كتاب: الفرقان في بيان منزلة القرآن.
المؤلف: صلاح فتحي هَلَل.
طبعة: مكتبة الأنصار ، بالقاهرة.
ملاحظة: اجتهدنا في كتابة هذا الكتاب على الوورد ، نقلاً عن المطبوع ، وقد اجتهدنا في مراجعتِه على المطبوع قدر استطاعتنا ، ونستغفر الله مما ربما فاتنا ، أو أخطأنا فيه أثناء النقل من المطبوع.
ونرجو العودة للمطبوع عند الاستشكال.
ويلاحظ أن صفحات المكتوب هنا قد تغيَّرَتْ أرقامها عن أرقام صفحات المطبوع.
ولا تنسوا مَنْ كَتَبَه على الوورد من دعواتكم الصالحات بظهر الغيب.
الْفُرْقَان
في
بَـيَـــانِ مَـنْـزِلَــةِ الْـقُـرْآن
صلاح فتحي هَلَل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنعم على بعض عباده برعاية الأصول ، وهداهم بفضله إلى تمييز المردود من المقبول ، ومعرفة الحقّ من الباطل المعمول ، ومَنَّ عليهم بنعمة العقول ، ومَدَّهُم بمدَدٍ من المعقول والمنقول ، فبصَّرَهم صراطَه المستقيم وطريقه المأمول ، وَنَجَّاهم بفضله من ضلال الهوى المنحول.
له الحمد حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، ملء الأرض والسماء ، وملء ما شاء ربُّنا من شيءٍ بعد.
والصلاةُ والسلام على أشرف الخلق ، وإمام الحق ، وزعيم الهداية ، وصاحب الدراية ، نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وارْضَ اللهمَّ عن الآل والصَّحْبِ والتَّابعين.
وبعد:
فإِنَّ ((مِنْ أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه ، وأولى ما يلزم بحثه: ما كان لأصل دينهم قوامًا ، ولقاعدة توحيدهم عمادًا ونظامًا ، وعلى صِدق نبيِّهم برهانًا ، ولمعجزته ثبتًا وحجةً ، ولا سيما أَنَّ الجهلَ ممدودُ الرواق ، شديد النفاق ، مستولٍ على الآفاق ، والعلم إلى عفاء ودروس ، وعلى خفاء وطموس ، وأهله في جفوة.. حتى صار ما يكابدونه قاطعًا عن الواجب من سلوك مناهجه والأخذ في سبله.
فالناس بين رجلين: ذاهب عن الحق ، ذاهل عن الرشد ، وآخر مصدودٌ عن نصرته ، مكدود في صنعته.
فقد أَدَّى ذلكَ إلى خوض الملحدين في أصول الدين ، وتشكيكهم أهلَ الضعف في كلِّ يقين ، وقد قلَّ أنصاره ، واشتغل عنه أعوانه ، وأَسْلَمَهُ أهلُه فصار عُرْضَةً لمن شاء أن يتعرَّض فيه ، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره ، فمِنْ قائلٍ قال: إنه سحر ، وقائل يقول: إنه شِعْر ، وآخر يقول: إِنَّه أساطير الأولين ، وقالوا: لو نشاء لقلنا مِثْل هذا ، إلى الوجوه التي حكى الله عز وجل عنهم أنهم قالوا فيه ، وتكلموا به فصرفوه إليه ، وذُكِرَ لي عن بعض جُهَّالِهِمْ أَنَّهُ جعلَ يعدله ببعض الأشعار ، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام ، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه.
وليس هذا ببديع من ملحدة هذا العصر ، وقد سبقهم إلى عِظَم ما يقولونه إخوانهم من ملحدة قريش وغيرهم ، إلا أَنَّ أكثر مَنْ كان طعن فيه في أول أمره استبان رشده ، وأبصر قصده ، فتاب وأناب ، وعرف من نفسه الحق بغريزة طبعه ، وقوة إتقانه ، لا لتصرُّف لسانه؛ بل لهداية ربِّه وحُسْنِ توفيقه.
والجهلُ في هذا الوقت أغلب ، والملحدون فيه عن الرشد أَبْعَدُ ، وعن الواجب أَذْهَبُ))([1]).
ولذا رأيتُ أَنْ أُقَيِّدَ مِنَ الفصولِ ما يكشفُ عن منزلةِ القرآن ، ويُبيِّنُ عِظَمِ مكانتِه في الإسلام والإيمان ، معتمدًا في ذلك على الآيات ، وما وردَ في أحاديث الثقات ، ومسترشدًا بكلام أئمة الدين ، وأصحاب المذاهب المتبوعين ، مع الإعراض عن شبهات المتكلِّمين ، وقضايا المتفلسفين.
ورسمتُ ذلكَ على سَنَنِ أئمةِ السُّنَّةِ والجماعةِ في نظافةِ المأْخذِ ، وصِحَّةِ الاستدلال.
وبنيتُ الكتابَ على محورين:
الأول: في إثباتِ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله عز وجل ، غيرُ مخلوقٍ ، وأَنَّ كلامَهُ صفةٌ مِنْ صفاتِ ذاتِه سبحانه وتعالى ، قائمةٌ به ، لم يزل سبحانه وتعالى متكلِّمًا ، قبل وبعد نزول القرآن.
والمحور الثاني: في بيان بعض اللوازم الواجبة تجاه كلام الله جلَّ شأْنه.
وقَيَّدتُ لك في اللوازم:
تنزيه القرآن عن مشابهة كلام المخلوقين ، وتنزيه كلامه وآياته عن النَّقْد اللُّغوي ، والعمل بأحكامه جملةً وتفصيلاً ، وتنزيهه عن السَّبِّ والطعن والقدح بكافَّة سُبل الطعن والغمز واللَّمْز ، وبيان أَنَّ الطعنَ في القرآن أو تناوله بالسَّبِّ والقدح؛ يعني الطعن في قائله المتكلِّم به وهو الله سبحانه وتعالى ، سواءٌ كان ذلك بالسَّبِّ الصريح أو عن طريق الغَمْز واللَّمْزِ لمقام القرآن أو بعض آياته بوجهٍ من الوجوه ، وسواءٌ صَدَرَ ذلك مِنْ قائِلِهِ تَعَمُّدًا ، أو على سبيل الجهلِ وعدم المعرفة ، وبيان أَنَّ الجِدَّ والهزلَ في ذلكَ سواءٌ لا فَرْقَ بينهما.
واكتفيتُ بهذه اللوازم عن غيرها ، ورأيتُ فيها غنىً وكفايةً لكلِّ طالبٍ ، ومَقْنَعًا لكلِّ راغبٍ.
فهذه رؤوس ما قَيَّدتُ لك في هذا الكتاب ، لك غُنْمه وعليَّ غُرْمه ، فخُذْ بأَحْسنِه ، وأصْلح ما تراه فيه من خللٍ ، وما قد يعتري القلم من زللٍ؛ إِذْ لم أَطْمع منك في ثوابٍ أو عقاب ، وإنَّما أردتُ النصيحةَ والدفاعَ عن آياتِ الكتاب ، فلا تعْجلْ باللومِ والعتاب ، وفي القرآن العظيم: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [سورة الرحمن: 60].
واللهَ أسألُ أن يكتبَ السداد والرشاد ، وأن يُلْهِمَ الإخلاص في القول والعمل.
ورَحِمَ الله ُرجلاً وقَفَ على عيبٍ لي فأَصْلَحَهُ ، واسْتَغْفَرَ الله لأخيهِ؛ فإنما أنا بشرٌ أُخْطِيء؛ وقد أُصيب!!
وما أحسن ما قاله الإمام مسلم بن الحجَّاج صاحب كتاب ((الصحيح)) المشهور رحمه الله: ((فليس مِنْ ناقلِ خبرٍ وحامل أَثَرٍ من السلف الماضين إلى زماننا وإِنْ كان من أحفظِ الناس وأشدّهم توقِّيًا وإِتْقانًا لِمَا يحفظ وينقل إلَّا الغلط والسهو ممكنٌ في حفظه ونَقْلِهِ))[2]أهـ
وما أَرْوَع قول الإمام الخَطَّابي رحمه الله في مقدمة كتابه ((غريب الحديث)): ((وكلُّ مَن عَثر منه على حرفٍ أو معنىً يجب تغييره فنحن نناشده الله في إصلاحه ، وأداء حقّ النصيحة فيه ، فإِنَّ الإنسان ضعيفٌ لا يسلم من الخطإِ إلَّا أَنْ يعصمه الله بتوفيقه))أهـ
وقول أبي الطيب الوشاء في كتابه ((الموشى))[3]: ((وشَرِيْطتنا على قارئ كتابنا الإِقْصار عن طلب خطئنا ، والصفح عمَّا يقف عليه من إغفالنا ، والتجاوز عمَّا ينتهي إليه من إهمالنا ، وإِنْ أدَّاه التَّصفح إلى صواب نَشَرَهُ ، أو إلى خطإٍ سَتَرَهُ؛ لأنه قد تقدمنا بالإقرار ، ولابد للإنسان من زللٍ وعثار ، وليس كل الأدب عرفناه ، ولا كل علمٍ دريناه ، وعلينا في ذلك الاجتهاد ، وإلى الله الرشاد ، وقلَّ ما نجا مُؤَلِّف لكتابٍ من راصدٍ بمكيدةٍ ، أو باحثٍ عن خطيئة))أهـ
والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ ، وهو أرحم الراحمين.
وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارِك على عبدك ونبيك محمدٍr .
وارضَ اللهم عن الآل والصَّحْب والتابعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مع عشاء الجمعة وكتب/
15/2/1421 صلاح بن فتحي هَلَل
الموافق: 19مايو 2000م
SALAH_HALL@GAWAB.COMف
صل
الباب الأول
في
إثبات أَنَّ القرآنَ كلامُ الله
غيرُ مخلوقٍ
فصلٌ
الْقُرْآنُ كلامُ اللهِ
القُرْآنُ كلامُ اللهِ U ، وليسَ كتابًا بشريًّا ، أو كلامًا من نَسْجِ العقولِ؛ ومِن ثَمَّ تَحَدَّى اللهُ U به المشركين ، وطالبهم بالإِتْيانِ بِمِثْلِه ، أو بعضهِ؛ فقال I: ) وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ( [البقرة:23-24].
وقال U: ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( [يونس:38].
وقال I: )أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ( [هود:13].
ومعلومٌ أنَّ الكلام البشري لا يصلُح أن يكون مادةً لمِثْلِ هذا التحدِّي؛ فدلَّ ذلك على أنَّ القرآن كلام الله U ، كما دلَّ ذلك على أنَّ القرآنَ يُبَاينُ كلام المخلوقين؛ نظرًا لتبايُنِ المُتَكَلِّم به عن المخلوقين ، فهو I لا يُشبه المخلوقين في ذاتهِ أو صفاتهِ ، فعُلِمَ أنَّ كلامَهُ لا يُشْبه كلام المخلوقين؛ ولذا اختصَّ كلامه بأحكامٍ خاصَّةٍ ، لم يصل إليها كلام البشرِ؛ سواء من حيثُ الإعجاز ، أو الحفظ ، أو التعبُّد به ، والثواب على تلاوته وغير ذلك.
ولم يخالف أحدٌ من أهل الحقِّ ، وأئمة الدين في كون القرآن الذي بأيدي المسلمين هو كلام الله U حقيقةً ، منه بَدَأَ وإليه يعود ، نؤمنُ بذلك إيمانًا ثابتًا ، ويُكَفَّرُ مَن خالف هذا الإجماع المؤيَّد بالكتاب والسنة وأقاويل الصحابة الأخيار ، ومن تبعهم بإحسان ، وقد اعتزلت المعتزلة هذا الإجماع فلم تدخل فيه ، وتابعها بعض أرباب الضلال؛ كالجهمية ، وغيرهم ممَّنْ لا عبرة بهم في مخالفة الإجماع المشار إليه لأئمة الهدى من السلف الصالحين ، خاصَّة وقد تقدم الإجماع على ذلك قبل ظهور هذه الفرق الضالة.
قال ابن الجوزي رحمه الله: «لم يزل الناسُ على قانون السلف وقولهم: إن القرآن كلام الله غير مخلوق ، حتى نَبَغَتِ([4]) المعتزلةُ فقالت بخلق القرآن ، وكانت تَسْتر ذلك ، وكان القانون محفوظًا في زمن الرشيد».
قال ابن الجوزي: «فلمَّا تُوفِّيَ الرشيدُ كان الأمر كذلك في زمن الأمين ، فلما وَلِيَ المأمون: خَالَطَه قومٌ مِن المعتزلة فحسَّنوا له القولَ بخلق القرآن ، وكان يتردَّد في حَمْلِ الناس على ذلك ، ويُراقب بقايا الأشياخ ، ثم قَوِيَ عزمُه على ذلكَ فَحَمَلَ الناسَ عليه([5])»أهـ
ونقلَ الإمام الذهبيُّ رحمه الله عن علي بن الحسن بن شقيق عن النَّضْر بن محمد سَمِعَهُ يقول: «مَنْ قال: هذه الآية مخلوقة )إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني( [طه:14] فقد كفر».
ثم قال الذهبيُّ رحمه الله:
«أما تكفير مَن قال بخلق القرآن؛ فقد وَرَدَ عن سائر أئمة السلف في عصر مالكٍ والثوري ، ثم عصر ابن المبارك ووكيع ، ثم عصر الشافعيِّ وعفان والقَعْنَبِيّ ، ثم عصر أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ، ثم عصر البخاري وأبي زُرْعَةَ الرَّازي ، ثم عصر محمد بن نَصْر المَرْوَزِيّ والنَّسَائي ومحمد بن جرير وابن خُزَيْمة.
وكان الناس في هذه الأزمنة إما قائلًا بأنه كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق ، وإما قائلًا بأنه كلام الله وتنزيله وأنه مخلوق ، وذكروا في دليلهم: ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا( [الزخرف:3] قالوا: والمجعول لا يكون إلا مخلوقًا.
فولي المأمون ـ وكان متكلِّمًا ، عُرِّبَتْ له كتب الأوائل([6]) فدعا الناس إلى القول بخلق القرآن ، وتهدَّدهم وتخوَّفهم ، فأجابه خلقٌ كثير رغبة ورهبة ، وامتنعَ من إجابته مثلُ أبي مسهرٍ عالم دمشق ، ونعيم بن حماد عالم مصر ، والبويطي فقيه مصر ، وعفان مُحَدِّث العراق ، وأحمد بن حنبل الإمام ، وطائفة سواهم ، فَسَجَنَهَم ، ثم لم يَنْشَبْ([7]) أَنْ مات بطَرَسُوس ودُفِنَ بها.
ثم استخلف بعده أخوه المعتصم ، فامتحنَ الناسَ ، ونهضَ بأعباء المحنةِ: قاضيه أحمدُ بن أبي دؤاد ، وضربوا الإمام أحمد ضربًا مبرحًا فلم يُجبهم ، وناظروه ، وجَرَتْ أمورٌ صعبة ، مَن أرادَ أَنْ يتأمَّلَها ويدري ما ثَمَّ كما ينبغي فليُطالع الكتبَ والتواريخ؛ وإلَّا فلْيجلس في بيتهِ ويدع الناس من شرِّه ، وليسكت بِحِلْمٍ ، أو لينطق بِعِلْم ، فلكلِّ مقامِ مقالٌ ، ولكلِّ نزالٍ رجالٌ ، وإِنَّ مِن العِلْم: أن تقول لما لا تعلم: الله ورسوله أعلم([8])»أهـ
تنبيه: لم ينكر صلة القرآن بالله U إلا من كفر بالرسل وأنكر رسالتهم ، وسيأتي ـ في هذا الكتاب ـ أن إنكار القرآن أو جحده أو الاستهزاء به إنكارٌ وجحدٌ واستهزاءٌ بالرسل. وإنما خالفت فرق الضلال الأولى في كونه غير مخلوق وزعمته مخلوقًا ، لكنهم أثبتوا أنه كلام الله U بخلاف ملاحدة الزمان الذين يقولون ـ وبئس ما قالوا ـ: إنه كتاب بشر!! وهذا غاية في الإلحاد وكفرٌ أكبر من سابقه؛ والله المستعان.
وقد مضى النّص على ذلك في أثناء كلام الذهبي السابق هنا؛ حين قال: «وكان الناس في هذه الأزمنة إما قائلاً بأنه كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق ، وإما قائلاً بأنه كلام الله وتنزيله وأنه مخلوق([9])»أهـ
فصل
في الآيات والأحاديث الدالة على أن القرآن كلام الله غير مخلوقٍ
وقد أكَّدَت الآيات والأحاديث الإجماع على أنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق
فمِنْ آيات الله U:
قوله تعالى: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ( [التوبة:6].
وقوله I: )وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ( [الأعراف:143].
وأما السنَّة؛ فمنها:
ما رَوَى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنَّ رسول الله r كانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ بِالْمَوْقِفِ؛ ويقول: «أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلْنِي إِلَى قَوْمِهِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» ([10]).
ورُوِيَ عن أبي الدرداء t؛ قال: سألتُ رسولَ الله r عن القرآن؟ فقال: «كلام الله غير مخلوق».
ولا يصح([11]).
فصل
في بيان عقيدة الصحابة والتابعين في
أن القرآن كلام الله غير مخلوق
وأما آثار الصحابة والتابعين ، فمَن بعدهم؛ فمنها:
ما ورد عن أم المؤمنين الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق عائشة بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما؛ قالت: «مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى ، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ U فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى»([12]).
ونقلَ ابنُ الجوزي ذلك عن الخلفاء الأربعة ، وغيرهم؛ فقال([13]):
«ورُوِيَ عن أبي بكر الصديق t» أنه خرج إلى قريش بقوله تعالى: )ألم. غُلِبَتِ الروم ([الروم:1ـ2] فقالوا: هذا من كلام صاحبك؟ قال: لا والله؛ ولكنَّه كلام الله تعالى» ([14]).
وقال عمر بن الخطاب t: «القرآن كلام الله تعالى فَضَعُوهُ في مواضعه» ([15]).
وقال عثمان بن عفان t: «لو طَهُرَتْ قلوبكم ما شَبِعْتُم من كلام ربكم» ([16]).
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ t: «ما حَكَّمْتُ مخلوقًا؛ إنَّما حَكَّمْتُ القرآن» ([17]).
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: )قرآنًا عربيًا غير ذي عوجٍ( [الزمر:28]؛ قال: «غير مخلوق» ([18]).
وقال عليُّ بن الحُسَيْن: «هو كلام الله ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ» ([19]).
وروى سفيان بن عُيَيْنَة عن عمرو بن دينار ، قال: «أَدْرَكْتُ الناسَ - وكان قد أدركَ أصحاب رسول الله r ، فمن دونهم - منذ سبعين سنة - كلَّهم يقولون: اللهُ جلَّ اسْمُهُ الخالقُ ، وما سواهُ مخلوقٌ؛ إلا القرآن فإِنَّه كلام الله تعالى» ([20]).
فصل
في بيان مذهب الأئمة الأربعة
الإمام أبو حنيفة
رحمه الله تعالى
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في ((الفقه الأكبر)): ((لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية.
أما الذاتية: فالحياة والقدرة والعلم والكلام.... لم يزل متكلِّمًا بكلامه ، والكلام صفةٌ في الأزل... والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الأَلْسُن مقروء ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مُنَزَّلٌ... والقرآن غير مخلوق. وما ذَكَرَهُ الله تعالى في القرآن حكايةً عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وعن فرعون وإبليس؛ فإنَّ ذلك كله كلام الله تعالى إخبارًا عنهم ، وكلام الله تعالى غير مخلوقٍ ، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله تعالى ، فهو قديم لا كلامهم. وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى كما قال تعالى: {وكلم الله موسى تكلميًا} [النساء: 164] ، قد كان متكلِّمًا ولم يكن كلَّمَ موسى عليه السلام... فلمَّا كلَّمَ الله موسى كلَّمَهُ بكلامه الذي هو صفةٌ له في الأزل... ويتكلَّم لا ككلامنا))[21]أهـ
الإمام مالك رحمه الله تعالى
قال يحيى بن خلفٍ: «كنتُ عند مالك بن أنس ، فجاءه رجلٌ فقال: ما تقولُ فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: زنديق كافرٌ اقْتُلُوه([22])»أهـ
وسياق الخبر عند ابن بطة في «الإبانة» قال: حدثني أبو يوسف: يعقوب بن يوسف ، قال: حدثنا أبو بكر بن فردة ، قال: حدثنا إسحاق بن يعقوب العطار ، قال: حدثني أحمد بن عبد الرحمن الحراني ، قال: حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري ، قال: حدثنا يحيى بن خلف المقرئ بطرسوس: «وذَكَرَ أنَّه أَتَى عليه اثنتان وثمانون سنة ، وذَكَرَ أنه أَتَى المدينة سنة ستٍّ وستين ومائة ، فلقي مالك بن أنس وأَتَاهُ رجلٌ؛ فقال: يا أبا عبد الله! ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كافرٌ ، زنديق ، اقتُلوه([23]).
ثم قدمتُ البصرة([24])؛ فلقيتُ الليث ، قال: فقلتُ له: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كافرٌ.
ثم لقيتُ ابنَ لهيعة؛ فقلتُ: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كافرٌ.
ثم قَدِمْتُ مكةَ؛ فلقيتُ ابنَ عُيَيْنَة؛ فقلتُ: ما تقولُ فيمن يقول القرآن مخلوق؟ فقال: كافر.
ثم قدمتُ الكوفة؛ فلقيتُ أبا بكر بن عَيَّاش؛ فقلتُ: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كافر ، ومَن لم يقل: إنَّه كافر؛ فهو كافر.
ثم لقيتُ عليَّ بن عاصم وهُشَيْمًا؛ فقلتُ لهما: ما تقولان فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقالا: كافر.
ثم رجعتُ إلى الكوفة؛ فلقيتُ ابن إدريس ، وعبد السلام بن حرب الملائي ، وحفص بن غياث النخعي ، ويحيى بن أبي زائدة ، وأبا أسامة؛ فقلتُ لهم: ما تقولون فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقالوا: كافر([25]).
ثم لقيتُ وكيع بن الجراح ، وابن المبارك ، وأبا إسحاق الفزاري؛ فقلتُ لهم: ما تقولون: فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقالوا: كافر.
ثم لقيتُ الوليد بن مسلم؛ فقلتُ: يا أبا العباس! ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كافر.
قال([26]) يحيى بن خلف: وأنا أقول: مَن قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر.
قال الحسن بن يحيى بن كثير: وأنا أقول: مَن قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر.
قال أحمد بن عبد الرحمن الحراني: وأنا أقول: مَن قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر.
قال إسحاق بن يعقوب العسكري: وأنا أقول: مَن قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر.
قال أبو بكر بن فردة: وأنا أقول: مَن قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر.
وقال لي أبو يوسف - يعقوب بن يوسف -: مَن قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر»أهـ
قلتُ: وأنا أقول: مَن قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر.
وقد وردَ هذا المعنى السابق عن الإمام مالكٍ مِن غير وجهٍ عنه:
فقال عبد الله بن نافعٍ: «كان مالكٌ يقول: كَلَّمَ الله موسى ، ويَسْتَفْظِع قولَ مَن يقول: القرآن مخلوق. قال: يُوجَعُ ضربًا ، ويُحْبَسُ حتى يتوب» ([27]).
وفي لفظٍ عنه: «ويُحْبَسُ حتى يموت» ([28]).
وقال إسماعيل بن أبي أُوَيْسٍ: «سمعتُ مالكَ بن أنسٍ يقول: القرآن كلام الله U ، وكلام الله تعالى مِن الله سبحانه ، وليس مِن الله جلا وعلا شيءٌ مخلوق»([29]).
وفي لفظٍ عن ابن أبي أُوَيْسٍ قال: «سمعتُ خالي مالك بن أنس ، وجماعة من العلماء بالمدينة ، وذكروا القرآن؛ فقالوا: كلام الله U ، وهو منه ، وليس من الله U شيءٌ مخلوق([30])»أهـ
وقال ميمون بن يحيى البكري: «قال مالكُ بن أنسٍ: مَن قال: القرآن مخلوق يُسْتَتَاب؛ فإِنْ تابَ ، وإِلا ضُرِبَتْ عُنُقُه([31])»أهـ
وقال أبو مُصعبٍ الزُّهري: «سمعتُ مالك بن أنس يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ، فمَن زعمَ أنه مخلوق؛ فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمدٍ r ، والذي يقف شرٌّ مِن الذي يقول»([32]).
وقال محمد بن موسى: «كنتُ عند مالكِ بن أنسٍ؛ إِذْ جاءه رجلٌ مِن أهل المغرب؛ فقال: يا أبا عبد الله! اشفني شفاك الله ، ما تقول؟ فقال: كلام الله غير مخلوق([33])»أهـ
الإمام الشافعيِّ
رحمه الله تعالى
وقد ورد عنه ذلك مِن وجوهٍ؛ منها([34]):
قول الربيع بن سليمان: أخبرني مَنْ أثق به - وكنتُ حاضرًا في المسجد - فقال حفصٌ الفرد: القرآن مخلوق.
فقال الشافعيُّ: «كَفَرْتَ بالله العظيم».
وفي روايةٍ عن الربيع بن سليمان قال: أتيتُ الشافعيَّ يومًا فوافقتُ حفصَ الفردِ خارجًا مِن عنده فقال: كاد والله الشافعي أَنْ يضربَ عنقي ، فدخلتُ فقال لي إسماعيل - رجلٌ ذَكَرَهُ الربيع -: ناَظَرَ الشافعيُّ حفصَ الفردِ فبلغ أَنَّ القرآنَ مخلوق فقال له الشافعي: «والله كفرتَ بالله العظيم». قال: «وكان الشافعي لا يقول: حفص الفرد ، وكان يقول: حفص المتفرد».
وفي لفظٍ عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: «مَن قال: القرآن مخلوق؛ فهو كافر»أهـ
الإمام أحمد بن حنبل
رحمه الله تعالى
وقد نافح الإمام أحمد رحمه الله تعالى في نصرة هذا المذهب ، وتَحمَّل الأذى والحبس في سبيل الدفاع عنه ، وأخباره في ذلك مشهورةٌ مطوَّلة في التراجم الطوال للإمام أحمد رحمه الله.
ومما ورد عنه رحمه الله من ألفاظٍ في هذا الباب:
ما ذكره ابنُ الجوزي؛ قال: «وقال الحسن بن ثواب: سألتُ أحمد بن حنبل t: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق.
قلتُ: فما تقول فيمن قال: مخلوق؟
قال: كافرٌ([35]).
وسأله عباسٌ العنبري؛ فقال: قومٌ حَدَثُوا؛ يقولون: لا نقول مخلوق ، ولا غير مخلوق؟ فقال: هؤلاء قومُ سوء([36])ٍ» انتهى([37]).
وقال عبد الله بن أحمد رحمة الله عليهما: سمعتُ أبي يقول: من قال: القرآن مخلوق؛ فهو عندنا كافرٌ؛ لأنَّ القرآن من عِلْم الله U.
قال الله U: )فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ( [آل عمران:61].
وقال U: )وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ( [البقرة:120].
وقال U: )وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ( [البقرة:145].
وقال U: )أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ( [الأعراف:54].
قال أبي رحمه الله: والخلق غير الأمر.
وقال U: )وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَاب(ِ – قال أبي رحمه الله ([38]): قال سعيد بن جُبَيْر: والأحزاب: المِلَل كلها - )فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ( [هود:17].
وقال U: )وَمِنْ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ( [الرعد:36-37]([39])ٍ»أهـ
وقال عبد الله بن أحمد رحمهما الله أيضًا: «سمعتُ أبي وسأله عبد الله بن عمر - المعروف بِمُشْكُدَانَة - عن القرآن؟ فقال: كلام الله U وليس بمخلوق.
سمعتُ أبي رحمه الله مرةً أخرى سُئِلَ عن القرآن؟ فقال: كلام الله U ليس بمخلوق ، ولا تخاصموا ولا تُجالسوا مَن يخاصم([40])»أهـ
وقد نَقَلَ ذلك عن أحمد الجماهير من أصحابه([41]) ، وله في ذلك كلامٌ مطولٌ؛ من ذلك: رسالته إلى عُبيدِ الله بن يحيى ، وقد رواها عنه ابناهُ صالحٌ وعبدُ الله([42]).
وسياق الرسالة المذكورة كما رواها صالحٌ؛ قال:
كتبَ عُبَيْدُ الله بن يحيى إلى أبي رحمة الله عليه يُخبره: إِنَّ أمير المؤمنين أمرني أَنْ أكتبَ إليك [كتابًا]([43]) أسألُك عن أمر القرآن ـ لا مسألة امتحانٍ؛ ولكن مسألة معرفة وبصيرة ، فأَمْلَى عليَّ أبي رحمه الله: إلى عُبيد الله بن يحيى
بسم الله الرحمن الرحيم
أَحْسَنَ الله عاقبتكَ أبا الحسن في الأمور كلها ودفع عنك مكاره الدنيا والآخرة برحمته.
قد كتبتَ إليَّ رضي الله تعالى عنك بالذي سأل عنه أمير المؤمنين [أيَّدهُ الله]([44]) [من أمر([45]) القرآن بما حضرني ، وإني أسأل الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين]([46]) [أعزه الله بتأييده]([47]) ، فقد كان الناس في خوض من الباطل واختلاف شديد يغتمسون فيه حتى أَفْضَتِ الخلافة إلى أمير المؤمنين [أيده الله عز وجل]([48]) ، فنفى الله بأمير المؤمنين كل بدعة وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق [المجالس]([49]) فصرف الله ذلك كله ، وذهب به[ بأمير]([50]) المؤمنين [أعز الله نصره]([51]) ، ووقع ذلك من المسلمين موقعًا عظيمًا ، ودعوا الله لأمير المؤمنين ، فأسأل الله أن يستجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء وأن يتمم ذلك لأمير المؤمنين [أدام الله عزه]([52]) وأن يزيد في نيته([53]) ويعينه على ما هو عليه
وقد ذُكِرَ عن عبد الله بن عباس رحمة الله عليه([54]) أنه قال: «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعضٍ فإِنَّ ذلك يوقع الشك في قلوبكم».
وذُكِرَ عن عبد الله بن عمر أن نفرًا كانوا جلوسا بباب النبيr فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا؟ قال: فسمع ذلك رسول اللهr فخرج كأنما فُقِيءَ في وجهه حبُّ الرُّمان فقال: «أبهذا أُمِرْتُم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إِنَّما ضَلَّتِ الأمم قبلكم في مِثْل هذا ، إنكم لستم مما هاهنا في شيءٍ ، انظروا الذي أُمِرْتُمْ به فاعملوا به ، وانظروا الذي نُهِيْتُمْ عنه فانتهوا عنه».
ورُوِيَ عن أبي هريرة عن النبي r قال: «مِرَاءٌ في القرآنِ كفرٌ».
ورُوِيَ عن أبي جُهَيْمٍ ـ رجل من أصحاب النبي r _ ، عن النبيr أنه قال: «لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر».
وقال عبد الله بن عباس: قَدِمَ على عمر بن الخطاب رجلٌ فجعل عمر يسأله عن الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا.
فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة ، قال: فَزَبَرَنِي([55]) عمر [t]([56]) ثم قال: مه! فانطلقتُ إلى منزلي مكتئبًا حزينًا ، فبينا أنا كذلك إِذْ أتاني رجلٌ فقال: أجب أمير المؤمنين ، فخرجتُ فإذا هو بالبابِ ينتظرني ، فأخذَ بيدي فخلا بي وقال: ما الذي كرهتَ مما قال الرجل آنفًا؟ فقلتُ: يا أمير المؤمنين متى ما يتسارعوا هذه المسارعة يحتقّوا ، ومتى ما يحتقوا يختصموا ، ومتى ما يختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ، قال: لله أبوك؛ والله إِنْ كنت لأكاتمها الناس حتى جئتَ بها.
ورُوِيَ عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي r يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: «هل مِن رجلٍ يحملني إلى قومه فإِنَّ قريشًا قد منعوني أَنْ أُبَلِّغَ كلامَ ربي».
ورُوِيَ عن جُبَيْر بن نُفَيْر؛ قال: قال رسول الله r : «إنكم لن ترجعوا بشيءٍ أفضل مما خرج منه»؛ يعني: القرآن.
ورُوي عن أبي أُمامة ، عن النبي r قال: «ما تقرَّب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه» يعني: القرآن.
ورُوِيَ عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «جَرِّدُوا القرآن ، لا تكتبوا فيه شيئًا إلا كلام الله [عز وجل]([57]) ».
ورُوِيَ عن عمر بن الخطاب؛ أنه قال: «إِنَّ هذا القرآنَ كلامُ الله فضعوه على مواضعه».
وقال رجلٌ للحسن البصري: يا أبا سعيد؛ [إني]([58]) إذا قرأتُ كتاب الله وتدبَّرْتُه ونظرتُ في عملي كدتُ أن أيأس وينقطع رجائي! قال: فقال له الحسن: «إن القرآن كلام الله ، وأعمال بني آدم إلى الضعف والتقصير؛ فاعْمَل وأَبْشِرْ».
وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنت جارًا لِخباب ـ وهو من أصحاب النبي r ـ فخرجتُ معه يومًا مِن المسجد وهو آخِذٌ بيدي فقال: «يا هناة([59]) تقرَّب لله بما استطعتَ ، فإِنَّكَ لن تتقرَّب إليه بشيءٍ أحبّ إليه مِن كلامه».
وقال رجلٌ للحكم بن عُتَيْبَة: ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: «الخصومات».
وقال معاوية بن قُرَّة ـ وكان أبوه ممن أتى النبي r ـ: «إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال».
وقال أبو قلابة ـ وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله r -: «لا تُجَالِسوا أصحاب الأهواء ـ أو قال: أصحاب الخصومات ـ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويُلبسوا عليكم بعض ما تعرفون».
ودخل رجلان مِن أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين؛ فقالا: يا أبا بكر! نحدثك بحديثٍ؟ قال: «لا». قالا: فنقرأ عليك آيةً مِن كتاب الله؟ قال: «لا؛ لتقومان عني أو لأقوم عنكما». قال: فقام الرجلان فخرجا. فقال بعض القوم: يا أبا بكر! وما كان عليك أن يقرآ عليك آيةً مِن كتاب الله [U]([60])؟ فقال محمد بن سيرين: «إنِّي خشيتُ أن يقرآ عليَّ آية فيُحرِّفانها فيقِرَّ ذلك في قلبي». فقال([61]) محمد: «لو أعلم أني أكون مثل([62]) الساعة لتركتهما».
وقال رجلٌ من أهل البدع لأيوب السختياني: يا أبا بكر! أسألك عن كلمة؟ فولَّى وهو يقول ـ بيده ـ: «ولا نصف كلمة».
وقال ابنُ طاوس لابنٍ له ـ وتكلم([63]) رجلٌ مِن أهل البدع ـ: «يا بنيَّ أَدْخِل [أصبعيك]([64]) في أذنيك لا تسمع ما يقول» ، ثم قال: «اشْدُد اشْدُد».
وقال عمر بن عبد العزيز: «مَن جعلَ دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقُّل».
وقال إبراهيم النخعي: «إِنَّ القومَ لم يُدَّخَرُ عنهم شيءٌ خُبِّيءَ لكم لفضلٍ عندكم».
وكان الحسن رحمه الله يقول: «شرُّ داءٍ خالطَ قلبًا»؛ يعني: الهوى.
وقال حذيفة بن اليمان ـ وكان من أصحاب رسول الله r ـ: «اتقوا الله معاشر القراء [و]([65]) خذوا طريق مَن كان قبلكم ، والله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا ، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا ـ أو قال: مبينًا».
قال أبي رحمه الله: وإنما تركتُ ذِكْرَ الأسانيد لما تقدم من اليمين التي حلفتُ بها مما قد عَلِمَهُ أمير المؤمنين [أيده الله تعالى]([66]) لولا ذاك ذكرتها([67]) بأسانيدها.
وقد قال الله جل ثناؤه: )وإن أحدٌ من المشركين استجارَك فأجره حتى يسمع كلام الله( [التوبة:6].
وقال: )ألا له الخلق والأمر( [الأعراف:54] فأخبر تبارك وتعالى بالخلق ثم قال: )والأمر( فأخبر أَنَّ الأمر غير الخلق.
وقال تبارك وتعالى: )الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان( [الرحمن:1-4] ، فأخبر تبارك وتعالى أن القرآن مِن عِلْمِهِ.
وقال[U]([68]): )ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير( [البقرة:120].
وقال: )ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم يتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين( [البقرة:145].
وقال[تعالى]([69]): )وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعذ الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق( [الرعد:37] فالقرآن مِن عِلْمِ الله.
وفي هذه الآيات دليلٌ على أَنَّ الذي جاءَه r هو القرآن؛ لقوله: )ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم( [البقرة:120].
وقد رُوِيَ عن غير واحدٍ ممن مضى مِن سلفنا أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، وهو الذي أذهبُ إليه؛ ولستُ بصاحبِ كلامٍ ، ولا أرى الكلام في شيءٍ مِن هذا؛ إلا ما كان في كتابِ الله أو في حديثٍ عن النبي r أو عن أصحابهِ رحمة الله عليهم([70]) أو عن التابعين [رحمهم الله]([71]) فأما غير ذلك فإِنَّ الكلام فيه غير محمود.
وإني أسأل اللهَ أَنْ يُطِيلَ بقاء الأمير ، وأن يُثَبِّتَهُ ويمده منه بمعونةٍ ، إِنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٍ»أهـ
وزَيَّفَ أبو محمدٍ التَّميمي رحمه الله قولَ أهل الضلال؛ ثم قال([72]): ولأحمد بن حنبل رحمة الله عليه فيما هذا سبيله:
عَلَيْكَ
بالعِلْمِ واهْجُرْ كلَّ مبْتَدَعٍ |
|
وكلَّ
غاوٍ إلى الأهواءِ مَيَّالُ |
ولا
تُميلُوه يا هذا إلى بِدَعٍ |
|
يُضلّكَ
أصحابُها بالقِيلَ والقالِ |
إِنَّ
القرآنَ كلامُ اللهِ أَنْزَلَهُ |
|
ليسَ
القرآنُ بمخلوقٍ ولا بالِ |
لو
أَنَّهُ كانَ مخلوقًا لصَيَّرَهُ |
|
رَيْبُ
الزمانِ إلى موتٍ وإبطالِ |
وكيف
يبطُلُ ما لا شيء يُبطلُهُ؟ |
|
وكيفَ
يَبْلَى كلامُ الخالقِ العالي؟ |
فلا
تَقُلْ بالذي قالوا وإِنْ سَفَّهوا |
|
وأَوْثَقُوكَ
بأَقْيَادٍ وأغْلالِ |
واصْبِرْ
على كلِّ ما يأْتِي الزمانُ به |
|
فالصبرُ
سِرْباله مِنْ خيرِ سِرْبالِ أهـ |
وقد اشْتَهَرَتْ هذه العقيدة عن الإمام أحمد من غير وجهٍ ، بحيثُ يُسْتَغْنَى بشهرتها عن الاستطراد في حكايتها.
ومحنتُه رحمه الله في ذلك معلومةٌ للكافة؛ حتى قال الإمام عليُّ بن المَدِيني رحمه الله: « أَيَّدَ اللهُ هذا الدين برجُلين لا ثالث لهما: أبو بكرٍ الصديق يوم الرِّدَّة ، وأحمد بن حنبل في يوم المِحْنَةِ»([73]).
بل قال المَيْموني([74]):«سمعتُ عليَّ بن المديني يقول: ما قام أحدٌ في الإسلام بعد رسول الله r ما قام أحمد بن حنبل.
قال([75]): قلتُ له: يا أبا الحَسَن([76])! ولا أبو بكرٍ الصديق؟ قال: ولا أبو بكرٍ الصديق؛ إنَّ أبا بكر الصديق كان له أعوانٌ وأصحاب ، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوانٌ ولا أصحاب»أهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
« وصار الإمام أحمد عَلَمًا لأهل السنة الجائين بعده مِن جميع الطوائف ، كلهم يوافقه في جمل أقواله وأصول مذاهبه؛ لأَنَّه حَفِظَ على الأمة الإيمانَ الموروث ، والأصول النبوية ، ممن أرادَ أن يُحَرِّفها ويبدِّلها ، ولم يشرع دينًا لم يَأْذَن الله به ، والذي قاله هو الذي يقوله سائر الأئمة الأعيان ، حتى إِنَّ أعيان أقواله منصوصة عن أعيانهم؛ لكن جمع متفرّقها ، وجاهَدَ مخالفها ، وأَظْهَرَ دلالة الكتاب والسنة عليها ، ومقالاته ومقالات الأئمة قبله وبعده في الجهمية كثيرة مشهورة([77])»أهـ
فصلٌ
في حكاية ابن الجوزي لمذاهب الناس في المسألة
وساق ابنُ الجوزي رحمه الله بإسناده عن أبي عبد الله بن مَنْدَةَ قال: «إنَّ الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار ، قرنًا بعد قرنٍ ، إلى عصرنا هذا: أجمعوا على أنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن قال غير ذلك كَفَرَ» ([78]).
ثم قال ابن الجوزي: «ونحن نقتصر على ذِكْر ما ثَبَتَ من طريق الثقة» ، فاستطردَ ابنُ الجوزي رحمه الله في تسميةِ مَنْ ذَهَبَ هذا المَذْهَب من الصحابةِ فمَنْ بعدهم مِنْ علماء البُلْدان؛ فقال:
«ذِكْر ما انتهى إلينا من قول الصحابة في ذلك([79]):
أبو بكرٍ الصديق ، عمر بن الخطاب ، عثمان بن عفان ، علي بن أبي طالب ، عبد الله بن مسعود ، خَبَّاب بن الأَرَتّ ، عبد الله بن عباس ، عبد الله بن عَمْرو ، عبد الله بن عُمَر ، عِمْران بن الحُصَيْن ، أبو سعيد الخدري ، عُبادَة بن الصامت ، أبو هريرة ، عِكْرمة بن أبي جهلٍ ، عائشة وأسماء ابنتا أبي بكرٍ ، والنجاشي أصحمة ، وأُوَيْس القَرَني؛ قالوا ذلك.
ثم لا أعرف لهم مِنَ الصحابة مخالفًا في أنَّ القرآن كلام الله U غير مخلوقٍ.
ذِكْر ما انتهى إلينا من أقاويل أهل البلدان من التابعين فمن بعدهم ، قرنًا فقرنًا إلى عصرنا هذا([80]):
أهل المدينة دار الهجرة: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن ، علي بن موسى الرِّضَى ، محمد بن مسلم الزهري ، محمد بن المنكدر ، مالك بن أنس ، عبد العزيز بن الماجِشُون ، حاتم بن إسماعيل ، إسماعيل بن أبي أُوَيْس ، عبد الله بن نافع ، مُطَرِّف بن عبد الله ، أبو مصعب الزهري ، مصعب بن عبد الله الزُّبَيْري ، أبو مروان العُثْماني ، إسحاق الحُنَيْني ، هارون بن موسى الفَرَوي ، محمد بن أبي بكرٍ الزُّبَيْري ، إبراهيم بن حمزة الزُّبَيْري ، إبراهيم بن المُنْذر الحِزَاميّ ، أبو بكر بن أبي شيبة الحِزَامي([81]) وغيرهم.
أجمعوا على أنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق.
ثم لا أعرف لهم من أهل المدينة مخالفًا من أهل الأثر والجماعة.
أهل مكة حرسها الله تعالى: مجاهد بن جَبْر ، عطاء بن أبي رباح ، عمرو بن دينار ، فُضَيْل بن عِيَاض ، سفيان بن عُيَيْنَة ، محمد بن إدريس الشافعي ، عبد الله بن يزيد المقرئ ، عبد الله بن الزُّبَيْر الحُمَيْدِيّ ، محمد بن أبي عُمر ، بكر بن خلف ، يعقوب بن حُمَيْد بن كاسب ، وغيرهم.
ولا يُعْرَفُ لهم مخالفٌ مِنْ أهل مكة من أهل الجماعة والأثر.
أهل الكوفة: الربيع بن خُثَيْم ، أبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ ، عامر الشَّعْبيّ ، إبراهيم النَّخْعي ، سُليمان الأعمش ، منصور بن المُعْتَمِر ، عبد الله بن شُبْرُمَة ، حماد بن أبي سُلَيْمان ، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، حجاج بن أرطاة ، لَيْثُ بن أبي سُلَيْم ، عُمر بن ذَرٍّ ، رَقَبَة بن مَصْقلة ، زكريا بن أبي زائدة ، سفيان بن سعيد ، شريك بن عبد الله ، عمار بن رُزَيْق ، أبو بكر بن عَيَّاش ، عبد السلام بن حرب ، الجراح بن مليح ، عمرو بن ثابت ، حفص بن غياث ، عبد الله بن إدريس ، عَبْدَة بن سليمان ، عيسى بن يونس ، وكيع بن الجراح ، أبو بدرٍ شجاع بن الوليد ، جعفر بن عون ، أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن ، عبد العزيز بن أبان ، يحيى بن آدم ، أبو أسامة ، علي بن قادم ، أحمد بن يونس ، أبو بكر بن أبي شيبة ، عثمان بن أبي شيبة ، محمد بن عبد الله بن نُمَيْر ، سفيان بن وكيع ، الحسين بن علي بن الأسود ، أبو كريب هَنَّاد بن السَّري ، أبو سعيد بن الأشجّ ، هارون بن إسحاق ، وغيرهم.
ولا يُعْرَفُ لهم مخالفٌ مِن أهل الكوفة ممَّنْ يُنْسَبُ إلى أهل الأثر والجماعة.
أهل البصرة: الحسن البصري ، قَتَادَة ، مالك بن دينار ، عبد الله بن عون ، حماد بن سلمة ، شُعْبَة ، حماد بن زيد ، سلام بن أبي مُطِيع ، هُشَيْم ، خالد بن عبد الله ، يحيى بن سعيد القَطَّان ، عبد الرحمن بن مَهْدي ، خالد بن الحارث ، يزيد بن هارون ، يزيد بن زُرَيْع ، مُعْتَمِر بن سُلَيمان ، بِشْر بن المُفَضَّل ، بِشْر بن منصور ، معاذ بن معاذ العنبري ، محمد بن يزيد ، وهب بن جرير ، أبو عاصم النبيل ، مُؤَمَّل بن إسماعيل ، روح بن عُبادة ، أبو داود الطيالسي ، حَجَّاج بن مِنْهال ، عَفَّان بن مُسْلم ، سليمان بن حرب ، عبد الله بن مَسْلَمَة القَعْنَبِيّ ، عاصم بن عليٍّ ، سعيد بن سليمان ، أبو موسى محمد بن المثنَّى ، محمد بن بَشَّار ، زكريا بن يحيى زَحْمُوْيَه([82]) ، شيبان بن فَرُّوخ ، يحيى بن كثيرٍ.
ثم لا أعرف لهم من أهل البصرة من أهل الجماعة والأثر مخالفًا.
وعليُّ بن المديني: أجاب في المحنةِ؛ ثم رجع إلى قول أهل السنة([83]).
أهل اليمن: طاوس ، ومن بعده: عبد الرَّزَّاق ، ويزيد بن أبي حكيم العدني.
ثم لا يعرف لهم مخالف باليمن من أهل الأثر والجماعة.
أهل الشام والجزيرة: سليمان بن عمرو القاضي ، أرطأة بن المنذر ، سالم الأفطس ، خُصَيْف ، مروان بن محمد ، محمد بن يوسف الفِريْابي ، ضَمْرة بن سعيد ، بَقِيَّة بن الوليد ، أبو مُسْهر ، محمد بن سلمة الحرَّاني ، أبو اليمان ، مُبَشَّر بن إسماعيل ، أبو توبة الربيع بن نافع ، آدم بن أبي أياس ، حيوة بن شُريح ، يزيد بن عبد ربه ، مُعافَى بن عمران ، زيد بن أبي الزرقاء ، القاسم بن يزيد الجَرْمي ، سعيد بن المغيرة الصيَّاد ، هشام بن عَمَّار ، دُحَيْم بن إبراهيم ، سُليمان بن شرحبيل ، صفوان بن صالح ، مُؤَمَّل بن إهاب ، أحمد بن عبد الرحمن بن مُفَضَّل ، عبد الله النُّفَيْلي ، سعيد بن حفص النُّفَيْلي ، أبو الأصبع الحرّاني ، أحمد بن أبي شعيب الحرّاني ، الوليد بن مُسَرَّح ، وغيرهم.
ثم لا أعرف لهم مخالفًا من أهل الجزيرة والشام ممن يُنسب إلى الجماعة والأثر.
أهل الثغر: أبو إسحاق الفزاري ، يوسف بن أَسْباط ، يحيى بن خلف الطَّرسُوسِي ، علي بن مضاء ، أبو يوسف القُلُوسي ، عبد الله بن محمد الضعيف ، عبد الرحمن بن سلام.
ثم لا أعرف فيهم خلافاً.
أهل مصر: الليث بن سعد ، عبد الله بن لَهِيعَه ، عبد الله بن وهب ، أبو الأسود النضر بن عبد الجبار ، عمرو بن الربيع بن طارق ، أبو يعقوب البويطي ، أصبغ بن الفرج ، وغيرهم.
ثم لا يُعرف مِن أهل مصر مخالفٌ مِن أهل الأثر والجماعة.
أهل خراسان: إبراهيم بن طَهْمَان ، خَارجَة بن مُصْعَب ، عبد الله بن المبارك ، النَّضْر بن محمد الَمْروزَي ، مُقَاتِل بن سُلَيْمان ، يحيى بن معروف ، النضر بن شُميل ، محمد بن ميسرة ، إبراهيم بن رستم ، سلم بن سالم ، علي بن الحسن بن شقيق ، عبدان بن عثمان ، سعيد بن هُبَيْرة ، يعمر بن بشر ، محمد بن سلام البخاري ، علي بن حُجر ، إسحاق بن راهوَيه ، أحمد بن شَبُّوَيه ، حِبَّان بن موسى ، يحيى بن يحيى النَّيْسَابوري ، محمد بن نصر ، محمد بن معاوية ، محمد بن منصور الطُّوسِي ، محمد بن كثير النَّيسَابوري ، محمد بن إسحاق بن خُزَيْمَة ، محمد بن إسحاق السَّرَّاج ، الحسين بن حُرَيْث ، أحمد بن سلمة ، وغيرهم.
ثم لا يُعرف لهم مخالفٌ مِن أهل الجماعة والأثَر.
أهل بغداد: حسن بن موسى الأشْيَب ، حَجَّاج بن شُعَيْب بن حَرْب ، أبو النَّضْر هاشم بن القاسم ، معاوية بن عمرو ، شَبَانَة بن سَوَّار ، أحمد بن حنبل ، يحيى بن مَعِين ، أبو عُبَيْد القاسم بن سلام ، منصور بن عمار ، عصْمة ابن سُلَيْمَان ، أبو نصر التَّمَّار ، أبو إبراهيم التًّرْجُماني ، أبو خَيْثَمَة زُهَيْر بن حرب ، داود بن رُشَيْد ، يحيى بن أيوب ، سُويد بن سعيد ، إسحاق بن أبي إسرائيل ، الحسن الحلواني ، عباس العَنْبَري ، سعيد بن يحيى الأُموي ، عبد الوهاب بن الحكم الوراَّق ، إبراهيم بن عَرْعَرَة ، زُهَيْر بن نُعيم البابي ، الهَيْثم بن خَارجة ، الحكم بن موسى ، جابر بن كُردي ، يحيى بن عثمان الحربي ، الحسن بن عرفة ، بنو إشكاب ، يحيى بن أبي طالب ، عبد الله بن أحمد بن حنبل ، موسى بن هارون الحَمَّال ، وغيرهم.
ولا يُعرف لهم مخالفٌ مِن أهل الجماعة والأثر.
أهل الري والجبل: جرير بن عبد الحميد ، عُثمان بن رائدة ، إسحاق بن سُليمان الراوي ، يحيى بن الضّرَِيْس ، الحكم بن بشير ، حَكَّام بن سَلْم ، عبد العزيز بن أبي عثمان ، الفرات بن خالد ، أَشْعَث بن عَطَّاف ، هشام بن عبيد الله ، الحارث بن مسلم ، محمد بن سعيد بن سابق ، محمد بن مُسلم بن وَارَة ، أبو زُرْعَة ، وأبو حاتم ، وغيرهم.
ولا يُعرفُ لهم مخالفٌ مِن أهل الأثر والجماعة.
أهل أصبهان: عصام بن يوسف جَبَّر ، محمد بن النعمان بن عبد السلام ، عبد الله بن عمر بن يزيد ، أحمد بن الفرات ، عبد الله بن محمد بن النعمان.
ولا يُعرف لهم في البلد مخالفٌ ممَّن تقدَّم أو تأخَّر.
ولا يُعرف لِمَنْ ذكرنا مِن أئمة البلدان مخالفٌ مِن أهل الجماعة والأثر ، جَعَلَنَا اللهُ ممن تمسَّك (بالسُّنَّةِ)([84]) ، إنه على ذلك قدير» انتهى.
فصلٌ
من كتب العقائد سلفًا وخلفًا
وقد تواطأت كتب العقائد سلفًا وخلفًا على الإسفار عن هذا الأصل ، ولم يخل من نصٍّ على هذا الأصل السلفيِّ كتابُ اعتقادٍ؛ بل أَفْرَدَهُ بعض الأئمة بالتصنيف ، وتَتَابَعَ أهلُ السنة والجماعة رضي الله عنهم في الرَّد على أهل البدع والأهواء المخالفين في هذا الأصل.
فمِن ذلك:
الإمام البخاري
رحمه الله تعالى
فصنَّفّ الإمام البخاريّ رحمه الله في ذلك كتابه: «خَلْق أفعال العباد» وبسط فيه الردَّ على الجهمية؛ وقال:
«نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيتُ أضل في كفرهم منهم ، وإني لأستجهل من لا يكفرهم؛ إلاَّ مَن لا يعرف كفرهم».
وقال:
«ما أُبالي صليت خلف الجهمي والرافضي أم صليتُ خلف اليهود والنصارى ، ولا يُسَلَّم عليهم ، ولا يُعادون ، ولا يُناكحون ، ولا يُشهَدون ، ولا تُؤْكَل ذبائحهم».
وقال: «والقرآن كلام الله غير مخلوق؛ لقول الله عز وجل: )إنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَوَاتِ واَلأَرْضَ فِي ستَّة أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره( [الأعراف:54].
فبين أَنَّ الخلائق والطلب والحثيث والمسخرات بأمره شرحٌ؛ فقال: )ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( [الأعراف:54]»أهـ
ثم بسط رحمه الله النَّقل والكلام في ذلك([85]).
أبو حاتم وأبو زُرْعَة الرازيان
رحمهما الله تعالى
وقال أبو حاتمٍ وأبو زُرْعَة الرازيان رحمهما الله تعالى:
«أَدْرَكْنا العلماءَ في جميع الأمصارِ: حجازًا ، وعِراقًا ، ومِصْرًا ، وشامًا ، ويَمَنًا؛ فكان مِن مذهبهم: أَنَّ القرآنَ كلامُ الله غير مخلوقٍ بجميع جهاته...
ومَن زعمَ أَنَّ القرآنَ مخلوقٌ؛ فهو كافرٌ بالله العظيم ، كفرًا ينقل عن الملَّةِ.
ومَن شكَّ في كفرِه مِمَّنْ يفهم: فهو كافرٌ.
ومَن شكَّ في كلامِ الله فوَقَفَ فيه شاكًّا يقول: لا أدري مخلوق أو غير مخلوق؛ فهو جَهْمِيٌّ.
ومَن وقَفَ في القرآن جاهلاً عُلِّمَ وبُدِّعَ ، ولم يُكَفَّرْ.
ومَن قال: لفظي بالقرآن مخلوق – أو القرآن بلفظي مخلوق – فهو جَهْمِيٌّ([86])»أهـ
وبَسَطَا رحمهما الله الكلام في ذلك.
الإمام ابن جرير الطبري
رحمه الله تعالى
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمة الله عليه:
«والصواب في ذلك من القول عندنا: قول من قال: ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ».
وبَيَّنَ رحمة الله عليه وَجْه ذلك ، وختم ذلك بتصحيح أنَّ القرآن: «كلام الله صفة له ، غير خالقٍ ولا مخلوق. وأنَّ معاني الخَلْقِ عنه مَنفيِّةٌ([87])»أهـ
الإمام ابن خُزَيْمَة
رحمه الله تعالى
وقال الإمام ابن خُزَيْمة رحمة الله عليه في أثناء كلامه على هذه المسألة:
«باب: مِن الأدلة التي تدلُّ على أَنَّ القرآنَ كلام اللهِ الخالق ، وقوله ، غير مخلوقٍ ، لا كما زعمتِ الكفرة مِن الجهمية المعطِّلَةِ([88])»أهـ
ثم بَرْهَنَ رحمه الله على ذلك.
الإمام الطحاوي
رحمه الله تعالى
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله:
«وأنَّ القرآنَ كلام الله ، منه بدأ بلا كيفيةٍ قولاً ، وأنزله على رسوله وحيًا ، وصدَّقَهُ المؤمنون على ذلك حقًّا ، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقةِ ، ليس بمخلوقٍ ككلام البريَّة ، فمَن سَمِعَهُ فزعمَ أنَّه كلام البشر فقد كفر ، وقد ذَمَّهُ الله وعابَهُ وأَوْعَدَهُ بسقر ، حيثُ قال تعالى: )إِنْ هذا إلا قول البشر( [المدثر:25] عَلِمْنا وأَيْقَنَّا قول خالق البشر ، ولا يشبه قول البشر([89])»أهـ
قال الشارح للطحاوية:
«هذه قاعدة شريفة ، وأصلٌ كبير من أصول الدين ، ضلَّ فيه طوائف كثيرة مِن الناس.
وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلَّتْ عليه الأدلة مِن الكتاب والسنة لِمَنْ تدبَّرَهما ، وشَهِدَتْ به الفِطرة السليمة التي لم تُغَيَّر بالشُّبُهات والشكوك والآراء الباطلة»أهـ
ثم بسط رحمه الله الكلامَ على ذلك.
الإمام الآجُرِّيُّ
رحمه الله تعالى
وقال الإمام محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ رحمه الله:
«اعلموا رحمنا الله وإياكم: أنَّ قول المسلمين الذين لم تَزِغْ قلوبهم عن الحقِّ ، ووفِّقوا للرَّشادِ قديمًا وحديثًا: إِنًَّ القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوقٍ؛ لأنَّ القرآن مِن عِلْم الله تعالى ، وعِلْمُ الله عز وجل لا يكون مخلوقًا ، تعالى الله عز وجل عن ذلك.
دلَّ على ذلك القرآن والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم وقول أئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم ، لا يُنكر هذا إلا جهميٌّ خبيثٌ ، والجهميةُ عند العلماء كافرةٌ([90])»أهـ
ثم فَصَّلَ رحمه الله ما أجْمَلَه ، فساق الآيات والأحاديث الدالة على ذلك ، مع جملةٍ مِن الآثار السلفية في الباب.
الإمام ابن بطة العُكْبري
رحمه الله تعالى
وقال الإمام ابن بطة العُكْبري رحمه الله:
«ثم بعد ذلك أَنْ يعلم بغير شكٍّ ولا مِرْيةٍ ولا وقوفٍ أَنَّ القرآن كلام الله ، ووحيه ، وتنزيله ، فيه معاني توحيده ، ومعرفة آياته ، وصفاته ، وأسمائه ، وهو عِلْمٌ مِنْ عِلْمِهِ ، غير مخلوقٍ ، وكيف قُرِئَ ، وكيف كُتِبَ ، وحيثُ تُلِيَ ، وفي أَيِّ موضعٍ كان ، في السماء وُجِدَ أو في الأرضِ ، حُفِظَ في اللوح المحفوظ وفي([91]) المصاحف وفي ألواح الصبيان مرسومًا ، أو في حَجَرٍ منقوشًا ، وعلى كلِّ الحالات ، وفي كلِّ الجهات؛ فهو كلام الله غير مخلوق.
ومَن قال: مخلوق ، أو قال: كلام الله وَوَقَفَ ، أو شكَّ ، أو قال بلسانه وأضْمَرَهُ في نفسه: فهو بالله كافرٌ ، حلال الدم ، بريء مِن الله ، والله منه بريءٌ ، ومَن شكَّ في كفره ، ووَقَفَ عن تكفيره: فهو كافرٌ؛ لقول الله عز وجل: )بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ( [البروج:21 ـ 22].
وقال تعالى: )حتى يسمع كلام الله( [التوبة:6].
وقوله تعالى: )ذلك أمر الله أنزله إليكم( [الطلاق:5].
فمَنْ زَعَمَ أَنَّ حرفًا واحدًا منه مخلوق؛ فقد كَفَرَ لا محالة؛ فالآي في ذلك مِن القرآن ، والحجة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أكثر مِن أَنْ تُحْصى ، وأَظْهَر مِن أَنْ تخْفى([92])»أهـ
وقال ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى في ذِكْرِ مقاصد تأْلِيفه «الإبانة» ([93]):
«وأُحَذِّرُهم([94]) مقالةَ جهمِ بن صفوان وشِيعته ، الذين أَزَاغَ الله قلوبهم ، وحجَبَ عن سُبُلِ الهدي أبصارهم؛ حتى افتروا على الله عز وجل بما تقشعِرّ منه الجلود ، وأَوْرَثَ القائلين به نار الخلود؛ فزعموا أَنَّ القرآن مخلوق.
والقرآن مِن عِلْمِ الله تعالى ، وفيه صفاته العليا ، وأسماؤه الحسنى ، فمَنْ زعمَ أَنَّ القرآن مخلوقٌ؛ فقد زعمَ أنَّ الله كان ولا عِلْم ، ومَن زعمَ أَنَّ أسماء الله وصفاته مخلوقة؛ فقد زعمَ أَنَّ الله مخلوقٌ مُحْدَثٌ ، وأَنَّه لم يكن ثم كان ، تعالى الله عما تقوله الجهمية الملحدة عُلُوًّا كبيرًا ، وكلما([95]) تقوله وتنتحله؛ فقد أَكْذَبَهم الله عز وجل في كتابه ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي أقوال الصحابة ، وإجماع المسلمين في السابقين والغابرين؛ لأنَّ الله عز وجل لم يزل عالمًا سميعًا بصيرًا مُتكلِّمًا ، تامًّا بصفاته العليا وأسمائه الحسنى ، قبل كون الكون ، وقبل خلق الأشياء ، لا يدفع ذلك ولا ينكره إلا الضالّ الجحود الجهمي المكذِّب بكتاب الله وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
وسنذكر مِنْ كتاب الله وسنة نبيِّه وإجماع المسلمين ما دلَّ على كفر الجهمي الخبيث وكذبه؛ ما إذا سَمِعه المؤمن العاقل العالِم؛ ازداد بصيرةً وقوةً وهدايةً ، وإِنْ سَمِعَهُ مَنْ قد داخَلَهُ بعض الزيغ والرّيب ، وكان لله فيه حاجة ، وأَحَبَّ خَلاصَهُ وهدايته؛ نَجَّاهُ ووقاه ، وإِنْ كان ممَّن قد كُتِبَت عليه الشِّقْوَة؛ زادَهُ ذلك عُتُوًّا وكفرًا وطغيانًا.
ونستوفق الله لصواب القول وصالح العمل»أهـ
ثم طَوَّلَ ابنُ بطَّة رحمة الله عليه في تفصيل هذا الباب([96]).
الإمام اللالكائي
رحمه الله تعالى
وقال الإمام أبو القاسم اللالكائي رحمه الله تعالى:
«سياق ما وَرَدَ في كتاب الله مِن الآيات ممَّا فَسَّر أو دلَّ على أنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق»([97]).
فذكر الآيات الواردة في الباب؛ ثم قال:
«سياق ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أَنَّ القرآن مِن صفات الله القديمة»([98]).
فذكر رحمه الله الروايات الدالة على ذلك؛ ثم قال:
«سياق ما رُوِيَ مِن إجماع الصحابة على أَنَّ القرآن غير مخلوق»([99]).
فذكر ذلك ثم قال:
«ذِكْر إجماع التابعين»([100]) ، ثم «ما رُوِيَ عن أَتْباع التابعين»([101]).
فذكر أقاويلهم ، وما رُوِيَ عن جماعتهم مِن بلدانٍ شتى ، وطبقاتٍ متفاوتة.
الإمام أبو عثمان الصابوني
رحمه الله تعالى
وقال شيخ الإسلام الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني رحمه الله تعالى (ت449):
«ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أَنَّ القرآن كلام الله ، وكتابه ، وتنزيله ، غير مخلوق ، ومَن قال بخلقِه واعتقده فهو كافرٌ عندهم([102])»أهـ
الإمام البيهقي
رحمه الله تعالى
وقال الإمام أبو الحسين البيهقي رحمه الله تعالى:
«القرآن كلام الله عز وجل ، وكلام الله صفةٌ من صفاتِ ذاته ، ولا يجوز أن يكون من صفات ذاته مخلوقًا ، ولا مُحْدَثًا ، ولا حادِثًا»([103]).
قال البيهقي:
«وهو مذهب كافة أهل العلم قديمًا وحديثًا([104])»أهـ
الإمام البغوي
رحمه الله تعالى
وقال الإمام البغوي رحمه الله:
«وقد مضى سلف هذه الأمة ، وعلماء السنة على أَنَّ القرآنَ كلامُ الله ، ووَحْيُهُ ، ليس بخالقٍ ولا مخلوق ، والقول بخلق القرآن بدعةٌ وضلالة ، لم يتكلَّم بها أحدٌ في عهد الصحابة والتابعين رحمهم الله([105])»أهـ
وبسطَ رحمه الله الكلام في ذلك.
الإمام ابن الجوزي
رحمه الله تعالى
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
«لم يزل الناسُ على قانون السلف وقولهم: إِنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق ، حتى نَبَغَت([106]) المعتزلةُ فقالت بخلق القرآن ، وكانت تَسْتُر ذلك ، وكان القانون محفوظًا في زمن الرشيد».
قال ابن الجوزي: «فلمَّا تُوفِّيَ الرشيدُ كان الأمر كذلك في زمن الأمين ، فلمَّا وَلِيَ المأمون خَالَطَهُ قومٌ مِن المعتزلة فَحَسَّنوا له القولَ بخلق القرآن ، وكان يتردَّدُ في حَمْلِ الناس على ذلك ، ويُراقب بقايا الأشياخ ، ثم قَوِيَ عزمُه على ذلك فَحَمَلَ الناسَ عليه([107])»أهـ
وبئس ما فعل؛ والله المستعان.
الإمام أبو محمدٍ التيمي
رحمه الله تعالى
وقال الإمام أبو محمدٍ التيمي رحمه الله:
«فصل: وهذا فرقة اللفظية ، لم يقع لي اسم شيخهم فأذكره؛ لكنهم قالوا: ألفاظهم بالقرآن مخلوقة ، وكلام الله تعالى عندهم ليس بسموع.
وهذا بخلاف قوله تعالى: )قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين( [الأعراف:144].
فمَن زَعَمَ أَنَّ موسى عليه السلام لم يسمع مِن الله كلامًا؛ فقد كَفَرَ ، فالحَذَر منهم»([108]).
قال أبو محمدٍ رحمه الله:
«فأما القرآن عندنا فغير مُحْدَثٍ فيكون مخلوقًا؛ بل هو كلام الله تعالى ، منه بَدَأَ ، وإليه يعودُ ، والكلام مِن الذات ، والذات قديمة لا نهاية لها؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى: )وكلم الله موسى تكليمًا( [النساء:164] ، وبقوله: )الرحمن علم القرآن خلق الإنسان( [الرحمن:1ـ3].
فذكر أنَّه علَّمَهُ ولم يخلقه كالإنسان ، ففرَّقَ بين الخلق والتعليم؛ لأنَّ الإنسان مِن خلقه ، والقرآن مِن عِلْمِه ، وفيه أسماؤه؛ كالرحمن الرحيم وغير ذلك ، فلو كان القرآن مخلوقًا كما ذهبوا إليه؛ لوجبَ أنْ تكونَ أسماؤه مخلوقة؛ لأنَّها منه ، وإذا لم يَجُزْ أَنْ تكون مخلوقة؛ فقد صحَّ أَنَّ القرآنَ غير مخلوقٍ ، وبطلَ ما ذهبوا إليه ، وفي هذا كفايةٌ والحمد لله([109])»أهـ
شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية
رحمه الله تعالى
وقال شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
«ومِن الإيمان بالله وكُتُبه: الإيمانُ بأنَّ القرآن كلامُ الله ، مُنَزَّلٌ ، غيرُ مخلوقٍ؛ منه بدأَ ، ن وإليه يعودُ»([110]).
وقال في موضعٍ آخر:
«والقرآن كلام الله ليس بمخلوقٍ ، ولا حالٌّ في مخلوقٍ؛ وأَنَّه كيفما تُلِيَ ، وقُرِئَ ، وحُفِظَ؛ فهو صفة الله عز وجل ، وليس الدرس مِن المدروس ، ولا التلاوة مِن المتلوّ؛ لأنَّه عز وجل بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق ، ومَن قال بغير ذلك فهو كافرٌ([111])»أهـ
الإمام ابن القيم
رحمه الله تعالى
وقال الشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في قصيدته المشهورة([112]):
«واللهُ
ربِّي لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا |
|
وكلامُهُ
المسموعُ بالآذانِ |
صِدْقًا
وعدْلاً أُحْكِمَتْ كلماتُه |
|
طلبًا
وإِخْبارًا بلا نقصانِ |
ورسولُه
قد عاذَ بالكلماتِ مِن |
|
لدغٍ
ومِن عينٍ ومِن شيطانِ |
أَيُعَاذُ
بالمخلوقِ حاشاهُ مِن الْـ |
|
إِشْراكِ
وهو مُعَلِّمُ الإيمانِ |
بل عاذَ بالكلماتِ وهي صفاتُه |
|
سبحانه
ليْسَتْ مِنَ الأكوانِ |
وكذلكَ
القرآن عينُ كلامِه الْـ |
|
مسموع
منه حقيقة ببيانِ |
هو
قولُ ربِّي كلُّه لا بعضُه لفظًا |
|
ومعنًى
ما هما خَلْقَانِ |
تنزيلُ
ربِّ العالمينَ وقولُه |
|
اللفظُ
والمعنى بلا روغانِ»أهـ |
فصلٌ
وهذا كلُّه مقرَّرٌ في كتب أهل العلم مِن أهل السنة والجماعة رضي الله عنهم ، ببيانٍ واضحٍ ، وأدلةٍ قطعية الثبوت والدلالة ، وفيما مضى مِن أقوالهم كفايةٌ ومقنعٌ لكلِّ منصفٍ([113]).
فصلٌ
في معنى قولِهم: «مِنْه بَدَأَ وإِليهِ يَعود»
ومعنى ذلك أنَّ الله U قد تكلَّمَ بالقرآن حقيقةً, ولم يخلقه أو يُجْريه على لسانِ غيره كما تذهب إليه الجهميّه قاتلهم الله؛ وإنما تكلم به I على الحقيقة, وأوحاه إلى نبيِّهr .
ومعنى «إليه يعود»: يعني أنه يرفعه إليه ثانية, فلا يترك منه شيئًا في صدور العباد, وذلك في آخر الزمان, كما وردت النصوص بذلك في أمارات الساعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولما جاءت مسألة القرآن؛ ومِن الإيمان به؛ الإيمان بأنَّ القرآن كلام الله, غير مخلوق, منه بدأ وإليه يعود: نازع بعضُهم في كونه منه بدأ وإليه يعود, وطلبوا تفسير ذلك؛ فقلت: أما هذا القول: فهو المأثور, الثابت عن السلف؛ مثل: ما نقله عمرو بن دينار قال: أدركتُ الناسَ منذ سبعين سنة؛ يقولون: الله الخالق, وما سواه مخلوق؛ إلاَّ القرآن([114]) فإِنَّهُ كلام الله غير مخلوق, منه بدأ وإليه يعود.
وقد جمع غيرُ واحٍد ما في ذلك من الآثار عن النبيِّ r والصحابة والتابعين؛ كالحافظ أبي الفضل بن ناصر ، والحافظ أبي عبد الله المقدسي.
وأما معناه؛ فإنَّ قولهم: منه بدأ؛ أي هو المتكلِّم به ، وهو الذي أنزلَهُ مِن لدنه ، ليس هو كما تقول الجهمية: إنه خُلِق في الهوى([115]) أو غيره ، أو بدأ من عند غيره.
وأما إليه يعود: فإِنَّهُ يُسْرَى به في آخر الزمان ، من المصاحف والصدور ، فلا يَبقى في الصدور منه كلمة ، ولا في المصاحف منه حرف.
ووافق على ذلك غالبُ الحاضرين ، وسكت المنازعون .....([116]) »أهـ
تنبيه مهمٌّ:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «قال الأئمة كلام الله من الله ، ليس ببائنٍ عنه ، .. وأن قول السلف: منه بدأ لم يريدوا به أنه فارق ذاته وحل في غيره ، فإن كلام المخلوق بل وسائر صفاته لا تفارقه وتنتقل إلى غيره ، فكيف يجوز أن يفارق ذاتَ الله كلامُه أو غيره من صفاته؛ بل قالوا: منه بدأ؛ أي: هو المتكلم به؛ ردًّا على المعتزلة والجهمية وغيرهم الذين قالوا: بدأ من المخلوق الذي خُلِقَ فيه ، وقولهم([117]): إليه يعود؛ أي: يسري عليه فلا يبقى في المصاحف منه حرفٌ ، ولا في الصدور منه آية»([118]).
وقال في موضعٍ آخر:
«... فإِنَّه منه بدَأَ لا كما يقوله الصابئة ومَن وافقهم مِن الجهمية أَنَّه ابتدأَ مِن نَفْسِ النبيِّ ، أو مِن العقلِ الفعال ، أو مِن الهواء؛ بل هو تنزيل من حكيم حميد ، وأَنَّه إليه يعود إِذا أُسْرِيَ به مِن المصاحفِ والصدور([119])»أهـ
وقال الشيخ عبد الله بن يوسف الجُدَيع حفظه الله: «ويجب أن يُعْلَم أَنه ليس معنى قولهم: (منه خرج) أَنَّ صفة الكلام فارَقَتْهُ تعالى ، وحلَّتْ في غيره ، وأنَّ ما تكلَّمَ به نُسِبَ إلى غيره ، وصار وصفًا لذلك الغير ـ كما قد وَسْوَسَ به بعض أهل البدع ـ؛ فإِنَّ هذا المعنى لا يُعْقَلُ في حقِّ الإنسانِ المخلوق الضعيف ، إذا تكلم بكلامٍ تزول عنه صفة الكلام بذلك وتُفارقه إلى غيره ، فإِنَّ مَن كان كذلك لم يُمكنه الكلام إلا مرةً واحدةً ، فإذا تكلَّمَ هذه المرة فارَقَته صفته؛ لأنَّ الكلام خرج منه وفارَقَهُ ، وبمفارقتهِ زالتْ عنه الصِّفة ، ولَحِقَتْ غيره.
هذا كلامٌ لا يقوله مَن يدري ما يقول؛ فإِنَّ مَن وُصِفَ بالكلام على هذا المعنى موصوفٌ بالعجزِ عنه ، وهو غير مُتَصَوَّرٌ في حقِّ الناطق المخلوق على ضعفه ، فكيف تَصَوَّرَهُ هؤلاء الضُّلال في حقِّ الله الذي ليس كمثله شيءٌ ، فإِنَّهُ تعالى وصفَ نفسَهُ بأنه متكلِّمٌ بكلامٍ مُتَعَلِّقٌ بمشيئته وقدرته ، يُسْمِعه مَن شاء مِن خلقه ، متى شاء ، وأَنَّ كلماته تعالى لا تنفد ، ومَن كان هذا وصفه لم تُفَارِقه صفته بِتَكَلُّمِه مرةً أو مرات ، وكلّ ما تكلَّمَ به منسوبٌ إليه لا إلى غيره.
قال الإمام الحافظ أبو الوليد الطيالسي: (القرآن كلام الله ليس ببائِنٍ مِن الله).
وقال شيخ الإسلام([120]): (وإِنَّ قول السلف: (منه بدا) لم يُريدوا به أنه فارَق ذاته ، وحَلَّ في غيره؛ فإِنَّ كلام المخلوق؛ بل وسائر صفاته لا تُفارقه وتنتقل إلى غيره ، فكيف يجوز أَنْ يفارق ذاتَ الله كلامُه أو غيره مِن صفاته).
قلتُ([121]): قال الله تعالى: )وإن أحدٌ مِن المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله( [التوبة:6] فالذي يسمعه المشرك المستجير مِن القارئ إنما هو كلام الله المضاف إليه لا إلى غيره ، فلو أَنَّ كلامَه بانَ منه وفارَقَه لَمَا صحَّتْ إضافته إليه إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهذا الكلام بعينه هو الذي في مصاحف المسلمين بلا شكّ ولا رَيْب ، خلافًا لِلَّفْظِيَّةِ مِن الأشعرية وغيرهم القائلين بأنَّ ما في المصاحف دلالة على كلام الله ، وليس هو كلام الله ، وقد قال الله تعالى: )إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين( [الواقعة:77-80] فأبانَ أَنَّ كلامَه الذي هو وَحْيه وتنزيله يكون في الكتاب المكنون؛ فكذلك كونه في المصاحف ، ونحن لا نعلم القرآن إلا هذا العربيّ المُنَزَّل ، وهو الذي سَمَّاهُ الله تعالى كلامَه([122])»أهـ
فصلٌ
في القرآن الذي هو كلام الله U
فإذا تقرَّر هذا الأصل؛ فاعلم أن القرآن الذي هو كلام الله U هو الموجود بين أيدي المسلمين ، المحفوظ في صدور الرجال ومصاحفهم ، بنظمه وحروفه ومعانيه ، ليس كلام الله U الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف ، وقد تَميَّز القرآن بذلك عن غيره من أصناف الوحي؛ كالأحاديث القدسية التي يكون فيها اللفظ من جهة النبيّ r ، ويكون معناها من جهة المولى I ، وأما القرآن فهو كلام الله U بحروفه ومعانيه ونظمه ، وإعراب حروفه داخلٌ في كلامه سبحانه؛ لأنَّهُ من تمام الحروف.
والإيمان بذلك كله: مِن تمام الإيمان بالله وكتبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
«ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله ، منزلٌ غير مخلوق ، منه بدأ ، وإليه يعود ، وأن الله تعالى تكلَّم به حقيقةً ، وأنَّ هذا القرآن الذي أنزله على محمد r هو كلام الله حقيقة ، لا كلام غيره ، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله ، أو عبارة عنه ، بل إذا قَرَأَهُ الناسُ أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقةً ، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مُبْتَدِئًا ، لا إلى من قاله مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا.
وهو كلام الله؛ حروفه ومعانيه ، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف»([123]).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في موضعٍ آخر:
«والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه ، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله ، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف؛ كما قال النبي r: «من قرأَ القرآنَ فَأَعْرَبَهُ فله بكل حرف عشر حسنات»([124]) ، وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: حِفْظُ إعراب القرآن أحبّ إلينا من حِفْظِ بعض حروفه([125])»أهـ
وقال فضيلة الشيخ حسن مأمون مفتي مصر سابقًا رحمه الله تعالى:
«القرآن كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على سيدنا محمد r؛ لهداية الناس ، وبيان الأحكام التي تعبَّدَ الله الناس بها ، وكلَّفَهم باتِّباعها ، والقرآن وحيٌ متلوٌّ ، سَمِعَهُ الرسول من الوحي ، وحَفِظَهُ بألفاظه وعباراته ، ووعاه ، وأبلَغَهُ كما سمعه إلى أصحابه ، ودعاهم إلى حِفْظِه ، وتَفَهُّم معانيه ، والعمل به ، فحفظوه ، وفهموا معانيه ، وعملوا بأحكامه ، ونُقِلَ إلينا بطريق التواتر ، وثبت على وجه القطع ، ورَوَوْهُ عن الله I ، وصَدَقَ ما وَعَدَ الله به رسولَهُ: )إنا نحن نزلنا الذكر وآنا له لحافظون( [الحجر: 9]([126])»أهـ
البابُ الثَّاني
في
بعْضِ اللَّوازِمِ الواجبَةِ تجَاه كلامِ الله سبحانه وتعالى
تمهيد
سبق في الباب الأولِ بيان مذهب أهل الحقِّ في القرآن المقدَّس ، وأَنَّهُ كلامُ الله تعالى غير مخلوقٍ ، وسبق ذِكْر أدلتِهِم في ذلك من القرآن والسنة وإجماع السلف والخلف.
وبناءً على ذلك تَمَيَّزَ القرآن المقدَّس عن كلام البشر بخصائص ومميِّزَاتٍ لا يشاركه فيها غيره؛ نظرًا للاختلاف والتبايُنِ بين المتكلِّمِ بالقرآن سبحانه وتعالى ، وبين سائر المتكلِّمين من البشر.
فكما أنَّ ذاتَ الله سبحانه لا تُشْبِه ذات أحدٍ من خَلْقِه فكذلك كلامه عز وجلَّ لا يُشْبه كلام أحدٍ من خَلْقِهِ؛ إِذِ الكلام في الصفاتِ فرعٌ عن الكلامِ في الذَّاتِ ، وصفات الله تعالى مُتَعَلِّقةٌ بذاته سبحانه وتعالى ، ولها أحكام الذَّات.
فدلَّ هذا وغيره على التبايُن والاختلاف بين كلام الله تعالى ، وبين كلام البشر ، سواءٌ في خصائصه ، أو في توابعه وما يلزم نحوه في رقبة الإنسان.
ويُؤَكِّد هذه الحقيقة:
قاعدة
القول في الصفات كالقول في الذّات
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «القول في الصفات كالقول في الذات؛ فإن الله ليس كمثله شيءٌ ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فإذا كان له ذات حقيقة لا تُمَاثِلُ الذوات؛ فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تُمَاثِل سائر الصفات.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضى الله عنهما: الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤالٌ عما لا يعلمه البشر ، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته ، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إِذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف ، وهو فرعٌ له ، وتابعٌ له ، فكيف تطالبنى بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنتَ لا تعلم كيفية ذاته ، وإذا كنتَ تُقِرُّ بأَنَّ له حقيقةً ثابتةً في نفس الأمر مستوجبةً لصفات الكمال لا يُمَاثلها شيءٌ فسَمْعُه وبصَرُه وكلامُه ونزولُه واستواؤه ثابتٌ في نفس الأمر ، وهو متصفٌ بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سَمْعُ المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم»([127]).
- ويلزم من هذا:
استواء الذات مع الصفات الإلهية في إثبات الوجود ونفي الكيفية.
- ويلزم من ذلك أيضًا:
استواء الإثم والعقاب فيمَنْ سَبَّ الذات أو الصفات ، أو استهزأَ بهما ، أو بأحدهما؛ لأنَّ سبَّ الصفة سَبٌّ للموصوف ، كما أنَّ سبَّ الموصوف سبٌّ لذاته وصفاته وأفعاله.
قاعدة أخرى
وهي أَنَّ صفاتُ الله تعالى متعلِّقةٌ بذاته الكريمة لا تُبَاين الذَّات ولا تَنْفَكّ عنها
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «لفظ الذات في لغتهم لم يكن كلفظ الذات في اصطلاح المتأخرين ، بل يُرَادُ به ما يُضاف إلى الله ، كما قال خُبَيْبٌ t:
وَذَلِكَ في ذَاتِ الإِلهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ على أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ومنه الحديث: «لم يَكْذِبْ إبراهيمُ u إِلا ثلاثَ كَذَبَاتٍ كلُّها في ذاتِ الله» ، ومنه: قوله تعالى: )فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم( [الأنفال: 1] )وهو عليم بذات الصدور( [الحديد: 6] ونحو ذلك.
فإن (ذات) تأنيث (ذو) ، وهو يُستعمل مضافًا يُتَوَصَّلُ به إلى الوصف بالأجناس ، فإذا كان الموصوف مُذَكَّرًا قيل: ذو كذا ، وإن كان مؤنثًا قيل: ذات كذا ، كما يقال: ذات سوار ، فإِنْ قيل: أُصِيبَ فلانٌ في ذات الله؛ فالمعنى: في جهتهِ ووجهته؛ أي: فيما أَمَرَ به وأَحَبَّهُ ولأجله.
ثم إِنَّ الصفات لما كانت مضافة إلى النفس فيقال في النفس أيضًا: إنها ذات عِلْمٍ وقدرة وكلام ونحو ذلك؛ حَذَفُوا الإضافةَ وعَرَّفوها فقالوا: الذات الموصوفة؛ أي: النفس الموصوفة ، فإذا قال هؤلاء المُؤَكّدون: الذات؛ فإِنَّما يعنون به النفس الحقيقية ، التي لها وصف ولها صفات.
والصفة والوصف تارةً يُرَادُ به الكلام الذي يوصف به الموصوف؛ كقول الصحابي في )قل هو الله أحد( [الإخلاص:1]: أُحِبُّها لأنها صفة الرحمن ، وتارةً يُرَادُ به المعاني التي دَلَّ عليها الكلام؛ كالعلم والقدرة.
والجهمية والمعتزلة وغيرهم تُنْكِرُ هذه وتقول: إِنَّما الصفات مُجَرَّد العبارة التي يُعَبَّرُ بها عن الموصوف.
والكلابية ومَن اتَّبعهم من الصِّفَاتِية قد يُفَرِّقون بين الصفةِ والوصف ، فيجعلون الوصفَ هو القول والصفةَ المعنى القائم بالموصوف.
وأما جماهير الناس فيعلمون أنَّ كل واحدٍ مِن لفظ الصفة والوصف مصدرٌ في الأصلِ؛ كالوَعْدِ والعِدَةِ ، والوَزْنِ والزِّنَةِ ، وأَنَّهُ يُرَادُ به تارةً هذا ، وتارةً هذا.
ولما كان أولئك الجهمية ينفون أَنْ يكونَ الله وصفٌ قائمٌ به عِلْمٌ أو قدرة أو إرادة أو كلام -وقد أثبتها المسلمون- صاروا([128]) يقولون: هؤلاء أثبتوا صفاتٍ زائدةً على الذات ، وقد صار طائفة من مناظريهم الصفاتية يوافقونهم على هذا الإطلاق ، ويقولون: الصفات زائدة على الذات التي وصفوا لها صفات ووصف ، فيشعرون الناس أنَّ هناك ذاتًا متميزة عن الصفات ، وأنَّ لها صفاتٍ متميزةً عن الذات ، ويُشَنِّع نفاة الصفات بشناعاتٍ ليس هذا موضعها ، وقد بَيَّنَّا فسادَها في غير هذا الموضع.
والتحقيق أنَّ الذاتَ الموصوفةَ لا تنفكّ عن الصفات أصلاً ، ولا يمكن وجود ذاتٍ خالية عن الصفات ، فدعوى المدعي وجود حيّ عليم قدير بصير بلا حياة ولا عِلْم ولا قدرة كدعوى قدرة وعلم وحياة لا يكون الموصوف بها حيًّا عليمًا قديرًا ، بل دعوى شيء موجود قائم بنفسه قديم أو مُحْدَث عَرِيٌّ عن جميع الصفات ممتنعٌ في صريح العقل.
ولكن الجهمية المعتزلة وغيرهم؛ لما أثبتوا ذاتًا مجردةً عن الصفات صارَ مناظِرهم يقول: أنا أُثبتُ الصفات زائدةً على ما أثبتُّموه من الذات؛ أي: لا أقتصر على مُجَرَّد إِثْبات ذات بلا صفات ، ولم يَعْنِ بذلك أَنَّهُ في الخارج ذات ثابتة بنفسها ، ولا مع ذلك صفات هي زائدة على هذه الذات متميزة عن الذات.
ولهذا كان من الناس من يقول: الصفات غير الذات؛ كما يقوله المعتزلة والكرامية ، ثم المعتزلة تنفيها ، والكرامية تثبتها.
ومنهم من يقول: الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره؛ كما يقوله طوائف من الصفاتية كأبي الحسن الأشعري وغيره.
ومنهم من يقول كما قالت الأئمة: لا نقول الصفة هي الموصوف ، ولا نقول: هي غيره؛ لأَنَّا لا نقول: لا هي هو ولا هي غيره ، فإِنَّ لفظ الغير فيه إجمالٌ قد يُرَادُ به الْمُبَايِن للشيء ، أو ما قَارَنَ أحدُهما الآخر ، وما قاربه بوجودٍ أو زمانٍ أو مكانٍ ، ويُرَادُ بالغيران: ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر.
وعلى الأول: فليست الصفة غير الموصوف ولا بعض الجملة غيرها.
وعلى الثاني: فالصفة غير الموصوف وبعض الجملة غيرها.
فامتنع السلف والأئمة من إطلاق لفظ الغير على الصفة نفيًا أو إِثْبَاتًا؛ لِمَا في ذلك مِن الإجمالِ والتَّلْبيس ، حيث صار الجَهْمِيُّ يقول: القرآن هو الله أو غير الله؟ فتارةً يعارضونه بعِلْمِه فيقولون: عِلْمُ الله هو الله أو غيره؟ إِنْ كان ممن يُثْبِتُ العِلْم أو لا يُمْكنه نفيه ، وتارةً يحلّون الشبهةَ ويُثْبِتُون خطأَ الإطلاقين: النفي والإثبات؛ لِمَا فيه من التلبيس ، بل يُسْتَفْصَلُ السائلُ فيقال له: إِنْ أردتَ بالغير ما يُبَايِنُ الموصوفَ فالصفةُ لا تُبَايِنه فليست غيره ، وإِنْ أردتَ بالغير ما يُمْكن فَهْم الموصوف على سبيل الإجمال - وإِنْ لم يكن هو - فهو غيرٌ بهذا الاعتبار والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد([129])»أهـ
فصل
في معنى ما مضى تقريره
ومن معاني ما مضى تقريره في الباب السابق ، والتمهيد والمقدمات السابقة في هذا الباب ما يلي:
أولاً: أنَّ القرآن الذي في مصاحف المسلمين: كلامُ الله عز وجل غير مخلوق ، اللفظ والمعنى في ذلك سواءٌ.
فهو كلامُ الله بنظمه وحروفه ومعانيه.
ليس كلام الله الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف ، وإنما هو كلامه الله بحروفه ومعانيه ، تكلَّم الله به على الحقيقة.
وسبق عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قوله: ((ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله ، منزلٌ غير مخلوق ، منه بدأ ، وإليه يعود ، وأن الله تعالى تكلَّم به حقيقةً ، وأنَّ هذا القرآن الذي أنزله على محمد r هو كلام الله حقيقة ، لا كلام غيره ، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله ، أو عبارة عنه ، بل إذا قَرَأَهُ الناسُ أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقةً ، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مُبْتَدِئًا ، لا إلى من قاله مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا.
وهو كلام الله؛ حروفه ومعانيه ، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف))([130]).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في موضعٍ آخر:
((والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه ، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله ، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف([131])))أهـ
ثانيًا: كلامُ الله عز وجل صفةٌ من صفات ذاته سبحانه وتعالى.
وقد سبق عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله قوله: ((لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية. أما الذاتية: فالحياة والقدرة والعلم والكلام.... لم يزل متكلِّمًا بكلامه ، والكلام صفةٌ في الأزل... والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الأَلْسُن مقروء ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مُنَزَّلٌ... والقرآن غير مخلوق. وما ذَكَرَهُ الله تعالى في القرآن حكايةً عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وعن فرعون وإبليس؛ فإنَّ ذلك كله كلام الله تعالى إخبارًا عنهم ، وكلام الله تعالى غير مخلوقٍ ، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله تعالى ، فهو قديم لا كلامهم. وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى كما قال تعالى: {وكلم الله موسى تكلميًا} [النساء: 164] ، قد كان متكلِّمًا ولم يكن كلَّمَ موسى عليه السلام... فلمَّا كلَّمَ الله موسى كلَّمَهُ بكلامه الذي هو صفةٌ له في الأزل... ويتكلَّم لا ككلامنا))[132]أهـ
ثالثًا: صفات ذاته سبحانه وتعالى متعلِّقةٌ بذاته.
وقد سبق[133] عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: ((والتحقيق أنَّ الذاتَ الموصوفةَ لا تنفكّ عن الصفات أصلاً ، ولا يمكن وجود ذاتٍ خالية عن الصفات ، فدعوى المدعي وجود حيّ عليم قدير بصير بلا حياة ولا عِلْم ولا قدرة كدعوى قدرة وعلم وحياة لا يكون الموصوف بها حيًّا عليمًا قديرًا ، بل دعوى شيء موجود قائم بنفسه قديم أو مُحْدَث عَرِيٌّ عن جميع الصفات ممتنعٌ في صريح العقل))أهـ
ولذا قرَّرَ أهل السنة والجماعة رضي الله عنهم أَنَّ القول في الصفات كالقول في الذَّات ، ولا فرق.
وقد سبق عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قوله: ((القول في الصفات كالقول في الذات؛ فإن الله ليس كمثله شيءٌ ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فإذا كان له ذات حقيقة لا تُمَاثِلُ الذوات؛ فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تُمَاثِل سائر الصفات.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضى الله عنهما: الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤالٌ عما لا يعلمه البشر ، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته ، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إِذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف ، وهو فرعٌ له ، وتابعٌ له ، فكيف تطالبنى بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنتَ لا تعلم كيفية ذاته ، وإذا كنتَ تُقِرُّ بأَنَّ له حقيقةً ثابتةً في نفس الأمر مستوجبةً لصفات الكمال لا يُمَاثلها شيءٌ فسَمْعُه وبصَرُه وكلامُه ونزولُه واستواؤه ثابتٌ في نفس الأمر ، وهو متصفٌ بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سَمْعُ المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم))([134]).
رابعًا: إجراء أحكام الذات على الصفات والعكس ، من حيث النفي والإثبات والتنزيه والتقديس.
وقد أصبح هذا ظاهرًا مما مضى في هذا الموضع وما قبله من الكتاب ، فإثبات الذات يستلزم إثبات الصفات ، ونفي الصفة نفيٌ للموصوف ، كما أَنَّ سبَّ الصفة سبٌّ للموصوف ، والطعن في الذات طعنٌ في جميعها الصفات المتعلِّقة بالذات ، وهكذا..
فصل
في لوازم ذلك
فإذا تقرَّرتْ هذه المسائل الأربعة السابقة ، وهي:
أولاً: أنَّ القرآن الذي في مصاحف المسلمين: كلامُ الله عز وجل غير مخلوق ، اللفظ والمعنى في ذلك سواءٌ.
ثانيًا: كلامُ الله عز وجل صفةٌ من صفات ذاته سبحانه وتعالى.
ثالثًا: صفات ذاته سبحانه وتعالى متعلِّقةٌ بذاته.
رابعًا: إجراء أحكام الذات على الصفات والعكس؛ مِنْ حيثُ النفي والإثبات والتنزيه والتقديس.
فإذا تقرَّرتْ هذه الأربع ، فيلزم من ذلك لوازم ضرورية لابد من الإتيان بها تجاه القرآن المقدَّس ، والخلل في هذه اللوازم الآتي بعضها يدلُّ على الخلل في تقرير هذه القواعد الأربع السالف بيانها ، وهذا دالٌّ ضرورةً على سوءِ المعتَقَدِ والمعْتَقِدِ ، وفسادِ إسلامه.
وقد سبق تكفير علماء الملة ، وأمناء الشريعة لمن قال بخلق القرآن ، وهم الحجة في هذه الأمور ، ولا عبرة بمخالفهم من فِرَقِ الضلال؛ كالمعتزلة والأشاعرة ، ومن لَفَّ لَفَّهُم من الفِرَقِ الشاذَّة عن الصراط القويم.
وقد ذكرتُ هنا بعض اللوازم الواجبة تجاه القرآن المقدَّس ، ولم أستطرد في حصر ذلك؛ فمِنْ ذلك:
اللازم الأول
في تنزيه كلام الله الخالق عن مشابهة كلام المخلوقين
وبيان أنَّ مَن شَبَّه كلام خالق البشر بكلام أحدٍ من البشرِ ، فقد كفر؛ عياذًا بالله مِن ذلك
وذلك أنَّ القرآن كلام الله U ليس بمخلوقٍِِ ، منه بدأ وإليه يعود ، وكلامُه I صفةٌ مِن صفاتهِ ، قائمة بذاته ، كباقي الصفات؛ مثل: السمع والبصر والقدرة والإرادة والخلق والرزق ، ولا يعلم حقيقة صفات المولى Y إلاَّ هو ، نؤمنُ بصفاته ، دون السؤال عن كيفيتها ، فالصفات معلومة ، والإيمان بها واجب ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عنها بدعة.
نؤْمِنُ بهذا ، ونُقِرُّ به ، دونَ بحثٍ في كيفٍ ، أو تفتيشٍ فيما لم نُكَلَّفْ بطلبِ عِلْمه ، وإنما علينا التصديق بذلك ، على سبيل الإذعان والاستسلام ، على حَدِّ قول الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن رحمه الله([135]) حين سُئِلَ عن قوله I: )الرحمن على العرش استوى( [طه:5] كيف استوى؟ قال: «الاستواء غير مجهول ، والكَيْفُ غير معقول ، ومِن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التصديق»([136]).
«فَبَيَّنَ أنَّ الاستواءَ معلومٌ ، وأَنَّ كيفيةَ ذلك مجهولة ، ومثل هذا يوجد كثيرًا في كلام السلف والأئمة؛ ينفون عِلْمَ العباد بكيفية صفات الله تعالى ، وأنَّه لا يعلم كَيْف الله إلا الله ، فلا يعلم ما هو إلا هو»([137]).
وسيأتي نحو هذا القول عن الإمام مالكٍ تلميذ ربيعة رحمهما الله تعالى.
«وهذه الأقوال الثلاثة([138]) متقاربة المعنى واللفظ فمن المحتمل أن يكون ربيعة ومالك بلغهما قول أم سلمة؛ فاقتديا بها ، وقالا مثل قولها؛ لصحته وحُسْنه ، وكونه قول إحدى أزواج النبي r ، ومن المحتمل أن يكون الله تعالى وَفَّقَهما للصواب ، وألهمهما من القول السديد مثل ما ألهمها.
وقولهم: الاستواء غير مجهول؛ أي: غير مجهول الوجود؛ لأن الله تعالى أخبر به ، وخبره صدق يقينًا ، لا يجوز الشك فيه ، ولا الارتياب فيه ، فكان غير مجهول لحصول العلم به ، وقد رُوِيَ في بعض الألفاظ: الاستواء معلوم.
وقولهم: الكيف غير معقول؛ لأنه لم يَرِدْ به توقيفٌ ، ولا سبيل إلى معرفته بغير توقيف.
والجحود به كفر؛ لأنه رَدٌّ لخبر الله ، وكفرٌ بكلام الله ، ومَنْ كَفَرَ بحرفٍ متفقٍ عليه فهو كافرٌ ، فكيف بمَنْ كفَرَ بسبع آياتٍ وَرَدَّ خبَرَ الله تعالى في سبعةِ مواضع من كتابه.
والإيمان به واجب لذلك.
والسؤال عنه بدعة؛ لأنه سؤالٌ عَمَّا لا سبيل إلى عِلْمِه ولا يجوز الكلام فيه ، ولم يسبق في ذلك في زمن رسول الله ، ولا من بعده من أصحابه»([139]).
«وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته ، قيل: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف ، وهو فرعٌ له ، فكيف تطالبني بكيفية استوائه على عرشه وتكليمه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟! وإذا كنتَ تُقِرّ بأنَّ له ذاتًا حقيقةً ثابتةً في نفس الأمر مستوجبةً لصفاتِ الكمال لا يماثلها شيءٌ؛ فاستواؤه ونزولُه وكلامُه ثابتٌ في نفس الأمر ، ولا يشابهه فيها استواء المخلوقين وكلامهم ونزولهم ، فإنَّ الله تعالى ليس كمثله شيءٌ ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فإذا كان له ذات حقيقة لا تُمَاثل الذوات؛ فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل صفات سائر الذوات ، فإنَّ الكلامَ في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات ، فإذا كانت ذاته لا تُشبه ذوات المخلوقين؛ فصفاتُ الخالق لا تُشبه صفات المخلوقين» ([140]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب؛ موافق لقول الباقين: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف ، فإنما نفوا عِلْم الكيفية ، ولم ينفوا حقيقة الصفة ، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فَهْمٍ لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ، ولما قالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف ، فإن الاستواء حينئذٍ لا يكون معلومًا بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم ، وأيضًا فإنَّه لا يحتاج إلى نفي عِلْم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنىً ، وإنما يحتاج إلى نفى علم الكيفية إذا أُثْبِتَتِ الصفات ، وأيضًا فإنَّ مَنْ ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقًا لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف ، فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول: بلا كيف ، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف ، وأيضًا فقولهم: أَمِرُّوها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه ، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أَمِرُّوا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد ، أو أَمِرُّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ الله لا يُوصف بما دَلَّتْ عليه حقيقةً ، وحينئذٍ فلا تكون قد أُمِرَّتْ كما جاءت ، ولا يقال حينئذٍ: بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عمَّا ليس بثابتٍ لغوٌ مِنَ القولِ» ([141]).
فظهر أنَّ المراد نفي عِلْم الكيفية لا نفي الوجود والإثبات.
وعلى هذا جَرَى سلفُ الأمة وخلفها ، فأثبتوا لله U ما أَثْبتَهُ لنفسِه ، وما أثبتَهُ له نبيُّهُ r من صفاتٍ ، وأقرُّوا بها ، دون سؤالٍ عن كَيْفٍ لها ، أو بحثٍ عن حقيقةٍ لبعض صفاته ، وقالوا في ذلك كله: صفات الخالق لا تُشبه صفات أحدٍ من المخلوقين ، فلا شبيه ولا نظير ولا ندّ ولا مثيل له I ، لا في ذاته ولا في صفاته ، والكلام في حقيقة الصفات فرعٌ على الكلام في حقيقة الذات الإلهية ، ولا يعلم حقيقة ذاته Y إلاَّ هو؛ فكذلك صفاته لا يعلم حقيقتها إلا هو تبارك وتعالى.
ولذا قال السلف y: «ما جاء في الصفات في كتاب الله تعالى أو رُوِيَ بالأسانيد الصحيحة؛ فمذهب السلف رحمة الله عليهم: إثباتها ، وإجراؤها على ظاهرها ، ونفي الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات ، وإثبات الذات إثبات وجودٍ ، لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات الصفات ، وعلى هذا مضى السلف كلهم» ([142]).
ومن هنا جاء عن كثيرٍ من السلف قولهم في آيات الصفات: «أَمِرُّوها كما جاءت»؛ يعني: دونَ بحثٍ في كيفيتها ، أو تشبيه الخالق بالمخلوق في شيء من صفاته ، فهو I لا مثيل له ، ولا ندّ له ، ولا نظير له ، ولا يُشبه أحدًا من مخلوقاته لا في أفعاله ، ولا في صفاته ، تقدَّس ربنا عن ذلك كله ، كما قال تعالى: )ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير( [الشورى:11] ، فأثبتَ I السمع والبصر ، ونفى المثيل والشبيه له في كل شيءٍ.
وعلى هذا الأصل تواطأ السلف والخلف ، وهو سبيل المؤمنين الذي لا يجوز لأحدٍ خلافه ، ولا الخروج عنه.
ذَكَرَ الإمام الترمذي رحمه الله حديثَ أبي هريرة t قال رسولُ الله r: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ U: )أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ( [التوبة:104] ، وَ )يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ( [البقرة:276]».
ثم قال الترمذيُّ([143]):
«هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([144]) ، وقد رُوِيَ عن عائشةَ عن النَّبِيِّ r نحوَ هذا وقد قال غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العِلمِ في هذا الحديثِ وما يُشْبِهُ هذا مِن الرِّواياتِ مِن الصِّفاتِ ونُزُولِ الرَّبِّ تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السَّمَاء الدُّنيا قالُوا: قدْ (ثَبَتَتِ)([145]) الرِّوَايَاتُ في هذا ، ويُؤْمَنُ بها ، ولا يُتَوَهَّمُ ولا يُقالُ كيفَ ، هكذا رُوِيَ عن مالكٍ وسُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ وعبدِ اللّهِ بنِ المُباركِ أنّهُم قالُوا في هذه الأحاديثِ: أمِرُّوها بلا كيفٍ ، وهكذا قولُ أهلِ العِلمِ مِن أهلِ السُّنّةِ والجماعةِ ، وأمّا الجَهْمِيَّةُ فَأَنْكَرَتْ هذِهِ الرِّواياتِ وقالُوا: هذا تشْبِيهٌ ، وقد ذكر اللّهُ U في غيرِ موضِعٍ مِن كِتابهِ اليدَ والسّمعَ والبصرَ؛ فَتَأَوَّلَت الجَهْمِيَّةُ هذِهِ الآياتِ فَفَسَّرُوهَا على غيرِ ما فَسَّرَ أهلُ العِلمِ ، وقالُوا([146]): إِنّ اللّه لم يخلُق آدمَ بِيدِهِ وقالُوا: إِنّ معنى اليدِ هاهُنا: القُوّةُ.
وقال إِسحقُ بنُ إِبراهِيمَ([147]): إِنَّما يكُونُ التَّشْبِيهُ إِذا قال: يَدٌ كَيَدٍ ، أو مِثلُ يَدٍ ، أو سَمعٌ كَسَمعٍ ، أو مِثلُ سَمعٍ ، فإذا قال: سَمعٌ كَسَمعٍ أو مِثلُ سَمعٍ فَهَذَا التَّشبِيهُ ، وَأَمَّا إِذا قال: كما قال اللّهُ تعالى: يَدٌ وَسَمعٌ وَبَصَرٌ ولا يقُولُ كَيفَ ولا يقُولُ: مِثلُ سَمعٍ ولا كسَمعٍ فهذا لا يكُونُ تَشبِيهًا ، وهُو كما قال اللّهُ تعالى فِي كِتابهِ: )لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( [الشورى:11] ».
قال الإمام الذهبيُّ رحمه الله:
«وروى يحيى بن يحيى التميمي وجعفر بن عبد الله وطائفة قالوا: جاء رجلٌ إلى مالكٍ؛ فقال: يا أبا عبد الله )الرحمن على العرش استوى( [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيتُ مالكًا وَجَدَ([148]) مِن شيء كموجدته من مقالته ، وعلاهُ الرحضاء ـ يعني: العرق ـ وأَطْرَقَ القومُ ، فسُرِّيَ([149]) عن مالكٍ؛ وقال: الكيفُ غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وإني أخاف أن تكون ضالاًّ ، وأَمَرَ به فأُخْرِجَ» ([150]).
قال الذهبيُّ رحمه الله:
«هذا ثابتٌ عن مالك([151]) ، وتقدَّم نحوه عن ربيعة شيخ مالك ، وهو قول أهل السنة قاطبة؛ أنَّ كيفية الاستواء لا نعقلها ، بل نجهلها ، وأنَّ استواءه معلومٌ كما أَخبر في كتابه ، وأنه كما يليق به ، لا نتعَمَّق ولا نتحذلق ، ولا نخوض في لوازم ذلك نفيًا ولا إِثباتًا ، بل نسكتُ ونقفُ كما وقفَ السلف ، ونَعْلَم أَنَّه لو كان له تأويل لَبَادَرَ إلى بيانه الصحابةُ والتابعون ، ولما وسعهم إقراره وإِمْرَاره والسكوت عنه ، ونعْلَم يقينًا مع ذلك أنَّ الله Y لا مِثْل له في صفاته ، ولا في استوائه ، ولا في نزوله I عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا([152])»أهـ
«ومَن تأمَّلَ جواب الإمام مالك بن أنسٍ رحمه الله لمن سأله عن كيفية الاستواء على العرش...؛ تبيَّنَتْ له عدة أمورٍ:
الأول: كيفية الصفات مجهولة للعباد.
والثاني: معاني الصفات معلومة من لسان العرب ولغتها.
والثالث: الإيمان بالصفة كما أخبر الله بها - مع الجهل بكيفيتها والعلم بمعناها - واجبٌ؛ لأنَّه داخلٌ في عموم الإيمان بالله تعالى.
والرابع: أنَّ الزيادة والنقص بالسؤال والخوض فيها بدعة مذمومة ، لم تُعرف عن السلف؛ لما تتضمَّن من القول على الله تعالى بغير علمٍ»([153]).
وقال الأوزاعي:
«كان مكحول والزهري يقولان: أَمِرُّوا الأحاديث([154]) كما جاءَتْ»([155]).
وقال الوليد بن مسلمٍ:
«سألتُ سفيان الثوري ، والأوزاعي ، ومالك بن أنسٍ ، والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات؟ فقالوا: نُمِرُّها كما جاءت». وفي لفظٍ عن الوليد: «فكلهم قالوا لي: أَمِرُّوها كما جاءت بلا تفسير» ، وفي رواية: «أَمِرُّوها كما جاءتْ بلا كَيْفٍ»([156]).
وقال الإمام وكيع بن الجرَّاح رحمه الله:
«نُسَلِّم هذه الأحاديث كما جاءت ، ولا نقول: كيف كذا؟»([157]).
وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله:
«كل شيءٍ وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره لا كَيْف ولا مِثْل»([158]). وفي روايةٍ عن سفيان بن عيينة؛ قال: «هي كما جاءت نُقِرُّ بها ونُحَدِّث بها بلا كَيْف»([159]).
وحكى الإمام محمد بن الحسن - فقيه العراق وصاحب أبي حنيفة – الإجماع على هذا؛ فقال:
«اتفق الفقهاء من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله r في صفة الربِّ U ، من غيرِ تفسيرٍ ولا وصفٍ ولا تشبيهٍ ، فمن فسَّرَ شيئًا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي r وفارق الجماعة ، ومن قال بقول جَهْمٍ فقد فارق الجماعة؛ فإِنَّهُ وصَفَهُ بصفة لا شيء([160])»أهـ
وقال الإمام الشافعيُّ رحمه الله:
«القول في السُّنة التي أنا عليها ، ورأيتُ عليها الذين رأيتهم؛ مثل: سفيان ومالك وغيرهم: الإقرار بشهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنًّ محمدًا رسول الله ، وأنَّ الله على عرشه في سمائه ، يقرب من خلقه كيف شاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء»([161]).
فأَثْبَتَ الإمام الشافعيُّ حقيقة الصفات ونفي العِلْم بكيفيتها ، وقال رحمه الله: «لا يُقال للأصيل لِمَ ولا كيف؟»([162]) ، قال: «إنما يُقال للفرع: لِمَ؟ فإذا صَحَّ قياسه على الأصل صَحَّ ، وقامت به الحجة»([163]).
وقال الإمام أحمد رحمه الله:
«ومِن السنة اللازمة التي مَن ترك منها خصلةً لم يقبلها ويُؤْمِنُ بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقَدَر خيره وشرّه ، والتصديق بالأحاديث فيه ، والإيمان بها ، لا يقال لِمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق والإيمان بها ، ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كِفُيَ ذلك وأُحْكِمَ له ، فعليه الإيمان به والتسليم؛ مثل حديث «الصادق المصدوق»([164]) ، ومثل ما كان مثله في القَدَر ، ومثل أحاديث «الرؤية» كلها؛ وإِنْ نَأَتْ عن الأسماع واستوحش منها المستمع؛ وإنما عليه الإيمان بها ، وأن لا يردّ منها حرفًا واحدًا ، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات»([165]).
وقال المروذيُّ رحمه الله:
«سألتُ أبا عبد الله([166]) عن الأحاديث التي تردَّها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش؟ فصحَّحَها أبو عبد الله ، وقال: قد تلقَّتْها العلماء بالقبول ، نسلِّم الأخبار كما جاءت.
قال: فقلتُ له: إنّ رجلاً اعترضَ في بعض هذه الأخبار كما جاءت؛ فقال: يُجْفَا([167]) ، وقال: ما اعتراضه في هذا الموضع ، يُسَلِّم الأخبار كما جاءتْ»([168]).
وقال العباسُ بن محمدٍ الدُّوريُّ رحمه الله:
«سمعتُ أبا عبيد القاسم بن سلام - وذكر الباب الذي يُرْوَى في الرؤية ، والكرسي ، وموضع القَدَمين ، وضحك ربنا من قنوط عباده ، وقُرْب غيره ، وأين كان ربنا قبل أن يخلق السماء ، وأنَّ جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك U قدمه فيها ، فتقول: قط قط ، وأشباه هذه الأحاديث - فقال: هذه الأحاديث صحاح ، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضُهم عن بعض ، وهي عندنا حقٌّ لا نشكّ فيها؛ ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يُفَسَّر هذا ، ولا سمعنا أحدًا يفسّره([169])»أهـ
قال الإمام الذهبيُّ إثر كلام أبي عُبيدٍ المذكور: «قد صَنَّفَ أبو عبيد كتاب غريب الحديث وما تعرَّض لأخبار الصفات الإلهية بتأويلٍ أبدًا ، ولا فسَّرَ منها شيئًا ، وقد أخبر بأنه ما لحق أحدًا يفسرها ، فلو كان والله تفسيرها سائغًا أو حتمًا لأوشك أن يكون اهتمامهم بذلك فوق اهتمامهم بأحاديث الفروع والآداب ، فلما لم يتعرَّضوا لها بتأويلٍ وأقرُّوها على ما وردت عليه: عُلِمَ أنَّ ذلك هو الحق الذي لا حَيْدَة عنه»([170]).
وقال الإمام ابن حبان رحمه الله:
«هذه أخبارٌ أُطْلِقَتْ مِن هذا النوع توهم من لم يُحْكِمْ صناعةَ العِلْم أنَّ أصحاب الحديث مُشبهة عائذ بالله أَنْ يَخْطُرَ ذلك ببال أحدٍ من أصحاب الحديث ، ولكن أطلق هذه الأخبار بألفاظِ التمثيلِ لصفاته على حسب ما يتعارفُه الناسُ فيما بينهم دونَ تكييف صفات الله ، جَلَّ ربنا عن أن يُشَبَّه بشيءٍ من المخلوقين أو يُكَيَّفَ بشيء من صفاته؛ إِذْ ليس كمثله شيء»([171]).
وقال: «صفاتُ الله جل وعلا لا تُكَيَّفُ ، ولا تُقَاسُ إلى صفات المخلوقين ، فكما أنَّ الله جل وعلا مُتَكَلِّمٌ مِنْ غيرِ آلةٍ بأسنانٍ وَلَهَوَاتٍ ولسانٍ وشفةٍ كالمخلوقين ، جلَّ ربنا وتعالى عن مِثْل هذا وأشباهه ، (ولم)([172]) يَجُزْ أنْ يُقَاسَ كلامُهُ إلى كلامِنا؛ لأنَّ كلامَ المخلوقين لا يُوجد إلا بآلاتٍ ، والله جل وعلا يتكلَّم كما شاء بلا آلةٍ ، كذلك ينـزل بلا آلةٍ ، ولا تَحَرُّكٍ ، ولا انتقالٍ مِن مكانٍ إلى مكانٍ ، وكذلك السمعُ والبصرُ ، فكما لَمْ يَجُزْ أَنْ يقالَ: الله يُبْصِرُ كبصرنا بالأشفارِ والحَدَق والبياض ، بل يُبْصِرُ كيفَ يشاء بلا آلة ، ويسمعُ من غير أذنين ، وسماخين ، والتواء ، وغضاريف فيها ، بل يسمع كيف يشاء بلا آلةٍ ، وكذلك ينـزل كيف يشاء بلا آلةٍ ، من غيرٍ أَنْ يُقَاسَ نزولُه إلى نزولِ المخلوقين ، كما يُكَيَّفُ نزولهم ، جَلَّ ربّنا وتَقَدَّسَ مِنْ أَنْ تُشَبَّه صفاتُه بشيءٍ مِنْ صفات المخلوقين»([173]).
وقال الإمام الخطيب البغداديُّ رحمه الله في كلامه على الصفات:
«مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ، ونفي الكيفية والتشبيه عنها».
قال الخطيب: «والأصلُ في هذا: أنَّ الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات ، ويُحْتَذَى في ذلك حذوه ومثاله ، فإذا كان معلومًا أَنَّ إثبات ربّ العالمين U إنما هو إثبات وجودٍ ، لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجودٍ ، لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: لله تعالى يدٌ وسمعٌ وبصرٌ؛ فإِنما هي صفاتٌ أثبتها الله تعالى لنفسِه ، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة ، ولا أنَّ معنى السمع والبصر: العلم ، ولا نقول: إنها جوارح ، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل.
ونقول: إنما وجب إثباتها؛ لأنَّ التوقيف وَرَدَ بها.
ووجبَ نفي التشبيه عنها؛ لقوله تبارك وتعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير( [الشورى:11] ، وقوله U: )ولم يكن له كفوًا أحد( [الإخلاص:4] » ([174]).
وقال في أقسام الأحاديث المروية في الصفات: «منها أخبارٌ ثابتةٌ أَجْمَعَ أئمةُ النقل على صحتها؛ لاستفاضتها وعدالة ناقليها ، فيجب قبولها ، والإيمان بها ، مع حِفْظِ القلب أنْ يسبقَ إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيه الله بخلقه ، ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات والتغيُّر والحركات([175])»أهـ
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم الأصبهاني ، المعروف بـ «قوام السنة» رحمه الله تعالى:
«الكلام في صفات الله U ما جاء فيها في كتاب الله ، أو رُوِيَ بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله r؛ فمذهب السلف رحمة الله عليهم أجمعين: إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ، ونفي الكيفية عنها ، وقد نفاها[176] قومٌ فأبطلوا ما أَثَْبَتَهُ الله ، وذهب قومٌ من المُثْبِتين إلى البحث عن التكييف[177] ، والطريقة المحمودة: هي الطريقة المتوسطة بين الأمرين ، وهذا؛ لأنَّ الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات ، وإثبات الذات إثبات وجود ، لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات الصفات؛ وإنما أثبتناها لأنَّ التوقيفَ وَرَدَ بها ، وعلى هذا مضى السلف»[178].
وقال قوَّام السُّنَّة رحمه الله:
«ومن مذهب أهل السنة: أنَّ كلَّ ما سَمِعَهُ المرء من الآثار مما لم يبلغه عقله نحو حديث النبيِّr: «خلق الله آدمَ على صورته» وأشباه ذلك؛ فعليه التسليم ، والتصديق ، والتفويض[179] ، والرضا ، لا يتصرَّف في شيءٍ منها برأيه وهواه ، مَن فَسَّرَ مِنْ ذلك شيئًا برأيه وهواه فقد أخطأ وضلَّ[180]»أهـ
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله في «عقيدة السلف»:
«ويعرفون ربهم U بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيلُه ، أو شَهِدَ له بها رسولهُ r ، وعلى ما وَرَدَت الأخبارُ الصحاح به ، ونَقَلَتْهُ العدول الثقات عنه ، ويُثبتون له جل جلاله منها ما َأثْبَتَهُ لنفسهِ ، وعلى لسان رسوله r ، ولا يعتقدون تشبيهًا لصفاته بصفات خلقه[181]»أهـ
وقال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله:
«ومذهب السلف رحمة الله عليهم: الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه ، التي وصف بها نفسَه في آياته وتنزيله ، أو على لسان رسوله r من غير زيادةٍ عليها ، ولا نقصٍ منها ، ولا تجاوزٍ لها ، ولا تفسيرٍ[182] لها ، ولا تأويل لها بما يُخالفُ ظاهرها ، ولا تشبيهٍ بصفاتِ المخلوقين ، ولا سِمَاتِ المُحْدَثِين؛ بل أمَرُّوها كما جاءتْ ، وردُّوا عِلْمَها([183]) إلى قائِلِها ومعناها([184]) إلى المتكلِّم بها[185]»أهـ
وقال الإمام ابنُ رجبٍ الحنبليُّ رحمه الله:
«والصواب ما عليه السلف الصالح من إِمْرَارِ آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت ، من غير تفسيرٍ لها[186] ، ولا تكييف ، ولا تمثيل ، ولا يصح عن أحدٍ منهم خلاف ذلك البتة ، خصوصًا الإمام أحمد ، ولا خوض في معانيها([187]) ، ولا ضرب مَثَلٍ من الأمثالِ لها ، وإِنْ كان بعض من كان قريبًا من زمن الإمام أحمد فيهم مَنْ فعل شيئًا مِنْ ذلك اتباعًا لطريق مُقَاتلٍ؛ فلا يُقْتَدَى به في ذلك؛ إنما الاقتداء بأئمة الإسلام؛ كابن المبارك ، ومالك ، والثَّوْريِّ ، والأَوْزَاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عُبَيْد ، ونحوهم ، وكلُّ هؤلاء لا يُوجَدُ في كلامهم شيءٌ مِنْ جنسِ كلام المتكلِّمين؛ فضلاً عن كلام الفلاسفة ، ولم يدخل ذلك في كلامِ من سَلِمَ من قَدْحٍ وجَرْحٍ[188]»أهـ
الَّلازِمُ الثَّاني
تَنْزِيهُ كلمات القرآن وحروفه ومعانيه عن النَّقْدِ
ظهر مما سبق: أَنَّ صفات الله عز وجل لا تُشْبه صفات أحدٍ من خَلْقه ، كما أنَّ ذاته لا تُشْبه ذوات المخلوقين؛ إِذِ الكلام في الصفات مبنيٌّ على الكلام في الذَّاتِ.
فإذا تقرَّرَ ذلك؛ فاعْلَمْ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى ، ليس بمخلوقٍ ، تَكَلَّمَ اللهُ عز وجل به حقيقةً ، وكلامه سبحانه لا يُدَانيه كلامٌ ، ولا تحوي فضائله ألفاظُ وعباراتُ بشرٍ ، ولا يبلُغ قيمته كلامُ بشرٍ ، فهو مُعْجِزٌ مِن كل نواحيه.
ولذا تحدَّى اللهُ عز وجل فُصَحاءَ العرب ، وأئمةَ اللغةِ أَنْ يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك.
كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23-24].
وقال عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38].
وقال جلَّ شأنه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13].
يتحدَّاهم سبحانه وتعالى بهذا كله فيعجزوا ، وهم مَنْ هم في الفصاحة والبلاغة ونبوغ اللغة.
يقول القاضي أبو بكرٍ الباقلاني: ((والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن: أنه تحدَّاهم إليه حتى طال التَّحدِّي ، وجَعَلَهُ دلالةً على صِدْقه ونُبُوَّتِه ، وضَمَّنَ أحكامَهُ استباحةَ دمائِهم وأموالِهِمْ وَسَبْى ذُريتهم ، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا ، وتوصَّلُوا إلى تخليص أنفسِهم وأهليهم وأموالهم من حُكْمِهِ بأَمْرٍ قريبٍ هو عادتهم في لسانهم ومألوف مِن خطابهم ، وكان ذلك يغنيهم عن تَكَلُّفِ القتال ، وإكثار المراء والجدال ، وعن الجلاء عن الأوطان ، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي.
فلمَّا لم تحصُل هناك معارضة منهم عُلِمَ أنهم عاجزون عنها.
يُبَيِّنُ ذلك: أَنَّ العدوَ يقصد لدفع قول عدوِّه بكل ما قَدَر عليه من المكايد ، لا سيما مع استعظامه ما بَدَهَهُ([189]) بالْمَجِيء مِنْ خَلْعِ آلهته ، وتسفيه رأيه في ديانته ، وتضليل آبائه ، والتَّغريب عليه بما جاء به ، وإظهار أمر يُوجِبُ الانقياد لطاعته ، والتصرُّف على حُكْمِ إرادته ، والعدول عن إِلْفِهِ وعادتهِ ، والانخراط في سلك الأتباع ، بعد أَنْ كان متبوعًا ، والتشييع بعد أَنْ كان مُشَيَّعًا ، وتحكيم الغير في ماله ، وتسليطه إِيَّاه على جملةِ أحواله ، والدخول تحت تكاليف شاقة ، وعبادات متعبة بقوله ، وقد علم أن بعض هذه الأحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه ، هذا والحمية حميتهم ، والهمم الكبيرة هممهم ، وقد بذلوا له السيف فأخطروا بنفوسهم وأموالهم!
فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرَّدِّ عليه ، وإلى تكذيبه ، بأهون سعيهم ، ومألوف أمرهم ، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين ، أو ينقطع دونه وتين ، أو يشتمل به خاطر ، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به ، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها متطلع ، والرتبة التي ليس فوقها منزع ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره وتكذيب قوله وتفريق جمعه وتشتيت أسبابه ، وكان مِنْ صدق به يرجع على أعقابه ، ويعود في مذهب أصحابه.
فلمَّا لم يفعلوا شيئًا مِنْ ذلك ، مع طول المدة ، ووقوع الفسحة ، وكان أمره يتزايد حالًا فحالًا ، ويعلو شيئًا فشيئًا ، وهم على العجزِ عن القدحِ في آيتهِ ، والطعن بما يُؤَثِّر في دلالته؛ عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّهم كانوا لا يقدرون على معارضته ، ولا على توهين حُجَّته.
وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قومٌ خصمون([190]) ، وقال: {وتنذر به قومًا لدا} [مريم: 97] ، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}([191]) [سورة يس: 77].
وعُلِمَ أيضًا ما كانوا يقولونه مِنْ وجوهِ اعتراضهم على القرآن ، مما حكى الله عز وجل عنهم مِنْ قولهم: {لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنفال: 31] ، وقولهم: {ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [القصص: 36] ، وقالوا: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الْحِجْر: 6] ، وقالوا: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3] ، وقالوا: {أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} [الصافات: 36] ، وقال: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} [الفرقان: 4 - 5] ، {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [الفرقان: 8] ، وقوله: {الذين جعلوا القرآن عضين} [الحِجْر: 91].. إلى آيات كثيرة في نحو هذا ، تدل على أنهم كانوا مُتَحَيِّرِينَ في أمرهم ، مُتَعَجِّبِيْنَ مِنْ عجزهم ، يفزعون إلى نحو هذه الأمور من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدِّي إليه ووجد الحث عليه.
وقد عُلِمَ منهم أَنَّهم ناصبوه الحرب ، وجاهدوه ونابذوه ، وقطعوا الأرحام ، وأخطروا بأنفسهم ، وطالبوه بالآيات والإتيان بالملائكة وغير ذلك من المعجزات ، يريدون تعجيزه لِيَظْهَرُوا عليه بوجهٍ مِنَ الوجوه.
فكيف يجوز أَنْ يقدروا على معارضتهِ القريبة السهلة عليهم ، وذلك يدحض حجته ، ويُفسد دلالته ، ويُبطل أمره ، فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة ، ويتركون الأمر الخفيف؟!
هذا مما يمتنع وقوعه في العادات ، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء.
وإلى هذا الموضع قد استقضى أهل العلم الكلام ، وأكثروا في هذا المعنى واحكموه ، ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة ، وهم على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة ، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته ، وأنهم يضعفون عن مجاراته ، ويكرر فيما جاء به ذِكْر عجزهم عن مثل ما يأتي به ، ويُقَرِّعهم ويُؤَنِّبهم عليه ، ويدرك آماله فيهم ، وينجح ما سعى له في تركهم المعارضة ، وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه وتفخيم أمره حتى يتلو قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88] ، وقوله: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} [النحل: 2] ، وقوله: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحِجْر: 87] ، وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحِجْر: 9] ، وقوله: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون} [الزخرف: 44] ، وقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] ، وقوله: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23].. إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن ، فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع ، ومنها ما ينفرد فيها ، وذلك مما يدعوهم إلى المبادرة ، ويحضهم على المعارضة ، وإن لم يكن متحدِّيًا إليه.
أَلَا تَرَى أنهم قد ينافر شعراؤهم بعضُهم بعضًا؟ ولهم في ذلك مواقف معروفة وأخبار مشهورة وآثار منقولة مذكورة ، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة ويتبجحون بذلك ويتفاخرون بينهم؟
فلن يجوز والحال هذه أَنْ يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها؟! تحداهم أو لم يتحدهم إليها؟!
ولو كان هذا لقبيل مما يقدر عليه البشر لوجب في ذلك أمر آخر ، وهو أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به ، وكانوا لا يفتقرون إلى تكَلُّف وضعه ، وتعمُّل نظمه في الحال.
فلمَّا لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق ، وخطبة متقدمة ، ورسالة سالفة ، ونظم بديع ، ولا عارضوه به فقالوا: هذا أفصح مما جئتَ به وأغرب منه أو هو مثله؛ عُلِمَ أَنَّه لم يكن إلى ذلك سبيل ، وأنه لم يوجد له نظير ، ولو كان وُجِدَ له مِثْلٌ لكان يُنْقَلُ إلينا ولعرفناه ، كما نُقِلَ إلينا أشعار أهل الجاهلية وكلام الفصحاء والحكماء من العرب ، وأُدِّيَ إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم وصنوف فصاحاتهم))([192])أهـ
فأصبح بدهيًا بعد ذلك:
أَنْ تُقَدَّسَ وتُنَزَّه كلماته وحروفه ومعانيه عن النَّقْدِ ، وأَنْ لا يُتَسَلَّق إليه بخيالٍ ذهنيٍّ؛ لأنَّهُ يعلو ولا يُعْلَى عليه ، ولا تحوزه كلماتُ بشرٍ ، ولا يرتفع عليه كلام إنسانٍ ، كما لا ترتفع ذات أحدٍ على ذات قائله المتكلِّم به ، وهو المولى Y ، وقد سبق مرارًا أنَّ الكلام في الصفة فرعٌ على الكلام في الذات.
فكما أنَّهُ لا يجوز لأحدٍ أَنْ يرفعَ ذاته فوق ذات الله ـ تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا ـ؛ كذلك لا يجوز لأحدٍ أَنْ يرفعَ كلامَه على كلام الله؛ فإِنَّ كلام الله لا يُشْبه كلام البشر ، ولا يُحيط بإعجازه مخلوقٌ ، فلا يصحّ شرعًا ولا عقلاً أَنْ يخضعَ المعصوم لحُكْمِ ونَقْدِ مَن اقْتَرَنَ به الخطأ؛ كما لا يصح أَنْ تُحَاكَمَ المعجزة قياسًا على أوهام العقول ، وحصائد الأفكار ، وثمار الأَلْسُن.
وبعبارةٍ أخرى: لا يصح أَنْ يخضع الأعلى للأدنى؛ إلا في عقلِ مجنونٍ لا يَعِي ما يخرج من رأسهِ ، أو ملحدٍ؛ لا يُؤْمِن بأله الكون ، ولا يَعْتَرِف بوجوده سبحانه وتعالى.
وكيف يُتَصَوَّرُ في عقلٍ أنْ يستدركَ مخلوقٌ على كلامِ الخالقِ ونَظْمِهِ ولَفْظِه؛ اللهم إلا أَنْ يكون عقلاً فاسدًا لا يعرف الفرق بين البِذْرة والعذرة ، فمثله فاقدٌ للأهلية غير مُعْتَبرٍ به؛ إِذْ لا عبرة بما صدر عن المجنون والمعتوه ونحوهما.
وكيف يصح أَنْ يأتي أَعَاجِمُ العصر بما عَجَزَ عنه أصحابُ اللُّغةِ الفصيحةِ وأربابُها؛ في قريشٍ ، حين تَحَدَّاهم المولى أَنْ يأْتوا بمثلِ هذا القرآن أو آثَارَةٍ مِن عِلْمٍ؛ فعجزوا؟!
وكيف يصحّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتاجَ النهارُ إلى دليل
ومِن هنا تعلم فساد تلك الفتنة القديمة التي أثارها بعضُ الزَّنادِقَةِ زورًا وبهتانًا ، حين زَعَمَ إخضاع القرآن للنَّقْد اللغوي ، وبدأ هو مشوار السقوط ، فأخْسَأَهُ الله ، وأَخْزَاه ، وأَخْمَدَ فتنتَهُ وذِكْرَه([193]).
وأما القرآن فمعجزةٌ خالدة ، أَيَّدَ الله عز وجل بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، وَجَعَلَ الإيمانَ بذلك أصلاً أصيلاً من أصول الإسلام التي لا يصح الإسلام بدونها ، فمَنْ شكَّ في إعجاز القرآن وعدم قُدْرَةِ الخلق على الإتيان بمثله؛ فقد عاد على أصل إسلامه بالبطلان؛ والعياذ بالله.
ولذا قال أهل العلم قديمًا وحديثًا: مَنْ قال: إِنَّ القرآنَ ليسَ بِمُعْجِزٍ فقد كَفَرَ.
ومِنْ ذلك: ما نُقِلَ عنِ الإمامِ أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال: ((مَنْ قال: إِنَّ القرآنَ مقدورٌ على مثلِهِ ولكنَّ الله مَنَعَ قُدْرَتَهُمْ: كَفَرَ؛ بل هو مُعْجِزٌ بنَفْسِه ، والْعَجْزُ شَمَلَ الْخَلْق([194])))أهـ
قال ابنُ مُفْلِحٍ رحمه الله:
((وجزم ابنُ عقيل بأنَّ مَن وُجِدَ منه امتهانٌ للقرآنِ ، أو غَمْصٌ([195]) منه ، أو طَلَبُ تناقُضِهِ ، أو دعوى أنه مختلفٌ أو مُخْتَلَقٌ ، أو مقدورٌ على مثلِه([196]) ، أو إسقاطٌ لحُرْمَتِهِ: كلُّ ذلك دليلٌ على كفرِهِ ، فيُقْتَلُ بعد التوبةِ([197])))أهـ
وقال القاضي عياض رحمه الله:
((مَن أنكرَ القرآنَ ، أو حرفًا منه ، أو غَيَّرَ شيئًا منه, أو زَادَ فيه؛ كفِعْلِ الباطنيّة والإسماعيليّة, أو زَعَمَ أَنَّه ليس بحُجَّةٍ للنبيِّr , أو ليس فيه حُجَّةٌ ولا مُعْجِزَةٌ؛ كقولِ هشـامٍ الْفُوطِيِّ ومَعْمَرٍ الصَّيْمَرِيِّ: إِنَّه لا يدلُّ على الله ولا حجةَ فيه لرسولهِ ولا يدل على صوابٍ ولا عقابٍ ولا حُكمٍ؛ ولا مَحَالَةَ في كُفرِهما بذلك القول, وكذلك نُكَفِّرُهُمَا بِإِنْكَارِهِمَا أَنْ يكونَ في سائرِ معجزات النبيِّr حجةٌ له, أو في خلقِ السماوات والأرض دليلٌ على الله؛ لمخالفتِهم الإجماعَ والنقلَ المتواترَ عن النبيِّr باحتجاجهِ بهذا كلِّه ، وتصريحِ القرآن به))([198]).
وقال القاضي عياض رحمه الله:
«واعْلَمْ أَنَّ مَن استخفَّ بالقرآنِ, أو المصحفِ, أو بشيءٍ منه, أو سَبَّهُما, أو جَحَدَهُ, أو حَرْفًا منه ، أو آيةً, أو كَذَّبَ به, أو بشيءٍ منه, أو كَذَّبَ بشيءٍ مما صُرِّحَ به فيهِ؛ مِنْ حُكْمٍ أو خَبَرٍ, أو أَثْبَتَ ما نفاهُ أو نَفَى ما أَثْبَتَهُ, على عِلْمٍ منه بذلك, أو شَكَّ في شيءٍ مِن ذلك: فهو كافرٌ عند أهل العلم بإجماعٍ.
قال الله تعالى: )وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل ما بين يديه ولا مِن خلفه تنزيل من حكيم حميد( [فصلت:41-42])).
قال القاضي عياض رحمه الله:
((وقد أَجْمَعَ المسلمون أَنَّ القرآنَ المتلوَّ في جميعِ أقطارِ الأرض ، والمكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، مما جَمَعَهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ )الحمد لله رب العالمين( إلى آخر )قل أعوذ برب الناس( أنه كلامُ الله ، ووَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ على نبيه محمدr ، وأَنَّ جميعَ ما فيه حقٌّ ، وأَنَّ مَنْ نَقَصَ منه حرفًا قاصِدًا لذلك ، أو بَدَّلَهُ بحرفٍ آخَرَ مكانَهُ ، أو زادَ فيه حرفًا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، وأُجْمِعَ على أَنَّهُ ليس مِن القرآنِ ، عامِدًا لكلِّ هذا أَنّه كافرٌ.
ولهذا رَأَىَ مالكٌ قَتْلَ مَنْ سَبَّ عائشةَ رضي الله عنها بالفِرْيَةِ؛ لأنَّه خَالَفَ القرآنَ ، ومَنْ خالَفَ القرآنَ قُتِلَ؛ أَيْ: لأَنَّهُ كَذَّبَ بما فيهِ.
وقال ابنُ القاسم: مَنْ قال: إِنَّ الله تعالى لم يُكَلِّم موسى تكليمًا يُقْتَلُ.
وقاله عبدُ الرَّحْمَن بنُ مهدي.
وقال محمد بن سُحْنُونٍ - فيمن قال: الْمُعَوِّذَتَانِ لَيْسَتَا مِنْ كتابِ الله -: يُضْرَبُ عُنُقُهُ؛ إلاَّ أَنْ يتوبَ ، وكذلك كلُّ مَنْ كَذَّبَ بحرفٍ منه.
قال: وكذلك إِنْ شَهِدَ شاهِدٌ على مَنْ قال: إِنَّ الله لم يُكِّلم موسى تكليمًا وشَهِدَ آخر عليه أَنَّهُ قال: إِنَّ الله لم يَتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا؛ لأنهما([199]) اجتمعا على أَنَّهُ كَذَّبَ النبيَّr .
وقال أبو عثمان الحداد: جميع من ينتحِلُ التوحيد متفقونَ أَنَّ الْجَحْدَ لحرفٍ مِن التنزيلِ: كُفرٌ.
وكان أبو العالية إذا قَرَأَ عندهُ رجلٌ لم يقل له: لَيْسَ كما قَرَأْتَ ، ويقولُ: أَمَّا أَنا فأَقْرَأُ كذا ، فبَلَغَ ذلك إبراهيمَ ، فقال: أُرَاهُ سَمِعَ أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ بحرفٍ منه فقد كَفَرَ به كلِّه.
وقال عبد الله بن مسعود: مَنْ كَفَرَ بآيةٍ مِن القرآنِ فقد كَفَرَ به كلِّه([200]).
وقال أَصْبَغُ بنُ الفَرَج: مَنْ كَذَّبَ ببعضِ القرآنِ فقد كَذَّبَ به كلِّه ، ومَنْ كَذَّبَ به: فقد كَفَرَ به ، ومَن كَفَرَ به: فقد كَفَرَ بالله.
وقد سُئِلَ القَابِسيُّ عَمَّنْ خَاصَمَ يهوديًا فحلفَ له بالتوراةِ ، فقال الآخرُ: لَعَنَ الله التوراةَ ، فشَهِدَ عليه بذلكَ شاهدٌ ثم شَهِدَ آخرُ أَنَّه سأَلَهُ عن القضيةِ؛ فقال: إِنَّما لَعَنْتُ توراةَ اليهودِ ، فقال أبو الحسن([201]): الشاهدُ الواحد لا يُوجِبُ القتلُ ، والثاني عَلَّقَ الأمرَ بصفةٍ تحتملُ التأويلَ؛ إِذْ لعلَّهُ لا يَرَى اليهودَ مُتَمَسِّكِينَ بشيءٍ مِنْ عند الله؛ لتبدِيلِهِمْ وتحرِيْفِهِمْ ، ولو اتَّفَقَ الشاهدانِ على لعن التوراةِ مُجَرَدًّا لضاقَ التأويلُ.
وقد اتَّفَقَ فقهاءُ بغدادَ على استتابةِ ابن شَنْبُوذَ الْمُقْرِيءِ أحدِ أئمةِ الْمُقْرِئينَ الْمُتَصَدِّرينَ بها معَ ابنِ مجاهدٍ؛ لِقِرَاءتهِ وإِقْرَائِهِ بِشَوَاذٍّ مِن الحروفِ ، مما ليسَ في المصحفِ ، وعَقَدوا عليه بالرجوعِ عنه ، والتوبةِ منه سِجِلًّا أَشْهَدَ فيه بذلك على نفسِه في مجلسِ الوزيرِ أبى عليِّ بنِ مُقْلَةَ سنةَ ثلاثٍ وعشرين وثلاثمائةٍ وكان فيمَنْ أَفْتَى عليهِ بذلك أبو بكرٍ الأَبْهَرِيُّ وغيره.
وأَفْتَي أبو محمدٍ بنُ أبى زَيْدٍ بالأدبِ فيمَنْ قال لصبيٍّ: لَعَنَ اللهَ مُعَلِّمَكَ وما عَلَّمَكَ ، وقال([202]): أردتُ سوءَ الأدبِ ولم أُرِدِ القرآنَ ، قال أبو محمدٍ: وأمَّا مَنْ لَعَنَ المصحفَ فإِنَّهُ يُقْتَلُ([203])))أهـ
وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
((باب ما جاء مِن الحجةِ في الرَّدِّ على مَنْ طعنَ في القرآنِ وخالَفَ مصحف عثمان بالزيادة والنقصان: لا خلاف بين الأمة ، ولا بين الأئمة أهل السنة؛ أن القرآن اسمٌ لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد r معجزةً له على نحو ما تقدم ، وأنه محفوظٌ في الصدور ، مقروءٌ بالألسنة ، مكتوبٌ في المصاحف ، معلومةٌ على الاضطرارِ سورُه وآياتُه ، مبرأةٌ مِن الزيادةِ والنقصانِ حروفُه وكلماتُه ، فلا يحتاج في تعريفه بحَدٍّ ، ولا في حَصْرِهِ بِعَدٍّ ، فمَنِ ادَّعَى زيادةً عليه أو نقصانًا منه فقد أبطلَ الإجماع ، وبَهَتَ الناسَ ، ورَدَّ ما جاء به الرسول r مِنَ القرآن المنزل عليه ، ورَدَّ قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء:88] ، وأبطل آيةَ رسولهِ u؛ لأنَّه إِذْ ذاكَ يصير القرآن مقدورًا عليه حين شِيبَ بالباطل ، ولما قُدِرَ عليه لم يكن حجة ولا آية ، وخرج عن أَنْ يكون مُعْجِزًا ، فالقائل: إِنَّ القرآنَ فيه زيادةٌ ونقصانٌ رَادٌّ لكتابِ الله ، ولما جاء به الرسول r ، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة ، وتَزَوُّج تسع مِن النساء حلالٌ ، وفرض الله أيامًا مع شهر رمضان ، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين ، فإذا ردّ هذا الإجماع؛ كان الإجماع على القرآن أثبت وآكَد وأَلْزَم وأَوْجَب)).
ونقل القرطبي كلامًا مطولاً عن ابن الأنباري رحمه الله ، ومنه ذلك قول أبي بكرٍ ابن الأنباري رحمه الله تعالى:
((إِنَّ الله U قد حَفِظَ القرآن مِن التغيير والتبديل والزيادة والنقصان ، فإذا قَرَأَ قارئٌ: (تبت يدا أبي لهبٍ وقد تبّ ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارًا ذات لهبٍ ومريته حمالة الحطب في جيدها حبل من ليف)؛ فقد كذبَ على الله جل وعلا ، وَقَوَّلَهُ ما لم يقل ، وبَدَّلَ كتابَهُ وحَرَّفَهُ ، وحاول ما قد حَفِظَهُ منه ومنع مِن اختلاطه به ، وفي هذا الذي أَتَاهُ توطِئَةُ الطريق لأهل الإلحاد ليُدْخِلُوا في القرآن ما يُحِلُّون به عُرَى الإسلام ، وينسبونه إلى قومٍ كهؤلاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم ، وفيه إبطال الإجماع الذي به يُحْرَسُ الإسلام ، وبثباته تُقَامُ الصلوات ، وتُؤَدَّى الزكوات ، وتُتَحَرَّى المتعبّدات ، وفي قول الله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته} [هود:1]: دلالة على بدعةِ([204]) هذا الإنسان وخروجه إلى الكفر؛ لأنَّ معنى )أُحْكِمَتْ آياتُه( [هود:1]: منع الخلق مِن القدرةِ على أَنْ يزيدوا فيها ، أو ينقصوا منها ، أو يعارضوها بمثلِها ، وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها: (وكفى الله المؤمنين القتال بعليٍّ وكان الله قويًّا عزيزًا) فقال في القرآن هُجْرًا وذَكَرَ عليًّا في مكانٍ لو سَمِعَهُ يذكرهُ فيه لأَمْضَى عليه الْحَدَّ وحَكَمَ عليه بالقتلِ ، وأَسْقَطَ مِنْ كلامِ الله: {قل هو} وغَيَّرَ {أحد} فقرأَ: (الله الواحد الصمد) ، وإِسْقَاطُ ما أسقطَ نفيٌ له وكفرٌ ، ومَن كفر بحرفٍ مِنَ القرآن فقدَ كفر به كلَّه ، وأَبْطَلَ معنى الآية؛ لأنَّ أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابًا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله r: صِفْ لنا ربك أمِنْ ذهبٍ أم مِن نحاسٍ أم مِن صفر؟ فقال الله جل وعزَّ ردًّا عليهم: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] ففي {هو} دلالة على موضعِ الرَّدِّ ومكان الجواب ، فإذا سقط بطل معنى الآية ، ووضح الافتراء على الله U والتكذيب لرسول الله r.
ويُقَالُ لهذا الإنسان ومَنْ ينتحل نُصْرَتَه: أَخْبِرونا عن القرآن الذي نقرؤه ولا نعرف نحن ولا مَن كان قبلنا مِن أسلافنا سواه: هل هو مشتملٌ على جميع القرآن مِن أوله إلى آخره؟ صحيح الألفاظ والمعاني؟ عارٍ عن الفساد والخلل؟ أم هو واقع على بعض القرآن والبعض الآخر غائب عنا كما غاب عن أسلافنا والمتقدمين مِن أهل ملتنا؟ فإِنْ أجابوا بأَنَّ القرآن الذي معنا مشتملٌ على جميع القرآن لا يسقط منه شيء صحيح اللفظ والمعاني سليمها مِنْ كل زللٍ وخللٍ؛ فقد قضوا على أنفسِهم بالكفر حين زادوا فيه: (فليس له اليوم هاهنا حميم وليس له شراب إلا مِن غسلين مِن عين تجري مِن تحت الجحيم) ، فأي زيادةٍ في القرآن أوضح مِن هذه؟ وكيف تُخْلَطُ بالقرآن وقد حرسَهُ الله منها؟ ومنعَ كلَّ مفترٍ ومُبْطِلٍ مِنْ أَنْ يُلْحِق به مثلها؟([205])»أهـ
ثم استطردَ ابن الأنباري رحمه الله في بيان فساد الزيادة المذكورة ، وبيان معنى الآية ((فيما أَنْزَلَ الله تبارك وتعالى على الصحَّةِ في القرآنِ الذي مَن خالفَ حرفًا منه كَفَرَ)) على حَدِّ تعبيره.
فظهر مِنْ هذا كله:
- أَنَّ القرآنَ مُعْجِزٌ مِنْ كل جهاته ، غيرُ مَقْدورٍ على الإِتْيانِ بِمِثْلِه ، بوجهٍ من الوجوه.
- وأَنَّهُ مُنَزَّهُ عن النَّقْدِ والطَّعْنِ في حروفه ونظمه ومعانيه ، وكافة وجوهه.
- وأَنَّ التعرُّضَ لبعضهِ بنقدٍ يعني التعرُّضَ له جميعًا.
- وأَنَّ مَنِ اعتقدَ القدرة على مثله وأنَّهُ غير مُعْجِزٍ: فقد كفرَ بلا خلافٍ.
ولا يزال الناس في انبهارٍ دائمٍ بالقرآن المقدَّس منذ نزوله وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
وانظر إلى قول الأديب الأريب الأستاذ سيد قطب رحمه الله ، حين يقول في مقدمة تفسيره لسورة ((الرعد)): ((كثيرًا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر المتحرِّج أن أشوبها بأسلوبي البشري الفاني ، ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآن مع الكثير من الإيضاح ، ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصدَّيْتُ للترجمة عن هذا القرآن))([206]).
وقد أشار الله عز وجل في مواضع من كتابه العزيز إلى كثيرٍ من صفات القرآن الأصيلة ، ودلائل إعجازه ، وبراهين عظمته ، فوصفَه سبحانه وتعالى بالمبين والحكيم والمنير والنور والمبارك ، وغيرها من الصفاتِ الْعَلِيَّةِ ، ونفى عنه الريب والشكّ والاختلاف ، وغيرها من الصفات المشينة ، كما نَزَّهَهُ اللهُ عز وجل وبرَّأَهُ من مشابهة أقوال الشعراء والكُهَّان.
وطَالَبَ اللهُ سبحانه وتعالى الناسَ بالتَّدبُّر في آياتِ كتابه ، .
وتحدَّى به سبحانه وتعالى الناس كلهم ، ونفى قُدْرَتهم على المجيء بمثله ، أو بعضه ، ولو اجتهدوا في ذلك ، وجمعوا أنصارهم وشهداءهم ، وطالَبَهُمُ الله سبحانه وتعالى بالتَّدبُّرِ فيه ، والنظر في آياته ، متحدِّيًا لهم أن يجدوا فيه اختلافًا ، أو شيئًا يشينه ، وهذا مما يُظهر محاسنه ، وينفي عنه كل عيبٍ ، ويلفت الأنظار إلى متانته وإعجازه لفتًا ، ويُجَلِّي صفاته أمام الأعين فتبصرها بلا عناء ، صافيةً بلا كَدَرٍ.
كما ذَكَرَ عز وجل أَنَّهُ كتابُ تذكرة وهدىً وبشرى للمؤمنين ، وحسرةً على الكافرين ، يهدي به الله أهل الطاعة والاستجابة إلى صراطٍ مستقيمٍ ، ويُثبِّتَ به قلوبهم.
فكان مما قاله سبحانه وتعالى حول هذه المعاني المذكورة ، على حَسْبِ ترتيبِ السور القرآنية:
قوله جلَّ شأنه: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].
وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 174 - 176].
وقوله عز وجل: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
وقوله عز وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً} [النساء: 47].
وقوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105)} [النساء: 105].
وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174].
وقوله عز وجل: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16].
وقوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 48 - 50].
وقوله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
وقوله عز وجل: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 65 - 66].
وقوله عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 156 - 157].
وقوله عز وجل: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2].
وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].
وقوله عز وجل: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 203 - 204].
وقوله عز وجل: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1].
وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 37 - 40].
وقوله عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
وقوله عز وجل: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 12 - 14].
وقوله عز وجل: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17].
وقوله عز وجل: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 1].
وقوله عز وجل: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104)} [يوسف: 104].
وقوله عز وجل: {المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1].
وقوله عز وجل: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد: 37].
وقوله عز وجل: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].
وقوله عز وجل: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1].
وقوله عز وجل: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقوله عز وجل: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
وقوله عز وجل: { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
وقوله عز وجل: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 79].
وقوله عز وجل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 101 - 105].
وقوله عز وجل: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
وقوله عز وجل: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} [طه: 1 - 4].
وقوله عز وجل: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه: 99 - 100].
وقوله عز وجل: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأنبياء: 50].
وقوله عز وجل: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
وقوله عز وجل: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33].
وقوله عز وجل: { تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء: 2].
وقوله عز وجل: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 192 - 212].
وقوله عز وجل: {طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 1 - 3].
وقوله عز وجل: { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل: 92 - 93].
وقوله عز وجل: {طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص: 1 - 2].
وقوله عز وجل: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 52 - 53].
وقوله عز وجل: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 85 - 87].
وقوله عز وجل: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 48 - 51].
وقوله عز وجل: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم: 58].
وقوله عز وجل: { الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 1 - 3].
وقوله عز وجل: { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} [سورة يس: 69].
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 36 - 37].
وقوله عز وجل: { ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ} [سورة ص: 1].
وقوله عز وجل: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص: 29].
وقوله عز وجل: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 1 - 2].
وقوله عز وجل: { حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [سورة غافر: 1 - 2].
وقوله عز وجل: { حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)} [فصلت: 1 - 4].
وقوله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة فصلت: 40 - 45].
وقوله عز وجل: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52].
وقوله عز وجل: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
وقوله عز وجل: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17].
وقوله عز وجل: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52 - 53].
وقوله عز وجل: { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [الزخرف: 1 - 4].
وقوله عز وجل: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43 - 44].
وقوله عز وجل: { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 1 - 6].
وقوله عز وجل: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58].
وقوله عز وجل: { حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية: 1 - 2].
وقوله عز وجل: { حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف: 1 - 2].
وقوله عز وجل: { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12].
وقوله عز وجل: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29 - 32].
وقوله عز وجل: { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [سورة محمد: 2].
وقوله عز وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [سورة محمد: 24].
وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17 ، 22 ، 32 ، 40].
وقوله عز وجل: { إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77 - 80].
وقوله عز وجل: { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
وقوله عز وجل: { فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8].
وقوله عز وجل: { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10 - 11].
وقوله عز وجل: { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 51 - 52].
وقوله عز وجل: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 40 - 51].
وقوله عز وجل: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1 - 2].
وقوله عز وجل: { كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 45 - 55].
وقوله عز وجل: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19].
وقوله عز وجل: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23].
وقوله عز وجل: { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16].
وقوله عز وجل: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 19 - 28].
وقوله عز وجل: { بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22].
وقوله عز وجل: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البيِّنَة: 1 - 3].
الَّلازمُ الثَّالثُ
العملُ بأَحْكَامِ القرآنِ ، والأخذُ به في كافَّة الأمورِ([207])
وهذا مِنْ مُسلَّمات الدين ، وقواعد الإسلام التي لا يصح الإسلام بدونها؛ لأنَّ عماد الإسلام على الطاعة لله سبحانه وتعالى ، وإفراده بالطاعة المطلقة في كلِّ أحكامه وأوامره ، وهذا يستلزم ضرورةً: العمل بالقرآن المقدَّس وأحكامه؛ لأنَّه المنبع الذي تؤخذ منه الشريعة ، ثم هو كلامُ الخبير بالنَّفْس ، العالِم بطرائِقِها وأحوالها ، الْمُطَّلِعِ على خَبَايَاها ، وأغْوَارِها ، فكلامُه لها أحسنُ الكلامِ ، وحُكْمُه لها أفيدُ الحكم وأصدقُه ، وبيانُه لها أتم البيان وأشفاه.
وأصلُ مادةِ الْحُكْم: المنع كما ذكر ابن فارس([208]) ، وغيره ، وقال الراغبُ الأصفهاني في ((مفردات القرآن)): ((حَكَمَ : أصله منع منعًا لإصلاحٍ ، ومنه سُمِّيَتِ اللجام : حَكَمَة الدابة ، فقيل : حَكَمْته وحَكمْتُ الدابة : منعتُها بالْحَكَمَة ، وأَحْكَمْتُها جَعَلْتُ لها حَكَمَةً ، وكذلكَ حكَمْتُ السفيهَ وأحكمتُه))([209]).
و((العربُ تقول : حكَّمْتُ فلانًا إذا أطلقتُ يدَهُ فيما يشاء))([210]).
فتحصَّل من ذلك معنيين:
المعنى الأول: أنه المنع لإصلاحٍ ، فالمنع لإفسادٍ يُخالفُ ذلك.
والمعنى الثاني: حَكَّمْتُ فلانًا يعني: أطلقتُ يدَهُ فيما يشاء.
فالحكمُ منعٌ مِنْ مُطْلَقِ اليدِ لإصلاحٍ.
ولا يُشكل على ذلك: الأمر؛ لأنَّ الأمر بالشيء نهيٌ ومنعٌ عن ضدِّه على الراجح في أصول الفقه.
وهذا المعنى المذكور للْحُكْمِ ينطبق تمامًا على حُكْمِ الله عز وجل؛ إِذْ هو حُكْمٌ مِن مطلق اليد لإصلاحٍ ، فهو المتفرِّد بالحكم المطلق في الكون كله ، وهو أيضًا المتفرِّد بصلاح أحكامه وحُسْنِها وجمالها مِنْ كل وجهٍ ، فأحكامه عدلٌ كلها وكمالٌ كلها ، لا تشوبها شائبة جَوْرٍ أو نقصٍ أبدًا.
وقد تفرَّدَ سبحانه وتعالى بالحُكْمِ المطلق ، وأرسلَ الرسلَ مُبَشِّرِين ومُنْذِرِين لعباده ، وأمرَهم بتبليغ شريعته إلى الناس ، وأسندَ لولاة الأمر بعد الرسل توصيل أحكامه إلى عباده.
فالحكم في الحقيقة لله سبحانه وتعالى ، وأما الحكام والعلماء وغيرهم من ولاة الأمور فوظيفتهم التبليغ ، وتزول عنهم الصفة الشرعية إذا حادوا عن الصِّراط ، أو تنكَّبوا طريق الشريعة.
وأصلُ القضية موصولٌ بقضية الألوهية ، وتَفَرُّدِ المولى عز وجل بالحكم دون سواه ، فهو الخالق الرازق المستحق بأن يُفْرَدَ بالرُّبوبية ، وكذا هو الحاكم المتفرِّد بالألوهية.
وأهل الإيمان بعد ذلك هم أهل الاستجابة والطاعة ، وأما أهل الكفر والنفاق فهم أصحاب التمرُّد والعصيان.
ولذا جاءتِ النصوص الصريحة في وصف المؤمنين بالاستجابة لأحكام الله عز وجل ، كما بيَّنَتْ صفة المنافقين في تمرُّدهم وتأَبِّيهم لحكم الله السميع البصير.
يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 46 - 52].
فعَرَضَ سبحانه وتعالى حال المؤمنين وغير المؤمنين وبَيَّـن صفة كلٍّ منهما في هذه الآيات ، وقد ورد نحو هذه المقابَلَة بين الفريقين في سورة النساء أيضًا في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 59 - 65].
وقد ذَكَرَ أهلُ العِلْم أَنَّ الأمر بالرَّدِّ إلى الله عز وجل المذكور في صدر هذه الآيات: يعني الرَّدَّ إلى كتابه ، وأما الردّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال العلماء: هو الردُّ إلى السُّنَّة.
يقول ابن كثير رحمه الله: ((وهذا أمرٌ من الله عز وجل بأَنَّ كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أَنْ يُرَدَّ التَّنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة؛ كما قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10] ، فما حَكَمَ به الكتابُ والسنة وشَهِدَا له بالصحةِ؛ فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59]؛ أي: رُدُّوا الخصومات والجهالات إلى كتابِ الله وسُنَّةِ رسوله ، فتَحَاكموا إليهما فيما شَجَرَ بينكم {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59] ، فدَلَّ على أَنَّ مَنْ لم يتحاكم في مَحِلِّ النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلكَ فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر ، وقوله: {ذلك خير} [النساء: 59]؛ أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع {خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]؛ أي: وأحسن عاقبةً ومآلًا كما قاله السدي وغير واحد ، وقال مجاهد: وأحسن جزاءً ، وهو قريبٌ))([211]).
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسير آيات سورة النساء المذكورة: ((إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان . . هذا حق . . ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات , متأثرا بشتى المؤثرات . . ليس هناك ما يسمى ((العقل البشري)) كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك , وعقل فلان وعلان , وعقول هذه المجموعة من البشر , في مكان ما وفي زمان ما . . وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى ; تميل بها من هنا وتميل بها من هناك . .
ولا بد من ميزان ثابت , ترجع إليه هذه العقول الكثيرة ; فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها . ومدى الشطط والغلو , أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات . وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيَّأة للإنسان , ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان . . الميزان الثابت , الذي لا يميل مع الهوى , ولا يتأثر بشتى المؤثرات . .
ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين . . فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها . فتختل جميع القيم . . ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم .
والله يضع هذا الميزان للبشر , للأمانة والعدل , ولسائر القيم , وسائر الأحكام , وسائر أوجه النشاط , في كل حقل من حقول الحياة:
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ; وأطيعوا الرسول , وأولي الأمر . . منكم . . فإن تنازعتم في شيء , فردوه إلى الله والرسول . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]..
وفي هذا النص القصير يُبَيِّنُ الله سبحانه شرط الإيمان وَحَدّ الإسلام . في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة ; وقاعدة الحكم , ومصدر السلطان . . وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده ; والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصا , من جزيئات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال ; مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام . . ليكون هنالك الميزان الثابت , الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام !
إن ((الحاكمية)) لله وحده في حياة البشر - ما جل منها وما دق , وما كبر منها وما صغر - والله قد سن شريعة أودعها قرآنه . وأرسل بها رسولًا يُبَيِّنها للناس . ولا ينطق عن الهوى . فسُنَّتُه صلى الله عليه وسلم مِن ثَمَّ شريعةٌ مِنْ شريعة الله .
والله واجب الطاعة . ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة . فشريعته واجبة التنفيذ . وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله - ابتداءً - وأن يطيعوا الرسول - بما له من هذه الصفة . صفة الرسالة من الله ، فطاعته إذن من طاعة الله , الذي أرسله بهذه الشريعة ، وببيانها للناس في سنته . . وسنته وقضاؤه - على هذا - جزءٌ من الشريعة واجب النفاذ . . والإيمان يتعلق - وجودًا وعدمًا - بهذه الطاعة وهذا التنفيذ - بنص القرآن:
{إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59]. .
فأما أولو الأمر ; فالنص يُعَيِّنُ من هم .
{وأولي الأمر . . منكم} [النساء: 59]..
أي: من المؤمنين . . الذين يتحقَّق فيهم شرط الإيمان وحَدّ الإسلام المبين في الآية . . من طاعة الله وطاعة الرسول ; وإفراد الله سبحانه بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء؛ والتلقي منه وحده - فيما نصَّ عليه - والرجوع إليه أيضًا فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء , مما لم يَرِدْ فيه نصٌّ ; لتطبيق المبادئ العامة في النصوص عليه .
والنص يجعل طاعة الله أصلا ; وطاعة رسوله أصلا كذلك - بما أنه مرسل منه - ويجعل طاعة أولي الأمر . . منكم . . تبعًا لطاعة الله وطاعة رسوله . فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذِكْرِهم , كما كررها عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله - بعد أن قرر أنهم {منكم} بقيد الإيمان وشرطه . .
وطاعة أولي الأمر . . منكم . . بعد هذه التقريرات كلها , في حدود المعروف المشروع من الله , والذي لم يرد نص بحرمته ; ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادئ شريعته, عند الاختلاف فيه . . والسنة تقرر حدود هذه الطاعة , على وجه الجزم واليقين:
في الصحيحين من حديث الأعمش: ((إنما الطاعة في المعروف)).
وفيهما من حديث يحيى القطان: ((السمع والطاعة على المرء المسلم . فيما أحب أو كره . ما لم يؤمر بمعصية . فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)).
وأخرج مسلم من حديث أم الحصين: ((ولو استعمل عليكم عبد . يقودكم بكتاب الله . اسمعوا له وأطيعوا)). .
بهذا يجعل الإسلام كل فرد أمينًا على شريعة الله وسنة رسوله . أمينًا على إيمانه ودينه . أمينًا على نفسه وعقله . أمينًا على مصيره في الدنيا والآخرة . . ولا يجعله بهيمة في القطيع ; تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع ! فالمنهج واضح , وحدود الطاعة واضحة . والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد , ولا تتفرق , ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون !
ذلك فيما وَرَدَ فيه نصٌّ صريح . فأما الذي لم يرد فيه نص . وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية , على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات - ولا يكون فيه نص قاطع , أو لا يكون فيه نص على الإطلاق . . مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام - فإنه لم يُتْرَك كذلك تيهًا . ولم يُتْرَك بلا ميزان . ولم يُترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع . . ووضع هذا النص القصير , منهج الاجتهاد كله , وحدَّدَه بحدودِه ، وأقام ((الأصل)) الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضًا .
{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]. .
رُدُّوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمنًا . فإِنْ لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو ؛ فردوه إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشريعته . . وهذه ليست عائمة ، ولا فوضى , ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول . وهناك - في هذا الدين - مبادئ أساسية واضحة كل الوضوح , تغطي كل جوانب الحياة الأساسية , وتضع لها سياجا خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين .
{إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59]. .
تلك الطاعة لله والطاعة للرسول , ولأُولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول . ورَدّ ما يتنازع فيه إلى الله والرسول . . هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر . كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر . .
فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود . . ولا يوجد الإيمان , ثم يتخلف عنه أثره الأكيد .
وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي , يقدمها مرة أخرى في صورة ((العظة)) والترغيب والتحبيب ; على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب:
{ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]. .
ذلك خير لكم وأحسن مآلا . خير في الدنيا وخير في الآخرة . وأحسن مآلا في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة كذلك . . فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة - وهو أمر هائل, عظيم - ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحُسْنِ مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة.
أن هذا المنهج معناه: أن يستمتع ((الإنسان)) بمزايا منهج يضعه له الله . . الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير . . منهج بريء من جهل الإنسان , وهوى الإنسان , وضعف الإنسان . وشهوة الإنسان . . منهج لا محاباة فيه لفردٍ , ولا لطبقة , ولا لشعب ، ولا لجنس , ولا لجيل من البشر على جيل . . لأن الله رب الجميع , ولا تخالجه - سبحانه - وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا - شهوة المحاباة لفرد , أو طبقة , أو شعب , أو جنس ، أو جيل .
ومنهج من مزاياه , أن صانعه هو صانع هذا الإنسان . . الذي يعلم حقيقة فطرته , والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة , كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها ; ووسائل خطابها وإصلاحها ، فلا يخبط - سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا - في تيه التجارب بحثا عن منهج يوافق . ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية , حين يخبطون هم في التيه بلا دليل ! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون . فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري . وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج ; ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول .
ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون , الذي يعيش فيه الإنسان . فهو يضمن للإنسان منهجا تتلاءم قواعده مع نواميس الكون ; فلا يروح يعارك هذه النواميس . بل يروح يتعرف إليها , ويصادقها , وينتفع بها . . والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه .
ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكانًا للعمل في المنهج . . مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة . ثم الاجتهاد في رَدِّ ما لم يَرِدْ فيه نصٌّ إلى النصوص أو إلى المبادئ العامة للدين . . ذلك إلى المجال الأصيل , الذي يحكمه العقل البشري , ويعلن فيه سيادته الكاملة: ميدان البحث العلمي في الكون ; والإبداع المادي فيه .
{ذلك خير وأحسن تأويلًا} [النساء: 59]. . وصدق الله العظيم .
وحين ينتهي السياق من تقرير هذه القاعدة الكلية في شرط الإيمان وحد الإسلام , وفي النظام الأساسي للأمة المسلمة , وفي منهج تشريعها وأصوله . . يلتفت إلى الذين ينحرفون عن هذه القاعدة ; ثم يزعمون - بعد ذلك - أنهم مؤمنون.
{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا} [النساء: 60] . .
ألم تَرَ إلى هذا العجب العجاب . . قوم . . يزعمون . . الإيمان . ثم يهدمون هذا الزعم في آنٍ ?! قوم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ? إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر ، وإلى منهج آخر , وإلى حكم آخر . . يريدون أن يتحاكموا إلى . . الطاغوت . . الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . ولا ضابط له ولا ميزان , مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . . ومن ثَمَّ فهو . . طاغوت . . طاغوت بادِّعائه خاصية من خواص الألوهية . وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزانٍ مضبوطٍ أيضًا ! وهم لا يفعلون هذا عن جهلٍ , ولا عن ظنٍّ . . إنما هم يعلمون يقينًا ويعرفون تمامًا , أَنَّ هذا الطاغوت محرمٌ التحاكم إليه: {وقد أمروا أن يكفروا به} [النساء: 60]. . فليس في الأمر جهالة ولا ظن . بل هو العمد والقصد . ومن ثَمَّ لا يستقيم ذلك الزعم . زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب . .
{ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا} [النساء: 60] . .
فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت . وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت ! هذا هو الدافع يكشفه لهم . لعلهم يتنبهون فيرجعوا . ويكشفه للجماعة المسلمة , لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك .
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله . . ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به:
{وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول , رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء: 61].
يا سبحان الله ! إنَّ النفاق يَأْبَى إلا أن يكشفَ نفسه ! ويأبى إلا أنْ يُنَاقِضَ بديهيات المنطق الفطري . . وإلا ما كان نفاقًا . . .
إنَّ المقتضى الفطري البديهي للإيمان , أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به , وإلى من آمن به . فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل , وبالرسول وما أنزل إليه . ثم دُعِيَ إلى هذا الذي آمَن به , ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه ; كانت التَّلْبِيه الكاملة هي البديهية الفطرية . فأَمَّا حين يصُدّ ويَأْبَى فهو يخالف البديهية الفطرية . ويكشف عن النفاق. ويُنْبِئ عن كذبِ الزَّعْم الذي زَعَمَهُ مِنَ الإيمان !
وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله سبحانه أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله . ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله . بل يصدون عن ذلك المنهج حين يُدْعَوْنَ إليه صدودًا !
ثم يَعْرِض مظهرًا من مظاهر النفاق في سلوكهم ; حين يقعون في ورطةٍ أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ; أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت . ومعاذيرهم عند ذلك . وهي معاذير النفاق:
{فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله: إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} [النساء: 62]. .
وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة - يومذاك - حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم . فما يطيق المجتمع المسلم أَنْ يرى مِنْ بينه ناسًا يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أُنْزِلَ , وبالرسولِ وما أُنْزِلَ إليه ، ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة الله ; أو يصدون حين يدعون إلى التحاكم إليها . . إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان . وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء ; وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء !
أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم ; نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل ، ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت ; في قضية من قضاياهم .
أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم . لعلهم يتفكرون ويهتدون . .
وأَيًّا ما كان سبب المصيبة ; فالنص القرآني , يسأل مستنكرا: فكيف يكون الحال حينئذ ! كيف يعودون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
{يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} [النساء: 62]. . .
إنها حال مخزية . . حين يعودون شاعرين بما فعلوا . . غير قادرين على مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بحقيقة دوافعهم . وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين: أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هذا هو عُرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق ! وهي دائمًا دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته: أنهم يريدون اتِّقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب , التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله ! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة . . إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين . . هي هي دائمًا وفي كل حين !
والله سبحانه يكشف عنهم هذا الرداء المستعار . ويخبر رسوله صلى الله عليه وسلم, أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم . ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق , والنصح لهم بالكفِّ عن هذا الالتواء:
{أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم . فأعرض عنهم وعظهم , وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء: 63]. .
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم ; ويحتجون بهذه الحجج , ويعتذرون بهذه المعاذير . والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور . . ولكن السياسة التي كانت مُتَّبَعَة - في ذلك الوقت - مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم , وأخذهم بالرفق , واطراد الموعظة والتعليم . .
والتعبير العجيب:
{وقل لهم . . في أنفسهم . . قولا بليغًا} [النساء: 63] .
تعبير مصور . . كأنما القول يُودَع مباشرة في الأنفس , ويستقر مباشرة في القلوب .
وهو يرغِّبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كَنَفِ الله وكَنَفِ رسوله . . بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت ; ومن الصدود عن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول . . فالتوبة بابها مفتوح , والعودة إلى الله لم يَفُتْ أوانها بعد ; واستغفارهم الله من الذنب , واستغفار الرسول لهم , فيه القبول ! ولكنه قبل هذا كله يُقَرِّر القاعدة الأساسية: وهي أن الله قد أرسل رُسُلَه ليُطَاعوا - بإذنه - لا ليخالف عن أمرهم . ولا ليكونوا مجرد وعاظ ! ومجرد مرشدين !
{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله . ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك , فاستغفروا الله , واستغفر لهم الرسول , لوجدوا الله توابا رحيمًا} [النساء: 64] . .
وهذه حقيقة لها وزنها . . إن الرسول ليس مجرد ((واعظ)) يُلقي كلمته ويمضي . لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل ; أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول ((الدين)) .
إن الدين منهج حياة . منهج حياة واقعية . بتشكيلاتها وتنظيماتها , وأوضاعها , وقِيَمِها , وأخلاقها وآدابها . وعباداتها وشعائرها كذلك .
وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان . سلطان يحقق المنهج , وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ . . والله أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين . منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة . وما من رسول إلا أرسله الله ، ليطاع , بإذن الله . فتكون طاعته طاعة لله . . ولم يرسل الرسل لمجرد التَّأثُّر الوجداني ، والشعائر التعبُّدية . . فهذا وَهْمٌ في فَهْم الدين ; لا يستقيم مع حِكْمة الله من إرسال الرسل . وهي إقامة منهج مُعَيَّن للحياة , في واقع الحياة . . وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أَنْ يقف واعظًا . لا يُعْنيه إلا أَنْ يقول كلمتَه ويمضي . يستهتر بها المستهترون , ويبتذلها المبتذلون !!!))أهـ
ولذا قال سيد رحمه الله في مقدمة ((الظلال)): ((وانتهيت من فترة الحياة في ظلال القرآن إلى يقينٍ جازمٍ حاسمٍ... أَنَّهُ لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ، ولا رِفْعَة ، ولا بَرَكة ، ولا طهارة ، ولا تناسُق مع سُنَن الكون وفِطْرة الحياة إلا بالرجوع إلى الله ، والرجوع إلى الله - كما يتجَلَّى في ظلال القرآن- له صورة واحدة ، وطريق واحد... واحد لا سواه... إِنَّهُ العودة بالحياةِ كلِّها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم . . إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها . والتحاكم إليه وحده في شؤونها . وإلا فهو الفساد في الأرض ، والشقاوة للناس ، والارتكاس في الحمأة ، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص: 50]. .
إنَّ الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلةً ولا تطوعًا ولا موضعَ اختيارٍ ، إنما هو الإيمان . . أو . . فلا إيمان . . {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36]. . {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، والله ولي المتقين} [الجاثية: 18 - 19]. .
والأمر إذن جدّ . . إِنَّه أمر العقيدة من أساسها . . ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها . .
إن هذه البشرية - وهي مِنْ صُنْع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ؛ ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق ، وشفاء كل داء: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]. . {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9]))أهـ
وبناءً عليه:
يلزمُ العمل بأحكام القرآن ، جملةً وتفصيلاً ، والثقة به ، دونَ بحثٍ عن سَنَدٍ له ، أو دليلٍ لما قاله أو أمَرَ به؛ إِذْ هو أصلُ الأحكام ، وهي فرعه ، وإنما يُقَدَّمُ الأصل على الفرع ، لا العكس.
ويلزمُ من ذلك أيضًا:
الحرص على حِفْظِه ، ومُدَارَسَتِهِ ، والتعبُّد به ، والدفاع عنه ، والغَيْرَة له إذا نال منه بعض الناس بوجهٍ من الوجوه؛ كالاستهزاء أو القدح ونحوهما.
ويلزم من ذلك أيضًا:
أَنْ تُتَّخذَ الإجراءات اللازمة لإِلْزَام الناس على الأخذ بالقرآنِ ، والانصياع لأحكامه ، والتسليم المطلق له ، وترك التقديم بين يديه ، على حَدِّ قول الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى: ((إذا نطقَ الكتابُ بشيءٍ وإِذا جاءت الآثارُ بشيءٍ جَسُرْنا([212]) عليه))([213]).
ومِنْ هنا تَعْلَم شناعة ما يقع فيه أكثر الناس -إلا من رحم الله- مِن التحاكم إلى غير كلامِ الله سبحانه وتعالى وتَرْكِ التحاكم إلى القرآن المقدَّس ، المحفوظ مِن التحريف والتبديل ، المُنَزَّه عن الزيغ والباطل.
وقد قال سبحانه وتعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] ، وفي آيةٍ ثانيةٍ: {هم الظالمون} [المائدة: 45] ، وفي آيةٍ ثالثةٍ: {هم الفاسقون} [المائدة: 47].
يصف ربُّنا سبحانه وتعالى مَن لم يحكم بما أنزل الله بهذه الصفات الثلاثة في سياقٍ واحدٍ مِنْ سورة المائدة ، مما يدلّ على عِظَم الجُرْم الذي يرتكبه المخالف لأحكام الله سبحانه وتعالى ، المتَّبع لغير ما أنزل الله ، الْمُعْرِض عن تحكيم كلام الله المنزَّه عن النَّقص والمتَّصفِ بالكمال المطلق.
وتَأَمَّلْ قولَ الله جلَّ جلاله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
فالذين آمنوا هم أهل الهداية للصراط المستقيم ، المذعنين لأحكام الله وأوامره ، المتَّبعين لا الْمُبَدِّلِين.
وتأمَّل قولَ الله سبحانه وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29 - 32].
أَفَيَعَجَزِ الناسُ عن محاكاة الجنِّ في إيمانهم وإِذْعَانهم؟ أم يعجزون عن الإيمان الذي فيه مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة؟!
اللازمُ الرابعُ
تَنْزِيهُ القرآنِ عنِ السَّبِّ والطَّعْنِ
تمهيد:
القرآنُ كلام الله U ، قائم بذاته Y ، وكلامُه صفةٌ مِن صفاته ، فمَن سبَّ صفاته - أو بعضًا منها - فكأنما سبَّ ذاته I ، ولا فرق؛ لأنَّ سَبَّ الصفة سبٌّ للموصوف ، وهذا مما عُلِمَ ضرورةً مِنْ دين الإسلام ، ودلَّتْ عليه العقول الصحيحة.
وقد مضى قريبًا: أَنَّ القولَ في الصفاتِ الإلهية كالقولِ في الذات؛ ولا فرق.
وقال أَصْبَغُ بنُ الفَرَج رحمه الله: «مَنْ كَذَّبَ ببعضِ القرآنِ فقد كَذَّبَ به كلِّه ، ومَنْ كَذَّبَ به: فقد كَفَرَ به ، ومَن كَفَرَ به: فقد كَفَرَ بالله([214])»أهـ
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: «ومعلومٌ أنَّ الإيمان بالله على الوجه الصحيح: يستلزمُ الإيمان بآياته ، وأنَّ الإيمان بآياته كذلك: يستلزم الإيمان به تعالى»([215]).
ومن هنا تُدْرك فقه أهل السنة والجماعة[216] y حين استطردوا في بيان حكم مَن سبَّ الله U ، أو سبَّ رسوله r ، أوطعنَ في أحدٍ مِن الصحابة الكرام ، دون الاستطراد في بيان حكم مَن سبَّ القرآن ، أو استهزأ ببعض آياته؛ ذلك أنَّ القرآن كلام الله U ، وكلامه I صفة قائمة به ، غير بَائِنٍ منه ، ولا منفصل عنه ، وحكم مَن سبَّ كلامه أو شيئًا من صفاته سبحانه كحكم مَن سبَّ ذاته U ولا فرق؛ إِذْ من سبَّ الصفة فقد سبَّ الموصوف بها ، كما أنَّ مَن سبَّ الذات فقد سبَّ الصفات الخاصة بها ، فمن سبَّ الله U فقد سبَّ صفاته وأفعاله ، ومن سبَّ -أو استهزأ- بصفاته وأفعاله -أو شيئًا منها- فقد سبَّ الله U واستهزأَ بهI؛ عياذًا بالله من ذلك.
وإنما عَظُمَ سبّ القرآن؛ لكونه تابعًا لسبِّ الله U ، ومتعلِّقًا به ، وقد قالوا في تعظيم سبِّ الرسول r: «إنما عَظُمَ سبّ الرسول r لكونه تابعًا لحق الله U»[217]؛ فكذلك القرآن.
فصلٌ
فيمَنْ سبَّ الله Y
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
«فإِنْ كان مسلمًا وَجَبَ قَتْله بالإجماع؛ لأنه بذلك كافرٌ مرتدٌّ ، وأسوأُ مِن الكافر؛ فإِنَّ الكافر يُعظِّم الربَّ ويعتقد أنَّ ما هو عليه مِن الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ، ولا مسبة له.
ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته؛ بمعنى: أنه هل يُسْتَتَاب كالمرتدِّ ، ويسقط عنه القتل إذا أَظْهَرَ التوبة مِن ذلك بعد رفعه إلى السلطان وثبوت الحَدّ عليه؟ على قولين:
أحدهما: أنه بمنزلة سابّ الرسول فيه الروايتان كالروايتين في ساب الرسول ، هذه طريقة أبي الخطاب ، وأكثر مَن احتذى حذوه من المتأخرين ، وهو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد؛ حيث قال: «كل مَن ذَكَرَ شيئًا يُعَرِّضُ بذِكْرِ الربّ تبارك وتعالى فعليه القتل مسلمًا كان أو كافرًا ، وهذا مذهب أهل المدينة» ، فأطلق وجوب القتل عليه ، ولم يذكر استتابته ، وذَكَرَ أَنَّه قولُ أهل المدينة ، ومَنْ وجبَ عليه القتلُ (يَسْقُط)([218]) بالتوبةِ ، وقولُ أهل المدينة المشهور أَنَّه لا يسقط القتل بتوبته ، ولو لم يُرِدْ هذا لم يخصه بأهل المدينة ، فإِنَّ الناسَ مجمعون على أَنَّ مَنْ سبَّ الله تعالى مِن المسلمين يُقْتل ، وإنما اختلفوا في توبته ، فلما أَخَذَ بقولِ أهل المدينة في المسلم كما أَخَذَ بقولهم في الذِّمِّي عُلِمَ أَنَّه قَصَدَ محل الخلاف بين المدنيين والكوفيين في المسأَلَتَيْن ، وعلى هذه الطريقة فظاهر المذهب أَنّه لا يسقط القتل بإظهار التوبة بعد القدرة عليه كما ذكرناه في ساب الرسول.
وأما الرواية الثانية: فإِنَّ عبدَ الله([219]) قال: سئل أبي عن رجلٍ قال: «يا ابن كذا وكذا أنتَ ومَن خلقك»؟ قال أبي: هذا مرتدٌّ عن الإسلام ، قلت لأبي: تَُضْرَِبُ عنقه؟ قال: نعم نضرب عنقه. فجعله من المرتدين.
والرواية الأولى قول الليث بن سعد ، وقول مالك ، وروى ابن القاسم عنه([220]) قال: مَنْ سَبَّ الله تعالى مِن المسلمين قُتِلَ ولم يُسْتَتَب؛ إلا أَنْ يكون افترى على الله بارْتِدَادِه إلى دينٍ دانَ به وأَظْهَرَهُ فيُسْتَتَاب وإِنْ لم يظهره لم يُسْتَتَب ، وهذا قولُ ابنِ القاسم ومُطرِّف ، وعبد الملك ، وجماهير المالكية.
والثاني: أَنَّه يُسْتَتَاب ، وتُقْبَلُ توبته ، بمنزلة المرتد المحض ، وهذا قول القاضي أبي يعلى ، والشريف أبي جعفر ، وأبي علي بن البناء ، وابن عقيل ، مع قولهم: إِنَّ مَنْ سبَّ الرسول لا يُسْتَتَاب ، وهذا قول طائفة من المدنيين؛ منهم: محمد بن مسلمة ، والمخزومي ، وابن أبي حازم؛ قالوا: لا يُقْتَلُ المسلم بالسَّبِّ حتى يُسْتَتَاب ، وكذلك اليهودي والنصراني ، فإِنْ تابوا قُبِلَ منهم ، وإِنْ لم يتوبوا قُتِلُوا ، ولا بُدّ مِن الاستتابة ، وذلك كله كالرِّدَّة ، وهو الذي ذكره العراقيون من المالكية.
وكذلك ذكر أصحاب الشافعي t قالوا: سبُّ الله رِدَّةٌ ، فإذا تاب قُبِلَتْ توبته ، وفرَّقوا بينه وبين سبّ الرسول على أحد الوجهين ، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة أيضًا.
وأما مَن استتابَ السابّ لله ولرسوله فمأْخَذه أَنَّ ذلك مِن أنواع الردة ، ومَن فَرَّق بين سب الله والرسول قال: سب الله تعالى كفرٌ محض ، وهو حقٌّ لله ، وتوبةُ مَنْ لم يصدر منه إلا مجرد الكفر الأصلي أو الطارئ مقبولة مُسْقطة للقتل بالإجماع ، ويدل على ذلك أَنَّ النصارى يسبون الله بقولهم هو ثالث ثلاثة ، وبقولهم: إِنَّ له ولدًا ، كما أخبر النبي r عن الله U أَنَّه قال: «شَتَمَنِي ابنُ آدَم وما ينبغي له ذلك ، وكَذَّبَني ابنُ آدم وما ينبغي له ذلك ، فأما شتمه إِيَّايَّ فقوله: إِنَّ لي ولدًا وأنا الأحد الصمد» ([221]) ، وقال سبحانه: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة( إلى قوله: )أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه( [المائدة:73-74] ، وهو سبحانه قد عُلِمَ منه أَنّه يُسْقِط حقَّه عن التائب ، فإِنَّ الرجلَ لو أَتَى مِن الكفر والمعاصي بملء الأرض ثم تاب؛ تابَ الله عليه ، وهو سبحانه لا تَلْحَقُه بالسبِّ غَضَاضة ولا مَعَرَّة ، وإِنما يعود ضرر السبّ على قائله ، وحرمته في قلوب العباد أعظم مِن أَنْ يهتكها جرأة الساب ، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول ، فإِنَّ السب هناك قد تَعَلَّقَ به حقٌّ آدمي ، والعقوبة الواجبة لآدميٍّ لا تسقط بالتوبة ، والرسول تَلْحَقُه الْمَعَرَّةُ والغَضَاضَة بالسبِّ ، فلا تقوم حرمته وتثبت في القلوب مكانته إلا باصطلام سابه؛ لِمَا أَنَّ هَجْوَه وشتمه يُنْقِص من حرمته عند كثير من الناس ويقدح في مكانه في قلوبٍ كثيرةٍ ، فإِنْ لم يُحْفَظْ هذا الْحِمَى بعقوبةِ المنتهك وإلا أَفْضَى الأمر إلى الفساد.
وهذا الفرق يتوجَّه بالنظر إلى أن حدَّ سب الرسول حقٌّ لآدمي ، كما يذكره كثير من الأصحاب ، وبالنظر إلى أنه حقٌّ لله أيضًا ، فإِنَّ ما انتهكه مِنْ حرمة الله لا ينجبر إلا بإقامة الحد ، فأَشْبَه الزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
وأيضًا؛ فإِنَّ سب الله ليس له داعٍ عقلي في الغالب ، وأكثر ما هو سب في نفس الأمر إنما يصدر عن اعتقادٍ وتَدَيُّنٍ يُرَادُ به التعظيم لا السب ، ولا يَقْصِد السابُّ حقيقةَ الإهانة لعِلْمِهِ أَنَّ ذلكَ لا يُؤَثِّر ، بخلاف سب الرسول؛ فإِنَّه في الغالب إنما يُقْصَدُ به الإهانة والاستخفاف والدواعي إلى ذلك متوفرة من كل كافر ومنافق ، فصار من جنس الجرائم التي تدعوا إليها الطباع ، فإن حدودها لا تسقط بالتوبة بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها([222]).....
وأمَّا السابّ فإنّه مظهرٌ للتنقُّصِ والاستخفاف والاستهانة بالله ، منتهكٌ لحرمته ، انتهاكًا يعلم هو مِن نفسه أنّه منتهكٌ مستخفٌّ مستهزىء ، ويعلم هو مِن نفسه أَنّه قد قال عظيمًا ، وأَنَّ السموات والأرض تكاد تنفطر مِن مقالته وتخرُّ الجبال ، وأَنَّ ذلك أعظم مِن كلِّ كفرٍ ، وهو يعلم أَنَّ ذلك كذلك ، ولو قال بلسانه: إني كنت لا أعتقد وجود الصانع ولا عظمته والآن فقد رجعتُ عن ذلك؛ علمنا أَنّه كاذبٌ فإِنَّ فِطَرَ الخلائق كلها مجبولةٌ على الاعتراف بوجود الصانع ، وتعظيمه ، فلا شبهة تدعوه إلى هذا السب ، ولا شهوة له في ذلك ، بل هو مجرد سخرية واستهزاء واستهانة وتمرُّد على ربِّ العالمين ، تنبعث عن نفسٍ شيطانية ممتلئةٍ مِن الغضب ، أو مِن سفيهٍ لا وَقَارَ لله عنده ، كصدورِ قَطْع الطريق والزنى عن الغضب والشهوة ، وإذا كان كذلك وَجَبَ أَنْ يكون للسبِّ عقوبة تخصُّه ، حدًّا مِن الحدود ، وحينئذٍ فلا تسقط تلك العقوبة بإظهار التوبة كسائر الحدود....
وجماعُ الأمر: أنَّ كل عقوبة وجبت جزاءً ونكالاً على فعلٍ أو قولٍ ماضٍ فإنها لا تسقط إذا أُظْهِرَت التوبة بعد الرفع إلى السلطان؛ فسبُّ الله أولى بذلك ، ولا ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد؛ لأن العقوبة هناك إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال ، المستصحب مِن الماضي ، فلا يصلح نقضًا؛ لوجهين:
أحدهما: أن عقوبة السابّ لله ليست لذنبٍ استصحبه واسْتَدَامَهُ ، فإِنَّه بعد انقضاء السبّ لم يستصحبه ولم يَسْتَدِمْه ، وعقوبةُ الكافر والمرتد إنما هي الكفر([223]) الذي هو مُصِرٌّ عليه مقيمٌ على اعتقاده.
الثاني: أن الكافر إنما يعاقب على اعتقادٍ هو الآن في قلبه ، وقولُه وعملُه دليلٌ على ذلك الاعتقاد.... والسابُّ إنما يُعَاقَبُ على انتهاكه لحرمة الله ، واستخفافه بحقه ، فيُقْتَلُ.
ولا يُنْتَقَضُ هذا أيضًا بترك الصلاة والزكاة ونحوهما؛ فإِنهم إنما يُعاقبون على دوام الترك لهذه الفرائض ، فإذا فعلوها زال الترك.
وإِنْ شئتَ أَنْ تقول الكافر والمرتد وتاركوا الفرائض يُعاقبون على عدم فعل الإيمان والفرائض؛ أعني: على دوام هذا العدم ، فإِذا وُجِدَ الإيمان والفرائض امتنعت العقوبة لانقطاع العدم ، وهؤلاء يعاقبون على وجود الأقوال والأفعال الكبيرة لا على دوام وجودها ، فإذا وُجِدَتْ مرة لم يرتقع ذلك بالترك بعد ذلك.
وبالجملة فهذا القول له توجُّه وقوة.
ومِن الناس من سلك في سابِّ الله تعالى مسلكًا آخر ، وهو أنه جعله مِن باب الزنديق كأحد المسلكين اللذين ذكرناهما في ساب الرسول؛ لأن وجود السب منه مع إظهاره للإسلام دليلٌ على خبث سريرته ، لكن هذا ضعيف ، فإِنَّ الكلام هنا إنما هو في سبٍّ لا يُتَدَيَّنُ به ، فإِنَّ السب الذي يُتَدَيَّنُ به؛ كالتثليث ودعوى الصاحبة والولد؛ فحكمه حكم أنواع الكفر ، وكذلك المقالات المُكَفِّرة؛ مثل: مقالة الجهمية والقدرية وغيرهم مِن صنوف البدع.
وإذا قبلنا توبة مَن سب الله سبحانه فإنه يُؤَدَّبُ أَدَبًا وجيعًا حتى يردعه عن العَوْدِ إلى مثل ذلك ، هكذا ذكره بعض أصحابنا وهو قول أصحاب مالك في كلِّ مرتدٍ.
فصل: وإِنْ كان السابّ لله ذميًّا؛ فهو كما لو سب الرسول ، وقد تقدم نص الإمام أحمد على أنَّ «مَن ذكر شيئًا يُعَرِّض بذكر الرب سبحانه فإنّه يُقْتَلُ سواءٌ كان مسلمًا أو كافرًا» ، وكذلك أصحابنا قالوا: «مَن ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوءٍ» ، فجعلوا الحكم فيه واحدًا وقالوا: الخلاف في ذِكْرِ الله وفي ذِكْرِ النبي r سواءٌ ، وكذلك مذهب مالك وأصحابه ، وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا لمن سب الله أو رسوله أو كتابه مِن أهل الذمة حكمًا واحدًا.....
سبُّ الله تعالى على قسمين: أحدهما: أَنْ يسبّه بما لا يُتَدَيَّنُ به مما هو استهانة به عند المتكلِّم وغيره مِثل: اللعن والتقبيح ونحوه([224]) ، فهذا هو السب الذي لا ريب فيه ، والثاني: أن يكون مما يُتَدَيَّنُ به ويعتقده تعظيمًا ولا يراهُ سبًّا ولا انتقاصًا؛ مثل: قول النصراني: إنَّ له ولدًا وصاحبةً ونحوه ، فهذا مما اختلف فيه إذا أظهره الذمي فقال القاضي وابن عقيل مِن أصحابنا: يُنْتَقَضُ به العهد كما ينتقض إذا أظهروا اعتقادهم في النبي r ، وهو مقتضى ما ذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب وغيرهما ، فإنهم ذكروا أَنْ ما ينقض الإيمان ينقض الذِّمَّة ، ويحكى ذلك عن طائفة من المالكية([225])»أهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
«السب الذي ذكرنا حكمه مِن المسلم هو الكلام الذي يُقْصَدُ به الانتقاص والاستخفاف ، وهو ما يُفْهَمُ منه السبّ في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم؛ كاللعن والتقبيح ونحوه ، وهو الذي دلَّ عليه قوله تعالى: )ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم( [الأنعام:108] ، فهذا أعظم ما تَفَوَّهُ به الأَلْسِنَةُ ، فأَمَّا ما كان سبًّا في الحقيقة والحكم لكن مِن الناس مَن يعتقده دينًا ويراهُ صوابًا وحقًّا ويظن أَنْ ليس فيه انتقاص ولا تعييب؛ فهذا نوعٌ مِن الكفر ، حُكْمُ صاحبه إِمَّا حُكْم المرتدّ المُظهر للرِّدَّةِ ، أو المنافق المُبْطِنْ للنفاق ، والكلامُ في الكلامِ الذي يكفر به صاحبه أو لا يكفر وتفصيل الاعتقادات وما يُوجِبُ منها الكفر أو البدعة فقط وما اختُلِفَ فيه مِن ذلك ليس هذا موضعه ، وإنما الغرض أَنْ لا يدخل هذا في قسم السب الذي تكلمنا في استتابة صاحبه نفيًا وإثْبَاتًا؛ والله أعلم([226])»أهـ
فصلٌ
مَن سبَّ القرآن فقد سبَّ النبيّ r
وذلك أنَّ الله U قد أيَّدَ رسولَه r بالمعجزات ، وجعلَ القرآن معجزتَهُ الكبرى ، وبلَّغَ رسولَه r كتابَ ربِّه إلى الناس ، وهو في ذلك صادقٌ أمين ، فمَن جحدَ القرآن فقد جحدَ معجزة النبيِّ r ، وَكَفَرَ به وبكتابهِ ، ومَن استهزأ بالقرآن - أو بشيءٍ منه - فقد استهزأ بِمَنْ بلَّغَهُ إلى الناس ، ونَشَرَهُ بينهم ، ودعاهم إليه ، وأهدَرَ جهاد النبيِّ r لنشرِ أوامره ، وإلزام الناس بها ، والدعوة إلى أحكامه وفرائضه ، حتى آخر أنفاسه ، وكذَّب رسولَ الله r في وصيته بكتاب الله عند موته[227].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
«فمن آمن بالرسل: آمن بما بلَّغوه عن الله ، ومَنْ كَذَّبَ بالرسلِ: كَذَّبَ بذلك ، فالإيمان بكلام الله داخلٌ في الإيمان برسالةِ الله إلى عباده ، والكفر([228]) بذلك هو الكفر بهذا ، فَتَدَبَّر هذا الأصل؛ فإِنَّه فرقانُ هذا الاشتباه([229])»أهـ
والاستهزاء بكتاب الله U ورسوله r لا يصدُر إلاَّ عن هوىً وبغضٍ للرسول r ولما جاء به.
قال الشافعيُّ رحمه الله:
«ومَن أبغضَ النبيَّ r كفَرَ بالله العظيم[230]»أهـ
وقد نصَّ الأئمة؛ أحمد وغيره رحمهم الله على أنَّ سبَّ الرسول r كفرٌ وردَّةٌ؛ إِنْ كان فاعله مسلمًا ، ونقضٌ للعهد؛ إِنْ وَقَعَ مِن ذمِّيٍّ([231]).
وعقد القاضي عياض رحمه الله في ذلك فصلاً قال فيه:
«وحُكمُ مَن سبَّ سائرَ أنبياء الله تعالى وملائكته ، واستخفَّ بهم ، أو كذبهم فيما أتَوْا به ، أو أنكرهم وجحدهم: حُكْمُ نبيِّنا r على مساقِ ما قدَّمْناه.
قال الله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ( الآية([232]) [النساء:150].
وقال تعالى: )قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ( الآية إلى قوله: ) لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ( [البقرة:136]([233]).
وقال: )كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ( [البقرة:285].
قال مالكٌ - في كتاب ابن حبيبٍ ومحمدٍ ، وقال ابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وسُحْنونٌ فيمن شتم الأنبياء ، أو أحدًا منهم ، أو تنقصه -: قُتِلَ ولم يُسْتَتَبْ ، ومَن سبَّهم مِن أهل الذِّمة قُتِل؛ إلا أن يُسلم.
وروى سحنونٌ عن ابن القاسم: مَن سبَّ الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كَفَرَ فاضْرِبْ عنقَه؛ إلا أن يُسْلم.
وقد تقدَّم الخلافُ في هذا الأصل.
وقال القاضي بقرطبة سعيد بن سليمان - في بعض أجوبتهِ -: مَن سبَّ الله وملائكتَه قُتِلَ.
وقال سحنونٌ: من شتمَ مَلَكًا مِن الملائكةِ فعليه القتلُ.
وفي «النوادر» عن مالك - فيمن قال: إنَّ جبريل أخطأَ بالوحي وإنما كان النبيُّ عليَّ بنَ أبي طالب -: اسْتُتِيبَ؛ فإن تابَ وإلاَّ قُتِلَ.
ونحوهُ عن سحنونٍ.
وهذا قول الغُرَّابيَّةِ مِنَ الرَّوافضِ سُمُّوا بذلك لقولهم: كان النبيَّ r أشْبهَ بعليٍّ مِنَ الغُرابِ بالغُرابِ.
وقال أبو حنيفة وأصحابُه - على أصلِهم -: مَنْ كذَّبَ بأحدٍ مِن الأنبياء ، أو تنقَّصَ أحدًا منهم ، أو بَرِئَ منه فهو مرتدٌّ.
وقال أبو الحسنِ القابسيُّ في الذي قال لآخر: كَأَنَّهُ وجْهُ مالكٍ الغضبانِ: لو عُرِفَ أنَّه قَصَدَ ذَمَّ المَلَكِ([234]) قُتِلَ.
قال القاضي أبو الفضل([235]): وهذا كلُّه فيمن تَكَلَّمَ فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين ، أو على مُعيَّنٍ ممن حقَّقْنا كوْنه مِن الملائكة والنَّبيِّين ، ممن نصَّ الله عليه في كتابه ، أو حقَّقْنا عِلْمه بالخبر المتواتر والمشتَهرِ المتَّفق عليه بالإجماع القاطع؛ كجبريلَ وميكائيلَ ومالكٍ وخزَنَةِ الجنة وجهنم والزَّبَانِيَةِ وحَمَلَةِ العرشِ المذكورينَ في القرآن مِن الملائكة ، ومَن سُمِّيَ فيه مِنَ الأنبياء ، وكعزرائيلَ وإسرافيلَ ورِضْوانَ والحَفَظَةِ ومنكرٍ ونكيرِ مِن الملائكة المتفق على قبولِ الخبرِ بهما([236]) ، فأمَّا مَن لم تثْبتِ الأخبارُ بتعْيينهِ ، ولا وقعَ الإجماعُ على كونه مِن الملائكةِ أو الأنبياء؛ كهاروتَ وماروتَ في الملائكة ، والخَضِرِ ولُقمانَ وذي القَرْنين ومَرْيم وآسيَةَ وخالدِ بن سِنان المذكورِ أنَّه نبيُّ أهل الرَّسِّ وزَرادُشْتَ الذي تَدَّعِي المجوسُ والمؤَرِّخونَ نُبُوَّته: فليسَ الحُكمُ في سَآبِّهِمْ والكاف