الاثنين، 20 أغسطس 2018

المجاز عند الإمام ابن تيمية وتلاميذه بين الإنكار والإقرار +دراسات في المجاز أقسام المجاز وأحكامه وعلامات الحقيقة والمجاز + لإيجاز في إبطال المجاز المؤلف أبو محمد مور كبي


 

 

المجاز عند الإمام ابن تيمية وتلاميذه بين الإنكار والإقرار
المؤلف : د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب : المجاز عند الإمام ابن تيمية وتلاميذه بين الإنكار والإقرار
المؤلف : د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني
الناشر : مكتبة وهبة
الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م
عدد الأجزاء : 1
تنبيه :
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.

(1/4)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من أقوال الأئمة عن المجاز
"ولو كان المجاز كذباً. وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلاً ، كان أكثر كلامنا فاسداً ؛ لإنَّا نقول : نبت البقل ، وطالت الشجرة ، وأينعت التمرة ، وأقام الجبل ، ورحض السعر".
ابن قتيبة
"ومن قدح في المجاز ، وهم أن يصفه بغير الصدق فقد خبط خبطاً عظيماً ، وتهدَّف لما لا يخفى ... كيف وبطالب الدين حاجة ماسة إليه من جهات يطول عدُّها. وللشيطان من جانب الجهل به مداخل خفيه ، يأتيهم منها فيسرق منهم دينهم وهم لا يشعرون ؟ ويلقيهم في الضلالة من حيث يظنون أنهم مهتدون".
عبد القاهر الجرجاني
"ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن".
بدر الدين الزركشي

(1/5)


الفصل الأول الإمام ابن تيمية
حين يذكر الإمام ابن تيمية بين منكري المجاز فإنه يمثل في هذا المقام قطب الدائرة ، لأن من أنكر المجاز قبله لم يتحمسوا للإنكار حماسته ، ولم يثوروا ثورته ، ولم ينزحوا نزحه ، ولو يقلبوا وجوه القول تقليبه ، ولم يكن بين أيديهم من دواعي الإنكار ما كان بين يديه.
فقد أدار ابن تيمية - رحمه الله - المعركة من جديد بسلاح جديد ، واستأنف البحث من حيث لم يدر سابقوه ، ولم يعتمد الإمام في إنكار المجاز على الأسباب التي أعتمد عليها سابقوه بل اجتهد ما وسعه الإجتهاد في التترس بدروع أخرى ، وأخذ يرمي من ورائها سهامه.
وقد أعانه على ذلك إطلاع أتسعت أفاقه ، وعقل أحتد ذكاؤه ، وقدرة على الجدل والنظر لم تتجمع آلاتها في رجل كما تجمت فيه ، إلى سبب اخر نعتبره نحن - كما اعتبره غيرنا - سبب الأسباب وراء تلك الحملة الضاربة التي شنها الإمام ابن تيمية على المجاز ومجوزيه.
ذلك السبب هو دخول المجاز - قبله وفي عصره - في مباحث العقيدة والتوحيد ، وتعلقه بصفات الباري - عز وجل - وأن فريقاً من علماء الكلام أوسعوا دائرة التأويل في النصوص المقدسة من غير ضرورة. وأدعوا أن لألفاظ القرآن الحكيم ظاهراً وباطناً يخالف كل منهما الآخر. وتعسفوا في التأويل - كما قال الإمام عبد القاهر الجرجاني من قبل - وذكر صوراً كثيرة لفوضاهم في التأويل ، وعبثهم في استنباط المعاني ، مما لا يؤيده نقل ولا يسلم به عقل ولا يقر به ذوق.
ودخول المجاز في هذا المجال الخطير - مجال العقيدة والتوحيد - بعد أن كان قضية بلاغية نقدية ، ولغوية جمالية ، هو الذي أسعر نار الثورة على المجاز عند الإمام ؛ لأنه رأي في مثل تأويل "يد الله" بالقدرة تعطيلاً لصفة من صفات الله ،

(1/7)


وليت الأمر وقف عند هذا الحد ، ولكن بعض الخلف المتوسعين في التأويل رموا السلف - فيما حكاه الإمام ابن قيم الجوزية - بعدم الفهم ، حيث رأوا أن مذهب السلف هو مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ولا فهم لمراد الله ورسوله منها ، واعتقدوا أن السلف بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ....}
وهذا بلا نزاع تظاول على علماء السلف الأبرار ، وطعن للمة في واحدٍ من أخطر مقاتلها ، فلمذهب السلف وزنه وتقديره وهم من أهل القرون الأولى التي وصفها الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية.
هذه العوامل هيى التي دعت شيخ الإسلام بن تيمية لإنكار المجاز ، وبشدة لم يعرف لها من قبله مثيل.
موطن إنكار المجاز عن شيخ الإسلام : _
وعلى كثرة ما كتب الإمام ابن تيمية فإننا نراه تصدى لإنكار المجاز - بتوسع - في كتابه الموسوم بـ "الإيمان" وكان السبب المباشر لهذا الإنكار هو إبطال مذهب المرجئة والجهمية والكرامية في تحقيق معنى الإيمان.
وكان هؤلاء يقولون : إن الأعمال الصالحة لا تدخل في حقيقة الإيمان ، بل الإيمان هو الاعتقاد وأما الأعمال الصالحة فإطلاق الإيمان عليها من باب المجاز.
ولا سبيل الآن لذكر كل ما قاله الإمام في إنكار المجاز ، لذلك نكتفي بذكر الدعائم التي بني عليها الإنكار وأفاض في بيانها ما أفاض. تلك الدعائم هي : -

(1/8)


1- إن سلف الأمة لم يقولوا به ، ولم يقسموا الكلام صراحة إلى حقيقة ومجاز إلا عبارة وردت عن الإمام أحمد إمام المذهب الحنبلي قال فيها "هذا من مجاز اللغة" توجيهاً لما ورد في القرآن من "إنَّا ونحن" حديثاً عن نفسه ، وقد فسرها الإمام ابن تيمية تفسيراً يُبْعِدها عن المجاز.
2- إنكار أن يكون للغة وضع أول تفرع عنه المجاز باستعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً كما يقول المجازيون.
3- إنكار التجريد والإطلاق في التراكيب اللغوية ، بل هي دائماً مقيدة بأي نوع من القيود ، وهدفه من هذا وأد فكرة المجاز ؛ لأن المجازيين يقولون ان التركيب المطلق الخالي من التقييد بالقرائن المجازية حقيقة لغوية ، أما المقيد بتلك القرائن فهو مجاز.
4- إن المجاز نشأ وترعرع في بيئات المعتزلة والجهمية ومن وافقهم.
5- مناقشة النصوص التي استدل بها مجوزو المجاز وإخراجها من المجاز.
هذه الدعائم هي التي أدار عليها الإمام الحديث عن نفي المجاز لا في القرآن وحده ، ولكن فيه وفي اللغة بوجه عام ومن يقرأ ما كتبه في الإيمان يجزم بأن الإمام ابن تيمية ليس له في المجاز مذهب سوى الإنكار القاطع.
وقد شاع هذا عن هذا الإمام الجليل ، وصار مذهباً يتميك به كثيراً من أهل العلم ، وإلى عهدٍ قريب كنا ممن يسلم بأن الإمام ينكر المجاو إنكاراً قاطعاً ، وأن تلميذه البار العلامة ابن قيم الجوزية ليس له موقف من المجاز إلا موقف شيخه الإمام وأن ما كتبه ابن القيم في كتابه : الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ، هو امتداد لما كتبه الإمام - رضي الله عنهما - ومقصد الكتابين واحد :
هو إنكار المجاز في اللغة وفي القرآن الكريم. ولا موقف لهما سواه.

(1/9)


ولكن : -
ولكن دعتنا بعض المناسبات في البحث العلمي الأكاديمي فأطالنا الاطلاع على مصنفات الشيخين الجليلين في غير الإيمان والصواعق ، وقضينا أكثر من ثلاث سنين نواصل الاطلاع على أعمالهما العلمية الأخرى الصحيحة النسبة إليهما ، وخرجنا من واقع ما كتباه بأن للإمامين الجليلين مذهباً آخر في المجاز يزاحم مذهب الإنكار ، هو مذهب الإقرار مع حمل كثير من النصوص الشرعية عليه ، ثم الاحتجاج به في الدفاع عن الأئمة الأعلام من رجال السلف الصالح ومؤسسي المذاهب الفقهية واتباعهم من الفقهاء - رضي الله عنه - أجمعين.
أدلة هذا المذهب :
وأدلة هذا المذهب غير المشهور عند الإمامين الجليلين كما ظفرنا عليها في أعمالهما العلمية ثلاثة أنواع عند كل منهما.
النوع الأول : تأويلات مجازية نقلاها عن غيرهما من علماء السلف ، ثم ارتضياها وسلماً بها.
النوع الثاني : تأويلات مجازية استأنفاها ولم يروياها عن أحد غيرهما.
النوع الثالث : ورود المجاز عندهما لفظاً ومعنى في حر كلامهما. والإحتجاج به في الدفاع عن سلامة الإعتقاد في مواجهة بعض الطاعنين في النصوص الشرعية.
ونبدأ بالإمام ابن تيمية على نفس المنهج الذي ذكرناه وبالله التوفيق :

(1/10)


التأويلات التي نقلها ثم ارتضاها
نقل الإمام ابن تيمية عن السلف تأويلات كثيرة ، صُرِف فيها اللفظ عن ظاهره ومن ذلك :
معية الله وقربه من خلقه :
حكى الإمام في معية الله وقربه مذاهب ، وارتضى منها مذهباً واحداً هو المذهب الرابع ، ونسبه إلى سلف الأمة من أئمة الدين والعلم وشيوخ العلم والعباد كما يقول الإمام نفسه : "إنهم أمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة من غير تحريف للكلم ، وأثبتوا أن الله تعالى فوق سمواته ، وأنه على عرشه بائن من خلقه ، وهم بائنون منه ، وهو أيضاً مع العباد - عموماً - يعلمه ، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية".
وبعد أن أسند هذا التأويل إلى السلف - عموماً - عاد فأسنده إلى الإمام أحمد شيخ المذهب ، قال : إن حنبل بن إسحق سأل الإمام أبا عبد الله عن قوله تعالى : {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا....} فقال : علمه : عالم الغيب والشهادة محيط بكل شيء".
إذن فلفظاً المعية والقرب هنا مصروفان عن ظاهرهما ، والسر في هذا الصرف هو نفي المماسة الحسية ، وها ما يقوله مجوزو المجاز في مثل هذه المواضع القرب والمعية - وهما عند المجازيين إن لم تُسغْ فيهما الكناية لجواز إرادة المعنى الظاهر فيعل ساغ فيهما المجاز المرسل بكل يسر.
البقرة وآل عمران :
ثم قال الإمام ابن تيمية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
"أقرأوا البقرة وآل عمران فإنهما يجيئان يوم القيامة يحاجان عن أصحابهما" وهذا الحديث في الصحيح.... فلما أمر بقراءتهما وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ علم أنه أراد بذلك ... عمله ..." فهذا تأويل أخر ، وهو عند

(1/11)


علماء البيان مجاز مرسل علاقته السببية. حيث ذكر فيه السبب ، وهو السورتان المقروءتان وأراد المسبب. وهو الثواب.
ضرر الأصنام ونفعها :
في القرآن آيات كثيرة تقرر أن الأصنام - وكل معبود من دون الله - لا تنفع ولا تضر - وفي سورة الحج وردت آيتان أولاهما تنفي النفع والضرر عن الأصنام ، وهي قوله تعالى :
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}
والأخرى تثبت للصنام ضراً ونفعاً من حيث الظاهر ، وهي قوله تعالى :
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}
والطاعنون في القرآن قبل عصر الإمام وفي عصره أدَّعَوْا أن في القرآن تناقصاً ، وتصدي علماء قبل الإمام للرد عليهم ، فلما جاء الإمام تصدي في بصر وبصيرة لوأد هذه الشبهة ، فذكر دفوع سابقيه ، ومع موافقته عليها قال أنها لم تدفع دعوى التناقص فانبرى لدفعه وأصاب كل الإصابة فماذا قال أثابه الله ؟.
دَفْع الإمام ابن تيمية : -
لم يكتف الإمام بما ذكره الثعلبي والبغوي والزمخشري والسُّدي ؛ لأن ما ذكروه في الرد على الطاعنين لم يف بالمطلوب ، فقال :
المنفي هو فعلهم بقوله : {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} والمثبت اسم مضاف إليه ، فإنه لم يقل : يضر أعظمَ مما ينفع ، بل قال : {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} والشيء يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسة ، فلا يجب أن يكون الضر والنفع المضافان من باب إضافة المصدر للفاعل.

(1/12)


بل قد يضاف المصدر من جهة كونه اسماً كما تضاف سائر الأسماء ، وقد يضاف إلى محله وزمانه ومكانه وسبب حدوثه وإن لم يكن فاعلاً ، كقوله : {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ولا ريب ان بين المعبود من دون الله ، وبين ضرر عابديه تعلق يقتضي الإضافة".
هذا التخريج الذي ذكره الإمام هو بعينه الذي يقوله البلاغيون في هذا النص الكريم وفيما ماثله ، وكل ما في الأمر أن البلاغيين يسمونه مجازاً اسنادياً أو حكمياً ، والإمام يتوقف عن هذه التسمية ، والتسمية لا تأثير لها على حقيقة المسمى : سلباً أو إيجاباً وقد فطن الإمام إلى أن النسب الإضافية مثل النسب الوقوعية والنسب الإيقاعية في العلاقات الإسنادية ، وهذا موضع اتفاق عند البلاغيين في مبحث المجاز الحكمي.
كما أن الإمام ذكر من علاقات هذا المجاز ثلاثاً : هي المكانية والزمانية والسببسة ، وطبق علاقة السببية على الآية الحكيمة فأجاد وأصاب ، فالضر الواقع على عابدي الأصنام هو فِعلُ الله وحده. أما اضافته إلى ضمير الصنم فلأن الله أضر المشرك بسبب عبادته لمن دونه.
وصفوة القول : أن الإمام ابن تيمية مقر بالتأويل المجازي وإن لم يسمه مجازاً. وأنه أتخذ منه وسيلة للدفاع عن سلامة العقيدة ، وتبرئة ساحة كتاب الله العزيز من المطاعن.
واستشهاده بآية {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} والتنظير بينها وبين آية {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} يتسق تماماً مع مجوزي المجاز من بلاغيين وأصوليين ومفسرين.
وقد حلل الإمام نصوصاً شرعية أخرى على هذا المنوال ، منها قول الخليل

(1/13)


عليه السلام : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ....} وقوله تعالى : {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - "أهلك الناسَ الدرهم والدينار ، وأهلك النساء الأحمران : الذهب والحرير".
كل هذه النصوص حللها على أن إسناد الإضلال وزيادة التتبيب ، وإهلاك الناس والنساء إلى الأصنام والدرهم والدينار ، والذهب والحرير روعي فيها أن هذه المذكورات أسباب أما الفاعل الحقيقي فهو الله - عز وجل -.
ومجوزو المجاز من البلاغيين يحللونها هذا التحليل بلا نقص ولا زيادة عما قاله الإمام ، اللهم إلا إطلاق مصطلح المجاز الحكمي عليها.
فابن تيمية بلاغي مجازي - هنا - بلا نزاع.
وأكاد أجزم أن قضية ضر الأصنام ونفعها التي عالجها الإمام بحكمة واقتدار لم يكن لها من خرج أمامه ، ولا أمام أحد من علماء الإسلام سوى هذه السبيل التي نهجها الإمام ابن تيمية ، وهي سبيل التخريج على المجاز الإسنادي الحكمي الذي ينبغي الصيرورة إليه إذا دعت ضرورة شرعية أو عقلية.
التأويل الاستعاري :
وللإمام - رضي الله عنه - تأويلات أخرى صرَّح فيها بنقل الألفاظ مفردة ومركبة من معانيها الوضعية إلى معان طارئة ، وصرح فيها بضرب المثل وتشبيه مضربه بمورده وهذا كله مدرج عند علماء البيان في باب الإستعارة مفردة كانت أو مركبة.
فمما يحمل على الإستعارة المفردة من تأويلاته قوله في قوله تعالى :
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} فقد قال فيه :

(1/14)


"فالمهتدون لما كانوا على هدى من ربهم ونور ، وبينه وبصيرة صار مكانة لهم استقروا عليها".
والبيانيون يتصرفون في هذه الآية مثل تصرف الإمام ومنهم من يجعل الإستعارة فيه مركبة ومنهم من يجعلها مفردة.
وكذلك تأويله لقوله تعالى :
{اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} قال الإمام معقباً على هذه الآية :
"النور ضد الظلمة ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين فيها بأعمال الكفار وأهل البدع والضلال" فقال : د
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلى قوله : {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ....}.
وبعد محاولة منه لشرح معنى النور في جانب المؤمنين ، ومعنى الظلمات في جانب الكافرين قال :
"يوضح ذلك أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور ومثل أعمال الكفار بالظلمة".
هذا التحليل الذي ذكره الإمام يتضمن استعارتين : استعارة النور للإيمان ، واستعارة الظلمة للكفر ، أما الايتعارة التمثيلية التي استلزمها كلامه في مواضع متعددة فمنها المثل الذي ساقه وهو :
"يداك أوكتا ، فوك نفخ" إذا قيل لمن جنى جناية ثم انكرها.
وترديد المثل في مضاربه بعد مورده أجمع البيانيون على أنه استعارة تمثيلية أو مجاز مركب.

(1/15)


نكتفي بهذا القدر من التأويلات توضيحاً للمجاز ثم نأتي إلى ما هو أهم وهو :
ورود المجاز في حر كلام الإمام ابن تيمية : -
ورد المجاز في حر كلام الإمام بن تيمية مع التسليم به وتوظيفه في جدله مع الخصوم في الرأي أو العقيدة.
النزاع بين مجوزي المجاز ومانعيه لفظي : -
هذه العبارة قالها الإمام ابن تيمية ، وقد أوردها لحسم نزاع وقع بين بعض الناس حول :
هل ما نسمعه من أوصوات قراء القرآن هو كلام الله نفسه ، أم الصوت ليس كلام الله وإنما التراكيب والمعاني.
ويدفع الإمام هذا الخلاف بأن الفرق كبير بين من يرى الشمس أو القمر بلا واسطة ، وبين من يراهما في المرآة أو على سطح الماء. ثم يقول بعد ذلك بالحرف الواحد :
"واللفظ يختلف معناه بالإطلاق والتقييد ، فإذا وُصِل بالكلامما يغير معناه كالشرط والاستثناء ... كقوله تعالى : "أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} كان هذا المجموع دالاً على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جميع المسلمين ومن قال إن هذا مجاز فقد غَلِط ، لأن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه ، وما يقترن باللفظ من القرائن الموضوعية هو من تمام الكلام ، ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين ولا يجوز نفي مفهموما. بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، مع أن قول القائل : هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز نزاع لفظي ، وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن".

(1/16)


نستخلص من هذا النص طائفة من النتائج المهمة بالنسبة لموضوع الندوة.
أولاً - إقرار الإمام بالوضع اللغوي الأول ثم اقراره بالنقل منه إلى الاستعمال المجازي.د
ثانياً - إقراره بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز.
ثالثاً - إقراره بالقرائن المجازية وأثرها في تبيين ما هو مجاز مما هو حقيقة.
رابعاً - ثم إقراره بالمجاز جملة وتقصيلاً وعزوه الخلاف بين مجوزي المجاز ومانعيه في اللغة أو في القرآن إلى الخلاف اللفظي.
وهذه الأمور جميعاً كانت موضع إنكار فيما كتبه في كتاب الإيمان.
ونتساءل : هل يعتبر هذت رجوعاً من الإمام عما كتبه هناك أم ما كتبه هناك رجوع عما كتبه هنا ؟ هذا التساؤل كان من الممكن الإجابة عليه لو كنا نعلم السابق واللاحق من تأليفه. مع ملاحظة أن ما سيأتي يرجح الرجوع عما سجله يرجح الرجوع عما سجله في كتاب الإيمان.
والذي يفهم جلياً من هذا النص أن الإمام ابن تيمية من مجوزي المجاز في اللغة وفي القرآن. وأن ما ذكره في آية العنكبوت هو مناقشة في مثال لا في مبدأ.
نص ثان ورود المجاز عند الإمام : -
وقد ورد المجاز في حر كلام الإمام في نص ثان قال فيه بالحرف "ولم ينطق بهذا - يعني المجاز - أحد من السلف والأئمة ، ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد - يعني - شيخ المذاهب - فإنه قال في الرد على الزنادقة والجهمية هذا من مجاز اللغة. وأول من قال ذلك مطلقاً ابو عبيدة في كتابه الذي صنفه في مجاز القرآن. ثم إن هذا كان عند الأوليين مما يجوز في اللغة ويسوغ ، فهم مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء عقد لازم وجائز ، وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز ثم إنه

(1/17)


لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة".
هذا النص يعتبر وصفاً تاريخياً لنشأة المجاز وتطوره والنظر في عباراته يقفنا أمام رجل مقر بالمجاز ، وبخاصة قوله - رحمه الله -.
"ثم إن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة" وهي عبارة صحيحة.
ومن المجاز المشتهر عند الإمام نفسه تسمية الضيافة نُزُلاً ، ونعني بالضيافة ما يقدم للضيف مما يشرب أو يؤكل ، وفيها يقول الإمام بالحرف :
"فإن النزل إنما يطلق على ما يؤكل ، قال تعالى : {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} والضيافة سميت نزلاً ؛ لإن العادة أن الضيف يكون راكباً فينزل في مكان يؤتى إليه بضيافة فيه ، فسميت الضيافة نزلاً لأجل نزوله".
هذا المجاز المشتهر الذي صار حقيقة هو في الأصل مجاز مرسل عند علماء البيان.
نص ثالث
ومن ورود المجاز في حر كلام الإمام ولم يعقب عليه بإنكار ما نقله عن أبي عمرو في مذهب السلف في الصفات الآلهية.
فقد سئل أو عمرو : هل السلف يؤولونها تأويلاً مجازياً أو يبقونها على الحقائق اللغوية.
فأجاب أبو عمرو بما رواه عنه الإمام بن تيمية فقال :
"أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة ، والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، غير أنهم لا يكيفون".

(1/18)


وهذا النص على قصره يفيد :
* إن الإمام أرتضى إجابة أبي عمرو ، ولم ينكر ذكر المجاز فيها ولا في السؤال الذي أجاب عنه أبو عمرو.
* وإن السلف كانوا يعرفون تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ولكنهم لا يؤولون صفات الباري تأويلاً مجازياً ، بل هي حقائق عندهم.
وقضية إنكار تأويل الصفات ليس معناها إنكار المجاز رأساً فهما قضيتان منفصلتان.
نص رابع :
ويقول - رضي الله عنه - في تفسير الدعاء في قوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وكان قبلاً قد فسر الدعاء تفسيرين :
أحدهما بمعنى العبادة.
والثاني بمعنى الطلب. ثم قال هنا :
فقوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} يتناول نوعي الدعاء : وبكل منهما فُسَّرت الآية :
قيل : أُعطيه إذا سألني. وقيل أُثيبه إذا "عبدني". والقولان متلازمان.
ثم يقول :
"وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما. أو استعمال اللفظ في حيقيقته ومجازه. بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعاً".
يريد الإمام أن يقول : إن دلالة الدعاء على العبادة والطلب دلالة تواطؤ لا دلالة اشتراك ولا مجاز.

(1/19)


نص خامس :
وفي رده على من سوَّى في التفسير بين الأستواءين في قوله تعالى :
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا..}. وقوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقد فسَّر فريق من العلماء الإستواء إلى السماء بالعمد والقصد إليها لخلقها.
والإمام ابن تيمية يرفض ان يكون الإستواء على العرش مثل الإستواء إلى السماء ، ملاحظاً الفرق بين أداة التعدية إلى الفعلين : في الإستواء الأول عُدَّىِ الفعل بـ إلى وفي الإستواء الثاني عدى بـ على. فلا يفشر على العرش بالعمد للفرق بين معنيي الاستواءين. وفي هذا الفرق يقول بالحرف :
"فإذا كان العرش مخلوقاً قبل خلق السموات فكيف يمكون استواؤه عَمْده إلى خلقه له ؟ لو كان يعرف في اللغة أن استوى على كذا بمعنى عمد إلى فعله ، وهذا لا يعرف قط في اللغة لا حقيقة ولا مجازاً ، لا في نظم ولا في نثر".
هذا قوله ، وهو صواب بلا نزاع. وشاهدنا فيه أن الإمام - رضي الله عنه - قد ذكر الحقيقة والمجاز في حر كلامه. ولم يُشم من كلامه - هنا - رائحة إنكار للمجاز.
نص سادس.
وفي نص أخر له يشنَّع - رحمه الله - على من يجهل الفروق بين دلالات اللغة ، ويجهل دلالات الحقيقة والمجاز ، ورد هذا النص رداً على من يدعي أن استواء الله على العرش يتناول شيئاً من صفات المخلوقين فقال بالحرف كذلك :
"فمن ظن أن هذا الاستواء إذا كان حقيقة يتناول شيئاً منه مع كون النص قد خصه بالله. كان جاهلاً جداً بدلالات اللغات ومعرفة الحقيقة والمجاز".
هذا كلام الإمام ، وهو دليل قاطع على أخذه بالمجاز واعتماده.

(1/20)


الدفاع عن الأئمة الأعلام : -
ةفي دفاعه عن الأئمة الأعلام من مؤسسي المذاهب الفقهية وكبار تلاميذهم وتابعيهم من أهل السنة والجماعة رأينا الإمام ابن تيمية - رحمه الله - يتخذ من المجاز سلاحاً للدفاع عنهم ، وكان بعض المبطلين قد طعن فيهم ، لأنهم وقفوا من بعض أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - مواقف متباينة : بعضهم يقبل حديثاً وآخر يرده ، بعضهم يصحح حديثاً وأخر يضعفه ، بعضهم يفهم من حديث معنى ، وأخر يخالفه. ولما كث اللغط حول هذه الظاهرة انبرى الإمام ابن تيمية اثابه الله ، ووضع رسالة صغيرة الحجم جمة الفوائد اسماها "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".
وبر أ فيها ساحة الأئمة من مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأدار دفاعه عنهم على عشرة أسباب. وفي السببين السادس والثامن ذكر الحقيقة والمجاز والاختلاف بين دلالتيهما ركيزة من ركائز الدفاع عنهم فقال في السبب السادس ما نصه :
" وتارة يكون مشتركاً ، أو مجملاً ، أو متدداً بين حقيقة ومجاز ، فيحمله - أي الفقيه - على الأقرب عنده وإن كان المراد هو الآخر".
وفي السبب الثامن يستهل الحديث بتعارض الدلالات فيقول :
"اعتقاده - يعني الفقيه - أن تلك الدلالة قد عرضها ما دلَّ على أنها غير مراده".
مثل معارضة العام بخاص ، أو المطلق بمقيد ، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب ، أو الحقيقة بما يدل على المجاز ، إلى - أخر - أنواع المعارضات ، فإن تعارض دلالات الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض بحر خضم".

(1/21)


هذا ما تيسر ذكره من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية مما وردج ذكر المجاز صريحاً فيها في حر كلامه ، ودلالتها على موقفه العام من المجاز وارتضائه إياه أمر لا يسوغ دفعه ، ولا التقليل من شأنه.
وهذا يعتبر رجوعاً منه عما كتبه في الإيمان ، فقد أقر في ما نقلناه عنه آنفاً بكل ما أنكره هناك. ومن يتمسك بعد ذلك بأن الإمام ابن تيمية لم يقر بالمجاز في حر كلامه فعليه أن يتصرف في هذه الأقوال القاطعة التي وردت عنه في مواضع متعددة من مؤلفاته ، وفي حر كلامه. عليه أن يتصرف فيها إما بإنكار ورودها عنه ، وليس إلى ذلك من سبيل ، أو بتجريدها مما تدل عليه ، وليس إلى ذلك من سبيل كذلك.
فلم يبق إذن إلا التسليم بأن للإمام بن تيمية مذهبين في المجاز هما :
مذهب جدلي نظري أنكر فيه المجاز في اللغة وفي القرآن الكريم ، وقد دعاه إلى ذلك فزضى التأويل في عصره وقبل عصره ، عملاً بالأصل المعروف لدى علماء أصول الفقه ، وهو : سد الذرائع.
ومذهب عملي سلوكي طبقه على آيات من الذكر الحكيم كما تقدم.
ولا عجب ولا تناقض في موقفه من المجاز عند التحقيق فهم إمام جليل واسع المعرفة ، ومناضل قدير ، وفقيه مبرَّز ، ومجتهد واع ، ومن كانت هذه صفاته فله أن يتغير اجتهاده كسابقيه من الأئمة الفقهاء الأعلام. والمجاز - عموماً - ليس ركناً من أركان الإسلام فيُكَّفّر منُكره أو عبادةً مبتدعة فَيُفَسَّق مثبتُه ، وإنما هو فن من فنون القول التي زخرت بها اللغة العربية التي نزل بها القرآن وكادت الأمة تجمع على اشتمال القرآن عليه لولا أولئك النفر القليلون الذين أنكروه بناء على شبهات لاحت لهم وقد أزال تلك الشبهات مجوزو المجاز بوعي واقتدار.

(1/22)


الفصل الثاني الإمام ابن القيم
موقف الإمام ابن قيم الجوزية من المجاز مثل موقف شيخه الإمام ابن تيمية ، والتشابه بين موقفيهما يكاد يبلغ حد المماثلة التامة في كل الوجوه.
فقد أنكر ابن القيم المجاز بشدة في كتابه "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" وحشد أكثر من خمسين وجهاً لإنكار المجاز. كما أنكره شيخه الإمام ابن تيمية في كتابه "الإيمان" وبذل جهداً جدلياً نظرياً بالغ المدى في إنكاره كما كتب فصلاً ضافياً في قسم أصول الفقه ردد فيه ما قاله في كتابه "الإيمان".
والإمام الشيخ أقر بالمجاز تأولاً وتصريحاً في مواضع متعددة من مؤلفاته الأخرى كما تقدم.
وكذلك الإمام التلميذ أقر بالمجاز تأويلاً وتصريحاً في مواضع مختلفة من مؤلفاته الأخرى كما سيأتي ومعنى هذا أن لابن القيم مذهبين في المجاز ، مذهباً متعارفاً مشهوراً هو الإنكار ، ومذهباً غير مشهور وهو الإقرار.
وكانت أدلتنا على إقرار الإمام ابن تيمية بالمجاز ثلاثة :
الأول - تأويلات مجازية نقلها عن بعض السلف ثم ارتضاها مذهباً له في نصوص قرآنية.

(1/23)


الثاني : تأويلات مجازية استأنفها هو استثنافاً من عند نفسه.
الثالث : ورود المجاز في حر كلامه مع الرضا به وإعماله في توجيه مشكلات نشأت عن صعوبة الأخذ بظواهر نصوص مقدسة. كما أتخذ من المجاز وسيلة للدفاع عن الأئمة ومواقفهم من الحديث النبوي الشريف. وقد تقدم هذا كله في إيجاز.
أما الإمام ابن القيم فلنا على مذهب الإقرار بالمجاز عنده دليلان إضافيان لا يتطرق إليهما شك وهما : -
الأول : تأويلات مجازية مستقيضة وردت في كتبه غير الصواعق.
الثاني : ورود المجاز صريحاً في حر كلامه ، وهو في هذين الدليلين أطول باعاً ، وأكثر لهجاً من شيخه الإمام ابن تيمية - رضي الله عنهما - وعلى هذا الأساس ندير الجديث.
التأويلات المجازية : -
تتبعنا في التأويلات المجازية عند العلامة ابن القيم وأرجعنا كثيراً منها إلى أصولها البلاغية فوجدناها موزعة على جميع أنواع المجاز ، فكان منها :
* تأويلات مجازية من قبيل المجاز العقلي.
* وتأويلات مجازية من قبيل المجاز اللغوي المرسل.
* وتأويلات مجازية من قبيل المجاز اللغوي الإستعاري.
وفي بيان هذا كله نسطر ما يأتي.

(1/24)


المجاز العقلي
وردت تأويلات محمولة على المجاز العقلي لا تكاد تحصر في كلام العلامة ابن القيم ومن ذلك :
ماء دافق :
لابن القيم وقفة في توجيه قوله تعالى : {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} حكى فيها أقوالاً عن غيره ، ثم أدلى هو فيها بدلوه فقال :
"والدافق قيل إنه فاعل بمعنى مفعول ، كقولهم : سِرٌ كاتم ، وعيشة راضية ، وقيل هو على النسب ، أي ذي دفق".
نقل العلامة هذين القولين ، ومع التسليم باًلأصل المقيس عليه "سر كاتم" وهو عند البلاغيين مجاز عقلي علاقته المفعولية ، نازع أن تكون الآية : {مَاءٍ دَافِقٍ} من قبيل : سر كاتم ، واختار أن يكون "دافق" اسم فاعل على بابه أي دافق هو لا مدفوق. وحمله على قولهم : نهر جار ، ورجل ميت. بناء على أن الفاعل هو من فعل الفعل أو قام به ، وعنده أن النهر والميت وقع عليها الفعل : الجري والموت ، ولم يفعلاه في الواقع بيد أن تسويته بين جريان النهر وموت الميت غير سديد لن الماء في مجرى الحس والمشاهدة فاعل للجريان بخلاف الميت فإن الفعل واقع عليه.
وشاهدنا في هذا الموضوع هو تسليمه بأصل التأويل المجازي العقلي في سر كاتم ، وعدم اعتراضه عليه كل ما في الأمر أنه لم يسلم بحمل "ماء دافق" عليه
فاعل التزيين : -
ومن أوضح تأويلاته المفضية - قطعاً - إلى المجاز العقلي حديثه عن فاعل تزيين الأعمال السيئة في نفوس فاعليها ففي القرآن الكريم جاء إسناد هذا التزيين

(1/25)


إلى الله في مواضع ، ثم إلى الشيطان في مواضع أخرى ، كما أسندت إلى فاعليها من العباد أحيانأً ، أو يُبني الفعل للمفعول ويُطوى ذكر فاعله.
فمن الإسناد إلى الله - سبحانه - قوله تعالى في سورة الأنعام آية (108) {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} ومن الإسناد إلى الشيطان قوله تعالى في سورة العنكبوت آية (38) {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ..} ومن الإسناد إلى العبد قوله تعالى في سورة يوسف آية (18) {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا...} ومن الإسناد إلى المجهول قوله تعالى في سورة فاطر آية (8) {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ...}.
وقد عهرض العلامة ابن القيم لتوجيه اختلاف الإسناد في هذه المواضع فقال :
"فاضاف التزيين إليه - سبحانه - خلقاً ومشيئة ونسبه إلى سببه - يعني الشيطان - ومن أجراه على يديه تارة".
أما الإسناد إلى العبد فلإنه أحب تزيين الشيطان. وردت هذه التأويلات المجازيو لالرد على القدرية الذين يمنعون غسناد ما فيه قبح إلى الله ، ويدفع هذا القول بأنها من الشيطان ومن العبد قبيحة. أما من الله فلا قبح لأنه فعله عقاباً فهو منه جميل.
ولا ريب أن إسناد التزيين إلى الله حقيقة إذ هو خالقه ومشيؤه كما يقول العلامة نفسه في الموضع المشار إليه من كتابه : شفاء العليل.
أما الإسناد إلى الشيطان فلإنه سبب داع ومؤثر أما العبد فلإنه مباشر للفعل.
والإسناد إلى الشيطان والعبد إسناد مجازي عقلي حيث جُعِل غير الفاعل فاعلاً ، وهذا هو المجاز العقلي عند علماء البيان ، فلم يترك ابن القيم إلا تسمية هذا التأويل مجازاً.

(1/26)


عيشة راضية : -
نقل العلامة في إسناد الرضا إلى ضمير العيشة تأويلاً مجازياً ثم رجَّح أن تكون "عيشة" فاعلاً للرضا فعلاً فقال :
"وأما العيشة الراضية فالوصف بها أحسن من الوصف بالمرضية ، لأنها اللائقة بهم ، فشبُه ذلك برضاها بهم كما رضوا بها ، كأنها رضيت بهم ورضوا بها. وهذا ابلغ من مجرد كونها مرضية فقط فتأمله".
وهذا التأويل الذي ارتضاه العلامة يخرج الآية {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} من دائرة المجاز العقلي ويدخلها - قطعاً - في دائرة الإستعارة بالكناية فالمجاز لاحق به فيما فرَّ منه وفيما فرَّ إليه. وإجراء الإستعارة بالكناية في صور المجاز العقلي سائغ جداً ، لذلك فإن ابا يعقوب السكاكي يجزم بأن كل ما يمكن جمله على المجاز العقلي باعتبار يمكن حمله على الاستعارة المكنية باعتبار آخر ، وهذا القول له وزنه ، والسكاكي منزلته بين البلاغيين كمنزلة سيبويه بين النحاة.
إختلاف الإسناد في التوفية : -
وذهب الإمام ابن القيم مذهباً مماثلاً في توجيه إختلاف الإسناد في الاماته والتوفيه.
ففي التنزيل الحكيم أسندت إلى الله في قوله تعالى في سورة الزمر آية (42) : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}.
وأسندت إلى ملك الموت في سورة السجدة آية (11) :
{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ...}
واسندت إلى ملائكته الموت في سورة الأنعام في قوله تعالى آية (61) {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}.

(1/27)


وقد نهج العلامة ابن القيم منهج المجاز العقلي في توجيهه لهذه الآيات الحيكمات ، فقال ما معناه بكل دقة :
الإسناد إلى الله لأنه الخالق المشيء. وإلى ملك الموت لنه الذي ينزع الروح من الجسد ، وإلى الملائكة لأن ملك الموت له أعوان.
وهذا كلام هو عين الصواب ومجوزو المجاز في اللغة وفي القرآن الكريم لا يضيفون شيئاً إلى ما قاله العلامة في تقرير المجاز العقلي في هذه الآيات. اللهم إلا أنهم يسمونه مجازاً عقلياً وهو يسكت عن هذه التسمية وسكوته لا ينفي حقيقة المسمى. 

 المجاز المرسل
وللعلامة ابن القيم تأويلات أخرى مفضية إلى المجاز اللغوي المرسل - لا محالة - ومن ذلك :
خروج الإستفهام إلى الإرتكاز : -
الإستفهام موضوع اصلاً لطلب الفهمن يصدر عن متكلم يجهل حقيقة ما يستفهم عنه ، تقول لمن لا تعرف اسمه : ما اسمك ؟ فيقول ؟ فلان.
وفي القرآن الكريم استفهامات مستفيضة صادرة عن الله سبحانه ، والله لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء فقد أحاط بكل شيء علماً ، ومعنى هذا أن كل استفهام صادر عن الله يجب حمله على غير ظاهره بما يليق بالذات العلية ، وهذا ما صنعه الإمام ابن القيم في قوله تعالى :
{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} الإنشقاق (20) فقد قال فيه بالحرف :
"إنكاراً على من لم يؤمن بعد ظهور الايات المستلزمة لمدلولها اتم استلزام".
وقوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} القيامة (3) فقال في توجيهه :
"فأنكر - سبحانه - عليه حسبانه أن الله لا يجمع عظامه.
وقال في قوله تعالى : {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}.
"إن مثل هذا إنما يراد به النفي والاستبعاد ، أي لا أحد يرقى من هذه العلة بعد ما وصل صاحبها إلى هذه الحال" يعني حالة حضور الوفاة وما ذكره العلامة في الموضع الأخير يجوز حمله على ظاهره من الاستفهام الحقيقي وهو ما

(1/29)


يفعله الناس الآن من استدعاء الأطباء للعلاج حتى في لحظات النزع الأخير.
أما الأمثلة الأخرى فقد أجاد فيها وأحسن. والذي نقوله تعقيباً على كلامه : أن خروج الاستفهام إلى النفي أو الإنكار معدود عند علماء البيان من صور المجاز المرسل الذي علاقته الإطلاق والتقييد. اي أطلق الإستفهام من دلالته على طلب الفهم ثم قُيَّد مرة أخرى باستعماله في الإنكار أو النفي أو غيرهما من المعاني المنصوص عليها في مصنفات البيانيين.
وأن الإمام ابن القيم - بهذا - مؤول مجازي خبير بمرامي الكلام ودقائق التراكيب. وكفى بذلك اقراراً بالمجاز وتأصيلاً لوظيفته في البيان.
مجئ الخبر بمعنى الأمر : -
من أفانين القول في اللغة العربية - لغة التنزيل الحكيم - فن معروف في البلاغة العربية يمكن أن نطلق عليه مصطلحاً جديداً يجمع شتاته كله ، وهو فن : تبادل الصيغ والأدوات وإحلال بعضها محل بعض ولهذا الفن معان وأسرار دقيقة في الأساليب الرفيعة.
والقرآن الحكيم حافل بصور تبادل الصيغ والأدوات ومن ذلك مجئ الخبر بمعنى الإنشاء ، ومنه مجئ الخبر بمعنى الأمر كما جاء في عنوان هذه الفقرة وذلك مثل قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ...} البقرة (228) والتربص : الترقب والانتظار.
وقوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ...} البقرة : (233) وقد تعرض العلامة ابن القيم لتوضيح السر البياني لمجئ هذا الخبر : {يُرْضِعْنَ} بدل الأمر : "أرضعن" لأن المقصود من الخبر هنا إنشاء الأمر بالرضاعة وقد أصاب العلامة في توضيحه فقال :

(1/30)


تمهيد :
قبل حديثه المباشر عن هذه الآية مهَّد له بقوله : "فقد جاءت أشياء بلفظ الخبر ، وهي في معنى الأمر والنهي ، منها قول عمر : صلي أمرؤ في كذا وكذا من اللباس ، وقولهم أنجز حر ما وعد ... وهو كثير ، فجاء بلفظ الحاصل تحقيقاً لثبوته ، وأنه مما ينغبي ان يكون واقعاً ولابد ، فلا يطلب من المخاطب إيجاده ، بل يخبر به ليحققه خبراً صرفاً".
مراد المؤلف من قوله هذا أن السر البياني لمجئ الخبر بمعنى الأمر هو المسارعة إلى إمتثال الأمر حتى لكان المطلوب بالأمر حاصل وقت النطق به فيخبر عنه لأنه أمر موجود متصف به المخاطب المأمور. وهذا فهم في غاية الجودة يحمد للعلامة ابن القيم وهو في هذا التوضيح بياني ذواقة مرهف الحس ثم قال :
"وفيه طريقة أخرى ، وهي أفقه معنى من هذه وهي أن هذا إخبار محض عن وجوب ذلك واستقرار حسنه فب العقل والشريعة والفطرة وكأنهم يريدون بقولهم : أنجز حرَّ ما وعد ، اي ثبت ذلك في المروءة ، وأستقر في الفطرة في التوجيه الأول جاء الخبر بمعنى الأمر إشارة إلى وجوب المسارعة والإمتثال.
وفي التوجيه الثاني جاء الخبر بمعنى الأمر إشارة إلى استحسان المأمور به عقلاً وشرعاً وفطرة وأياً كان الأمر فإن الإمام ابن القيم قد أوَّل الكلام تأويلاً مجازياً لغوياً مرسلاً فيما ذهب إليه في الوجه الأول.
ثم يعمد إلى الآية : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} والآية {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} فيقول - رحمه الله - وهذا موضع مجئ المسألة المشهورة, وهي مجئ الخبر بمعنى الأمر في القرآن في نحو قوله : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} و{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ونظائره فمن سلك المسلك الأول - يعني مسلك المسارعة والامتثال - جعله خبراً بمعنى الأمر.

(1/31)


ومن سلك المسلك الثاني قال : بل خبر حقيقة غير مصروف عن جملة الخبرية ، ولكن هو خبر عن حكم الله وشرعه ودينه ليس خبراً عن الواقع".
ثم قال : "وكذلك بعض المطلقات يخالفن ولا يتربصن ، وهذا الإحتراس - أي مجئ الخبر بمعنى الأمر - في غاية الشرف والبلاغة ، فرحم الله العلماء الذين عرفوا لكتاب ربهم حقه فوفوه حسابه".
وصفوة القول : إن استبدال الصيغ والأدوات في الخبر والإنشاء ، وإحلال بعضها محل بعض :
الخبر محل الإنشاء ، والإنشاء محل الخبر ، وخروج بعضها إلى غير معانيها الزضعية على نحو ما رأينا في تخريجات العلامة ابن القيم هو عند البلاغيين من صور المجاز المرسل ، الذي علاقته الإطلاق والتقييد.
وعلى هذا تُحمل تخريجات الإمام ابن القيم بلا نزاع.

(1/32)


المجاز اللغوي الاستعاري
بقيت التأويلات المجازية المفضية إلى الاستعارة وهي من المجاز اللغوي ، وابن القيم ضارب في هذا المجال بسهم وافر ، ومن ذلك.
فلا أقتحم العقبة : -
نقل الإمام في التحليل البلاغي لهذه الآية {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} تأويلاً مجازياً رائعاً ، يفضي - لا محالة - إلى المجاز اللغوي الإستعاري. قال :
"وقال مقاتل : هذا مثل ضربه الله يريد : أن المعتق رقبة ، والمطعم اليتيم والمسكين ، يقاحم نفسه وشيطانه - يعني يغالب ويجالد - مثل لأن يتكلف صعود العقبة فشُبَّه المعتق رقبة في شدته عليه بالمتكلف صعود العقبة".
هذا التأويل يُفضى إلى أن هذه الآية مجاز لغوي من قبيل الاستعارة التمثيلية ، شُبَّه فيها الهئية الحاصلة من فعل التكاليف الشاقة على النفس ببذل الطعام لمستحقيه وتحرير الرقاب من الرق بالهيئة الحاصلة من المشاق التي يتجشمها رجل يحاول صعود جبلاً مثلاً ، وهذا هو المجاز المركب ، وقد صرَّح ابن القيم بالمشبه والمشبه به وكأنه يجري الاستعارة كما يجريها البيانيون.
جاء الله من طور سيناء : -
هذه العبارة وردت في فقرة من التوراة. وهذا نصها :
"جاء الله من صور سيناء ، واشرق من ساعير ، واستعلن من فاران".
وفيها بشارة برسولَيْ الله عيسى ومحمد عليهما السلام وقد ذكر هذه الفقرة العلامة ابن القيم ، ثم أوَّل معانيها تأويلاً مجازياً واضحاً فقال :
"فمجيئه من طور سيناء يعثته لموسى بن عمران وبدأ به على حكم الترتيب الواقعي ، ثم ثنى بنبوة المسيح ، ثم ختمه بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

(1/33)


وجعل نبوة موسى بمنزلة مجئ الصبح - الفجر - ونبوة المسيح بعدهما بمنزلة طلوع الشمس وإشراقها ، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعليهما بعده بمنزلة استعلانها وظهورها للعالم".
وحين ينظر بلاغي مدقق في تخريجاتى العلامة لهذه الفقرة ، ينتهي - لا محالة - إلى ست صور مجازية : ثلاث من المجاز العقلي ، وثلاث من المجاز اللغوي ، وإليك البيان.

(1/34)


صور المجاز العقلي
أولاها : إسناد المجئ من طور سينا إلى الله والجائي حقيقة رسالة الله إلى موسى عليه السلام.
وثانيتها : إسناد الإشراق من ساعير إلى الله والمراد رسالته إلى عيسى عليه السلام.
وثالثتها : إسناد الاستعلان من فاران إلى الله والمقصود رسالته الخاتمة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلاقة هذه المجازات هي الفاعلية. فالله هو فاعل الإرسال ، لذا صح أن يُسْند غليه المجئ من طور سيناء ، والإشراق من غير ساعير والاستعلان من فاران.

(1/35)


صور المجاز اللغوي
أولاها : في جاء من طور سيناء حيث قال ابن القيم أنه بمنزلة بدو الصبح ، يعني الفجر.
وثانيتها : في إشراقة من ساعير ، حيث شبه نبوة عيسى عليه السلام بإشراق الشمس.
وثالثتها : واستعلن من فاران حيث شبه رسالة خاتم النبيين بتوسط الشمس كبد السماء ، وإضاءة أرجاء العالم فهذه ثلاث استعارات تصريحية تنجم عن كلام ابن القيم حين ينظر فيه البلاغي المدقق ولم يترك ابن القيم إلا تسمية هذه التأويلات مجازاً. وهذا لا يقدح في إقراره بالمجاز بكل صوره وهذا لا نزاع فيه عند أهل الأصناف.
والسماء والطارق : -
ذهب الإمام ابن القيم وغيره من المفسرين واللغويين إلى أن المراد من "الطارق" في قوله تعالى {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} أنه "النجم" ثم يخطو بنا الإمام خكوة أخرى يجيب على سؤال مطروح حاصلة : لِمَ سُمَّيّ النجم طارقاً ؟.
وفي الإجابة يقول - رحمه الله - :
"وسمي النجم طارقاً ؛ لأنه يظهر بالليل بعد اختفائه بضوء الشمس ، فشُبَّه بالطارق الذي يطرق الناس أو يطرق أهله ليلاً...".
ومعنى هذا الكلام أن في "الطارق" استعارة تصريحية اصلية ، ويجوز حملها على الاستعارة بالكناية عند علماء البيان.
فما الذي نريده من العلامة لإقراره بالمجاز لا في اللغة فحسب ، ولكن فيها وفي القرآن ، بعد هذا التحليل المجازي الواضح ؟.

(1/36)


آتيناه آياتنا فانسلخ منها : -
من شواهد البلاغيين المتعارفة في تشبيه المعنوي بالحسي على سبيل الإستعارة التصريحية التبعية قوله تعالى :
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} يس : (37).
فقد استعير السلخ للإزالة لما يترتب على كل منهما من الكشف والإيانة وإحلال شيء محل آخر وقد ورد الإنسلاخ في مثل الذي آتاه الله آياته فأعرض عنها وضل {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} الأعراف (175) وكانت هذه الآية مما تناوله العلامة ابن القيم بالتأويل فقال :
"فانسلخ منها : اي خرج كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم ...".
وهذا الكلام على قصره دقيق رائع ، وفيه يؤول الإمام الإنسلاخ تأويلاً مجازياً مفضياً إلى الاستعارة التصريحية التبعية كما صنع البلاغيون في الآية السابقة. فابن القيم مثلهم إلا أنهم يصرحون بالمجاز اللغوي الاستعاري فيها. وهو يقف عند التأويل المجازي ولا يصرح.
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك :
ظتهر هذه الآية النهي عن ربط اليد بسلسلة من حديد - الغُل - وشدها إلى العنق بإحكام حتى لا تستطيع حراكاً.
وليس هذا الظاهر مراداً عهند جميع علماء الأمة : سلفاً وخلقاً. وقد قال فيه العلامة ابن القيم صارفاً له عن ظاهر معناه الذي بينَّاه :
"شبه الإمساك عن الانفاق باليد إذا غُلَّتْ إلى العنق ، ومن هنا قال الفراء : "إنَّا جعلنا في أعناقهم أغلالاً" : حبسناهم عن الانفاق".

(1/37)


إن هذا الذي قاله ابن القيم حق وصواب لا يماري فيه أحد. وكلامه يترتب عليه أن في الآية الحكيمة مجازاً لغوياً على سبيل الاستعارة التمثيلية أو المركبة ، حيث صرح بالمشبه والمشبه به ، مع ملاحظة أن المشبه محذوف ، وهو الإمساك عن الإنفاق.
هذا ما أردنا نقله من تأويلات ابن القيم المجازية التي شملت كل أنواع المجاز ، وقد أهلمنا كثيراً منها فلم تذكره توخياً للإيجاز. وفي ما نقلناه عنه قدر صالح إن شاء الله على إقرار الإمام بالمجاز تأويلاً.

(1/38)


ورود المجاز صريحاً بلفظه ومعناه في حر كلامه
نقصد بورود المجاز صريحاً بلفظه ومعناه أن ابن القيم تخطى مرحلة التأويل المجازي الصَّرف ، إلى مرحلة ذكر المجاز والتصريح به بلا أدنى غموض ، مريداً منه معناه الإصطلاحي عند علماء البيان ، ولم يرد به شيئاً سواه ونقصد بحر كلامه أنه لم يذكر المجاز مجاراة ومحاكاة للقائلين به راداً عليهم ومبطلاً أقوالهم ، ومما يدخل معنا في حر كلامه ما نقله هو عن غيره ثم ارتضاه ولم يعقب عليه بإنكار ، أو يورد أدنى احتراس يفيد أنه مجرد محاكٍ لكلام غيره ، إذا اتضح هذا نقول :
لقد ورد المجاز بالضوابط المذكورة كثيراً عند الإمام ابن القيم. وهاك البيان في إيجاز :
ابن القيم والسهيلي :
نقل الإملم ابن القيم نصوصاً عن السهيلي أكثر السهيلي فيها من ذكر المجاز والإستعارة ، ومع تقد ابن القيم لبعص نصوص السهيلي من عدة وجوب لم يتعرض للرد عليه في استعماله للمجاز والاستعارة. بل رضي بما أورده عن السهيلي ، ثم أنتقل من حالة الرضا إلى مرحلة الأعجاب والثناء البالغ ، وهذه فقرات من كلام الإمام ابن القيم ممزوجة بكلام السهيلي :
"قال السهيلي : إذا عَلمت هذا فاعلم أن العين اضيفت إلى الباري من قوله تعالى : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} حقيقة لا مجازاً كما توهم أكثر الناس ؛ لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك ، وإنما المجاز في تسمية العضو - يعني العين - بها ، وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى الباري تعالى لا حقيقة ولا مجازاً ، ألا ترى كيف لم يضف - سبحانه - إلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان كالمقلة والحدقة

(1/39)


لا حقيقية ولا مجازاً ؟ نعم ، ولا لفظ الأبصار ، لأنه لا يعطي معنى البصر والرؤية مجردة ، ولكن يقتضي مع معنى البصر معنى التحديق والملاحظة ونحوها.
ذكر الإمام هذا النص ونقده من عدة وجوه ، ولكنه لم يخطئ السهيلي في ذكر المجاز ، مع أنه ورد في كلامه هذا أربع مرات.
اليد ليس مصدراً : -
في كلام للسهيلي ذهب فيه إلى أن "الأيد" في قوله تعالى {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} مصدر يديت يداً في معنى الصدقة ، وكذلك "اليد" المضافة إلى الله في مثل قوله تعالى : {يَدِ اللَّهِ} واستدل على هذا بقول الشاعر العربي :
يديت على ابن خضخا ض بن عمرو
بأسفل ذي الحداة يد الكريم
نرى الإمام ابن القيم يتعقبه بالنقد ، وينفي أن تكون اليد مصدراً كما ذهب السهيلي. وبقول في توجيه "الآيد" في الآية الحكيمة.
"قلت : المراد بالأيد والأبصار - هنا - القوة في أمر الله ، والبصر بدينه فأراد أنهم من أهل القوة في أمره ، والبصائر في دينه ، فليست إليه يداً فتأمله".
ثم يؤيد نظره هذه بأن العرب مؤمنهم وكافرهم كانوا يفهمون هذا المعنى ، والدليل أن أعداء الدعوة كانوا لها بالمرصاد ، فلو لم يكونوا بهذا المعنى ، وأنه لا تلزم منه مشابهة الخالق لخلقه لقالوا للنبي :
زعمت أن الله ليس كمثله شيء فكيف اثبت أن له يداً وجارحة! هذا ملخص كلامه ، ثم يقول بالحرف الواحد :

(1/40)


"ولم لم يتقل ذلك عن مؤمن أو كافر ، عُلِمَ أن الأمر كان عندهم فيها جلياً لا خافياً ، وأنها صفة سميت الجارحة بها مجازاً ، ثم استمر المجاز حتى تُسيِتْ الحقيقة. ورب مجاز كثر واستعمل حتى نُسىَ أصله".
غني عن التعليق : -
هذا النص بوضوحه غني عن التعليق ، فقد استعمل الإمام ابن القيم المجاز في حر كلامه. وأين ؟ في كلام الله المعجز. وأين ؟ في صفات الله - عز وجل -. أستعمله مقتنعاً به وراضياً غياه ، ولم ير فيه أدنى غضاضة او كذباً على الله ، أو تعطيلاً لصفة من صفاته المقدسة.
وإن كان بينه وبيت غيره خلاف فهو ليس في المجاز يكون أو لا يكون ، ولكن غيره يقول : اليد حقيقة في العضو مجاز في القدرة والنعمة ، وهو يقول : اليد حقيقة في القدرة والنعمة والقوة ، مجاز في العضو.
فالمجاز موضع اتفاق بين الفريقين ، وإنما الخلاف أين يقع المجاز - هنا - هل هو في العضو الجارحة أن في لازم معناه.
وكون المجاز في العضو الذي أقره الإمام هنا فقد أخذه من كلام السهيلي الذي قال من قبل إن المجاز في العضو (العين) أما لازم معناها : الرؤية والإدراك فحقيقة : لا مجاز فيه.
وأياً كان الأمر ، فمن ذا الذي يجرؤ على القول بأن الإمام ابن القيم ليس له في المجاز إلا مذهب الإنكار وهذا هو الإمام نفسه يدحض هذه الدعوى فيما نقلناه وما سننقله عنه من النصوص القاطعة على إقراره بالمجاز تأويلاً وتصريحاً ، في اللغة بوجه عام وفي التنزيل الحكيم بوجه خاص.
ومن جهة أخرى نراه ينقل عن السهيلي كلاماً استعمل فيه السهيلي المجاز في توضيح بعض آيات الذكر الحكيم فيقره الإمام على وجهات نظره ثم يثنى عليه

(1/41)


فيقول :
"هذا من كلامه من المرقصات" ، "فإنه أحسن فيه ما شاء".
ويقول : "فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها بالخناصر".
وكما قال شيخه من قبل :
في مسألة هل لفظ الصلاة حقيقة في الدعاء مجاز في العبادة يردد الإمام ابن القيم كلام شيخه الإمام ابن تيمية الذي قال من قبل ، من أن لفظ الصلاة متناول للعبادة والدعاء تناول التواطؤ أو الجنس على أفراده ، فيقول الإمام ابن القيم :
"فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار : لا تناول المشترك المعنييه ، ولا تناول اللفظ لحقيقته ومجازة".
فكلامه - هنا - مثل كلام شيخه من قبل : هو منازعة في مثال هل فيه مجاز أو ليس فيه مجاز. أما المجاز - كلية - فهو بعيد عن هذا النزاع.
المصطلحات الشرعية : -
وقع خلاف بين الأصوليين حول المصطلحات الشرعية كالصوم والصلاة والحج ، والصلة بينهما وبين المعاني اللغوية الوضعية ، وأسفر الخلاف بينهم عن عدة مذاهب :
الأول : هل نقلها الشارع من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية مراعياً في النقل العلاقة بين المعنيين اللغوي والشرعي على سبيل المجاز ؟.
الثاني : أو نقلها الشارع نقلاً مبتوت الصلة بالمعاني اللغوية ؟.

(1/42)


الثالث : أم أن الشرع وضعها وضعاً جديدً ، ولم ينقلها عن اللغة ؟.
أجمل ابن القيم الحديث عن هذه المذاهب فقال ذاكراً المجاز في بعضها :
"وهذا التقرير مافه في مسألة الصلاة ، وأنها هل نقلت عن مسماها في اللغة ، فصارت حقيقة شرعية منقولة ، أو استعملت في هذه العبارة مجازاً للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي ؟ أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم غليها أركان وشرائط" ؟ ثم يضيف إلى هذه المذاهب رأيه الخاص ، وحاصله أن الصلاة بمعنى العبادة ليست مجازاً ؛ لأنها لم تنفك عن الدعاء الذي هو المعنى اللغوي للصلاة ، هذا قوله وشاهدنا فيه أنه ذكر المجاز غير منكر له وكل ما في الأمر أنه لم يجعل منه لفظ الصلاة مستعملاً في العبادة ، ودليله أن الصلاة بمعنى العبادة فيها دعاء فهي إذن باقية على معناها اللغوي لا مجاز فيها.
بيد أن الذي ذكره مدفوع بأن الصلاة أعم من الدعاء والدعاء القولي جزء منها ، وفيها من الأقوال غير الدعاء ومن الأفعال الشيء الكثير. فإذا قيل إنها مجاز فلا غرابة في ذلك ؛ لأنها لم تكن كلها دعاء. وتحرير القول في هذا أن الصلاة بمعنى العبادة حقيقة شرعية ، وبمعنى الدعاء مجاز شرعي في عرف الشرع.
أما من حيث اللغة فالصلاة بمعنى الدعاء حقيقة لغوية وبمعنى العبادة مجاز - والعبرة في هذا كله هو اصطلاح التحاطب كما يقول البلاغيون.
الصفات بين الخالق والمخلوق : -
ومما ورد فيه ذكر المجاز دون اعتراض من ابن القيم عليه مسألة الصفات بين الخالق والمخلوق فقد نقل فيها ثلاثة مذاهب - كذلك - فقال :
أحدها : أنها حقيقة في العبد مجاز في الرب ، ووصف هذا المذهب بأنه

(1/43)


أخبث المذاهب.
الثاني : أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد ، ولم يذم هذا المذهب ولم يمدحه.
الثالث : أنها حقيقة في الرب والعبد. وقال إن هذا مذهب أهل السنة ، وهو أصح المذاهب.
تردد المجاز في مذهبين من هذه المذاهب الثلاثة ، ومرَّ الإمام مرَّ الكرام بسكوته عنه مقراً به غير منكر ، مع أنه نقد المذهب الأول ودعاه أخبث المذاهب ؛ لأنه جعل الصفات مثل الحياة والوجود حقيقة في المخلوق مجازاً في الخالق ؟!.
ويرد المجاز - كذلك - في تقرير الإمام لمذهب أهل السنة والجماعة ، موضحاً أنها حقيقة فيه وليست مجازاً. وأن صفات العباد حقيقة فيهم وليست مجازاً فيقول :
"والقدر عندهم - أي أهل السنة - هو قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته ، وخلقه ، فلا تتحرك زرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته ، فهم المؤمنون بلا حول ولا قوة إلا بالله ، على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز .... ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة لا مجازاً".
وفي الرد على نفاة الأسباب : -
ويذكر المجاز مرة أخرى في رده على نقاة الأسباب وهم الجبرية الذين ينفون أسباب الأفعال ، ويقولون إن الله وحده هو الفاعل المختار المنفرد بالخلق والتأثير ، فالطعام لا يُشبْع ، والماء لا يروي ، والنار لا تحرق ، والسيف لا يقطع ، وليست هي أسباباً مؤثرة رتب عليها آثارها ، ويقولون هذا هو التوحيد.

(1/44)


وبعد أن شنَّع عليهم العلامة ابن القيم قال :
"هذا كله عند نفاة الأسباب مجاز لا حقيقة له".
في هذه المواضع كلها ينازع ابن القيم الخصوم في بعض ما ذهبوا إليه ، أما المجاز فعلى كثرة ترديده له لم يَبُحْ بكلمة واحدة تدل على أنه منكر له ، بل ينازع الخصوم بأن ما عدوه مجازاً من الصفات ليس هو بمجاز ، وإنما حقائق.
نص قاطع لكل شبهة : -
ولدينا نص قاطع لكل شبهة تحوم حول إقرار العلامة ابن القيم بالمجاز ، أثرنا أن نذكره في نهاية هذه الجولة لقوته ووضوحه على إقراره بالمجاز والتأويل المؤدي إليه. وفيه يقول - رحمه الله - المجاز والتأويل لا يدخلان في النصوص ، وإنما يدخل في الظاهر المحتمل له ، وهنا نكتة ينبغي التفطن لها ، وهي أن كون اللفظ نصاً يعرف بشيئين :
أحدهما : عدم احتماله لغير معناه وضعاً ، كالعشرة.
والثاني : اطراد استعماله على طريقة واحدة في جميع موارده ، فإنه نص في معناه لا يقبل تأويلاً ولا مجازاً".
نترك هذا النص يتحدث عن نفسه ، ليقطع كل هاجسه ويزيل كل ريب حول إيمان الإمام بن قيم الجوزية بالمجاز وإقراره به في العديد من مؤلفاته غير "الصوعق" وإننا لم نكن مفترين عليه ولا على شيخه الإمام ابن تيميه حين قلنا أنهما من مثبتي المجاز وإن تفياه في "الإيمان" و"الصواعق" لعارض بدالهما ولكي يدفعا خطر سوء التأويل الذي نشأ في عصرهما وقبل عصرهما.
ونص اخر مماثل :
كما أن لابن القيم نصاً أخر مماثلاً لهذا النص وضع فيه ضوابط للمجاز في

(1/45)


الكلام : متى يكون ؟
قال - رحمه الله - :
"من ادعى صرف لفظ عن ظاهره إلى مجازه ، لم يتم له ذلك إلا بعد أربعة مقامات :
أحدهما : بيان إمتناع إرادة الحقيقة
الثاني : بيان صلاحية اللفظ لذلك المعنى الذي عينه - يعني المعنى المجازي - وإلا كان مفترياً على اللغة.
الثالث : بيتن تعيين ذلك المحمل إن اكن له عدة مجاوزات.
أنت ترى الإمام ابن القيم - هنا - يبين شروط تحقق المجاز ، بل إنه في القمام الثالث يقر بأن اللفظ الواحد قد تكون له عدة مجاوزات ، ويوجب على من يصرف لفظ إلى واحد منها أن يقيم الدليل على أن المعنى المجازي الذي إليه صرف اللفظ أولى معاني اللفظ المجازية بالاعتبار فابن القيم - هنا - ليس مقراً بالمجاز فحسب ، وبكنه ممن يخوضون في بحاره ، ويحومون حول دقائقه وقوانينه. ويشرعون له.
ولا يقدح في هذه النتائج أنه يقول : "من أجعى صرف لفظ" فقد يفهم منه قصارى النظر أنه يرى أن صرف اللفظ إلى مجازه ادَّعاء. فهو فيه منكر للمجاز ولإزالة هذه الشبه نقول :
إن الإمام قال : من أدعى صرف لفظ عن ظاهره إلى مجازه .." ولم يقل من أدعى صرف اللفظ أو الألفاظ. لو كان قال هذا لكان الإدعاء عاماً في جميع الألفاظ ، ولصح أن هذا النص فيه إنكار للمجاز رأساً.
أما قوله : من أدعى صرف لفظ فهذا يتناول فرغاً خاصاً يجاريه عليه كل مثبتي المجاز. فالأصل في الألفاظ أن تحمل على ظواهرها ومعانيها الوضعية ولا

(1/46)


يجوز صرفها إلى المعاني المجازية إلا لمانع شرعي أو عقلي من إرادة المعنى اللغوي الوضعي ، هذا هو المعنى الذي أراده الإمام ابن القيم من عبارته تلك ، وهو رجل خبير بمرامي الكلام يعرف ما يقول بكل وعي وحنكة ، ذو خبرة عميقة بتذوق الكلام والتفرقة بين دلالاته ومعانيه.
في إعلام الموقعين : -
ومن يسلوره شك في هذه الحقائق فليرجع إلى كتابه "إعلام الموقعين" الجزء الأول (215) وسيرى فيه فصولاً ضافية للإمام كتبها حول طرق فهم دلالات الكلام. قسم فيه الباحثين إلى أصحاب معانٍ يسعون وراء مراد المتكلم من كلامه. وإلى اصحاب ألغاط يقفون عند ظواهر الكلام ، ويقول في هذه التفرفة بين أهل المعاني وبين أهل الألفاظ "العارف يقول ماذا أراد ؟ واللفظي يقول ماذا قال.." ؟ إنها لعبارة حكيمة قالها هذا الإمام الحكيم الفطن وقد مهد للعبارة السابقة بعبارة غاية في الصواب ، قال فيها :
"والألفاظ ليست تعبدية".
ومن تطبيقاته على هذا المنهج الحكيم قوله : "ولهذا فهمت الأمة كلها من قوله تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...}
جميع وجوه الإنتفاع من الملبي والركوب والمسكن وغيرها" أي : ليس المراد مجرد الأكل الوارد في الآية في سياق الوعيد ، بل المراد مطلق الإفناء وكأني بالإمام قد أخذ هذا المعنى عن الجاحظ إذا قال من قبل :
"يقال لهم ذلك وأن شربوا بتلك الأموال الأنبذة ولبسوا الحلل ، وركبوا الدواب ، ولم ينفقوا منها في الأكل درهماً واحداً".

(1/47)


ويشنع على من يقف - دائماً عند ظواهر الألفاظ فقال عطفاً على ما تقدم :
"وفهمت - يعني الأمة - من قوله تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} إرادة النهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفعل... فلو بصق رجل في وجه والديه وضربهما بالنعل ، وقال : إني لم أقل لهما أف" لعدة الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل .." ثم يصف من يمنعون صرف ظاهر اللفظ إذا اقتضاه مقتضٍ من الشرع أو العقل فقال ويالحسن ما قال :
"ومنعُ هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة"
ومن مرونة عقل هذا الإمام أننا رأيناه يفُسح مجالاً في الفكر للتفسير الإشاري عند الصوفية وليس له قوة علاقة بالألفاظ كما المجاز ، ومع هذا يفسح الإمام صدره له فيقول :
"وهذا لا بأس به بأربعة شرائط : ألا يناقص معنى ألاية ، وأن يكون معنى صحيحاً في نفسه ، وأن يكون في اللفظ إشعار به ، وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم ، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطاً حسناً".
وصفوة القول : -
هذه الجولة التي قمنا في تراث الإمام ابن القيم تفيد أن له في المجاز مذهبين ، أحدهما مشهور ، وهو إنكار المجاز استناداً إلى ما كتبه في "الصواعق المرسلة ، على الجهمية والمعطلة.
والثاني غير مشهور ، وهو إقراره بالمجاز عن رضاًَ وإقتناع.
والذي نرجحه أن مذهبه الإقرار بالمجاز هو الأصل والمعتقد عند الإمام التلميذ كما كان هو الأصل والمعتقد عند الإمام الشيخ ابن تيمية رحمهما الله.
ومستندنا في هذا الترجيح أربعة امور : -

(1/48)


الأول : أنهما لم ينكرا المجاز في جميع مؤلفاتهم بل أنكره كل منهما مرة واحدة في مؤلف واحد : الإمام ابن تيمية في كتابه "الإيمان" والإمام ابن القيم في كتابه "الصواعق" وفيما عداهما لم يتعرضا لإنكاره حتلا في المواضع التي ورد فيها ذكره مرات. وذاد الإمام ابن تيمية حيث ردد في قسم أصول الفقه ما سبق ذكره في كتابه "الإيمان".
الثاني : تم كلا منهما اقر بالتأويل المجازي الواضح إما نقلا عن السلف وغيرهم ، وإما في حر كلامهما.
كما أقرا بالمجاز فيما حكاه عن غيرهما ، وفي حر كلامهما وأعملاه حتى في النصوص القرآنية كما تقدم.
الثالث : ان أدلة الإنكار التي استندا إليها في مرحلة إنكارهما للمجاز مردود عليها كلها حتى الوجوه الخمسين التي ذكرها ابن القيم في كتاب "الصواعق" وللقارئ أن يقرأ ما كتبناه في الرد عليهما في كتاب "المجاز" الذي تقدم التعريف به في أحد الهوامش السابقة.
ويضاف إلى هذا أننا استخلصنا فيما تقدم أن الإمام ابن تيمية من خلال النصوص التي نقلناها قد رجع عن كل الدعائم التي استند إليها في إنكار المجاز في كتاب "الإيمان" الادعامة واحدة لم نعثر في كلامه على ما يفيد الرجوع عنها ، وهي : عدم ورود المجاز عن السلف في القرنين الأول والثاني الهجريين ، وهذا متمسك خفيف الوزن ، لإن المجاز مصطلح ، والمصطلحات لا تواكب نشأة العلوم والفنون ، وإنما تأتي متأخرة نتيجة لتطور البحث. فما أكثر المصطلحات التي استجدت بعد القرنين المشار إليهما في أصول الفقه ، وفي الفقه وفي علوم القرآن وعلوم اللغة والأدب والنقد والبيان ولم يقل أحد ببطلان تلك المصطلحات لعدم وجودها في القرنين الأولين.
الرابع : أن سوء التأويل لدى بعض الفرق والإسراف في صرف الألفاظ عن ظواهرها بدون مقتض من الشرع أو العقل ، والإفتراء على اللغة حتى كادت تفقد ثقة

(1/49)


الناس لكثرة العبث في دلالاتها ، هذه الظاهرة كانت سبباً كافياً لوقوف الإمامين الجليلين : ابن تيمية وابن القيم - في وجه الفساد ليردا للغة اعتبارها. ويصونا القرآن والحديث النبوي من عبث العابثين ، وألاعيب المتلاعبين. وفي غضون هذه الغضبة منهما على سوء التأويل أكرا المجاز سداً للذرائع بعد أن أسئ استعماله وبلغ الإسراف فيه حداً مخيفاً. وقد رصدنا في كتابنا "المجاز" أمثلة عديدة للإسراف وسوء التأويل وبخاصة من كتاب "فصوص الحِكَم" لابن عربي الباطني الذي اساء في كتابه هذا إلى آيات القرآن الحكيم إساءة لم يسبق لها مثيل ، بل ولم يلحق بها مثيل حتى الأن.
هذا ما نعتقده تبرئة للإماميت الجليلين من الإتهام بالتناقض في إنكار المجاز مرة ، والإقرار به مرات وهذا ليس بمنكر في أعمال الأئمة الأعلام في شتى المجالات. فالإمام عبد القاهر الجرجاني تراه مرة يرفع من شأن المعاني على الألفاظ ، وأخرى يمتدح الألفاظ وينصرها على المعاني. وثالثة يسوَّي بينهما.
وقد فُسَّر موقفه هذا بأنه حين أنتصر للمعاني على الألفاظ كان يرد على مَنْ جعلوا المزية للفظ وبالغوا في قيمته وحافوا على المعنى ، وحين أنتصر للفظ على المعاني كان يواجه المغالين في قيمة المعاني ، الحائفين على الألفاظ. أما حين سوَّى بين المعاني والألفاظ فإنه كان يبدي رأيه الخالص في هذه القضية التي شغلت مساحة طويلة عريضة عند النقاد القدماء. فما أشبه موقف الإمامين بهذا الموقف الذي وقفه الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز.

(1/50)


الفصل الثالث وقفة مع الشيخ الشنقيطي
بعد عَصْرَيي الإمام ابن تيمية وابن القيم بنهاية النص الأول من القرن الثامن الهجري (751) توقف الجدل حول إنكار المجاز ، قلم يعُدْ أحد متحمساً لإنكاره ، ولا أحد كتب في إنكاره مصنفاً منفرداً ، ولا أعلن - رأياً ولو مختصراً فيه يفيد إنكاره للمجاز ، بيد أن بعض الكاتبين في علوم اللغة كلا إمام السيوطي ، أو علوم القرآن كبدر الدين الزركشي حكوا الخلاف السابق فيه ، بدءاً من عصور دواد الظاهري وابنه محمد أبي بكر ، وأبي إسحاق الاسفرائيني ، وسعيد بن منذر البلوطي وكذلك صنع مثلهما علماء أصول الفقه.
وقد أطبقوا - جميعاً - على حكاية الخلاف ، وذكر شبهات المنكرين ثم الرد عليها ، معلنين في النهاية اقرارهم بوقوع المجاز في القرآن الكريم خاصة ، وفي اللغة العربية عامة ومما قاله بدر الدين الزركشي في الرد على منكري وقوع المجاز في القرآن.
"من أسقط المجاز من القرآن أسقط شطر الحسن".
هذه العبارة وإن كان ظاهرها غير مراد فإن فيها إشارة لوظيفة المجاز في البيان الرفيع ، وأثره في الوفاء بحق المعنى وقوة تأثيره في النفوس حين يقتضيه المقام. والقرآن أكثره حقائق لغوية لا مجازات ، وهذا أمر بديه لا ينازع فيه.
ظل السكوت عن إنكار المجاز طوال خمسة قرون ونصف القرن من وفاة ابن القيم إلى أن وضع الشيخ الشنقيطي رسالة في منع المجاز في القرآن في غضون القرن الثالث عشر الهجري ، أطلق عليها :

(1/51)


منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز
وهذا العنوان يوحي بأن الشيخ - رحمه الله - يمنع وقوع المجاز في القرآن الكريم دون اللغة بوجه عام. ولكنه في الواقع - ينكره مطلقاً.
وإتماماً لمواجهة جميع منكري المجاز - قدماء ومحدثين - أثرنا أن نقف مع رسالة الشيخ الشنقيطي وقفة ناقدة تضع الحق في نصابه ، لئلا يظن ظان أن فيها جديداً لم يقله من أنكر المجاز من قبل ، أو أننا اهملناها لقوة الحجة فيها. هذا وبالله ومنه التوفيق.

(1/52)


موضوعات رسالة الشيخ الشنقيطي
وضع الشيخ رسالته في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة : في المقدمة ذكر الخلاف حول منع المجاز وجوازه.
وفي الفصل الأول ناقش مقولة "كل ما جاز في اللغة جاز في القرآن".
وفي الفصل الثاني ناقش الآيات التي أحتج بها مجوزو المجاز في القرآن الكريم.
وفي الفصل الثالث ناقش ما أسماه : إشكالات تتلق بنفي المجاز أو دليل المنع.
وفي الفصل الرابع ناقش : تحقيق المفام في آيات الصفات مع نفي المجاز عنها.
وفي الخاتمة : عرض مناظرة عن نفي الصفات بالطرق الجدلية.
ما يدخل معنا في هذه الدراسة : -
ما يدخل معنا في هذه الدراسة - حسب منهجنا - هو المقدمة والفصول الثلاثة الأولى. أما مسألة الصفات فهذه قضية أخرى لم نتطرق لها - قبلاً - إلا عرضاً. وليس من منهجنا أن نفصل القول فيها مع اعتقادنا الذي تزول الجبال ولا يزول أن الله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وحتى مع صدق نفي المجاز عنها فإن ذلك لا ينفي المجاز في غيرها كما سيأتي.
ونسير في مناقشتنا للشيخ - رحمه الله - على نفس المنهج الذي وضعه هو في رسالته.

(1/53)


نقد ما أورده في المقدمة : -
من أبرز ما ذكره في المقدمة أن المجاز مختلف في وقوعه في اللغة ، وأن ابا إسحق الاسفرائيني وابا علي الفارسي قالا لا مجاز في اللغة كما عزاه لهما ابن السبكي في جمع الجوامع.
ويترتب على هذا أن مجوزي المجاز في اللغة اختلفوا مرة اخرى حول وقوعه في القرآن وعدم وقوعه ، وراح يردد ما ردده غيره من قبل من أن ابن خويز منداد من المالكية وابن القاص من الشافعية ، وضم إليهما موقفي الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وقال إنهما أوضحا منعه فب اللغة أصلاً.
نقد هذا الكلام : -
مثل هذا الكلام كان له بريق ووجه من قبل ، ولكن بعد الذي كشفت عنه هذه الدراسة اصبح مجرد نقوش ورسوم لا طائل تحته.
فأبو إسحاق مظلوم في هذه النسبة ، فقد علمنا من قبل أن له نصاً مستفيضاً في المجاز نقله العلامة ابن القيم كما أرشنا إلى ذلك فيما تقدم ، ونقل مثله من قبل ابن القيم أمام الحرمين. ولأبي أسحق تأويلات هي من صميم المجاز.
أما أبو علي فالظلم الواقع عليه أشد من الظلم الواقع على أبي إسحاق ، فقد روي عنه تلميذه ابو الفتح ابن جني أقوالاً في المجاز ، وكذلك الإمام عبد القاهر الجرجاني ثم الإمام ابن القيم نفسه في كتابيه : (الصواعق) و(شفاء العليل).
أما موقفا الإمامين ابن تيمية وابن القيم ، فقد قدمنا ما فيه الكفاية حولهما. ولم نجد لهما في مذهب الإنكار دليلاً واحداً ليس فيه مقال.
لامجاز في القرآن وإن صح في اللغة : -

(1/54)


هذا ما أورده الشيخ في المقدمة. ونصه بالحرف :
"والذي ندين الله به" ويلزم قبوله كل منصف محقق أنه لا يجوز أطلاق المجاز في القرآن مطلقاً على كلا القولين :
أما على القول بأنه لا يجوز في اللغة أصلاً - وهو الحق - فعدم المجاز في القرآن واضح.
وأما على القول بوقوع المجاز في اللغة العربية فلا يجوز القول به في القرآن".
تعقيب قصير : -
نقف أما عبارتين أوردهما ضمن هذا النص : إحداهما قوله "ويلزم قبوله كل منصف محقق...".
وثانيتهما قوله مذهب منع المجاز في اللغة بأنه - وهو الحق. ولنا عليهما تعقيب واحد :
إن هاتين العبارتين ، أو الُحكمين ، لم يقدم الشيخ الشنقيطي ولا أحد قبله من مانعي المجاز دليلاً واحداً صحيحاً يلزم منه "الإلزام" والقبول ، أو يجعله حقيقاً بأنه "الحق" فهما دعويان لم يؤيدهما دليل. ولو أن الشيخ الشنقيطي تتبع كل ما قاله ابن تيمية والإمام ابن القيم لما سولت له نفسه أن يقطع بالحقية والإلزام. ويبدو أنه لم يقرأ لابن تيمية سوى ما كتبه في "الإيمان" ولم يقرأ لابن القيم غير ما كتبه في "الصواعق" فجزم بما جزم. ولو كان تجاوز هذين المصدرين لكان له موقف أخر.

(1/55)


كل مجاز يجوز نفيه : -
قال الشيخ : "وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه ، ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر. ويرتب على هذه المقولة مقولة أخرى فيقول :
"فيلزم من القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن".
ويستطرد فيضع شكلاً منطقياً على طريقة المناطقة في الاستدلال فيقول : "وطريق مناظرة القائل بالمجاز في القرآن هي أن يقال" :
"لا شيء من القرآن يجوز نفيه ، وكل مجاز يجوز نفيه ، ينتج : لا شيء من القرآن بمجاز".
ويجزم - رحمه الله - بأن مقدمتى هذا الاستدلال صحيحتان ليثبت أن النتيجة صحيحة.
نقد هذا الكلام : -
وقع الشيخ هنا في عدة مبالغات أدت إلى فساد ما جزم به من أحكام وتقديرات :
أولاً : أنه أدعى إجماع القائلين بالمجاز على جواز نفيه. وحكاية الإجماع - هنا - مغلوطة. فالذين قالوا هذا هم الأصوليون في سردهم لأمارات المجاز - والأصوليون لا يؤخذ عنهم درس المجاز ، لأن لهذا الفن رجالاً وفرساناً أخرين هم علماء البلاغة والبيان. أما الأصوليون فمع ما لهم من دقة وطرافة في مباحث المجاز فإن لهم - كذلك - تصورات لا يجاريهم عليها أحد من أرباب الصناعة وحذاقها. وقد ناقشنا كثيراً من تصوراتهم غير المسلمة في المبحث الخاص بهم في كتابنا "المجاز".
ومما لا نسأم تكراره أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ،

(1/56)


وتلميذهما الشيخ الشنقيطي أداروا معركتهم في نفي المجاز مع الأصوليين ، ولم يديروها مع رجالها المشهود لهم بالتحقيق والتحرير في مسائل البلاغة بعامة والمجاز بخاصة. فأين هو الإجماع الذي يحكيه الشيخ - رحمه الله - ويجزم به ويعتمد عليه في الاستنباط ؟!.
ثانياً : أن الشيخ جزم بصحة المقدمتين ، وهذا كلام فيه مقال ، علماً بأنه لم يحدد المراد بالنفي الذي قال فيه : لا شيء من القرآن يجوز نفيه ومع هذا فإننا نضع أما الشيخ بعض ما حكاه القرآن الكريم عن بعض الكفرة والعصاة مثل قوله تعالى عن فرعون لقومه :
{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}.
قوله لهم كذلك : {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}.
وقول إبليس في المفاضلة على آدم {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}.
قول منكري البعث عن البعث : {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}.
وقول اليهود والنصارى في عزيز والمسيح : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ....}
وحكاية الله عن المنافقين حين رجعوا عن القتال مع النبي وقالوا : {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}
هذه مجرد مثل لما حكاه القرآن الأمين عن بعض الكفرة والعصاة. فما رأي الشيخ - رحمه الله - في هذه الحكايات ؟ أكان قائلوها صادقين في تصوير الدعاوي

(1/57)


التي ديجوها ؟ أو كانوا كاذبين ؟.
وما هو موقف المؤمن الصادق الإيمان منها ؟ أيقول : إن فرعون كان صادقاً ، فيما حكاه عنه القرآن الكريم من أقوال ومزاعم ؟ كيف والقرآن نفسه كرَّ عليها فنفاها ، فقال في قوله اليهود والنصارى : {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} وقال معقباً على عدوى المنافقين {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}.
ونعود فنقول : إن الشيخ لم يحدد ما هو مراده من النفي الذي لا يجوز في القرآن ؟ فإن كان أراد أننا لا نقول على شيء في القرآن أنه ليس قرأناً فنحن وكل المؤمنين معه. وإن أراد لأن بعض المعاني التي في القرآن لا يجوز نفيها ويجب اعتقاد الصدق فيها فهذا القول في حاجة إلى مراجعة وقد بينا الدليل.
وأما المقدمة الثانية "كل مجاز يجوز نفيه" فإن الشيخ أخذ هذه الجملة على ظاهرها ، وأهمل تفسير الأصوليين لها ، وهو بلا نزاع قد وقف عليه وهذا مما يدعو إلى العجب.
فالأصوليون حين قالوا : من علامات المجاز أنه يجوز نفيه. وقال لهم المعارض : إن المجاز كذب إذن. أجابوا على قول المعارض بجواب مقنع جداً فقالوا :
حين نقول للبليد حمار ، وللشجاع اسد يصح أن يقال : ليس هو بجمار وإنما هو إنسان ، وليس هو بأسد وإنما هو رجل. وهذا من إمارات المجاز عندنا ، ولكنه لا يحيل المجاز إلى كذب ؛ لأن هذا النفي منصب على "إرادة الحقيقة" لا على المعنى المجازي : يعني ليس هو حماراً حقيقة ولا أسداً حقيقة. والمجازي حين يقول عن البليد إنه : حمار ، وعن الشجاع إنه : أسد لا يريد لهما حقيقة الحمارية والأسدية ، وإنما يكون المجاز كذباً لو صح انصباب النفي على المعنى المراد ، فصح نفي البلادة والشجاعة. وهذا غير وارد قطعاً.
وباختصار نقول : إن المقدمتين اللتين اعتمد عليهما الشيخ في الاستدلال

(1/58)


غير مسلمتين. ويلزم من هذا فساد النتيجة ، المتولدة عنهما وهي منع جواز المجاز في القرآن. وهو المطلوب.
كل ما جاز في اللغة العربية جاز في القرآن :
أورد الشيخ - رحمه الله - هذه المقولة على أن مجوزي المجاز في القرآن كانوا قد استدلوا بها على صدق مذهبهم. وأعمل فيها ذكاءه المنطقي ومحصوله النظري الجدلي. وانتهى إلى أنها مقولة كاذبة ترتب عليها كذب مطلوبها. وهو دعوى وقوع المجاز في القرآن الكريم.
ووما نلفت إليه الأنظار ان الشيخ غالى جداً في التعصب لرأيه ودفع رأي خصومه ، فتراه يقول :
"والدليل على صدق الجزئية السالبة التي نقضنا بها كليته الموجبة كثرة وقوع الأشياء المستحسنة في اللغة عند البيانيين ، كاستحسان المجاز ، وهي ممنوعة في القرآن بلا نزاع ...".
فقد غالى - عفا الله عنه - في تصوير المسألة. وقال : إن القرآن ممنوع وقوع المجاز فيه بلا نزاع ؟!.
فإذا كان المنع بلا نزاع فلماذا وضع هو رسالته : منع جواز المجاز ... وعلى من يردُّ فيها ؟.
وقارئ كتابنا "المجاز" يعلم علم اليقين أن علماء الأمة أطبقوا على وقوع المجاز في القرآن ، ولم يشذ منهم إلا قليل. فكيف يستقيم قول الشيخ عفا الله عنه أن منع وقوع المجاز في القرآن لا نزاع فيه ؟!.
وقد توهم الشيخ أنه بهذا الاستدلال أول من منع بعض الفنون البلاغية من ورودها في القرآن الكريم مثل :

(1/59)


الرجوع ، وحسن التعليل ، وبعض أنواع المبالغة. إلخ.
تعقيب : -
نستطيع أن نقول أن هذا الكلام لا طائل تحته وإن اصاب فيه الشيخ ، لأن القاعدة التي ساقها لم ترد عن مجوزي المجاز ، وهي كل ما جاز في اللغة جاز في القرآن. فالشعر مثلاً جائز في اللغة ولم يقل أحد من البلاغيين بوروده في القرآن ومنه بعضهم أن يقال أن في القرآن سجعاً. كما منعوا تجاهل العارف. وحسن التعليل قولاً واحداً. وهذا معناه أنهم لم يقولوا : أن كل جائز في اللغة جائز في القرآن إذن فهذا الكلام من الشيخ لم يصادف محلاً ، وعلماء الأمة يشاركونه في تنزيه كلام الله عن كل كلام هازل أو غير شريف المعنى. فما الجديد الذي أتى به - رحمه الله -.
وصفوة القول : أن هذه المقولة لا صلة لها باثبات المجاز في القرآن أو نفيه عنه.

(1/60)


الرد على شواهد الجواز
وينتقل الشيخ بعد هذا إلى مناقشة الشواهد القرآنية التي كان مجوزو المجاز في القرآن قد استشهدوا بها. ومنها قوله تعالى :
{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} وقوله : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وقوله : {جَنَاحَ الذُّلِّ}.
ويذهب الشيخ إلى أن هذه الألفاظ مستعملة في حقائقها اللغوية وليست مجازات. وفي الآية الأولى يقول :
"فالجواب" : أن قوله {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} لا مانع من حمله على حقيقة الإرادة المعروفة في اللغة ، لأن الله يعلم للجمادات ما لا نعلمه لها. كما قال تعالى : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
"وقد ثبت في صحيح البخاري حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم -. وثبت في صحيح مسلم إنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "إني لأعراف حجراً كان يسلم عليّ في مكة" .. فلا مانع من أن يعلم الله من ذلك الجدار إرادة الانقضاض".
تعقيب :
نحن لا ننكر علم الله المحيط بكل شيء ، ولكن الله خاطبنا على عادتنا في الخطاب وليس على مقتضى علمع المحيط. ولما أراد الله لرسوله سليمان شيئاً من ذلك علمه منطق الطير. وإلاَّ لَمَا فهم سليمان عليه السلام كلام الهدهد. ولا كلام النملة. وبعد تعليمه فهم وصار ذلك معجزة لسليمان عليه السلام.
وكذلك حنين الجذع ، وتسلم الحجر على نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان من الخوارق والمعجزات ؟!.
إن معيار الدلالات في اللغة خاضع لضوابط المتكلمين بها لا تتجاوز المتعارف عندهم ، وإلا لصبحت أحاجي وألغازاً. ومن أجل هذا لم يرسل الله رسولاً

(1/61)


إلا بلسان قومه ليبين لهم.
استطراد : -
ويستطرد الشيخ فيقول : "إنه لا مانع من كون العربل تستعمل الإرادة عند الإطلاق في معناها المشهور. وتستعملها في الميل عند دلالة القرينة على ذلك. وكلا الاستعمالين حقيقة في محله".
تعقيب : -
في هذا الكلام صواب وغير صواب. وأما الصواب ففي استعمال العرب الإرادة في معناها المشهور عند الإطلاق ، وفي غيره بمعونة القرنية وهذا ما يقوله مجوزو المجاز ، فقد اتفقنا إذن فعلام الجدل ؟!.
وأما غير الصواب فجعل كلا الاستعمالين حقيقة في محله. فقد أقر الشيخ - رحمه الله - أن هناك فرقاً بين الاستعمالين. والفرق يعني اختلاف التسمية. فما دام الأول يسمى حقيقة ، وهو بها جدير فبم نسمي الثاني لنمايز بينهما في التسمية كما تمايزا في الدلالة ؟!.
لو سميناها معاً حقيقتين أو مجازين ، لجمدت اللغة فلم نجد فيها علامة تميز به الاثنين ولكانت اللغة قاصرة عن دقائق البيان ؟ كيف وهي لغة التنزيل المحكم المعجز :
إن لغتنا الجميلة وافية بحاجات المعبرين كل الوفاء. وأن فيها فروقاً جد واضحة بين المتماثلين ، كاليدين والرجلين والعينين. ولا ينفي أحد التماثل بين هذه الألفاظ. ولكن اللغة تفرق بينهما فيقال :
اليد اليمنى واليد اليسرى ، وهكذا الرجلان والعينان. فلو كان لا نجد علامة للتفرقة بين المعنى عند الإطلاق. والمعنى عند التقييد لكن ذلك قصوراً في لغة لا تعرف القصور. ولكن لغتنا اسعفتنا بكيفيات الدقة في التعبير. فكان المعنى عند

(1/62)


الإطلاق حقيقة ، وعند التقييد الخاص مجازاً. وإن كان ليس كل مقيد مجازاً.
والواقع يدفع دعوى الشيخ للتساوي بين الدلالتين. فهل كان العربي ذو السليقة العربية يفهم من قولنا : "أراد الرجل أن ينقض" نفس المعنى من قولنا : أراد الجدار أن ينقض ؟ لو قلنا هذا لاتهمناه بالبلادة والعجز عن فهم لغته.
إن إرادة الرجل أو الإنسان العاقل موضع مدح إن كانت في الخير. وموضع ذم إن كانت في الشر.د
أما إرادة "الجدار" فلا تمدح ولا تذم. ولو كان العربي يفهم من تلك الإرادة ما يفهم من هذه الإرادة لما استحق أن يخاطبه الله بكلامه الرفيع المعجز.
والصياغة القرآنية نفسها ترد هذا الفهم. فالنظم القرآني يقول : {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} قال فأقامه ليدل على أن المراد من "الإرادة" الاعوجاج والميل. أي أن موسى عليه السلام رأى الجدار مائلاً معوجاً فأقامه. يعني جعله قائماًَ مستوياً ولعل السر البياني هنا هو تصوير قرب الجدار من الانقضاض والتهدم ، بإرادة المريد حقيقة لهذا التهدم ، فكأنه هو الفاعل المختار لهذا الفعل.
أما في قوله تعالى : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فقد حاول الشيخ - رحمه الله - محاولات عديدة لاخراجها من المجاز عند الأصوليين والبيانيين وقد وسع دائرة الجدل حولها عله يلتقط خيطاً يصل به إلى المراد وننقل فيما يلي ما انتهى إليه من محاولاته. قال - رحمه الله - :
"فظهر أن مثل واسأل القرية من المدلول عليه بالاقتضاء وأنه ليس من المجاز عند جمهور الأصوليين القائلين بالمجاز في القرآن. وآحرى غيرهم - يعني البيانيين - مع أن حد المجاز لا يشمل مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} لأن القرية فيه عند القائل به من مجاز النقص مستعملة في معناها الحقيقي ، وإنما جاءها المجاز عندهم من قبيل النقص المؤدي لتغيير الإعراب. وقد قدمنا أن المحذوف مقتضى,

(1/63)


وأن أعراب المضاف إليه إعراب المضاف إذا حذف من أساليب اللغة العربية".
نقد هذا الكلام :
إن من يرجع إلى كتب جميع الأصوليين يجدهم عند حديثهم عن اقسام المجاز يمثلون أول ما يمثلون لمجاز النقص بقوله : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ولا يكاد يشذ منهم أحد.
فمحاولة إلزام الشيخ الأصوليين بإخراج هذه الآية من المجاز طريقها جدلي بحت.
يضاف إلى ذلك أن دلالة الإقتضاء عند الأصوليين واحدة من دلالات المجاز. وضابط المجاز ينطبق عليه تماماً. لإإن وجد من بينهم من يرى خلاف ذلك فما أكثر التصورات غير الدقيقة التي يثبتها كثير من الأصوليين في بحث المجاز ، والعاصم من هذا الخلط هو تحقيقات البلاغيين كالسعد والسيد ، وقد صححا كثيراً من تصورات الأصوليين غير الدقيقة.
أما قول الشيخ : أن القرية مستعملة في معناها الحقيقي ليتوصل بهذا القول إلى نفي المجاز عنها فهذا كذلك - مردود. لأن القرية هنا لها تخريجان :
الأول : أنها باقية على مدلولها الحقيقي فعلاً. وهذا لا يخرجها من المجاز ، لأن الذي فيها مجاز عقلي واقع في النسب والإسناد. والمجاز العقلي لم تخرج فيه الألفاظ عن مدلولاتها اللغوية ولذلك كان التجوز فيه عقلياً.
الثاني : إخراجها عن المدلول اللغوي فشبهت بمن يسأل ويكون التجوز فيها لغوياً (استعارة بالكناية) وعلى كلا التقديرين فهي غير خارجة عن دائرة المجاز سواء قلنا باستعمالها في معناها الحقيقي ، لو خروجها عنه فأين المفر ؟.
أما قوله : جاءها المجاز من تغيير الأعراب فهو فليس بدقيق لأن تغيير

(1/64)


الإعراب ترتب عليه تغيير المعنى فأصبحت القرية معه "مسئولة" وكان المسئول فيما لو لم يغير إعرابها هو أهلها لا هي.
وهذه الآية لفتت نظر الرواد منذ عهد سيبويه ، وكان لها فضل كبير في تنشئة المجاز وتطوره ، ولكن الشيخ رحمه الله بعد خمسة عشر قرناً يريد أن يعكس مسيرة الفلك ، وهذا شيء فات أوانه.
جناح الذل :
ويذهب الشيخ إلى أن الذل جناح كجناح الطائر من حيث يرى أن الجناح المضاف للذل حقيقة كالجناح المضاف للطائر. وهذه مماحكات لفظية فالذل معنى وقصد ، وصورة معقولة ، وليس بهيكل ولا جسم ، وقد اغرى الشيخ أن يقول : أن جناح الذل حقيقة لا مجاز آيات من القرآن الكريم أضيف فيه الجناح لغير ذي جناح ، مثل قوله تعالى : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقوله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وأقوال وردت عن العرب مثل قولهم :
وأنت الشهير بخفض الجناح
فلاتك في رفعه أجدلا
والشيخ - رحمه الله - حفظ شيئاً وغابت عنه أشياء. فليست دلالة الجناح على "الجنب واليد" كدلالة الجنب على الجنب واليد على اليد فالجناح في قوله تعالى : {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} غير الجناح في قوله سبحانه : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ..} والدليل على ذلك أن القرآن الكريم يستعمل الجناح في مواضع ، واليد في مواضع ، والمواضع التي يستعمل فيها "اليد" مطلوب فيها دقة الضبط لأنها موارد للأحكام الشرعية.
ففي بيان حد السرقة جاء في التنزيل المحكم : {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، ولم يقل

(1/65)


جناحيهما.
وفي بيان كيفية الوضوء جاء فيه : {.. فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}.
وفي بيان كيفية التيمم جاء فيه : {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.
وجاء فيه أيضاً : {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}.
وفي بيان حد المفسدين في الأرض يقول : {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ}.
وفي بيان التفضل على المؤمنين بكف الأذى عنهم جاء فيه :
{إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}.
لم يقل في كل ذلك : أجنحتكم ولا أجنحتهم. فدل ذلك على أن الجناح ليس يداً. وإنما تشبه اليد بالجناح في مواضع إثارة العواطف كما هو. فهي في الأولى دلالة علمية مقنعة. وفي الثانية دلالة أدبية ممتعة.
أما ورود ذلك عن العرب. فالعرب ما أكثر المجازات في كلامهم. ولولا ورود المجاز عنهم لما وجد له أثر في العصور اللاحقة. ولما حفل به القرآن الكريم.
الرجوع إلى الكناية :
وكأننا بالشيخ رحمه الله قد أحس بصعف ما ذهب إليه فعدل عن الحقيقة الخالصة إلى الكناية فقال :

(1/66)


"والجواب : أن الجناح في قوله تعالى : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} إن الجناح هنا مستعمل في حقيقته ؛ لأن الجناح يطلق على يد الإنسان وعضده وابطه ؟!!.
والخفض مستعمل في معناه الحقيقي.. لأن مريد البطش يرفع جناحيه ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه. فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب..".
تعقيب :
إن الذهاب إلى حقيقة الجناح والخفض - هنا - فيه حجر على معنى الآية الوارف الظلال. فقد يكون "الولد" خافض الجناحين ، وهو مع هذا من أشد الناس عنفاً. وألحقهم أذى بوالديه. ولا يكون - على هذا الفهم الضيق" باراً بوالديه ولو إذا خفض جناحيه. هذا لازم الوقوف عند المعنى الحقيقي للجناح والخفض.
وكذلك فإن رفع الجناحين لا يلزم منه الشدة والعنف ، فقد يكون دليلاً على الاستسلام وفقدان الحول والقوة.
وهذه المحاذير لا ترد إذا حملنا الكلام على التمثيل لحالة الطائر فإنه يكون أقرب ما يكون من النفع والقرب من مريديه إذا خفض جناحيه وترك الطيران وهبط على الأرض ، وحين يكون طائراً فذلك هو الشرود والعقوق بعينه ؟.
وما رأي الشيخ رحمه الله في ولد اقطع اليدين أو مشلولهما. أهذا مستحيل عليه أن يبر والديه حيث لا يدان أو لا جناحان له يخفضهما ؟.
وإذا غضضنا الطرف عن هذا كله ، أنسى الشيخ رحمه الله أن الكناية فيها. جانبا حقيقة ومجاز. فليست هي حقيقة خالصة ، ولا مجازاً خالصاً. فالقائل بجواز ورودها في القرآن قائل - لا محالة - بوقوع نصف مجاز في القرآن ، وهو يستوي مع من قال بوقوع مجاز كامل. فأين المفر مرة أخرى.

(1/67)


المجاز ليس أعجميا ؟!.
في مواضع كثيرة ردد الشيخ على ما يسميه غيره مجازاً أنه ليس بمجاز ، بل هو أسلوب من أساليب اللغة العربية.
وهذا السلوك كان يكون مفيداً في النزاع لو كان القائلون بالمجاز يقولون أن المجاز أعجمي وليس بعربي أما والمجاز عربي أصيل وما عرفت لغة صلتها بالمجاز أقوى من صلة اللغة العربية به.
وإن كان لابد من فرق بين الشيخ رحمه الله ، وهو ينفي كل أساليب المجاز ويكتفي بأن يطلق عليها أنها أسلوب من أساليب اللغة العربية. إن. الذي يطلق عليه هو "أسلوب من أساليب اللغة" يطلق عليه غيره أنه "مجاز" والاختلاف في التسمية مع الاعتراف بوجود المسمى لا طائل تحته.
بيد أن خصوم الشيخ أكثر منه دقة وضبطاً ، لأن تسميتهم للمجاز مجازاً فيها تمييز واضح عما سواه من الحقائق ، أما تسمية الشيخ له "أسلوب من أساليب اللغة" فهذا يطلق على الحقائق كما يطلق على المجازات.. وفي هذا خلط وتمويه.
أيجوز لرجل رزقه الله ذرية أن يسمي الأول منهم ، ويكتفي بأن يدعي كل من الباقين بأنه "ولد فلان" دون أن يكون له اسم يميزه عن أشقائه ؟!
وبعد هذا كله ننتقل إلى ما هو أخطر مما تقدم ، فنسأل هذا السؤال الذي سيجلي حقيقة مواقف منكري المجاز حديثاً كما جلاها قديما. وهذا السؤال.

(1/68)


ولكن . . . هل سلم الشيخ من المجاز ؟
عرفنا مذهب الشيخ الشنقيطي في المجاز ، وأنه من أشد أهل العصر انكاراً له. لا في القرآن وحده ، بل وفي اللغة كذلك وللشيخ أعمال علمية وضعها قبل موته وهي بين أيدي القراء ومن أبرزها - كما سبق - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. الذي كتب سبعة أجزائه الأولى. وأكمله أحد تلاميذه إلى العشرة.
فهل - يا ترى - سلم الشيخ من المجاز في حر كلامه فطابق مذهبه العملي السلوكي مذهبه الجدلي النظري الذي تقدم ، فيكون الرجل وفياً بمذهبه في الإنكار ؟
أم أنه لم يسلم من القول بالمجاز في حر كلامه فكان مثل الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم له مذهبان :
أحدهما : جدلي نظري أنكر فيه المجاز.
وثانيهما : سلوكي عملي مارس فيه شيئاً من المجاز ؟
الواقع أن الشيخ رحمه الله مثل الإمامين له نفس المذهبين اللذين لهما ، مع فارق واحد.
فقد استدللنا على مذهبي الإمامين بنوعين من الأدلة.
أحدهما : التأويلات المجازية.
وثانيهما : ورود المجاز صريحاً بلفظه ومعناه في حر كلامهما وإن زاد ابن القيم بوضعه مؤلفا في علم البيان تحدث فيه عن المجز حديثاً مطولا.
أما الشيخ الشنقيطي رحمه الله فدليلنا على مذهبه السلوكي العملي نوع واحد هو كثرة التأويلات المجازية في حر كلامه فقد قرأنا كتابه : أضواء البيان في أجزائه العشرة ، وظفرنا بالكثير من التأويلات المجازية الواردة في حر كلامه بيد أننا لن نستشهد إلا بما ورد في الأجزاء السبعة الأولى التي كتبها بنفسه. أما ما أكمله

(1/69)


تلميذه الشيخ عطية محمد سالم فلن نعتمد عليه ، حتى لا نحمل الرجل عمل غيره وإن كان التلميذ قد توخى مذهب شيخه بكل دقة وإتقان.
ونورد من تأويلاته رحمه الله ما يندرج تحت الفنون المجازية الآتية :
المجاز العقلي - المجاز اللغوي المرسل - المجاز اللغوي الاستعاري ومن الله التوفيق.

(1/70)


المجاز العقلي
أول ما يلقانا من تأويلاته المجازية التي هي من صريح المجاز العقلي توجيهه إسناد التوفي إلى الله مرة ، وإسناده إلى ملك الموت مرة ، ثم إسناده إلى الملائكة مرة. ونصه بالحرف في التصرف بالحذف.
"أسند هنا جل وعلا التوفي للملائكة في قوله تعالى : {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} وأسنده في السجدة لملك الموت في قوله : {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} وأسنده في الزمر إلى نفسه جل وعلا في قوله : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وقد بينا.. أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة فإسناده التوفي لنفسه ؛ لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى.... وأسنده لملك الموت ؛ لأنه هو المأمور بقبض الأرواح وأسنده إلى الملائكة لأن لملك الموت أعواناً من الملائكة".
تعقيب :
هذا قوله ، وهو نفس القول الذي يقوله البيانيون حين يقررون أن في هذه الآيات مجازاً عقلياً. وليس ثمة من فرق بينه وبينهم سوى أنهم يطلقون على هذا اسم المجاز العقلي أو الحكمي وهو يسكت عن التسمية. كما فعل الإمام اين القيم وشيخه من قبل.
وجعلنا آية النهار مبصرة :
بعد أن أورد الشيخ تفسير السلف لهذه الآية قال بالحرف : "قال مقيده عفا الله عنه : هذا التفسير من قبل قولهم : نهاره صائم ، وليله قائم. ومنه :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى
ونمت. وماليل المطى بنائم.

(1/71)


تعقيب :
هذه الأمثلة التي ذكرها هي بعينها التي يمثل بها علماء البيان فيما يمثلون للمجاز العقلي. وقد طفق الرواد الأوائل يرددون هذه المثل قبل ارساء قواعد علوم البلاغة على أنها من الاتساع في اللغة. والتأويل المجازي فيها ظاهر وإن أمسك الشيخ عن التسمية.
حجاباً مستوراً :
قال رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه :
"قال بعض العلماء هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل أي حجاباً ساتراً. وقد يقع عكسه كقوله تعالى : {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق. {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي مرضية فاطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول ، وإرادة الآخر اسلوب من أساليب اللغة العربية. والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق : مجازاً عقلياً...".
وقفة مع هذا الكلام :
ها هو ذل الشيخ رحمه الله لم يستغن عن التأويل المجازي في الكشف عن المراد من هذه الآية الكريمة. فأقر ثلاثة تأويلات مجازية في القرآن.
مستور بمعنى ساتر ، ودافق بمعنى مدفوق ، وراضية بمعنى مرضية.
ارتضى هذا التأويل وهو يدرك تماماً بم يسميه البيانيون ولكنه نحا إلى تسميته أسلوباً من أساليب اللغة العربية وهذه التسمية لا تمنع تسمية أدق منها وأضبط ، وهي المجاز العقلي. ومعلوم عند النظار أن هذا خلاف لفظي ليس له محصول. فالشيخ إذن مقر بالمجاز. وفيم ؟ في القرآن العظيم الذي اجتهد في وسالته السابقة أن ينفي عنه المجاز فلم يستطع إلا ترك التسمية.

(1/72)


اهتزت وربت :
وفي هذه الآية يستعين الشيخ بالتأويل المجازي الواضح للكشف عن معنى الاهتزاز المسند إلى الأرض فيها : فيقول :
"اهتزت : أي تحركت بالنبات. ولما كان النبات ثابتاً فيها ومتصلا بها ، كان اهتزازه كأنه اهتزازها. فأطلق عليها بهذا الاعتبار ، أنها اهتزت بالنبات. وهذا أسلوب عربي معروف".
وقفة مع هذا الكلام :
هذا التأويل الذي يسميه الشيخ - لحاجة في نفس يعقوب - أسلوباً معروفاً من أساليب اللغة العربية ، يسميه علماء البيان مجازاً عقلياً علاقته المكانية ، لأن الأرض مكان الاهتزاز ومحله فأسند إليها وكأنها هي فاعلة الاهتزاز ، وزانه قولهم : نهر جار : أي جازع ماؤه فيه. وحقيقة الآية على تأويله : اهتز نباتها فيها.
وسواء أقر الشيخ بالتسمية المجازية. أم لم يقر فالمجاز لازم له.
ونحن مع إلزامنا له بالمجاز على حسب تأويله نورد في الآية ما لم يقله هو ، ولو كان قاله لكان أجدى على مذهبه في نفي المجاز في هذه الآية بعينها.
فلا مانع أن يكون الاهتزاز مسنداً للأرض حقيقة لا مجازاً لأنها حين ينزل فيها الماء ، وبخاصة عن طريق المطر ، تهتز ذراتها اهتزازاً حقيقياً وإن غاب عن النظر المجرد. وكذلك إذا غمرها الماء سيحاً ؛ لأن الأرض تتحرك وتزداد في حجمها باختلاط الماء بها فكل من الاهتزاز والزيادة في "اهتزت وربت" حقيقتان لغويتان فيها ومع هذا فإننا نتمسك بما قاله الشيخ ؛ لا لأنه عين الصواب ولكن لإلزامه بالتأويل المجازي الذي لم يستطع الاستغناء عنه.

(1/73)


المجاز المرسل :
ورود التأويلات المجازية المندرجة تحت صور المجاز المرسل كثرت في الأضواء كثرة مستفيضة ويريد تأويل الشيخ لها ما للمجاز من دور جليل الشأن في لغة العرب عامة ، وفي البيان القرآني خاصة ، وأنه لولا المجاز لاستغلق على الأفهام قسط كبير من القرآن العظيم ، وبخاصة في مجالات الأحكام ، وفيما يلي نذكر نماذج متعددة من أقوال الشيخ فيها رحمه الله رحمة واسعة.
وآتوا اليتامى أموالهم :
هذا خطاب من الله لأوصياء اليتامى بإعطائهم أموالهم التي كانوا يقومون على رعايتها ، والأوصياء إنما صاروا أوصياء بتحقيق وصف اليتم فيمن هم أوصياء عليهم. وتستمر الوصاية ما دام اليتم. فإذا زال اليتم زالت.
لذلك كان في هذه الآية أشكال حيث أمرت الأوصياء أمراً مطلقاً أن يؤتوا اليتامى أموالهم. وهذا - بحسب الظاهر - مناف لحكمة التشريع من نصب وصي على مال اليتامى.
لذلك يقول الشيخ رحمه الله : "أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بإيتاء اليتامى أموالهم ، ولم يشترط هنا شرطا في ذلك ؛ ولكنه بين بعد هذا أن هذا الإيتاء مشروط بشرطين :
الأول : بلوغ اليتامى ، والثاني : إيناس الرشد منهم ، وذلك في قوله تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وتسميتهم يتامى في الموضعين إنما هي باعتبار يتمهم الذي كانوا متصفين به قبل البلوغ. إذ لا يتم ذلك إلا بعد البلوغ إجماعاً".

(1/74)


وقفة مع هذا الكلام :
تسمية من كان يتيماً قبل البلوغ يتيماً بعد البلوغ ، هي مجاز مرسل عند علماء البيان علاقته اعتبار ما كان ، ومجاز مطلق عند الأصوليين له نفس العلاقة ، وما قاله الشيخ في بيانه اعتراف بقول الأصولي وعالم البيان ، ويسميانه مجازاً ولكن الشيخ لا يسمى.
وقد رفع التأويل المجازي الأشكال الحاصل حول : كيف نؤتيهم أموالهم وهم ما يزالون يتامى ، فجاء المجاز وقال : ليسوا هم في هذه الحالة يتامى وإنما سموا - كذلك - لقرب عهدهم باليتم.
ونضيف إلى هذا سراً بيانياً أخر ، وهو أن القرآن سماهم - هنا - يتامى وقد فارقوا اليتم ترقيقاً لقلوب الأوصياء لهم ليحسنوا إليهم فلا يظلموهم شيئاً ؛ لأن اليتم وصف يقتضي الإحسان وكذلك يفيد المسارعة لإعطائهم أموالهم..
هذا ، وقد جانب الشيخ الصواب حين عد قوله تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} نظير قوله : {وَآتُوا الْيَتَامَى} والفرق كبير بينهما فهم في {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} يتامى حقيقة لا مجازاً.
النكاح مجاز في العقد :
من صور المجاز المرسل حكاية الشيخ الخلاف بين العلماء والفقهاء والأصوليين في لفظ "النكاح" هل هو حقيقة في العقد مجاز في الوطء ؟ أم حقيقة في الوطء مجاز في العقد ؟
فإن كان الأول فهو مجاز مرسل من استعمال المسبب في السبب ، وإن كان الثاني فهو مجاز مرسل كذلك من استعمال السبب في المسبب ، وعلى كلٍ فالمجاز

(1/75)


هنا وارد في كلام الشيخ بلفظه ومعناه في سياق يشعر بإقراره للمجاز ولا تشتم منه أية رائحة للإنكار.
جعلا له شركاء :
في قوله تعالى : {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا...} ذكر الشيخ أن في الآية الكريمة وجهين يشهد القرآن لأحدهما.
والوجه الذي قال : أن القرآن يشهد له وجه مجازي بلا أدنى نزاع وفيه يقول الشيخ :
الوجه الثاني : إن معنى الآية أنه لما آتى آدم وحواء صالحا كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما. وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء لأنهما أصل لذريتهما ، كما قال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي بتصويرنا لأبيكم آدم ؛ لأنه أصلهم. بديل قوله بعده : {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ويدل لهذا الوجه الأخير أنه تعالى قال بعده : {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهذا نص قرأني صريح في أن المراد المشركون من بني آدم لا آدم وحواء.
وقفه مع هذا التوجيه :
هذا التأويل محتمل لنوعين من المجاز. في الآية الأولى حيث قد اسند فيها فعل ذرية آدم إلى آدم وحواء. فهو مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب.
وأما في الآية الثانية : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فهو مجاز مرسل ؛ لأن آدم سبب في توالد بنية المخاطبين.
وموطن الشاهد أن الشيخ كثيراً ما يحمل آيات القرآن الكريم على التأويل المجازي الواضح الحسن الجميل. ومع هذا فمذهبه الجدلي في إنكار المجاز قد

(1/76)


عرفناه. وكفى المجاز أصالة أن منكريه لم يستطيعوا الاستغناء عنه. وهذا من الوضوح بمكان.
خلقك من تراب :
ومن المجاز المرسل تأويله لقوله تعالى : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ..}. حيث قال فيه :
"معنى خلقه من تراب أي خلق آدم الذي هو أصله من التراب".
والمعنى المجازي في هذا التأويل واضح ، فليس المخاطب هو المراد ، بل أصله وسببه.
وتأتون في ناديكم المنكر :
قال الشيخ في معنى النادي : "فالنادي والندى يطلقان على المجلس. وعلى القوم الجالسين فيه ، وكذلك المجلس يطلق على القوم الجالسين فيه. ومن إطلاق الندى على المكان قول الفرزدق.
وما قام منا قائم في ندينا
فينطق إلا بالتي هي أعرف
وقوله تعالى : {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} ومن إطلاقه على القوم قوله تعالى : {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول ذي الرمة :
لهم مجلس صهب السبال أذلة
سواسية أحرارها وعبيدها

(1/77)


وقفة مع هذا الكلام :
إطلاق النادي والندى على المكان حقيقة. وإطلاقه على من هو حال فيه مجاز مرسل بعلاقة المجاورة أو المكانية.
وإطلاق المجلس على المكان حقيقة لأنه اسم مكان في أصل الوضع ، أما إطلاقه على القوم الجالسين فيه فمجاز مرسل. وكل هذه التأويلات مستساغة عند المؤلف فلماذا هجر التسمية إذن ؟
صور أخرى للمجاز المرسل :
وبقيت صور أخرى كثيرة مبثوثة في ثنايا الكتاب في أجزائه العشرة ومنها خروج الاستفهام إلى الإنكار والتوبيخ والإبعاد. وخروج الأمر والنهي للتهديد والتعجيز وغيرهما من المعاني المجازية ، أثرنا عدم الإطالة بذكرها كلها ونكتفي منها بما يأتي :
خروج الخبر للتوبيخ :
الخبر موضوع في اللغة لإعلام المخاطب بمضمون الكلام وفائدته أو بلازم فائدته وخروجه عن هذين معدود عند علماء البيان من المجاز المرسل.
والمؤلف - كعهدنا به - يتابع القوم في التأويل المجازي ويتوقف عن التسمية فتراه في قوله تعالى : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} يحمله على التوبيخ فيقول : "لا يخفى أنه توبيخ وتقريع... وأمثال ذلك كثير في القرآن ، كقوله تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.. والآيات بمثل ذلك كثير جداً.
والشيخ يسمي مثل هذه الخروجات اسلوباً من أساليب اللغة. وغيره يسميها مجازاً والاختلاف في التسمية بعد الاتفاق على وجود المسمى أمره يسير.

(1/78)


خروج الأمر :
وتحدث الشيخ عن خروج الأمر عن مجرد الطلب إلى معان أخرى في مواضع كثيرة من تفسيره. ومن ذلك :
قوله في قوله تعالى : {فَلْيَمْدُدْ ... ثُمَّ لْيَقْطَعْ} قال : فصيغة الأمر في قوله {فَلْيَمْدُدْ} ثم في قوله {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} للتعجيز.
خروج الاستفهام :
حمل الاستفهام في قوله تعالى حكاية عن منكري البعث :
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} على الإنكار فقال :
"والآيات بمثل هذا في إنكارهم للبعث كثيرة ، والاستفهام في قوله : {أَإِنَّا} إنكار منهم للبعث".
هذه مثل مختارة بغير اختيار من التأويلات المجازية المندرجة تحت المجاز العقلي والمجاز المرسل أردنا بها الاستدلال على أن الشيخ مع انكاره للمجاز في مذهبه الجدلي النظري لم يستطع أن يتخلص من المجاز وهو يتصدى لتفسير كلام الله أقدس الكلام وأرفعه. وهذا يدل على أصالة المجاز وأن انكاره ضرب من التحكم الذي لا يقوم عليه دليل. ولا شبه دليل.

(1/79)


المجاز الاستعاري :
أما المجاز اللغوي الاستعاري فما أكثر تأويلات الشيخ المفضية إليه وإن تحفظ هو من التصريح بالاسم.
وفيما يلي نماذج منها نعرضها بكل إيجاز :
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف :
عرض المؤلف اختلاف وجهات النظر عند البيانيين في نوع المجاز في هذه الآية وما قرن به من دقائق الدلالات والأسرار ، وهو في جملة كلامه يرفض كل الرفض أن يكون في الآية مجاز بناء على ما قرره في مذهبه الجدلي النظري من منع جواز المجاز في القرآن وخلاصة كلامه في المنع عنا هو قوله :
"فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة وقد أوضحنا في رسالتنا : منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز" أنه لا يجوز لأحد أن يقول أن في القرآن مجازاً..... وأوضحنا ذلك بأدلته وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازاً أنه اسلوب من أساليب اللغة العربية.
قلت : حسناً ، فليرفض الشيخ ما شاء ، ولكن ماذا قال الشيخ في توجيه هذا التعبير القرآني الرائع ، وهل استطاع وهو ينكر طريقة البيانيين أن يأتي هو ببديل مغاير تماماً لما قالوه فيه - وكان في قولهم - امتاع وإقناع ؟ أم الشيخ يتلقى باليمين ما يصده بالشمال ؟
قول الشيخ في الآية :
ولنسمع الآن للشيخ وهو يفسر الآية الكريمة ، وقد رفض من قبل طريقة علماء البيان :
قال مقيده عفا الله عنه والجواب عن هذا السؤال ، وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف ؛ لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم ، وتحيط بها كاللباس ، ومن حيث وجدانه ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف أوقع عليه الإذاقة".

(1/80)


وقفة مع الشيخ :
هذا هو كلام الشيخ. ومن يرجع إلى كلام البيانيين من بلاغيين ومفسرين وغيرهم يجد أن الشيخ أخذ كلامهم وسار على هداه وحذف منه ما ينفع ذكره ويضر حذفه ثم ادعى أنه لم يذهب مذهبهم ، وليس في كلامه جديد لم يقولوه. فارجع مثلا إلى ما كتبه الإمام جار الله ، وما كتبه صاحب الطراز وقارن بين ما قالاه وما قاله هو ، واسأل نفسك : هل خرج الشيخ فعلا عما قاله البيانيون اللذين رفض طريقتهم منذ قليل.
نجاريه... ثم نلزمه بما فرضه :
وإذا جارينا الشيخ - جدلا وسلمنا أن كلامه غير ما عليه البيانيون. فإن كلامه ملزم له بالقول بالمجاز دري أم لم يدر. رضي أم لم يرض.
ففي كلامه قد صرح بأن آثار الجوع والخوف المحيطة بهم شبهت باللباس. وعبارته هي : "لأن أثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم ، وتحيط بها كاللباس". هي نص قاطع في الحمل على المجاز. ولن يفيده - هنا - أي اعتذار. فما الذي بقي من المجاز - هنا - سوى التسمية.
نوع الاستعارة في هذا الكلام :
لا نزاع أن في الآية استعارة شبهت فيها الآثار المترتبة على الجوع والخوف باللباس ، بجامع الإحاطة وشدة الإحساس في كل. وهي استعارة تصريحية أصلية لوقوعها في اسم الجنس. من قبيل استعارة المحسوس للمعقول كما يرى بعض البلاغيين. أو استعارة المحسوس للمحسوس على رأي بعض منهم ويجوز حملها على الاستعارة التمثيلية التي شبهت فيها هيئة بهيئة وصورة بصورة. وهذا ما أميل إليه.

(1/81)


الاستعارة في زمن الفعل :
وفي التأويل المجازي - عنده - المندرج تحت الاستعارة في زمن الفعل قوله في قوله تعالى : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فقد قال فيه :
"وعبر بصيغة الماضي تنزيلا لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع" هذه العبارة على قصرها تلزم الشيخ بمتابعة علماء البيان في جعلها استعارة في زمن الفعل وهي قسيمة الاستعارة في معنى الفعل.
وبعد إقراره بهذا الأصل المجازي : وضع الماضي موضع المستقبل تنزيلا للمتوقع منزله الواقع "نبه على أنه كثير الوقوع في القرآن الكريم ، مثل : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ومثل : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} ومثل : {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ......} ثم قال :
"فكل هذه الأفعال الماضية بمعنى الاستقبال نزل فيها تحقق وقوعها منزلة الوقوع".
وهذا القول هو ما يقوله المجازيون بالضبط ، والشيخ رحمه الله كان يعلم ذلك فلم لم يقلها فيرح ويسترح ؟.
وجوب الصرف عن الظاهر :
صرف اللفظ عن ظاهره خطوة مهمة في كل عملية مجازية. وكثيراً ما يلهج بعض منكري المجاز بمنع صرف اللفظ عن ظاهره. فإذا مارسوا شيئاً من درس النصوص رأيناهم يقعون في الصرف والتأويل من ذرا رءوسهم إلى أخمص أقدامهم.
وها نحن قد وقفنا على كثير من صور الصرف والتأويلات عند الأقطاب الثلاثة الذين وضعوا مصنفات خاصة في منع المجاز ، وهم الإمام ابن تيمية ، والإمام ابن القيم ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي. ولإبن القيم نص صريح فيه

(1/82)


بضوابط صرف اللفظ عن ظاهره قد ذكرناه من قبل.
أما الشيخ الشنقيطي فبعد ممارسة الصروفات والتلأويلات فإنه يضع مثل الإمام ابن القيم شرطاً للصرف والتأويل في نصوص الوحي فيقول :
"وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول".
ورود المجاز صريحاً في أخر كلامه :
الشيخ الشنقيطي أكثر حيطة من سابقيه في تجنب ذكر المجاز صريحاً بلفظه ومعناه في حر كلامه. ومع تلك الحيطة فإن المجاز يقفز من ذهنه أحياناً ويتخذ لنفسه مكاناً بين كلماته المكتوبة على كره منه.
وقد ورد هذا في كتابه الأضواء مرات. ومنها ما سبق ذكره حول النكاح أحقيقة هو في العقد مجاز في الوطء أم عكسه.
ومنها قوله في موضوع آخر ، وهو يقرر أن المسح قد يأتي بمعنى الغسل. ثم يقول :
"وليس من حمل المشترك على معنييه ، ولا من حمل اللفظ على حقيقته ومجازاه".
فهذا اعتراف منه بالمجاز ، وقد تابع في هذا التعبير كلا من الإمامين ابن تيمية وابن القيم من قبل.
هذا وقد بقي أمر مهم فقد ذكر الشيخ عبد الرحمن السديس أحد أئمة الحرم المكي الشريف في كتاب ترجم فيه للشيخ الشنقيطي بأن له كتاباً في علم البيان كان يقوم بتدريسه في جامعة أم درمان وأنه نحا فيه منحى البلاغيين في الإقرار بالمجاز في اللغة وفي القرآن الكريم. وأنه لم ينكر المجاز إلا في أخريات حياته لما استقر به المقام في مدينة "الرياض" بالمملكة العربية السعودية.

(1/83)


صفوة القول :
وصفوة القول : أن الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي رحمه الله - له في المجاز مذهبان :
مذهب جدلي نظري : انتهى فيه إلى منع المجاز وإنكاره في أخريات حياته ,
ومذهب عملي سلوكي : نحا فيه منحى مجوزي المجاز ، أو رأي له ضرورة لا غنى عنها في استجلاء المعاني ، وكشف أسرار البيان.
وبعد كل ما تقدم نقول :
"إن إنكار المجاز في اللغة بوجه عام ، وفي القرآن الحكيم بوجه خاص ، إنما هو مجرد دعوى بنيت على شبهات واهية ، كتب لها الذيوع والانتشار والشهرة ولكن لم يكتب لها النجاح" .
***
عبد العظيم المطعني
البلد الطيب الأمين : مكة المكرمة
في جمادى الثاني 1415 هـ نوفمبر 1994 م.

(1/84)


====================

الإيجاز في إبطال المجاز المؤلف أبو محمد مور كبي 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام من لا نبي بعده, نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فهذه إيرادات موجزة على القول بوجود المجاز في نصوص الكتاب والسنة:

يقولون: إن المجاز هو ما جاز حذفه؛ كأن يقول قائل: رأيتُ أسدا (يريد الرجل الشجاع)
فتقول له: ما رأيتَ أسدا.
جواز النفي هل يمكن القول به في كلام الله ورسوله ؟
وأي باب من الضلال يفتح قول كهذا ؟

يعرّفون الحقيقة بأنها اللفظ المستعمل في ما وضع له.
من هو الواضع له ؟
هل هذا الوضع اصطلاح أو إلهام من الخالق ؟
هل لكل حقيقة من الحقائق الثلاث (الشرعية واللغوية والعرفية) وضعه الخاص أم  للجميع
وضع واحد ؟

إذا قالوا: إنما هو استعمال وليس بوضع, والحقيقة إنما هي: اللفظ المستعمل في استعماله الأول !
قيل: إذا تعدد الاستعمال للفظ واحد, فما ما الذي يحدد السابق من اللاحق ؟

القائلون بالمجاز يقولون: لا يحمل القول على المجاز إلا إذا تعذر حمله على الحقيقة.
فالسؤال: على أي الحقائق يتعذر الحمل حتى ينصرف عنها إلى المجاز ؟
آلحقيقة الشرعية أم اللغوية أم العرفية ؟

هل للألفاظ حقيقة ومجاز شرعيان ؟
كيف يمكن ضبط ذلك وتمييز ما هو من قبيل اللغة مما هو من الشرع ؟

إذا استعمل الشارع اللفظ الواحد في معنيين مختلفين معا, فمن ذا الذي يحدد لنا الحقيقة من المعنيين؛ ليكون الآخر هو المجاز ؟
أ هو الشارع ؟
أم اللغة ؟
أم العرف... ؟



إذا استعمل الشارع اللفظ في معنى غير حقيقته اللغوية, فهل هذا المعنى الشرعي يكون مجازا أم حقيقة ؟
فإن كان مجازا فما حقيقة اللفظ الشرعية؛ لا اللغوية ؟
وإن قيل هو مجاز اعتمادا على حقيقة اللفظ اللغوية أو العرفية, فهو خلط بين الحقائق بلا ضابط يضبطها.

إذا صاغ الحكم على المعنى الشرعي بأنه مجاز نظرا إلى الحقيقة اللغوية؛ فيكاد يكون جميع المعاني الشرعية مجازا يصح نفيه. فهل من قائل بهذا ؟
فإن لفظة "الصلاة" يراد بها في الشرع: عبادة معروفة تشتمل على أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. وتطلق في اللغة ويراد بها مطلق الدعاء. ومعلوم أن الصلاة على صورتها الشرعية تزيد على مجرد الدعاء. فهل هذا القدر الزائد على اللغة, مجاز أم حقيقة ؟
فإن قيل حقيقة شرعية, فما قولكم في قوله تعالى: (صلوا عليه وسلموا تسليما) - (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ؟
فإن قلتم: مجاز ! فما الدليل على أن هذا الاستعمال هو المجاز, وليس الأول ؟
فإن قلتم: لأن الشارع استعملها في المعنى الأول قبل الثاني, فهو تحكم محض.

النصوص التي تتضمن أمورا غيبية, ما هو الضابط في تمييز مجازها من حقيقتها ؟
أمثلة: وَصَفَ الله يوم القيامة في كتابه العزيز بأنه يوم عبوس, فقلتم: هو مجاز؛ لأن اليوم لا يعبس.
فيا ترى! ما هو اليوم الذي لا يعبس ؟ أ يومنا الدنيوي ؟ أم سائر الأيام على الإطلاق ؟
ولماذا لا يكون إطلاق اليوم عليه مجازا ؟
لأن الحقيقة في اليوم أنه قدر معلوم من الوقت الزمان يشتمل على غروب الشمس وطلوعها, ولا طلوع ولا غروب في الآخرة.
كذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الموت يؤتى به يوم القيامة ويذبح.
أ هو حقيقة أم مجاز ؟
نطق الجلود يوم القيامة وشهادتها على أصحابها, أ مجاز أم حقيقة ؟
فإن قلتم هي مجاز؛ اعنمادا على إحالتها في الدنيا فهو قياس للحقائق الأخروية على الحقائق الدنيوية, وهو غير صحيح لوجود الفارق.

هذه الإيرادات على وجازتها؛ تبين لك أن في إثبات المجاز في نصوص الوحيين إتاحة لمن شاء أن يثبت أو ينفي ما شاء وكيف شاء, إذ هو أمر لا يمكن ضبطه.
---------------------------------------------------------

كتبه: أبو محمد مور كبي. داكار – السنغال – morkebe@gmail.com

 ====================
ومن  موقع الألوكة

أقسام المجاز وأحكامه وعلامات الحقيقة والمجاز
أقسام المجاز وأحكامه
وعلامات الحقيقة والمجاز
أقسام المجاز:
كما راعى الأصوليُّون في عملية الوَضْع نوعيةَ الواضع في الاستعمال الحقيقي - فقسموا الحقيقةَ على هذا الأساس - فإنهم راعَوْا كذلك نوعَ التخاطب في الاستعمال المجازي، فقسموا المجاز إلى ما يقابل أقسام الحقيقة: مجاز لغوي، وشرعي، وعُرْفي، كما تنوَّعت الحقيقة.
ويشير القَرَافي[1] إلى أقسام المجاز فيقول: وهو ينقسم بحسب الوضع إلى أربعة مجازات: لغوي؛ كاستعمال (الأسَد) في (الرجل الشجاع)، وشرعي؛ كاستعمال لفظ (الصلاة) في (الدعاء)، وعُرفي عام؛ كاستعمال لفظ (الدابة) في (مطلق ما دَبَّ)، وعُرفي خاص؛ كاستعمال لفظ (الجوهر) في (النفيس)[2].
وعلى هذا تكون أقسام المجاز كالتالي:
1- المجاز اللغوي:
وهو اللفظ المستعمَل في غير ما وُضِع له لغةً لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له؛ كلفظ (الصلاة)، يستعمله اللغويُّ في العبادة المخصوصة، وليس في الدعاء الذي وُضِع له أصلاً، أو أن تقول: رأيت أسدًا يقود الجيش، فالمعنى: قائدًا كالأسد[3].
2- المجاز الشرعي:
وهو اللفظ المستعمَل في غير ما وُضِع له في اصطلاح الشرع لعلاقة مع قرينة مانعة؛ كلفظ (الصلاة) يستعملُه الشرعي في الدعاء استثناء، وليس في العبادة المخصوصة، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 56].
3- المجاز العُرفي العام:
وهو اللفظ المستعمَل في غير ما وُضِع له، لمناسبة وعلاقة عُرفية عامة؛ كلفظ (الدابة) مستعمَلاً في الإنسان البليد، أو في كل ما يدب على الأرض، بعد استقراره عُرفًا على ذوات الأربع.
4- المجاز العُرفي الخاص:
وهو اللفظ المستعمل في غير ما وُضِع له، لمناسبة أو علاقة عُرفية خاصة، كلفظ (الحال) يستعمله النحويُّ في إعراب الكلمة، لا فيما يكون عليه الإنسانُ من خير أو شر[4].
علامات الحقيقة والمجاز:
ذكَر الأصوليون أن الفَرْق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقعَ بالنقل عن أئمة اللغة، أو بالاستدلالِ بالعلامات المعتبر فيها شيوعُ الاستعمال، ومن ذلك ما يلي:
1- النقل عن أهل اللغة:
وذلك بأن يذكرَ لنا أهلُها أن اللفظ حقيقةٌ في استعمالٍ ما، مجازٌ في غيره، والمقصود بأهل اللغة أئمتُها وعلماؤها الذين يتحرَّوْن التغيُّر الدلالي للألفاظ، ويحاولون التوصل إلى الاستعمال الأسبق زمنًا، وهو ما يسمى بأصل الوَضْع، أو الحقيقة اللغوية الوَضْعية عند الأصوليين، ثم يبحثون ما يطرأُ على الدلالات بعد ذلك من تغيُّر، توسيعًا أو تضييقًا أو انتقالاً، فإذا شاعت الدلالاتُ الجديدة في الاستعمال سُمِّيت بالحقائق العُرفية؛ فلفظ السماء يدل حقيقةً على كل ما علا، ومنه السماء المعروفة، ثم سمي به المطر مجازًا، وعلاقة المجاورة واضحة بين المدلولين، ويبدو أن هذا الاستعمالَ قد كُتِب له الشيوع، حتى تجوَّزت العرب إلى إطلاقه على مواقعِ سقوط المطر، فقالوا: ما زلنا نطأ السماءَ حتى أتيناكم؛ أي: ما زِلْنا نطأ مواقع المطر[5].
وقد نص الأصوليون على النقلِ عن أهل اللغة في التمييز بين الحقيقة والمجاز؛ لأن معظم ألوان التغيير الدلالي - ومنها المجازات المنقولة الشائعة الاستعمال - لا يُدرِكها إلا ذو البصر باللغة وخصائصها، ولا تتضح إلا بالبحثِ والدراسة.
2- تبادر المعنى إلى الفهمِ مع انتفاء القرينة:
ذلك أننا إذا سمِعْنا أهلَ اللغة يعبِّرون عن معنى واحد بعبارتين، ويستعملون إحداهما بقرينةٍ دون الأخرى، عرَفْنا أن اللفظَ حقيقة في المستعمل بلا قرينة، مجازٌ في المستعمل مع القرينة، مثل: (رأيت الأسد) يفهم منه الحيوان المخصوص دون قرينة، ولا يُفهَم منه الرجلُ الشجاع إلا بقرينة.
3- الاشتقاق:
فاللفظ المستعمَل في الحقيقة يُشتَق منه الفعل واسم الفاعل والمفعول، والمستعمل مجازًا لا يرِد فيه هذا الاشتقاق، ومثاله لفظ: (الأمر)؛ فهو حقيقةٌ في القول الدال على طلب الفعل، مجازٌ في الدلالة على الشأن؛ ولذلك تتصرف الحقيقة، فيقال: أمَر بأمر، فهو آمِر، وغيره مأمور بكذا، ولا يحصل ذلك الاشتقاقُ في لفظ (الأمر) الدالِّ على الشأن.
4- اختلاف صيغة الجمع:
وهي علامةٌ للتفريق بين مدلولاتِ الكلمة الواحدة؛ فلفظ الأمر بمعنى القولِ الدال على الطلب يُجمَع على أوامرَ، أما الدالُّ على الشأن فيُجمَع على أمور، وقد عدَّها الأصوليون علامةً للتفريق بين الحقيقة والمجاز.
5- تقوية الكلام بالتأكيد:
وهو من علامات الحقيقة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، فأكَّد الكلامَ، ونفى عنه المجاز، ولا يصلُح في المجاز التأكيدُ.
أحكام المجاز:
149- اختلف الأصوليُّون في جواز إطلاق اللفظ الواحد على مدلوله الحقيقي ومدلوله المجازي في وقت واحد، فمن قائل: إنه يمتنع أن يراد كل منهما معًا في آن واحد، وهو قول الحنفية وبعض المعتزلة والإمامية وبعض أصحاب الشافعي وعامة أهل اللغة، ومن قائل بجوازه مطلقًا، وهو قول الشافعي وأكثر المعتزلة؛ فلفظ (الأُمِّ) يشمل الأمَّ الحقيقة والجدات على المجاز، وقد يطلق ويراد به المعنى الحقيقيُّ والمجازيُّ في ذات الوقت كما في آية المحرَّمات[6].
على حين يرون الحُكم في قوله تعالى: ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [المائدة: 6]؛ فلفظ ﴿ لَامَسْتُمُ ﴾ يحتمل المعنى الحقيقيَّ، وهو الدلالة على الملامسة المعروفة باليد والجسم، وبه أخذ المالكية وبعضُ الفقهاء، فحكَموا بأن الملامسة المعروفة كالمصافحة مثلاً تنقُضُ الوضوءَ إذا قصد اللامسُ اللذةَ، واعتمدوا على أحاديثَ روَوْها، فإن أبا حنيفة[7] قد ذهَب إلى أن الملامسة مقصود بها معناها المجازي، وهو الجِماع، معتمدًا على قرائنَ عقلية وآثارٍ منقولة؛ فأخَذ بالمجاز هنا.
وإذا اختار المتكلم أسلوب المجاز، هل يبقى لأسلوب الحقيقة اعتبار أم يصرف النظر عنه؟ فهناك رأيان:
أ- المجاز خلَف عن الحقيقة في التكلُّم لا في الحُكم؛ فالمجاز في الحُكم أصل بنفسه، وإليه ذهب الأحناف، فمن قال لشخص مملوك له وهو أكبر منه سنًّا: (أنت ابني) يكون هذا عند أبي حنيفة كلامًا تترتبُ عليه آثاره، على الرغم من استحالة الحقيقة؛ لوجود علاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، وهي (ها هنا اللزوم؛ فالحرية من حيث الملك من لوازم البنوَّة، فأطلق الملزوم (البنوة) وأريد اللازم (الحرية) على سبيل إرسال المجاز، ولوجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، وهي استحالة بنوَّة الأكبر للأصغر، فينتج عنه انتقال الذهن من المعنى الحقيقي الذي هو البنوَّة، إلى المعنى المجازي الذي هو الحرية؛ إذ الانتقال إنما (يعتمد صحةَ الكلام من حيث العربية؛ إذ بصحة العربية يُفهَم ما وضع في تلك اللغة، فينتقل منه إلى ملابساته).
ب- المجاز خلَف عن الحقيقة في الحُكم لا في التكلم، وذهب إليه الشافعي وأبو يوسف من الحنفية، ومن ثم فلا بد - لصحة المجاز - من إمكان الحُكم المستفاد من الحقيقة، فإذا قال شخص لمملوكه الأكبر منه سنًّا: أنت ابني، فهو كلام لغو عندهم؛ لاستحالةِ الحقيقة التي هي البنوَّة؛ إذ العقلُ لا يتصور أن يلِدَ الأصغرُ الأكبرَ؛ فلذلك لم يرتِّبوا آثارًا على مثال هذا الكلام، وحكَموا بأنه لغو[8].
[1] هو أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبدالرحمن الصنهاجي القرافي، من فقهاء المالكية، انتهت إليه رئاسةُ المذهب في عصره، وُلِد ونشأ بمصر، وتوفي بها سنة 684هـ، وله مصنفات كثيرة، منها: كتاب الذخيرة في الفقه المالكي، والفروق وغيرها؛ (الأعلام للزِّرِكْلي (1/90).
[2] الحقيقة والمجاز ص (36).
[3] أصول الفقه؛ للدكتور بدران أبو العينين بدران ص (29).
[4] أصول الفقه؛ للدكتور بدران أبو العينين بدران ص (29).
[5] المزهر (1/429).
[6] إرشاد الفحول (1/113)، تسهيل الوصول ص (94).
[7] هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ولد سنة ثمانين هجرية في حياة صغار الصحابة، ورأى أنسَ بن مالك لما قدِم عليهم الكوفة، روى عن عطاءِ بن أبي رباح، وهو أكبر شيخ له وأفضلهم على ما قال، وعن الشعبي، وغيرهم، وعُنِي بطلب الآثار، وأما الفِقهُ والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى، والناس عليه عيال في ذلك، توفي رحمه الله سنة 150هـ، وله سبعون سنة؛ سير أعلام النبلاء (6/390) وما بعدها.
[8] الخطاب الشرعي ص (111). 

-------------
 
------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق