الخميس، 9 أغسطس 2018

ج1.كتاب:الفوائد لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

كتاب:الفوائد لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
ص -3- الفوائد
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام, محي السنّة قامع البدعة, أبو عبد الله الشهير بابن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى:
[1] قاعدة جليلة
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, والق سمعك, واحضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه إليه, فإنّه خطاب منه لك, على لسان رسوله, قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (قّ:37)
وذلك أن تمام التأثير لمّا كان موقوفا على مؤثر مقتض, ومحل قابل, وشرط لحصول الأثر, وانتقاء المانع الذي يمنع منه, تضمّنت الآية بيان ذلك كلّه بأوجز لفظ وأبينه, وأدلّه على المراد.فقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} (قّ:37) إشارة إلى ما تقدّم من أوّل السورة إلى ها هنا وهذا هو المؤثّر.قوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فهذا هو المحل القابل, والمراد به القلب الحيّ الذي يعقل عن الله, كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا} أي حيّ القلب ، وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي وجّه سمعه وأصغى حاسّة سمعه إلى ما يقال له, وهذا شرط التأثّر بالكلام.وقوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي شاهد القلب حاضر غير غائب. قال ابن قتيبة: "استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم, ليس بغافل ولا ساه". وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير, وهو سهو القلب, وغيبته عن تعقّل ما يقال له, والنظر فيه وتأمّله. فإذا حصل المؤثر وهو القرآن, والمحل القابل وهو القلب الحي, ووجد الشرط وهو الإصغاء, وانتقى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب, وانصرافه عنه إلى شيء آخر, حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكّر.
ص -4- فإن قيل: إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه, فما وجه دخول أداة "أو" في قوله : { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } , والموضع موضع واو الجمع لا موضع "أو" التي هي لأحد الشيئين.
قيل: هذا سؤال جيّد والجواب عنه أن يقال: خرج الكلام بـ"أو" باعتبار حال المخاطب المدعو فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه, تام الفطرة, فإذا فكّر بقلبه, وجال بفكره, دلّه قلبه وعقله على صحّة القرآن, وأنه الحق, وشهد قلبه بما أخبر به القرآن, فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة, وهذا وصف الذين قيل فيهم: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقّ} سبأ 6. وقال في حقّهم:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }النور 35 فهذا نور الفطرة على نور الوحي, وهذا حال صاحب القلب الحيّ الواعي.قال ابن القيّم: وقد ذكرنا ما تضمّنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطّلة والجهميّة" ص 7-8. فصاحب القلب يجمع بين قلبه وببن معاني القرآن, فيجدها كأنها قد كتبت فيه, فهو يقرأها عن ظهر قلب. ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد, واعي القلب, كامل الحياة, فيحتاج إلى شاهد يميّز له بين الحق والباطل, ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي, فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام, وقلبه لتأمّله, والتفكر فيه, وتعقل معانيه, فيعلم حينئذ أنه الحق فالأول: حال من رأى بعينيه ما دعي إليه وأخبر به. والثاني: حال من علم صدق المخبر وتيقّنه, وقال يكفيني خبره, فهو في مقام الإيمان, والأوّل في مقام الإحسان. وهذا قد وصل إلى علم اليقين, وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين, وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام فعين اليقين نوعان: نوع في الدنيا, ونوع في الآخرة, فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبة الشاهد

ص -5- إلى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار, وفي الدنيا بالبصائر, فهو عين يقين في المرتبتين.
فصل
وقد جمعت هذه السورة من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي, ويغني عن كلام أهل الكلام, ومعقول أهل المعقول, فإنها تضمّنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوّة والإيمان بالملائكة, وانقسام الناس إلى هالك شقي, وفائز سعيد, وأوصاف هؤلاء وهؤلاء. وتضمّنت إثبات صفات الكمال لله, وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب. وذكر فيها القيامتين الصغرى والكبرى, والعالمين: الأكبر, وهو عالم الآخرة, والأصغر وهو عالم الدنيا. وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته, وحاله عند وفاته ويوم معاده وإحاطته سبحانه به من كل وجه, حتى علمه بوساوس نفسه, وإقامة الحفظة عليه, يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها, وأنه يوافيه يوم القيامة, ومعه سائق يسوقه إليه, وشاهد يشهد عليه, فإذا أحضره السائق قال: { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ },ق 23. أي هذا الذي أمرت بإحضاره قد أحضرته, فيقال عند إحضاره:{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ }, ق24. كما يحضر الجاني إلى حضرة السلطان فيقال: هذا فلان قد أحضرته, فيقول: اذهبوا به إلى السجن وعاقبوه بما يستحقّه.
وتأمّل كيف دلّت السورة صريحا على أن الله سبحانه وتعالى يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى, فينعمه ويعذّبه, كما ينعم الروح التي آمنت بعينها, ويعذّب التي كفرت بعينها, لا أنه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل, حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه, عليه يقع النعيم والعذاب, والروح عندهم عرض من أعراض البدن, فيخلق روحا غير هذه الروح, وبدنا غير هذا البدن

ص -6- وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل ودلّ عليه القرآن والسنّة وسائر كتب الله تعالى وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبين, فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام أخر غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها, كيف وهم يشهدون النوع الإنساني يخلق شيئا بعد شئ! فكل وقت يخلق الله سبحانه أرواحا وأجساما غير الأجسام التي فنيت, فكيف يتعجّبون من شئ يشاهدونه عيانا؟ وإنما تعجّبوا من عودهم بأعيانهم بعد أن مزّقهم البلى وصاروا عظاما ورفاتا, فتعجّبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء, ولهذا قالوا :{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } الصافت16. وقالوا: { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } ق 3.ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه, لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا, بل يكون ابتداء, ولم يكن لقوله:{ قَدْ عَلِمْنَا  مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ }, ق4. كبير معنى. فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدّر, وهو: أنّه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميّز, فأخبر سبحانه بأنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم, وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء, فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرّقها وتأليفها خلقا جديدا, وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه, وكمال قدرته, وكمال حكمته, فإن شبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع: (أحدها): اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميّز ولا يحصل معه تميز شخص عن شخص.(الثاني): أن القدرة لا تتعلّق بذلك.(الثالث): أن ذلك أمر لا فائدة فيه, أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شئ, هكذا أبدا, كلما مات جيل خلفه جيل آخر. فأمّا أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك.[3] براهين المعاد في القرآن مبنيّة على أصول ثلاثة فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول، (أحدها) تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال:{ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }يس 78-79. وقال:{ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}الحجر 85-86. وقال:{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ }ق 4.(والثاني) تقرير كمال قدرته كقوله:{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } يس81. وقوله:{ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } القيامة 4. وقوله:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }الحج6.ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله:{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ }يس81. الثالث: كمال حكمته كقوله:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} الدخان 38. وقوله:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا }ص 27. وقوله:{ أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً } القيامة 36. وقوله:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَق }المؤمنون 115-116. وقوله:{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }الجاثية 21.ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع, وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه, وأنه منزّه عمّا يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنواقص.ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لمّا كذّبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم { فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } ق5. مختلط لا يحصلون منه على شئ.
ثم دعاهم إلى النظر في العالم العلوي وبنائه وارتفاعه واستوائه وحسنه والتئامه, ثم إلى العالم السفلي وهو الأرض, وكيف بسطها وهيّأها بالبسط لما يراد منها وثبّتها بالجبال وأودع فيها المنافع وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وصفاته, وأن ذلك تبصرة إذا تأمّلها العبد المنيب وتبصّر بها تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد, فالناظر فيها يتبصّر أولا, ثم يتذكر ثانيا, وأن هذا لا يحصل إلا لعبد منيب إلى الله بقلبه وجوارحه.ثم دعاهم إلى التفكّر في مادة أرزاقهم وأقواتهم وملابسهم ومراكبهم وجناتهم وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه, حتى أنبت به جنّات مختلفة الثمار والفواكه, ما بين أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض, وبين ذلك مع اختلاف منافعها وتنوّع أجناسها, وأنبتت به الحبوب كلها على تنوعها واختلاف منافعها وصفاتها وأشكالها ومقاديرها. ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والدلالة التي لا تخفى على المتأمل: { فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } البقرة164, ثم قال:{ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } ق 11. أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب: خروجكم من الأرض بعد ما غيّبتم فيها.وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "المعالم" وبيّنا بعض ما فيها من الأسرار والعبر.ثم انتقل سبحانه إلى تقرير النبوّة بأحسن تقرير, وأوجز لفظ, وأبعده عن كل شبهة وشك, فأخبر أنه أرسل إلى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون رسلا فكذّبوهم, فأهلكهم بأنواع الهلاك, وصدق فيهم وعيده الذي أوعدتهم به رسله إن لم يؤمنوا, وهذا تقرير لنبوّتهم ولنبوة من أخبر بذلك عنهم, من غير أن يتعلّم من معلّم ولا قرأه في كتاب, بل أخبر به إخبارا مفصّلا مطابقا لما عند أهل الكتاب.ولا يرد على هذا إلا سؤال البهت والمكابرة على جحد الضروريات, بأنه لم يكن شئ من ذلك, أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم, وصاحب هذا السؤال يعلم من نفسه أنه باهت مباهت جاحد لما شهد به العيان, وتناقلته القرون قرنا بعد قرن, فإنكاره بمنزلة إنكار وجود المشهورين من الملوك والعلماء والبلاد النائية.ثم عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله: { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ } ق15, يقال لكل من عجز عن شئ: عيي به فلان بهذا الأمر, قال الشاعر:
عيوا بأمرهم, كما عيت ببيضتها الحمامة
ومنه قوله تعالى:{ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ }الأحقاف33. قال ابن عبّاس : يريد أفعجزنا, وكذلك قال مقاتل. قلت: هذا تفسير بلازم اللفظة, وحقيقتها أعم من ذلك, فان العرب تقول: أعياني أن أعرف كذا وعييت به إذا لم تهتد لوجهه ولم تقدر على معرفته وتحصيله فتقول: أعياني دواؤك إذا لم تهتد له, ولم تقف عليه. ولازم هذا المعنى العجز عنه. والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى, فان الحمامة لم تعجز عن  بيضتها, ولكن أعياها إذا أرادت أن تبيض أين ترمي بالبيضة, فهي تدور وتجول حتى ترمي بها, فإذا باضت أعياها أين تحفظها وتودعها حتى لا تنال, فهي تنقلها من مكان إلى مكان وتحار أين تجعل مقرّها, كما هو حال من عى بأمره فلم يدر من أين يقصد له ومن أين يأتيه, وليس المراد بالإعياء في هذه الآية التعب, كما يظنّه من لم يعرف تفسير القرآن, بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله: { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } ق38.ثم أخبر سبحانه أنّهم:{ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ق15. أي أنهم التبس عليهم إعادة الخلق خلقا جديدا, ثم نبههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيّته وأدلّة المعاد وهو خلق الإنسان, فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد.وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدميّة بأعضائها وقواها وصفاتها, وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والإرادات والصناعات, كل ذلك من نطفة ماء.فلو أنصف العبد لاكتفى بفكره في نفسه, واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته.ثم أخبر سبحانه عن إحاطة علمه به, حتى علم وساوس نفسه, ثم أخبر عن قربه إليه بالعلم والإحاطة وأن ذلك أدنى إليه من العرق الذي داخل بدنه, فهو أقرب إليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق.وقال شيخنا: المراد بقول "نحن", أي ملائكتنا, كما قال: { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }القيامة18. أي إذا قرأه عليك رسولنا جبريل. قال: ويدل عليه قوله: { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } ق17. فقيد القرب المذكور بتلقّي الملكين, ولو كان المراد به قرب الذات لم يتقيد بوقت تلقي الملكين فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطّل.ثم أخبر سبحانه أن على يمينه و شماله ملكين يكتبان أعماله وأقواله, ونبه بإحصاء الأقوال وكتابتها على كتابة الأعمال, التي هي أقل وقوعا, وأعظم أثرا من الأقوال, وهي غايات الأقوال ونهايتها. ثم أخبر عن القيامة الصغرى, وهي سكرة الموت, وأنها تجيء بالحق, وهو لقاؤه سبحانه وتعالى, والقدوم عليه, وعرض الروح عليه, والثواب والعقاب الذي تعجل  لها قبل القيامة الكبرى.ثم ذكر القيامة الكبرى بقول: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد } ق20. ثم أخبر عن أحوال الخلق في هذا اليوم, وأن كل أحد يأتي الله سبحانه وتعالى ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه, وشهيد يشهد عليه, وهذا غير شهادة جوارحه, وغير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه, وغير شهادة رسوله والمؤمنين.فإن الله سبحانه وتعالى يستشهد على العبد الحفظة والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير والشر, والجلود التي عصوه بها, ولا يحكم بينهم بمجرّد علمه, وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من إقرارهم, وشهادة البيّنة, لا بمجرّد علمه فكيف يسوغ لحاكم أن يحكم بمجرد علمه من غير بيّنة ولا إقرار؟ ثم أخبر سبحانه أن الإنسان في غفلة من هذا الشأن الذي هو حقيق بأن لا يغفل عنه, وأن لا يزال على ذكره وباله, وقال:{ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا }ق22, ولم يقل عنه, كما قال:{ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ }هود110، ولم يقل في شك فيه, وجاء هذا في المصدر وإن لم يجئ في الفعل فلا يقال غفلت منه ولا شككت منه كأن غفلته وشكه ابتداء منه, فهو مبدأ غفلته وشكّه, وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه وشك فيه, فإنه جعل ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشأهما مبدأ للغفلة والشك. ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عنه ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ, وعن العين فتنفتح. فنسبة كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه.ثم أخبر سبحانه أن قرينه, وهو الذي قرن به في الدنيا من الملائكة, يكتب عمله. وقوله يقول لمّا يحضره: هذا الذي كنت وكّلتني به في الدنيا قد أحضرته وأتيتك به, هذا قول مجاهد.وقال ابن قتيبة: المعنى: هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندي. والتحقيق أن الآية تتضمّن الأمرين, أي هذا الشخص الذي وكلت به وهذا عمله الذي أحصيت عليه. فحينئذ يقال:{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ }ق24, وهذا إما أن يكون خطابا للسائق والشهيد  أو خطابا للملك الموكل بعذابه وإن كان واحدا. وهو مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها, أو تكون الألف منقلبة عن نون التأكيد الخفيفة, ثم أجري الوصل مجرى الوقف.ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات:(أحدها) أنه كفار لنعم الله وحقوقه, كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته, كفّار برسله وملائكته, كفار بكتبه ولقائه.(الثانية) أنه معاند للحق يدفعه جحدا وعنادا.(الثالثة) أنه مناع للخير, وهذا يعم منعه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات والقرب إلى الله والخير الذي هو إحسان إلى الناس, فليس فيه خير لنفسه, ولا لبني جنسه كما هو حال أكثر الخلق.(الرابعة) أنه مع منعه للخير معتد على الناس, ظلوم غشوم معتد عليهم بيده ولسانه.(الخامسة) أنه مريب, أي صاحب ريب وشك, ومع هذا فهو آت لكل ريبة, يقال: فلان مريب, إذا كان صاحب ريبة.(السادسة) أنه مع ذلك مشرك بالله, قد اتّخذ مع الله إلها آخر يعبده, ويحبه, ويغضب له, ويرضى له, ويحلف باسمه, وينذر له, ويوالي فيه, ويعادي فيه, فيختصم هو وقرينه من الشيطان, ويحيل الأمر عليه, وأنه هو الذي أطغاه وأضله. فيقول قرينه: لم يكن لي قوّة أن أضلّه وأطغيه, ولكن كان في ضلال بعيد, اختاره لنفسه, وآثره على الحق, كما قال إبليس لأهل النار: { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } إبراهيم 22.وعلى هذا, فالقرين هنا هو شيطانه, يختصمان عند الله. وقالت طائفة: بل قرينه ها هنا هو الملك, فيدعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى, وأنه لم يفعل ذلك كله, وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة, ولم يمهله حتى يتوب, فيقول الملك: ما زدت في الكتابة على ما عمل ولا أعجلته عن التوبة: { وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } ق27. فيقول الرب تعالى:{ لا تَخْتَصِمُوا لَدَي }ق28. وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه في سورتي [الصافّات] 27-38, و [الأعراف]37-39.وأخبر عن اختصام الناس بين يديه في سورة [الزمر]56-60. وأخبر عن اختصام أهل النار فيها في سورة [الشعراء] 96-104, وسورة [ص] 59-65.
ثم أخبر سبحانه أنه لا يبدّل القول لديه, فقيل: المراد بذلك قوله:{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ  أَجْمَعِينَ }هود119. ووعده لأهل الإيمان بالجنة, وأن هذا لا يبدل ولا يخلف. قال ابن عبّاس: يريد ما لوعدي خلف لأهل طاعتي ولا أهل معصيتي. قال مجاهد: قد قضيت ما أنا قاض. وهذا أصح القولين في الآية.وفيها قول آخر: أن المعنى ما يغيّر القول عندي بالكذب والتلبيس كما يغيّر عند الملوك والحكّام. فيكون المراد بالقول قول المختصمين, وهو اختيار الفراء وابن قتيبة, قال الفراء: المعنى ما يكذب عندي لعلمي بالغيب. وقال ابن قتيبة: أي ما يحرف القول عندي ولا يزاد فيه ولا ينقص منه. قال: لأنه قال القول عندي, ولم يقل قولي, وهذا كما قال لا يكذب عندي. فعلى القول الأوّل يكون قوله:{ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } ق29, من تمام قوله: { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ } ق29. في المعنى, أي ما قلته ووعدت به لا بد من فعله. ومع هذا فهو عدل لا ظلم فيه ولا جور. وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين.أحدهما: أن كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه. وكمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده.ثم أخبر عن سعة جهنّم وأنها كلّما ألقى فيها : { وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ }ق30. وأخطأ من قال أن ذلك للنفي, أي ليس من مزيد, والحديث الصحيح يردّ هذا التأويل. الحديث: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم: "يلقى في النار وتقول هل من مزيد, حتى يضع قدمه فتقول:قط قط" البخاري 8\460 رقم 4848,4849 وكذلك في صحيح مسلم. وعن أبي هريرة يرفعه," يقال لجهنّم هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول: قط قط".ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين, وأن أهلها هم الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع:(إحداها) أن يكون أوابا, أي رجّاعا إلى الله من معصيته إلى طاعته, ومن الغفلة عنه إلى ذكره.قال عبيد بن عمير: الأوّاب الذي يتذكر ذنوبه ثم يستغفر منها.وقال مجاهد: هو الذي إذا ذكر ذنبه في الخفاء استغفر منه. وقال سعيد بن المسيّب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب.(الثانية): أن يكون حفيظا قال ابن عبّاس لما ائتمنه الله عليه وافترضه. وقال قتادة: حافظ لما استودعه الله من حقّه ونعمته.
ولما كانت النفس لها قوّتان: قوة الطلب وقوة الإمساك, كان الأواب مستعملا لقوة الطلب في رجوعه إلى الله ومرضاته وطاعته. والحفيظ مستعملا لقوة الحفظ في الإمساك عن معاصيه ونواهيه.فالحفيظ الممسك نفسه عما حرّم عليه, والأوّاب المقبل على الله بطاعته.(الثالثة)  قوله:{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْب } ق33, يتضمن الإقرار بوجوده وربوبيته وقدرته وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد. ويتضمن الإقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه. ويتضمن الإقرار بوعده ووعيده ولقائه, فلا تصح خشية الرحمن بالغيب إلا بعد هذا كله.
الرابعة: قوله { وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ }ق33. قال ابن عباس: راجع عن معاصي الله, مقبل على طاعة الله. وحقيقة الإنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه. ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله:{ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود ِلَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }ق 34و35.ثم خوّفهم بأن يصيبهم من الهلاك ما أصاب من قبلهم وأنهم كانوا أشد منهم بطشا ولم يدفع عنهم الهلاك شدّة بطشهم, وأنهم عند الهلاك تقلّبوا وطافوا في البلاد, وهل يجدون محيصا ومنجى من عذاب الله؟. قال قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركا. وقال الزجاج: طوّفوا وفتشوا فلم يروا محيصا من الموت. وحقيقة ذلك أنهم طلبوا المهرب من الموت فلم يجدوه.ثم أخبر سبحانه أن في هذا الذي ذكر:{ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }ق37.ثم أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ولم يمسه تعب ولا إعياء تكذيب لأعدائه من اليهود, حيث قالوا أنه استراح في اليوم السابع.ثم أمر نبيه بالتأسي به سبحانه وتعالى في الصبر على ما يقول أعداؤه فيه, كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود أنه استراح: "ولا أحد أصبر على أذى يسمعه منه".ثم أمره بما يستعين به على الصبر وهو التسبيح بحمد ربه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وبالليل وأدبار السجود. فقيل هو الوتر. وقيل: الركعتان بعد المغرب. والأول قول ابن عباس, والثاني قول عمر وعلي وأبي هريرة والحسن بن علي وإحدى الروايتين عن ابن عباس. وعن ابن عباس رواية ثالثة أنه التسبيح باللسان أدبار الصلوات المكتوبات.ثم ختم السورة بذكر المعاد, ونداء المنادي برجوع الأرواح إلى أجسادها للحشر. وأخبر أن هذا النداء من مكان قريب يسمعه كل أحد:{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَق }  بالبعث ولقاء الله:{ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ } كما تشقق عن النبات, فيخرجون: سراعا من غير مهلة ولا بطء: ذلك حشر يسير عليه سبحانه.ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه عالم بما يقول أعداؤه, وذلك يتضمّن مجازاته لهم بقولهم إذا لم يخف عليه, وهو سبحانه يذكر علمه وقدرته لتحقيق الجزاء.ثم أخبره أنه ليس بمسلط عليهم ولا قهّار ولم يبعث ليجبرهم على الإسلام ويكرههم عليه, وأمره أن يذكر بكلامه من يخاف وعيده فهو الذي ينتفع بالتذكير, وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه, فلا ينتفع بالتذكير.
فائدة
قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:" وما يدريك أن الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم", أشكل على كثير من الناس معناه, فإن ظاهره  إباحة كل الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاءوا منها, وذلك ممتنع. فقالت طائفة منهم ابن الجوزي ليس المراد من قوله "اعملوا" الاستقبال, وإنما هو للماضي, وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته: قال: ويدل على ذلك شيئان:(أحدهما): أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله: فسأغفر لكم.(والثاني): أنه كان يكون إطلاقا في الذنوب ولا وجه لذلك.وحقيقة هذا الجواب أني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم, لكنه ضعيف من وجهين:(أحدهما) أن لفظ "اعملوا" يأباه, فإنه للاستقبال دون الماضي. وقوله" قد غفرت لكم" لا يوجب أن يكون "اعملوا " مثله: فإن قوله:" قد غفرت" تحقيق لوقوع المغفرة في المستقبل كقوله: { أَتَى أَمْرُ اللَّه } النحل1, { وَجَاءَ رَبُّك }الفجر 22. ونظائره.(ثانيهما) أن نفس الحديث يردّه, فإن سببه قصّة حاطب  وتجسسه على النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك ذنب واقع بعد غزوة بدر لا قبلها, وهو سبب الحديث, فهو مراد منه قطعا, فالذي نظن في ذلك, والله أعلم أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه وتعالى أنّهم لا يفارقون دينهم, بل يموتون على الإسلام, وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب, ولكن لا يتركهم سبحانه مصرّين عليها, بل يوفّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك. ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لأنه قد تحقق ذلك فيهم, وأنهم مغفور لهم. ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم, كما لا يقتضي ذلك أن يعطّلوا الفرائض وثوقا بالمغفرة, فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد, وهذا محال.ومن أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب, فضمان المغفرة لا يوجّب تعطيل أسباب المغفرة, ونظير هذا قوله في الحديث الآخر: "أذنب عبد ذنبا فقال: أي ربّ أذنبت ذنبا فاغفره لي, فغفر له, ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال, رب أصبت ذنبا فاغفر لي فغفر له, ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال: رب أصبت ذنبا فاغفر لي, فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء" فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرّمات والجرائم, وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب تاب.  واختصاص هذا العبد بهذا لأنه قد علم أنه لا يصر على ذنب, وأنه كلما أذنب تاب, حكم يعم كل من كانت حالته حاله, لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما قطع به لأهل بدر.وكذلك كل من بشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له, لم يفهم منه ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات, بل كان هؤلاء أشد اجتهادا وحذرا وخوفا بعد البشارة منهم قبلها, كالعشرة المشهود لهم بالجنة.وقد كان الصديّق شديد الحذر والمخافة, وكذلك عمر, فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيّدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت, ومقيّدة بانتفاء موانعها, ولم يفهم أحد منهم من ذلك الإطلاق, الإذن فيما شاءوا من الأعمال.
فائدة جليلة
قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }الملك15 أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولا منقادة للوطء عليها وحفرها وشقّها والبناء عليها, ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها. وأخبر سبحانه أنه جعلها مهادا وفراشا وبساطا وقرارا وكفاتا (بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم من قول الشعبي). وأخبر أنه دحاها وطحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها, وثبّتها بالجبال, ونهج فيها الفجاج والطرق, وأجرى فيها الأنهار والعيون, وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها,ومن بركتها أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها. ومن بركتها أنك تودع فيها الحب تخرجه لك أضعاف أضعاف ما كان ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها, فتوارى منه كل قبيح وتخرج له كل مليح. ومن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه وتواريها وتضمّه وتؤويه, وتخرج له طعامه وشرابه, فهي أحمل شئ للأذى وأعوده بالنفع, فلا كان من التراب خيرا منه و أبعد من الأذى وأقرب إلى الخير.  والمقصود أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول الذي كيفما يقاد ينقاد. وحسن التعبير بمناكبها عن طرقها وفجاجها لما تقدّم من وصفها بكونها ذلولا, فالماشي عليها يطأ على مناكبها وهو أعلى شئ فيها, ولهذا فسرت المناكب بالجبال كمناكب الإنسان وهي أعاليه.قالوا:وذلك تنبيه على أن المشي في سهولها أيسر.وقالت طائفة: بل المناكب الجوانب والنواحي, ومنه مناكب الإنسان لجوانبه, والذي يظهر أن المراد بالمنكب الأعالي. وهذا الوجه الذي يمشي عليه الحيوان هو العالي من الأرض دون الوجه المقابل له, فان سطح الكرة أعلاها, والمش إنما يقع في سطحها, وحسن التعبير عنه بالمناكب لما تقدّم من وصفها بأنها ذلول.ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها, فذلّلها لهم ووطّأها, وفتق فيها السبل والطرق التي يمشون فيها, وأودعها رزقهم فذكر تهيئة المسكن للانتفاع والتقلب فيها بالذهاب والمجيء, والأكل مما أودع فيه للساكن. ثم نبّه بقوله:{ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } الملك 15, على أنّا في هذا المسكن غير مستوطنين ولا مقيمين بل دخلناه عابري سبيل فلا يحسن أن نتخذه وطنا ومستقرّا, وإنما دخلناه لنتزوّد منه إلى دار القرار, فهو منزل عبور لا مستقر حبور, ومعبر وممر, لا وطن مستقر.فتضمّنت الآية الدلالة على ربوبيّته ووحدانيّته, وقدرته وحكمته ولطفه, والتذكير بنعمه وإحسانه, والتحذير من الركون إلى الدنيا, واتخاذها وطنا ومستقرا, بل نسرع فيها السير إلى داره وجنّته.فلله ما في ضمن هذه الآية من معرفته وتوحيده, والتذكير بنعمه, والحث على السير إليه, والاستعداد للقائه, والقدوم عليه, والإعلام بأنه سبحانه يطوي هذه الدار كأنها لم تكن, وأنه يجيء أهلها بعدما أماتهم وإليه النشور.
فائدة
للإنسان قوتان: قوة علمية نظرية, وقوة عملية إرادية. وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والإرادية. واستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة  فاطره وبارئه ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة الطريق التي توصل إليه ومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها.فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية. وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها. واستكمال القوة العملية الإرادية لا تحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد, والقيام بها إخلاصا وصدقا ونصحا وإحسانا ومتابعة وشهودا لمنّته عليه, وتقصيره هو في أداء حقّه. فهو مستحيي من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه أنها دون ما يستحقّه عليه ودون ذلك.وأنه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته. فهو مضطر إلى أن يهديه الصراط المستقيم الذي هدى إليه أولياءه وخاصّته, وأن يجنّبه الخروج عن ذلك الصراط, إما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال, وإما بفساد في قوّته العملية فيوجب له الغضب.
فكمال الإنسان وسعادته لا تتم إلا بمجموع هذه الأمور, وقد تضمنّتها سورة الفاتحة وانتظمتها أكمل انتظام. فإن قوله تعالى:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }الفاتحة 2-4, يتضمّن الأصل الأوّل وهو معرفة الرب تعالى ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله.والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى, وهي اسم ( الله والرب والرحمن).فاسم (الله) متضمّن لصفات الألوهيّة, واسم (الرب) متضمّن لصفات الربوبية, واسم (الرحمن) متضمن لصفات الإحسان والجود والبر. ومعاني أسمائه تدور على هذا.وقوله:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } الفاتحة5, يتضمّن معرفة الطريق الموصلة إليه, وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبّه ويرضاه, واستعانته على عبادته.وقوله:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }الفاتحة 6, يتضمّن بيان أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامة على الصراط المستقيم, وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة إلا بهداية ربه له كما لا سبيل له إلى عبادته إلا بمعونته ، ولا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته . وقوله:{ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } الفاتحة7, يتضمّن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم, وأن الانحراف إلى أحد الطرفين انحراف إلى الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد, والانحراف إلى الطرف الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل  فأوّل السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة. وحظ العبد من النعمة على قدر حظّه من الهداية, وحظّه منها على قدر حظّه من الرحمة, فعاد الأمر كلّه إلى نعمته ورحمته.والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيّته, فلا يكون إلا رحيما منعما وذلك من موجبات الهيّته, فهو الإله الحق, وإن جحده الجاحدون وعدل به المشركون.فمن تحقّق بمعاني الفاتحة علما ومعرفة وعملا وحالا فقد فاز من كماله بأوفر نصيب, وصارت عبوديّته عبوديّة الخاصّة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبّدين, والله المستعان.
فائدة
الرب يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين:أحدهما: النظر في مفعولاته.ثانيهما: التفكر في آياته وتدبّرها, فتلك آياته المشهودة وهذه آياته المسموعة المعقولة.فالنوع الأوّل كقوله:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة164.وقوله:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } آل عمران190, وهو كثير في القرآن.والثاني كقوله:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن } النساء82.وقوله:{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل }المؤمنون68.وقوله:{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه } ص29, وهو كثير أيضا.
فأمّا المفعولات فإنها دالّة على الأفعال, والأفعال دالّة على الصفات.فإن المفعول يدل على فاعل فعله, وذلك يستلزم وجوده وقدرته ومشيئته وعلمه لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم أو موجود لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا إرادة.ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوّعة دالّة على إرادة الفاعل, وأن فعله ليس بالطبع بحيث يكون واحدا غير متكرر.وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى.وما فيها من النفع والإحسان والخير دال على رحمته.وما فيها من البطش والانتقام والعقوبة دال  على غضبه.وما فيها من الإكرام والتقريب والعناية دال على محبّته.وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دال على بغضه ومقته.وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف ثم سوقه إلى تمامه ونهايته دال على وقوع المعاد.وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على إمكان المعاد.وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صحّة النبوّات.وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها.فمفعولاته أدل شيء على صفاته وصدق ما أخبرت به رسله عنه, فالمصنوعات شاهدة تصدق الآيات المسموعات, منبّهة على الاستدلال بالآيات المصنوعات. قال تعالى:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }فصّلت 53. أي أن القرآن حق فأخبر أنّه لا بد أن يريهم من آياته المشهودة ما يبيّن لهم أن آياته المتلوّة حق. ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدلائل والبراهين على صدق رسوله.فآياته شاهدة بصدقه, وهو شاهد بصدق رسوله بآياته, فهو الشاهد والمشهود له, وهو الدليل والمدلول عليه. فهو الدليل بنفسه على نفسه كما قال بعض العارفين: كيف أطلب الدليل على ما هو دليل لي على كل شيء؟ فأي دليل طلبته عليه فوجوده أظهر منه.ولهذا قال الرسل لقومهم:{ أَفِي اللَّهِ شَكّ } إبراهيم 10, فهو أعرف من كل معروف, وأبين من كل دليل.فالأشياء عُرفت به في الحقيقة وإن كان عُرف بها في النظر والاستدلال بأحكامه وأفعاله عليه.
فائدة
في المسند وصحيح أبي حاتم من حديث عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب عبدا هم ولا حزن, فقال اللهم : إني عبدك, وابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماضٍ فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك, أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك, أو استأثرت  به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همّي وغمّي, إلا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه فرحا".. قالوا يا رسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال: "بلى, ينبغي لمن سمعهن أن يتعلّمهن".فتضمّن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبوديّة. منها أن الداعي به صدّر سؤاله بقوله: "إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك", وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته إلى أبويه آدم وحوّاء, وفي ذلك تملّق له واستخذاء بين يديه واعتراف بأنه مملوكه وآبائه مماليكه وأن العبد ليس له غير باب سيّده وفضله وإحسانه, وأن سيّده إن أهمله وتخلّى عنه هلك, ولم يؤوه أحد ولم يعطف عليه, بل يضيع أعظم ضيعة. فتحت هذا الاعتراف: أني لا أغنى بي عنك طرفة عين, وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيّدي الذي أنا عبده, وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبّر مأمور منهي, إنما يتصرّف بحكم العبوديّة لا بحكم الاختيار لنفسه.فليس هذا في شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار. وأمّا العبيد فتصرّفهم على محض العبوديّة فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون إليه سبحانه في قوله:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان } الحجر 42, وقوله:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنا } الفرقان63, ومن عداهم عبيد القهر و الربوبية, فأضافتهم إليه كإضافة سائر البيوت إلى ملكه, وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه, وإضافة ناقته إليه وداره التي هي الجنة إليه, وإضافة عبودية رسوله إليه بقول: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا }البقرة 23.{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } الإسراء 1 . { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } الجن 19 .وفي التحقيق بمعنى قوله "أني عبدك" التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة, وامتثال أمر سيّده, واجتناب نهيه, ودوام الافتقار إليه, واللجوء إليه, والاستعانة به, والتوكّل عليه, وعياذ العبد به, ولياذه به, أن لا يتعلّق قلبه بغيره محبّة وخوفا ورجاء.وفيه أيضا أني عبد من جميع الوجوه: صغيرا وكبيرا, حيّا وميّتا, مطيعا وعاصيا, معافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح.وفيه أيضا أن مالي ونفسي ملك لك, فإن العبد  وما يملك لسيّده.وفيه أيضا أنك أنت الذي مننت عليّ بكلّ ما أما فيه من نعمة فذلك كلّه من إنعامك على عبدك.وفيه أيضا أني لا أتصرّف فيما خوّلتني من مالي ونفسي إلا بأمرك, كما لا يتصرّف العبد إلا بإذن سيّده, وأني لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فإن صحّ له شهود ذلك فقد قال لي أني عبدك حقيقة.ثم قال" ناصيتي بيدك", أي أنت المتصرّف في تصرّفي كيف تشاء, لست أنا المتصرّف في نفسي.وكيف يكون له في تصرّف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه, وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه, ليس إلى العبد منه شيء, بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير, ناصيته بيد سلطان قاهر, مالك له تحت تصرّفه وقهره بل الأمر فوق ذلك.ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء, لم يخفهم بعد ذلك, ولم يرجهم, ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين, المتصرّف فيهم سواهم والمدبّر لهم غيرهم, فمن شهد نفسه بهذا المشهد, صار فقره وضرورته إلى ربا وصفا لازما له, ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم, ولم يعلّق أمله ورجاءه بهم, فاستقام توحيده, وتوكّله وعبوديته. ولهذا قال هود لقومه:{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } هود56.وقوله :"ماض فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك"تضمّن هذا الكلام أمرين:أحدهما: مضاء حكمه في عبده.والثاني: يتضمّن حمده وعدله وهو سبحانه له الملك وله الحمد, وهذا معنى قول نبيّه هود:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا }, ثم قال: { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي مع كونه قاهرا مالكا متصرّفا في عباده, نواصيهم بيده فهو على صراط مستقيم.وهو العدل الذي يتصرّف به فيهم فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه. فخبره كله صدق, وقضاؤه كلّه عدل, وأمره كله مصلحة, والذي نهى عنه كله مفسدة, وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله, ورحمته وعقابه لمن يستحق له العقاب بعدله وحكمته.وفرق بين  الحكم والقضاء, وجعل المضاء للحكم, والعدل للقضاء, فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي, وحكمه الكوني القدري.والنوعان نافذان في العبد ماضيان فيه, وهو مقهور تحت الحكمين, قد مضيا فيه, ونفذا فيه, شاء أم أبى, لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته, أما الديني الشرعي فقد يخالفه.
ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال, وذلك إنما يكون بعد مضيه ونفوذه,قال:" عدل في قضاؤك" أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفّذته في عبدك عدل منك فيه.أما الحكم فهو يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه, فإن كان حكما دينيا فهو ماض في العبد, وإن كان كونيا فإن نفذه سبحانه مضى فيه, وإن لم ينفّذه اندفع عنه, فهو سبحانه يقضي ما يقضي به. وغيره قد يقضي بقضاء ويقدّر أمرا و لا يستطيع تنفيذه. وهو سبحانه يقضي ويمضي فله القضاء والإمضاء.وقوله:" عدل في قضاؤك" يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه, من صحة وسقم, وغنى وفقر, ولذّة وألم, وحياة وموت, وعقوبة وتجاوز وغير ذلك. قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم } الشورى 30, وقال:{ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ } الشورى 48.فكل ما يقضى على العبد فهو عدل فيه.
فإن قيل: فالمعصية عندكم بقضائه وقدره! فما وجه العدل في قضائها؟ فإن العدل في العقوبة عليها غير ظاهر. قيل: هذا سؤال له شأن, ومن أجله زعمت طائفة أن العدل هو المقدور, والظلم ممتنع لذاته. قالوا: لأن الظلم هو التصرّف في ملك الغير والله له كل شيء. فلا يكون تصرّفه في خلقه إلا عدلا.وقالت طائفة : بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره, فلمّا حسن منها العقوبة على الذنب عُلم أنّه ليس بقضائه وقدره, فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم إما في الدنيا وإما في الآخرة. وصعب على هؤلاء الجمع بين العدل والقدر, فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل, ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر. كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات, فزعموا أنه لا يمكنهم إثبات التوحيد إلا بإنكار الصفات, فصار توحيدهم تعطيلا  وعدلهم تكذيبا بالقدر.وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين, والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له, وهذا قد نزّه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه كقوله تعالى في سورة يونس الآية 44:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }., وهو سبحانه وإن أضلّ من شاء, وقضى بالمعصية والغي على من شاء, فذلك محض العدل فيه, لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به,كيف ومن أسمائه الحسنى العدل., الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق, وهو سبحانه قد أوضح السبل, وأرسل الرسل, وأنزل الكتاب, وأزاح العلل, ومكّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول, وهذا عدله, ووفّق من شاء بمزيد عناية, وأراد من نفسه أن يعينه ويوفّقه, فهذا فضله, وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله, وخلى بينه وبين نفسه, ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفّقه, فقطع عنه فضله, ولم يحرمه عدله. وهذا نوعان:(أحدهما) ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه, وإيثار عدوه في الطاعة, والموافقة عليه, وتناسي ذكره وشكره, فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه.والثاني أن لا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية, ولا يشكره عليه,ولا يثني عليه بها,ولا يحبه, فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله.قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } الأنعام 53, وقال:{ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } الأنفال22.فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية, كان ذلك محض العدل, كما إذا قضى على الحيّة بأن تقتل وعلى العقرب وعلى الكلب العقور, كان ذلك عدل فيه, وإن كان مخلوقا على هذه الصفة. وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير القضاء والقدر.
والمقصود أن قوله صلى الله عليه وسلم:" ماض فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك", رد على الطائفتين, القدريّة الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده, ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره, ويردون القضاء إلى الأمر والنهي. وعلى الجبريّة الذين يقولون: كل مقدور عدل, فلا يبقى لقوله" عدل فيّ قضاؤك" فائدة, فإن العدل عندهم كل ما يمكن  فعله والظلم هو المحال لذاته, فكأنه قال: ماض ونافذ فيّ قضاؤك. وهذا هو الأول بعينه.وقوله "أسألك بكل اسم" إلى آخره, توسل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب الوسائل إليه, فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه.وقوله: "أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري" الربيع : المطر الذي يحيي به الأرض. شبّه القرآن به لحياة القلوب به. وكذلك شبهه الله بالمطر, وجمع بين الماء الذي تحصل به الحياة, والنور الذي تحصل به الإضاءة والإشراق, كما جمع بينهما سبحانه في قوله { أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَة...}الرعد17, وقوله:{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } البقرة 17, ثم قال:{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } البقرة 19, وفي قوله :{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض....} النور 35,ثم قال:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابا } النور43, فتضمّن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وأن ينوّر به صدره فتجتمع له الحياة والنور. قال تعالى: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } الأنعام122.
ولما كان الصدر أوسع من القلب, كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب, لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولما كانت حياة البدن والجوارح, كلها بحياة القلب, تسري الحياة منه إلى الصدر, ثم إلى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادّتها. ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته, سأل أن يكون ذهابها بالقرآن, فإنها أحرى ألا تعود, وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد, فإنها تعود بذهاب ذلك. والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن, وإن كان من مستقبل أحدث الهم, وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم, والله أعلم.

فائدة
أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتا وقدرا وأوسعها عرش الرحمن جلّ جلاله. ولذلك صلح لاستوائه عليه. وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه. ولهذا كانت جنّة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وأنورها وأجلّها لقربها من العرش الذي هو سقفها, وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق. ولهذا كان أسفل سافلين شرّ الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير.وخلق الله القلوب وجعلها محلا لمعرفته ومحبّته وإرادته, فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبّته وإرادته. قال الله تعالى:{ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } النحل60, وقال تعالى"{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الروم 27, وقال تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } الشورى 11. فهذا من المثل الأعلى وهو مستو على قلب المؤمن فهو عرشه وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة, فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها والتعلّق بها, فضاق وأظلم وبعد من كمال هو فلاحه حتى تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير, وقلب هو عرش الشيطان, فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم, فهو حزين على ما مضى, مهموم بما يستقبل, مغموم في الحال.وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:" إذا دخل النور القلب, انفسح وانشرح" قالوا فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال:" الإنابة إلى دار الخلود, والتجاني عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل نزوله" والنور الذي يدخل القلب إنما هو من آثار المثل الأعلى فلذلك ينفسح وينشرح, وإذا لم يكن فيه معرفة الله ومحبّته, فحظّه الظلمة والضيق





ص -28- فائدة
تأمّل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله, وله الحمد كله أزمّة الأمور كلها بيده, ومصدرها منه, ومردّها إليه, مستويا على سرير ملكه, لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته, عالما بما في نفوس عبيده, مطّلعا على أسرارهم وعلانيتهم, منفردا بتدبير المملكة, يسمع ويرى, يعطي ويمنع, ويثيب ويعاقب, ويكرم ويهين, يخلق ويرزق, ويميت ويحيي, ويقدر ويقضي ويدبّر.الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها, وصاعدة إليه لا تتحرّك ذرّة إلا بإذنه, ولا تسقط ورقة إلا بعلمه. فتأمّل كيف تجده يثني على نفسه, ويمجّد نفسه, ويحمد نفسه, وينصح عباده, ويدلّهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم, ويرغّبهم فيه, ويحذّرهم مما فيه هلاكهم, ويتعرّف إليهم بأسمائه وصفاته, ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه, فيذكّرهم بنعمه عليهم, ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها, ويحذّرهم من نقمه ويذكّرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه, وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه, ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه, وكيف كابت عاقبة هؤلاء وهؤلاء, ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم, وأحسن أوصافهم, ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم, وقبيح صفاتهم. ويضرب الأمثال, وينوّع الأدلّة والبراهين, ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة, ويصدق الصادق, ويكذب الكاذب, ويقول الحق, ويهدي السبيل, ويدعو إلى دار السلام, ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها, ويحذّر من دار البوار, ويذكر عذابها وقبحها وآلامها, ويذكر عباده فقرهم إليه وشدّة حاجتهم إليه من كل وجه, وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين, ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات, وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه, وكل ما سواه فقير إليه بنفسه, وأنه لا ينال أحد ذرّة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته, ولا ذرّة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته. ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب, وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم أعذارهم, ومصلح فسادهم والدافع





ص -29- عنهم, والمحامي عنهم, والناصر لهم, والكفيل بمصالحهم, والمنجي لهم من كل كرب, والموفي لهم بوعده, وأنه وليّهم الذي لا ولي لهم سواه فهو مولاهم الحق, ونصيرهم على عدوهم, فنعم المولى ونعم النصير.فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا هذا شأنه فكيف لا تحبّه, وتنافس في القرب منه, وتنفق أنفاسها في التودد إليه, ويكون أحب إليها من كل ما سواه, ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره, ويصير الحب والشوق إليه والأنس به غذاؤها وقوتها ودواؤها, بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت, ولم تنتفع بحياتها.
فائدة
قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضدّه. وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو والاعتقادات والإرادات. فإذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا ومحبّة, لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبّته موضع, كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع,, لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه, إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها فكذلك القلب المشغول بمحبّة غير الله وإرادته, والشوق إليه والأنس به, لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلّقه بغيره. ولا حركة اللسان بذكره, والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق, والعلوم التي لا تنفع, لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه.وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن, فإذا صغى إلى غير حديث الله, لم يبق فيه إصغاء, ولا فهم لحديثه, كما إذا مال إلى غير محبّة الله, لم يبق فيه ميل إلى محبّته. فإذا نطق القلب بغير ذكره, لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.ولهذا في الصحيح عن النبي أنه قال:" لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ





ص -30- شعرا". فبيّن أن، الجوف يمتلئ بالشعر فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها, والعلوم التي لا تنفع, والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها. وإذا امتلاء القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغا لها ولا قبولا, فتعدته وجاوزته إلى محل سواه, كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها, ولا تلج فيه, لكن تمر مجتازة لا مستوطنة, ولذلك قيل:


نزّه فؤادك من سوانا تلقنا فجنابنا حل لكل منزّه


والصبر طلسم لكنز وصالنا من حلّ ذا الطلسم فاز بكنزه


وبالله التوفيق.
فائدة
قوله تعالى: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ }إلى آخرها أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد, وكفى بها موعظة لمن عقلها. فقوله تعالى:{ أَلْهَاكُمُ } أي شغلكم على وجه لا تعذرون فيه فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه. فإن كان بقصد فهو محل التكليف, وإن كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسلّم في الخميصة:" إنها ألهتني آنفا عن صلاتي" البخاري في الصلاة 1\575, ومسلم1\391 وأبو داود. كان صاحبه معذورا وهو نوع من النسيان. وفي الحديث " فلها صلى الله عليه وسلم عن الصبي" أي ذهل عنه, ويقال: لها بالشيء, أي اشتغل به. ولها عنه: إذا انصرف عنه. واللهو للقلب واللعب للجوارح, ولهذا يجمع بينهما. ولهذا كان قوله:{ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } أبلغ في الذم من شغلكم. فإن العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به. فاللهو هو ذهول وإعراض. والتكاثر تفعل من الكثرة أي مكاثرة بعضكم لبعض وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه أن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التكاثر. فالتكاثر في كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو





ص -31- علم, ولا سيّما إذا لم يحتج إليه. والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها. والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره, وهذا مذموم إلا فيما يقرّب إلى الله, فالتكاثر فيه منافسة للخيرات ومسابقة إليها.وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه: انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي, وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت, أو أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت.
تنبيه
من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه.للعبد ستر بينه وبين الله, وستر بينه وبين الناس, فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله, هتك الستر الذي بينه وبين الناس.للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه, فينبغي له أن يسترضي ربّه قبل لقائه ويعمّر بيته قبل انتقاله إليه.إضاعة الوقت أشد من الموت, لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة, فكيف بغم العمر.محبوب اليوم يعقبه المكروه غدا, ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غدا.أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها.كيف يكون عاقلا من باع الجنّة بما فيها شهوة ساعة.يخرج العرف من الدنيا ولم يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه, وثناؤه على ربّه.المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه.لو نفع العلم بما عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.دافع الخطرة, فإن لم تفعل صارت فكرة. فدافع الفكرة, فان لم نفعل صارت شهوة. فحاربها, فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمّة, فإن لم تدافعها صارت فعلا, فإن لم تتداركها بضدّه صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها.التقوى ثلاث مراتب:إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام





ص -32- والمحرّمات.الثانية: حميتها عن المكروهات.الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني. فالأولى تعطي العبد حياته, والثانية تفيد صحته وقوته, والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.


غموض الحق حين تذب عنه يقلل ناصر الخصم المحق


ضل عن الدقيق فهوم قوم فتقضي للمجلّ على المدقّ


بالله أبلغ ما أسعى وأدركه لا بي ولا بشفيع لي من الناس


إذا أيست وكاد اليأس يقطعني جاء الرجاء مسرعا من جانب اليأس


من خلقه الله للجنّة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره, ومن خلقه الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات.لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها. اقرأ الآيات 19-24من سورة الأعراف.ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤية لبث فيها بضع سنين.اقرأ يوسف آية 42.إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستّة مشاهد:الأوّل: مشهد التوحيد, وأن الله هو الذي قدّره وشاءه وخلقه, وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. الثاني: مشهد العدل, وأنه ماض فيه حكمه, عدل فيه قضاؤه.الثالث: مشهد الرحمة, وأن رحمته في هذا المقدور غالبه لغضبه وانتقامه, ورحمته حشوه أي ظاهره بلاء وباطنه رحمة.الرابع: مشهد الحكمة, وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك, لم يقدّره سدى ولا قضاه عبثا.الخامس: مشهد الحمد, وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه.السادس: مشهد العبوديّة, وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيّده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده, فيصرفه تحت أحكامه القدريّة كما يصرفه تحت أحكامه الدينيّة, فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.
قلّة التوفيق وفساد الرأي, وخفاء الحق, وفساد القلب, وخمول الذكر, وإضاعة الوقت, ونفرة الخلق, والوحشة بين العبد وبين ربّه, ومنع إجابة الدعاء, وقسوة القلب, ومحق البركة في الرزق والعمر, وحرمان العلم, ولباس الذل, وإهانة العدو, وضيق





ص -33- الصدر, والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت, وطول الهم والغم, وضنك المعيشة, وكسف البال... تتولّد من المعصية والغفلة عن ذكر الله, كما يتولّد الزرع عن الماء, والإحراق عن النار. وأضداد هذه تتولّد عن الطاعة.
فصل
طوبى لمن أنصف ربّه فأقر له بالجهل في عامه, والآفات في عمله, والعيوب في نفسه, والتفريط في حقه, والظلم في معاملته. فإن آخذه بذنوبه رأى عدله, وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله.وإن عمل حسنة رآها من منّته وصدقته عليه, فإن قبلها فمنّة وصدقة ثانية, وإن ردّها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به. وإن عمل سيّئة رآها من تخلّيه عنه, وخذلانه له, وإمساك عصمته عنه, وذلك عدله فيه, فيرى في ذلك فقره إلى ربّه, وظلمه في نفسه, فإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.ونكتة المسألة وسرّها أنّه لا يرى ربّه إلا محسنا ولا يرى نفسه إلا مسيئا أو مفرطا أو مقصّرا فيرى كل ما يسرّه من فضل ربّه عليه وإحسانه إليه وكل ما يسوؤه من ذنوبه وعدل الله فيه.المحبّون إذا خربت منازل أحبّائهم قالوا: سقيا لسكانها. وكذلك المحب إذا أتت عليه الأعوام تحت التراب ذكر حينئذ حسن طاعته له في الدنيا وتودده إليه وتجد رحمته وسقياه لمن كان ساكنا في تلك الأجسام البالية.
فائدة
الغيرة غيرتان: غيرة على الشيء وغيرة من الشيء, فالغيرة على المحبوب حرصك عليه, والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه. فالغيرة على المحبوب لا تتم إلا بالغيرة من المزاحم, وهذه تحمد حيث يكون المحبوب تقبح المشاركة في حبه كالمخلوق, وأما من تحسن المشاركة في حبه كالرسول والعالم بل الحبيب القريب سبحانه وتعالى فلا





ص -34- يتصوّر غيرة المزاحمة عليه بل هو حسد.والغيرة المحمودة في حقه أن يغار المحب على محبته له أن يصرفها إلى غيره, أو يغار عليها أن يطلع عليها الغير فيفسدها عليه, أو يغار على أعماله أن يكون فيها شيء لغير محبوبه, أو يغار عليها أن يشوبها ما يكره محبوبه من رياء أو إعجاب أو محبة لإشراف غيره عليها أو غيبته عن شهود منته عليه فيها.
وبالجملة, فغيرته تقتضي أن تكون أحواله وأعماله وأفعاله كلها لله. وكذلك يغار على أوقاته أن يذهب منها وقت في غير رضا محبوبه, فهذه الغيرة من جهة العبد وهي غيرة من المزاحم له المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبه.وأما غيرة محبوبه عليه فهي كراهية أن ينصرف قلبه عن محبته إلى محبة غيره, بحيث يشاركه في حبه, ولهذا كانت غيرة الله أن يأتي العبد ما حرّم عليه, ولأجل غيرته سبحانه حرّم الفاحشة ما ظهر منها وما بطنِ؛ لأن الخلق عبيده وإماؤه, فهو يغار على إمائه كما يغار السيد على جواريه, ولله المثل الأعلى. ويغار على عبيده أن تكون محبتهم لغيره, بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها.
*من عظم وقار الله في قلبه أن يعصيه, وقّره الله في قلوب الخلق أن يذلّوه.*إذا علقت شروش المعرفة في أرض القلب, نبتت فيه شجرة المحبة, فإذا تمكّنت وقويت أثمرت *الطاعة, فلا تزال الشجرة:{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا }.*أول منازل القوم:{ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } الأحزاب 41-42. *وأوسطها { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } الأحزاب 43. *وآخرها:{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلام } الأحزاب 44.*أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها, فإن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبد, وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر مرّ.*ارجع إلى الله واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك, ولا تشرد عنه من هذه الأربعة, فما رجع من رجع إليه بتوفيقه إلا منها, وما شرد من شرد عنه بخذلانه إلا منها, ما موفق يسمع ويبصر ويتكلّم ويبطش بمولاه, والمخذول يصدر ذلك عنه بنفسه وهواه





ص -35- *مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها, كمثل نواة غرستها, فصارت شجرة, ثم أثمرت فأكلت ثمرها, وغرست نواها, فكلما أثمر منها شيء, جنيت ثمره, وغرست نواه. وكذلك تداعي المعاصي, فليتدبّر اللبيب هذا المثال. فمن ثواب الحسنة الحسنة بعدها, ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها.* ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبّد له ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه, إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه.


كفى بك عزّا أنك له عبد وكفى بك فخرا أنه لك رب


فصل
إياك والمعاصي فإنها أذلّت عز {اسْجُدُوا} وأخرجت إقطاع {أَسْكَنَ}. يا لها لحظة أثمرت حرارة القلق ألف سنة ما زال يكتب بدم الندم سطور الحزن في القصص, ويرسلها مع أنفاس الأسف حتى جاءه توقيع { فَتَابَ عَلَيْه }.فرح إبليس بنزول آدم من الجنة, وما علم أن هبوط الغائص في اللجة خلف الدر صعود. كم بين قوله لآدم: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ }البقرة 30, وقوله لك { اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ } السراء63.ما جرى على آدم هو المراد من وجوده, "لو لم تذنبوا.." جزء من حديث أخرجه مسلم في التوبة 4\2106رقم 2739. "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم". يا آدم لا تجزع من قولي لك: { اخْرُجْ مِنْهَا } فلك ولصالح ذريتك خلقتها. يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك, واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك. يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك فقد استخرج منك داء العجب وألبست خلعت العبودية:{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا..} البقرة 216. يا آدم لم أخرج إقطاعك إلى غيرك, إنما نحيّتك عنه لأكمل عمارته لك, وليبعث إلى العمّال نفقة :{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ..} السجدة 16.تالله ما نفعه عند معصية عز {اسجدوا} ولا شرف :{ وَعَلَّمَ آدَمَ..} ولا خصيصة:{ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..}ص 75,ولا فخر:{ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي..} الحجر 29. وإنما انتفع بذل:{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا...} الأعراف 23, لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل





ص -36- فجرحه فوضع عليه جبار الانكسار فعاد كما كان فقام الجريح كأن لم يكن به قلبة.
فصل
نجائب النجاة مهيّأة للمراد, وأقدام المطرود موثوقة بالقيود.هبّت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان, فتقلب الوجود ونجم الخير, فلما ركدت الريح إذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك, وسلمان على ساحل السلامة.والوليد بن





ص -38- المغيرة يقدم قومه في التيه, وصهيب قد قدم بقافلة الروم, والنجاشي في أرض





ص -39- الحبشة يقول: لبيك اللهم لبيك, وبلال ينادي: الصلاة خير من النوم





ص -40- وأبو جهل في رقدة المخالفة.لما قضى في القدم بسابقة سلمان عرج به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجس (المجوسية), فأقبل يناظر أباه في دين الشرك, فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد. وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم حرفوه, وبه أجاب فرعون موسى:{ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي } الشعراء 29, وبه أجاب الجهمية: الإمام أحمد لما عرضوه على السياط. وبه أجاب أهل البدع شيخ الإسلام حين استودعوه السجن –وها نحن على الأثر- فنزل به ضيف { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } جزء من الآية 155 سورة البقرة. فنال بإكرامه مرتبة "سلمان منا أهل البيت", فسمع أن ركبا على نية السفر, فسرق نفسه من أبيه ولا قطع, فركب رحالة العزم يرجو إدراك مطلب السعادة, فغاص في بحر البحث ليقع بدرّة الوجود, فوقف نفسه على خدمة الأذلاء وقوف الأذلاء, فلما أحس الرهبان بانقراض دولتهم سلموا إليه أعلام الأعلام على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن زمانه قد أظل, فاحذر أن تضل, فرحل مع رفقة لم يرفقوا به { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } يوسف 20, فابتاعه يهودي بالمدينة, فلما رأى الحرة توقد حرا شوقه, ولم يعلم رب المنزل بوجد النازل. فبينا هو يكابد ساعات الانتظار قدم البشير بقدوم البشير, وسلمان في رأس نخلة, وكاد القلق يلقيه لولا أن الحزم أمسكه كما جرى يوم:{ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } القصص 10, فعجل النزول لتلقي ركب البشارة ولسان حاله يقول:


خليلي من نجد قفا بي على الربا فقد هب من تلك الديار نسيم


فصاح به سيده: مالك؟ انصرف إلى شغلك. فقال كيف انصرافي ولي في داركم شغل
ثم أخذ لسان حاله يترنم لو سمع الأطروش


خليلي لا والله ما أنا منكما إذا علم من آل ليلى بداليا





ص -41- فلما لقي الرسول عارض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافقه. يا محمد أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان, أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال عبد مناف, وإذا انتسب افتخر بالآباء, وإذا ذكرت الأموال عدّ الإبل. وسلمان إذا سئل عن اسمه قال: عبد الله, وعن نسبه قال: ابن الإسلام, وعن ماله قال: الفقر, وعن حانوته قال المسجد, وعن كسبه قال الصبر, وعن لباسه قال: التقوى والواضع, وعن وساده قال السهر, وعن فخره قال: "سلمان منا" وعن قصده قال:{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } الأنعام 52, وعن سيره قال إلى الجنة, وعن دليله في الطريق قال: إمام الخلق وهادي الأئمة.


إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيّب ذكراك حاديا


وإن نحن أضللنا الطريق ولم نجد دليلا, كفانا نور وجهك هاديا


*الذنوب جراحات, ورب جرح وقع في مقتل.*لو خرج عقلك من سلطان هواك, عادت الدولة له.*دخلت دار الهوى فقامرت بعمرك.*إذا عرضت نظرة لا تحل فاعلم أنها مسعر حرب, فاستتر منها بحجاب: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ...} النور 30, فقد سلمت من الأثر: { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال } الأحزاب 25. بحر الهوى إذا مد أغرق, وأخوف المنافذ على السابح فتح البصر في الماء.


ما أحد أكرم من مفرد في قبره, أعماله تؤنسه


منعما في القبر في روضة ليس كعبد قبره محبسه


على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ويعرف عند الصبر فيما يصيبه


ومن قل فيما يتقيه اصطباره فقد قل مما يرتجيه نصيبه


*كم قطع زرع قبل التمام فما ظن الزرع المستحصد, اشتر نفسك, فالسوق قائمة والثمن موجود. لا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى, ولكن كن خفيف النوم فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح.*نور العقل يضيء في ليل الهوى, فتلوح جادة الصواب, فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور *أخرج بالعزم من هذا





ص -42- الفناء الضيّق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه "مالا عين رأت",فهناك لا يتعذّر مطلوب ولا يفقد محبوب.*يا بائعا نفسه بهوى من حبه ضنا, ووصله أذى, وحسنه إلى فناء, لقد بعت أنفس الأشياء بثمن بخس, كأنك لم تعرف قدر السلعة ولا خسة الثمن, حتى إذا قدمت يوم التغابن تبيّن لك الغبن في عقد التبايع, لا إله إلا الله سلعة, الله مشتريها, وثمنها الجنّة, والدلال الرسول, ترضى ببيعها مجز يسير مما لا يساوي كله جناح بعوضة.


إذا كان شيء لا يساوي جميعه جناح بعوض عند من صرت عبده


ويملك جزء منه كلك ما الذي يكون على ذي الحال قدرك عنده


وبعت به نفسا قد استامها بما لديه من الحسنى وقد زال وده


مخنث العزم أين أنت, والطريق طريق تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمي في النار الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين, ونشر بالمنشار زكريا, وذبح السيد الحصور يحيى, وقاسى الضر أيوب, وزاد على المقدار بكاء داود, وسار مع الوحش عيسى, وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم تزها أنت باللهو واللعب.


فيا دارها بالحزن ان مزارها قريب, ولكن دون ذلك أهوال


الحرب قائمة وأنت أعزل في النظارة, فإن حركت ركابك فللهزيمة. من لم يباشر حر الهجير (نصف النهار عند اشتداد النهار) في طلاب المجد لم يقل (القيلولة) في ظلال الشرف.


تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ولم تدر أني للمقام أطوف


قيل لبعض العباد: إلى كم تتعب نفسك!! فقال راحتها أريد. يا مكرما بحلة





ص -43- الإيمان بعد حلة العافية وهو يخلقهما في مخالفة الخالق, لا تنكر السلب؛ يستحق من استعمل نعمة المنعم فيما يكره أن يسلبها. عرائس الموجودات قد تزينت للناظرين؛ ليبلوهم أيهم يؤثرهن على عرائس الآخرة, فمن عرف قدر التفاوت آثر ما ينبغي إيثاره.


وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي, وقالت لي: إلي


فتعاميت كأن لم أرها عندما أبصرت مقصودي لدي


*كواكب همم العارفين في بروج عزائمهم سيارة ليس فيها زحل.
*يا من انحرف عن جادتهم كن في أواخر الركب ونم إذا نمت على الطريق, فالأمير يراعي الساقة قيل للحسن: سبقنا القوم على خيل دهم ونحن على حمر معقرة فقال إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم.
فائدة
من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف. ومن وجده بين الناس ووجده في الخلوة فهو معلول. ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود. ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله. ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها. ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم. زمن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه, وفي أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس. فأشرف الأحوال أن لا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه, فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه. مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة قبل الشرائع {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} النور 35. وحّد قس وما رأى الرسول, وكفر ابن أبيّ وقد صلّى معه بالمسجد. مع الصب ري ولا ماء, وكم من عطشان في اللجة. سبق العلم بنبوة موسى وإيمان آسية فسيق تابوته إلى بيتها, فجاء طفل منفرد عن أم, إلى امرأة خالية عن ولد. فلله كم من القصة من عبرة. كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد, ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك.  كان ذو البجادين يتيما في الصغر, فكفله عمه, فنازعته نفسه إلى اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم, فهم بالنهوض, فإذا بقية المرض مانعة فقعد ينتظر العم, فلما تكاملت صحته, نفذ الصبرفناداه ضمير الوجد:
إلى كم حبسها تشكو المضيقا أثرها ربما وجدت طريقا
فقال يا عم طال انتظاري لإسلامك وما أرى منك نشاطا. فقال والله لئن أسلمت لننزعن كل ما أعطيتك. فصاح لسان الشرق: نظرة من محمد صلى الله عليه وسلم أحب إلي من الدنيا وما فيها.
ولو قيل للمجنون: ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال:تراب من غبار نعالها ألذ إلى نفسي وأشفى لبلواها
فلما تجرد للسير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جرده عمه من الثياب, فناولته الأم بجادا, فقطعه لسفر الوصل نصفين, اتّزر بأحدهما, وارتدى الآخر, فلما نادى صائح الجهاد قنع أن يكون في ساقه الأحباب, والمحب لا يرى طول الطريق, لأن المقصود يعينه:


ألا بلّغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها


فلما قضى نحبه نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يمهد له لحده وجعل يقول:" اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه" فصاح ابن مسعود يا ليتني كنت صاحب القبر.
فيا مخنث العزم أقل ما في الرقعة البيذق, فلما نهض تفرزن. رأى بعض  الحكماء برذونا يسقى عليه, فقال لو هملج (انقاد) هذا, لركب. أقدام العزم بالسلوك اندفع من بين أيديها سد القواطع. القواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب, فإذا خضتها انقلبت أعوانا لك توصلك إلى المقصود.
فصل
*الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج, إنما تخطب الأزواج ليستحسنوا عليها فلا ترضى إلا بالدياثة.
ميزت بين جمالها فعالها فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
حلفت لنا أن لا تخون عهودنا فكأنها حلفت لنا ألا تفي
السير في طلبها سير في أرض مسبعة, والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح, المفروح به منها هو عين المحزون عليه. آلامها متولدة من لذاتها, وأحزانها من أفراحها.
مآرب كانت في الشباب في أهلها عذابا, فصارت في المشيب عذابا
*طائر الطبع يرى الحبة, وعين العقل ترى الشرك, غير أن عين الهوى عمياء.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
*تزخرفت الشهوات لأعين الطباع, فغض عنها الذين يؤمنون بالغيب, ووقع تابعوها في بيداء الحسرات, ف: { أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} البقرة5, وهؤلاء يقال لهم:{ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} المرسلات 46. لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة المقام فيها, أماتوا فيها الهوى طلبا لحياة الأبد, لما استيقظوا من نوم الغفلة, استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم في زمن البطالة, فلما طالت عليهم الطريق, تلمحوا المقصد, فقرب عليهم البعيد, وكلما أمرت لهم الحياة, حلى لهم تذكر :{ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} الأنبياء 103.
وركب سروا, والليل ملق رواقه على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها فصار سراهم في ظهور العزائم  تريهم نجوم الليل ما يتبعونه على عاتق الشعري, وهام النعائم
إذا اطردت في معرك الجد قصفوا رماح العطايا في صدور المكارم
فصل
من أعجب الأشياء أ، تعرفه ثم لا تحبه, وأن تسمع داعيه, ثم تتأخر عن الإجابة. وأن تعرف قدر الربح في معاملته, ثم تعامل غيره. وأن تعرف قدر غضبه, ثم تتعرّض له. وأن تذوق ألم الوحشة ثم لا تطلب الأنس بطاعته وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه, ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته. وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره, ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه, والإنابة إليه. وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه, وأنك أحوج شيء إليه, وأنت عنه معرض, وفيما يبعدك عنه راغب.
فائدة
ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه, وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلال, والثانية: أن يكون عالما بذلك, وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه (أعطاه خيرا منه), لكن تغلب شهوته صبره, وهواه عقله. فالأول من ضعف علمه, والثاني من ضعف عقله وبصيرته. قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه, في الدعاء لم يرده قلت : إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته, وقوي رجاؤه, فلا يكاد يرد دعاؤه.
(فصل)
لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها, وخداع الأمل لأربابه, وتملك الشيطان قياد النفوس, ورأوا الدولة للنفس الأمارة, لجأوا إلى حصن التضرّع والالتجاء, كما  يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده. شهوات الدنيا ك "لعب الخيال", ونظر الجاهل مقصور على الظاهر, فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر. لاح لهم المشتهى, فلما مدوا أيدي التناول بأن لأبصار البصائر خيط الفخ, فطاروا بأجنحة الحذر, وصوبوا إلى الرحيل الثاني: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} يونس 26, تلمح القوم الجود, ففهموا المقصود, فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل وشمروا للسير في سواء السبيل, فالناس مشتغلون بالفضلات, وهم في قطع الفلوات, وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح. وقع ثعلبان في شبكة, فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة. تالله ما كانت الأيام إلا مناما, فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر. ما مضى من الدنيا أحلام, وما بقي منها أماني, والوقت ضائع بينهما.
كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه, وولد لا يعذره, وجار لا يأمنه, وصاحب لا ينصحه, وشريك لا ينصفه, وعدو لا ينام عن معاداته, ونفس أمارة بالسوء, ودنيا متزيّنة, وهوى مرد, وشهوة غالبة له, وغضب قاهر, وشيطان مزين, وضعف مستول عليه. فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها, وان تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.
لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة التهما, واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما, وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ, عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم, وظلمة في قلوبهم, وكدر في أفهامهم, ومحق في عقولهم. وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم, حتى ربي فيها الصغير, وهرم عليها الكبير, فلم يروها منكرا. فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن, والنفس مقام العقل, والهوى مقام الرشد, والضلال مقام الهدى, والمنكر مقام المعروف, والجهل مقام العلم, والرياء مقام الإخلاص, والباطل مقام الإخلاص, والباطل مقام الحق, والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقابل النصيحة, والظلم مقام العدل. فصارت الدولة  والغلبة لهذه الأمور, وأهلها هم المشار إليهم وكانت قبل ذلك لأضدادها وكان أهلها هم المشار إليهم
فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت, وراياتها قد نصبت, وجيوشها قد ركبت, فبطن الأرض والله خير من ظهرها, وقلل الجبال خير مكن السهول, ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس.
اقشعرّت الأرض وأظلمت السماء, وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة, وذهبت البركات, وقلّت الخيرات, وهزلت الوحوش, وتكدرت الحياة من فسق الظلمة, بكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة, وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح. وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه, ومؤذن بليل بلاء قد ادلهمّ ظلامه. فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح. وكأنكم بالباب وقد أغلق, وبالرهن وقد غلق وبالجناح وقد علق {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} الشعراء 227.
اشتر نفسك اليوم, فإن السوق قائمة, والثمن موجود, والبضائع رخيصة, وسيأتي على تلك السوق والبضايع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير: { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} التغابن 9, { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْه} الفرقان 27.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه. إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها, وتهاونت بأورادها التي هي قوته وحياته, كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها, فما أسرع ما تقف به.
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفر ولا إخفاق  هل السائق العجلان يملك أمره فما كل سير اليعملات وحيد
رويدا بأخفاف المطى فإنما تداس جباه تحتها وخدود
من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر. الغاية أول في التقدير, آخر في الوجود, مبدأ في نظر العقل, منتهى في منازل الوصول. ألفت عجز العادة, فلو علت بك همّتك ربا المعالي لاحت لك أنوار العزائم. إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور. نزول همة الكساح دلاه في جب العذرة. الكساح: داء يصيب الإبل, العذرة فناء البيت, وكذلك يقال للغائط. بينك وبين الفائزين جبل الهوى, نزلوا بين يديه ونزلت خلفه, فاطو فصل منزل, تلحق بالقوم. الدنيا مضمار سباق, وقد انعقد الغبار وخفي السابق, والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة.
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أو حمار
في الطبع شره, والحمية أوفق. لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى. حبة المشتهى تحت فخ التلف, فتفكر الذبح وقد هان الصبر. قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب, وشدة الحذر من فوت المأمول. البخيل فقير لا يؤجر على فقره. الصبر على عطش الضر, ولا الشرب من شرعة منّ. تجوع الحرة, ولا تأكل بثدييها. لا تسأل سوى مولاك, فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه. غرس الخلوة يثمر الأنس. استوحش مما لا يدوم معك, واستأنس بمن لا يفارقك. عزلة الجاهل فساد, وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها. إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة, واستحضر الفكر وجرت بينهم مناجاة:
أتاك حديث لا يمل سماعه شهى إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها وزال عن القلب المعنى ظلامه
إذا خرجت من عدوك لفظة سفه, فلا تلحقها بمثلها تلقّحها, ونسل الخصام نسل مذموم. حميتك لنفسك أثر الجهل بها, فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها. إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح. أوثق  غضبك بسلسلة الحلم, فإنه كلب إن أفلت أتلف. من سبقت له سابقة السعادة, دل على الدليل قبل الطلب. إذا أراد القدر شخصا بذر في أرض قلبه بذر التوفيق, ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة, ثم أقام عليه بأطوار المراقبة, واستخدم له حارس العلم, فإذا الزرع قائم على سوقه. إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة, وردفه قمر العزيمة, أشرقت أرض القلب بنور ربها. إذا جن الليل تغالب النوم والسهر, فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة, والكسل والتواني في كتيبة الغفلة, فإذا حمل العزم حمل على الميمنة وانهزمت جنود التفريط, فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وبردت الغنيمة لأهلها. سفر الليل لا يطيقه إلا مضمر المجاعة, النجائب في الأول, وحاملات الزاد في الأخير. لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طردت, ولا تقطع الاعتذار ولو رددت, فإن فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين وادخل دخول الطفيلية وابسط كف {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} يوسف 88. يا مستفتحا باب المعاش بغير إقليد التقوى (أي مفتاحها), كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الزرع. لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد. المعاصي سد في باب الكسب, و" إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
تالله ما جئتكم زائرا إلا وجدت الأرض تطوي لي
ولا انثنى عزمي عن بابكم إلا تعثرت بأذيالي
الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج, وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيىء للسباق. من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله. كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا, فإن الوليد يتبع الأم. الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها, فكيف تعدو خلفها؟. الدنيا مجاز والآخرة وطن, والأوطار إنما تطلب في الأوطان.
الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت, فهذا  مضرّته أرجح من منفعته, وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت. ثانيهما: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر, فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها, ولكن فيها ثلاث آفات: الأولى: تزين بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود. وبالجملة, فالاجتماع والخلطة لقاح أما للنفس الأمارة وأما للقلب والنفس المطمئنة, والنتيجة مستفادة من اللقاح, فمن طاب لقاحه طابت ثمرته, وهكذا الأرواح الطيّبة لقاحها من الملك, والخبيثة لقاحها من الشيطان, وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين, والطيبين للطيبات وعكس ذلك.
(قاعدة)
ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير, بل لا يؤثر سبب البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره. هذا في الأسباب المشهودة بالعيان, وفي الأسباب الغائبة و الأسباب المعنوية كتأثير الشمس في الحيوان والنبات فإنه موقوف على أسباب أخر, من وجود محل قابل, ,أسباب أخر تنضم إلى ذلك السبب. وكذلك حصول الولد موقوف على عدة أسباب غير وطء الفحل, وكذلك جميع الأسباب مع مسبباتها, فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره إلا الله الواحد القهّار, فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره. وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل, فإنه لو فرض أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سبيبته من غيره لا منه, فليس له من نفسه قوة يفعل بها, فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها, فالحول والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة. فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة, بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه, فإنه على قدر خوفك من  غير الله يسلط عليك, وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان, وهذا حال الخلق أجمعه, وإن ذهب عن أكثرهم علما وحالا, فما شاء الله كان ولا بد وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة.
التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه: فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} العنكبوت 65. وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها. ولذلك فزع إليه يونس, فنجّاه الله من تلك الظلمات , اقرأ الأنبياء آية رقم 87-88. وفزع إليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة. ولما فزع إليه فرعون, عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق, لم ينفعه, اقرأ الآية رقم 90-92 من سورة يونس, لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل. هذه سنة الله في عباده. مما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد. ولذلك كان دعاء الكرب* بالتوحيد ودعوة ذي النون* التي ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله كربه بالتوحيد. فلا يلقى في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجي منها إلا التوحيد, فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها. وبالله التوفيق.
(فائدة)
اللذة تابعة للمحبة, تقوى بقوتها وتضعف بضعفها, فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت اللذة بالوصول إليه أتم والمحبة والشوق تابع لمعرفته والعلم به, فكلما كان العلم به أتم كانت محبته أكمل, فإذا رجع كمال النعيم في الآخرة وكمال اللذة إلى العلم والحب, فمن كان يؤمن بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعرف, كان له أحب, وكانت لذته بالوصول إليه ومجاورته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه أتم. وكل لذة ونعيم وسرور وبهجة بالإضافة إلى ذلك كقطرة في بحر, فكيف يؤثر من له عقل لذة ضعيفة قصيرة مشوبة بالآلام على لذة عظيمة دائمة أبد الآباد؟! وكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب, وأفضل العلم العلم بالله, وأعلى الحب الحب له, وأكمل اللذة بحسبهما. والله المستعان
  (قاعدة)
طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين. حبس قلبه في طلبه ومطلوبه, وحبسه عن الالتفات إلى غيره. وحبس لسانه عما لا يفيده, وحبسه على ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته. وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات, وحبسها على الواجبات والمندوبات, فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاه وأطيبه. ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما إلى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا, فكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وإما ذاهب إلى الحبس. وبالله التوفيق.
ودّع ابن عون رجلا فقال: عليك بتقوى الله, فإن المتقى ليست عليه وحشة. وقال زيد بن أسلم: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس, وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا. وقال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا, وعلّمنا مما علّم الناس ومما لم يعلموا, فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعلانية, والعدل في الغضب والرضا, والقصد في الفقر والغنى. وفي الزهد للإمام أحمد أثر إلهي: " ما من مخلوق اعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات والأرض دونه, فإن سألني لم أعطه, وإن دعاني لم أجبه, وإن استغفرني لم أغفر له. وما من مخلوق اعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات والأرض رزقه, فإن سألني أعطيته, وإن دعاني أجبته, وإن استغفرني غفرت له"
(فائدة جليلة)
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق, لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه, وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى الله توجب له محبة الله, وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.  (فائدة جليلة)
بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه, وخطوة عن الخلق, فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس, ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله, فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه.
صاح بالصحابة واعظ:{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُم} الأنبياء 1, فجزعت للخوف قلوبهم, فجرت من الحذر العيون {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الرعد 17. تزينت الدنيا لعلي رضي الله عنه فقال: "أنت طالق ثلاثا لا رجعة لي فيك". وكانت تكفيه واحدة للسنة, لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة. ودينه الصحيح وطبعه السليم يأنفان من المحلل, كيف وهو أحد رواة حديث "لعن الله المحلل.
ما في هذه الدار موضع خلوة فاتخذه في نفسك. لا بد أن تجذبك الجواذب فاعرفها وكن منها على حذر, ولا تضرك الشواغل إذا خلوت منها وأنت فيها. نور الحق أضوأ من نور الشمس, فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه. الطريق إلى الله خال من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات, وهو معمور بأهل اليقين والصبر, وهو على الطريق كالأعلام { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة 24.
(قاعدة)
لشهادة أن لا اله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها, لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها, قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة, وانقادت بعد إبائها واستعصائها وأقبلت بعد إعراضها وذلت بعد عزها, وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها, واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته, وتجرد  منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه, فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها, واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه, فوجه العبد وجهه بكليته إليه, وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه. فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا, واستوى سره وعلانيته فقال: "لا إله إلا الله" مخلصا من قلبه. وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه, وشارف القدوم على ربه, وخمدت نيران شهوته, وامتلاء قلبه من الآخرة, فصارت نصب عينيه, وصارت الدنيا وراء ظهره, فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله, فطهّرته من ذنوبه, وأدخلته على ربه, لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة, وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها, فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها, وفر إلى الله من الناس, وأنس به دون ما سواه, لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها, ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله. فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان.
ماذا يملك من أمره من ناصيته بيد الله ونفسه بيده, "وقلبه بين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء" جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم في القدر برقم 2654 عن عبد الله بن عمرو بن العاص, ونصّه: " ان قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء". وحياته بيده وموته بيده وسعادته بيده وشقاوته بيده وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله بإذنه ومشيئته. فلا يتحرك إلا بإذنه, ولا يفعل إلا بمشيئته. إن وكله إلى نفسه وكله إلى عجز وضيعة, وتفريط وذنب وخطيئة. وإن وكله إلى غيره, وكله إلى من لا يملك له ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وإن تخلى عنه استولى عليه عدوّه وجعله أسيرا له. فهو لا غنى له عنه طرفة عين, بل هو مضطر إليه على مدى الأنفاس في كل ذرة من ذراته ظاهرا وباطنا, فاقته تامة إليه. ومع ذلك فهو مختلف عنه معرض عنه, يتبغض إليه بمعصيته, مع شدة الضرورة إليه من كل وجه, قد صار لذكره نسيا, واتخذه وراءه ظهريا, هذا وإليه مرجعه وبين يديه موقفه 
ص -57- فرغ خاطرك للهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك, فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام الأجل باقيا, كان الرزق آتيا وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه, فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه. فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو السرّة (الحبل السرّي), فلما خرج من بطن الأم, وانقطعت تلك الطريق, فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول, لبنا خالصا سائغا. فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقا أربع أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة. لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيدا طرقا ثمانية, وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء. فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير المؤمن. فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به ليعطيه الحظ الأعلى النفيس. والعبد لجهله بمصالح نفسه, وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ادخر له. بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئا, وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليا. ولو أنصف العبد ربه, وأنى له بذلك, لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها وأعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه إلا ليعطيه, ولا ابتلاه إلا ليعافيه, ولا امتحنه إلا ليصافيه, ولا أماته إلا ليحييه, ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه. ف { جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} الفرقان 62, و { فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً} الإسراء 99, والله المستعان. من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس, ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه. أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص, وعن نفسك بشهود المنّة, فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق 
ص -58- دخل الناس النار من ثلاث أبواب: باب شبهة أورثت شكا في دين الله. وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته. وباب غضب أورث العدوان على خلقه.
أصول الخطايا كلها ثلاث: الكبر: وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره. والحرص: وهو الذي أخرج آدم من الجنة. والحسد: وهو الذي جرّأ أحد ابني آدم على أخيه. فمن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقى الشر. فالكفر من الكبر, والمعاصي من الحرص, والبغي والظلم من الحسد.
جعل الله بحكمته كل جزء من أجزاء ابن آدم, ظاهرة وباطنة, آلة لشيء إذا استعمل فيه فهو كماله. فالعين آلة للنظر. والأذن آلة للسماع. والأنف آلة للشم. واللسان للنطق. والفرج للنكاح. واليد للبطش. والرجل للمشي. والقلب للتوحيد والمعرفة. والروح للمحبة. والعقل آلة للتفكر والتدبر لعواقب الأمور الدينية والدنيوية وإيثار ما ينبغي إيثاره وإهمال ما ينبغي إهماله.
أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه, بل أخسر منه من اشتغل عن نفسه بالناس. في السنن من حديث أبي سعيد يرفعه "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان, تقول: اتق الله, فإنما نحن بك, فان استقمت استقمنا, وإن اعوججت اعوججنا" قوله:" تكفر اللسان", قيل: معناه تخضع له, وفي الحديث: أن الصحابة لما دخلوا على النجاشي لم يكفروا له, حديث دخول الصحابة على النجاشي أخرجه أحمد في المسند 1\202, 5\290, عن أم سلمة بإسناد صحيح, وابن هشام في السيرة. أي لم يسجدوا له ويخضعوا. ولذلك قال له عمرو بن العاص : أيها الملك إنهم لا يكفرون لك. وإنما خضعت للسان لأنه بريد القلب وترجمانه والواسطة بينه وبين الأعضاء. وقولها:"إنما نحن بك", أي نجاتنا بك وهلاكنا بك, ولهذا قالت :" فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا".

فصل
جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". بين مصالح الدنيا والآخرة, ونعيمها ولذاتها إنما ينال بتقوى الله. وراحة القلب والبدن, وترك الاهتمام والحرص الشديد والتعب والعناد والكد والشقاء في طلب الدنيا, إنما ينال بالإجمال في الطلب, فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة ونعيمها, ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها, فالله المستعان.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق