه يوالي عدوه علي معصيته والشرك به فيكون مع عدوه معينا له علي مساخط ربه
فالمعية الخاصة لتي للمؤمن مع ربه وإله قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه ولهذا صدر الآية بقوله ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه بخلاف وليه سبحانه فانه معه علي نفسه وشيطانه وهواه وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله وبالله التوفيق
قوله تعالى والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا قال مقاتل اذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه وعميانا لم يبصروه ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به وقال ابن عباس لم يكونوا عليها صما وعميانا بل كانوا خائفين خاشعين وقال الكلبي يخرون عليها سمعا وبصرا وقال الفراء اذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولي كأنهم لم يسمعوه فذلك الخرور وسمعت العرب تقول قعد يشتمنى كقولك قام يشتمنى واقبل يشتمنى والمعني على ما ذكر لم يصيروا عندها صما وعميانا وقال الزجاج المعني اذا تليت عليهم خروا سجدا وبكيا سامعين مبصرين كما أمروا به وقال ابن قتيبة أي لم يتغافلوا عنها كانهم صم لم يسمعوها وعمى لم يروها قلت ههنا أمران ذكر الخرور وتسليط النفي عليه وهل هو خرور القلب أو خرور البدن
للسجود وهل لمعنى لم كن خرورهم عن صمم وعمه فلهم عليها خرورا بالقلب خضوعا أو بالبدن سجودا أو ليس هناك خرور وعبر به عن القعود
أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة تعلق القلب بغير الله وطاعة القوة الغضبية والقوة الشهوانية وهي الشرك والظلم والفواحش فغاية التعلق بغير الله شرك وان يدعى معه اله آخر وغاية طاعة القوة الغضبية القتل وغاية القوة الشهوانية الزنا ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون وهذه الثلاثة يدعو بعضها الى بعض فالشرك يدعو الى الظلم والفواحش كما ان الاخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه قال تعالى
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فالسوء العشق والفحشاء الزنا وكذلك الظلم يدعو الى الشرك والفاحشة فان الشرك اظلم لظلم كما أن أعدل العدل التوحيد فالعدل قرين التوحيد والظلم قرين الشرك ولهذا يجمع سبحانه بينهما أما الاول ففي قوله شهد اللهأنه لا اله الا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وأما الثاني فكقوله تعالى ان الشرك لظلم عظيم والفاحشة تدعو الى الشرك والظلم ولا سيما اذا قويت ارادتها ولم تحصل الا بنوع من الظلم بالظلم والاستعانة بالسحر والشيطان وقد جمع سبحانه بين الزنا والشرك في قوله
الزاني لا ينكح الا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها الا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فهذه الثلاثة يجر بعضها الى بعض ويامر بعضها ببعض ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيدا وأعظم شركا كان أكثر فاحشة واعظم تعلقا بالصور وعشقا لها ونظير هذا قوله تعالى وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون فاخبر أن ما عنده خير لمن آمن به وتوكل عليه وهذا هو التوحيد ثم قال والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش فهذا اجتناب داعي القوة الشهوانية ثم قال
واذا ما غضبوا هم يغفرون فهذا مخالفة القوة الغضبية فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التي هي جماع الخير كله
فائدة هجر القرآن أنواع أحدها هجر سماعه والايمان به والاصغاء اليه
والثاني هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وان قرأه وآمن به والثالث هجر تحكيمه والتحاكم اليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم والرابع هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه والخامس هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به وكل هذا داخل في قوله وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وأن كان بعض الهجر اهون من بعض وكذلك لحرج الذي فى الصدور منه فانه تارة يكون حرجا من إنزاله وكونه حقا من عند الله وتارة يكون من جهة لتكلم به أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته الهم غيره أن تكلم به وتارة يكون من جهة كفايته وعدمها وأنه لا يكفي العباد بل هم محتاجون معه الى المعقولات والأقيسة أو الأراء أو السياسات وتارة يكون من جهة دلالته وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب أو أريد به تأويلها واخراجها عن حقائقها الي تأويلات مستكرهة مشتركة وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وان كانت مرادة فهي ثابتة في نفس الامر أو أوهم أنها مرادة لضرب المصلحة فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم ولا تجد مبتدعا في دينه قط الا وفي قلب حرج من الآيات التي تخالف بدعته كما نك لا تجد ظالما فاجرا الا وفى صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين ارادته فتدبر هذا لمعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء
فائدة كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين أحدهما أن يصير هيئة راسخة وصفة
لازمة له الثاني أن يكون صفة كمال في نفسه فاذا لم يكن كذلك لم يكن كمالافلا يليق بمن يسعى فى كمال نفسه المنافسة عليه ولا الأسف على فوته وذلك ليس الا معرفة بارئها وفاطرها ومعبودها والهها لحق الذي لا صلاح لها ولا نعيم ولا لذة الا بمعرفته وارادة وجهه وسلوك الطريق الموصلة اليه والى رضاه وكرامته وأن تعتاد ذلك فيصير لها هيئة راسخة لازمة وما عدا ذلك من العلوم والارادات والأعمال فهي بين مالا ينفعها ولا يكملها وما يعود بضررها ونقصها وألمها ولا سيما اذا صار هيئة راسخة لها فانها تعذب وتتألم به بحسب لزومه لها وأما الفضائل المنفصلة عنها كالملابس والمراكب والمساكن والجاه والمال فتلك فى الحقيقة عوار اعيرتها مدة ثم يرجع فيها المعير فتتألم وتتعذب برجوعه فيها بحسب تعلقها بها ولا سيما اذا كانت هي غاية كمالها فاذا سلبتها أحضرت أعظم النقص والألم والحسرة فليتدبر من يريد سعادة نفسه ولذتها هذه النكتة فاكثر هذا الخلق انما يسعون في حرمان نفوسهم وألمها وحسرتها ونقصها من حيث يظنون أنهم يريدون سعادتها ونعيمها فلذتها بحسب ما حصل لها من تلك المعرفة والمحبة والسلوك وألمها وحسرتها بحسب ما فاتها من ذلك ومتى عدم ذلك وخلا منه لم يبق فيه الا القوى البدنية النفسانية التي بها يأكل ويشرب وينكح ويغضب وينال سائر لذاته ومرافق حياته ولا يلحقه من جهتها شرف ولا فضيلة بل خساسة ومنقصة اذ كان انما يناسب بتلك القوى البهائم ويتصل بجنسها ويدخل في جملتها ويصير كأحدها وربما زادت في تناولها عليه واختصت دونه بسلامة عافيتها والأمن من جلب الضرر عليها فكمال تشاركك فيه البهائم وتزيد عليك وتختص عنك فيه بسلامة العاقبة حقيق أن تهجره الي الكمال الحقيقى الذي لا كمال سواه وبالله التوفيق
فائدة جليلة اذا أصبح العبد وأمسي وليس همه الا الله وحده تحمل الله
سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وان أصبح وأمسي والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله الى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره لكل من أعرض عن عبودية اللله وطاعته ومحبته بلى بعبودية لمخلوق ومحبته وخدمته قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين قال سفيان بن عيينة لا تأتون بمثل مشهور للعرب الا جئتكم به من القرآن فقال له قائل فأين في القرآن اعط أخاك تمرة فان لم يقبل فاعطه جمرة فقال في قوله
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا الآية
فائدة العلم نقل صورة المعلوم من الخارج واثباتها في النفس ولعمل نقل
صورة علمية من النفس واثباتها في الخارج فان كان الثابت في النفس مطابقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح وكثيرا ما يثبت ويترا أي في النفس صور ليس لها وجود حقيقى فيضنها الذي قد أثبتها في نفسه علما وانما هي مقدرة لا حقيقية لها واكثر علوم الناس من هذا الباب وما كان منها مطابقا للحقيقة في الخارج فهو نوعان نوع تكمل النفس بادراكه والعلم به وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكتبه وأمره ونهيه ونوع لا يحصل به للنفس كمال وهو كل علم لا يضر الجهل به فانه لا ينفع العلم به وكان النبي يستعيذ بالله من علم لا ينفع وهذا حال أكثر لعلوم الصحيحة المطابقة التي لا يضر الجهل بها شيئا كالعلم بالفلك
ودقائقه ودرجاته وعدد الكواكب ومقاديرها والعلم بعدد الجبال والوانها ومساحتها ونحو ذلك فشرف العلم بحسب شرف معلومه وشدة الحاجة اليه وليس ذلك الا العلم بالله وتوابع ذلك واما العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الدينى الذي يحبه الله ويرضاه وذلك يكون من فساد العلم تارة ومن فساد الارادة تارة ففساد من جهة العلم ان يعتقد ان هذا مشروع محبوب لله وليس كذلك او يعتقد انه يقر به الي الله وان لم يكن مشروعا فيظن انه يتقرب الي الله بهذا العمل وان لم يعلم انه مشروع وأما فساده من جهة القصد فان لا يقصد به وجه الله والدار الآخرة بل يقصد به الدنيا والخلق وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل الى السلامة منهما الا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة وارادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والرادة فمتى خلا من هذه المعرف وهذه الارادة فسد علمه وعمله والأيمان واليقين يورثان صحة المعرفة وصحة الارادة يورثان الايمان ويمدانه ومن هنا يتبين انحراف اكثر الناس عن الأيمان ولانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الارادة ولا يتم الايمان الا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة وتجريد الارادة عن شوائب الهوى وارادة الخلق فيكون علمه مقتبسا من مشكاة الوحى وارادته لله والدار الآخرة فهذا أصح الناس علما وعملا وهو من الأئمة الذين يهدون بامر الله ومن خلفاء رسوله في أمته
قاعدة الايمان له ظاهر وباطن وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه
تصديق القلب وانقياده ومحبته فلا ينفع ظاهر لا باطن له وان حقن به الدماء وعصم به المال والذرية ولا يجزىء باطن لا ظاهر له الا اذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل علي فساد الباطن وخلوه من الايمان ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته فالايمان قلب الاسلام ولبه
واليقين قلب الايمان ولبه وكل علم وعمل لا يزيد الايمان واليقين قوة فمدخول وكل ايمان لا يبعث على العمل فمدخول
قاعدة التوكل على الله نوعان احدهما توكل عليه في جلب حوائج العبد
وحظوظه الدنيوية او دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية والثاني التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الايمان واليقين والجهاد والدعوة اليه وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه الا الله فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية ومتي توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه فاعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة اتباعهم
التوكل تارة يكون توكل اضطرار والجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا الا التوكل كما اذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن ان لا ملجأ من الله الا اليه وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة وتارة يكون توكل اختيار وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي الى المراد فان كان السبب مأمورا به ذم على تركه وان قام السبب وترك التوكل ذم على تركه أيضا فانه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن والواجب القيام بهما والجمع بينهما وان كان السبب محرما حرم عليه مباشرته وتوحد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه فان التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه بل هو أقوى الأسباب على الاطلاق وان كان السبب مباحا نظرت هل يضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه فان أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه اولى وان لم يضعفه فمباشرته أولى لأن حكمه أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته
مهما أمكنك القيام بها ولا سيما اذا فعلته عبودية فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل وعبودية الجوارح بالسبب المنوى به القربة والذي يحقق لتوكل القيام بالأسباب المأمور بها فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام بالأسباب المفضية الي حصول الخير يحقق رجاءه فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيا كما أن من عطلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب علي الله وحده فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون اليها كما لا ينفعه قوله توكلت علي الله مع اعتماده على غيره وركونه اليه وثقته به فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء كما أن توبة اللسان مع اصرار القلب شيء وتوبة القلب وان لم ينطق اللسان شيء فقول العبد توكلت على الله مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله تبت الي الله وهو مصر على معصيته مرتكب لها
فائدة الجاهل يشكو الله الي الناس وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو
اليه فانه لو عرف ربه لما شكاه ولو عرف الناس لما شكا اليهم ورأى بعض السلف رجلا يشكو الي رجل فاقته وضرورته فقال يا هذا والله ما زدت على ان شكوت من يرحمك وفي ذلك قيل
اذا شكوت الي ابن آدم انما ... تشكو الرحيم الى الذي لا يرحم
والعارف انما يشكو الى الله وحده وأعرف العارفين من جعل شكواه الي الله من نفسه لا من الناس فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه فهو ناظر الى قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم وقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وقوله أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا
قل هو من عند أنفسكم فالمراتب ثلاثة أخسها أن تشكو الله الى خلقه وأعلاها أن تشكو نفسك اليه وأوسطها أن تشكو خلقه اليه
قاعدة جليلة قال الله تعالى
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول اذا دعاكم لما يحيكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه واليه تحشرون فتضمنت هذه الآية أمورا أحدها ان الحياة النافعة انما تحصل بالاستجابة لله ورسوله فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وان كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا فهؤلاء هم الأحياء وان ماتوا وغيرهم أموات وان كانوا احياء الأبدان ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول فان كان ما دعا اليه ففيه الحياة فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول قال مجاهد لما يحيكم يعني للحق وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة وقال السدى هو الاسلام أحياهم به بعد موتهم بالكفر وقال ابن اسحق وعروة بن الزبير واللفظ له لما يحيكم يعنى للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل وقواكم بعد الضعف ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم وهذه كل عبارات عن حقيقة واحدة وهى القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا قال الواحدى والأكثرون على ان معنى قوله لما يحيكم هو الجهاد وهو قول ابن اسحق واختيار أكثر أهل المعاني قال الفراء اذا دعاكم الي احياء أمركم بجهاد عدوكم يريد ان أمرهم انما يقوى بالحرب والجهاد فلو تركوا لجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم قلت الجهاد من أعظم ما يحيهم به فى الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة أما في الدنيا فان قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد وأما في البرزخ فقد قال تعالى ولا تحسبن
الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وأما في الآخرة فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم ولهذا قال ابن قتيبة لما يحيكم يعني الشهادة وقال بعض المفسرين لما يحيكم يعني الجنة فانها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة حكاة أبو علي الجرجاني والآية تتناول هذا كله فان الايمان والاسلام والقرآن والجهاد يحي القلوب الحياة الطيبة وكمال الحياة في الجنة والرسول داع الي الايمان والى الجنة فهو داع الى الحياة في الدنيا والآخرة والانسان مضطر الى نوعين من الحياة حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره ومتي نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغى والرشاد والهوى والضلال فيختار الحق علي ضده فتفيده هذه الحياة قوة التميز بين النافع والضار في العلوم والارادات والأعمال وتفيده قوة الايمان والارادة والحب للحق وقوة البغض والكراهة للباطل فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة كما ان البدن الحى يكون شعوره واحساسه بالنافع والمؤلم أتم ويكون ميله الي النافع ونفرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن وذاك بحساب حياة القلب فاذا بطلت حياته بطل تمييزه وان كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع علي الضار كما ان الانسان لا حياة له حتي ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه فيصير حيا بذلك النفخ وان كان قبل ذلك من جملة الأموات فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول من الروح الذي ألقى اليه قال تعالى
ينزل الملائكة بالروح من أمره علي من يشاء من عباده وقال يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا لايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فاخبر أن وحيه روح ونور فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول
الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له احدى الحياتين وفاتته الأخرى الأخرى قال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابة بين الموت والظلمة قال ابن عباس وجميع المفسرين كان كافرا ضالا فهديناه
وقوله وجعلنا له نورا يمشي به في الناس يتضمن امورا احدها انه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها وثانيها انه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم الى النور وثالثها انه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط اذا بقى اهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم
وقوله
واعلموا ان الله يحؤل بين المرء وقلبه المشهور في الآية انه يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الايمان ويحول بين اهل طاعته وبين معصيته وبين اهل معصيته وبين طاعته وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين وفي الآية قول آخر ان المعنى انه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافيه فهو بينه وبين قلبه ذكره الواحدي عن قتادة وكان هذا انسب بالسياق لأن الاستجابة اصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب فان الله سبحانه بين العبد وبين قلبه فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه وعلي القول الأول فوجه المناسبة انكم ان تثاقلتم عن الاستجابة و أبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانة فيكون كقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقوله
فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب وان استجاب بالجوارح وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة وبين القدر والايمان به فهي كقوله لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن الا أن يشاء الله رب العالمين وقوله فمن شاء ذكره وما يذكرون الا أن يشاء الله والله أعلم
فائدة جليلة قوله تعالى
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون وقوله عز و جل وان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية علي نفسه منه وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده ويحب الموادعة و المتاركة وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها وله في امساكها خير كثير لا يعرفه ويحب المرأة لوصف من أصافها وله في أمساكها شر كثير لا يعرفه لانسان كما وصفه وصفه به خالقه ظلوم جهول فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يصره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه بل المعيار علي ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه فانفع الأشياء له علي الاطلاق طاعةربه بظاهره وباطنه وأضر الأشياء عليه علي الاطلاق معصيته بظاهره وباطنه فاذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له وذا تخلي عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقينا ان المكروهات التي تصيبه والمحن لتي تنزل به فيها
ضروب من المصالح والمنافع لتي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب
فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها فانظر الى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقى والاصلاح حتي أثمرت أشجارها فاقبل عليها يفصل اوصالها ويقطع أغصانها لعلمه انها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة حتي اذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها اقبل بقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها ان تكون بحضرة الملوك ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا ولا يترك الماء عليها دائما وان كان ذلك انضر لورقها واسرع لنباتها ثم يعمد الى تلك الزينة التى زينت بها من الأوراق فيلقى عنها كثيرا منها لان تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها كما في شجر العنب ونحوه فهو يقطع اعضاءها بالحديد ويلقى عنها كثيرا من زينتها وذلك عين مصلحتها فلو انها ذات تمييز وادراك كالحيوان لتوهمت ان ذلك إفساد لها واضرار بها وانما هو عين مصلحتها
وكذلك الأب الشفيق علي ولده العالم بمصلحته اذا رأى مصلحته في اخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده وقطع عروقه واذاقه الالم الشديد وان رأى شفاة في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه كان ذلك رحمة به وشفقة عليه وان رأى مصلحته فى ان يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه لعلمه ان ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه وكذلك يمنعه كثيرا من شهواته حمية له ومصلحة لا بخلا عليه فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعبادة منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم اذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن لا ينزله بهم نظرا منه لهم واحسانا اليهم ولطفا بهم ولو مكنوا من الاحتيار لانفسهم
لعجزوا عن القيام بمصالحهم علما وارادة وعملا لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته أحبوا أم كرهوا فعرف ذلك الموقنون باسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه وخفي ذلك على الجهل به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيره وقدحوا فى حكمته ولم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة فلا لربهم عرفوا ولا لمصالحهم حصلوا والله الموفق
ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه فيها إلا نعيم الآخرة فانه لا يزال راضيا عن ربه والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين فانه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التى هي عين اختيار الله له وطمأنينتها الى أحكامه الدينية وهذا هو الرضا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا وما ذاق طعم الايمان من لم يحصل له ذلك وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضي فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة لا يخرج عن ذلك البته كما قال في الدعاء المشهور اللهم اني عبدك ابن عبدك أبن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم ه لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به فى علم الغيب عندك ان تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ما قالها أحد قط الا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرجا قالوا أفلا نتعلمهن يا رسول الله قال بلا ينبغى لمن يسمعهن أن يتعلمهن
والمقصود قوله عدل في قضاؤك وهذا يتناول كل قضاء يقضيه علي عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك فهو الذي قضى بالسبب وقضي بالمسبب وهو عدل في هذا القضاء وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال والذى نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء الا كان خيرا له وليس ذلك الا للمؤمن قال العلامة ابن القيم فسألت شيخنا هل يدخل فى ذلك قضاء الذنب فقال نعم بشرطه
فاجمل فى لفظه بشرطه ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك
فائدة لا تتم الرغبة فى الآخرة الا بالزهد فى الدنيا ولا يستقيم الزهد
فى الدنيا الا بعد نظرين صحيحين نظر فى الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما فى ذلك من الغصص والنغص والانكاد وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم حال الظفر بها وغم وحزن بعد فواتها فهذا أحد النظرين
النظر الثاني النظر في الآخرة واقبالها ومجيئها ولا بد ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما هنا فهى كمال الله سبحانه والآخرة خير وأبقى فهى خيرات كاملة دائمة وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة فاذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل ايثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه فكل أحد مطبوع على ان لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة الى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة الى اذا تبين له فضل الأجل على العاجل وقويت رغبته فى الأعلى الأفضل فاذا آثر الفاني الناقص كان ذلك اما لعدم تبين الفضل له وأما لعدم رغبته في الافضل
وكل واحد من الامرين يدل على ضعف الايمان وضعف العقل والبصيرة فان الراغب فى الدنيا الحريص عليه المؤثر لها اما ان يصدق بان ما هناك أشرف وأفضل وأبقى وإما أن لا يصدق بذلك كان عادما للايمان رأسا وان صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فايثار الدنيا على الآخرة
أما من فساد فى الايمان واما من فساد فى العقل وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها وهجورها ولم يميلوا اليها وعدوها سجنا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب لوصلوا منها الى كل مرغوب فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور وانها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل قال النبي مالى وللدنيا انما انا كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها وقال ما الدنيا في الآخرة الا كما يدخل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بما ترجع وقال خالقها سبحانه أنما مثل حياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والأنعام حتى اذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو الى دار السلام ويهدى من يشاء الى صراط مستقيم فاخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا اليها وقال تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا وقال تعالى اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفى الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور وقال تعالى
وزين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله وعنده حسن
المآب قل أؤنتبكم بخير منكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد وقال تعالي وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا فى الآخرة الا متاع
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا وأطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون اولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون وعير سبحانه من رضى بالدنيا من المؤمنين فقال يا أيها الذين آمنوا مالكم اذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم الي الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة الا قليل وعلي قدر رغبة العبد فى الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفى في بالزهد فى الدنيا قوله تعالى أفرأيت ان متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون وقوله ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا الا ساعة من النهار يتعارفون بينهم وقوله كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثو الا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك الا القوم الفاسقون وقوله تعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها الى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية اوضحاها وقوله ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة وقوله قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال ان لبثتم الا قليلا لو انكم كنتم تعلمون وقوله يون ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم ان لبثتم الا عشرا نحن أعلم بما يقولون اذ يقول أمثلهم طريقة ان لبثتم الا يوما والله المستعان وعليه التكلان
قاعدة أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم
يشأ لم يكن فتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها وتتضرع اليه أن لا يقطعها عنك وان السيئات من خذلانه وعقوبته فتبتهل اليه أن يحول بينك وبينها ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات الى نفسك وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد وكل شر فأصله خذلانه لعبده وأجمعوا أن التوفيق أن لا يكلك الله نفسكوان الخذلان أن يخلي بينك وبين نفسك فاذا كان كل خير فأصله التوفيق وهو بيد الله إلى نفسك وأن لا بيد العبد فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة اليه فمتي أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له ومتي أضله عن المفتاح بقى باب الخير مرتجا دونه
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اني لا أحمل هم الاجابة ولكن هم الدعاء فاذا ألهمت الدعاء فان الاجابة معه وعلى قدرنية العبد وهمته ومراده ورغبته فى ذلك يكون توفيقه سبحانه واعانته فالمعونة من الله تنزل علي العباد علي قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به هو العليم الحكيم وما أتي من أتي الا من قبل أضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه الا بقيامة بالشكر وصدق الافتقار والدعاء وملاك ذلك الصبر فانه من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله خلقت النار لاذابة القلوب القاسية أبعد القلوب من الله القلب القاسي اذا قسي القلب قحطت العين قسوة القلب من أربعة أشياء اذا جاوزت قدر الحاجة الأكل والنوم والكلام والمخالطة كما
ان البدن اذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكذلك القلب اذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ ومن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها القلوب آنية الله فى أرضه فأحبها اليه أرقها وأصلبها وأصفاها شغلوا قلوبهم بالدنيا ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت فى معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت الي أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد اذا غذى القلب بالتذكر وسقى بالتفكر ونقى من الدغل رأى العجائب وألهم الحكمة ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى وأما من قتل قلبه فأحيى الهوى المعرفة والحكمة عارية على لسانه خراب القلب من الأمن والغفلة وعمارته من الخشية والذكر اذا زهدت القلوب فى موائد الدنيا قعدت علي موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة واذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد الشوق الي الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عنه وهج الدنيا من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح ومن أرسله فى الناس اضطرب واشتد به القلق لا تدخل محبة الله فى قلب فيه حب الدنيا الا كما يدخل الجمل فى سم الابرة اذ أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته واستخلصه لعبادته فشغل همه به ولسانه بذكره وجوارحه بخدمته والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر ويعري كما يعري الجسم وزينته التقوى ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والانابة والخدمة إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمدا ومن كل ما سواه بد ولا بذلك منه من ترك الاختيار والتدبير فى طلب زيادة دنيا أو جاه أو فى خوف نقصان أو فى التخلص من عدو توكلا علي الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له فالقى كنفه بين يديه وسلم الأمر اليه ورضي بما يقضيه له استراح من
الهموم والغموم والأحزان ومن أبي الا تدبيره لنفسه وقع فى النكد والنصب وسوء الحال والتعب فلا عيش يصفو ولا قلب يفرح ولا عمل يزكو ولا أمل يقوم ولا راحة تدوم والله سبحانه سهل لخلقه السبيل اليه وحجبهم عنه بالتدبير فمن رضى بتدبير الله له وسكن الى اختياره وسلم لحكمه أزال ذلك الحجاب فأفضى القلب الى ربه واطمأن إليه وسكن المتوكل لا يسأل غير الله ولا يرد علي الله ولا يدخر مع الله من شبغل بنفسه شغل عن غيره ومن شغل بربه شغل عن نفسه الاخلاص هو ما لا يعلمه ملك فيكتبه ولا عدو فيفسده ولا يعجب به صاحبه فيبطله الرضا سكون القلب تحت مجارى الأحكام الناس فى الدنيا معذبون على قدر هممهم بها للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها ثلاثة سافلة وثلاثة عالية فالسافلة دنيا تزين له ونفس تحدثه وعدو يوسوس له فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها والثلاثة العالية علم يتبين له وعقل يرشده واله يعبده والقلوب جوالة فى هذه المواطن اتباع لهوى وطول الأمل مادة كل فساد فان اتباع الهوى يعمى عن الحق معرفة وقصدا وطول الأمل ينسى الآخرة ويصد عن الاستعداد لها لا يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه أو يداهن غيره اذا أراد الله بعبد خيرا جعله معترفا بذنبه ممسكا عن ذنب غيره جوادا بما عنده زاهدا فيما عنده محتملا لأذى غيره وان أراد به شرا عكس ذلك عليه الهمة العلية لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة وملاحظة لمنة تزداد بملاحظتها شكر او اطاعة وتذكر لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية فاذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاثة جالت فى أودية الوساوس والخطرات من عشق الدنيا نظرت الي قدرها عنده فصيرته من خدمها وعبيدها واذلته ومن أعرض عنها نظرت الي كبر قدره فخدمته وذلت له انما يقطع السفر
ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل فاذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله فمتى يصل الى مقصده
فائدة جليلة كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن
يقول علي الله غير الحق فى فتواه وحكمه فى خبره والزامه لان أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات فانهم لا تتم لهم أغراضهم الا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا فاذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لما ذلك الا بدفع ما يضاده من الحق ولا سيما اذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق وان كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبة فيه أقدم على مخالفته وقال لي مخرج بالتوبة وفى هؤلاء وأشباههم قال تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وقال تعالى فيهم أيضا فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدني ويقولون سيغفر لنا وان يأتيهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله الا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون فاخبر سبحانه أنهم اخذوا العرض الأدني مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا وان عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك وذلك هو الحامل لهم على ان يقولوا على الله غير الحق فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك أولا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه فتارة يقولون على الله مالا يعلمون وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه
وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم
حب الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة ويستعينوا بالصبر والصلاة ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها والآخرة واقبالها ودوامها وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا فى الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران فان اتباع الهوى يعمى عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة فهذه آفة العلماء اذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات وهذه الآيات فيهم الى قوله
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الي الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه
وتأمل ما تضمنته هذه الآية من ذمة وذلك من وجوه أحدها انه ضل بعد العلم واختار الكفر على الايمان عمدا ولا جهلا وثانيها أنه فارق الايمان مفارقه من لا يعود اليه أبدا فانه انسلخ من الآيات بالجملة كما تنسلخ الحية من قشرها ولو بقى معه منها شيء لم ينسلخ منها وثالثها أن الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه ولهذا قال فاتبعه الشيطان ولم يقل تبعه فان فى معنى اتبعه أدركه ولحقه وهو أبلغ من تبعه لفظا ومعنى ورابعها أنه غوى بعد الرشد والغى الضلال فى العلم والقصد وهو أخص بفساد القصد والعمل كما أن الضلال أخص فساد العلم والاعتقاد فاذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر وإن اقترنا فالفرق ما ذكر وخامسها أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه لأنه لم رفع به فصار وبالا عليه فلو لم يكن عالما كان خيرا له وأخف لعذابه وسادسها انه سبحانه اخبر عن خسة همته وأنه اختار الاسفل الادني على الاشرف الاعلى وسابعها أن اختياره للادني لم يكن عن خاطر وحديث نفس ولكنه كان عن اخلاد الى الارض وميل بكليته الى ما هناك وأصل الاخلاد اللزوم على الدوام
كأنه قيل لزم الميل الى الارض ومن هذا يقال أخلد فلان بالمكان اذا لزم الاقامة به قال مالك بن نويرة
بأبناء حى من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
وعبر عن ميله الى الدنيا باخلاده الى الارض لان الدنيا هي الارض وما فيها وما يستخرج منها من الزينة والمتاع وثامنها أنه رغب عن هداه واتبع هواه فجعل هواه اماما له يقتدي به ويتبعه وتاسعها أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همه وأسقطها نفسا وأبخلها وأشدها كلبا ولهذا سمى كلبا وعاشرها أنه شبه لهثه على الدنيا وعدم صبره عنها وجزعه لفقدها وحرصه على تحصيلها بلهث الكلب فى حالتي تركه والحمل عليه بالطرد وهكذا هذا ان ترك فهو لهثان على الدنيا وان وعظ وزجر فهو كذلك فاللهث لا يفارقه فى كل حال كلهث الكلب قال ابن قتيبة كل شيء يلهث فانما يلهث من اعياء أو عطش الا الكلب فانه يلهث فى حال الكلال وحال الراحة وحال الري وحال العطش فضربه الله مثلا لهذا الكافر فقال ان وعظته فهو ضال وان تركته فهو ضال كالكلب ان طردته لهث وان تركته على حاله لهث وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب وانما وقع بالكلب اللاهث وذلك أخس ما يكون وأشنعه
فصل فهذا حال العالم المؤثر الدنيا علي الآخرة وأما العابد الجاهل
فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه ولهذا قال سفيان ابن عيينة وغيره احذروا فتنة العالم الفاجر وفتنة العابد الجاهل فان فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه وذاك بغية يدعو الى الفجور وقد ضرب الله سبحانه مثل النوع الآخر بقوله كمثل الشيطان اذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال اني برىء منك اني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما
أنهما فى النار خلدين فيها وذلك جزاء الظالمين وقصته معروفة فانه بنى أساس أمره على عبادة الله بجهل فاوقعه الشيطان بجهله وكفره بجهله فهذا امام كل عابد جاهل يكفر ولا يدري وذاك امام كل عالم فاجر يختار الدنيا على الآخرة وقد جعل سبحانه رضى العبد بالدنيا وطمأنينته وغفلته عن معرفة آياته وتدبرها والعمل بها سبب شقائه وهلاكه ولا يجتمع هذان أعنى الرضى بالدنيا والغفلة عن آيات الرب الا في قلب من لا يؤمن بالمعاد ولا يرجو لقاء رب العباد والا فلو رسخ قدمه فى الايمان بالمعاد لما رضى الدنيا ولا اطمأن اليها ولا أعرض عن آيات الله وأنت اذا تأملت احوال الناس وجدت هذا الضرب هو الغالب علي الناس وهم عمار الدنيا وأقل الناس عددا من هو على خلاف ذلك وهو من أشد الناس غربة بينهم لهم شان وله شأن علمه غير علومهم وإرادته غير إرادتهم وطريقه غير طريقهم فهو فى واد وهم فى واد قال تعالي ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون
ثم ذكر وصف ضد هؤلاء ومآلهم وعاقبتهم بقوله ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجري من تحتهم الانهار فى جنات النعيم فهؤلاء ايمانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرضا بالدنيا والطمأنينة اليها ودوام ذكر آياته فهذه مواريث الايمان بالمعاد وتلك مواريث عدم الايمان به والغفلة عنه
فائدة عظيمة افضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب العبد ونال به
العبد الرفعة فى الدنيا والآخرة هو العلم والأيمان ولهذا قرن بينهما سبحانه فى قوله وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم فى كتاب الله الى يوم البعث وقوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وهؤلاهم خلاصة الوجود ولبه والمؤهلون للمراتب العالية ولكن أكثر الناس غالطون فى حقيقة مسمى العلم والايمان اللذين بهما
السعادة والرفقة وفى حقيقتهما حتي ان كل طائفة تظن ان ما معها من العلم والايمان هو هذا الذي به تنال السعادة وليس كذلك بل أكثرهم ليس معهم ايمان ينجى ولا علم يرفع بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والايمان اللذين جاء بهما الرسول ودعا اليهما الأمة وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم
فكل طائفة اعتقدت ان العلم ما معها وفرحت وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون واكثر ما عندهم كلام وآراء وخرص والعلم وراء الكلام كما قال حماد بن زيد قلت لايوب العلم اليوم اكثر او فيما تقدم فقال الكلام اليوم اكثر والعلم فيما تقدم أكثر
ففرق هذا الراسخ بين العلم والكلام فالكتب كثيرة جدا والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة والعلم بمعزل عن أكثرها وهو ما جاء به الرسول عن الله قال تعالى
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم وقال
ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من لعلم وقال فى القرآن انزله بعلمه أى وفيه علمه
ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس الى أن اتخذوا هواجس الافكار وسوانح الخواطر والآراء علما ووضعوا فيها الكتب وأنفقوا فيها الانفاس فضيعوا فيها الزمان وملأوا بها الصحف مدادا والقلوب سوادا حتى صرح كثير منهم انه ليس فى القرآن والسنة علم وان أدلتها لفظية لا تفيد يقينا ولا علما وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم وأذن بها بين أظهرهم حتي أسمعها دانيهم لقاصيهم فانسلخت بها القلوب من العلم والايمان كانسلاخ الحية من قشرها والثوب عن لابسه قال الامام العلامة شمس الدين ابن القيم ولقد أخبرني بعض أصحابنا عن بعض اتباع اتباع تلاميذ هؤلاء انه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولم يحفظ القرآن فقال له لو حفظت القرآن أولا كان أولي فقال وهل فى القرآن علم قال ابن القيم وقال لي بعض أئمة هؤلاء انما نسمع الحديث لاجل البركة لا لنستفيد
منه العلم لان غيرنا قد كفانا هذه المؤونة فعمدتنا على ما فهموه قرروه ولا شك ان من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل
نزلوا بمكة فى قبائل هاشم ... ونزلت بالبطحاء أبعد منزل
قال وقال لي شيخنا مرة فى وصف هؤلاء انهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب ويكفيك دليلا على ان هذا الذى عندهم ليس من عند الله ما ترى فيه من التنقائض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض قال تعالي ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وهذا يدل على ان ما كان من عنده سبحانه لا يختلف وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده وكيف تكون الآراء والخيالات وسوانح الافكار دينا يدان به ويحكم به على الله ورسوله سبحانك هذا بهتان عظيم
وقد كان علم الصحابة الذى يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم فى ترجمة أبى عبد الله البخارى قال كان أصحاب رسول الله اذا اجتمعوا انما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ليس بينهم رأى ولا قياس ولقد أحسن القائل
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأى فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها ... حذرا من التمثيل والتشبيه فصل
وأما الايمان فأكثر الناس أو كلهم يدعونه وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وأكثر المؤمنين انما عندهم ايمان مجمل وأما الايمان المفصل بما جاء به الرسول معرفة وعلما وإقرارا ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه فهذا ايمان
خواص الامة وخاصة الرسول وهو ايمان الصديق وحزبه وكثير من الناس حظهم من الايمان الاقرار بوجود الصانع وأنه وحده الذي خلق السموات والارض وما بينهما وهذا لم يكن ينكره عباد الأصنام من قريش ونحوهم وآخرون الايمان عندهم هو التكلم بالشهادتين سواء كان معه عمل أو لم يكن وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه وآخرون عندهم الايمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والارض وأن محمدا عبده ورسوله وان لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئا بل ولو سب الله ورسوله وأتى بكل عظيمة وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن وآخرون عندهم الايمان هو جحد صفات الرب تعالي من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وارادته وحبه وبغضه وغير ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فالايمان عندهم انكار حقائق ذلك كله وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض وينقض بعضهم قول بعض الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والامام أحمد مختلفون فى الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب وآخرون عندهم الايمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول وآخرون الايمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان بل ايمانهم مبنى علي مقدمتين احداهما أن هذا قول أسلافنا وآبائنا والثانية أن ما قالوه فهو الحق وآخرون عندهم الايمان مكارم الاخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه واحسان الظن بكل أحد وتخلية الناس وغفلاتهم وآخرون عندهم الايمان التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها فاذا رأوا رجلا هكذا جعلوه من سادات أهل الايمان وان كان منسلخا من الايمان علما وعملا وأعلي من هؤلاء من جعل الايمان هو مجرد العلم وان لم يقارنه عمل وكل هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الايمان ولا قاموا به ولا قام بهم وهم أنواع منهم من جعل الايمان ما يضاد الايمان ومنهم
من جعل الايمان ما لا يعتبر فى الايمان ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفى في حصوله ومنهم من اشترط فى ثبوته ما يناقضه ويضاده ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه الايمان
والايمان وراء ذلك كله وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول علما والتصديق به عقدا والاقرار به نطقا والانقياد له محبة وخضوعا والعمل به باطنا وظاهرا وتنفيذه والدعوة اليه بحسب الامكان وكماله في الحب فى الله والبغض فى الله والعطاء لله والمنع لله وأن يكون الله وحده الهه ومعبوده والطريق اليه تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا وتغميض عين القلب عن الالتفات الي سوى الله ورسوله وبالله التوفيق من اشتغل بالله عن نفسه كفاء الله مؤونة نفسه ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس ومن اشتغل بنفسه عن الله وكله الله الي نفسه ومن اشتغل بالناس عن الله وكله الله اليهم
فائدة جليلة انما يجد المشقة فى ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير
الله فأما من تركها صادقا مخلصا من قلبه لله فانه لا يجد فى تركها مشقة الا فى أول وهلة ليمتحن اصادق هو فى تركها أم كاذب فان صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة قال ابن سيرين سمعت شريحا يحلف بالله ما ترك عبد لله شيئا فوجد فقده وقولهم من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه حق والعوض أنواع مختلفة وأجل ما يعوض به الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى
أغبى الناس من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل العقول المؤيدة
بالتوفيق ترى ان ما جاء به الرسول هو الحق الموافق للعقل والحكمة والعقول المضروبة بالخذلان تري المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع أقرب الوسائل الى الله ملازمة السنة والوقوف معها فى الظاهر والباطن ودوام الافتقار الى الله وإرادة وجهه وحده بالاقوال والافعال وما وصل أحد الي الله الا من هذه الثلاثة وما انقطع عنه أحد الا بانقطاعه عنها أو عن أحدها الاصول التي انبنى عليها سعادة العبد ثلاثة ولكل واحد منها ضد فمن فقد ذلك الاصل حصل علي ضده التوحيد وضده الشرك والسنة وضدها البدعة والطاعة وضدها المعصية ولهذه الثلاثة ضد واحد وهو خلو القلب من الرغبة فى الله وفيما عنده ومن الرهبة منه ومما عنده
قاعدة جليلة قال الله تعالي
وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين وقال ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى الآية والله تعالى قد بين فى كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء والاسباب التى وفق بها هؤلاء والاسباب التى خذل بها هؤلاء وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الابصار للضياء والظلام
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية فاستبانت لهم السبيلان كما يستيبين للسالك الطريق الموصل الي مقصوده والطريق الموصل الى الهلكة فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الادلاء الهداة برز الصحابة علي جميع من أتي بعدهم الى يوم
القيامة فانهم نشأوا فى سبيل الظلال والكفر والشرك والسبل الموصلة الي الهلاك وعرفوها مفصلة ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات الى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم فخرجوا من الظلمة الشديدة الى النور التام ومن الشرك الى التوحيد ومن الجهل الى العلم ومن الغى الى الرشاد ومن الظلم الى العدل ومن الحيرة والعمى الى الهدى والبصائر فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به ومقدار ما كانوا فيه فان الضد يظهر حسنه الضد وانما تتبين الأشياء بأضدادها فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا اليه ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه وكانوا أحب الناس فى التوحيد والايمان والاسلام وأبغض الناس فى ضده عالمين بالسبيل على التفصيل
وأما من جاء بعد الصحابة فمنهم من نشأ فى الاسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين فان اللبس انما يقع اذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب انما تنقض عري الاسلام عروة اذا نشأ فى الاسلام من لم يعرف الجاهلية وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه فانه اذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول فانه من الجاهلية فانها منسوبة الى الجهل وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن فى بعض سبيلهم انها من سبيل المؤمنين كما وقع فى هذه الأمة من أمور كثيرة فى باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل أدخلها من لم يعرف انها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا اليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لاكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا اليها وكفر من خالفها
والناس فى هذا الموضع أربع فرق الاولي من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا وهؤلاء أعلم الخلق الفرقة الثانية من
عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك الفرقة الثالثة من صرف عنايته الى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل بل اذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه وهو بمنزلة من سلمت نفسه من ارادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه اليها نفسه بخلاف الفرقة الأولى فانهم يعرفونها وتميل اليها نفوسهم ويجاهدونها علي تركها الله وقد كتبوا الى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسالة أيما أفضل رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله أو رجل نازعته اليها نفسه فتركها لله فكتب عمر ان الذى تشتهى نفسه المعاصي ويتركها لله عز و جل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مفغرة وأجر عظيم وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه ايمانه ولا تورثه شبهة ولا شكا بل يزداد بمعرفتها بصيرة فى الحق ومحبة له وكراهة لها ونفرة عنها أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه فانه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به فيقوى ايمانه به كما ان صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها الى ضدها ازداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه فما ابتلي الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه اليها الا ليسوقه بها الي محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه فتورثه تلك المجاهدة الوصول الى المحبوب الأعلى فكلما نازعته نفسه الى تلك الشهوات وشتدت ارادته لها وشوقه اليها صرف ذلك الشوق والارادة والمحبة الى النوع العالي الدائم فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك فانها وان كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم ألا ترى ان من مشي الى محبوبة على الجمر
والشوك أعظم ممن مشي إليه راكبا على النجائب فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها الى غيره فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات إما حجابا له عنه أو حاجبا له يوصله الى رضاه وقربه وكرامته الفرقة الرابعة فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك بل عرفه معرفة مجملة وان تفصلت له في بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها اذا تاب ورجع عنها الى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره فى تصرفها وسلوكها
والمقصود ان الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب تبغض كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك وفى هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالا يعلمه الا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتضائها لآثارها وموجباتها وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه والله أعلم
أرباب الحوائج على باب الملك يسألون قضاء حوائجهم وأولياؤه المحبون له الذين هو همهم ومرادهم جلساؤه وخواصه فاذا أراد قضاء حاجة واحد من أولئك اذن لبعض جلسائه وخاصته أن يشفع فيه رحمة له وكرامة للشافع وسائر الناس مطرودون عن الباب مضروبون بسياط العبد
فصل عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها علم لا يعمل به وعمل لا
اخلاص فيه ولا اقتداء ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعة في الدنيا ولا يقدمه
امامه الى الآخرة وقلب فارغ من محبة الله والشوق اليه والأنس به وبدن معطل من طاعته وخدمته ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب وامتثال أوامره ووقت معطل عن استدراك فارطه أو اغتنام بر وقربه وفكر يجول فيما لا ينفع وخدمة من لا تقربك خدمته الى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسبر فى قبضته ولا يملك لنفسه حذرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا
وأعظم هذه الاضاعات اضاعتان هما أصل كل اضاعة اضاعة القلب واضاعة الوقت فاضاعة القلب من ايثار الدنيا على الآخرة واضاعة الوقت من طول الأمل فاجتمع الفساد كله فى اتباع الهوى وطول الأمل والصلاح كله فى اتباع لهدى والاستعداد للقاء والله المستعان
العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها الي الله ليقضيها له ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والاعراض وشفائه من داء الشهوات والشبهات ولكن اذا مات القلب لم يشعر بمعصيته
فصل لله سبحانه على عبده أمر أمره به وقضاء يقضيه عليه ونعمة ينعم
بها عليه فلا ينفك من هذه الثلاثة والقضاء نوعان اما مصائب واما معائب وله عليه عبودية فى هذه المراتب كلها فأحب الخلق اليه من عرف عبوديته فى هذه المراتب ووفاها حقها فهذا اقرب الخلق اليه وأبعدهم منه من جهل عبوديته فى هذه المراتب فعطلها علما وعملا فعبوديته فى الأمر وامتثاله اخلاصا واقتداءا برسول الله وفى النهى اجتنابه خوفا منه واجلالا ومحبة وعبوديته فى قضاء المصائب الصبر عليها ثم الرضا بها وهو أعلى منه ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرضا وهذا إنما يأتى منه اذا تمكن حبه من قلبه وعلم حسن اختياره له وبره به ولطفه به
وإحسانه اليه بالمصيبة وان كره المصيبة وعبوديته فى قضاء المعائب المبادرة الى التوبة منها والتنصل والوقوف في مقام الاعتذار والانكسار عالما بانه لا يرفعها عنه الا هو ولا يقيه شرها سواه وأنها ان استمرت أبعدته من ربه وطردته من بابه فيراها من الضر الذي لا يكشفه غيره حتى انه ليراها أعظم من ضر البدن فه عائذ برضاه من سخطه وبعفوه من عقوبته وبه منه مستجير وملتجىء منه اليه بعلم أنه ان تخلى عنه وخلى بينه وبين نفسه فعده أمثالها وشر منها وانه لا سبيل له الى الاقلاع والتوبة الا بتوفيقه وإعانته وأن ذلك بيده سبحانه لا بيد العبد فهو أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه أو يأتي بمرضاة سيده بدون إذنه ومشيئته وإعانته فهو ملتجىء اليه متضرع ذليل مسكين ملق نفسه بين يديه طريح بابه مستخذله أذل شيء واكسره له وأفقره وأحوجه اليه وأرغبه فيه واحبه له بدنه متصرف فى اشغاله وقلبه ساجد بين يديه يعلم يقينا انه لا خبر فيه ولا له ولا به ولا منه وان الخير كله لله وفى يديه وبه ومنه فهو ولي نعمته ومبتدئه بها من غير استحقاق ومجريها عليه مع تمقته اليه باعراضه وغفلته ومعصيته فحظه سبحانه الحمد والشكر والثناء وحظ العبد الذم والنقص والعيب قد استأثر بالمحامد والمدح والثناء وولى العبد الملامة والنقائص ولعيوب فالحمد كله له والخير كله في يديه والفضل كله له والثناء كله له والمنة كلها له فمنه الاحسان ومن العبد الاساءة ومنه التودد الي العبد بنعمه ومن العبد التبغض اليه بمعاصيه ومنه النصح لعبده ومن العبد الغش له فى معاملته
وأما عبودية النعم فمعرقتها والاعتراف بها أولا ثم العياذ به ان يقع فى قلبه نسبتها وإضافتها الي سواه وان كان سببا من الأسباب فهو مسببه ومقيمه فالنعمة منه وحده بكل وجه واعتبار ثم الثناء بها عليه ومحبته عليها وشكره بأن يستعملها فى طاعته ومن لطائف التعبد بالنعم أن يكثر قليلها عليه ويستقل كثير شكره عليها وبعلم انها وصلت اليه من سيده من غير ثمن بذله فيها ولا وسيلة منه توسل
بها اليه ولا استحقاق منه لها وانها لله فى الحقيقة لا للعبد فلا تزيده النعم الا انكسارا وذلا وتواضعا ومحبة للمنعم وكلما جدد له نعمه أحدث لها عبودية ومحبة وخضوعا وذلا وكلما أحدث له قبضا احدث له رضي وكلما أحدث ذنبا أحدث له توبة وانكسارا واعتذارا فهذا هو العبد الكيس والعاجز بمعزل عن ذلك وبالله التوفيق
فصل من ترك الاختيار والتدبير فى رجاء زيادة او خوف نقصان أو طلب
صحة او فرار من سقم وعلم ان الله على كل شيء قدير وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه وانه أعلم بمصلحته من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه وانصح للعبد منه لنفسه وأرحم منه بنفسه وأبر به منه بنفسه وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا يتأخر فألقى نفسه بين يديه وسلم الأمر كله اليه وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعف بين يدي ملك عزيز قاهر له التصرف في عبده بكل ما يشاء وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات وحمل كله حوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ورحمته واحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ولا اهتمام منه لانه قد صرف اهتمامه كله اليه وجعله وحده همه فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه وفرغ قلبه منها فما أطيب عيشه وما انعم قلبه وأعظم سروره وفرحه وإن أبي الا تدبيره لنفسه واختياره لها واهتمامه بحظه دون حق ربه خلاه وما اختاره وولاه ما تولي فحضره الهم والغم والحزن والنكد الخوف والتعب وكسف البال وسوء الحال فلا قلب
يصفو ولا عمل يزكو ولا أمل يحصل ولا راحة يفوز بها ولا لذة بينها بها بل بل قد حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقره عينه فهو يكدح فى الدنيا كدح الوحش ولا يظفر منه بأمل ولا يتزود منها لمعاد والله سبحانه أمر العبد بأمر وضمن له ضمانا فان قام بأمره بالنصح والصدق والاخلاص والاجتهاد قام الله سبحانه له بما ضمنه له من الرزق والكفاية والنصر وقضاء الحوائج فانه سبحانه ضمن الرزق لمن عبده والنصر لمن توكل عليه واستنصر به والكفاية لمن كان هو همه ومراده والمغفرة لمن استغفره وقضاء الحوائج لمن صدقه فى طلبها ووثق به وقوى رجاؤه وطمعه فى فضله وجوده فالفطن الكيس انما يهتم بأمره وإقامته وتوفيته لا بضمانه فأنه الوفي الصادق ومن أوفى بعهده من الله فمن علامات السعادة صرف اهتمامه الى أمر الله دون ضمانه ومن علامات الحرمان فراغ قلبه من الاهتمام بأمره وحبه وخشيته والاهتمام بضمانه والله المستعان
قال بشر بن الحارث اهل الآخرة ثلاثة عابد وزاهد وصديق فالعابد يعبد الله مع العلائق والزاهد يعبده على ترك العلائق والصديق يعبده على الرضا والموافقة أن أراه أخذ الدنيا أخذها وان أراه تركها تركها إذا كان الله ورسوله في جانب فاحذر ان تكون في الجانب الآخر فأن ذلك يفضي الى المشاقة والمحادة وهذا أصلها ومنه اشتقاقها فان المشاقة إن يكون فى شق ومن يخالفه في شق والمحادة ان يكون حد وهو فى حد ولا تستسهل هذا فان مبادئه تجر الى غايته وقليله يدعو الى كثيره وكن فى الجانب الذي يكون فيه الله ورسوله وان كان الناس كلهم فى الجانب الآخر فان لذلك عواقب هى أحمد العواقب وأفضلها وليس للعبد انفع من ذلك فى دنياه قبل آخرته واكثر الخلق انما يكونون من الجانب الآخر ولاسيما اذا قويت الرغبة والرهبة فهناك لا تكاد تجد أحدا فى الجانب الذى فيه الله ورسوله بل يعده الناس ناقص العقل سيء الاختيار لنفسه وربما نسبوه الي الجنون وذلك من مواريث أعداء الرسل فأنهم نسبوهم غلى الجنون لما كانوا في شق
وجانب والناس فى شق وجانب آخر ولكن من وطن نفسه على ذلك فانه يحتاج الى علم راسخ بما جاء به الرسول يكون يقينا له لا ريب عنده فيه والي صبر تام علي معاداة من عاداه ولومه من لامه ولا يتم له ذلك الا برغبة قوية فى الله والدار والآخرة بحيث تكون الآخرة احب اليه من الدنيا وآثر عنده منها ويكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما وليس شيء أصعب علي الانسان من ذلك فى مبادىء الأمر فان نفسه وهواه وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشيره من ذلك الجانب يدعنه الى العاجل فاذا خالفوهم تصدوا الحربة فان صبر وثبت جاءه العون من الله وصار ذلك الصعب سهلا وذلك الألم لذة فان الرب شكور فلا بد أن يذيقه لذة تحيزه الي الله والى رسوله ويريه كرامة ذلك فيشتد به سروره وغبطته ويبتهج به قلبه ويظفر بقوته وفرحه وسروره ويبقى من كان محاربا له على ذلك بين هائب له مسالم له ومساعد وتارك ويقوى جنده ويضعف جند العدو ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز الى الله ورسوله ولو كنت وحدك فان الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك وانما امتحن يقينك وصبرك اعظم الأعوان لك على بعد عون الله هذا بعون اله التجرد من الطمع والفزع فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز الى الله ورسوله وكنت دائما فى الجانب الذى فيه الله ورسوله ومتي قام بك الطمع فلا تطمع فى هذا الأمر ولا تحدث نفسك به فان قلت فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع قلت بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات الاهو ولا يذهب بالسيآت الا هو وأن الأمر كله لله ليس لاحد مع الله شيء نصيحة
هلم الي الدخول على الله ومجاورته فى دار السلام بلا نصيب ولا تعب ولا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها وذلك انك فى وقت بين وقتين وهو فى الحقيقة
عمرك وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل فالذى مضي تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق انما هو عمل قلب وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته وانما هو عزم ونية جازمه تريح بدنك وقلبك وسرك فما مضى تصلحه بالتوبة وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية وليس للجوارح فى هذين نصب ولا تعب ولكن الشأن فى عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين فأن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك وان حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكرت نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده فان حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وانفع لها وأعظم تحصيلا لسعادتها وفى هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت فهى والله أيامك الخالية التى تجمع فيها الزاد لمعادك إما إلى الجنة إما الى النار فان اتخذت إليها سبيلا الى ربك بلغت السعادة العظمى والفوز الأكبر فى هذه المدة اليسيرة التى لا نسبة لها الى الأبد وان آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب انقضت عنك بسرعة واعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته اشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله والصبر على طاعته ومخالفة الهوى لأجله
فصل علامة صحة الارادة أن يكون هم المريد رضا ربه واستعداده للقائه
وحزنه على وقت مر فى غير مرضاته وأسفه على قربه والأنس به وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره
فصل اذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله واذا فرحوا بالدنيا
فافرح أنت بالله واذا انسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله واذا تعرفوا الى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا اليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت الي الله وتودد اليه تنل بذلك غاية العز والرفعة قال بعض الزهاد ما علمت أن أحدا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكرا وصلاة أو قراة أو احسان فقال له رجل اني أكثر البكاء فقال انك ان تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك وان المدل لا يصعد عمله فوق رأسه فقال أوصني فقال دع الدنيا لأهلها كما تركوهم الآخره لأهلها وكن فى الدنيا كالنحلة ان أكلت أكلت طيبا وأن أطعمت أطعمت طيبا وان سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه
فصل الزهد أقسام زهد في الحرام وهو فرض عين وزهد في الشبهات وهو
بحسب مراتب الشبهة فان قويت التحقت بالواجب وان ضعفت كان مستحبا وزهد فى الفضول وزهد فيما لا يعنى من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره وزهد فى الناس وزهد فى النفس بحيث تهون عليه نفسه فى الله وزهد جامع لذلك كله وهو الزهد فيما سوى الله وفى كل ما شغلك عنه وافضل الزهد إخفاء الزهد وأصعبه الزهد فى الحظوظ والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك مالا ينفع فى الآخرة والورع ترك ما يخشى ضررة في الآخرة والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع
قال يحيى بن معاذ عجبت من ثلاث رجل يرائي بعمله مخلوقا مثله ويترك أن يعمله الله ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه فلا يقرضه منه شيئا ورجل يرغب فى صحبة المخلوقين ومودتهم والله يدعوه الى صحبته ومودته
فائدة جليلة قال سهل بن عبد الله ترك الأمر عند الله أعظم من
ارتكاب النهى لأن آدم نهى عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه وابليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه قلت هذه مسالة عظيمة لها شان وهى أن ترك الأوامر أعظم عند الله من أرتكاب المناهى وذلك من وجوه عديدة أحدها ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله ابليس الثاني أن ذنب ارتكاب النهى مصدره فى الغالب الشهوة والحاجة وذنب ترك الأمر مصدره فى الغالب الكبر والعزة ولا يدخل الجنة من فى قلبه مثقال ذرة من كبر ويدخلها من مات علي التوحيد وان زنى وسرق الثالث أن فعل المأمور أحب الى الله من ترك المنهى كما دل على ذلك النصوص كقوله أحب الاعمال الي الله الصلاة على وقتها وقوله ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها فى درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلي يا رسول الله قال ذكر الله وقوله اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة وغير ذلك من النصوص وترك المناهى عمل فانه كف النفس عن الفعل ولهذا علق سبحانه المحبة بفعل الأوامر كقوله ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا والله يحب المحسنين وقوله واقسطوا ان الله يحب المقسطين والله يحب الصابرين وأما فى جانب المناهى فأكثر ما جاء النفي للمحبة وقوله والله لا يحب الفساد وقوله والله لا يحب كل مختال فخور وقوله ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين وقوله لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم وقوله ان الله لا يحب من
كان مختالا فخورا ونظائره وأخبر فى موضع آخر أنه يكرهها ويسخطها كقوله كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها وقوله ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله
اذا عرف هذا ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات ولهذا يقدر ما يكرهه ويسخطه لافضائه الى ما يحب كما قدر المعاصى والكفر والفسوق لما ترتب علي تقديرها مما يحبه من لوازمها من الجهاد واتخاذ الشهداء وحصول التوبة من العبد والتضرع اليه والاستكانة واظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه وحصول المولاة والمعاداة لأجله وغير ذلك من الآثار التى وجودها بسبب تقديره ما يكره أحب اليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها وهو سبحانه لا يقدر ما يحب لافضائه الى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لافضائه الى ما يحبه فعلم أن فعل ما يحبه احب اليه مما يكرهه يوضحه الوجه الرابع أن فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهى مقصود لتكميل فعل المأمور فهو منهى عنه لاجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه وينقصه كما نبه سبحانه على ذلك فى النهى عن الخمر والميسر بكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات أو عن كمالها فالنهى عنها من باب المقصود لغيره والامر بالواجبات من باب المقصود لنفسه يوضحه الوجه الخامس أن فعل المأمورات من باب حفظ قوة الايمان وبقائها وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الايمان ويخرجها عن الاعتدال وحفظ القوة مقدم على الحمية فان القوة كلما قويت دفعت المواد الفاسدة وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة فالحمية مراد لغيرها وهو حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها ولهذا كلما قويت قوة الايمان دفعت المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها واذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة فتأمل هذا الوجه الوجه السادس أن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصل له شيئا من ذلك فانه لو ترك جميع المنهيات ولم
يأت بالايمان والأعمال المأمور بها لم ينفعه ذلك الترك شيئا وكان خالدا فى النار وهذا يتبين بالوجه السابع أن من فعل المأمورات والمنهيات فهو اما ناج مطلقا ان غلبت حسناته سيئاته وإما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته فمآله الى النجاة وذلك بفعل المأمور ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج ولا ينجو إلا بفعل المأمور وهو التوحيد
فان قيل فهو انما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك قيل يكفي فى الهلاك ترك نفس التوحيد المامور به وان لم يأت بضد وجودى من الشرك بل متي خلا قلبه من التوحيد رأسا فلم يوحد الله فهو هالك وان لم يعبد معه غيره فاذا انضاف اليه عبادة غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به وفعل الشرك المنهى عنه يوضحه الوجه الثامن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق