اللهم

اللهم اشفني شفاءا لا يغادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني رحمة واسعة مباركة طيبة واكفني همي كله وفرج كربي كله واكشف البأساء والضراء عني واعتقني من كل سوء في الدارين يا ربي

الخميس، 20 يناير 2022

ج3 -كتاب: شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

ج3  -كتاب: شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

-------
عيينة: حدثنا أوثق الناس: أيوب. وكقول شعبة: حدثني سيد الفقهاء: أيوب. وقال وكيع: حدثنا سفيان أمير المؤمنين في الحديث.
وقال ابن خزيمة: حدثنا من لم تر عيناي مثله: أبو الحسن محمد بن أسلم الطوسي، وحدثني الحافظ أبو سعيد العلائي يوما عن الرضي الطبري، فقال: حدثنا الإمام أبو إسحاق الطبري، وهو أجل شيخ لقيته.
705 ... وذكر معروف بشيء من لقب ... كغندر أو وصف نقص أو نسب
706 ... لأمه فجائز ما لم يكن ... يكرهه كابن علية فصن
قال الخطيب: غلبت ألقاب جماعة من أهل العلم، [على أسمائهم] فاقتصر الناس على ذكر ألقابهم في الرواية عنهم، منهم: غندر محمد بن جعفر، ولوين محمد بن سليمان المصيصي، ومشكدانة عبد الله بن عمر الكوفي، وعارم محمد بن الفضل السدوسي، وسعدويه سعيد بن سليمان
(2/30)
الواسطي، وصاعقة محمد ابن عبد الرحيم البغدادي، ومطين محمد بن عبد الله الحضرمي، ونفطويه إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي. وقال: ((لم يختلف العلماء في أنه يجوز ذكر الشيخ وتعريفه بصفته التي ليست نقصا في خلقته، كالطول والقصر، والزرقة، والشقرة، والحمرة، والصفرة، قال: وكذلك يجوز وصفه بالعرج، والقصر، والعمى، والعور، والعمش، والحول، والإقعاد، والشلل، كعمران القصير، وأبي معاوية الضرير، وهارون بن موسى الأعور، وسليمان الأعمش، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعاصم الأحول، وأبي معمر المقعد، ومنصور الأشل وجماعة)) .
وسئل ابن المبارك عن فلان القصير، وفلان الأعرج، وفلان الأصفر، وحميد الطويل، قال: إذا أراد صفته ولم يرد عيبه فلا بأس. قال الخطيب: وإذا كان معروفا باسم أمه، وهو الغالب عليه، جاز نسبته إليه، مثل: ابن بحينة، وابن أم مكتوم، ويعلى بن منية، والحارث بن البرصاء، وغيرهم من الصحابة، ومن بعدهم كمنصور بن
(2/31)
صفية، وإسماعيل بن علية. واستثنى ابن الصلاح من الجواز ما يكرهه الملقب، فقال: إلا ما يكرهه من ذلك، كما في إسماعيل بن إبراهيم، المعروف بابن علية، وهي أمه، وقيل: أم أمه. روينا عن يحيى بن معين أنه كان يقول: حدثنا إسماعيل بن علية، فنهاه أحمد بن حنبل، وقال: قل: إسماعيل بن إبراهيم، فإنه بلغني أنه كان يكره أن ينسب إلى أمه، فقال: قد قبلنا منك يا معلم الخير. انتهى.
ولم يستثن الخطيب ذلك من الجواز، بل: روى هذه الحكاية، والظاهر أن ما قاله أحمد هو على طريق الأدب، لا اللزوم.
707.... وارو في الاملا عن شيوخ قدم ... أولاهم وانتقه وأفهم
708.... ما فيه من فائدة ولا تزد ... عن كل شيخ فوق متن واعتمد
709.... عالي إسناد قصير متن ... واجتنب المشكل خوف الفتن
قال الخطيب: يستحب للراوي ألا يقتصر في إملائه على الرواية عن شيخ واحد من شيوخه، بل يروي عن جماعتهم، ويقدم من علا إسناده منهم. زاد ابن الصلاح: أو يقدم الأولى من وجه آخر، قال: ويتقي ما يمليه ويتحرى المستفاد
(2/32)
منه. قال الخطيب: ومن أنفع ما يملي الأحاديث الفقهية. قال: ((ويستحب أيضا إملاء أحاديث الترغيب)) ، قال: وإذا روى حديثا فيه كلام غريب فسره، أو معنى غامض بينه وأظهره. ثم روى عن ابن مهدي قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لكتبت بجنب كل حديث تفسيره. قال الخطيب: ويستحب للراوي أن ينبه على فضل ما يرويه، ويبين المعاني التي لا يعرفها إلا الحفاظ من أمثاله وذويه فإن كان الحديث عاليا علوا متفاوتا، وصفه بذلك، وهكذا إذا كان راويه غاية في الثقة والعدالة. قال: ويستحب إن روى حديثا معلولا أن يبين علته: وإذا كان في الإسناد اسم يشاكل غيره في الصورة، استحببت له أن يذكر صورة إعجامه. ثم ذكر التنبيه على تاريخ السماع القديم، وكونه انفرد عن شيخه به وكون الحديث لا يوجد إلا عنده. قال الخطيب: ويكون إملاؤه عن كل شيخ حديثا واحدا فإنه أعم للفائدة، وأكثر للمنفعة قال: ويعتمد ما علا سنده وقصر متنه. وروينا عن علي بن حجر أنه كان يقول:
(2/33)
وظيفتنا مائة للغريـ ... ب في كل يوم سوى ما يعاد
شريكية أو هشيمية ... أحاديث فقه قصار جياد
قال الخطيب: وينبغي أن يعتمد في إملائه الرواية عن ثقات شيوخه، ولا يروي عن كذاب، ولا متظاهر ببدعة، ولا معروف بالفسق، قال: ((وليتجنب في أماليه رواية ما لا تحتمله عقول العوام لما لا يؤمن عليهم فيه من دخول الخطأ والأوهام، أن يشبهوا الله تعالى بخلقه، ويلحقوا به ما يستحيل في وصفه، وذلك نحو أحاديث الصفات التي ظاهرها يقتضي التشبيه، والتجسيم، وإثبات الجوارح والأعضاء للأزلي القديم؛ وإن كانت الأحاديث صحاحا ولها في التأويل طرق ووجوه، إلا أن من حقها ألا تروى إلا لأهلها خوفا من أن يضل بها من جهل معانيها، فيحملها على ظاهرها، أو يستنكرها فيردها، ويكذب رواتها، ونقلتها، ثم روى حديث أبي هريرة: ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) . وقول علي: تحبون أن يكذب الله ورسوله؟ حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون. وقول ابن مسعود: إن الرجل ليحدث بالحديث، فيسمعه من لا يبلغ عقله فهم ذلك الحديث،
(2/34)
فيكون عليه فتنة قال الخطيب: ومما رأى العلماء أن الصدوف عن روايته للعوام أولى: أحاديث الرخص، كحديث الرخصة في النبيذ، ثم ذكر كراهية رواية أحاديث بني إسرائيل المأثورة عن أهل الكتاب، وما نقل عن أهل الكتاب. ثم روى عن الشافعي أن معنى حديث: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. أي لا بأس أن تحدثوا عنهم ما سمعتم وإن استحال أن يكون في هذه الأمة، مثل ما روي أن ثيابهم تطول، والنار التي تنزل من السماء فتأكل القربان. انتهى.
وقال بعض العلماء: إن قوله ولا حرج في موضع الحال، أي حدثوا عنهم حيث لا حرج في التحديث عنهم، كما حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخبارهم قال الخطيب وعن صحابته، وعن العلماء، فإن روايته تجوز. قال الخطيب: ((وليتجنب ما شجر بين
(2/35)
الصحابة، وقد روى الخطيب في كتاب له في القول في علم النجوم من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال إذا ذكر أصحابي فأمسكوا
ورواه ابن عدي من حديث ابن عمر أيضا، وكلاهما لا يصح. (والفتن)
- بفتح الفاء -: مصدر قولك: فتن، حكاه الخليل بن أحمد.
710.... واستحسن الإنشاد في الأواخر ... بعد الحكايات مع النوادر
711.... وإن يخرج للرواة متقن ... مجالس الإملاء فهو حسن
712.... وليس بالإملاء حين يكمل ... غنى عن العرض لزيغ يحصل
جرت عادة غير واحد من الأئمة أن يختم مجالس الإملاء بشيء من الحكايات والنوادر والإنشادات بأسانيدها. قال ابن الصلاح: وذلك حسن. وقد بوب له الخطيب في
(2/36)
" الجامع "، واستدل له بما روى بإسناده إلى علي - رضي الله عنه - قال: روحوا القلوب، وابتغوا لها طرف الحكمة. وعن الزهري: أنه كان يقول لأصحابه: هاتوا من أشعاركم، هاتوا من حديثكم، فإن الأذن مجة والقلب حمض. وعن حماد بن زيد: أنه حدث بأحاديث، ثم قال: لتأخذوا في أبزار الجنة، فحدثنا بالحكايات. وعن كثير بن أفلح، قال: آخر مجلس جالسنا فيه زيد بن ثابت، تناشدنا فيه الشعر.
قال الخطيب: وإن لم يكن الراوي من أهل المعرفة بالحديث، وعلله، واختلاف وجوهه، وطرقه، وغير ذلك من أنواع علومه، فينبغي له أن يستعين ببعض حفاظ وقته في تخريج الأحاديث التي يريد إملاء ها قبل يوم مجلسه. فقد كان جماعة من شيوخنا يفعلون ذلك منهم: أبو الحسين بن بشران والقاضي أبو عمر الهاشمي، وأبو القاسم السراج، وغيرهم. قال ابن الصلاح: ((وإذا نجز الإملاء فلا غنى عن مقابلته، وإتقانه، وإصلاح ما فسد منه بزيغ القلم، وطغيانه)) . هكذا قال ابن الصلاح هنا،
(2/37)
أنه لا غنى عن مقابلة الإملاء، وقد تقدم في كلامه الترخيص في الرواية من الأصل غير المقابل بشروط ثلاثة، ولم يذكر ذلك هنا، فيحتمل أن يحمل هذا على ما تقدم، ويحتمل أن يفرق بين النسخ من أصل السماع، والنسخ من إملاء الشيخ حفظا؛ لأن الحفظ يخون. ولكن المقابلة للإملاء، إنما هي مع الشيخ أيضا من حفظه، لا على أصوله، وليس في كلام الخطيب هنا اشتراط مقابلة الإملاء، وإنما ترجم عليه بقوله: المعارضة بالمجلس المكتوب وإتقانه، وإصلاح ما أفسد منه زيغ القلم، وطغيانه، ثم روى بإسناده إلى زيد بن ثابت، قال: كنت أكتب الوحي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا فرغت قال: اقرأه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم يخرج به.
آداب طالب الحديث
713.... وأخلص النية في طلبكا ... وجد وابدأ بعوالي مصركا
714.... وما يهم ثم شد الرحلا ... لغيره ولا تساهل حملا
أول ما يجب على الطالب إخلاص النية، فقد روينا في " سنن أبي داود "، و"ابن ماجه" من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد
(2/38)
عرف الجنة يوم القيامة. وروينا عن حماد بن سلمة قال: من طلب الحديث لغير الله مكر به. قال الخطيب: إذا عزم الله تعالى لامرئ على سماع الحديث وحضرته نية في الاشتغال به، فينبغي أن يقدم المسألة لله تعالى أن يوفقه فيه، ويعينه عليه، ثم يبادر إلى السماع، ويحرص على ذلك من غير توقف، ولا تأخير. وفي " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)) . وليجد الطالب في طلبه، فقد روينا عن يحيى بن أبي كثير، قال: لا ينال العلم براحة الجسد. وروينا عن الشافعي قال: لا يطلب هذا العلم من يطلبه بالتملل، وغنى النفس، فيفلح، ولكن من طلبه بذلة النفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، أفلح. قال الخطيب: ويعمد إلى أسند شيوخ مصره، وأقدمهم سماعا فيديم الاختلاف إليه، ويواصل العكوف عليه، فيقدم السماع منه، وإن تكافأت أسانيد جماعة من الشيوخ في العلو، وأراد أن يقتصر على السماع من بعضهم، فينبغي أن يتخير المشهور منهم
(2/39)
بطلب الحديث، المشار إليه بالإتقان له، والمعرفة به. وإذا تساووا في الإسناد والمعرفة فمن كان من الأشراف وذوي الأنساب، فهو أولى أن يسمع منه.
وروينا عن الحافظ أبي الفضل صالح بن أحمد التميمي، قال: ينبغي لطالب الحديث ومن عنى به أن يبدأ بكتب حديث بلده، ومعرفة أهله منهم، وتفهمه وضبطه حتى يعلم صحيحها وسقيمها، ويعرف من أهل الحديث بها، وأحوالهم معرفة تامة، إذا كان في بلده علم وعلماء، قديما وحديثا. ثم يشتغل بعد بحديث البلدان والرحلة فيه.
وروينا عن أبي عبيدة، قال: من شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم. وقال الخطيب: المقصود بالرحلة في الحديث أمران:
أحدهما: تحصيل علو الإسناد وقدم السماع. والثاني: لقاء الحفاظ، والمذاكرة لهم، والاستفادة عنهم. فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب، ومعدومين في غيره، فلا فائدة في الرحلة، فالاقتصار على ما في البلد أولى. فإذا كانا موجودين في بلد الطالب، وفي غيره إلا أن ما في كل واحد من البلدين يختص به، أي: من العوالي والحفاظ؛ فالمستحب للطالب الرحلة لجمع الفائدتين من علو الإسنادين، وعلم الطائفتين. لكن بعد تحصيله حديث بلده وتمهره في المعرفة به. قال: وإذا عزم الطالب على الرحلة، فينبغي له ألا يترك في بلده من الرواة أحدا إلا ويكتب عنه ما تيسر من الأحاديث، وإن قلت فإني سمعت بعض أصحابنا يقول: ضيع ورقة ولا تضيعن شيخا. وروينا عن أحمد
(2/40)
وسأله ابنه عبد الله عمن طلب العلم، ترى له أن يلزم رجلا عنده علم فيكتب عنه؟ أو ترى له أن يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم؟ قال: يرحل، يكتب عن الكوفيين والبصريين، وأهل المدينة ومكة يشام الناس يسمع منهم. وروينا عن ابن معين، قال: أربعة لا تؤنس منهم رشدا منهم رجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث. وقال إبراهيم بن أدهم: إن الله يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث. قال ابن الصلاح: ولا يحملنه الحرص والشره على التساهل في السماع والتحمل، والإخلال بما عليه في ذلك. وقال الخطيب: ليعلم الطالب أن شهوة السماع لا تنتهي، والنهمة من الطلب لا تنقضي، والعلم كالبحار المتعذر كيلها، والمعادن التي لا ينقطع نيلها.
فلا ينبغي له أن يشتغل في الغربة إلا بما يستحق لأجله الرحلة.
وقولي: (حملا) تمييز، أي: ولا تتساهل في الحمل والسماع.
(2/41)
715.... واعمل بما تسمع في الفضائل ... والشيخ بجله ولا تثاقل
716.... عليه تطويلا بحيث يضجر ... ولا تكن يمنعك التكبر
717.... أو الحيا عن طلب واجتنب ... كتم السماع فهو لؤم واكتب
718.... ما تستفيد عاليا ونازلا ... لا كثرة الشيوخ صيتا عاطلا
719.... ومن يقل إذا كتبت قمش ... ثم إذا رويته ففتش
720.... فليس من ذا والكتاب تمم ... سماعه لا تنتخبه تندم
721.... وإن يضق حال عن استيعابه ... لعارف أجاد في انتخابه
722.... أو قصر استعان ذا حفظ فقد ... كان من الحفاظ من له يعد
723.... وعلموا في الأصل إما خطا ... أو همزتين أو بصاد أو طا
وليستعمل الطالب ما سمع من الحديث في فضائل الأعمال، فقد روينا في حديث علي: أن رجلا قال: يا رسول الله، ما ينفي عني حجة الجهل؟ قال: العلم. قال: فما ينفي عني حجة العلم؟ قال: العمل.
وروينا عن بشر بن الحارث، قال: يا أصحاب الحديث! أدوا زكاة هذا الحديث، اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث.
(2/42)
وروينا عن عمرو بن قيس الملائي، قال: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به، - ولو مرة - تكن من أهله. وروينا عن وكيع، قال: إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به وروينا عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، قال كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به وروينا عن أحمد بن حنبل، قال ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به، حتى مر بي في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا، فأعطيت الحجام دينارا حين احتجمت وليبجل الطالب الشيخ، فقد روينا عن مغيرة، قال كنا نهاب إبراهيم، كما نهاب الأمير وروينا عن البخاري قال ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين. وليحذر من التثقيل عليه لئلا يضجره ويمله. قال الخطيب: وإذا حدثه فيجب أن يأخذ منه العفو ولا يضجره. قال: والإضجار يغير الأفهام، ويفسد الأخلاق، ويحيل الطباع، وقد كان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقا، فلم يزالوا به حتى ساء خلقه. وروينا عن محمد بن سيرين: أنه سأله رجل عن حديث وقد أراد أن يقوم، فقال: إنك إن كلفتني ما لم أطق،
(2/43)
ساءك ما سرك مني من خلق. قال ابن الصلاح: ((يخشى على فاعل ذلك أن يحرم الانتفاع)) .
قلت: وقد جربت ذلك، فإن شيخنا أبا العباس أحمد بن عبد الرحمن المرداوي، كان كبر وعجز عن الإسماع حتى كنا نتألفه على قراءة الشيء اليسير، فقرأ عليه بعض أصحابنا فيما بلغني"العمدة" بإجازته من ابن عبد الدائم وأطال عليه فأضجره فكان يقول له الشيخ: لا أحياك الله أن ترويها عني، أو نحو ذلك، فمات الطالب بعد قليل، ولم ينتفع بما سمعه عليه.
وليحذر الطالب أن يمنعه التكبر، أو الحياء عن طلب العلم، فقد ذكر البخاري عن مجاهد قال: ((لا ينال العلم مستحي، ولا مستكبر)) ، وليتجنب الطالب أن يظفر بشيخ، أو بسماع لشيخ فيكتمه لينفرد به عن أضرابه، فذلك لؤم من فاعله، على أنه قد روينا فعل ذلك عن جماعة من الأئمة المتقدمين، كشعبة وسفيان الثوري، وهشيم، والليث، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، وابن لهيعة، وعبد الرزاق، فالله أعلم بمقاصدهم في ذلك. وروينا عن مالك قال: من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضا
(2/44)
، ونحوه عن ابن المبارك ويحيى بن معين. وروينا عن يحيى بن معين، قال: من بخل بالحديث، وكتم على الناس سماعهم، لم يفلح. وروينا عن إسحاق بن راهويه، قال: قد رأينا أقواما منعوا هذا السماع، فوالله ما أفلحوا ولا أنجحوا. قال الخطيب: ((والذي نستحبه إفادة الحديث لمن لم يسمعه والدلالة على الشيوخ والتنبيه على رواياتهم، فإن أقل ما في ذلك النصح للطالب، والحفظ للمطلوب، مع ما يكتسب به من جزيل الأجر، وجميل الذكر)) ، ثم روى بإسناده إلى ابن عباس رفعه، قال: إخواني تناصحوا في العلم ولا يكتم بعضكم بعضا، فإن خيانة الرجل في علمه، أشد من خيانته في ماله، ثم روى عن الثوري قال: ليفد بعضكم بعضا، وهذا يدل على أن ما روي عنه وعمن تقدم ذكره من الأئمة مما يخالف ذلك محمول على كتمه عمن لم يروه أهلا، أو على من لم يقبل الصواب إذا أرشد إليه، أو نحو ذلك.
وقد قال الخطيب: ((من أداه - لجهله - فرط التيه والإعجاب إلى المحاماة عن الخطأ والمماراة في الصواب، فهو بذلك الوصف مذموم مأثوم، ومحتجز الفائدة عنه غير مؤنب ولا ملوم)) .
(2/45)
وروينا عن الخليل بن أحمد أنه قال لأبي عبيدة معمر بن المثنى: لا تردن على معجب خطأ، فيستفيد منك علما، ويتخذك به عدوا.
ولتكن همة الطالب تحصيل الفائدة، سواء وقعت له بعلو أم بنزول ولا يأنف أن يكتب عمن هو دونه ما يستفيده. روينا عن سفيان ووكيع قالا: لا يكون الرجل من أهل الحديث، حتى يكتب. وقال وكيع: لا يكون عالما حتى يأخذ عمن هو فوقه، وعمن هو دونه، وعمن هو مثله. وكان ابن المبارك يكتب عمن هو دونه، فقيل له، فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع لي.
وليحذر الطالب أن تكون همته تكثير الشيوخ لمجرد اسم الكثرة وصيتها، قال ابن الصلاح: وليس بموفق من ضيع شيئا من وقته في ذلك.
وروينا عن عفان أنه سمع قوما يقولون: نسخنا كتب فلان، فقال: هذا الضرب من الناس، لا يفلحون. كنا نأتي هذا فنسمع منه ما ليس عند هذا، ونسمع من هذا ما ليس عند هذا، فقدمنا الكوفة، فأقمنا أربعة أشهر، ولو أردنا أن نكتب مائة ألف حديث، لكتبناها، فما كتبنا إلا قدر خمسة آلاف حديث، وما رضينا من أحد إلا بالإملاء؛ إلا شريك فإنه أبى علينا. قال ابن الصلاح: ((وليس من ذلك قول أبي
(2/46)
حاتم الرازي: إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش)) . والتقميش والقمش أيضا: جمع الشيء من هاهنا وهاهنا. ولم يبين ابن الصلاح ما المراد بذلك، وكأنه أراد: اكتب الفائدة ممن سمعتها ولا تؤخر ذلك حتى تنظر فيمن حدثك، أهو أهل أن يؤخذ عنه أم لا؟ فربما فات ذلك (1) بموت الشيخ أو سفره، أو سفرك. فإذا كان وقت الرواية عنه، أو وقت العمل بذلك، ففتش حينئذ. وقد ترجم عليه الخطيب: باب من قال: يكتب عن كل أحد.
ويحتمل: أن مراد أبي حاتم استيعاب الكتاب المسموع، وترك انتخابه، أو استيعاب ما عند الشيخ وقت التحمل، ويكون النظر فيه حالة الرواية. وقد يكون قصد المحدث تكثير طرق الحديث، وجمع أطرافه، فيكثر لذلك شيوخه ولا بأس بذلك. فقد روينا عن أبي حاتم قال: لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه. وقد وصف بالإكثار من الشيوخ سفيان الثوري، وأبو داود الطيالسي، ويونس بن محمد المؤدب، ومحمد بن يونس الكديمي، وأبو عبد الله ابن منده، والقاسم بن داود البغدادي، روينا عنه قال: كتبت عن ستة آلاف شيخ.
وينبغي للطالب أن يسمع، ويكتب ما وقع له من كتاب، أو جزء على التمام، ولا ينتخبه، فربما احتاج بعد ذلك إلى رواية شيء منه لم يكن فيما انتخبه منه، فيندم،
_________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة
(2/47)
وقد روينا عن ابن المبارك قال: ما انتخبت على عالم قط، إلا ندمت. وروينا عنه قال: ما جاء من منتق خير قط. وروينا عن يحيى ابن معين قال: صاحب الانتخاب يندم، وصاحب النسخ لا يندم. وقد فرق الخطيب في ذلك بين أن يكون الشيخ عسرا، والطالب واردا غريبا؛ فقال: إذا كان المحدث مكثرا وفي الرواية معسرا، فينبغي للطالب أن ينتقي حديثه، وينتخبه، فيكتب عنه ما لا يجده عند غيره، ويتجنب المعاد من رواياته قال: وهكذا حكم الواردين من الغرباء الذين لا يمكنهم طول الإقامة والثواء. قال: وأما متىلم يتميز للطالب معاد حديثه من غيره، وما يشارك في روايته مما ينفرد به، فالأولى أن يكتب حديثه على الاستيعاب دون الانتقاء والانتخاب. انتهى. وإليه أشرت بقولي: (وإن يضق حال عن استيعابه) أي: لعسر الشيخ، أو لكون الشيخ، أو الطالب واردا غير مقيم، ونحو ذلك.
وقولي: (لعارف) أي: بجودة الانتخاب فقد روينا عن يحيى بن معين قال: دفع إلي ابن وهب كتابين عن معاوية بن صالح خمسمائة أو ستمائة حديث، فانتقيت شرارها لم يكن لي بها يومئذ معرفة.
(2/48)
وإن قصر الطالب عن معرفة الانتخاب وجودته، فقال الخطيب: ((ينبغي أن يستعين ببعض حفاظ وقته على انتقاء ما له غرض في سماعه وكتبه. ثم ذكر من المعروفين بحسن الانتقاء أبا زرعة الرازي، وأبا عبد الرحمن النسائي، وإبراهيم بن أورمة الأصبهاني، وعبيدا العجل، وأبا بكر الجعابي، وعمر البصري، ومحمد بن المظفر، والدارقطني، وأبا الفتح ابن أبي الفوارس، وأبا القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي.
وقولي: (وعلموا في الأصل) . هذا بيان لما جرت به عادة الحفاظ من تعليمهم في أصل الشيخ على ما انتخبوه. وفائدته لأجل المعارضة أو ليمسك الشيخ أصله، أو لاحتمال ذهاب الفرع، فينقل من الأصل، أو يحدث من الأصل بذلك المعلم عليه.
واختياراتهم لصورة العلامة مختلفة، ولا حرج في ذلك، فكان الدارقطني يعلم بخط عريض، بالحمرة في الحاشية اليسرى، وكان اللالكائي يعلم على أول إسناد الحديث بخط صغير، بالحمرة. وهذا الذي استقر عليه عمل أكثر المتأخرين وكان أبو الفضل علي بن الحسن الفلكي يعلم بصورة همزتين بحبر في الحاشية اليمنى. وكان أبو الحسن علي بن أحمد النعيمي يعلم صادا ممدودة بحبر في الحاشية اليمنى، أيضا. وكان أبو محمد الخلال يعلم طاء ممدودة كذلك. وكان محمد بن طلحة النعالي يعلم بحاءين إحداهما إلى جنب الأخرى كذلك.
(2/49)
724.... ولا تكن مقتصرا أن تسمعا ... وكتبه من دون فهم نفعا
725.... واقرأ كتابا في علوم الأثر ... كابن الصلاح أو كذا المختصر
لا ينبغي للطالب أن يقتصر على سماع الحديث، وكتبه دون معرفته وفهمه، وقد روينا عن أبي عاصم النبيل، قال: الرواية في الحديث بلا دراية، رياسة نذلة. قال الخطيب: هي اجتماع الطلبة على الراوي للسماع عند علو سنه، قال: فإذا تميز الطالب بفهم الحديث، ومعرفته، تعجل بركة ذلك في شبيبته. قال: ولو لم يكن في الاقتصار على سماع الحديث، وتخليده الصحف، دون التمييز بمعرفة صحيحه من فاسده والوقوف على اختلاف وجوهه، والتصرف في أنواع علومه، إلا تلقيب المعتزلة
القدرية من سلك تلك الطريقة بالحشوية؛ لوجب على الطالب الأنفة لنفسه، ودفع ذلك عنه، وعن أبناء جنسه. وروينا عن فارس بن الحسين لنفسه:
(2/50)
يا طالب العلم الذي ... ذهبت بمدته الروايه
كن في الرواية ذا العنا ... ية، بالرواية، والدرايه
وارو القليل وراعه ... فالعلم ليس له نهايه
وقولي: (وكتبه) ، هو منصوب عطفا على محل (أن) المصدرية، فمحلها نصب على نزع الخافض، أي: مقتصرا على سماع الحديث، وكتبه.
وينبغي للطالب أن يقدم قراءة كتاب في علوم الحديث حفظا، أو تفهما، ليعرف مصطلح أهله. قال ابن الصلاح: ((ثم إن هذا الكتاب مدخل إلى هذا الشأن، مفصح عن أصوله، وفروعه، شارح لمصطلحات أهله، ومقاصدهم، ومهماتهم التي ينقص المحدث بالجهل بها نقصا فاحشا، فهو- إن شاء الله تعالى- جدير بأن تقدم العناية به)) . وقولي: (أو كذا المختصر) ، إشارة إلى هذه الأرجوزة.
726 ... وبالصحيحين ابدأن ثم السنن ... والبيهقي ضبطا وفهما ثم ثن
727.... بما اقتضته حاجة من مسند ... أحمد والموطأ الممهد
728.... وعلل، وخيرها لأحمدا ... والدارقطني والتواريخ غدا
729.... من خيرها الكبير للجعفي ... والجرح والتعديل للرازي
730.... وكتب المؤتلف المشهور ... والأكمل الإكمال للأمير
قال الخطيب: ((من أول ما ينبغي أن يستعمله الطالب شدة الحرص على السماع، والمسارعة إليه، والملازمة للشيوخ. ويبتدئ بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر، والأصول الجامعة للسنن. وأحقها بالتقديم الصحيحان للبخاري ومسلم،
(2/51)
ومما يتلو الصحيحين: سنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، وكتاب ابن خزيمة)) . قال ابن الصلاح: ((ضبطا لمشكلها، وفهما لخفي معانيها. قال: ولا يخدعن عن كتاب " السنن الكبير " للبيهقي، فإنا لا نعلم مثله في بابه. ثم لسائر ما تمس حاجة صاحب الحديث إليه من كتب المسانيد، ك‍" مسند أحمد "، ومن كتب الجوامع المصنفة في الأحكام. و" موطأ مالك " هو المقدم منها)) . وقال الخطيب - بعد أن ذكر الكتب الخمسة -: ثم كتب المسانيد الكبار، مثل مسند أحمد، وابن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي خيثمة، وعبد بن حميد، وأحمد بن سنان، والحسن بن سفيان، وأبي يعلى، وما يوجد من مسند يعقوب بن شيبة، وإسماعيل القاضي، ومحمد بن أيوب الرازي. ثم الكتب المصنفة، مثل كتب ابن جريج، وابن أبي عروبة، وابن المبارك، وابن عيينة، وهشيم، وابن وهب، والوليد بن مسلم، ووكيع، وعبد الوهاب بن عطاء، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغيرهم. قال: وأما " موطأ مالك "، فهو المقدم في هذا النوع، ويجب أن يبتدأ بذكره على كل كتاب لغيره)) .
ثم الكتب المتعلقة بعلل الحديث، فمنها كتاب أحمد بن حنبل، وابن المديني، وابن أبي حاتم، وأبي علي النيسابوري، والدارقطني، و" التمييز " لمسلم، ثم تواريخ المحدثين، مثل: كتاب ابن معين - رواية عباس، ورواية المفضل الغلابي، ورواية الحسين بن حبان -، وتاريخ خليفة، وأبي حسان الزيادي، ويعقوب الفسوي، وابن أبي خيثمة، وأبي زرعة
(2/52)
الدمشقي، وحنبل بن إسحاق، والسراج. و" الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم. قال: ويربي على هذه الكتب كلها، تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري، يريد: " التأريخ الكبير ". وله ثلاثة تواريخ. وإلى هذا أشرت بقولي: (من خيرها الكبير للجعفي) أي: البخاري. وقال ابن الصلاح: ((إن من أجود العلل، كتاب أحمد، والدارقطني، ومن أفضل التواريخ، " تاريخ البخاري الكبير "، وكتاب ابن أبي حاتم. ثم قال: ومن كتب الضبط لمشكل الأسماء، قال: ومن أكملها كتاب الإكمال، لأبي نصر بن
ماكولا)) .
731.... واحفظه بالتدريج ثم ذاكر ... به والاتقان اصحبن وبادر
732.... إذا تأهلت إلى التأليف ... تمهر وتذكر وهو في التصنيف
733.... طريقتان جمعه أبوابا ... أو مسندا تفرده صحابا
734.... وجمعه معللا كما فعل ... يعقوب أعلى رتبة وما كمل
ليكن تحفظ الطالب للحديث على التدريج قليلا قليلا، ولا يأخذ نفسه بما لا يطيقه. ففي الحديث الصحيح: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون)) . وروينا عن الثوري قال: كنت آتي الأعمش، ومنصورا، فأسمع أربعة أحاديث أو خمسة، ثم
(2/53)
انصرف كراهية أن تكثر، وتفلت. وروينا نحو ذلك عن شعبة، وابن علية، ومعمر. وروينا عن الزهري قال: من طلب العلم جملة، فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان. وقال أيضا فيما رويناه عنه: إن هذا العلم إن أخذته بالمكاثرة له غلبك، ولكن خذه مع الأيام، والليالي أخذا رفيقا، تظفر به.
ومما يعين على دوام الحفظ المذاكرة. روينا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: تذاكروا هذا الحديث، إلا تفعلوا، يدرس. وروينا عن ابن مسعود قال: تذاكروا الحديث، فإن حياته مذاكرته. وروينا نحوه عن أبي سعيد الخدري، وابن عباس. وروينا عن الخليل بن أحمد قال: ذاكر بعلمك، تذكر ما عندك، وتستفد ما ليس عندك. وروينا عن عبد الله ابن المعتز، قال: من أكثر مذاكرة العلماء، لم ينس ما علم، واستفاد ما لم يعلم. وليكن المحدث مصاحبا للإتقان، فقد روينا عن عبد الرحمن بن مهدي قال: الحفظ الإتقان. وإذا تأهل المحدث للتأليف والتخريج،
(2/54)
واستعد لذلك، فليبادر إليه. فقد قال الخطيب: قلما يتمهر في علم الحديث ويقف على غوامضه، ويستبين الخفي من فوائده؛ إلا من جمع متفرقه، وألف متشتته، وضم بعضه إلى بعض، واشتغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضا جميل الذكر، ويخلده إلى آخر الدهر، كما قال الشاعر:
يموت قوم فيحيي العلم ذكرهم ... والجهل يلحق أحياء بأموات
قال: وكان بعض شيوخنا يقول: من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ، وليأخذ قلم التخريج. وروينا عن الحافظ أبي عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري، قال: رأيت عبد الغني بن سعيد الحافظ في المنام، فقال لي: يا أبا عبد الله، خرج وصنف قبل أن يحال بينك وبينه، هذا أنا قد تراني قد حيل بيني وبين ذلك.
ثم إن للعلماء في تصنيف الحديث، وجمعه، طريقتين.
إحداهما: تصنيفه على الأبواب على أحكام الفقه وغيرها، كالكتب الستة، والموطأ، وبقية المصنفات.
والثانية: تصنيفه على مسانيد الصحابة، كل مسند على حدة، كما تقدم.
(2/55)
وروينا عن الدارقطني، قال: أول من صنف مسندا وتتبعه نعيم بن حماد. قال الخطيب: ((وقد صنف أسد بن موسى مسندا، وكان أكبر من نعيم سنا، وأقدم سماعا، فيحتمل أن يكون نعيم سبقه في حداثته)) . قال الخطيب: ((فإن شاء رتب أسماء الصحابة على حروف المعجم، وإن شاء على القبائل، فيبدأ ببني هاشم ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النسب. وإن شاء على قدر سوابق الصحابة في الإسلام. قال: وهذه الطريقة أحب إلينا. فيبدأ بالعشرة، ثم بالمقدمين من أهل بدر، ويتلوهم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم الأصاغر الأسنان، كالسائب بن يزيد، وأبي الطفيل. قال ابن الصلاح: ((ثم بالنساء، قال: وهذا أحسن، والأول أسهل)) . قال الخطيب: ((يستحب أن يصنف المسند معللا، فإن معرفة العلل أجل أنواع الحديث)) . وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي، قال: لإن أعرف علة حديث هو عندي، أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثا ليس عندي. وقد جمع يعقوب بن شيبة مسندا معللا. قال الأزهري: ولم يصنف يعقوب المسند كله. قال: وسمعت الشيوخ يقولون: لم يتمم مسند معلل قط. قال: وقيل لي: إن نسخة بمسند أبي هريرة شوهدت بمصر، فكانت مائتي جزء، قال: ولزمه على ما
(2/56)
خرج من المسند عشرة آلاف دينار. قال الخطيب: ((والذي ظهر ليعقوب مسند العشرة وابن مسعود، وعمار، وعتبة بن غزوان، والعباس، وبعض الموالي. هذا الذي رأينا من مسنده)) .
وإلى هذا أشرت بقولي: (وما كمل) وهي من الزوائد على ابن الصلاح.
735.... وجمعوا أبوابا او شيوخا او ... تراجما أو طرقا وقد رأوا
736.... كراهة الجمع لذي تقصير ... كذاك الاخراج بلا تحرير
ومما جرت عادة أهل الحديث أن يخصوه بالجمع والتأليف؛ الأبواب، والشيوخ، والتراجم، والطرق، فأما جمع الأبواب، فهو إفراد باب واحد بالتصنيف، ككتاب
" رفع اليدين "، وباب " القراءة خلف الإمام "، أفردهما البخاري بالتصنيف. وباب
" التصديق بالنظر لله تعالى " أفرده الآجري. وباب " النية "، أفرده ابن أبي الدنيا. وباب " القضاء باليمين مع الشاهد "، أفرده الدارقطني. وباب " القنوت " أفرده ابن منده. وباب " البسملة "، أفرده ابن عبد البر. وغيره وغير ذلك. وأما جمع الشيوخ، فهو جمع حديث شيوخ مخصوصين، كل واحد منهم على انفراده، كجمع " حديث الأعمش " للإسماعيلي، وحديث " الفضيل بن عياض " للنسائي، وحديث " محمد بن جحادة " للطبراني، وغير ذلك، وقد ذكر الخطيب ممن يجمع حديثه: إسماعيل بن أبي خالد، وأيوب بن أبي تميمة، وبيان بن بشر، والحسن بن صالح بن حي، وحماد بن زيد وداود بن أبي هند، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وزائدة، وزهيرا، وزياد بن سعد، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وسليمان بن إسحاق الشيباني، وسليمان بن طرخان، وسليمان بن مهران الأعمش، وشعبة، وصفوان بن سليم، وطلحة بن مصرف، وعبد الله
(2/57)
ابن عون. وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وعبيد الله بن عمر العمري، وأبا
حصين عثمان بن عاصم الكوفي، وعمرو بن دينار المكي، ومالك بن أنس، ومحمد بن جحادة، ومحمد بن سوقة، ومحمد بن مسلم بن شهاب، ومحمد بن واسع، ومسعر بن كدام، ومطر بن طهمان، وهشام بن سعد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويونس بن عبيد البصري. وروينا عن عثمان ابن سعيد الدارمي، قال: يقال: من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة، فهو مفلس في الحديث: سفيان، وشعبة، ومالك، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وهم أصول الدين. وأما جمع التراجم فهو جمع ما جاء بترجمة واحدة من الحديث، كمالك، عن نافع، عن ابن عمر، وسهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وأيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، ونحو ذلك. وأما جمع الطرق، فهو جمع طرق حديث واحد، كطرق حديث " قبض العلم " للطوسي، وطرق حديث " من كذب علي متعمدا " للطبراني، وطرق حديث " طلب العلم فريضة ". ونحو ذلك. وقد أدخل الخطيب هذا القسم في جمع الأبواب، وأفرده ابن الصلاح بالذكر، وهو واضح؛ لأن هذا جمع طرق حديث واحد، وذلك جمع باب وفيه أحاديث مختلفة، والله أعلم. وكرهوا الجمع والتأليف لمن هو قاصر عن جودة التأليف. روينا عن علي بن المديني، قال: إذا رأيت المحدث أول ما يكتب الحديث يجمع حديث " الغسل "، وحديث " من كذب علي "، فاكتب على قفاه: لا يفلح. وكذلك كرهوا إخراج التصنيف إلى الناس قبل تهذيبه، وتحريره، وإعادة النظر فيه، وتكريره.
(2/58)
العالي والنازل
737.... وطلب العلو سنة وقد ... فضل بعض النزول وهو رد
738.... وقسموه خمسة فالأول ... قرب من الرسول وهو الأفضل
739.... إن صح الاسنادوقسم القرب ... إلى إمام وعلو نسبي
740.... بنسبة للكتب الستة إذ ... ينزل متن من طريقها أخذ
روينا عن أحمد بن حنبل، قال: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف. وروينا عن محمد بن أسلم الطوسي، قال: قرب الإسناد قرب، أو قربة إلى الله عز وجل. وقال الحاكم: ((وفي طلب الإسناد العالي سنة صحيحة، فذكر حديث أنس في مجيء الأعرابي، وقوله: يا محمد، أتانا رسولك فزعم كذا، ... الحديث. قال: ولو كان طلب العلو في الإسناد غير مستحب لأنكر عليه سؤاله عما أخبره رسوله عنه، ولأمره بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه)) . ولم يحك الحاكم خلافا في تفضيل العلو،
(2/59)
وحكاه ابن خلاد، ثم الخطيب، فحكيا عن بعض أهل النظر: أن التنزل في الإسناد أفضل؛ لأنه يجب على الراوي أن يجتهد في متن الحديث، وتأويله، وفي الناقل وتعديله، وكلما زاد الاجتهاد زاد صاحبه ثوابا. قال ابن خلاد: ((وهذا مذهب من يزعم أن الخبر أقوى من القياس)) . قال ابن الصلاح: ((وهذا مذهب ضعيف
الحجة)) . قال ابن دقيق العيد: لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها، قال: ((ومراعاة المعنى المقصود من الرواية، وهو الصحة أولى)) . قلت: وهذا بمثابة من يقصد المسجد لصلاة الجماعة، فيسلك طريقة بعيدة لتكثير الخطا، وإن أداه سلوكها إلى فوات الجماعة التي هي المقصود. وذلك أن المقصود من الحديث التوصل إلى صحته وبعد الوهم. وكلما كثر رجال الإسناد تطرق إليه احتمال الخطأ والخلل، وكلما قصر السند كان أسلم. اللهم إلا أن يكون رجال السند النازل، أوثق، أو أحفظ، أو أفقه، ونحو ذلك، على ما سيأتي في آخر هذا الفصل.
ثم العلو في الإسناد على خمسة أقسام، كما قسمه أبو الفضل محمد بن طاهر في جزء له، أفرده لذلك، وتبعه ابن الصلاح على كونها خمسة أقسام، وإن اختلف كلامهما في ماهية بعض الأقسام، كما سيأتي.
(2/60)
القسم الأول: القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من حيث العدد بإسناد نظيف غير ضعيف. وإليه الإشارة بقولي: (إن صح الاسناد) ، فأما إذا كان قرب الإسناد مع ضعف بعض الرواة، فلا التفات إلى هذا العلو، لا سيما إن كان فيه بعض الكذابين المتأخرين ممن ادعى سماعا من الصحابة، كإبراهيم بن هدبة، ودينار بن عبد الله، وخراش، ونعيم بن سالم، ويعلى بن الأشدق وأبي الدنيا الأشج، ونحوهم. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في " الميزان ": ((متى رأيت المحدث يفرح بعوالي أبي هدبة، ويعلى بن الأشدق، وموسى الطويل، وأبي الدنيا، وهذا الضرب، فاعلم أنه عامي بعد)) . وهذا القسم الأول هو أفضل أنواع العلو، وأجلها، وأعلى ما يقع للشيوخ في هذا الزمان من الأحاديث الصحاح المتصلة بالسماع؛ ما هو تساعي الإسناد، ولا يقع ذلك في هذه الأزمان إلا من " الغيلانيات "، و" جزء الأنصاري "، و" جزء الغطريف " فقط. أو ما هو مأخوذ منها. ولا يقع لأمثالنا من الصحيح المتصل بالسماع، إلا عشاري الإسناد، وقد يقع لنا التساعي الصحيح، ولكن بإجازة في الطريق،
والله أعلم.
وقول الذهبي في " تأريخ الإسلام " في ترجمة ابن البخاري: وهو آخر من كان في الدنيا بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمانية رجال ثقات، فإنه يريد مع اتصال السماع. أما مع الإجازة فقد تأخر بعده جماعة، والله أعلم.
(2/61)
والقسم الثاني من أقسام العلو: القرب إلى إمام من أئمة الحديث، كالأعمش وهشيم، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك، وسفيان، وشعبة، وزهير، وحماد بن زيد، وإسماعيل بن علية، وغيرهم من أئمة الحديث. وكلام الحاكم يشير إلى ترجيح هذا القسم على غيره، وأنه المقصود من العلو، وإنما يوصف بالعلو إذا صح الإسناد إلى ذلك الإمام بالعدد اليسير، كما صرح به الحاكم، وهو كذلك، كما مر في القسم الأول. وأعلى ما يقع اليوم للشيوخ بينهم وبين هؤلاء الأئمة من حيث العدد مع صحة السند، واتصاله بالسماع أن بينهم وبين الأعمش وهشيم، وابن جريج، والأوزاعي، ثمانية. وبينهم وبين مالك والثوري، وشعبة، وزهير، وحماد بن سلمة، سبعة، وبينهم وبين ابن علية ستة. وقد ساوينا الشيوخ بالنسبة إلى هشيم، فبيننا وبينه سبعة بالسماع الصحيح المتصل.
والقسم الثالث: العلو المقيد بالنسبة إلى رواية الصحيحين، وبقية الكتب الستة. وسماه ابن دقيق العيد: علو التنزيل، ولم يذكر ابن طاهر هذا القسم، وجعل القسم الثالث: علو تقدم السماع، وجمع بينه وبين قسم تقدم الوفاة، فجعلهما قسما واحدا، كما سيأتي ولكن هذا القسم يؤخذ من كلام ابن طاهر في آخر الجزء المذكور، وإن لم يذكره في الأقسام. وليس هذا علوا مطلقا في جميع هذا القسم، وإنما هو بالنسبة لهذه الكتب، إذ الراوي لو روى الحديث من طريق كتاب من الستة يقع أنزل مما لو رواه من غير طريقها، وقد يكون عاليا مطلقا أيضا، مثاله: حديث رواه الترمذي لابن مسعود مرفوعا: يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف ... الحديث.
(2/62)
رواه الترمذي عن علي بن حجر عن خلف بن خليفة. فلو رويناه من طريق الترمذي وقع بيننا وبين خلف تسعة، فإذا رويناه من " جزء ابن عرفة "، وقع بيننا وبينه سبعة بعلو درجتين. فهذا مع كونه علوا بالنسبة، فهو أيضا علو مطلق، ولا يقع اليوم لأحد هذا الحديث أعلى من هذا، وكل واحد من شيخنا فمن بعده إلى خلف هو آخر من رواه عن شيخه بالسماع من الجزء المذكور، وقول ابن الصلاح: ((إن هذا النوع من العلو، علو تابع لنزول)) محمول على الغالب، وإلا فهذا الحديث المذكور عال للترمذي، وعال لنا، وليس هو عاليا بالنسبة فقط. وهذا النوع هو الذي يقع فيه الموافقات، والإبدال، والمساواة، والمصافحات، على ما سيأتي بيانها.
741.... فإن يكن في شيخه قد وافقه ... مع علو فهو الموافقه
742.... أو شيخ شيخه كذاك فالبدل ... وإن يكن ساواه عدا قد حصل
743.... فهو المساواة وحيثراجحه ... الأصل بالواحد فالمصافحه
هذا إشارة إلى بيان الموافقة، وما ذكر معها. فالموافقة: أن يروي الراوي حديثا في أحد الكتب الستة بإسناد لنفسه، من غير طريقها، بحيث يجتمع مع أحد الستة في شيخه مع علو هذا الطريق الذي رواه منه على ما لو رواه من طريق أحد الكتب الستة. مثاله: حديث رواه البخاري عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن حميد، عن أنس مرفوعا:
(2/63)
((كتاب الله القصاص)) فإذا رويناه من" جزء الأنصاري " يقع موافقة للبخاري في شيخه مع علو درجة.
وأما البدل: فهو أن يوافقه في شيخ شيخه مع العلو أيضا. وإلى ذلك أشرت بقولي: (كذاك) . مثاله: حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي، وتقدم في شرح الأبيات التي قبل هذه فهذا يطلقون عليه: البدل، وقد يسمونه موافقة مقيدة، فيقال: هو موافقة في شيخ شيخ الترمذي مثلا. ويؤخذ ذلك من قولي: (أو شيخ شيخه) أي: وإن يكن قد وافقه في شيخ شيخه فسماه موافقة في شيخ الشيخ، وأما تقييد الموافقة والبدل بصورة العلو فكذا ذكره ابن الصلاح، أنه لا يطلق عليه ذلك إلا مع العلو، فإنه قال: ولو لم يكن ذلك عاليا فهو أيضا موافقة وبدل، لكن لا يطلق عليه اسم الموافقة والبدل، لعدم الالتفات إليه. قلت: وفي كلام غيره من المخرجين إطلاق اسم الموافقة والبدل؛ مع عدم العلو، فإن علا قالوا: موافقة عالية، أو بدلا عاليا، كذا رأيته في كلام الشيخ جمال الدين الظاهري، وغيره، ورأيت في كلام الظاهري، والذهبي: فوافقناه بنزول. فسمياه مع النزول موافقة، ولكن مقيدة بالنزول، كما قيدها غيرهما بالعلو.
وأما المساواة: فهو أن يكون بين الراوي وبين الصحابي، أو من قبل الصحابي إلى شيخ أحد الستة كما بين أحد الأئمة الستة وبين ذلك الصحابي أو من قبله على ما ذكر. أو يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما بين أحد الأئمة الستة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من العدد. وهذا كله كان يوجد قديما، وأما اليوم فلا توجد المساواة إلا بأن يكون عد ما بين الراوي الآن، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، كعد ما بين أحد الأئمة الستة، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثال المساواة لشيوخنا، حديث النهي عن نكاح المتعة، أخبرنا به محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز، قال: أخبرنا عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني، قال: أنبأنا أسعد بن سعيد بن روح، وعفيفة بنت
(2/64)
أحمد الفارفانية، واللفظ لها، قالا: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله الجوزدانية، قالت: أخبرنا أبو بكر بن ريذة، قال: أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني، قال: حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثني الليث ح قال الطبراني: وحدثنا يوسف القاضي، قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: حدثنا ليث بن سعد، قال: حدثني الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه - سبرة - أنه قال: أذن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتعة، ... الحديث، وفيه: ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: من كان عنده شيء من هذه
(2/65)
النساء اللاتي يتمتع بهن فليخل سبيلها، واللفظ لحديث يحيىبن بكير.
هذا حديث صحيح أخرجه مسلم والنسائي، عن قتيبة، عن الليث. فوقع بدلا لهما عاليا. وورد حديث النهي عن نكاح المتعة من حديث جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب وهو متفق عليه من حديثه من طريق مالك. وقد رواه النسائي في جمعه "لحديث مالك" عن زكريا بن يحيى خياط السنة، عن إبراهيم بن عبد الله الهروي، عن سعيد بن محبوب، عن عبثر بن القاسم، عن سفيان الثوري، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله، والحسن ابني محمد ابن علي، عن أبيهما، عن علي. فباعتبار هذا العدد كأن شيخنا ساوى فيه النسائي، وكأني لقيت النسائي وصافحته به، ولله الحمد.
وأما المصافحة: فهو أن يعلو طريق أحد الكتب الستة عن المساواة بدرجة، فيكون الراوي كأنه سمع الحديث من البخاري، أو مسلم مثلا. وهو المراد بقولي:
(وحيث راجحه الأصل) أي: وحيث رجح أحد من الأئمة الستة براو واحد على الراوي الذي وقع له ذلك الحديث، سموه مصافحة، بمعنى: أن الراوي كأنه لقي أحد الأئمة الستة، وصافحه بذلك الحديث. ومثلت بالكتب الستة؛ لأن الغالب على
(2/66)
المخرجين استعمال ذلك بالنسبة إليهم فقط. وقد استعمله الظاهري وغيره بالنسبة إلى مسند أحمد، ولا مشاحة في ذلك. وقد وقع لنا غير ما حديث مصافحة، فمن ذلك: الحديث المتقدم مثالا للمساواة، فإنه مساواة لشيوخنا، مصافحة لنا، كما تقدم، والله أعلم.
744.... ثم علو قدم الوفاة ... أما العلو لا مع التفات
745.... لآخر فقيل للخمسينا ... أو الثلاثين مضت سنينا
هذا القسم الرابع من أقسام العلو، وهو تقدم وفاة الراوي عن شيخ، على وفاة راو آخر عن ذلك الشيخ، مثاله: من سمع " سنن أبي داود " على الزكي عبد العظيم، أعلى ممن سمعه على النجيب الحراني.
ومن سمعه على النجيب، أعلى ممن سمعه على ابن خطيب المزة، والفخر بن البخاري؛ وإن اشترك الأربعة في رواية الكتاب عن شيخ واحد، وهو: ابن طبرزذ؛ لتقدم وفاة الزكي على النجيب، وتقدم وفاة النجيب على من بعده.
(2/67)
روينا عن أبي يعلى الخليلي، قال: ((قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه، وإن كانا متساويين في العدد)) . وهذا كله بنسبة شيخ إلى شيخ. أما علو الإسناد بتقدم موت الشيخ، لا مع التفات لأمر آخر، أو شيخ آخر، فمتى يوصف بالعلو؟ روينا عن ابن جوصا، قال: إسناد خمسين سنة من موت الشيخ؛ إسناد علو. وروينا عن أبي عبد الله بن منده، قال: إذا مر على الإسناد ثلاثون سنة، فهو عال. وقولي: (سنينا) ، تمييز. والتقييد بالخمسين أريد: من موت الشيخ، لا من وقت السماع عليه، كما صرح به ابن جوصا. وأما كلام ابن منده، فيحتمل أنه أراد من حين السماع، وهو بعيد؛ لأنه يجوز أن يكون شيخه إلى الآن حيا، والظاهر أنه أراد إذا مضى على إسناد كتاب، أو حديث، ثلاثون سنة، وهو في تلك المدة لا يقع أعلى من ذلك، كسماع كتاب البخاري في سنة ستين وسبعمائة مثلا على أصحاب أصحاب ابن الزبيدي، فإنه مضت عليه ثلاثون سنة من موت من كان آخر من يرويه عاليا، وهو الحجار.
(2/68)
746 ... ثم علو قدم السماع ... وضده النزول كالأنواع
747 ... وحيث ذم فهو ما لم يجبر ... والصحة العلو عند النظر
هذا القسم الخامس من أقسام العلو، وهو تقدم السماع من الشيخ، فمن تقدم سماعه من شيخ كان أعلى ممن سمع من ذلك الشيخ نفسه بعده. روينا عن محمد بن طاهر، قال: من العلو تقدم السماع. ولكن جعل ابن طاهر، وتبعه ابن دقيق العيد، هذا القسم، والذي قبله، قسما واحدا، وقال ابن الصلاح: ((إن كثيرا من هذا يدخل في النوع المذكور قبله، وفيه ما لا يدخل مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلا، وسماع الآخر من أربعين سنة)) ، قلت: وأهل الحديث مجمعون على أفضلية المتقدم في حق من اختلط شيخه، أو خرف لهرم، أو مرض، وهو واضح. أما من لم يحصل له ذلك فربما كان السماع المتأخر أرجح، بأن يكون تحديثه الأول قبل أن يبلغ درجة الإتقان، والضبط، ثم كان الشيخ متصفا بذلك في حالة سماع الراوي المتأخر السماع، فلهذا مزية، وفضل على السماع المتقدم، وهو أرفع وأعلى، لكنه علو معنوي على ما سيأتي.
فهذه أقسام العلو ولما جمع ابن طاهر، وابن دقيق العيد، بين قسمي تقدم السماع، وتقدم الوفاة، وجعلاهما قسما واحدا، زادا بدل الساقط: العلو إلى صاحبي الصحيحين ومصنفي الكتب المشهورة. وجعل ابن طاهر هذا قسمين: أحدهما: العلو إلى البخاري ومسلم، وأبي داود وأبي حاتم، وأبي زرعة. والآخر: العلو إلى كتب مصنفة لأقوام، كابن أبي الدنيا، والخطابي، وأشباههما، قال: ابن طاهر: واعلم أن كل حديث عز على المحدث، ولم يجده عاليا ولابد له من إيراده في تصنيف، أو احتجاج به؛ فمن أي وجه أورده، فهو عال لعزته، ثم مثل ذلك بأن البخاري روى عن أماثل أصحاب مالك، ثم روى حديثا لأبي إسحاق الفزاري عن مالك، لمعنى فيه فكان فيه بينه وبين مالك ثلاثة رجال، والله أعلم.
(2/69)
وأما أقسام النزول، فهي خمسة أيضا. فإن كل قسم من أقسام العلو ضده قسم من أقسام النزول، كما قال ابن الصلاح. وقال الحاكم في " علوم الحديث ": ((لعل قائلا يقول: النزول ضد العلو، فمن عرف العلو، فقد عرف ضده. قال الحاكم: وليس كذلك، فإن للنزول مراتب لا يعرفها إلا أهل الصنعة)) ، قال ابن الصلاح: ((هذا ليس نفيا لكون النزول ضد العلو على الوجه الذي ذكرته، بل نفيا لكونه يعرف بمعرفة العلو. قال: وذلك يليق بما ذكره هو في معرفة العلو، فإنه قصر في بيانه وتفصيله، وليس كذلك ما ذكرناه فإنه مفصل تفصيلا مبينا مفهما لمراتب النزول)) . ثم إن النزول حيث ذمه من ذمه، كقول علي بن المديني، وأبي عمرو المستملي، فيما رويناه عنهما: النزول شؤم. وكقول ابن معين فيما رويناه عنه: إلاسناد النازل قرحة في الوجه، فهو محمول على ما إذا لم يكن مع النزول ما يجبره، كزيادة الثقة في رجاله على العالي، أو كونهم أحفظ، أو أفقه، أو كونه متصلا بالسماع وفي العالي حضور، أو إجازة، أو مناولة، أو تساهل بعض رواته في الحمل، ونحو ذلك؛ فإن العدول حينئذ إلى النزول ليس بمذموم، ولا مفضول. وقد روينا عن وكيع قال: الأعمش أحب اليكم عن أبي وائل عن عبد الله؟ أو سفيان، عن منصور عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله؟ فقلنا: الأعمش عن أبي وائل أقرب. فقال:
(2/70)
الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة فقيه، عن فقيه، عن فقيه، عن فقيه. وروينا عن ابن المبارك قال: ليس جودة الحديث قرب الإسناد بل جودة الحديث صحة الرجال.
وروينا عن السلفي قال: الأصل الأخذ عن العلماء فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة على مذهب المحققين من النقلة، والنازل حينئذ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق، كما روينا عن نظام الملك قال: عندي أن الحديث العالي: ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن بلغت رواته مائة. وكما روينا عن السلفي من نظمه:
ليس حسن الحديث قرب رجال ... عند أرباب علمه النقاد
بل علو الحديث بين أولي الحـ ... ـفظ والإتقانصحة الإسناد
وإذا ما تجمعا في حديث ... فاغتنمه فذاك أقصى المراد
قال ابن الصلاح: ((هذا ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب)) .
(2/71)
الغريب، والعزيز، والمشهور
748.... وما به مطلقا الراوي انفرد ... فهو الغريب وابن مندة فحد
749.... بالانفراد عن إمام يجمع ... حديثه فإن عليه يتبع
750.... من واحد واثنين فالعزيز أو ... فوق فمشهور وكل قد رأوا
751.... منه الصحيح والضعيف ثم قد ... يغرب مطلقا أو اسنادا فقد
ج
قال ابن الصلاح: ((الحديث الذي ينفرد به بعض الرواة، يوصف بالغريب، قال: وكذلك الحديث الذي ينفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره، إما في متنه، وإما
(2/72)
في إسناده)) . وروينا عن أبي عبد الله بن منده قال: الغريب من الحديث كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريبا، فإذا روى عنهم رجلان، أو ثلاثة، واشتركوا يسمى عزيزا، فإذا روى الجماعة عنهم حديثا، يسمي مشهورا، وهكذا قال محمد بن طاهر المقدسي، وكأنه أخذه من كلام ابن منده.
وقولي: (وكل قد رأوا، منه الصحيح والضعيف) أي: إن وصف الحديث بكونه مشهورا، أو عزيزا، أو غريبا، لاينافي الصحة، ولا الضعف، بل قد يكون مشهورا صحيحا، أو مشهورا ضعيفا، أو غريبا صحيحا، أو غريبا ضعيفا، أو عزيزا صحيحا، أو عزيزا ضعيفا. ولم يذكر ابن الصلاح كون العزيز يكون منه الصحيح والضعيف، بل ذكر ذلك في المشهور والغريب فقط. ومثل المشهور الصحيح بحديث: ((الأعمال بالنيات)) وتبع في ذلك الحاكم، وفيه نظر، فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد، وأول الإسناد فرد، كما تقدم. وقد نبه على ذلك ابن الصلاح في آخر النوع الحادي والثلاثين، وهو الذي يلي نوع المشهور، وكان ينبغي له أن يمثل بغيره مما مثل به الحاكم أيضا، كحديث: ((إن الله لا يقبض العلم
(2/73)
انتزاعا، ... )) وحديث: ((من أتى الجمعة فليغتسل، ... )) ، وحديث رفع اليدين في الصلاة، وغير ذلك. ومثل ابن الصلاح المشهور الذي ليس بصحيح، بحديث: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) ، وتبع في ذلك أيضا الحاكم، وقد صحح
(2/74)
بعض الأئمة بعض طرق الحديث، كما بينته في تخريج أحاديث " الإحياء ". ومثله الحاكم أيضا، بحديث: ((الأذنان من الرأس)) . وبأمثلة كثيرة بعضها صحيح، وإن لم تخرج في واحد من الصحيحين.
وذكر ابن الصلاحفي أمثلته ما بلغه عن أحمد بن حنبل، قال: أربعة أحاديث تدور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسواق، ليس لها أصل: ((من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة)) ، ((ومن آذى ذميا، فأنا خصمه يوم القيامة)) ، ((ويوم نحركم يوم صومكم)) ، ((وللسائل حق، وإن جاء على فرس)) ، قلت:
(2/75)
وهذا لا يصح عن أحمد، وقد أخرج أحمد في " مسنده " هذا الحديث الرابع عن وكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان، عن مصعب بن محمد، عن يعلى ابن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها حسين بن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إسناد جيد. ويعلى وإن جهله أبو حاتم، فقد وثقه أبو حاتم بن حبان. وأما مصعب، فوثقه يحيى بن معين، وغيره. وأخرجه أبو داود في " سننه " وسكت عنه، فهو عنده صالح. وأخرجه أيضا من حديث علي، وفي إسناده من لم يسم. ورويناه أيضا من حديث ابن عباس، ومن حديث الهرماس بن زياد.
وأما حديث: ((من آذى ذميا)) فقد رواه بنحوه أبو داود أيضا، وسكت عليه، من رواية صفوان بن سليم، عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم دنية عن
(2/76)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا من غير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة)) . وهذا إسناد جيد، وإن كان فيه من لم يسم، فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة. فقد روينا في سنن البيهقي، وفيه: ((عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) .
وأما الحديثان الآخران فلا أصل لهما كما ذكر. وأما مثال الغريب الصحيح، فكأفراد الصحيح، وهي كثيرة، منها حديث مالك عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، مرفوعا: ((السفر قطعة من العذاب)) . وأما الغريب الذي ليس بصحيح فهو الغالب على الغرائب. وقد روينا عن أحمد بن حنبل، قال: ((لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب، فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء)) . وروينا عن مالك قال: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وروينا عن عبد الرزاق قال: كنا نرى أن غريب الحديث خير، فإذا هو شر. وقسم الحاكم الغريب إلى ثلاثة أنواع: غرائب الصحيح، وغرائب الشيوخ، وغرائب المتون. وقسمه ابن طاهر إلى خمسة أنواع. وقال ابن الصلاح: إن من الغريب ما هو
(2/77)
غريب متنا، وإسنادا، وهو الحديث الذي تفرد برواية متنه راو واحد. ومنه ما هو غريب إسنادا لا متنا، كالحديث الذي متنه معروف، مروي عن جماعة من الصحابة، إذا تفرد بعضهم بروايته عن صحابي آخر، كان غريبا من ذلك الوجه. قال ومن ذلك: غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، قال: وهذا الذي يقول فيه الترمذي: غريب من هذا الوجه، قلت: وأشرت إلى القسم الأول بقولي: (ثم قد يغرب مطلقا) ، وإلى الثاني بقولي: (أو اسنادا فقد) أي: فقط.
قال ابن الصلاح: ولا أرى هذا النوع ينعكس، فلا يوجد إذا ما هو غريب متنا، وليس غريبا إسنادا، وإلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرد به، فرواه عنه عدد كثيرون، فإن إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول، متصف بالشهرة في طرفه الآخر، كحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) ، وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشتهرة، هكذا قال ابن الصلاح: إنه لا يوجد ما هو غريب متنا لا سندا، إلا بالتأويل الذي ذكره. وقد أطلق أبو الفتح اليعمري ذكر هذا النوع في جملة أنواع الغريب من غير تقيد بآخر السند، فقال في " شرح الترمذي ": ((الغريب على أقسام: غريب سندا ومتنا، ومتنا لا سندا، وسندا لا متنا، وغريب بعض السند فقط، وغريب بعض المتن فقط)) . فالقسم الأول واضح، والقسم الثاني هو الذي أطلقه أبو الفتح، ولم يذكر له مثالا، والقسم الثالث مثاله حديث رواه عبد المجيد بن عبد العزيزبن أبي رواد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الأعمال بالنية)) . قال الخليلي في
(2/78)
" الإرشاد ": ((أخطأ فيه عبد المجيد، وهو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه، قال: فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة)) . وقال أبو الفتح اليعمري: ((هذا إسناد غريب كله، والمتن صحيح)) ، والقسم الرابع مثاله حديث رواه الطبراني في " المعجم الكبير " من رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومن رواية عباد بن منصور، فرقهما كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بحديث أم زرع.
والمحفوظ ما رواه عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عروة عن عائشة. هكذا اتفق عليه الشيخان. وكذا راوه مسلم من رواية سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، عن هشام. قال أبو الفتح: ((فهذه غرابة تخص موضعا من السند، والحديث صحيح)) قلت: ويصلح ما ذكرناه من عند الطبراني مثالا للقسم
الخامس؛ لأن عبد العزيز وعبادا جعلا جميع الحديث مرفوعا، وإنما المرفوع منه
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)) ، فهذا غرابة بعض المتن، أيضا.
والله اعلم.
(2/79)
752.... كذلك المشهور أيضا قسموا ... لشهرة مطلقة كـ ((المسلم
753.... من سلم الحديث)) والمقصور ... على المحدثين من مشهور
754.... ((قنوته بعد الركوع شهرا)) ... ومنه ذو تواتر مستقرا
755.... في طبقاته كمتن ((من كذب)) ... ففوق ستين رووه والعجب
756.... بأن من رواته للعشره ... وخص بالأمرين فيما ذكره
757.... الشيخ عن بعضهم، قلت: بلى ... ((مسح الخفاف)) وابن مندةإلى
758.... عشرتهم ((رفع اليدين)) نسبا ... ونيفوا عن مائة ((من كذبا))
أي: كما أن المشهور ينقسم إلى صحيح وضعيف، كذلك ينقسم من وجه آخر إلى ما هو مشهور شهرة مطلقة بين أهل الحديث، وغيرهم، كحديث: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، وما أشبه ذلك في الشهرة المطلقة، وإلى ما هو مشهور بين أهل الحديث خاصة، كحديث أنس ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرا بعد الركوع، يدعو على رعل؛ وذكوان)) فهذا حديث اتفق عليه الشيخان من رواية سليمان التيمي، عن أبي مجلز واسمه: لاحق بن حميد، عن أنس، وقد رواه عن أنس غير أبي مجلز
(2/80)
، وعن أبي مجلز غير سليمان التيمي، وعن سليمان التيمي جماعة، وهو مشهور بين أهل الحديث، وقد يستغربه غيرهم؛ لأن الغالب على رواية التيمي، عن أنس، كونها بغير واسطة، وهذا الحديث بواسطة أبي مجلز.
ثم إن المشهور أيضا ينقسم باعتبار آخر إلى ما هو متواتر، وإلى ما هو مشهور غير متواتر. وقد ذكر المتواتر الفقهاء والأصوليون وبعض أهل الحديث. قال ابن الصلاح: ((وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الخطيب قد ذكره في كتابه " الكفاية " ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث)) . قلت: قد ذكره الحاكم، وابن حزم وابن عبد البر. وهو الخبر الذي ينقله عدد يحصل العلم بصدقهم ضرورة. وعبر عنه غير واحد بقوله: عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب. ولا بد من وجود ذلك في رواته من أوله إلى منتهاه، وإلى ذلك أشرت بقولي: (في طبقاته) . قال ابن الصلاح: ومن سئل عن إبراز مثال لذلك أعياه تطلبه. ثم قال: نعم.. حديث: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) ، نراه مثالا لذلك فإنه نقله من الصحابة - رضي الله عنهم - العدد الجم، وهو في " الصحيحين " مروي عن جماعة منهم. قال: وذكر أبو بكر البزار في " مسنده ": أنه رواه نحو من أربعين رجلا من الصحابة. قال: وذكر بعض الحفاظ: أنه رواه اثنان وستون نفسا من الصحابة، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة. قال: وليس في الدنيا حديث اجتمع على روايته العشرة غيره
(2/81)
ولا يعرف حديث يروى عن أكثر من ستين نفسا من الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا هذا الحديث الواحد قال: وبلغ بهمبعض أهل الحديث أكثر من هذا العدد، وفي بعض ذلك عدد التواتر! انتهى.
وما حكاه ابن الصلاح عن بعض الحفاظ، وأبهمه، هو في كلام ابن الجوزي، فإنه ذكر في مقدمة "الموضوعات"، أنه رواه من الصحابة أحد وستون نفسا، ثم روى بعد ذلك بأوراق عن أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفراييني، أنه ليس في الدنيا حديث اجتمع عليه العشرة غيره. ثم قال ابن الجوزي قلت: ما وقعت إلي رواية عبد الرحمن بن عوف إلى الآن. قال: ولا عرفت حديثا رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد وستون نفسا، وعلى قول هذا الحافظ اثنان وستون نفسا، إلا هذا الحديث)) . هذا كلامه في النسخة الأولى من الموضوعات، ومن خط الحافظ أبي محمد المنذري نقلت. وأما كلامه المحكي عن الكتاب المذكور في آخر الفصل، فهو في النسخة الأخيرة، فاعلم ذلك. قلت: وما ذكره ابن الصلاح عن بعض الحفاظ، من تخصيص هذا الحديث بهذا العدد، وبكونه من رواية العشرة منقوض
بحديث المسح على الخفين، فقد رواه أكثر من ستين من الصحابة، ومنهم العشرة، ذكر ذلك أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده في كتاب له سماه " المستخرج من كتب الناس ". وذكر صاحب " الإمام " عن ابن
(2/82)
المنذر قال: روينا عن الحسن أنه قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح لى الخفين. انتهى. وجعله ابن عبد البر متواترا، فقال: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين، نحو أربعين من الصحابة، واستفاض، وتواتر. قلت: فهذا مثال آخر للمتواتر، صرح بوصفه بذلك. وإلى ذلك أشرت بقولي: (قلت: بلى مسح الخفاف) .
وأيضا فحديث رفع اليدين قد عزاه غير واحد من الأئمة إلى رواية العشرة أيضا، منهم ابن منده المذكور في كتاب " المستخرج "، والحاكم أبو عبد الله، وجعل ذلك مما اختص به حديث رفع اليدين، قال البيهقي: سمعته يقول: لا نعلم سنة اتفق على روايتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلفاء الأربعة، ثم العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، فمن بعدهم من أكابر الصحابة، على تفرقهم في البلاد الشاسعة؛ غير هذه السنة. قال البيهقي: وهو كما قال أستاذنا أبو عبد الله - رضي الله عنه -. فقد روى هذه السنة عن العشرة وغيرهم، وأما عدة من رواه من الصحابة، فقال ابن عبد البر في " التمهيد ": رواه ثلاثة عشر رجلا من الصحابة. وقال السلفي: رواه سبعة عشر. قلت: وقد جمعت رواته فبلغوا نحو الخمسين، ولله الحمد.
وقولي: (ونيفوا عن مائة) أي: ورووا حديث ((من كذب علي متعمدا)) عن مائة ونيف من الصحابة. وقال ابن الجوزي في مقدمة " الموضوعات ": رواه من الصحابة
(2/83)
ثمانية وتسعون نفسا. انتهى. هكذا نقلته من خط علي، ولد المصنف، وهي النسخة الأخيرة من الكتاب المذكور وفيها زوائد ليست في النسخة الأولى التي كتبت عنه. وقد جمع الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي طرقه في جزأين، فبلغ بهم مائة واثنين، وأخبرني بعض الحفاظ: أنه رأى في كلام بعض الحفاظ: أنه رواه مائتان من الصحابة، وأنا أستبعد وقوع ذلك، والله أعلم.
غريب ألفاظ الأحاديث
759.... والنضر أو معمر خلف أول ... من صنف الغريب فيما نقلوا
760.... ثم تلا أبو عبيد واقتفى ... القتبي ثم حمد صنفا
761.... فاعن به ولا تخض بالظن ... ولا تقلد غير أهل الفن
762.... وخير ما فسرته بالوارد ... كالدخ بالدخان لابن صائد
763.... كذاك عند الترمذي، والحاكم ... فسره الجماع وهو واهم
غريب الحديث، هو ما يقع فيه من الألفاظ الغامضة البعيدة عن الفهم. وقد صنف فيه جماعة من الأئمة، واختلفوا في أول من صنف فيه. فقال الحاكم في" علوم الحديث ": ((أول من صنف الغريب في الإسلام النضر بن شميل. ثم صنف فيه أبو
(2/84)
عبيد القاسم بن سلام كتابه الكبير)) قال ابن الصلاح: ((ومنهم من خالفه فقال: أول من صنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى)) . وقال الحافظ محب الدين الطبري في كتاب " تقريب المرام ": وقد قيل: إن أول من جمع في هذا الفن شيئا، وألفه أبو عبيدة معمر بن المثنى، ثم النضر بن شميل، ثم عبد الملك بن قريب الأصمعي، وكان في عصر أبي عبيدة، وتأخر، وكذلك قطرب، وغيره من أئمة الفقه، واللغة، جمعوا أحاديث تكلموا على لغتها، ومعناها، في أوراق ذوات عدد، ولم يكن أحد منهم ينفرد عن غيره بكثير حديث لم يذكره الآخر. واستمرت الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام، وذلك بعد المائتين، فجمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار. انتهى. ثم بعد ذلك صنف أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري القتبي كتابه المشهور فزاد على أبي عبيد مواضع وتتبعه في مواضع. ثم صنف بعده أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي كتابه في ذلك، فزاد على القتبي، ونبه على أغاليط له.
وصنف فيه جماعة منهم: قاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي، وعبد الغافر الفارسي كتابا سماه: " مجمع الغرائب "، وصنف الزمخشري كتابه " الفائق "، وبعده أبو الفرج ابن الجوزي. وكان جمع بين الغريبين: غريبي القرآن والحديث أبو عبيد أحمد
(2/85)
بن محمد الهروي، صاحب أبي منصور الأزهري، وذيل عليه الحافظ أبو موسى المديني ذيلا حسنا. ثم جمع بينهما مقتصرا على غريب الحديث فقط أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، وزاد عليهما زيادات كثيرة، وذلك في كتابه " النهاية ". وبلغني أن الإمام صفي الدين محمود بن محمد بن حامد الأرموي، ذيل عليه ذيلا لم أره، وبلغني أنه كتبه حواش على أصل النهاية فقط، وإن الناس أفردوه. وقد كنت كتبت على نسخة - كانت عندي من النهاية - حواشي كثيرة، وأرجو أن أجمعها، وأذيل عليه بذيل كبير، إن شاء الله تعالى.
وقولي: (فاعن به) أي بعلم الغريب، أي: اجعله من عنايتك، واحفظه، واشتغل به. فإن قيل: إنما تستعمل هذه اللفظة مبينة لما لم يسم فاعله، يقال: عنيت بالأمر عناية، كما جزم به صاحبا " الصحاح " و" المحكم "، وعلى هذا فلا يؤمر منه بصيغة على صيغة افعل. قال الجوهري وإذا أمرت منه قلت: لتعن بحاجتي قلت فيه لغتان: عني، وعني. وممن حكاهما صاحب الغريبين، والمطرزي: وفي الحديث: أنه قال لرجل: لقد عني الله بك. قال ابن الأعرابي: أي: حفظ دينك. قال الهروي: يقال عنيت بأمرك، فأنا معني بك، وعنيت بأمرك أيضا، فأنا عان.
ولا ينبغي لمن تكلم في غريب الحديث أن يخوض فيه رجما بالظن، فقد روينا عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن حرف منه، فقال: سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن
(2/86)
أتكلم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظن. وسئل الأصمعي عن حديث: ((الجار أحق بسقبه)) ، فقال: أنا لا أفسر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن العرب تزعم أن السقب: اللزيق.
ولا ينبغي أن يقلد من الكتب المصنفة في الغريب، إلا ما كان مصنفوها أئمة جلة في هذا الشأن. فمن لم يكن من أهله، تصرف فيه فأخطأ. وقد كان بعض العجم يقرأ علي من مدة سنين في " المصابيح " للبغوي، فقرأ حديث: ((إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حقها، وإذا سافرتم في الجدب، فبادروا بها نقيها)) ، فقرأها نقبها - بفتح النون وبالباء الموحدة بعد القاف - فقلت له: إنما هي نقيها - بالكسر والياء آخر الحروف - فقال: هكذا ضبطه بعض الشراح في طرة الكتاب. فأخذت منه الكتاب، وإذا على الحاشية كما ذكر. وقال النقب: الطريق الضيق بين جبلين. فقلت: هذا خطأ وتصحيف فاحش، وإنما هو النقي، أي: المخ الذي في العظم. ومنه قوله في حديث أم زرع: ((لا سمين فينتقى)) ، وفي حديث
(2/87)
الأضحية: ((والعجفاء التي لا تنقي)) . فليحذر طالب العلم ضبط ذلك من الحواشي، إلا إذا كانت بخط من يعرف خطه من الأئمة.
وأحسن ما يفسر به الغريب ما جاء مفسرا به في بعض طرق الحديث، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المتفق عليه لابن صائد: ((قد خبأت لك خبيئا فما هو؟ قال: الدخ)) . فالدخ هنا: هو الدخان، وهو لغة فيه. حكاها ابن دريد، وابن السيد، والجوهري، وغيرهم. وحكى ابن السيد فيه أيضا: فتح الدال. وقد روى أبو داود والترمذي من رواية الزهري، عن سالم، عن ابن عمر في هذا الحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((إني قد خبأت لك خبيئة)) -وقال الترمذي: ((خبيئا)) - وخبأ له {يوم تأتي السماء بدخان مبين} قال الترمذي: هذا حديث صحيح،
(2/88)
والحديث متفق عليه دون ذكر الآية. وذكر أبو موسى المديني: أن السر في كونه خبأ له الدخان، أن عيسى - صلى الله عليه وسلم - يقتله بجبل الدخان فهذا هو الصواب في تفسير الدخ هنا. وقد فسره غير واحد على غير ذلك فأخطأ، ومنهم الحاكم في " علوم الحديث "، قال: سألت الأدباء عن تفسير الدخ، قال: يدخها، ويزخها، بمعنى واحد، الدخ والزخ، قال: والمعنى الذي أشار إليه ابن صياد - خذله الله - فيه مفهوم، ثم أنشد لعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنه -:
طوبى لمن كانت له مزخه ... يزخها ثم ينام الفخه
فالمزخة - بالفتح -: هي المرأة. قاله الجوهري. ومعنى يزخها: يجامعها. والفخة: أن ينام فينفخ في نومه. هذا الذي فسر الحاكم به الحديث من كونه
(2/89)
الجماع، تخليط فاحش، كما قال ابن الصلاح، ثم إني لم أر في كلام أهل اللغة أن الدخ -بالدال-: هو الجماع. وإنما ذكروه بالزاي فقط. وممن فسره على غير الصواب أيضا أبو سليمان الخطابي فرجح أن الدخ: نبت موجود بين النخيل، وقال: لا معنى للدخان هاهنا، إذ ليس مما يخبأ، إلا أن يريد بـ: خبأت أضمرت وما قاله الخطابي أيضا غير مرضي. وقولي: (والحاكم) ، هو ابتداء كلام مرفوع، (وفسره) : في موضع الخبر.
المسلسل
764.... مسلسل الحديث ما تواردا ... فيه الرواة واحدا فواحدا
765.... حالا لهمأو وصفا اووصفسند ... كقول كلهم: سمعت فاتحد
766.... وقسمه إلى ثمان مثل ... وقلما يسلم ضعفا يحصل
767.... ومنه ذو نقص بقطع السلسله ... كأولية وبعض وصله
التسلسل من صفات الأسانيد، فالحديث المسلسل: هو ما توارد رجال إسناده واحدا فواحدا على حالة واحدة أو صفة واحدة سواء كانت الصفة للرواة، أو للإسناد. وسواء كان ما وقع منه في الإسناد في صيغ الأداء، أو متعلقا بزمن الرواية، أو
(2/90)
بالمكان. وسواء أكانت أحوال الرواة، أو صفاتهم أقوالا، أم أفعالا؟ مثال التسلسل بأحوال الرواة القولية، حديث معاذ بن جبل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((يا معاذ، إني أحبك، فقل في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)) ، فقد تسلسل لنا بقول كل من رواته: وأنا أحبك فقل.
ومثال التسلسل بأحوال الرواة الفعلية، حديث أبي هريرة قال: شبك بيدي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -، وقال: خلق الله الأرض يوم السبت، ... الحديث. فقد تسلسل لنا تشبيك كل واحد من رواته بيد من رواه عنه. وقد يجتمع تسلسل الأقوال والأفعال في حديث واحد كالحديث الذي أخبرنا به محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري سماعا عليه بدمشق في الرحلة الأولى، قال: أخبرنا والدي، ويحيى بن علي بن محمد القلانسي قالا: أخبرنا علي بن محمد ابن أبي الحسن، قال: حدثنا يحيى بن محمود الثقفي، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن الفضل، قال: حدثنا أحمد بن علي بن خلف، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحاكم، قال: حدثنا الزبير بن عبد الواحد، قال: حدثنا يوسف
(2/91)
ابن عبد الأحد الشافعي، قال: حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: حدثنا سعيد الأدم، قال: حدثنا شهاب بن خراش، قال: سمعت يزيد الرقاشي يحدث عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره)) قال: وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وقبض أنس على لحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ يزيد بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ شهاب بلحيته، فقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ سعيد بلحيته، وقال: آمنت
بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ سليمان بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ يوسف بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال الحاكم: وأخذ الزبير بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ الحاكم بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ ابن خلف بلحيته،
(2/92)
وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ إسماعيل بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ يحيى الثقفي بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ علي بن محمد بلحيته وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قال: وأخذ كل من يحيى بن القلانسي وإسماعيل بن إبراهيم بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأخذ شيخنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بلحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره.
ومثال التسلسل بصفات الرواة القولية، كالحديث المسلسل بقراءة سورة الصف ونحوه. وأحوال الرواة القولية، وصفاتهم القولية، متقاربة بل متماثلة. ومثال التسلسل بصفات الرواة الفعلية، كالحديث المسلسل بالفقهاء، وهو حديث ابن عمر مرفوعا: ((البيعان بالخيار)) فقد تسلسل لنا برواية الفقهاء. وكالحديث المسلسل برواية الحفاظ، ونحو ذلك. ومثال التسلسل بصفات الإسناد والرواية، كقول كل من رواته:
(2/93)
سمعت فلانا، وإليه الإشارة بقولي: (كقول كلهم: سمعت فاتحد) ، لفظ الأداء في جميع الرواة فصار مسلسلا بذلك، وكذلك قول جميعهم حدثنا، أو قولهم: أخبرنا، وقولهم: شهدت على فلان، قال: شهدت على فلان، ونحو ذلك. وجعل الحاكم من أنواعه أن تكون ألفاظ الأداء في جميع الرواة دالة على الاتصال، وإن اختلفت، فقال بعضهم: سمعت، وبعضهم: أخبرنا، وبعضهم: حدثنا، ولم يدخل الأكثرون في المسلسلات إلا ما اتفقت فيه صيغ الأداء بلفظ واحد، ومثال التسلسل في وقت الرواية حديث ابن عباس، قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم عيد فطر، أو أضحى، ... الحديث. فقد تسلسل لنا برواية كل واحد من الرواة له في يوم عيد وكحديث تسلسل قص الأظفار بيوم الخميس، ونحو ذلك. ومثال التسلسل بالمكان، كالحديث المسلسل بإجابة الدعاء في الملتزم. وأنواع التسلسل كثيرة. وقد ذكره الحاكم في علومه ثمانية أنواع، قال ابن الصلاح: والذي ذكره فيها إنما هو صور، وأمثلة ثمانية، ولا انحصار لذلك في ثمانية.
قلت: لم يقل الحاكم إنه ينحصر في ثمانية أنواع، كما فهمه ابن الصلاح، وإنما قال بعد ذكره الثمانية: ((فهذه أنواع المسلسل من الأسانيد المتصلة التي لا يشوبها تدليس وآثار السماع بين الراويين ظاهرة)) . انتهى.
(2/94)
فالحاكم إنما ذكر من أنواع المسلسل ما يدل على الاتصال. فالأول: المسلسل بـ: سمعت. والثاني: المسلسل بقولهم: قم فصب علي حتى أريك وضوء فلان. والثالث: المسلسل بمطلق ما يدل على الاتصال من ((سمعت)) أو ((أخبرنا)) أو ((حدثنا)) ، وإن اختلفت ألفاظ الرواة. والرابع: المسلسل بقولهم: فإن قيل لفلان: من أمرك بهذا؟ قال: يقول: أمرني فلان. والخامس: المسلسل بالأخذ باللحية، وقولهم: آمنت بالقدر، الحديث، وقد تقدم. والسادس: المسلسل بقولهم: وعدهن في يدي. والسابع: المسلسل بقولهم: شهدت على فلان. والثامن: المسلسل بالتشبيك باليد مع أن من أمثلته ما يدل على الاتصال، ولم يذكره، كالمسلسل بقولهم: أطعمنا وسقانا. والمسلسل بقولهم: أضافنا بالأسودين، التمر والماء. والمسلسل بقولهم: أخذ فلان بيدي. والمسلسل بالمصافحة. والمسلسل بقص الأظفار يوم الخميس، ونحو ذلك. قال ابن الصلاح: ((وخيرها ما كان فيه دلالة على اتصال السماع وعدم التدليس، قال: ومن فضيلة التسلسل اشتماله على مزيد الضبط من الرواة. قال: وقلما تسلم المسلسلات من ضعف، أعني: في وصف التسلسل لا في أصل المتن)) .
ومن المسلسل ما هو ناقص التسلسل بقطع السلسلة في وسطه، أو أوله، أو آخره، كحديث عبد الله بن عمرو المسلسل بالأولية، فإنه إنما يصح التسلسل فيه إلى سفيان بن عيينة، وانقطع التسلسل بالأولية في سماع سفيان من عمرو، وفي سماع عمرو من أبي قابوس، وفي سماع أبي قابوس من عبد الله بن عمرو، وفي سماع عبد الله من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد وقع لنا - بإسناد متصل - التسلسل إلى آخره، ولا يصح ذلك، والله أعلم.
(2/95)
الناسخ، والمنسوخ
768.... والنسخ رفع الشارع السابق من ... أحكامه بلاحق وهو قمن
769.... أن يعتنى به وكان الشافعي ... ذا علمه ثم بنص الشارع
770.... أو صاحب أو عرف التاريخ أو ... أجمع تركا بان نسخ ورأوا
771.... دلالة الإجماع لا النسخ به ... كالقتل في رابعة بشربه
النسخ يطلق لغة: على الإزالة، وعلى التحويل. وأما نسخ الأحكام الشرعية، وهو المحدود هنا، فهو عبارة عن: ((رفع الشارع حكما من أحكامه سابقا، بحكم من أحكامه لاحق)) .
والمراد برفع الحكم: قطع تعلقه بالمكلفين، وإلا فالحكم قديم لا يرتفع. فقولنا: (رفع) ، احتراز عن بيان مجمل، فإنه ليس برفع.
وقولنا: (الشارع) ، احتراز عن إخبار بعض من شاهد النسخ من الصحابة، فإنه لا يكون نسخا، وإن كان التكليف إنما حصل بإخباره لمن لم يكن بلغه قبل ذلك.
(2/96)
وقولنا: حكما من أحكامه احتراز عن رفع الإباحة الأصلية، فإنه لا يسمى نسخا.
وقولنا: سابقا، احتراز عن التخصيص المتصل بالتكليف، كالاستثناء، ونحوه.
وقولنا: بحكم من أحكامه، احتراز عن رفع الحكم لموت المكلف، أو زوال التكليف بجنون، أو نحوه.
وقولنا لاحق، احتراز عن انتهاء الحكم بانتهاء الوقت، كقوله - صلى الله عليه وسلم - إنكم لاقوا العدو غدا، والفطر أقوى لكم، فأفطروا فالصوم - مثلا بعد ذلك اليوم ليس لنسخ متأخر، وإنما المأمور به مؤقت وقد انقضى وقته بعد ذلك اليوم المأمور بإفطاره
وقولي: (وهو قمن) - بفتح القاف وكسر الميم - على إحدى اللغتين، بمعنى: حقيق، أي: وعلم الناسخ والمنسوخ حقيق أن يعتنى به.
وقولي ذا علمه، أي صاحب علمه وقد روينا عن أحمد بن حنبل، أنه قال ما علمنا المجمل من المفسر، ولا ناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منسوخه حتى جالسنا الشافعي
وقولي: (ثم بنص الشارع ... ) إلى آخره. الجار والمجرور هنا متعلق بقولي: بان نسخ أي يتبين النسخ، ويعرف بنص الشارع عليه، أو بنص صاحب من الصحابة عليه، أو بمعرفة التاريخ للواقعتين، أو بأن يجمع على ترك العمل بحديث
(2/97)
فالأول كقوله - صلى الله عليه وسلم - كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا ما بدا لكم وكنت نهيتكم عن الظروف، ... الحديث أخرجه مسلم والترمذي وصححه من حديث بريدة بن الحصيب
والثاني كقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود والنسائي وكقول أبي بن كعب كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل. رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وابن ماجه. هكذا أطلق ابن الصلاح أن مما يعرف النسخ به قول الصحابي، وهو واضح. وخصص أهل الأصول ثبوت النسخ بقوله فيما إذا أخبر: بأن هذا متأخر. فإن
(2/98)
قال: هذا ناسخ. لم يثبت به النسخ. قالوا: لجواز أن يقوله عن اجتهاده، بناء على أن قوله ليس بحجة. وما قاله أهل الحديث أوضح وأشهر. والنسخ لا يصار إليه بالاجتهاد والرأي، وإنما يصار إليه عند معرفة التأريخ. والصحابة أورع من أن يحكم أحد منهم على حكم شرعي بنسخ من غير أن يعرف تأخر الناسخ عنه. وفي كلام الشافعي موافقة لأهل الحديث، فقد قال فيما رواه البيهقي في المدخل ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بوقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر، أو بقول من سمع الحديث، أو العامة.
فقوله: أو بقول من سمع الحديث، أراد به قول الصحابة مطلقا، فذكر الوجوه الأربعة التي يعرف بها النسخ، والله أعلم.
والثالث كحديث شداد بن أوس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أفطر الحاجم والمحجوم رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجه فذكر الشافعي - رضي الله عنه - أنه منسوخ بحديث ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم صائم أخرجه مسلم فإن ابن عباس إنما صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر. وفي بعض طرق حديث شداد: أن ذلك كان زمن الفتح، وذلك في سنة ثمان، والله أعلم.
(2/99)
والرابع كحديث معاوية قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه رواه أصحاب السنن، أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، قال الترمذي في آخر الجامع جميع ما في هذا الكتاب معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين حديث ابن عباس في الجمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف، ولا سفر، وحديث، إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)) . قال النووي في " شرح مسلم ": ((وهذا في حديث شارب الخمر هو كما قاله، فهو حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه. قال: وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به)) . قلت: وقوله عن حديث شارب الخمر: أنه كما قاله، فيه نظر من حيث إن ابن حزم خالف في ذلك.
(2/100)
اللهم إلا أن يقال: إن خلاف الظاهرية لا يقدح في الإجماع. وقد ذكر أبو الفتح اليعمري في "شرح الترمذي"، أنه روى ذلك أيضا عن عبد الله بن عمرو، والله أعلم.
ومع الإجماع على خلاف العمل به فقد ورد النسخ لذلك كما قال الترمذي من رواية محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال إن شرب الخمر فاجلدوه، فإن شرب في الرابعة فاقتلوه قال ثم أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة فضربه ولم يقتله، قال وكذلك روى الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نحو هذا، قال فرفع القتل، وكانت رخصة ولم يجعل أبو بكر الصيرفي الإجماع دليلا على تعين المصير للنسخ، بل جعله مترددا بين النسخ والغلط، فإنه قال في كتابه " الدلائل ": فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما، فهو منسوخ، أو غلط، والآخر ثابت. وما قاله محتمل، والله أعلم.
التصحيف
772.... والعسكري والدارقطني صنفا ... فيما له بعض الرواة صحفا
773.... في المتن كالصولي ((ستا)) غير ... ((شيئا)) ، أو الإسناد كابن الندر
774.... صحف فيه الطبري قالا: ... ((بذر)) بالباء ونقط ذالا
(2/101)
معرفة التصحيف فن مهم، وقد صنف فيه أبو الحسن الدارقطني، وصنف فيه أبو أحمد العسكري كتابه المشهور في ذلك، وذكر العسكري من الزوائد على ابن الصلاح بغير تمييز.
ثم التصحيف ينقسم إلى تصحيف في متن الحديث، وإلى تصحيف في الإسناد. وينقسم أيضا إلى تصحيف البصر -وهو الأكثر- وإلى تصحيف السمع -كما سيأتي-. وينقسم أيضا إلى تصحيف اللفظ - وهو الأكثر - وإلى تصحيف المعنى - كما سيأتي -. فمثال التصحيف في المتن ما ذكره الدارقطني: أن أبا بكر الصولي أملى في الجامع حديث أبي أيوب مرفوعا: ((من صام رمضان، وأتبعه ستا من شوال، ... )) . فقال فيه: شيئا - بالشين المعجمة، والياء آخر الحروف -. وكقول هشام بن عروة في حديث أبي ذر: ((تعين ضايعا)) - بالضاد المعجمة والياء آخر الحروف -. والصواب-
(2/102)
بالمهملة والنون -. وكقول وكيع في حديث معاوية: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يشققون الحطب)) بفتح الحاء المهملة - وإنما هو بضم المعجمة -. وحكي: أن ابن شاهين صحفه كذلك. وكقول أبي موسى محمد بن المثنى في حديث: ((أو شاة تنعر - بالنون - وإنما هو بالياء آخر الحروف. وكقول أبي بكر الإسماعيلي في حديث عائشة: ((قر الزجاجة)) بالزاي، وإنما هو بالدال المهملة المفتوحة.
(2/103)
ومثال التصحيف في الإسناد ما ذكره الدارقطني: أن محمد بن جرير الطبري قال فيمن روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني سليم، ومنهم: عتبة بن البذر، قاله: بالموحدة والذال المعجمة، وإنما هو بالنون المضمومة، وفتح الدال المهملة المشددة. وكقول يحيى بن معين: العوام بن مزاحم - بالزاي والحاء المهملة - وإنما هو بالراء والجيم.
775.... وأطلقوا التصحيف فيما ظهرا ... كقوله: ((احتجم)) مكان ((احتجرا))
أي وقد أطلق من صنف في التصحيف، التصحيف على ما لا تشتبه حروفه بغيره، وإنما أخطأ فيه راويه، أو سقط بعض حروفه من غير اشتباه مثاله ما ذكره مسلم في التمييز أن ابن لهيعة صحف في حديث زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجر في المسجد، فقال احتجم بالميم وكما روى يحيى بن سلام المفسر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى {سأريكم دار الفاسقين} ، قال مصر، وقد استعظم أبو زرعة الرازي هذا واستقبحه، وذكر أنه في تفسير سعيد عن قتادة مصيرهم، فأطلقوا على مثل هذا اسم التصحيف، وإن لم يشتبه. ولكنه سقط الضمير والياء، فوقع هكذا.
(2/104)
776.... وواصل بعاصم والأحدب ... بأحول تصحيف سمع لقبوا
777.... وصحف المعنى إمام عنزه ... ظن القبيل بحديث ((العنزه))
778.... وبعضهم ظن سكون نونه ... فقال: شاة خاب في ظنونه
هذا مثال لتصحيف السمع، وتصحيف المعنى. فأما تصحيف السمع فهو: أن يكون الاسم واللقب، أو الاسم واسم الأب على وزن اسم آخر ولقبه، أو اسم آخر واسم أبيه؛ والحروف مختلفة شكلا ونطقا، فيشتبه ذلك على السمع، كأن يكون الحديث لعاصم الأحول فيجعله بعضهم عن واصل الأحدب. فذكر الدارقطني: أنه من تصحيف السمع. وكذا عكسه، مثاله ما ذكره النسائي عن يزيد بن هارون، عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن أبي وائل، عن ابن مسعود بحديث: ((أي الذنب أعظم؟ ... الحديث)) . وكذلك ذكره الخطيب في " المدرجات " من طريق مهدي بن ميمون، عن عاصم الأحول، والصواب: واصل الأحدب مكان عاصم الأحول من طريق شعبة، ومهدي، وغيرهما. قال النسائي: حديث يزيد خطأ، إنما هو عن واصل. وقال الخطيب: إن قول بعضهم: عن مهدي بن ميمون، عن عاصم الأحول؛ وهم. قال: وقد رواه شعبة والثوري ومالك بن مغول، وسعيد بن مسروق، عن واصل
(2/105)
الأحدب. عن أبي وائل. قال: وهذا أيضا هو المشهور من رواية مهدي. ومن ذلك ما رواه أبو داود والنسائي من رواية شعبة عن مالك عرفطة، عن عبد خير، عن علي في صفة الوضوء والصواب: خالد بن علقمة، مكان: مالك بن عرفطة. قاله النسائي. وقد نسب شعبة فيه إلى الخطأ أبو داود والنسائي وغيرهما. وقد سمى أحمد بن حنبل هذا تصحيفا، فقال في حديث رواه شعبة عن مالك بن عرفطة، عن عبد خير، عن عائشة في النهي عن الدباء، والمزفت، صحف فيه شعبة، وإنما هو خالد بن علقمة.
وأما تصحيف المعنى، فمثاله ما ذكره الدارقطني: أن أبا موسى محمد بن المثنى العنزي الملقب بالزمن، أحد شيوخ الأئمة الستة، وهو المراد في قولي: (إمام عنزه) ، قال يوما: نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة قد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا. يريد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى عنزة فتوهم أنه صلى إلى قبيلتهم. وإنما العنزة هنا الحربة
(2/106)
تنصب بين يديه. وأعجب من ذلك ما ذكره الحاكم عن أعرابي: أنه زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى نصبت بين يديه شاة فصحفها عنزة - بإسكان النون - ثم رواه بالمعنى على وهمه فاخطأ في ذلك من وجهين، والله أعلم. ومن أمثلة تصحيف المعنى، ما ذكره الخطابي عن بعض شيوخه في الحديث: أنه لما روى حديث النهي عن التحليق يوم الجمعة قبل الصلاة، قال: ما حلقت رأسي قبل الصلاة منذ أربعين سنة. فهم منه تحليق الرؤوس، وإنما المراد تحليق الناس حلقا، والله أعلم.
(2/107)
مختلف الحديث
779.... والمتن إن نافاه متن آخر ... وأمكن الجمع فلا تنافر
780.... كمتن ((لا يورد)) مع ((لا عدوى)) ... فالنفي للطبع وفر عدوا
781.... أولا فإن نسخ بدا فاعمل به ... أو لا فرجح واعملن بالأشبه
هذا فن تكلم فيه الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه وأول من تكلم فيه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في كتابه اختلاف الحديث، ذكر فيه جملة من ذلك يتنبه بها على طريق الجمع، ولم يقصد استيفاء ذلك، ولم يفرده بالتأليف، إنما هو جزء من كتاب "
(2/108)
الأم ". ثم صنف في ذلك أبو محمد بن قتيبة فأتى بأشياء حسنة، وقصر باعه في أشياء قصر فيها. وصنف في ذلك محمد بن جرير الطبري، وأبو جعفر الطحاوي كتابه " مشكل الآثار "، وهو من أجل كتبه وكان الإمام أبو بكر بن خزيمة من أحسن الناس كلاما في ذلك، حتى إنه قال: لا أعرف حديثين صحيحين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما.
وجملة الكلام في ذلك: إنا إذا وجدنا حديثين مختلفي الظاهر، فلا يخلو إما أن يمكن الجمع بينهما بوجه ينفي الاختلاف بينهما، أو لا؟ فإن أمكن ذلك بوجه صحيح، تعين الجمع، ولا يصار إلى التعارض، أو النسخ، مع إمكان الجمع، مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لا يورد ممرض على مصح وقوله فر من المجذوم فرارك من الأسد مع قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أيضا لا عدوى ولا طيرة، فقد جعلها بعضهم متعارضة، وأدخلها بعضهم في الناسخ والمنسوخ، كأبي حفص بن شاهين والصواب الجمع بينهما، ووجهه أن قوله لا عدوى نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية، وبعض الحكماء، من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها، ولهذا قال: ((فمن أعدى الأول)) ، أي: إن الله هو الخالق لذلك بسبب وغير سبب، وإن قوله ((لا يورد ممرض على مصح)) ، ((وفر من المجذوم)) ، بيان لما يخلقه الله من الأسباب عند المخالطة للمريض، وقد يتخلف ذلك عن سببه، وهذا مذهب أهل السنة. كما أن النار لا تحرق بطبعها، ولا الطعام يشبع بطبعه، ولا الماء يروي بطبعه، وإنما
(2/109)
هي أسباب، والقدر وراء ذلك. وقد وجدنا من خالط المصاب بالأمراض التي اشتهرت بالإعداء، ولم يتأثر بذلك. ووجدنا من احترز عن ذلك، الاحتراز الممكن، وأخذ بذلك المرض.
(وعدوا) في آخر البيت، مصدر قولك عدا يعدوا عدوا، إذا أسرع في مشيه، إشارة إلى قوله: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) .
وإن لم يمكن الجمع بين الحديثين المختلفين، فإن عرف المتأخر منهما فإنه يصار حينئذ إلى النسخ، ويعمل بالمتأخر منهما. وإن لم يدل دليل على النسخ، فقد تعارضا حينئذ فيصار إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما، كالترجيح بكثرة الرواة، أو بصفاتهم في خمسين وجها من وجوه الترجيحات وأكثر. كذا ذكر ابن الصلاح: أن وجوه الترجيحات خمسون، وأكثر. وتبع في ذلك الحازمي، فإنه كذلك قال في كتاب " الاعتبار " له في الناسخ والمنسوخ. وقد رأينا أن نسردها مختصرة:
الأول: كثرة الرواة.
الثاني: كون أحد الراويين أتقن وأحفظ.
الثالث: كونه متفقا على عدالته.
الرابع: كونه بالغا حالة التحمل.
الخامس: كون سماعه تحديثا، والآخر عرضا.
السادس: كون أحدهما سماعا، أو عرضا، والآخر كتابة، أو وجادة، أو مناولة.
السابع: كونه مباشرا لما رواه.
الثامن: كونه صاحب القصة.
التاسع: كونه أحسن سياقا، واستقصاء لحديثه.
(2/110)
العاشر: كونه أقرب مكانا.
الحادي عشر: كونه أكثر ملازمة لشيخه.
الثاني عشر: كونه سمعه من مشايخ بلده.
الثالث عشر: كون أحد الحديثين له مخارج.
الرابع عشر: كون إسناده حجازيا.
الخامس عشر: كون رواته من بلد لا يرضون التدليس.
السادس عشر: دلالة ألفاظه على الاتصال، كـ: سمعت، و: حدثنا.
السابع عشر: كونه مشافها مشاهدا لشيخه عند الأخذ.
الثامن عشر: عدم الاختلاف في الحديث.
التاسع عشر: كون راويه لم يضطرب لفظه، وهو قريب من الذي قبله.
العشرون: كون الحديث متفقا على رفعه.
الحادي والعشرون: كونه متفقا على اتصاله.
الثاني والعشرون: كون راويه لا يجيز الرواية بالمعنى.
الثالث والعشرون: كونه فقيها.
الرابع والعشرون: كونه صاحب كتاب يرجع إليه.
الخامس والعشرون: كون أحد الحديثين نصا وقولا [والآخر نسب إليه استدلالا واجتهادا] .
السادس والعشرون: كون القول يقارنه الفعل.
السابع والعشرون: كونه موافقا لظاهر القرآن.
الثامن والعشرون: كونه موافقا لسنة أخرى.
التاسع والعشرون: كونه موافقا للقياس.
الثلاثون: كونه معه حديث آخر مرسل، أو منقطع.
الحادي والثلاثون: كونه عمل به الخلفاء الراشدون.
الثاني والثلاثون: كونه مع عمل الأمة.
(2/111)
الثالث والثلاثون: كون ما تضمنه من الحكم منطوقا.
الرابع والثلاثون: كونه مستقلا لا يحتاج إلى إضمار.
الخامس والثلاثون: كون حكمه مقرونا بصفة، والآخر بالاسم.
السادس والثلاثون: كونه مقرونا بتفسير الراوي.
السابع والثلاثون: كون أحدهما قولا، والآخر فعلا، فيرجح القول.
الثامن والثلاثون: كونه لم يدخله التخصيص.
التاسع والثلاثون: كونه غير مشعر بنوع قدح في الصحابة.
الأربعون: كونه مطلقا، والآخر ورد على سبب.
الحادي والأربعون: دلالة الاشتقاق على أحد الحكمين.
الثاني والأربعون: كون أحد الخصمين قائلا بالخبرين.
الثالث والأربعون: كون أحد الحديثين فيه زيادة.
الرابع والأربعون: كونه فيه احتياط للفرض وبراءة الذمة.
الخامس والأربعون: كون أحد الحديثين له نظير متفق على حكمه.
السادس والأربعون: كونه يدل على الحظر، والآخر على الإباحة.
السابع والأربعون: كونه يثبت حكما موافقا لحكم ما قبل الشرع، فقيل: هو أولى، وقيل: هما سواء.
الثامن والأربعون: كون أحد الخبرين مسقطا للحد، فقيل: هو أولى، وقيل: لا ترجيح.
التاسع والأربعون: كونه إثباتا يتضمن النقل عن حكم العقل والآخر نفيا يتضمن الإقرار على حكم العقل.
الخمسون: أن يكون أحدهما في الأقضية، وراويه علي: أو في الفرائض، وراويه زيد ابن ثابت، أو في الحلال والحرام وراويه معاذ بن جبل، وهلم جرا.
(2/112)
فالصحيح الذي عليه الأكثرون، كما قال الحازمي: الترجيح به. وقد اقتصر الحازمي على ذكر هذه الخمسين وجها، قال: وثم وجوه كثيرة أضربنا عن ذكرها، كي لا يطول به هذا المختصر. قلت: وقد خالفه بعض الأصوليين في بعض ما ذكره من وجوه الترجيحات، فرجح مقابله، أو نفى الترجيح. وقد زاد الأصوليون كالإمام فخر الدين الرازي، والسيف الآمدي، وأتباعهما؛ وجوها أخرى للترجيح، إذا انضمت إلى هذه، زادت على المائة. وقد جمعتها فيما جمعته على كلام ابن الصلاح، فلتراجع من هناك، وقد اقتصرت هنا على ما أودعه المحدثون كتبهم، والله أعلم.
خفي الإرسال، والمزيد في الإسناد
782.... وعدم السماع واللقاء ... يبدو به الإرسال ذو الخفاء
783.... كذا زيادة اسم راو في السند ... إن كان حذفه بعن فيه ورد
(2/113)
784.... وإن بتحديث أتى فالحكم له ... مع احتمال كونه قد حمله
785.... عن كل الا حيث ما زيد وقع ... وهما وفي ذين الخطيب قد جمع
ليس المراد هنا بالإرسال ما سقط منه الصحابي، كما هو المشهور في حد المرسل. وإنما المراد هنا: مطلق الانقطاع.
ثم الإرسال على نوعين: ظاهر، وخفي.
فالظاهر هو أن يروي الرجل عمن لم يعاصره بحيث لا يشتبه إرساله باتصاله على أهل الحديث، كأن يروي مالك مثلا عن سعيد بن المسيب، وكحديث رواه النسائي من رواية القاسم بن محمد، عن ابن مسعود، قال أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه، ثم نام حتى أصبح، ... الحديث فإن القاسم لم يدرك ابن مسعود.
والخفي: هو أن يروي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، فهذا قد يخفى على كثير من أهل الحديث، لكونهما قد جمعهما عصر واحد. وهذا النوع أشبه بروايات المدلسين. وقد أفرده ابن الصلاح بالذكر عن نوع المرسل، فتبعته على ذلك.
(2/114)
ويعرف خفي الإرسال بأمور:
أحدها أن يعرف عدم اللقاء بينهما بنص بعض الأئمة على ذلك، أو يعرف ذلك بوجه صحيح، كحديث رواه ابن ماجه من رواية عمر بن عبد العزيز، عن عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال رحم الله حارس الحرس، فإن عمر لم يلق عقبة، كما قال المزي في الأطراف
والثاني: بأن يعرف عدم سماعه منه مطلقا بنص إمام على ذلك، أو نحوه، كأحاديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وهي في السنن الأربعة. فقد روى الترمذي: أن عمرو بن مرة قال لأبي عبيدة: هل تذكر من عبد الله شيئا؟ قال: لا.
والثالث: بأن يعرف عدم سماعه منه لذلك الحديث فقط، وإن سمع منه غيره؛ إما بنص إمام، أو إخباره عن نفسه بذلك في بعض طرق الحديث، أو نحو ذلك.
والرابع: بأن يرد في بعض طرق الحديث زيادة اسم راو بينهما، كحديث رواه عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن حذيفة
(2/115)
مرفوعا: ((إن وليتموها أبا بكر، فقوي، أمين)) ، فهو منقطع في موضعين؛ لأنه روي عن عبد الرزاق، قال: حدثني النعمان بن أبي شيبة، عن الثوري، وروي أيضا عن الثوري، عن شريك، عن أبي إسحاق.
وهذا القسم الرابع محل نظر لا يدركه إلا الحفاظ النقاد، ويشتبه ذلك على كثير من أهل الحديث؛ لأنه ربما كان الحكم للزائد، وربما كان الحكم للناقص والزائد وهم فيكون من نوع المزيد في متصل الأسانيد؛ فلذلك جمعت بينه وبين نوع خفي الإرسال، وإن كان ابن الصلاح جعلهما نوعين، وكذلك الخطيب أفردهما بالتصنيف، فصنف في الأول كتابا سماه التفصيل لمبهم المراسيل، وصنف في الثاني كتابا سماه تمييز المزيد في متصل الأسانيد، وفي كثير مما ذكره فيه نظر والصواب ما ذكره ابن الصلاح من التفصيل واقتصرت عليه، وهو أن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد، إن كان بلفظة عن في ذلك - وكذلك ما لا يقتضي الاتصال، كـ قال ونحوها - فينبغي أن يحكم بإرساله، ويجعل معللا بالإسناد الذي ذكر فيه الراوي الزائد؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة وإن كان بلفظ يقتضي الاتصال، كـ حدثنا، وأخبرنا، وسمعت، فالحكم للإسناد الخالي عن الرواي الزائد؛ لأن معه الزيادة، وهي إثبات سماعه منه ومثاله حديث رواه مسلم والترمذي من طريق ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن
(2/116)
يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، قال سمعت أبا إدريس الخولاني قال سمعت واثلة يقول سمعت أبا مرثد يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها فذكر أبي إدريس في هذا الحديث وهم من ابن المبارك؛ لأن جماعة من الثقات رووه عن ابن جابر، عن بسر، عن واثلة بلفظ الاتصال بين بسر وواثلة رواه مسلم والترمذي أيضا، والنسائي عن علي بن حجر، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، عن بسر، قال سمعت واثلة ورواه أبو داود عن إبراهيم بن موسى، عن عيسى بن يونس، عن ابن جابر كذلك وحكى الترمذي عن البخاري قال حديث ابن المبارك خطأ، إنما هو عن بسر بن عبيد الله، عن واثلة، هكذا روى غير واحد عن ابن جابر قال وبسر قد سمع من واثلة وقال أبو حاتم الرازي يرون أن ابن المبارك وهم في هذا قال وكثيرا ما يحدث بسر، عن أبي إدريس، فغلط ابن المبارك، وظن أن هذا مما روي عن أبي ادريس، عن واثلة قال وقد سمع هذا بسر من واثلة نفسه وقال الدارقطني زاد ابن المبارك في هذا أبا إدريس ولا أحسبه إلا أدخل حديثا في حديث فقد حكم هؤلاء الأئمة على ابن المبارك بالوهم في هذا
(2/117)
وقولي: (مع احتمال كونه قد حمله عن كل الا حيث ما زيد وقع وهما) أي: مع جواز أن يكون قد سمعه من هذا، ومن هذا، قال ابن الصلاح: ((فجائز أن يكون سمع ذلك من رجل عنه، ثم سمعه منه نفسه، قال: فيكون بسر في هذا الحديث قد سمعه من أبي إدريس عن واثلة، ثم لقي واثلة فسمعه منه، كما جاء مثله مصرحا به في غير هذا.
اللهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونه، أي: الطريق الزائد - وهما - كنحو ما ذكره أبو حاتم الرازي في المثال المذكور، قال: وأيضا، فالظاهر ممن وقع له مثل هذا أن يذكر السماعين، فإذا لم يجئ عنه ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة. وقد وقع في هذا الحديث وهم آخر لمن دون ابن المبارك بزيادة راو آخر في السند، فقال فيه: عن ابن المبارك، قال: حدثنا سفيان عن ابن جابر، حدثني بسر، قال: سمعت أبا إدريس، قال: سمعت واثلة، فذكر سفيان في هذا وهم ممن دون ابن المبارك؛ لأن جماعة ثقات رووه عن ابن المبارك، عن ابن جابر، من غير ذكر سفيان، منهم عبد الرحمن بن مهدي، وحسن بن الربيع، وهناد بن السري وغيرهم. وزاد فيه بعضهم التصريح بلفظ الإخبار بينهما.
وقولي: (وفي ذين) أي: وفي هذين النوعين، وهما: الإرسال الخفي، والمزيد في متصل الأسانيد، قد صنف الخطيب كتابيه اللذين سبق ذكرهما.
(2/118)
معرفة الصحابة
... رائي النبي مسلما ذو صحبة ... وقيل: إن طالت ولم يثبت
787.... وقيل من أقام عاما أو غزا ... معه وذا لابن المسيب عزا
ألف العلماء في معرفة الصحابة كتبا كثيرة منها معرفة الصحابة لأبي حاتم بن حبان البستي، مختصر في مجلدة، ومنها كتاب معرفة الصحابة لأبي عبد الله بن منده، وهو كتاب كبير جليل، وقد ذيل عليه الحافظ أبو موسى المديني بذيل كبير، ومنها الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني كتاب جليل، ومنها كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، وهو كثير الفوائد وذيل عليه ابن فتحون بذيل في مجلدة ومنها
معرفة الصحابة للعسكري وهو على غير ترتيب الحروف، وصنف معاجم الصحابة جماعة منهم أبو القاسم البغوي، وابن قانع، والطبراني، إلا أن من صنف المعاجم لا يورد غالبا إلا من له رواية، وإن ذكروا من لا رواية له أيضا
وقد صنف أبو الحسن علي بن محمد بن الأثير الجزري كتابا كبيرا سماه أسد الغابة جمع فيه بين كتاب ابن منده، وذيل أبي موسى عليه، وكتاب أبي نعيم، والاستيعاب، وزاد من غيرها أسماء ولم يقع له ذيل ابن فتحون؛ لكنه يكرر أسماء الصحابة باعتبار أسمائهم وكناهم، وباعتبار الاختلاف في أسمائهم، أو كناهم واختصره جماعة منهم الحافظ أبو عبد الله الذهبي، في مختصر لطيف وقد ذيلت عليه بعدة أسماء لم تقع له وقد اختلف في حد الصحابي من هو؟ على أقوال
(2/119)
أحدها وهو المعروف المشهور بين أهل الحديث أنه من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال إسلامه هكذا أطلقه كثير من أهل الحديث ومرادهم بذلك مع زوال المانع من الرؤية، كالعمى، وإلا فمن صحبه - صلى الله عليه وسلم - ولم يره لعارض بنظره كابن أم مكتوم ونحوه معدود في الصحابة بلا خلاف قال أحمد بن حنبل من صحبه سنة، أو شهرا، أو يوما، أو ساعة، أو رآه؛ فهو من الصحابة وقال البخاري في صحيحه من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه وفي دخول الأعمى الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما، ولم يصحبه، ولم يجالسه؛ في عبارة البخاري نظر ولو قيل في النظم لاقى النبي كان أولى؛ ولكن تبعت فيه عبارة ابن الصلاح فالعبارة السالمة من الاعتراض أن يقال الصحابي من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما ثم مات على الإسلام؛ ليخرج من ارتد ومات كافرا، كابن خطل، وربيعة بن أمية، ومقيس بن صبابة، ونحوهم وفي دخول من لقيه مسلما ثم ارتد ثم أسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحابة نظر كبير، فإن الردة محبطة للعمل عند أبي حنيفة، ونص عليه الشافعي في الأم، وإن كان الرافعي قد حكى عنه أنها إنما تحبط بشرط اتصالها بالموت، وحينئذ فالظاهر أنها محبطة للصحبة المتقدمة، كقرة بن هبيرة، وكالأشعث بن قيس أما من رجع إلى الإسلام في حياته، كعبد الله بن أبي سرح، فلا مانع من دخوله في الصحبة بدخوله الثاني في الإسلام، والله أعلم
(2/120)
فقولي رائي، اسم فاعل من رأى، والنبي مضاف إليه ومسلما حال من اسم الفاعل، وذو صحبة خبر المبتدأ، والمراد برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -، رؤيته في حال حياته، وإلا فلو رآه بعد موته قبل الدفن، أو بعده، فليس بصحابي على المشهور، بل إن كان عاصره ففيه الخلاف الآتي ذكره وإن كان ولد بعد موته فليست له صحبة بلا خلاف
واحترزت بقولي مسلما عما لو رآه وهو كافر ثم أسلم بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس بصحابي على المشهور، كرسول قيصر، وقد خرجه أحمد في المسند، وكعبد الله بن صياد، إن لم يكن هو الدجال وقد عده في الصحابة، كذلك أبو بكر بن فتحون في ذيله على الاستيعاب وحكي أن الطبري، وغيره ترجم به هكذا
وقولهم من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل المراد رآه في حال نبوته، أو أعم من ذلك؟ حتى يدخل من رآه قبل النبوة، ومات قبل النبوة على دين الحنيفية كزيد بن عمرو بن نفيل فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه يبعث أمة وحده وقد ذكره في الصحابة أبو
(2/121)
عبد الله بن منده وكذلك لو رآه قبل النبوة ثم غاب عنه، وعاش إلى بعد زمن البعثة، وأسلم ثم مات، ولم يره ولم أر من تعرض لذلك، ويدل على أن المراد من رآه بعد نبوته أنهم ترجموا في الصحابة لمن ولد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة، كإبراهيم، وعبد الله، ولم يترجموا لمن ولد قبل النبوة ومات قبلها كالقاسم وكذلك أيضا ما المراد بقولهم من رآه؟ هل المراد رؤيته له مع تمييزه، وعقله؟ حتى لا يدخل الأطفال الذين حنكهم ولم يروه بعد التمييز، ولا من رآه وهو لا يعقل، أو المراد أعم من ذلك؟ ويدل على اعتبار التمييز مع الرؤية ما قاله شيخنا الحافظ أبو سعيد بن العلائي في كتاب المراسيل في ترجمة عبد الله بن الحارث بن نوفل حنكه النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا له ولا صحبة له بل ولا رؤية أيضا، وحديثه مرسل قطعا وكذلك قال في ترجمة عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري حنكه ودعا له، ولا تعرف له رؤية، بل هو تابعي وحديثه مرسل
والقول الثاني أنه من طالت صحبته له، وكثرت مجالسته على طريق التبع له والأخذ عنه حكاه أبو المظفر السمعاني، عن الأصوليين، وقال إن اسم الصحابي يقع على ذلك من حيث اللغة والظاهر، قال وأصحاب الحديث يطلقون اسم الصحبة على كل من روى عنه حديثا، أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من
(2/122)
الصحابة، قال وهذا لشرف منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أعطوا كل من رآه حكم الصحبة هكذا حكاه أبو المظفر السمعاني عن الأصوليين، وهو قول لبعضهم، حكاه الآمدي وابن الحاجب، وغيرهما وبه جزم ابن الصباغ في العدة فقال الصحابي هو الذي لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام عنده، واتبعه، فأما من وفد عليه وانصرف عنه من غير مصاحبة، ومتابعة، فلا ينصرف إليه هذا الاسم وقال القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني لا خلاف بين أهل اللغة أن الصحابي مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلا كان، أو كثيرا، يقال صحبت فلانا حولا ودهرا وسنة وشهرا ويوما وساعة، قال وذلك يوجب في حكم اللغة إجراءها على من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار هذا هو الأصل في اشتقاق الاسم ومع ذلك فقد تقرر للأئمة عرف في أنهم لا يستعملون هذه التسمية إلا فيمن كثرت صحبته، واتصل لقاؤه ولا يجرون ذلك على من لقي المرء ساعة،
ومشى معه خطى وسمع منه حديثا فوجب لذلك ألا يجري هذا الاسم في عرف الاستعمال إلا على من هذه حاله وقال الآمدي الأشبه أن الصحابي من رآه
(2/123)
وحكاه عن أحمد بن حنبل، وأكثر أصحابنا، واختاره ابن الحاجب أيضا؛ لأن الصحبة تعم القليل والكثير، نعم في كلام أبي زرعة الرازي، وأبي داود ما يقتضي أن الصحبة أخص من الرؤية، فإنهما قالا في طارق بن شهاب له رؤية، وليست له صحبة وكذلك ما رويناه عن عاصم الأحول قال قد رأى عبد الله بن سرجس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير أنه لم تكن له صحبة، ويدل على ذلك أيضا ما رواه محمد بن سعد في الطبقات عن علي بن محمد عن شعبة، عن موسى السيلاني، قال أتيت أنس بن مالك، فقلت أنت آخر من بقي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال قد بقي قوم من الأعراب، فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي انتهى قال ابن الصلاح إسناده جيد حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة والجواب عن ذلك أنه أراد إثبات صحبة خاصة ليست لتلك الأعراب، وكذا أراد أبو زرعة وأبو داود نفي الصحبة الخاصة دون العامة
وقولي ولم يثبت أي وليس هو الثبت الذي عليه العمل عند أهل الحديث والأصول
(2/124)
والقول الثالث وهو ما روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين، قال ابن الصلاح وكأن المراد بهذا إن صح عنه راجع إلى المحكي عن الأصوليين؛ ولكن في عبارته ضيق يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم، ممن لا نعلم خلافا في عده من الصحابة قلت ولا يصح هذا عن ابن المسيب ففي الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي ضعيف في الحديث
والقول الرابع أنه يشترط مع طول الصحبة الأخذ عنه حكاه الآمدي عن عمرو بن يحيى، فقال ذهب إلى أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عنه العلم وحكاه ابن الحاجب أيضا قولا، ولم يعزه لعمرو بن يحيى؛ ولكن أبدل الرواية بالأخذ عنه، وبينهما فرق وعمرو هذا الظاهر أنه الجاحظ، فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في اللمع أن أباه اسمه يحيى، وذلك وهم، وإنما هو عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ من أئمة المعتزلة، قال فيه ثعلب إنه غير ثقة، ولا مأمون،
(2/125)
ولم أر هذا القول لغير عمرو هذا وكأن ابن الحاجب أخذ هذا القول من كلام الآمدي، ولذلك أسقطته من الخلاف في حد الصحابي تبعا لابن الصلاح
والقول الخامس أنه من رآه مسلما بالغا عاقلا حكاه الواقدي عن أهل العلم فقال رأيت أهل العلم يقولون كل من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أدرك الحلم، فأسلم، وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار، انتهى والتقييد بالبلوغ شاذ
والقول السادس أنه من أدرك زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وهو مسلم، وإن لم يره وهو
قول يحيى بن عثمان بن صالح المصري فإنه قال وممن دفن، أي بمصر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن أدركه ولم يسمع منه أبو تميم الجيشاني، واسمه عبد الله بن مالك انتهى وإنما هاجر أبو تميم إلى المدينة في خلافة عمر باتفاق أهل السير وممن حكى هذا القول من الأصوليين القرافي في شرح التنقيح وكذلك إن كان صغيرا محكوما بإسلامه تبعا لأحد أبويه، وعلى هذا عمل ابن عبد البر في الاستيعاب وابن منده في
معرفة الصحابة، وقد بين ابن عبد البر في ترجمة الأحنف بن قيس أن ذلك شرطه وقال ابن عبد البر في مقدمة كتابه وبهذا كله يستكمل القرن الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قاله عبد الله بن أبي أوفى صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد بذلك تفسير القرن، قلت وإنما هو قول زرارة بن أوفى من التابعين القرن مائة وعشرون سنة، وهكذا رواه هو قبل ذلك بأربع ورقات، كل ذلك في مقدمة الاستيعاب
(2/126)
وقد اختلف أهل اللغة في مدة القرن، فقال الجوهري هو ثمانون سنة، قال ويقال ثلاثون وحكى صاحب المحكم فيه ستة أقوال قيل عشر سنين، وقيل عشرون، وقيل ثلاثون، وقيل ستون، وقيل سبعون، وقيل أربعون، قال وهو مقدار أهل التوسط في أعمار أهل الزمان، فالقرن في كل قوم على مقدار أعمارهم
فعلى هذا يكون ما بين الستين والسبعين، كما رواه الترمذي في الحديث المرفوع أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين وأما ابتداء قرنه - صلى الله عليه وسلم - فالظاهر أنه من حين البعثة، أو من حين فشو الإسلام فعلى قول زرارة بن أوفى قد استوعب القرن جميع من رآه، وقد روى ابن منده في الصحابة من حديث عبد الله بن بسر مرفوعا القرن مائة سنة
... وتعرف الصحبة باشتهار أو ... تواتر أو قول صاحب ولو
789.... قد ادعاها وهو عدل قبلا ... وهم عدول قيل لا من دخلا
... في فتنة، والمكثرون ستة ... أنس، وابن عمر، والصديقة
(2/127)
791.... البحر، جابر أبو هريرة ... أكثرهم والبحر في الحقيقة
... أكثر فتوى وهو وابن عمرا ... وابن الزبير وابن عمرو قد جرى
793.... عليهم بالشهرة العبادله ... ليس ابن مسعود ولا من شاكله
... وهو وزيد وابن عباس لهم ... في الفقه أتباع يرون قولهم
هذه الأبيات تجمع ست مسائل:
الأولى: فيما تعرف به الصحبة، وذلك إما بالتواتر، كأبي بكر، وعمر، وبقية العشرة في خلق منهم، وإما بالاستفاضة والشهرة القاصرة عن التواتر، كعكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة، وغيرهما. وإما بإخبار بعض الصحابة عنه أنه صحابي كحممة بن أبي حممة الدوسي، الذي مات بأصبهان مبطونا، فشهد له أبو موسى الأشعري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، حكم له بالشهادة ذكر ذلك أبو نعيم في "تاريخ أصبهان". وروينا قصته في مسند أبي داود الطيالسي، ومعجم الطبراني. على أنه يجوز أن يكون أبو موسى إنما أراد بذلك شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قتله بطنه وفي عمومهم حممة، لا أنه سماه باسمه، والله أعلم.
(2/128)
وإما بإخباره عن نفسه أنه صحابي بعد ثبوت عدالته قبل إخباره بذلك. هكذا أطلق ابن الصلاح تبعا للخطيب، فإنه قال في " الكفاية ": وقد يحكم بأنه صحابي إذا كان ثقة أمينا مقبول القول، إذا قال صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثر لقائي له، فيحكم بأنه صحابي في الظاهر، لموضع عدالته، وقبول خبره، وإن لم يقطع بذلك كما يعمل بروايته. هكذا ذكره في آخر كلام القاضي أبي بكر، والظاهر أن هذا كلام القاضي، قلت: ولا بد من تقييد ما أطلق من ذلك بأن يكون ادعاؤه لذلك يقتضيه الظاهر. أما لو ادعاه بعد مضي مائة سنة من حين وفاته - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يقبل وإن كانت قد ثبتت عدالته قبل ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى أحد ممن على ظهر الأرض)) ، يريد انخرام ذلك القرن. قال: ذلك في سنة وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وهذا واضح جلي. وقد اشترط الأصوليون في قبول ذلك منه أن يكون قد عرفت معاصرته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الآمدي: فلو قال من عاصره أنا صحابي مع إسلامه، وعدالته، فالظاهر صدقه، وحكاهما ابن الحاجب احتمالين من غير ترجيح، قال: ويحتمل أن لا يصدق لكونه متهما بدعوى رتبة يثبتها لنفسه.
الثانية: الصحابة كلهم عدول، لقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ، ولقوله تعالى:
(2/129)
{كنتم خير أمة أخرجت للناس} قيل: إن المفسرين اتفقوا على أنه وارد في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي سعيد الخدري: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه)) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته أيضا من حديث ابن مسعود ((خير الناس قرني)) ، وقد سبق تفسير القرن في أول هذه الترجمة، ولغير ذلك من الأحاديث الصحيحة، ولإجماع من يعتد به في الإجماع من الأئمة على ذلك، ثم إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم. وأما من لابس الفتن منهم - وذلك من حين مقتل عثمان - فأجمع من يعتد به أيضا في الإجماع على تعديلهم إحسانا للظن بهم، وحملا لهم في ذلك على الاجتهاد.
هكذا حكى ابن الصلاح إجماع الأمة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم وفيه نظر، فقد حكى الآمدي وابن الحاجب قولا: أنهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا،
(2/130)
وقولا أخر: أنهم عدول إلى وقوع الفتن، فأما بعد ذلك فلا بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة، وذهبت المعتزلة إلى فسق من قاتل عليا منهم، وقيل: يرد الداخلون في الفتن كلهم؛ لأن أحد الفريقين فاسق من غير تعيين، وقيل: يقبل الداخل فيها، إذا انفرد؛ لأن الأصل العدالة وشككنا في فسقه، ولا يقبل مع مخالفه لتحقق فسق أحدهما من غير تعيين.
والذي عليه الجمهور كما قال الآمدي وابن الحاجب: إنهم عدول كلهم مطلقا. وقال الآمدي: إنه المختار، وحكى ابن عبد البر في " الاستيعاب " إجماع أهل الحق من المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة على أن الصحابة كلهم عدول.
الثالثة: المكثرون من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة: أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعائشة الصديقة بنت أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس - وهو البحر -، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأكثر الستة حديثا أبو هريرة، قال ذلك أحمد بن حنبل وغيره، وأشرت إلى كون أبي هريرة أكثرهم حديثا، بقولي: (أكثرهم) ، ولم يتعرض ابن الصلاح لترتيب من بعد أبي هريرة في الأكثرية، وبعضهم مقارب لبعض. والذي يدل عليه كلام بقي بن مخلد: أن أكثرهم أبو هريرة، روى خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثا، ثم ابن عمر، روى ألفي حديث وستمائة وثلاثين، ثم أنس، روى ألفين ومائتين وستة وثمانين، ثم عائشة روت ألفين ومائتين وعشرة، ثم ابن عباس، روى ألفا وستمائة وستين حديثا، ثم جابر، روى ألفا وخمسمائة وأربعين
(2/131)
حديثا. وليس في الصحابة من يزيد حديثه على ألف إلا هؤلاء، وأبو سعيد الخدري، فإنه روى ألفا ومائة وسبعين حديثا.
الرابعة: أكثر الصحابة فتوى عبد الله بن عباس، قاله أحمد بن حنبل أيضا.
الخامسة: في بيان العبادلة من الصحابة، وقيل لأحمد بن حنبل: من العبادلة؟ فقال: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو، قيل له: فأين ابن مسعود؟ قال: لا، ليس من العبادلة، قال البيهقي: وهذا لأنه تقدم موته، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة.
وقولي: (وهو وابن عمر) ، الضمير عائد على البحر، وهو ابن عباس؛ لأنه أقرب مذكور، وما ذكر من أن العبادلة هم هؤلاء الأربعة، هو المشهور بين أهل الحديث وغيرهم. واقتصر صاحب " الصحاح " على ثلاثة، وأسقط ابن الزبير. وأما ما حكاه النووي في " التهذيب ": أن الجوهري ذكر فيهم ابن مسعود، وأسقط ابن العاص؛ فوهم، نعم.. وقع في كلام الزمخشري في " المفصل " أن العبادلة: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس وكذا قال الرافعي في " الشرح الكبير " في الديات، وغلطا في ذلك من حيث الاصطلاح، قال ابن الصلاح: ويلتحق بابن مسعود في
(2/132)
ذلك سائر العبادلة المسمين بعبد الله من الصحابة، وهم نحو مائتين وعشرين نفسا. أي: فلا يسمون العبادلة اصطلاحا، وإلى ذلك أشرت بقولي: (ولا من شاكله) أي: ولا من أشبه ابن مسعود في التسمية بعبد الله.
وقول ابن الصلاح: أنهم نحو مائتين وعشرين كأنه أخذه من " الاستيعاب " لابن عبد البر، فإنه عد ممن اسمه عبد الله مائتين وثلاثين، ومنهم من كرره للاختلاف في اسم أبيه أو في اسمه هو، ومنهم من لم يصحح له صحبة، ومنهم من لم يرو وإنما ذكره لمعاصرته على قاعدته؛ وذلك فوق العشرة فبقي نحو مائتين وعشرين، كما ذكر، ولكن قد ذكر الحافظ أبو بكر بن فتحون فيما ذيله على " الاستيعاب " مائة وأربعة وستين رجلا زيادة على ذلك، وفيهم أيضا من عاصره ولم يره، ومن كرره للاختلاف في اسمه أيضا، واسم أبيه، ومن لم تصح صحبته، ولكن يجتمع من المجموع نحو ثلاثمائة رجل.
السادسة: في بيان من كان له من الصحابة أتباع يقولون برأيه، قال ابن المديني: ((لم يكن من صحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد له أصحاب يقومون بقوله في الفقه إلا ثلاثة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، كان لكل رجل منهم أصحاب يقومون بقوله، ويفتون الناس)) . انتهى.
فقولي في البيت: (وهو) أي: ابن مسعود.
(2/133)
795.... وقال مسروق انتهى العلم إلى ... ستة أصحاب كبار نبلا
... زيد أبي الدرداء مع أبي ... عمر، عبد الله مع علي
797.... ثم انتهى لذين والبعض جعل ... الأشعري عن أبي الدردا بدل
في هذه الأبيات بيان الذين انتهى إليهم العلم من أكابر الصحابة، وقد ذكر ذلك مسروق والشعبي، فقال مسروق وجدت علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى ستة عمر وعلي وأبي وزيد وأبي الدرداء، وعبد الله ابن مسعود ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى اثنين علي وعبد الله
فقولي ثم انتهى لذين أي للأخيرين، وهما علي، وعبد الله، وقد
روى مطرف عن الشعبي عن مسروق نحوه إلا أنه ذكر أبا موسى الأشعري بدل أبي الدرداء، قلت زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، كلاهما تأخرت وفاته بعد عبد الله بن مسعود، وبعد علي بن أبي طالب، بلا خلاف، فقول مسروق إن علم الستة انتهى لعبد الله وعلي، فيه نظر من هذا الوجه، ولهذا عزوت هذه المقالة لمسروق، ولم أطلقها لتكون العهدة عليه ويصح أن يقال انتهى علمهم إليهما لكونهما ضما علمهم إلى علمهما، وإن تأخرت وفاة زيد، وأبي موسى عن علي، وابن مسعود، والله أعلم
وقال الشعبي كان العلم يؤخذ عن ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمر وعبد الله وزيد يشبه علم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض وكان علي والأشعري وأبي يشبه علم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض
(2/134)
.. والعد لا يحصرهم فقد ظهر ... سبعون ألفا بتبوك وحضر
799.... الحج أربعون ألفا وقبض ... عن ذين مع أربع آلاف تنض
حصر الصحابة - رضي الله عنهم - بالعد والإحصاء متعذر لتفرقهم في البلدان والبوادي وقد روى البخاري في صحيحه أن كعب بن مالك قال في قصة تخلفه عن غزوة تبوك وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير لا يجمعهم كتاب حافظ، يعني الديوان؛ ولكن قد جاء ضبطهم في بعض مشاهده كتبوك، وحجة الوداع، وعدة من قبض عنه من الصحابة عن أبي زرعة الرازي على ما فيه من نظر، فروينا عنه أنه سئل عن عدة من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ومن يضبط هذا شهد معه حجة الوداع أربعون ألفا، وشهد معه تبوك سبعون ألفا وروينا عنه أيضا أنه قيل له أليس يقال حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف حديث؟ قال ومن قال ذا؟ قلقل الله أنيابه، هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه، وفي رواية ممن رآه وسمع منه، فقيل له هؤلاء أين كانوا؟ وأين سمعوا منه؟ قال أهل المدينة، وأهل مكة ومن بينهما والأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع، كل رآه وسمع منه بعرفة
(2/135)
وقولي عن ذين أي عن مقدار هذين العددين المذكورين، وهما سبعون ألفا، وأربعون ألفا، مع زيادة أربعة آلاف، فذلك مائة ألف وأربعة عشر ألفا، كما تقدم بيانه
وقولي تنض بكسر النون وتشديد الضاد أي تتيسر، يقال خذ ما نض لك من دين، أي تيسر حكاه الجوهري، والنض والناض، وإن كان إنما يطلق على الدنانير، والدراهم، فقد استعير للصحابة لرواجهم في النقد وسلامتهم من الزيف لعدالة كلهم كما تقدم
وأسقطت الهاء من أربع آلاف؛ لضرورة الشعر، وإن كان الألف مذكرا
... وهم طباق إن يرد تعديد ... قيل: اثنتا عشرة أو تزيد
الصحابة على طبقات باعتبار سبقهم إلى الإسلام أو الهجرة أو شهود المشاهد الفاضلة، وقد اختلف كلام من اعتنى بذكر طبقاتهم في عدها، فقسمهم الحاكم في " علوم الحديث " إلى اثنتي عشرة طبقة.
فالطبقة الأولى: قوم أسلموا بمكة، كالخلفاء الأربعة.
والثانية: أصحاب دار الندوة.
والثالثة: مهاجرة الحبشة.
والرابعة: أصحاب العقبة الأولى.
والخامسة: أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار.
(2/136)
والسادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إليه بقباء قبل أن يدخل المدينة.
والسابعة: أهل بدر.
والثامنة: الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
والتاسعة: أهل بيعة الرضوان.
والعاشرة: من هاجر بين الحديبية وفتح مكة، كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة. قلت: لا يصح التمثيل بأبي هريرة، فإنه هاجر قبل الحديبية عقب خيبر، بل في أواخرها.
والحادية عشرة: مسلمة الفتح.
والثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وفي حجة الوداع، وغيرهما كالسائب بن يزيد، وعبد الله بن ثعلبة ابن أبي صعير، وأبي الطفيل، وأبي جحيفة.
قال ابن الصلاح: ((ومنهم من زاد على ذلك)) . انتهى، وأما ابن سعد، فجعلهم خمس طبقات فقط.
801.... والأفضل الصديق ثم عمر ... وبعده عثمان وهو الأكثر
... أو فعلي قبله خلف حكي ... قلت: وقول الوقف جا عن مالك
803.... فالستة الباقون، فالبدريه ... فأحد، فالبيعة المرضيه
أجمع أهل السنة على أن أفضل الصحابة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإطلاق أبو بكر، ثم عمر، وممن حكى إجماعهم على ذلك أبو العباس القرطبي، فقال ولم يختلف في ذلك
(2/137)
أحد من أئمة السلف ولا الخلف، قال ولا مبالاة بأقوال أهل التشيع، ولا أهل البدع انتهى
وقد حكى الشافعي وغيره إجماع الصحابة والتابعين على ذلك قال البيهقي في كتاب الاعتقاد روينا عن أبي ثور عن الشافعي قال ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة، وإنما اختلف من اختلف منهم في علي وعثمان انتهى وروينا عن جرير بن عبد الحميد، أنه سأل يحيى بن سعيد الأنصاري عن ذلك قال من أدركت من الصحابة والتابعين لم يختلفوا في أبي بكر وعمر وفضلهما إنما كان الاختلاف في علي وعثمان وحكى المازري عن أهل السنة تفضيل أبي بكر، وعن الخطابية تفضيل عمر بن الخطاب، وعن الشيعة تفضيل علي، وعن الراوندية تفضيل العباس، وعن بعضهم الإمساك عن التفضيل وحكاه الخطابي أيضا في المعالم، وحكى أيضا عن بعض مشايخه أنه كان يقول أبو بكر خير وعلي أفضل وهذا تهافت من القول وحكى القاضي عياض أن ابن عبد البر، وطائفة ذهبوا إلى أن من توفي من الصحابة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل ممن بقي بعده لقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعضهم أنا شهيد على هؤلاء، قال النووي وهذا الإطلاق
(2/138)
غير مرضي، ولا مقبول انتهى وهو أيضا مردود بما تقدم من حكاية اجماع الصحابة والتابعين على أفضلية أبي بكر وعمر على سائر الصحابة
واختلف أهل السنة في الأفضل بعد عمر، فذهب الأكثرون كما حكاه الخطابي وغيره إلى تفضيل عثمان على علي وأن ترتيبهم في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، كما رواه البيهقي في كتاب الاعتقاد عنهما، وهو المشهور عند مالك، وسفيان الثوري وكافة أئمة الحديث والفقهاء، وكثير من المتكلمين كما قال القاضي عياض، وإليه ذهب أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني؛ ولكنهما اختلفا في أن التفضيل بين الصحابة، هل هو على سبيل القطع، أو الظن؟ فالذي مال إليه الأشعري أنه قطعي، وعليه يدل قول مالك الآتي نقله من المدونة، والذي مال إليه القاضي أبو بكر، واختاره إمام الحرمين في الارشاد أنه ظني، وبه جزم صاحب المفهم وذهب أهل الكوفة - كما قال الخطابي - إلى تفضيل علي على عثمان، وروى بإسناده إلى سفيان الثوري أنه حكاه عن أهل السنة من أهل الكوفة وحكى عن أهل السنة من أهل البصرة أفضلية عثمان، فقيل فما تقول؟ فقال أنا رجل كوفي، ثم قال وقد ثبت عن سفيان في آخر قوليه، تقديم عثمان
(2/139)
وممن ذهب إلى تقديم علي على عثمان أبو بكر بن خزيمة، وقد جاء عن مالك التوقف بين عثمان وعلي، كما حكاه المازري عن المدونة أن مالكا سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم؟ فقال أبو بكر، ثم قال أوفي ذلك شك؟ قيل له فعلي وعثمان؟ قال ما أدركت أحدا ممن أقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه، ونرى الكف عن ذلك، وفي رواية في المدونة حكاها القاضي عياض أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، وحكى القاضي عياض قولا أن مالكا رجع عن الوقف إلى القول الأول قال القرطبي وهو الأصح إن شاء الله قال القاضي عياض ويحتمل أن يكون كفه وكف من اقتدى به لما كان شجر بينهم في ذلك من الاختلاف والتعصب انتهى وقد مال إلى التوقف بينهما إمام الحرمين، فقال الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل، ثم عمر وتتعارض الظنون في عثمان وعلي انتهى
والذي استقر عليه مذهب أهل السنة تقديم عثمان، لما روى البخاري وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر، قال كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ورواه الترمذي بلفظ كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي أبو بكر وعمر وعثمان، قال هذا حديث صحيح غريب ورواه
(2/140)
الطبراني بلفظ أصرح في التفضيل، وزاد فيه اطلاعه - صلى الله عليه وسلم - وتقريره لذلك ولفظه كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعمر وعثمان، فيسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينكره، فهذا حكم الخلفاء الأربعة
وأما ترتيب من بعدهم في الأفضلية، فقال الإمام أبو منصور عبد القاهر التميمي البغدادي أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية
وقولي فأحد فالبيعة المرضيه، هو على حذف المضاف، أي فأهل أحد فأهل البيعة
... قال: وفضل السابقين قد ورد ... فقيل: هم، وقيل: بدري وقد
805.... قيل بل اهلالقبلتين، واختلف ... أيهم أسلم قبل؟ - من سلف
... قيل: أبو بكر، وقيل: بل علي ... ومدعي إجماعه لم يقبل
807.... وقيل زيد وادعى وفاقا ... بعض على خديجة اتفاقا
قال ابن الصلاح وفي نص القرآن تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين صلوا إلى القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، منهم
(2/141)
محمد بن الحنفية، ومحمد بن سيرين، وقتادة، وفي قول الشعبي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان وهذا معنى قولي فقيل هم وعن محمد بن كعب القرظي وعطاء بن يسار أهل بدر، قال ابن الصلاح روى ذلك عنهما ابن عبد البر فيما وجدناه عنه
قلت لم يوصل ابن عبد البر إسناده بذلك، وإنما ذكر ذلك عن سنيد وساق سند سنيد فقط عن شيخ له لم يسم، عن موسى بن عبيدة، وضعفه الجمهور وقد روى سنيد أيضا قول ابن المسيب، وابن سيرين، والشعبي بأسانيد صحيحة، وكذلك روى ذلك عنهم عبد بن حميد في تفسيره بأسانيد صحيحة، وكذلك رواه عن قتادة عبد الرزاق في تفسيره، ومن طريقه عبد بن حميد
وفي المسألة قول رابع رواه سنيد أيضا بإسناد صحيح إلى الحسن، قال فرق ما بينهم فتح مكة
وأما أول الصحابة إسلاما فقد اختلف فيه السلف على أقوال
(2/142)
أحدها أبو بكر الصديق، وهو قول ابن عباس، وحسان بن ثابت والشعبي والنخعي في جماعة آخرين، ويدل له ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن عبسة في قصة إسلامه، وقوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - من معك على هذا؟ قال حر وعبد ومعه يومئذ أبو بكر، وبلال ممن آمن به، وروى الحاكم في المستدرك من رواية مجالد بن سعيد، قال سئل الشعبي من أول من أسلم؟ فقال أما سمعت قول حسان
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
والقول الثاني أولهم إسلاما علي، روي ذلك عن زيد بن أرقم، وأبي ذر، والمقداد بن الأسود، وأبي أيوب، وأنس بن مالك، ويعلى بن مرة، وعفيف الكندي، وخزيمة بن ثابت، وسلمان الفارسي، وخباب بن الأرت، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري وأنشد المرزباني لخزيمة بن ثابت في علي رضي الله عنهما
أليس أول من صلى لقبلتهم ... وأعلم الناس بالفرقان والسنن؟
(2/143)
وروى الحاكم في المستدرك من رواية مسلم الملائي، قال نبئ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء وقال الحاكم في علوم الحديث لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما قال وإنما اختلفوا في بلوغه، قال ابن الصلاح واستنكر هذا من الحاكم وإلى هذا أشرت بقولي ومدعي إجماعه لم يقبل أي الحاكم، ثم قال الحاكم بعد حكايته لهذا الإجماع والصحيح عند الجماعة أن أبا بكر الصديق أول من أسلم من الرجال البالغين لحديث عمرو بن عبسة
والقول الثالث أن أولهم إسلاما زيد بن حارثة ذكره معمر عن الزهري
والقول الرابع أن أولهم إسلاما أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، روي ذلك عن ابن عباس، والزهري أيضا، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق في آخرين، وقال النووي إنه الصواب عند جماعة من المحققين وادعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على ذلك، وأن اختلافهم إنما هو في أول من أسلم بعدها قال ابن عبد البر اتفقوا على أن خديجة أول من آمن، ثم علي بعدها
وجمع بين الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى أبي بكر وعلي، بأن الصحيح أن أبا بكر أول من أظهر إسلامه، ثم روي عن محمد بن كعب القرظي أن عليا أخفى إسلامه
(2/144)
من أبي طالب، وأظهر أبو بكر إسلامه؛ ولذلك شبه على الناس قال ابن الصلاح والأورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال، والله أعلم وقال ابن إسحاق أول من آمن خديجة، ثم علي بن أبي طالب، قال وكان أول ذكر آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ابن عشر سنين، ثم زيد بن حارثة، فكان أول ذكر أسلم بعد علي ثم أبو بكر فأظهر إسلامه ودعا إلى الله فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام وذكر عمر بن شبة أن خالد بن سعيد بن العاص، أسلم قبل علي
وقولي من سلف، هو فاعل اختلف، وقبل مبني على الضم
... ومات آخرا بغير مرية ... أبو الطفيل مات عام مائة
809.... وقبله السائب بالمدينة ... أو سهل او جابر او بمكة
... وقيل: الاخر بها: ابن عمرا ... إن لا أبو الطفيل فيها قبرا
811.... وأنس بن مالك بالبصرة ... وابن أبي أوفى قضى بالكوفة
(2/145)
.. والشام فابن بسر او ذو باهله ... خلف، وقيل: بدمشق واثله
813.... وأن في حمص ابن بسر قبضا ... وأن بالجزيرة العرس قضى
... وبفلسطين أبو أبي ... ومصر فابن الحارث بن جزي
815.... وقبض الهرماس باليمامة ... وقبله رويفع ببرقة
... وقيل: إفريقية وسلمه ... باديا او بطيبة المكرمه
......
في هذا الفصل بيان آخر من مات من الصحابة مطلقا ومقيدا بالبلدان والنواحي، فأما آخرهم موتا على الإطلاق: فأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي مات سنة مائة من الهجرة، كذا جزم به ابن الصلاح، وكذا رواه الحاكم في " المستدرك " عن شباب العصفري، وهو خليفة بن خياط، وكذا رويناه في " صحيح مسلم " من رواية إبراهيم بن سفيان قال: ((قال مسلم: مات أبو الطفيل سنة مائة، وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ، وكذا قال ابن عبد البر: إن وفاته سنة مائة. وقال خليفة بن خياط في غير رواية الحاكم: إنه تأخر بعد المائة، وقيل: توفي سنة اثنتين
(2/146)
ومائة، قاله مصعب بن عبد الله الزبيري، وجزم ابن حبان وابن قانع، وأبو زكريا ابن منده: أنه توفي سنة سبع ومائة، وقد روى وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، قال: كنت بمكة سنة عشر ومائة، فرأيت جنازة فسألت عنها، فقالوا: هذا أبو الطفيل، وهذا هو الذي صححه الذهبي في الوفيات: أنه في سنة عشر ومائة.
وأما كونه آخر الصحابة موتا فجزم به مسلم، ومصعب بن عبد الله الزبيري، وأبو زكريا بن منده، وأبو الحجاج المزي وغيرهم، وروينا في "صحيح مسلم" بإسناده إلى أبي الطفيل، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما على وجه الأرض رجل رآه غيري. فتبين أنه آخرهم موتا على الإطلاق، ومات بمكة، فهو آخر من مات بها من الصحابة كما جزم به ابن حبان، وأبو زكريا بن منده، وكذا ذكر علي بن المديني: أنه مات بمكة، وأما ما حكاه بعض المتأخرين عن ابن دريد، من أن عكراش ابن ذؤيب، تأخر بعد ذلك، وأنه عاش بعد الجمل مائة سنة، فهذا باطل لا أصل له، والذي أوقع ابن دريد في ذلك ابن قتيبة، فقد سبقه إلى ذلك، وقاله في كتاب "
(2/147)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق