السبت، 19 نوفمبر 2022

مجلد 1 و2.الحور العين نشوان الحميري  بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله تفسير رسالة الحور العين

 

مجلد 1 و2.الحور العين : نشوان الحميري 
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله تفسير رسالة الحور العين
مقدمة المؤلف أما بعد حمد الله الذي استوجب الحمد بكرمه وجوده، وأوجب المزيد لمن شكره من عبيده؛ فإن الأدب لما صار بضاعة، في أهل هذا الوقت مضاعة؛ قد رميت بالكساد، لما شمل أهل الدهر من الفساد؛ وصار العلم عاراً على حامليه، والفضل شيناً لأهليه؛ ولم يبق من أهل المروءات من يومأ إليه، ولا من أهل النخوات من يعتمد عليه؛ وأصبح ملوك العصر بين تاجر ينسب إلى الرياسة، وخمار يملك أمر السياسة؛ ولكل واحد منهما ندامى وأتباع، قد جمعت بينهم الطباع؛ وشرف الله السلطان الفاضل عن جلساء هذه الأجناس الدنية، بالأفعال الحميدة والهمة السنيه؛ فأصبح غرة لبهيم زمانه، وذروة يعتصم بها الخائف لأمانه؛ وأضحى نسيج وحده، وسقط ما قدح الدهر من زنده؛ رجوت أن يكون عنده لبضاعة الأدب سوق، ولأغصان دوحته بسوق؛ فبعثت إليه بهذه الرساله، محذوفة عن الأسباب والإطالة؛ وسميتها رسالة الحور العين، وتنبيه السامعين.
وكنيت بالحور العين عن كتب العلم الشرائف، دون حسان النساء العفائف؛ وجعلتها لرياضة الناشئ الصغير، وزيادة العالم النحرير؛ ولم أر وجهاً لإنفاذها بغير تفسير، فرنتها من ذلك بشيء يسير؛ على اشتغال من القلب؛ وتقسيم من اللب؛ بأسباب في الرسالة مذكورة، وأخرى مطوية مستورة؛ تنسى الفطن الذكي اسمه، وتلبس ثوب النحول جسمه. وإني في هذا المقام، لمتمثل بقول أبي تمام:
وليس امرؤٌ في الناس كنت سلاحه ... عشية يلقى الحادثات بأعزلا
فإن قصرت فيما اختصرت، أو عثرت فيما أكثرت؛ فله المنة بالتغمد، في الخطأ والتعمد؛ وما أبرئ نفسي من الزلل، ولا أبرئ السقيم بالعلل. ومن هو من الزلل معصوم؟ مدعى ذلك محجوج مصخوم، وعند العقلاء موصوم.
وهذا أول التفسير، والله ولى التوفيق والتيسير.
التفسير قوله: السلام عليك أيتها العقوه، التي لا تلم بها الشقوة؛ والربوه، الموقرة عن الصبوه.
المراد بذلك السلام على رب العقوة وصاحبها، والعرب تخاطب الديار بخطاب أهلها؛ قال الله تعالى: (وأسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) أي واسأل أهل القرية وأهل العير. قال الأحوص بن محمد الأنصاري:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك مع الصدود لأميل
وقال ذو الرمة التميمي:
أداراً بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى برفض يترقرق
والسلام، اسم من أسماء الله تعالى في قوله تعالى: (السلام المؤمن المهيمن). والسلام: شجر، واحدته سلامة. والسلام: السلامة. والسلام: الاستسلام. والعقوة: ما حول الدار، وكذلك العقاة. الشقوة: ضد السعادة، وكذلك الشقاوة والشقاء، بمعنى واحد. والربوة: المكان المرتفع من الأرض، وفيها لغات: ربوة وربوة وربوة، بفتح الراء وكسرها وضمها، وكذلك الرباوة: المكان المرتفع. وربى الشيء يربو، إذا زاد، ومنه الربا في البيع، ويثنى ربوان وربيان. وربا الرجل الرابية، إذا علاها. وربا، إذا أصابه الربو، يربو فيهما. قال الراجز، فجمع بين اللغتين:
حتى علا رأس يفاع فربا ... رفه عن أنفاسه وما ربا
وربوت في بنى فلان، أي نشأت. والموقرة: الموصوفة بالوقار. ومنه قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن). قال أبو عبيدة: هو عندى من الوقار. ورجل موقر، أي مجرب؛ ورجل موقر، أي مبجل. ومنه قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه). والصبوة والصبو والتصابي، كل ذلك بمعنى، وهو الميل إلى الصبا واللهو والحداثة؛ يقال: صبا يصبو: صبوا وصبوة، وهو أن يفعل فعل الصبيان. قال أبو إبراهيم: يقال: صبى يصبي صباً، إذا لعب مع الصبيان. والصبا، يمد ويقصر، إذا كسرت الصاد قصرت، وإذا فتحتها مددت.
قوله: (ذات القرار والمعين، والمستقر لحور العين): القرار والمستقر من الأرض: موضع الإقامة. والمعين: الماء الجاري؛ يقال: معن الماء يمعن معناً، إذا جرى. والمعنان: مجاري الماء. والمعان: المنزل. والمعن: الشيء اليسير السهل. قال النمر بن تولب العكلي ثم البصري:
فإن هلاك مالك غير معن
أي ليس بهين. والحور: جمع حوراء وأحور، مثل أعور وعوراء، وجمعه عور؛ وأسود وسوداء، وجمعه سود. وعنى بالحور في هذا الموضع الكتب. والحور: شدة بياض العين في شدة سوادها. قال أبو عمرو: الحور أن تسود العين كلها، مثل أعين الظباء والبقر. وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء: حور العين، لأنهن شبهن بالظباء والبقر. قال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين. ويقال: حورت الثياب، إذا بيضتها. وقيل لأصحاب عيسى عليه السلام الحواريون، لأنهم كانوا يحورون الثياب، أي يبيضونها.
والحواري أيضاً: الناصر. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الزبير ابن عمتي، وحواري من أمتي). والحواريات: نساء الأمصار؛ سمين بذلك لبياضهن. قال أبو جلدة اليشكري:
فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
والحواري من الطعام: ما حور، أي بيض. ويقال: حور خبزته، إذا أدارها ليضعها في الملة. ويقال: حور عين بعيرك، أي حجر حولها بكى، وهو شيء مدور. ويقال: أحور الشيء، إذا ابيض. والجفنة المحورة: المبيضة بالسنام. ويقال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، وهو النقصان بعد الزيادة. والأحور، عند العرب: كوكب، وهو المشترى.
والعين، بكسر العين: جميع عيناء، وهي البقرة الوحشية، سميت بذلك لسعة عيونها؛ يقال: بقرة عيناء وثور أعين؛ وقال بعضهم: لا مذكر له. وأما العين، بالفتح، فالين عين الإنسان. والعين: مصدر عنت الشيء أعينه عيناً، إذا أصبته بعينك وغبطته، فهو معين ومعيون، والفاعل عائن. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد يضر الغبط كما يضر العضاه الخبط). والعين: المتجسس للخبر. ويقال: بلد قليل العين، أي قليل الناس. والعين: عين الماء. والعين: مطر يدوم خمسة أو ستة لا يقلع. والعين: عين الشمس. والعين: المال الناض. والعين: نفس الشيء. والعين الميل في الميزان. والعين: عين الركية. والعين: الثقب في المزادة. وانشد ثعلب:
بذات لوث عينها في جيدها
وأسود العين: جبل. قال الشاعر:
إذا زال عنكم أسود العين كنتم ... كراماً وأنتم ما أقام ألاثم
لثام وألاثم، مثل كرام وأكارم. وعين الشيء: خياره. ويقال: لقيته أول عين، أي أول شيء.
وقوله: بعيدة عن رجم الظنون، كأمثال اللؤلؤ المكنون).
رجم الظن، الذي لا يوقف على حقيقته. والرجم أيضاً: الشتم. والشيطان الرجيم: البعيد عن رحمة الله. والمكنون: المصون؛ ومنه: كنانة النبل، لأنها تصونها. والكانون: الثقيل الملارم في المجلس. قال الحطيئه يهجو أمه:
أغر بالا إذا استودعت سراً ... وكانوناً على المتحدثينا
قوله: بيض الغرر والترائب، سود الطرر والذوائب.
الغرر هاهنا: الوجوه، وهو جمع غرة، وغرة كل شيء: أوله وأكرمه. والأغر: الأبيض. والغرر: ثلاث ليال من أول الشهر. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنين غرة: عبد أو أمه). فإنه عبر عن الجسم كله بالغرة. والغرة: البياض في الجبهة فوق الدرهم؛ وجمع ذلك كله غرر. والغرار، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا غرار في الصلاة) هو ألا يتم ركوعها وسجودها. والغرار: حد السيف والشفرة وغيرهما. والغرير: الخلق الحسن؛ يقال للشيخ: أدبر غريره، وأقبل هريره. والترائب: جمع تريبة، وهي عظام الصدر. والتريب أيضا: الصدر. قال الراجز، الأغلب العجلي:
أشرف ثدياها على التريب ... لم يعدوا التفليك في النتوب
وطرة الشعر معروفة، وكذلك طرة الثوب. وطر النبت، إذا اهتز؛ ومن ذلك يقال: طر شارب الغلام، فهو طار. والرجل الطرير: ذو الهيئة. قال ابن مالك معود الحكماء:
ويعجبك الطرير فنبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
والذوائب: جمع ذؤابة، وذؤابة كل شيء: أعلاه؛ وبذلك سميت الذؤابة.
قوله: مقرونة الحواجب، موشومة الرواجب؛ تفتر عن درر من الثغور، ودراري طالعة لا تغور.
القرن في الحاجبين: اتصالهما، وهو مصدر: قرن. والذي ليس بأقرن يسمى الأبلد والأبلج، ومصدرهما البلد والبلج، وهو الذي بين حاجبيه فرجة لا شعر فيها تسمى البلدة. وبذلك سميت البلدة من منازل القمر، لأنها لا نجوم فيها. والقران: الحبل الذي يقرن به شيئان، أي يوصل بينهما. والقرن: الحبل أيضاً. قال الشاعر:
أبلع أبا مسمع إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمشدود في قرن
والقران أيضاً: أن يجمع بين تمرتين عند الأكل، ومنه: قران الحج بالعمرة. والمقرن: المطيق للشئ، ومنه قوله تعالى: (وما كنا له مقرنين).
ووشم اليد: نقشها، وهو أن تغرز بالإبرة ثم يذر عليها النؤور، وهو دخان الفتيلة. وكنى بالوشم عن الكتابة في هذا الموضع. والرواجب: مفاصل الأصابع كلها، وهي جمع راجبة. تفتر، أي تبسم. والدرر: جمع درة. والدراري: جمع دري، وهو الكوكب الثاقب المضئ، شبه بالدرة المضيئة. تغور، أي تغيب؛ يقال: غارت الشمس تغور غياراً. قال أبو ذؤيب.
هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
أي مغيبها. وغار الماء يغور غوراً. ومنه قوله تعالى: (أ، أصبح ماؤكم غوراً) أي غائرا، أقام المصدر مقام اسم الفاعل، كقولهم: جاء القوم ركضاً، أي راكضين. وغارت عينه تغور غورا. قال العجاج:
كأن عينيه من الغؤور ... قلتان أو حوجلنا قارور
الحوجلة: قارورة صغيرة واسعة الرأس. والغور: تهامة؛ يقال: غار الرجل وأغار، إذا أتى الغور. قال الشاعر يصف الخيل:
تغور زماناً ثم تبدو قد اكتست ... من المال جلات العشار القناعس
ويروى: وتعرى زماناً. وقال آخر:
ليت شعري ما أماتهم ... نحن أنجدنا وهم غاروا
وغور كل شيء: قعره. وأغار الرجل على العدا إغارة. والاسم الغارة.
قوله: عواطل من الحلي، لا تعرف عدوا من ولي؛ يخلو بها ذو الريب، وهي بريئة الجيب، من التهمة والعيب.
يقال: امرأة عاطل، إذا كانت غير حالية. والريب: الشك؛ يقال دع ما بريبك إلى مالا يريبك. وريب المنون: حوادث الدهر. ومنه قوله تعالى: (نتربص به ريب المنون). وأراب الرجل، إذا صار ذاريبة. ورابني، إذا أدخل على شكا وخوفاً. والريب: الحاجة. قال كعب بن مالك الأنصاري:
قضينا من تهامة كل ريب ... وخير ثم أجممنا السيوفا
قوله: لم تطمث بأنس ولا جان، ولا استترت عن الأبصار بالبراقع ولا المجان.
الطمث: الجماع، مصدر طمث الرجل زوجته يطمثها، فهو طامث، إذا جامعها؛ ويقال. إذا افتضها. ومنه قوله تعالى: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان). والطامث أيضاً: الحائض. والطمث: المس، في كل شيء يمس. قال: ويقال: ما طمث هذا المرتع قبلنا أحد. قال: وكل شيء يطمث. قال الخليل: طمثت البعير طمثاً، إذا علقته. ويقال: ما طمث هذه الناقة حبل قط، أي ما مسها. والطمث أيضاً: الدنس.
والمجن. ما يسترك، وسمي الترس مجناً لستر صاحبه، واختص بذلك لكثرة الاستعمال. والجنة: ما استترت به من السلاح؛ ومنه قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل) أي ستره بالظلام. يقال: جن الليل جنوناً وجناناً. قال خفاف بن ندبة:
ولولا جنان الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرطي عياض بن ناشب
والجنين: الولد في بطن أمه. والجنين أيضاً: المقبور. والجنان: القلب. واشتقاق ذلك كله من الستر والتغطيه. وسميت الجن جنا لاستنارهم.
قوله: (لا تجزى المحب بنفار، ولا تحرم بنكاح على الكفار؛ تحل بعد ثلاث من الطلاق، بمساس وتلاق؛ لا تنشر من بعل، وإن وطئها بالنعل؛ مقعدة تسير في بعد وقرب، صائمة عن الأكل والشرب).
النفار: التباعد، وكذلك النفور. لا تشز، يقال: نشزت المرأة على بعلها نشوزاً، إذا عصته. ونشز بعلها عليها: ضربهاً وجفاها. والنشر: المكان المرتفع. والنشز: الارتفاع. والبعل: الزوج والبعل: الرب. والبعل: الصاحب. يقال منه: بعل يبعل، إذا صار بعلا. قال الشاعر:
يا رب بعل ساء ما كان بعل
والبعل: صم كان يعبد. ومنه قوله تعالى. (أتدعون بعلاً). والبعل: ما يشرب بعروقه من الأرض بغير سقى. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما شرب بعلاً). والبعل: الأرض المرتفعه لا يصيبها مطر إلا مرة واحدة في السنة. والبعال: ملاعبة الرجل أهله. وفي الحديث: (إنها أيام أكل وشرب وبعال). يعني أيام التشريق.
قوله: (ممنوعة عن اللذات، نقية العرض والذات؛ لا تغسل من درن، ولا توصف بكسل ولا أرن؛ تنطق بصموت، وتحيا بعد أن تموت؛ يسمع نطقها بالعين، لا تلفظ بلسان ولا بشفتين).
والعرض: النفس والعرض: الحسب. ويقال: بل العرض: كل موضع يعرق من الجسد. ويقال: بل العرض: الجسد، والريح طيبة كانت أو خبيثة.
والدرن الوسخ. والدرين: الحولي من النبات اليبيس والإدرون: الأصل. ودرينة. اسم للأحمق.
والأرن والإران: النشاط في الخيل وغيرها. والإران: النعش يحمل عليه الموتى.
قوله: تضحك وتبكي السامر والضجيع، بنظام حسن وتسجيع.
والسامر. واحد السمار. والسامر أيضاً: القوم يسمرون. قال الحارث الجرهمي.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
بل نحن كنا أهلها فأزالتا ... صروف الليالي والجدود العواثر
والسامر: المكان يجتمع فيه للسمر. قال:
وسامر طال لهم فيه السمر
والسمر: فعل السامر. والسمر أيضاً: سواد الليل.
والضجيع: المضاجع. والنظام: الشعر، شبه بنظام الدر والخرز، وهو ما نظم بعض إلى بعضه، أي جمع بخيط، وذلك الخيط يسمى السلك.
والسجع من الكلام: ما كان له قواف كقوافي الشعر.
قوله: تخبر عن جديس وطسم، وما عفا من أثر ورسم؛ حبهن دين، وهواهن فرضٌ على الموحدين).
جديس وطسم: هما أمتان عظيمتان من الأمم الماضية انقرضوا فلا بقية لهم. وجديس؛ أخو ثمود. وهما ابنا عابر بن إرم بن سام بن نوح. وطسم، ابن لاوذ بن سام بن نوح. وكانت طسم وجديس يسكنون اليمامة، وكان لهم ملك من طسم سيئ السيرة، وكانوا لا يزوجون امرأة من جديس إلا بعث غليها ليلة زففها فافترعها قبل زوجها. فوثبت جديس على ذلك الملك في غرة فقتلوه، وقتلوا معه من طسم مقتلة عظيمة. فمضى رجل من طسم إلى حسان بن أسعد تبع ابن كلي كرب بن تبع الأكبر بن تبع الأقرن بن شمر برعش بن إفريقيش ابن أبرهة ذي المنار بن الحارث الرائش الحميري يستصرخه فوجه معه جيشاً إلى اليمامة، وكانت اليمامة تسمى يومئذ جو، وكانت بها امرأة اسمها اليمامة، وهي الزرقاء، وكانت تبصر الراكب من مسيرة أيام. وباسمها سميت جو اليمامة. فلما خافوا أن تبصرهم فتنذر بهم قطعوا الشجر، وجعل كل رجل من الجيش بين يديه شجرة. فنظرت اليمامة فقالت: يا معشر جديس. لقد جاءتكم حمير أو سار إليكم الشجر. فقالوا ما ترين؟ فقالت: أرى في الشجر رجلا معه كتف يأكلها أو نعل يخصفها، فكذبوها. فصبحتهم حمير فقتلتهم وأفنتهم. وقد ذكرت ذلك الشعراء. قال الأعشى:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... يوماً ولا كذب الذئبي إذ سجعا
قالت أرى رجلاً في كقه كتف ... أو يخصف النعل لهفي أية صنعا
فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجي السم والسلعا
فاستذلوا أهل جو من مساكنهم ... وهدموا يافع البنيان فاتضعا
وما عفى من... الخ. يقال: عفا المنزل يعفو عفاء، أي درس، وعفته الريج أيضاً، عفاء، أي درسته، يتعدى ولا يتعدى.
وأثر الشيء. بقيته. والرسم: الأثر. وترسمت الدار، نظرت إلى رسومها. قال ذو الرمة:
أأن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم
والرسيم: ضرب من سير الإبل. وناقة رسوم: تؤثر في الأرض من شدة الوطء. والروسم: الرسم. والروسم: واحد الرواسيم، وهي كتب كانت في الجاهلية؛ قال ذوا الرمة:
من دمتة هيجت شوقي معاً لمها ... كأنها بالهدملات الرواسيم
قوله: وحديقة الأدب التي لا تهيج، وتربته التي أنبتت من كل روج يهيج؛ وسيمة الأزهار، جارية الأنهار؛ غصونها دانية، وعيونها غير آنية.
الحديقة: واحدة الحدائق، وهي أرض ذا شجر، سميت حديقة لأن النبات محدق بها، أي مدير. ويقال: هاج النبت هياجاً وهياجاً وهيجا، إذا اصفر ويبس. وأرض هائجة، إذا يبس بقلها؛ ومنه قوله تعالى: (ثم يهيج فتراه مصفراً). يقال: هاجت الحرب هيجاناً.
والبهيج: الحسن. والبهجة السحن. والوسيمة: الحسنة. والآنية: الحارة التي انتهى حرها؛ ومنه قوله تعالى: (يطوفون بينها وبين حميم آن).
قوله: (لاخبت أنوارك، ولا ذبل نوارك؛ لأنت جنة العدن، الحقيقة بالسدن؛ نحييك من بعد بالجنان، ونشير بأطراف البنان).
يقال: خبت النار، إذا طفئت، وكذلك السراج. ويقال: ذبل البقل ذبولاً، وذبلاً؛ إذا يبس. والنوار والنور، جميعاً: الزهر. والعدن: الإقامة. يقال: عدن بالمكان يعدن، إذا أقام به؛ ومنه قوله تعالى: (جنات عدن). والسدن: الخدمة، وكذلك السدانة؛ ومنه: سدانة الكعبة. نحييك أي ندعو لك بدوام التحية. والتحية: الملك. قال زهير بن جناب الكلبي:
وتركتكم أولاد سا ... داتٍ زنادكم وريه
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه
ومعنى قول القائل: حياك الله، أي ملكك قوله: هل أتاك نبأ النار المؤنسة، في الأرض المقدسة؛ بجانب القصر المشيد. وجناب الملك الرشيد؛ نار سؤدد رفعت للنواظر؛ وهديت بها البوادي والحواضر؛ جاهلها في الناس مليم، وفاز من هو لها كليم؛ مضرمةٌ للولي بلهب من ذهب، وللعدو بهلاك ورهب؛ أججت بأعواد الكرم لا الكروم، وأرجت بطيب الأغصان والأروم؛ تخضر بقربها الغرائس، ويترب المفتقر البائس؛ يعوذ بها الأواه المنيب، ويلوذ اللاصق والجنيب؛ بورك من في النار؛ وعلى علو ذلك المنار.
المؤنسة: المنظورة؛ ومنه قوله تعالى: (آنس من جانب الطور ناراً)، أي رأي. والهذلى:
وإني إذا ما الصبح آنست ضوءه ... يعاودني قطع على ثقيل
المقدسة: المهطره؛ ومنه: روح القدس. والمشيد: البناء. والسؤدد: الرياسة. والمليم. الذي يأتي ما يلام عليه؛ ومنه قوله تعالى: (فالتقمه الحوت وهو مليم). والكليم: المكالم، وهو المراجع في الكلام. ومنه قيل لموسى: كليم الله. والكليم أيضاً: الجريح. والكلم الجرح، وجمعه كلوم وكلام. قال أبو بكر بن أبي قحافة يرثي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أجدك ما لعينك لا تنام ... كأن جفونها فيها كلام
والرهب: الرهبة؛ وهو الرهب أيضاً؛ ومنه قوله تعالى: (واضمم إليك جناحك من الرهب). والرهب: البعير المهرول. والرهب أيضاً: الرغبة. والرهب. النصل الرقيق. والرهابة: عظم في الصدور مشرف على البطن مثل اللسان. والترهب: التعبد؛ ومنه اشتقاق الرهبان. والإرهاب: قدع الإبل عن الحوض وذيادها. أججت، أي أوقدت. وأرجت، يقال: أرج الطيب يأرج أرجاً، إذا فاح. والأروم والأرومة: الأصل. ويقرب المفتقر، يقال: أترب الرجل، إذا استغنى. وترب، إذا افتقر؛ ومنه قولهم: تربت يداك. أي افتقرت. فأما قوله تعالى: (أو مسكيناً ذا متربة) فإنما هو لاصق بالتراب. والبائس: المحتاج؛ ومنه قوله تعالى: (وأطعموا البائس الفقير). يقال منه: بئس الرجل يباس بؤوساً، إذا اشتدت حاجته، والأواه: كثير الدعاء. وقال قوم: الفقيه. وقال قومٌ: المؤمن. والمنيب: المقبل إلى الله النائب. ومنه قوله تعالى: (وخر راكعاً وأناب).
والجنيب: البعيد؛ يقال منه: جنب يجنب جنابة، فهو جانب. والجنب: أن يشتد عطش البعير حتى تلصق رئته بجنبه. قال ذو الرمة يصف نافته ويشبهها بحمار وحش.
وثب المسجح من عانات معقلةٍ ... كأنه مستبان الشك أو جنب
ورجلٌ جنب، أي قريب، ومنه قوله تعالى: (والجار الجنب). ويقال: قعد فلان جنبةً، إذا اعتزل الناس. قال الراعي:
أخليد إن أباك ضاق وساده ... همان باتا جنبةً ودخيلا
والجنبة: نبت؛ يقال: مطراً كثرت منه الجنبة.
بورك، البركة: والخير؛ يقال: بارك الله فيك، وبارك عليك، وبارك لك، وباركك. ومعنى قول القائل: تبارك الله، أي تعالى.
والمنار: علم الطريق. وذو المنار: ملك من ملوك اليمن، سمي بذلك لأنه أول من بث الأعلام في الطريق ليهتدوا بها، رهو أبرهه ذو المنار بن الحارث الرائش بن شداد بن الملظاظ بن عمرو بن ذي أبين بن ذي يقدم؛ بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن جيدان بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع ابن حمير الأكبر.
قوله: غني وإن غدوت والعين على جان، وضربت من الدهر بصولجان؛ ضرب كرة بين الحزاور، ولفظة بها كل محاور؛ يحفظ الغيب لجدير، وعلى هدية الشكر لقدير، لسيد مطاع، أصبح لببت الشرف كالسطاع.
الصولجان: العود الذي تضرب به الكرة. والحزاور: الغلمان؛ جمع حزور، وهو الغلام المترعرع. والمحاورة: المجاوبة. والغيب: المغيب؛ يقال: غاب غيباً ومغيباً، مثل سار سيراً ومسيراً، كل ذلك بمعنى. والغيب: المطمئن من الأرض. قال لبيد:
وتسمعت رز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
والغيب: ما غاب من أمر الله عز وجل عن عباده. ومنه قوله تعالى (يؤمنون بالغيب). ويقال: إن فلاناً بكذا وكذا لجدير وحقيق وحري وقمين وخليق، كل ذلك بمعنى. السطاع: عمود البيت. قال القطامي:
أليسوا بالألى قسطوا قديماً ... على النعمان وابتدروا السطاعا
قوله: وصنائعه في كل جناب، كالأوتاد له والأطنناب، لا يفتأ من صيانة حسب، غير مؤتشب، بإهانة ما اكتسب.
الجناب: الفناء. والأطناب: جمع طنب، وهي الحبال التي يشد بها البيت، والإطنابة: سير في طرف الوتر تشد به القوس العربية. والإطنابة: المظلة. والإطناب في الكلام: المبالغة فيه.
لا يفتأ، أي لا يزال. وحسب الرجل: شرفه ومآثره؛ ويقال: حسبي الشيء، أي كفاني. والحسب: الكفاية. والحسبان: العذاب؛ ومنه قوله تعالى (حسباناً من السماء). والحسبان: الحساب؛ ومنه قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان). والحسبان: سهام صغار يرمى بها عن القسي الفارسية، الواحدة حسبانه. قال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان، أي جراد. والحسبان، بكسر الحاء: الظن. والحسبانة: الوسادة الصغيرة. قال الشاعر:
غداة ثوى في اللحد غير محسب
أي غير موسد. والمحسب: الموسد. قال ابن الأعرابي: المحسب: المكفن. والأحسب: الذي ابيضت جلدته من داء أصابه ففسدت شعرته كأنه أبرص. قال امرؤ القيس بن مالك الحميرى:
أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا
يصفه باللؤم والشح، يقول: كأنه لم تلحق عقيقته في صغره حتى شاخ. والعقيقة: شعر المولود الذي يولد وهو عليه. والبوهة: طائر مثل البومة، يشبه به الأحمق.
والمؤتشب: الذي هو غير خالص النسب. والأشابة. والأخلاط من الناس. قال الذبياني:
وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت ... قبائل من غسان غير أشائب
وتأشب القوم، إذا اختلطوا. ويقال: أشبه يأشبه أشبا، إذا لامه وعابه. قال أبو ذؤيب:
ويأشبني فيها الذين يلونها ... ولو علموا لم يأشبوني بطائل
بطائل، أي بفضل. أي لو علموا أنها لا توليني إلا شيئاً يسيرا، كالنظرة والكلمة، لم يأشبوني بطائل، أي بأمر طائل.
قول: من وفر ونشب.
النشب: المال. قال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
قوله: حكم بالعدل مقسط، ولدوحة الشرف متوسط؛ بين والد مشب، وبغرس كرم نامي العشب، وطرف من الأخوة والأولاد منجب، وشرف عالي العماد مرجب، فهو كعبة للثناء، سامية البناء؛ تضيق بقاصدها الفجاج، ويفي بحمدها الحجاج، ما صفرت يد القابض، ولا رمى الظن بنكس حابض.
المقسط: العادل. والقاسط: الجائر؛ يقال: أقسط، إذا عدل، وقسط، إذا جار، ومنه قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين). وقوله تعالى: (أما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً). قال ابن وكيع:
أمنك للدهر غلط ... أقسط يوماً أو قسط
والدوحة: الشجرة العظيمة؛ وجمعها: دوح. قال امرؤ القيس:
فأضحى يسح الماء من كل فيقة ... تكب على الأذقان دوح الكنهبل
الكنهبل، بفتح الباء وضمها: ضرب من الشجر، والنون زائدة.
مشب، يقال: أشبى الرجل يشبي إشباء فهو مشب، إذا كان أولاده كراماً. قال ذوا الإصبع:
وهم إن ولدوا أشبوا ... بسر النسب المحض
طرف: طرف الرجل: أقاربه. قال الشاعر:
وكيف بأطرافي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صلوح
ويقال: ما يدري فلان أي طرفيه أطول. المراد بذلك نسب أبيه وأمه. ومعنى: أطول، أي أشرف. وقيل في قول الله تعالى: (أولم يروا أنا نأتيه الأرض ننقصها من أطرافها). إن الأطراف هاهنا: العلماء. قال الشاعر:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها ... وإن يمت عالم منها يمت طرف
والنجيب من الرجال: الكريم، وجمعه نجباء، ومصدره نجابة. يقال: نجب الرجل، إذا صار نجيباً، وأنجب، إذا ولد ولداً نجيباً.
والمرجب: المعظم. ومنه: اشتقاق رجب، لأنهم كنوا يعظمونه. وترجيب الشجرة: أن تدعم إذا كثر حملها لئلا تنكسر أغصانها. قال حباب بن المنذر يوم السقيفة لقريش. أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير.
الصفر: الخالي؛ يقال: صفرت يداه، إذا افتقر. ويقال في الشتم: ماله صفر إناؤه، أي هلكت ماشيته. والصفر. حية تكون في البطن نصيب الماشية والناس، يقال منها: رجل مصفور. قال الأعشى يرثي المنتشرين وهب:
لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا يزال أمام القوم يفتقر
لا يغمز الساق من أبن ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
والنكس: السهم الذي انكسر فوقه فنكس وجعل أعلاه أسفله. والنكس: الرجل الضعيف. والحابض: السهم الذي يقع بين يدي راميه. والحبض: التحرك. يقال: ما به حبضٌ ولا نبضٌ، ويقال: حبض ماء الركية، إذا نقص. والمحابض: العيدان التي يشتار بها العسل.
قوله فحرس الله الحضرة المطهرة بأزال، عن كل ما غير النعم وأزال؛ حتى تنخفض واجبات الأفعال، وتنطيق الشفاه بمنطبق عال).
أزال: اسم صنعاء مدينة اليمن، سميت باسم أزال بن قحطان، لأنه الذي بناها، وقيل هو أزال بن يقطن. وسميت صنعاء بصنعاء بن أزال هذا. الأفعال، يعني الماضية، وتسمى الأفعال الماضية واجبة، والأفعال المستقبلة تالية.
تنطبق الشفاه يعني أن حروف الإطباق لا تخرج أبداً من الشفة، فدعا للحضرة بالدوام حتى تخرج الحروف المطبقة من مخرج حروف الشفة، وذلك ما لا يكون أبداً. وحروف الشفة ثلاثة: الفاء والباء والميم. والحروف المطبقة أربعة: الصاد والضاد والطاء والظاء، وسميت مطبقة لانطباق اللسان على ما حاذاه من الحنك الأعلى.
بمطبق عال لأن الحروف المطبقة من حروف الاستعلاء يجمعها قولك: ضغط فظ خص. قال عبد الرازق بن علي النحوي في رسالته المسماة بإكسير الذهب: إنه جمع هذا أبو بكر بن أشته البغدادي في كتاب المحبر.
وما عدا حروف الاستعلاء فهو مستفل. ومعنى الاستعلاء صعود الصوت إلى جهة من فوق الحنك.
قوله: ويتولد الإدغام بين متوسط ذو لقى. وآخر هابطي حلقي.
فالحروف الذولقية ثلاثة: الراء واللام والنون. سميت ذولقية لأن مخرجها من ذولق اللسان. وذولق اللسان: طرفه. والحروف الحلقية ستة: العين والغين والحاء والخاء والهاء والهمزة. والحروف الحلقية لا يتولد بينها وبين الذولقية إدغام أبداً. ومعنى الإدغام: أن يجعل حرفين في الكلام حرفاً واحداً مشدداً. ولا يصح الإدغام إلا لأحد وجهين، إما أن يلتقي حرفان من جنس واحد فتسكن الأول منهما وتدغمه في الثاني، أي تدخله فيه، فيصير حرفاً واحداً مشدداً، نحو قولك: شد، ومد، ورد، وما شاكل ذلك، هذا أحد وجهي الإدغام والوجه الآخر: أن يلتقي حرفان متقاربان في المخرج، فتبدل الأول منهما من جنس الثاني وتدغمه فيه، كقولك: الرجل والذاهب، وما شاكل ذلك. فإذا أمرت من الأول كان لك وجهان: إن شئت أدغمت فقلت: مد، وشد، ورد، وإن شئت أظهرت فقلت: اشدُد، وامدُد، واردُد. قال الأعشى:
وما عليك أن تقولي كلما ... سبحت أو صليت ياللهم ما
أردد علينا شبخنا مسلما
فإذا ثنيت أو جمعت لم يجز الإظهار، تقول: شداً، ومداً، ورداً؛ وشدوا، ومدوا، وردوا؛ ولا يجوز: اشددا وامددا، وارددا، واشددوا، وامددوا، وارددوا. والحروف التي تدغم فيها لام المعرفة ثلاثة عشر حرفاً، لا يجوز إظهارها معها لقرب مخرجها منها، وهي: النون والدال والذال والتاء والثاء والصاد والضاد والطاء والزاي والسين والشين والراء، كقولك: الداعي، والناصر، والذاكر، والتائب، والصاحب، وما شاكل ذلك.
فتلك حراسة تهرم الأزلم الجذع، ودوام لا أمد له ولا منقطع؛ وأطال بقاءها حتى تدنوا لميم في المخرج من العين، على تباين النوعين؛ إن بينهما لأبعد بين بعد المشرقين من المغربين، وحاطها عن النوائب، ومخشي الغير والشوائب؛ حتى تود السين وأخواتها التسع من حروف الجهر، وليلة التمام أول غرة الشهر، أين الجهر من الهمس، ونصف عدة المنازل من منزلة الشمس.
الأزلم الجذع: الدهر. قال لقيط بن يعمر الإيادي، وكان كاتب كسرى:
يا قوم بيضتكم لا تفضحن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا
حتى تدنو يريد: حتى يكون مخرج العين والميم واحداً، وذلك ما لا يكون أبداً، لأن مخرج العين أول مخارج حروف المعجمة من الحلق، والميم آخر الحروف مخرجاً من الشفة، وقد تقدم ذكرها.
تباين النوعين لأن الحروف الحلقية مباينة لحروف الشفة. والبين: البعد، في هذا الموضع. والبين: الوصل، في قوله تعالى: (لقد تقطع بينكم). وهذا الحرف من الأضداد. والبين، بالكسر: قطعة من الأرض قد رمد البصر.
قال ابن مقبل يخاطب الخيل:
من سرو حمير أبوال البغال به ... أني تسديت وهناً ذلك البينا
بعد المشرقين يعني مشرقي الشمس ومغربيها حيث تنتهي عند الطلوع والغروب في الشتاء والصيف من جهة الجنوب والشمال في المغرب والمشرق.
الشوب: الخلط، ومنه قوله تعالى: (لشوباً من حميم).
من الهمس فالحروف المهموسة عشرة، يجمعها قولك: (سكت فحثه شخص). وما عدا الحروف المهموسة فهو مجهور، لأن الجهر ضد الهمس في الكلام. والهمس: الصوت الخفي. ومنه قوله تعالى: (وخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً). وهمس الأقدام: أخفى ما يكون من صوتها عند المشي. والجهر: الإعلان بالشيء. ومنه قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها. ورجل جهير الصوت: عاليه. ورجل جهير بين الجهارة، أي ذو منطر. قال أبو النجم:
وأرى البياض على النساء جهارةٍ ... والعتق أعرفه على الأدماء
وجهراء القوم: جماعتهم.
ليلة التمام: ليلة يتم القمر فيها، وهي ليلة أربع عشرة. والغرر: ثلاث ليال من أول الشهر. والشمس والقمر يجتمعان عند آخر كل شهر وأوله، وينتهي البعد ما بينهما ليلة الإبدار، وهي ليلة أربع عشرة.
ونصف عدة المنازل، وذلك أن بينهما أربع عشرة منزلة، تميز بينهما ليلة التمام، وذلك منتهى البعد بينهما. فاجتماعهما في تلك الليلة لا يمكن. ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلة، منها أربع عشرة منزلة شآمية، وهي الناطح، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثر، والطرف، والجبهة والزبرة، والصرفة والعواء والسماك.
ومنها أربع عشرة منزلة يمانية، وهي: الغفر، والزباني، والإكليل والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرع الدلو الأعلى والفرع الأسفل والحوت.
قال أبو إسحاق الزجاج فيما روى عنه أبو القاسم الزجاجي في تفسير رسالة أدب الكتاب: في شرح الأنواء: السنة أربعة أجزاء. لكل ربع منها سبعة أنواء، كل نوء منها ثلاثة عشر يوماً. ويزاد يوم لتكمل السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوماً، وهي مقدار ما تقطع الشمس به بروج الفلك كلها. فإذا نزلت الشمس منزلة من هذه المنازل سترته، لأنها تستر ثلاثين درجة، خمس عشرة درجة خلفها، وخمس عشرة درجة أمامها، فإذا انتقلت عنه ظهر. فإذا اتفق أن يطلع منزل من هذه المنازل، مع الغداة ويعرف رقيبه فذلك النوء، وهو مأخوذ من: ناء ينوء، إذا نهص متثاقلاً. والعرب تجعل النوء للغارب، لأنه ينهض للغروب متثاقلاً، وعلى ذلك أكثر أشعارها. وبعض العرب يجعله للطالع، وهذا هو مذهب المنجمين، لأن الطالع له التأثير والقوة، والغارب لا قوة له. هذه المنازل كلها تقطع من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة، وهو دور الفلك، ولكن التوء لا ينسب إلا إلى المنزل الذي يظهر من تحت الشعاع، ويتفق طلوعه مع الغداة كما ذكرت لك. ولا يتفق ذلك لكل واحد منهما إلا مرة في السنة.
وأجزاء السنة الأربعة التي أراد الزجاج: ربيع وصيف وخريف وشتاء. فالربيع له سبع منازل، أولها طلوع مؤخر الدلو بالغداة وآخرها طلوع الهقعة. والصيف له سبع منازل، أولها الهنعة وآخرها الصرفة. والخريف له سبع منازل، أولها العواء وآخرها الشولة. والشتاء له سبع منازل، أولها النعائم وآخرها مقدم الدول. وهذا رأي المنجمين. وبعض العرب تجعل الربيع لسقوط سبع منازل، في أولها العواء، ثم على هذا الترتيب والمنزلة ثلاثة عشر درجة وثلث درجة. والبرج ثلاثون درجة.
قوله: تضرع بالدعاء إلى رب السماء، وتوصل بالأفعال والأسماء؛ وابتهال من أسير عان في يد الزمان، لا يطمع منه بسلامة ولا أمان؛ منى بحال مثل تاء الأفعال في الانقلاب والإبدال، مرة بطاء ومرة بدال.
فالتضرع: التذلل. قال الفراء: التضرع: طلب الحاجة والتعرض لها. والضراعة: الذل. والضارع: النحيل الجسم. من ذلك أن ابنى جعفر جيء بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما لي أرهما ضارعين)؟ فقالوا: إن العين تسرع إليهما. فقال: (استرقوا لهما). والضريع: سلع، وهو نبت مر. قال ابن عيزارة:
وحبسن في هزم الضريع فكلها ... جدباء دامية اليدين حرود
يذكر إبلاً وسوء مرعاها. والضريع. يبيس الشبرق. قال الشاعر:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعاً نازعته النحائض
ومنه قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع).
والرب: الملك. والسماء، تجمع على سماوات. والسماء: كل ما علاك فأعلك؛ ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء: السحاب؛ ومنه قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء مباركاً). وهو مذكر في المعنى. قال معاوية بن مالك.
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
غمام ينزل رزق العباد ... فأحيا البلاد وطاب الشجر
ويجمع على سمي. قال العجاج:
تلفه الرياح والسمي ... في دق أرطاة لها حنى
وتوصل يعني الدعاء، لأنه كلام، والكلام أفعال وأسماء. والابتهال: التضرع. والمبتهل: المتضرع. والمباهلة: الملاعنة. ومنه قوله تعالى: (ثم نبتهل) والبهل: اللعن. والبهل: الماء القليل. والباهل: الناقة التي لا صرار عليها. قالت امرأة من العرب لزوجها. أتيتك باهلاً غير ذات صرار. ويقال: أبهلته، إذا خليته وإرادته.
والعاني: مشتق من العناء، وهو التعب: يقال: عنى يعني عناء، فهو عان.
منى بحال. قال يعقوب بن السكيت. نقول: منوت الرجل ومنيته: إذا ابتليته. والمنى: القدر؛ يقال منى له يمنى منى فهو مانٍ، أي قدر. قال الشاعر:
ولا تقولن لشيءٍ سوف أفعله ... حتى تلاقي ما يمنى لك الماني
وقال آخر:
سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوماً أو منى الحدثان
وقال الهذلي:
لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنى ... إلى حدث نوزى له بالأهاضب
تاء الافتعال فإن تاء الافتعال تنقلب مع سبعة أحرف، وهي: الصاد، والضاد، والدال، والذال، والطاء، والظاء، والزاي. وتبدل طاء مع أربعة أحرف منها، مع: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء؛ نحو قولك: اصطلح، واضطجع، واطلع، واظطلم. وتبدل دالاً مع ثلاثة منها، وهي: الدال والذال، والزاي. نحو قولك: ادلج، وادكر، وازدجر.
وحروف البدل اثنا عشر حرفاً، وهي: الهمزة، والألف، والياء، والواو، والجيم، والنون، والهاء، واللام، والميم، والتاء، والطاء، والدال. وأكثرها الواو، والياء، والألف. ويجمعها قولك: أدمجها لتنطوي. فالهمزة تبدل من الواو والياء، في مثل: قضاء وشقاء، لأن الأصل: قضاي وشقاو؛ لأن الياء والواو لا يتطرفان بعد الألف إلا انقلبتا همزة. قال قطرب في كتاب جماهير الكلام: والدليل على أن شقيت من ذوات الواو، قولهم: شقوة، وشقاوة.
وإنما انقلبت في شقيت لسكونها وللكسرة قبلها، كما قالوا: غبيت، ورضيت؛ وهما من الأضداد. لقولهم: غباوة ورضوان. ولو كانا من الياء، لقالوا: غبيان، ورضيان، كما قالوا: عصيان.
والألف تبدل من الواو والياء، في مثل قفا ورحى والأصل: قفى ورحى، يدل على ذلك قولهم: قفوان، ورحيان، فأبدلا في التثنية؛ لأن الواو والياء إذا تطرفتا بعد الفتحة قلبتا ألفاً.
والواو تبدل من الياء في مثل: موسر، وموقن.
والياء تبدل من الواو في مثل: ميزان، وميعاد. والأصل: موزان، وموعاد، لأنه مفعال، من وزنت ووعدت، فقلبت للكسرة.
والتاء تبدل من الواو في مثل: تجاه، وتراث؛ وفي قولهم: اتعد، واترث، لأنها من الوراته، والوجه، والوعيد، والوزن.
والهاء تبدل من تاء التأنيث في الوقف، في مثل: طلحة، وما شاكله. وتبدل من الهمزة في مثل قولهم: هراق الماء.
والنون تبدل من الواو في مثل قولهم: صنعاني، وبهراني، والأصل: صنعاوي وبهراوي.
والميم تبدل من النون في مثل: عنبر، وقنبر، وشنباء، فيصير عمبر، وقمبر، وشمباء. وتبدل أيضاً من الواو في: فم، والأصل: فوهٌ، لأن تصغيره فويه؛ وجمعه أفواه.
والدال تبدل من تاء الافتعال إذا كان فاء الفعل دالاً، أو ذالاً، أو زاياً، نحو: ازدجر، وادكر، وادلج.
واللام تبدل من النون في قولهم: أصيلال، إنما هو أصيلان.
والطاء تبدل من تاء الافتعال إذا كان فاء الفعل صاداً، أو ضاداً، أو طاء، أو ظاء، نحو: اصطلح، واضطرب، واطرد، واظطلم، وكذلك تصرفه نحو: يصطلح، ويضطرب، ويطرد، ويظطلم.
والجيم تبدل من الياء في مثل قول الشاعر:
خالي عويفٌ وأبو علج ... المطعمان الضيف بالعشج
وبالغداة فلق البرنج
أراد: أبو علي والعشي والبرني. فأبدل من الياء جيماً، ومثله قول أبي النجم:
كأن في أذنابهن الشول ... من عبس الصيف قرون الإجل
أراد: الإيل، فأبدل من الياء جيماً، وليس لذلك قياسٌ مطرد فيعمل عليه.
قوله: أبدلت في الحالتيين بشديد، غير راخ ولا مديد؛ وضروب من حوادث الدهر تدور، مع السنة والشهور؛ تعيد الجلد من الرجال كثلاثي الأفعال؛ عليل الطرفين، ثم تنقص منه للعلة حرفين؛ فيصير حرفاً واحداً، وتعيضه في الوقف حرفاً زائداً.
فإن الطاء والدال من الحروف الشديدة، والحروف الشديدة ثمانية، يجمعها قولك: أجدك قطبت. وما عدا الحروف الشديدة والمتوسطة فهو رخو.
والحروف المتوسطة ثمانية أيضاً، يجمعها قولك: يعلومارن. وحروف المد ثلاثة، وهي: الواو، والياء، والألف، وهي المديدة.
الجلد: القوي، وكذلك الجليد، والجلد: القوة، وكذلك الجلادة. والجليد: الصقيع الجامد، وهو البرد. قال ابن السكيت: الجلد: الإبل التي لا أولاد معها ولا لبن فيها. والجلد: الأرض الغليظة الصلبة. قال النابغة الذنياني:
إلا أواري لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
المظلومة: الأرض التي لم تمطر.
والجلد: أن يسلخ الحوار فيلبس جلده حواراً آخر.
كثلاثي مثل: وشى ووعى، إذا أمرت نقصت منه حرفي الاعتلال، فقلت: ع الكلام، وش الثوب. والأصل: يوعي ويوشي، فسقطت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وسقطت الياء للأمر.
فيصير حرفاً يعني أنك إذا وصلت الكلام لم يبق من هذا الفعل غير حرف واحد، مثل: عِ الكلام، وشِ الثوب، وما شاكله. فإن وقفت قلت: عِهْ، وشِهْ، فزدت الها، وحروف الزيادة عشرة، وهي: الواو، والألف، والياء، والهاء، والتاء، والسين، والميم، والنون، والهمزة، واللام. يجمعها قولك: اليوم لنسأة. ويجمعها أيضاً قولك: (سألتمونيها). ويجمعها أيضاً قولك: (هويت السمان). وروى أبو علي الفارسي في كتابه المعروف بالتصريف الملوكي، أن أبا العباس محمد بن يزيد المبرد الثمالي، سأل أبا عثمان المازني عن حروف الزيادة، فأنشده أبو عثمان:
هويت السمان فشيبنني ... وما كنت قدماً هويت السمانا
فقال له أبو العباس: الجواب؟ فقال: قد أجبتك دفعتين. يعني قوله هويت السمان.
فالهمزة تزاد في أول الكلمة، مثل: أحمر وأصفر؛ وفي آخر الكلمة، مثل: حمراء وصفراء؛ وفي وسط الكملة، مثل: شمأل، لأنه من شملت الريح.
والميم تزاد في أول الكلمة زيادة مطردة القياس، كقولهم: مضرب ومقتل، وما شاكل ذلك. وتزاد في وسط الكلمة وفي آخرها زيادة شاذة غير مطردة القياس. فزيادتها حشواً في مثل قول الأعشى:
إذا جردت يوماً حسبت خميصةً ... عليها وجريالاً يضئ دلامصا
فاليم في دلامص زائدة، لأن أصله من الدلاص، وهي البراقة. وتزاد آخراً في مثل قولهم: زرقم وفسحم، لأنه من الزرق والانفساح.
والنون تزاد في مثل: عنبس، لأنه من العبوس، وتزاد في التثنية والجمع، كقولك: الزيدان والزيدون. وتزاد في فعل الاثنين والجمع والمؤنث، كقولك: يفعلان، ويفعلون، وتفعلين. وتزاد في باب الانفعال، مثل: الانطلاق، وما شاكله. وتزاد في فعل الجماعة، كقولك: نقوم، ونقعد، وما شاكله.
والتاء تزاد في فعل المخاطب. كقولك: تقوم، وما شاكله. وفي باب الافتعال، مثل: الاجتراح: والاكتساب، وما شاكله. وتزاد للتانيث، في مثل: مسلمات، وما شاكله.
والهاء تزاد في الوقف، مثل قولك: ارمه، واغزه، وعه، وشه، وما شاكله.
والسين تزاد في باب الاستفعال، كالاستخراج، وما شاكله.
واللام تزاد في: هنالك، والأصل: هناك؛ وفي عبدل، وفحجل، لأن معناه: العبد، والأفحج.
والواو والياء والألف تزاد في مثل: كرام، وكريم، وعليم، وضروب، وحسود، وما شاكله؛ لأنه من الكرم، والعلم، والضرب، والحسد. والقياس في ذلك مطرد.
قوله: ونوائب، معابلها صوائب؛ ترد الصفو مشيباً، والشباب شيباً، وتخلق برد الشبيبة وقد كان قشيبا؛ فهو معها كحرف اعتلال، لا يوسم بصحة ولا إبدال؛ يختلف باختلاف الحركات المختلفات، فيعود على غير ما كان من الصفات؛ يذهب بدخول الجوازم، ويلزمه للحذف لوازم.
النوائب: جمع نائبة، وهي ما ينوب الإنسان، أي يصيبه، والمعابل: جمع معبلة، وهي النصل العريض الطويل. والقشيب: الجديد. لا يوسم، يقال: وسمت الصبي وسماً؛ إذا أثرت قيه سمة، والسمة: العلامة. والوسم: الكلي. سمي بذلك لأنه يورث علامة في الجسد. والوسمي: أول المطر، لأنه يسم الأرض بالنبات. قال الأصمعي: توسم الرجل، أي طلب كلأ الوسمي، وأنشد:
فأصبحن كالدوم النواعم غدوة ... على وجهة من ظاعن متوسم
وفلان موسوم بالخير، وامرأة ذات ميسم، إذا كان عليها أثر الجمال. وفلان وسيم الوجه، أي حسنه. والوسامة: الحسن.
والإبلال: الصحة من المرض. وكذلك البلول؛ يقال: بل من مرضه وأبل، إذا صح. وبللت به، بالكسر، إذا ظفرت به وصار في يدك. يقال: لئن بلت بك يدي لا تفارقني، أو تؤدي حقي. قال ابن أحمر:
فبلي إن بللت بأريحي ... من الفتيان لا يضحى بطينا
وحروف الاعتلال هي حروف المد واللين.
يختلف يعني أن الواو والياء إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما انقلبتا ألفين، مثل: قام، وسار، أصلهما عند النحويين: قوم وسير، فلما تحركتا، وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين. هذا في الأفعال؛ وأما في الأسماء، فمثل: باب، وناب، أصلهما عندهم: بوب ونيب. يدل على ذلك الجمع والتصغير، تقول: أبواب وأنياب، وبويب ونويب، فيرجع إلى أصله. فلما تحركت الواو والياء في: نوب ونيب، وانفتح ما قبلهما انقلبتا ألفين، فقيل: بابٌ وناب. وكذلك إذا كان قبل الواو كسرة قلبت ياء في مثل: ميعاد وميزان، لأنهما من: الوعد والوزن. وكذلك إذا كان قبل الياء ضمة قلبت واواً، مثل: موسر، وموقن، لأنهما من اليسر واليقين. فتختلف حروف الاعتلال باختلاف الحركات التي قبلها. والقياس في ذلك مطرد.
يذهب يعني أن الفعل المعتل إذا دخل عليه حرف جزم قلت: لم يغز، ولم يرم، ولم يخش؛ فذهبت حروف الاعتلال.
ويلزمه للحذف فالحذف على وجهين: أحدهما عن علة فهو مقيس، والآخر عن استخفاف، فهو مسموع ولا يجوز قياسه. فالحذف عن علة: إذا كانت فاء الفعل واواً وكان مستقبله مكسور العين حذفت فاء الفعل في المستقبل، لوقوع الواو بين ياء وكسرة، كقولك: وجب يجب، ووصل يصل، وما شاكله. أصله عند أهل العربية: يوجب ويوصل، فحذفت الواو لما ذكرت لك. فإن وقعت الواو بين ياء وفتحة لم تحذف، كقوله تعالى: (لا توجل)، وكقوله تعالى: (لم يلد ولم يولد). وكذلك حذفوا الواو المكسورة من مصادر الباب الذي حذفت فاؤه في المستقبل منه، كقولهم: وعد عدة، ووسم سمة، ووزن زنة، وكان الأصل: وعدة، ووزنة، ووسمة، فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى ما بعدها، وحذفت الواو تخفيفاً من المصدر كما حذفت في مستقبله. وكذلك حذفوا الهمزة في مستقبل باب أفعل، كقولهم: أحسن يحسن، وأكرم يكرم، كراهية أن تجتمع همزتان في قولهم: أحسن، وءأ كرم، وقد جاء من ذلك على الأصل، قال الراجز:
فإنه أهلٌ لأن يؤ كرما
الحذف الثاني الذي هو مسموع: قد حذفت الهمزة، والألف، والواو، والياء، والهاء، والنون، والتاء، والحاء، والخاء، الفاء، والطاء. فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وصارت الألف واللام عوضاً منها في اسم الله تعالى، وأصله في أحد قولي سيبويه: إلاه، فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال وصارت الألف واللام عوضاً عنها. وحذفت أيضاً في أناس تخفيفاً. قال الشاعر:
أناسٌ إذا ما أنكر الكلب أهله ... أناخوا فعادوا بالسيوف الضوارب
وحذفت أيضاً في قولهم: خذ، وكل. وأصله: أأخذ، وأأكل، وأأمر. فحذفت الهمزة تخفيفاً. وربما جاءت على الأصل في مثل قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة). وحذفت في قوله عز وجل: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم). وحذفت أيضاً في مثل قولهم: يا با فلان. يريدون يا أبا فلان. قال أبو الأسود:
يابا المغيرة رب مرٍ معضل ... فرجته بالنكر مني والدها
وحذفت أيضاً في مضارع: رأيت، فقالوا: يرى وترى ونرى. وربما جاء ذلك على أصله. قال سراقه البارقي:
أرى عيني ما لم تر أياه ... كلانا عارفٌ بالترهات
قال أبو عمرو: وهذا البيت من قصيدة في قصة مع المختار بن عبيد الثقفي، وقبله:
ألا أبلغ أبا إسحاق عني ... رأيت البلق دهما مصمتات
كفرت بدينكم وجعلت حقاً ... على قتالكم حتى الممات
أرى عيني البيت.
قال أبو الحسن الأحفش: أشياء، أصلهما أشيياء، كأصدقاء وأنبياء، فحذفت الهمزة التي هي لام تخفيفاً. قال الفراء: في مثل قول الحارث بن حلزة:
فإنا من قتلهم لبراء
قال: أصله برآء، كظرفاء، فحذفت الهمزة، التي هي لام، تخفيفاً.
وحذفت الألف في مثل قول لبيد:
وقبيلٌ من لكيزٍ شاهد ... رهط مرجوم ورهط ابن المعل
أراد: ابن المعلى. قال أبو عثمان: في قوله تعالى: حكاية: (يا أبت). أراد: يا أبتا. وأنشد أبو الحسن وابن الأعرابي:
فلست بمدركٍ ما فات مني ... بلهف ولا بليت ولا لواني
أراد بلهفا: وحذف الألف قليل لخفتها.
وحذفت الواو في مثل قولهم: غد، وأصله: غدو. وربما جاء على أصله، قال الشاعر:
لا تغلواها وادلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غدوا
وروى أبو سعيد السيرافي النحوي في كتاب أخبار النحويين البصريين: أن جارية غنت في مجلس الواثق، ومعه أبو محمد التوزي، قول الشاعر:
أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم
فقال أبو محمد: لحنت، وإنما هو: مصابكم رجل، بالرفع. فأبت ذلك وقالت: يا أمير المؤمنين، سمعته ممن هو أعلم بهذا منه. قال: وممن سمعته؟ قالت: من أبي عثمان المازني بالبصرة. فأمر الواثق بإشخاصه. فلما وصل سلم على أمير المؤمنين. ثم قال له الواثق بعد رد السلام: بسمك؟ قال أبو عثمان: قلت: بكر. وإنما أراد أن يعلمني أن العرب تبدل الباء من الميم في مثل هذا. ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: من بني مازن. فقال: أمن مازن تميم أم من مازن شيبان؟ فقلت: من مازن شيبان. ثم قال. ألك ولد؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين، ولكن لي أخت تقوم مقام الولد، رأفة ورحمة لها. قال: فما قالت لك حين هممت بالشخوص؟ قلت: قالت لي: نحن بعدك كما قال الأعشى:
ترانا إذا اضمرتك البلا ... د نجفي وتقطع منا الرحيم
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
قال: فبماذا أجبتها؟ قلت: بقول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
قال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى. ثم قال الواثق: أفدنا شيئاً. فقلت: يا أمير المؤمنين، أقول كما قال الشاعر:
لا تغلواها وادلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غدوا
أراد أبو عثمان: ارفق بي، ولا تستعجل علي. فقال: يكفينا من الفائدة تفسير هذين البيتين. فقلت: معنى قوله: لا تغلواها، أي لا تعنفا بها. يقال: غلوت الأبل غلوا، إذا حثثتها في السير، ودلوتها، إذا رفقت بها. وقوله: غدوا إنما المستعمل منه غد، لأنه على حرفين، مثل: يد وما أشبهه. وأصله: غدوٌ، فحذفت منه الواو، فلما اضطر إليه الشار رده إلى أصله. فقال: يكفينا هذا. وأمرني فنزلت وأكرمت، ثم جلس مجلساً آخر وأحضرت الجارية وأبو محمد التوزي، فغنت البيت:
أظلوم إن مصابكم رجلاً
فرد عليها أبو محمد أن ترفع رجلاً. فقلت له: كيف تقول: إن ضربك زيداً معجبٌ لي؟ فقال أبو محمد: حسبي، وأمرها: أن تنصب رجلاً. وسألني الواثق الإقامة بحضرته، فاعتذرت له إليه. فأمر لي بعشرة آلاف درهم وبكساء وغير ذلك، وقال: لا تقطعنا. فانصرفت ولم أعد إليه.
وحذفت الواو أيضاً في قولهم: حَم، وأصله حَمَوٌ. وحذفت الواو أيضاً في قولهم: أب، وأخ، وهما من الواو، لقولك: أبوانِ وأخوَانِ. وحذفت أيضاً في: كرة، وثبة، وما جانسهما من الأسماء.
وحذفت الياء في قولهم: يد، وأصلها: يدي، لقولهم: يديت إلى فلان يداً، إذا أسديت إليه معروفاً. وحذفت أيضاً في قولهم: دم؛ وأصله: دميٌ. لقولهم في التثنية: دميان. قال بعض بني سليم:
فلو أنا على حجر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين
ومنهم من يقول: دموانِ، وهو قليل.
وحذفت الهاء في قولهم: شفة، وأصلها: شَفَهَةٌ، لأن تصغيرها شُفَيْهة. وجمعها: شِفَاه، بالهاء. وحذفت الهاء أيضاً في قولهم: عضة، وأصلها عضهة، عند بعضهم، لقولهم: جمل عاضهٌ، أي يأكل العِضَاه، وعند بعضهم أنها من الواو وأصلها: عضوة، واحتجوا بقول الراجز:
هذا طريقٌ يأزم المآزما ... وعضوات تمشق اللهازما
تمشق: تضرب. والمآزم هاهنا: كل طريق ضيق بين جبلين. وحذفت الهاء في قولهم: فم، وأصله: فوه، لأن تصغيره فُوَيْه، وجمعه أفْوَاهُ، بالهاء. وحذفت الهاء في قولهم: شاةٌ، وأصلها: شوهة، لأن تصغيرها: شُويْهَة، وجمعها: شِيَاه، بالهاء.
وحذفت النون في قولهم: مذ، وأصلها: منذ، لأنك إذا سميت رجلاً بمذ ثم صغرته قلت: مُنيذاً، وجمعته قلت: أمناذ. وحذفت أيضاً في قولهم: إن زيداً لمنطلق، مخففة، وأصله: إن زيداً، فحذفوا النون الثانية تخفيفاً.
وحذفت الياء في قول الشاعر:
رب هيضل لجبٍ لففت بهيضل
الهيضل: الجماعة يغزون بسلاحهم. فحذفت الياء الثانية تخفيفاً.
وحذفت الحاء في قولهم: حر، وأصله: حرح، لأن تصغيره: حريح: وجمعه: أحراح. قال الشاعر:
إني أقود جملاً ممراحا ... ذا قبة مملوءة أحراحا
وحذفت الخاء في قولهم: بخ بخ. قال أعشى همدان:
بين الأشج وبين قيس باذخٌ ... بخ بخ لوالده وللمولود
وأصله: بخّ بخّ. قال العجاج:
في حسب بخ وعز أقعسا
وحذفت الفاء في قولهم: أف، وأصله التشديد. وفيها ثمان لغات: أُف وأُفُّ وأفٌّ، وأفٍّ وأفّاً وأفٌّ، وأفْ وأفَّى. وحذفت أيضاً في قولهم: وسَوَ أفعل. يريدون: وسوف أفعل.
قوله وآونةً تنغص المرء بالممرر، وترد إلى الأرذل كل معمر؛ فهي لنظم الحيوان زحاف، ولها في طلب النفوس إلحاف؛ تلحق الصحيح تارة بخامس الخفيف.
الآونة: جمع أوانٍ، مثل زمان وأزمنة. قال الشاعر:
أبو حنش ينعمنا وطلقٌ ... وعبادٌ وآونة أثالا
نصب آونة لأنها ظرفٌ. قال سيبويه: أصله أثالة، فحذف الهاء، وهو في موضع رفع لأنه عطفٌ على طلق. وأثال، عنده مرخم في ضرورة الشعر، وأصله: أثالة، فترك فتحة اللام على حالها. وخالفه أبو العباس المبرد، فقال: لا يجوز الترخيم فيما ليس بمنادي، وهو أثال، بغير هاء، وهو منصوب، لنه عطفٌ على النون والألف، في ينعمنا.
والأرذل: الردئ الخسيس. وأرذل كل شيء: أدنوُّه وأرْدَؤُه، وأرذل العمر: آخره، لأن المعمر يصير إلى الضعف بعد القوة.
والزحاف: ما حذف من حروف أبيات الشعر للعلة. والإلحاف: الإلحاح في السؤال، ومنه قوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافاً).
والصحيح من الشعر عند العروضيين: ما لم يكن في زحاف ولا علة. والصحيح عند النحويين من الكلام: ما لم يكن من حروفه الأصلية حرفٌ من حروف الاعتلال الثلاثة.
وخامس الخفيف: ضربٌ من ضروب الشعر. وسنذكر في هذا الموضع جملة من أصول الشعر والعروض، ينتفع بها من وقف عليها، ونقتصر على الأصول، دون العلل والفروع، لأن الغرض المقصود تفسير الرسالة، فمن أحب الوقوف على ذلك بكماله، فهو في مختصرنا المعروف بكتاب ميزان الشعر وتثبيت النظم.
اعلم أن الشعر على وجهين: مستعمل ومهمل؛ فالمستعمل منه: ما خف على اللسان، وحسن نظمه، وتساوت أوزانه، وعذب لفظه. ولذ نشيده، وأسرعت القلوب إلى حفظه، وأصغت الآذان إلى سماعه، ولم يتتبع صاحبه وحشي الكلام، ولا ركيك اللغات، ولا بعيد المعاني. وكان أول البيت منه يدل على آخره، وصدره على سائره. ولم يكن فيه تعقد ولا تكلف، ولا تلكؤ ولا تعجرف. قال أبو تمام:
لم يتبع شنع اللغات ولا مشي ... رسف المقيد في حدود المنطق
فما كان بهذه الصفة فهو المستعمل، وما كان بخلافها فهو المهمل. ولله در القائل:
سأقضي ببيت يحمد الناس غبه ... ويكثر من أهل الروايات حامله
يموت ردي الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله
واعلم أن الشعر كله: جيده ورديئه، وحسنه وقبيحه، ومستعمله ومهمله، مؤلف من ثمانية أجزاء، هي أصولها وعليها مداره؛ ستة أجزاء منها سباعية، وهي: فاعلاتن، مستفعلن، مفَاعيلن، مُتفاعلن، مفاعلتن، مفعولات. وجزآن خماسيان وهما: فعولن، فاعلن. هذه أجزاء الشعر التي يتألف منها ويصدر عنها. وهذه الأجزاء مؤلفة من ثلاثة أشياء. أسباب وأوتاد وفواصل. فالأسباب سببان: خفيف وثقيل. فالخفيف متحرك بعده ساكن، والثقيل متحركان. والأوتاد وتدان: مجموع ومفروق، فالمجموع متحركان بعدهما ساكن، والمفروق متحركان بينهما ساكن. والفواصل فاصلتان: صغيرة وكبيرة. فالصغيرة ثلاثة متحركة بعدها ساكن، والكبيرة أربعة متحركة بعدها ساكن. وهذه الأجزاء تدخل عليها العلة. والعلة علتان: علة زيادة، وعلة نقصان. وأكثر ما زيد على الجزء حرفان، وأكثر ما نقص منه ثلاثة.
وللشعر خمسة عشر حداً، لهن خمس دوائر، وخمسة أسماء، وأربعة وثلاثون عروضاً، وثلاثة وستون ضرباً.
والحدود، أولها: الطويل، ثم المديد، ثم البسيط، ولن دائرة؛ والوافر والكامل، ولهما دائرة؛ والْهَزجُ، والرَّجَز، والرَّمل، ولهن دائرة؛ والسّريع، والمنْسَرحُ، والخفيفُ، والمضارع، والمقتضبُ، والمجتث، ولهن دائرة؛ والمتقارب، وله دائرة.
وزاد عبد الله بن المنذر حداً سماه المتقاطر له أربع عروضات وخمسة أضرب، وهو من دائرة المتقارب. وروى أن الخليل بن أحمد رحمه الله كان يرده ويدغمه ولا يجيزه.
والأسماء الخمسة، أولها: المترادف: ساكن ومسكن، وهو تسعة أضرب؛ والمتواتر: متحرك وساكن، وهو ثلاثون ضرباً، والمتدارك. ساكنان ومتحرك، وهو سبعة عشر ضرباً، والمتراكب: ثلاثة متحركة وساكن، وهو سبعة أضرب. فذلك ثلاثة وستون ضرباً؛ والمتكاوس: أربعة متحركة وساكن، ولا حظ له من الضروب؛ لأنه داخلٌ على المتدارك بسبب العلة.
والعروض: الجزء الآخر من أجزاء النصف الأول من البيت، وهي مؤنثة لأنها مشتقة من أحد وجهين، إما من قولهم: ناقة عروض، أي صعبة لم ترض، وإما من العروض التي هي الناحية والطريق؛ يقال: فلان أخذ في عروض فلان. قال الأخنس، بن شهاب بن شريق التغلبي:
لكل إناس من معد عمارةٍ ... عروضٌ إليها يلجؤون وجانب
يقول: لكل حي حرز إلا بني تغلب، فإن حرزهم السيوف. وعمارة خفض لأنه بدل من أناس. ومن رواه، عُرُوض، بضم العين، جعله جمع عَرْضٍ، وهو الجبل. وروى الكوفيون عمارة، بفتح العين وضم الهاء. والصحيح الأول: فكأن العروض ناحية من العلم، وهو أقرب الوجهين إلى اشتقاقها.
والضرب: الجزء الآخر من جميع أجزاء البيت. والضرب: النصف من كل شيء.
فصل
في أبيات أنواع الحدود
الطويل وهو ثلاثة أنواع: له عروض واحدة وثلاثة أضرب: النوع الأول: عروضه مقبوضة وضربه سالم، وبيته:
أبا منذرٍ كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
الثاني: المقبوضان، وبيته:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
الثالث: المقبوضة والمحذوف، وبينه:
وإني على فجع الليالي بمالكٍ ... لجلدٌ ومن ذا لم تخنه الليالي
المديد له ستة أنواع: له ثلاثة أعاريض، وستة أضرب: النوع الأول: المجزوءان، وبيته:
بالبكر انشروا لي كليباً ... يالبكر أين أين الفرار
والرمل: مسدس أيضاً من جزء واحد مكرر: فاعلاتن.
هذه حدود الدائرة الثالثة. ويفك الرجز من السبب الأول من مفاعلين في الهزج، ويفك الرمل من السبب الآخر من مستفعلن في الرجز.
والسريع، مسدس من جزأين سباعيين الأول منهما مكرر: مستفعلن مستفعلن مفعولات.
والمنسرح، مسدس أيضاً من جزأين سباعيين، ثالثهما هو الأول منهما: مستفعلن مفعولات مستفعلن.
والخفيف، مسدس أيضاً من جزأين سباعيين، ثالثهما هو الأول منهما، فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن.
والمضارع، مسدس أيضاً من جزأين سباعيين، ثالثهما هو الأول منهما: مفَاعِيلن فاعِلاَتن مفَاعِيلن.
والمقتضب، مسدس أيضاً من جزأين سباعيين، الآخر منهما مكرر: مفعولات مستفعلن مستفعلن.
والمجتث، مسدس أيضاً من جزأين سباعيين، والآخر منهما مكرر: مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن.
هذه حدود الدائرة الرابعة. ويفك المنسرح من أول مستفعلن، الثاني من أجزاء السريع. ويفك الخفيف من السبب الثاني من مستفعلن، في المنسرح. ويفك المضارع من وتد فاعلاتن في الخفيف. ويفك المقتضب من السبب الأول من مفاعيلن في المضارع. ويفك المجتث من السبب الثاني من مفعولات في المقتضب.
والمتقارب، مثمن من جزء مكرر خماسي: فعولن.
والمتقاطر، مثمن من جزء واحد خماسي مكرر: فاعلن.
هذه حدود الدائرة الخامسة. ويفك المتقاطر من سبب فعولن في المتقارب.
؟؟فصل ؟في ألقاب الأجزاء وما يدخل عليها فعولن، يدخل عليه فعان، وهو الأثلم؛ وفَعْل، وهو الأثرم؛ وفَعولُ، وهو المقبوض؛ وفَعول، ساكنة اللام، وهو المقصور؛ وفَعو، وهو المحذوف؛ وفَعْ، وهو الأبتر.
فاعلن، يدخل عليه فَعَلَنْ، وهو المخبون؛ وفَعْلُن ساكنه العين، وهو المقطوع، وفاعِلان، وهو المُذال.
فاعلاتن، تدخل عليه فعلاتن، وهو المخبون؛ وفاعلان في القوافي، وهو المقصور؛ وفاعلن، وهو المحذوف؛ وفَعِلات، وهو المشكول؛ وفاعلات، وهو المكفوف عجزاً؛ وفعلن، ساكنة العين، وهو الأبتر؛ وفعلن، متحركة العين، وهو المخبون المحذوف؛ ومفعولن، في الخفيف وحده، وهو المشعث؛ وفاعلاتان، وهو المسبغ.
مستفعلن، تدخل عليه مفاعلن، وهو المخبون؛ ومفتعلن، وهو المَطوي؛ ومستفعل، وهو المكفوف؛ وفعلتن، وهو المخبول؛ ومفْعولُنْ، وهو المقطوع؛ وفَعولُنْ، وهو المخبون المقطوع؛ وفَعولُنْ، وهو المخبون المقطوع؛ ومَفاعِل، وهو المشكول؛ ومستفعلان، وهو المذال.
متفاعيلن، تدخل عليه مفعولن، وهو الأخرم؛ ومفاعلن، وهو المقبوض؛ ومفاعيل، وهو المكفوف، ومفعول، وهو الأخرب؛ وفاعلن، وهو الأشتر؛ وفعولن، وهو المحذوف.
متفاعلن، تدخل عليه مستفعلن، وهو المضمر؛ ومفتعلن، وهو المخزول، ومفاعلن، وهو الموقوص؛ وفَعِلاتن في القوافي، وهو المقطوع؛ ومفعولن، وهو المقطوع المضمر؛ وفعل، وهو الأحذ؛ وفَعْل، ساكنة العين، وهو الأحذ المضمر.
مفاعلتن، تدخل عليه مفْتعلن، وهو الأعْصَبُ؛ ومفاعيل، وهو المعْصوب؛ ومفاعِلن، وهو المعْقُول؛ ومفعولن، وهو الأقَصمُ؛ ومفاعِيل، وهو المنْقوص، ومفْعول، وهو الأعقَصُ؛ وفاعلن، وهو الأجم؛ وفعولن، وهو المقطوف.
مفعولات، تدخل عليه مفاعيل؛ وفعولات، وهو المخبون؛ وفاعِلات، وهو المطويّ؛ ومفعولان، وهو الموقوف؛ وفاعلان، وهو المَطْوِيّ الموْقوف؛ ومفعولن، وهو المكسوف؛ وفعلان، وهو المخبول؛ وفعولان، وهو المخبون الموقوف؛ وفَعلن، بتحريك العين، وهو المخبول المكسوف؛ وفعلن، ساكنة العين، وهو الأصلم.
واعلم أن معنى هذه الأمثلة التي أدخلتها على الأجزاء هو دخول العلة عليها، فنقصت منها حروف وزيدت حروف، فحول كل جزء منها بعد النقصان والزيادة إلى مثاله من الفعل، وذلك مثل قولك في فعولن: يدخل عليه فعلن، وهو الأثلم. المعنى في ذلك أن الفاء سقطت منه للعّلة، وهو الثّلْم، فصار عَوْلن فحوّل إلى مِثاله من الفعل، وهو فَعْلن ساكنة العين، لأنه أحسن في الألفاظ، فصار المتحرِّكُ من ذلك عوضاً من المتحرك، والساكنُ عوضاً من الساكن، وكذلك سائر الأمثلة على هذا الترتيب.
فصل جميع الحدود: حدّان: مثمن ومسدس. فالمثمن خمسة حدود، وهي: الطويل: والمَديد، والبسِيط، والمُتقَارِبُ، والمُتَقَاطِر، وهو ما تضمنته الدائرة الأولى والدائرة الخامسة. وسائرها مسدس. ولا يَنْبَني شيء من جميع الحدود على أكثر من جزأين مختلفين من الأجزاء.
فالطويل، مثمنٌ، من جزأين مكررين مختلفين: خماسي وسباعي: فعولن مفاعيلن.
والمديد، مثمن من جزأين مكررين مختلفين: سباعي وخماسي: فاعلاتُنْ فاعلُن.
والبسيط، مثمّنٌ منْ جزأين مكرّرين مختلفين: سُبّاعي وخماسي: مستفعلن فاعلن.
هذه حدود الدَّائرة الأولى. ويفك المديد من سبب فعولن في الطويل. ويفك البسيط من السبب الآخر من فعلاتن في المديد.
والوافر، مسدسٌ من جزء سُبَاعيّ واحد مكرر: مفاعلتن.
والكامل، مسدس أيضاً من جزء سباعي واحد مكرر: متفاعلن.
هذه حدود الدائرة الثانية. ويفك الكامل من أول فاصلة مفاعلتن في الوافر.
والهزج، مسدّسٌ من جزء مكرر: مفاعيلن.
والرجز، مسدس من جزء واحد مكرر: مستفعلن.
الثاني: المجزوءة المحذوفة، والمجزوء المقصور، وبيته:
لا يغرن امرأ عيشه ... كل عيشٍ صائرٌ للزوال
الثالث: المجزوءان المحذوفان، وبيته:
اعلموا أني لكم حافظٌ ... شاهداً ما كنت أو غائباً
الرابع: المجزوءة المحذوفة، والمجزوء الأبتر، وبيته:
عُلقت عيناي رُعْبَوبةً ... مثل قرن الشمس معطارا
الخامس: المجزوءان المحذوفان المخبوتان، وبيته:
رب رام من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره
السادس: المجزوءة المحذوفة المخبونة، والمجزوء الأبتر، وبيته:
رب نار بت أرمقها ... تقضم الهندي والغارا
البسيط وهو ستة أنواع: له ثلاثة أعاريض وستة أضرب: النوع الأول: المخبوتان، وبيته:
يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقةٌ قبلي ولا ملك
الثاني: المخبونة والمقطوع، وبيته:
قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب
الثالث، و هو المخلع. والمخلع أربعة أنواع: المجزوءة والمجزوء المذال، وبيته:
سائل سليمى إذا لاقيتها ... هل تبلغن بلدة الأبراد
الرابع، وهو ثاني المخلع، والمجزوءان، وبيته.
ماذا وقوفي على رسم عفا ... مخلولق دارس مستعجم
الخامس، وهو ثالث المخلع، والمجزوءة والمجزوء، المقطوع، وبيته:
يصغو ومخلها في دقةٍ ... لا بد حيزومه مثقوب
السادس، وهو رابع المخلع، المجزوءان المقطوعان، وبيته:
ماذا تذكرت من أطلال ... أضحت قفاراً كوحي الواحي
الوافر وهو ثلاثة أنواع. له عروضان وثلاثة أضرب: النوع الأول: المقطوعان، وبيته:
لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها العصي
الثاني: المجزوءان، وبيته:
أهاجك رسم منزلةٍ ... تخرم أهلها القدر
الثالث: المجزوءة والمجزوء المعصوب. وبيته:
لقد هدم الهوى بدني ... وضقت لحمله ذرعا
الكامل وهو تسعة أنواع: له ثلاثة أعاريض وتسعة أضرب: النوع الأول: التامان، وبيته:
وإذا صحوت فما اقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
الثاني: التامة والمقطوع، وبيته:
وإذا دعوتك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن حبالا
الثالث: التامة والأحذ المضمر، وبيته:
لمن الديار برمتين فعاقل ... درست وغير آيها القطر
الرابع: الأحذان، وبيته:
لمن الديار محى معارفها ... هطل أجش وبارح ترب
الخامس: الحذاء والأحذ المضمر، وبيته:
ولأنت أشجع من أسامة إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر
السادس: المجزوءة والمجزوء المرفل، وبيته:
عمدوا لجودك يا يزيد ... ولنعم معتمد المسائل
السابع: المجزوءة والمجزوء المذال، وبيته:
شهدت قبائل خندف ... ببلاء قومك في تميم
الثامن: المجزوءان، وبيته:
وإذا افتقرت فلا تكن متخشعا وتجمل
التاسع: المجزوءة والمجزوء المقطوع، وبيته:
بكت المنابر والكتا ... ئب والعفاة حسيننا
الهزج وهو نوعان: له عروض واحدة وضربان: النوع الأول: المحذوفان، وبيته:
صبا قلبي إلى هند ... وهندٌ مثلها يصبي
الثاني: المجزوءة والمجزوء المحذوف، وبيته:
وما ظهري لباغي الض ... يم بالظهر الذلول
الرجز وهو خمسة أنواع: له أربعة أعاريض وخمسة أضرب: النوع الأول: التامان وبيته:
دارٌ لسلمى ذ سليمى جارة ... قفراً ترى آياتها مثل الزبر
الثاني: التامة والمقطوع، وبيته:
قد هاج قلبي منزلٌ ... من أم عمرو مقفر
الرابع: المشطور، وبيته:
ما هاج أحزاناً ... وشجواً قد شجا
الخامس، المنهوكان، وبيته:
يا ليتني فيها جذع
ومثله:
ما الدين إلا بالورع
الرمل وهو ستة أنواع: له عروضان وست أضرب: النوع الأول: المحذوفة والتام، وبيته:
أبلغ النعمان عني مألكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
الثاني: المحذوفة والمقصور، وبيته:
لست أعطى باقتسار خطةً ... إنما يفعل هذا بالذليل
الثالث: المحذوفان، وبيته:
قالت الخنساء لما جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب
الرابع: المجزوءة والمجزوء المشبع، وبيته:
لان حتى لو مشى ذرٌ عليه كاد يدميه
الخامس: المجزءوان، وبيته:
كلما أزمعت يأسا ... أطمعت فيك الأماني
السادس: المجزوءة والمجزوء المحذوف، وبيته:
نحن قتلنا ملوكا ... بالمثنى أربعه
السريع وهو سبعة أنواع: له أربعة أعاريض وسبعة أضرب: النوع الأول: المطوية المكسوفة والمطوي الموقوف، وبيته:
قد يدرك المبطئ من حظه ... والخير قد يسبق جهد الحريص
الثاني: المطويان المكسوفان، وبيته: ؟هاج الهوى رسم بذات الغضى مخلولق مستعجم محول الثالث: المطوية المكسوفة والأصلم، وبيته:
هاجت على الشوق قمرية ... ناحت فأبكت كل مشتاق
الرابع: المخبولان المكسوفان، وبيته:
النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم
الخامس: المخبولة المكسوفة والأصلم، وبيته:
يا هل أريك الظعن باكرة ... كالنخل بالبطحاء من ملهم
السادس: المشطورة الموقوفة الممنوعة من الطي، والضرب مثله، وبيته:
الحمد لله العظيم المنان
السابع: المشطورة المكسوف الممنوعة من الطي وضربها مثلها، وبيته:
يا صاحبي رحلي أقلاّ عذلي
المنسرح وهو ثلاثة أنواع: له ثلاث أعاريض وثلاثة أضرب: النوع الأول: التامة والمطوي، وبيته:
إن ابن زيد لا زال مستعملاً ... للخير يفشي في مصره العرفا
وبيته المستقيم من العلل.... فاعلات مفتعلن، مطوّيان:
إن عميراً رأى عشيرته ... قد حدبوا دونه وقد أفقوا
الثاني من المنسرح: المنهوكة الموقوفة الممنوعة من الطي وضربها مثلها، وبيته:
صبراً بني عبد الدار
الثالث: المنهوكة المكسوفة الممنوعة من الطي وضربها مثلها، وبيته:
ويل أم سعد سعدا
الخفيف وهو خمسة أنواع: له ثلاث أعاريض وخمسة أضرب: النوع الأول: التامان، وبيته:
كل حي حاسٍ من الموت كأساً ... لا يعرى منها سوى ذي المعالي
الثاني: التامة والمحذوف، وبيته:
قد عنينا في العسر واليسر دهراً ... وأفرت أعراضنا فيهما
الثالث: المحذوفان، وبيته:
إن قدرنا يوماً على عامر ... ننتصر منه أو ندعه لكم
الرابع: المجزوآن، وبيته.
ليت شعري ماذا ترى ... أم عمرو في أمرنا
الخامس المجزوءة والمجزوء المقصور، وهو الذي ذكره في الرسالة وبيته:
كل خطب إن لم تكو ... نوا غضبتم يسير
المضارع وهو نوع واحد له عروض واحدة وضرب واحد مجزوآن، وبيته:
دعاني إلى سعادا ... دواعي هوى سعادا
المقتضب وهو نوع واحد، له عروض واحدة وضرب واحد مجزوآن مطويان، وبيته:
هل علي ويحكما ... إن لهوت من حرج
المجتث وهو نوع واحد، له عروض واحدة وضرب واحد مجزوآن، وبيته:
البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال
المتقارب وهو خمسة أنواع، له عروضان وخمسة أضرب: النوع الأول التامان، وبيته:
فأما تميم تميم بن مر ... فألفاهم القوم روبى نياما
الثاني: التامة والمقصور، وبيته:
إذا حل هذا لهوى في فؤاد ... فهيهات عنه دواء الطبيب
الثالث: التامة والمحذوف، وبيته:
وأروى من الشعر شعراً عويصاً ... ينسى الرواة الذي قد رووا
الرابع: التامة والأبتر، وبيته:
خليلي عوجا على رسم دار ... خلت من سليمى ومن ميه
الخامس: المجزوآن المحذوفان، وبيته:
أمن دمنةٍ أقفرت ... لسلمى بذات الغضى
المتقاطر ومنهم من سماه الخبب، ومنهم من سماه المخترع، ومنهم من جعله من المتقارب.
وهو خمسة أنواع: له أربع أعاريض وخمسة أضرب: النوع الأول: التامان، وبيته:
أو كبرق بدا ضوؤه موهناً ... في بشاصٍ كلامزنة يابس
الثاني: التامة والمذال، وبيته:
قف بنا نسأل الدار عن أهلها ... إن أجابت لنا الدار رجع السؤال
الثالث: المقطوعان، وبيته:
كلما عن لي منهم ذكر ... عيل صبري فما أملك الدمعا
الرابع: المجزوآن المقطوعان، وبيته:
طفلةٌ ناعم بكرٌ ... غادةٌ حبها يضني
الخامس: المجزوآن المخبونان، وبيته:
منزل باللوى محيل ... غيرت رسمه الليالي
وبيته المعلل مخبون، مثل قول امرئ القيس:
الشحط خليطك إذ بكروا ... ونأوا فمضى بهم السفر
قوله: وتارة تجعله من مصادر اللفيف.
فإن اللفيف من الأفعال ما كان معتل العين واللام، مثل: طوى، وشوى، وكوى، وما شكله. تقول في مصادره: طويت الكتاب طياً، وشويت اللحم شياً، وكويت الجرح كياً. وكان أصله: طَوْياً، وشَوْياَ، وكَوْياً. إلا أن الواو والياء إذا اجْتَمَعَتَا وسكنت الأولى منهما قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، ومثل ذلك قولهم: سيد، وميت، وهين، وجيد، وحيز، للمكان؛ أصل ذلك كله: سَيْوِد، ومَيْوِت، وهَيْوِن، وجَيْوِد، وحَيْوِز. فانقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء. يدل على ذلك أنها فيعل، من السؤدد، والموت، والهَوان، والجود، والحوز.
فصل
في مثل ذلك من التصريف إذا انكسر ما قبل الواو وكانت الواو لاماً قلبت ياء، مثل قولهم: غازية، وغادية، وما شاكله. والأصل: غازوة، وغادوة. فإن كانت الواو عيناً قويت بتوسطها ولم تقلب، مثل قولهم: حِوَل، وعِوَض، وطِوَل. قال القطامي التغلبي:
إنا محيوكَ فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطول
وإذا كانت الواو عيناً في فَعْل وجمعته على فعال، قلبت الواو ياء، كقولك: حوض وحِياض، وثوب وثياب، وسَوْط وسِياط. فإن كانت عيناً في فعِيل لم تقلب، كقولك: طويل وطِوّال، وقويم وقِوَام؛ وذلك للفرق بين الجمعين لئلا يلتبس أحدهما بالآخر. وقد قلبت في جمع فَعِيل، وهو شاذ. قال الطائي:
تَبيّن لي أن القماءة ذِلّةٌ ... وأن أعزاء الرجال طِيالها
وإذا اعتَلَتْ عين الفعلِ بالواو والياء، وانقلبت ألفاً في الماضي، انْقَلبت الواو والياء هَمزتين بعد ألف الفاعل، نحو قامَ فهو قائم، وسار فهو سائر، وهاب فهو هائب. فإن صحنا في الماضي في اسم الفاعل نحو: عار فهو عاور، وحول فهو حاول، وصيد فهو صايد، غير مهموز.
وإذا اجتمع في أول الكلمة واوان قلبت الأولى منهما همزة، وذلك في جمع واصل وتصغيره، فتقول في جمعه: أواصِل، وفي تصغيره. أوَيْصِل. والأصل: وَواصل، ووُيصل. وذلك لكراهية اجتماع وَاوَيْن في أول الكلمة وثقل النطق بهما. فأما قوله تعالى: (ما وُورِي عنهما) فإنما ذلك على أن الواو الثانية مدت لأنها بدل من ألف واريت. قال الشاعر في الهمزة:
ضرَبتْ صدرها إلي وقالت ... يا عَديّاً لقد وقتك الأواقي
والأصل الواو في جمع وَاقية، كعافية وعواف.
هذا رأي أبي عمرو في نصب الاسم العلم المنادى الذي جاز ثبوته في ضرورة الشعر، واعتل في ذلك برده إلى أصله، والخليل ينونه ويرفعه على لفظه. ومثل ذلك قول الفرزدق:
سلام الله يا مطراً عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
فإن يكن النكاح أحل شيءٍ ... فإن نكاحها مطراً حرام
والخليل يرويه يا مطر بالرفع، ويا عدي.
فإن توسطت الواوان صحنا، كقولك في النسب إلى نوى وهَوى: نَوَوِيّ وهَووِيّ.
وإذا جمعت فاعلاً من معتل العين على فُعَّل فبناء ذوات الياء على الياء، كقول أبي النجم:
نباتُه بين التلاع السيل
وكقول الهذلي:
وإذا هم نزلوا فمأوى العيل
وبناء ذوات الواو على الواو، كقولك: صوم وقوم. ويجوز البدل بالياء لثقل الجمع، فنقول: في صوم: صيم، وفي قوم: قيم. قال الراجز:
لولا الإله ما سكنا خضما ... ولا ظللنا بالمشائي قيما
وقال ذوا الرمة
ألا طرقتنا مية بنة منذرٍ ... فما أرق النيام إلا سلامها
هكذا أنشده ابن الأعرابي بالياء.
وإذا كان لام الاسم واواً مثل: دَلوْ وحقَو، وجمعته على أفعل أبدلت كسرة الواو ياء، كقولك: أدل وأحْق، والأصل: أدلوٌ وأحقوٌ. فإن جمعه على فُعول قلت: دلِيٌّ وحُقيٌّ. وكذلك في جمع عَصا عصّيّ، لأن أصل ألِفها الواو. والأصل: دلو، وعصوّ، وحقوّ. وربما جاء بعض ذلك على أصله، قال الشاعر:
أليس من البلاء وجيب قلبي ... وإبضاعي الهموم مع النجو
فأحزن أن تكون على صديق ... وأفرح أن تكون على عدو
النجو: السحاب، ها هنا، جمع نجو.
وحكى أبو حاتم عن أبي زيد في الصدر: بهوٌ وبُهوٌّ، وبُهى. وحكى ابن الأعرابي: أبٌ وأبو، وأخ وأخو. وأنشد للقاني يمدح الكسائي:
أبي الذم أخلاق الكسائي وانتمى ... إلى المجد أخلاق الأبو السوابق
فإن جمعته على فعال قلبت الواو همزة، كقول حسان:
لساني صارمٌ لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
قوله يحل منه قوة بعد قوة، وتحطه من ربوة إلى هوة؛ وزمانٌ كأبي قابوس، في النعيم والبوس؛ يُسيئ بذوي الإحسان، ويشكر ثم يشكي بلسان؛ يثيب المحسن بعقوبةٍ وكيد، كما صنع بعبيدٍ وعدي بن زيد.
الربوة: المكان المرتفع، وقد تقدم ذكرها، وجمعها ربى. والهوة: المكان المنخفض، وجمعها هوى.
أبو قابوس، كنية النعمان بن المنذر بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو ابن عدي بن نصر، الملك اللخمي، صاحب الغريين والطربالين. والطربالان: صومعتان، كان يغريهما بدم من يقتله إذا ركب بوم بُوُّسِه. وكان له يومان يومٌ يسميه يوم نَعيم، إذا ركب فيه ولقيه من يستحق العقوبة حياه وأكرمه وأبلغه مناه. ويوم يسميه يوم بؤس، إذا ركب فيه ولقيه من أوليائه من يستحق الحباء والإحسان قتله ومثل به. فلقيه عبيد بن الأبرص الشاعر، من بني أسد، في يوم بؤسه، وكان له ولياً، فقال له النعمان: ما جاء بك في هذا اليوم؟ وددت لو أنك لقيتنا في غيره. فقال عبيد: أتتك بحائن رجلاه. فأرسلها مثلاً. فقال له النعمان: أنشدنا شعرك الذي تقول فيه:
أقفز من أهله ملحوب
فقال عبيد:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا نبدي ولا نعيد
فقال له النعمان، تمن ما شئت غير نفسك، فلا بد من القتل. فقال: لا أجد شيئاً أعز علي من نفسي فأتمناه. فقتله في ذلك اليوم.
الكيد: المكر والعداوة، ومنه قوله تعالى: (إنهم يكيدون كيدا). وأما عدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف العبادي الشاعر، فهو من تميم بن مر. وكان من خبره أنه كان كاتب كسرى أبرويز بن هر من بن كسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز بن يزد جرد، الملك الفارسي، يترجم له بالفارسية ما يرد من كتب العرب. وكان النعمان بن المنذر نشأ في حجر آل عدي بن زيد، فطلب كسرى رجلاً يستعمله على العرب، فاحتال عدي بن زيد في توليته النعمان، وكان له فيه هوى لتربيتهم إياه، وكان للنعمان عدة إخوة. فقال عدي لكل واحد من إخوة النعمان: إذا قال لك الملك: أتكفيني العرب كلها؟ فقل: نعم، أكفيك العرب كلها ما خلا بني أبي. فأدخلهم واحداً واحداً على كسرى، وهو يسألهم، ويجيبونه بما قال لهم عدي بن زيد. ثم أدخل النعمان على كسرى بعد إخوته، وكان أزراهم منظراً. وقال له: إذا قال لك الملك: أتكفيني العرب كلها؟ فقل: نعم أكفيك العرب كلها. فإذا قال: وتكفيني بني أبيك؟ فقل: إذا لم أكفك بني أبي فكيف أكفيك العرب كلها. فسأله كسرى. فقال له كما قال له عدي. فولاه على جميع العرب بسبب عدي ولطف احتياله. وكان عدي بن مرينا مع بعض إخوة النعمان، وكان ببغض عدياً ويحسده. فجعل عدي بن مرينا يقع في عدي بن زيد عند النعمان ويحمله عليه ويقول للنعمان: إنه يحقرك ولا يعرف قدرك، ولا آمن أن يشي بك إلى كسرى. فغضب النعمان من ذلك وبعث إلى عدي بن زيد يستزيره. فأتاه عدي. فأمر النعمان بحبسه والتضيق عليه. فقال في السجن أشعاراً كثيرة يستعطف النعمان فيها، منها قوله:
أبلغ النعمان عني مألكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
قاعداً يكرب نفسي بثها ... وحراماً كان حبسي واحتقاري
وعداتي شيمتت أعجبهم ... أنني غيبت عنهم في إساري
لامرئ لم يبل مني سقطةً ... إن أصابته ملمات العثار
وقال:
ألا من مبلغ النعمان عني ... وقد تهدى النصيحة بالمغيب
أحظى كان سلسلة وقيداً ... وغلاً والبيان لدى الطبيب
أتاك بأنني قد طال حبسي ... فلم تسأم لمسجون غريب
وبيتي مقفر الأرجاء فيه ... أرامل قد هلكن من النحيب
يبادرن الدموع على عدي ... كشن خانه خرز الربيب
يحاذرن الوشاة على عدي ... وما قرفوا عليه من الذنوب
فقد أضحى إليك كما أرادوا ... وقد ترجى الرغائب ملمثيب
فإن أخطأت أو أوهمت أمراً ... ففد يهم المصافي بالحبيب
وإن أظلم فقد عاقبتموني ... وإن أظلم فذلك من نصيبي
فهل لك أن تدارك ما لدينا ... ولا تغلب على الرأي المصيب
فإني قد وكلت اليوم أمري ... إلى رب قريب مستجيب
وابتت عنده امرأته أميمة ليلة في السجن ومعها ابنته هند جويرية صغيرة. فلما رأت الغل قالت: يا أبت، أي شيء هذا في يدك؟ فبكت أمها من ذلك وبكت هي. فقال يذكر ذلك في شعره:
ولقد ساءني زيارة ذي قر ... بى صغير لودنا مشناق
ساءها ما بنا تبين في الأي ... دي وإشناقها إلى الأعناق
فلما نامت الصبية دنت منه أمها فحدثته ساعة، ثم قال:
فاذهبي يا أميم غير بعيد ... لا يؤاتي العناق من في الوثاق
واذهبي يا أميم إن يشأ الل ... ه يفرج من أزم هذا الخناق
أو تكن وجهة فتلك سبيل الن ... اس لا تمنع الحتوف الرواقي
فلما بعث إلى النعمان بأشعاره رق له وندم على ما جاء منه. فخشي أن يخلي عنه فيمكر به. وقد عرف ذنبه إليه. فتركه حتى جاءه كتاب من كسرى في أمر عدي فقطع به. فأمر حرس السجن بقتل عدي فقتلوه، وقال: إنه كان يتشكى. وأمر رسولي كسرى أن يدخلا السجن. فدخلا عليه وهو ميت، وأعطاهما النعمان ذهباً ليحسنا عذره عند كسرى، ففعلا.
وكان لعدي بن زيد ولد يقال له: زيد بن عدي، وكان أديباً عاقلاً، فتوصل زيد بن عدي إلى كسرى حتى أحله محل أبيه، ثم جعل زيد بن عدي يذكر نساء آل المنذر بالجمال والأدب، ويصفهن لكسرى ويرغبه فيهن، حتى اشتاق إلى النكاح منهن فقال زيد بن عدي: ابعث أيها الملك إلى النعمان في نكاح بعض بناته، وما أظنه يجيبك إلى ذلك احتقاراً لك. فكتب كسرى إلى النعمان كتاباً في بعض بناته، وأرسل رسولين، ومعهما زيد بن عدي. فلما دخلوا على النعمان قرأ الكتاب. فقال له النعمان: وما يصنع الملك بنسائنا وأين هو عن مها السواد - والمها: البقر الوحشية. والعرب تشبه النساء بالمها - فحرف زيد القول وقال: إنه قال: أين هو عن البقر لا ينكحهن. فطلب كسرى النعمان. فهرب منه حيناً، ثم بدا له أن يأتيه بالمدائن فأتاه. فلقيه زيد بن عدي، فقال له: انج نعيم، بالتصغير. فقال النعمان: لألحقنك بأبيك: قال زيد بن عدي: إني قد شددت لك أخية لا يقطعها المهر الأرن. فأمر كسرى فصف له ثمانية آلاف جارية صفين، فلما صار بينهن قلن: أما للملك فينا غنى عن بقر السواد. فعلم النعمان أنه غير ناج منه. ثم أرسل إليه: أنت القائل: عليك ببقر السواد؟ فأرسل إليه النعمان يعتذر. فأبى أن يقبل منه، وأمر به فبطح في ساباط الفيلة. فوطئته حتى مات. فقال الأعشى يذكر أبرويز:
هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه ... نحور فيولٍ بعد بيت مسردق
وفنى ملك آل المنذر. وولي كسرى إياس بن قبيصة الطائي، فوليها ثمانية أشهر، ثم مات إياس بعين التمر، واضطرب آل كسرى وضعف ملكهم، وظهر الإسلام.
وروى أن الحرقة بنت النعمان بن المنذر استأذنت في الدخول على سعد ابن أبي وقاص بالكوفة، وذلك بعد وقعة القادسية، وكانت في حياة أبيها إذا خرجت خرجت معها مائتا جارية، يفرشن لها الديباج، ويسترنها بمطارف الخز. فأذن لها سعد، فدخلت امرأة متضائلة. فقال لها سعد: أنت حرقة؟ قالت: نعم. فكرر عليها ثلاثاً. فقالت: وما الذي يعجبك من أمري يا سعد؟ كنا ملوك هذا المصر يجبى إلينا خرجه، ويطيعنا أهله، أيام المدة والدولة؛ فلما حل القدر، وأدبر الأمر، صاح بنا صائح الدهر؛ قفرق شملنا، وصدع عصانا، وسلبنا ملكنا. وكذلك الدهر يا سعد ليس يأتي قوماً بحبرة، إلا وأعقبه عبرة، وأنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيه سوقة نتنصف
فأف لدينا لا يدون نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف
قوله: يختلف بصرفه الملوان، في النبات والحيوان؛ فلخيره من الشر عقيب، وعلى النعم من النقم رقيب؛ كما اتعتقب في الطويل عقيبان، وارتقب في المضارع رقيبان؛ وذلك أن من المحار، حذفهما معاً في حال؛ إلا في شعر شاذ، قمن بإشقاذ؛ وأعباء المؤونة، تفتقر إلى معونة؛ افتقار السبعة النواقص إلى الأربع الصلات، وعوائدها التي هي عنها غير منفصلات.
صرف الدهر: حدثانه. والملوان: الليل والنهار. قال ابن مقبل العامري تميم بن أبي:
ألا يا ديار الحي بالسبعان ... أمل عليها بالبلى الملوان
وهما أيضاً الجديدان والعصران. قال النابغة:
لم يلبث العصران أن عصفا ... ولكل باب يسرا مفتاحاً
ومثله لحميد بن ثور:
ولا يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
العقيب: المعاقب. والرقيب: الحارس. ومنه قوله تعالى: (إلا لديه رقيب عتيد). والعقيبان، في الطويل: الياء والنون من مفاعيلن. والرقيبان، في المضارع أيضاً: الياء والنون من مفاعيلن إذا سقط أحدهما ثبت الآخر. حذفهما معاً. يعني أن العقيبين والرقيبين لا يجوز حذفهما معافي حال واحدة. والشاذ: القليل الذي لا يعتد به. ويقال: هو قمن بكذا وقمن وقمين، كل ذلك بمعنى، فإذا كسرت ميمه ثنيت وجمعت، وإذا فتحت الميم لم يجز التثنية ولا الجمع. الإشقاذ: الإقصاء والإبعاد. قال عامر بن كثير المحاربي:
لقد غضبوا علي وأشقذوني ... فصرت كأنني فرأ منار
والفرأ: حمار الوحش. ومنار: مطرود تارة بعد تارة. والأعباء: جمع عبء، وهو الثقل.
والسبعة النواقص، هي: الذي، والتي، وما، ومن، وأن، وأي، والألف واللام، في اسم الفاعل واسم المفعول. يجمعها قول الشاعر:
ألا إن أسماء النواقص سبعة ... وهي الذي ثم التي ثم ما ومن
وأي بعد هذا ثم لام مضافة ... إلى ألف من بعد ذلك ثم أن
هذه الأسماء السبعة لا تتم إلا بصلاتها، وصلاتها أربع: الفعل وما اتصل به من فاعل ومفعول وغير ذلك، والظرف، والمبتدأ وخبره، والجزاء وجوابه. ولا يفرق بينها وبين صلاتها بشيء ليس من الصلة ولا يجوز تقديم صلاتها عليها، ولا توقع بعد أخبارها، ولا يجوز نعت الاسم الموصول ولا توكيده ولا العطف عليه، ولا الاستثناء منه إلا بما صلته. وإنما لم يجز ذلك لأنه مع صلته بمنزله اسم واحد، تقول في الذي إذا وصلته بالفعل: الذي قام زيد. فالذي، رفع بالابتداء، وقام، صلته. وفي قام ضمير يعود على الذي. وتقول في التثنية: اللذان قاما الزيدان؛ وفي الجمع: الذي قاموا الزيدون. فإذا وصلت بالظرف قلت: الذي أمامك زيد، والذي خلفك عمرو، والذي في الدار أخوك وإذا وصلته بالابتداء والخبر قلت: الذي أبوه منطلق زيد، فالذي مبتدأ. وخبره زيد. وصلة الذي قولك أبوه منطلق. فالأب، مبتدأ ثان، وخبره منطلق، والهاء، في قولك أبوه هي العائد على الذي. وتقول ذا وصلته بالجزاء: الذي إن يأته تأتك زيد. فالذي، مبتدأ، وخبره زيد. والجزاء وجوابه صلة. ومثله: الذي إن تكرمه يكرمك زيد، وما أشبه ذلك. وسبيل مَا، ومَنْ سَبيل الذي في الصلة، إلا أنهما يقعان في التثنية الجمع بلفظ واحد على المذكر والمؤنث والاثنين والجميع، كقولك: من قام الزيدون، توحد الفعل، وإن شئت ثنيته وجمعته فقلت: من قاما الزيدان، ومن قاموا الزيدون. وقد جاءت اللغتان في كتاب الله تعالى في توحيد الفعل: (ومنهم من يستمع إليك). وقال في جمعه: (ومنهم من يستمعون إليك). وقال الفرزدق:
تمش فإن عاهدتني لا تخونني ... تكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وتقول في المؤنث: من قام هند، ومن قام الهندان، ومن قام الهندات. وإن شئت قلت: من قمت هند، ومن قامتا الهندان. ومن قمن الهندات. وقد قرئ في كتاب الله تعالى: (ومَنْ يَقْنَتْ منكنْ لله ورسوله). بالتاء والياء، على الوجهين جميعاً.
وسبيل مَا سبيل مَنْ في قولك: ما أكلت الخبز، وما شربت الماء. وسبيل أي إذا كانت خبراً سبيل مَا، ومَنْ. كقولك: أيهم في الدار أخوك. تريد: الذي في الدار أخوك. وكذلك: أيهم قام عمرو، وما أشبهه.
وأنْ إذا كانت بتأويل المصدر كقولك: أحب أن تقوم، ويعجبني أن تقوم.
والألف واللام، إذا كانتا بمعنى الذي والتي في اسم الفاعل والمفعول المشتقين من الأفعال، كقولك: القائم زيد، والخارج عمرو. وتقديره: الذي قام زيد، والذي خرج عمرو؛ وفي التثنية: القائمان الزيدان؛ وفي الجمع: القائمون الزيدون. تقديره: اللذان قاما الزيدان، والذين قاموا الزيدون، هذا في اللازم. وتقول في المتعدي: الضارب عمراً زيد، والضاربان العمرين الزيدان، والضاربون العمرين الزيدُونَ، هذا في الإخبار عن الفاعل. فإذا أخبرته عن المفعول قلت: الضاربه زيد عمرٌو. وتقديره: الرجل الذي ضربه زيد عمرو. وفي التثنية والجمع: الضار بهما الزيدانِ العمرانِ، والضاربهم الزيدون العمرون، قوله: وجار على غير السبيل جار، لا ينسخ ليله بإفجار؛ شاركته في الطبع بالجوار، شركة إعراب الجوار، في الخطاب والحوار، فالرواة منه في أمر مريج، لا يتفق له العلماء على تخريج؛ وحاسد، يبيع الثمين بكاسد؛ ويروم تغطية الشمس، براحته وأنامله الخمس، ينظر سليم الطرف بأحوله، نظر آخر الرجز إلى أوله؛ وخليل كاسمه خليل، بين الصحيح والعليل؛ يمد الكف بين الأساس والروي).
السبيل: الطريق الواضح، يذكر ويؤنث. والإفجار: موافاة الفجر. الحِوار، بالكسر: الجواب؛ يقال: كلمته فما رد إلى حوارا وحويراً ومحورة. والحوار، بالضم: ولد الناقة. قال الشاعر يصف الإبل:
رعت قطناً حتى كأن حوارها ... ملمعة دأياته بطلاء
والطلاء هاهنا: القطران. والدأيات: فقار الظهر، واحدتها دأية؛ ولذلك قيل للغراب: ابن دأية.
وإعراب الجوار، في مثل قول امرئ القيس:
كأن ثبيراً في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل
ولم يوجد لخفضه علة غير جوار ما قبله، وهي علة ضعيفة. وكان الأصمعي يرويه مزملُ بالرفع على الإكفاء، وهو من عيوب الشعر.
الرواة: جمع راوية للحديث والعلم. والمريج: المختلط. ومنه قوله تعالى: (فهم في أمر مريج). قال أبو دواد:
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد
فأما قوله تعالى: (مَرَجَ البحرينِ يلتقِيانِ) فإنما هو خلاهما فأرسلهما.
والثمين: غالي الثمن كثير من كل شيء. والكاسد: ضد الثمين؛ يقال: كسدت السلعة؛ ومنه قوله تعالى: (وتجارة تَخْشَون كسَادها). ويقال: إن الكسيد: الدون من كل شيء.
نظر آخر الرجز. يعني أن أول الرجز سالم تام وآخره ناقص قد دخلت عليه العلل، وقد تقدم ذكره. ومن الناس من لا يرى الرجز شعراً، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا ابن عبد المطلب، أنا النبي لا كذب). والله تعالى يقول: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له).
الخليل، الأول: الصديق، وهو من المخالة، وهي المصادقة، قال طرفة:
كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه
كُلهمُ أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحه
والخليل الثاني: مأخوذٌ من إخلال المودة، وهو نقصانها، ومنه اختلال الجسم، وهو نقصانه. والخليل. الفقير، وهو من إخلال الحال. والجرباء: السماء. قال ذو الرمة:
كأن في كبد الجرباء حاجته ... يرعى كواكبها طوراً ويرتقب
والحرباء. في هذا الموضع: ذكر أم حبين. والحرباء، أيضاً: مسامير الدرع. قال لبيد يصف درعاً:
أحكم الجنثي من عوراتها ... كل حرباء إذاً أكره صل
والحزباء الأرض الغليظة، بالزاي. ولا يلزم الشاعر إعادته بعينه وتكريره، وأي حروف المعجم، ما وقع بعد ألف التأسيس، فهو الدخيل.
والروي: الحرف الذي تبنى عليه القصيدة. وسنذكر في هذا الموضع جملة مختصرة من علم الروي يستدل بها من وقف عليها، فمن أحب علم ذلك بكماله فهو في مختصرنا المعروف: كتاب بيان مشكل الروي، وصراطه السوي.
اعلم ن الروي على وجهين: مطلق ومقيد. فالمطلق ما كان متحركاً موصولاً. ووصله بأحد أربعة أحرف، وهي: الهاء والواو، والياء، والألف. هذه حروف الوصل التي تأتي بعد الروي المتحرك، ولا يأتي بعدها شيء من الحروف، إلا أن تتحرك هاء الصلة فيجيء بعدها الخروج. والخروج أحد ثلاثة أحرف. وهي: الألف، والواو، والياء. ولا يكون بينه وبين الروي حرف غيره.
ويأتي قبل الروي أيضاً التأسيس والدخيل. فالتأسيس لا يكون إلا ألفاً ساكنة بينها وبين الروي حرف يسمى الدخيل. فهذه الحروف التي تأتي قبل الروي وبعده.
وأما الحركات فيه سبت، وهي: الرسن، والحذو، والتوجيه، والإشباع، والمجرى، والنفاذ. فالرسن: حركة ما قبل ألف التأسيس. والحذو: حركة ما قبل الردف. والتوجيه: حركة ما قبل الروي في المقيد، والفراء يسمى الدخيل توجيهاً، ويسميه، إذا دخل الفتح فيه على الكسر والضم، دخيلاً. والإشباع: حركة الدخيل في الشعر المطلق، ذكر ذلك سيعد بن مسعدة. وقيل إن الخليل لم يذكره. والمجرى: حركة الروي. والنفاذ: حركة هاء الوصل.
والمقيد من الروي ما سكن حرف رويه. وهو ينقسم على ثلاثة أضرب: مقيد مجرد، ومقيد مردف، ومقيد مؤسس.
فالمقيد المجرد لا يلزمه من الحروف إلا حرف واحد، وهو الروي، ولا من الحركات إلا حركة واحدة، وهي التوجيه فقط، وهي مثل قول الشاعر، وهو لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل
فاللام رويٌّ والحركة التي قبله توجيه.
والمقيد المردف يلزمه حرفان، وهما: الردف، والروي؛ وحركة واحدة، وهي الحذو. وهو مثل قول الشاعر:
يا صاح ما هاجك من رسم خال ... ودمنةٍ تعرفها وأطلال
اللام روي، والألف الذي قبله ردف، والفتحة التي قبل الألف حذو.
وأما ياء الردف وواوه فيعتقبان في القصيدة؛ لأن الضمة أخت الكسرة، ولا يجوز دخول الألف معها، وذلك مثل قول الشاعر:
يا أمة الواحد فيم الصدود ... والقلب عان في هواكم عميد
فالدال روى، والواو والياء ردف، والضمة التي قبل الواو والكسرة التي قبل الياء حذو.
والمقيد المؤسس يلزمه حركتان وثلاثة أحرف، فالحركتان الرسن والتوجيه. والأحرف: التأسيس، والدخيل، والروي. وهو مثل قول الشاعر:
نهنه فؤادك إن من ... يبكي من الحدثان عاجز
فالزاي روى، والجيم دخيل، وحركته إشباع. والألف التي قبل الجيم تأسيس، والحركة التي قبلها رسن.
والمطلق ينقسم على ثلاثة أضرب: مطلق يلزمه الخروج، ومطلق مردف، ومطلقٌ يلزمه التأسيس والخروج.
فالمطلق المجرد يلزمه حرفان، وهما الروي والوصل؛ وحركة واحدة، هي المجرى. وهو مثل قول امرئ القيس:
وتعطو برخص غير شئن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل
ومثله قول الأعشى:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا
ومثله قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وربيها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
ومثله قول طرفة:
أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه
واللام والدال والعين والميم في هذه الأبيات، كل حرف منها روي للبيت الذي هو فيه. فالياء التي بعد اللام، والألف التي بعد الدال، والواو التي بعد العين، والهاء التي بعد الميم، كل حرف منهن وصل للروي الذي قبله. وحركة الروي المجرى.
والمطلق المردف يلزمه حركتان: الحذو والمجرى؛ وثلاثة أحرف: الدف، والروي، والوصل. وهو مثل قول القطامي فيما كان ردفه ألفاً:
قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا
فالعين روي، والألف التي بعدها وصل، وحركة العين المجرى، وحركة ما قبل الردف حذو.
وما كان ردفه واوا أو ياء في المطلق، كقول امرئ القيس:
أبلغ سلامة أن الصبر مغلوب ... وإنما حبها شوق وتعذيب
ومثله قول الآخر:
وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول
والمطلق الذي يخرج يلزمه حركتان وثلاثة أحرف. فالحركتان: المجرى، والنفاذ. والأحرف: الوصل، والروي، والخروج. وهو مثل قول ابن هرمة فيما كان خروجه ألفاً:
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها
فالهمزة روي، والهاء وصل، والألف خروج، وحركة الهمزة مجرى، وحركة هاء الوصل نفاذ. وما كان خروجه ياء مثل قول الكميت:
وعلمك جهل إذا ما وثقت ... بمن ليس يؤمن من غدره
وما كان خروجه واواً مثل قول الشاعر:
وبلدٍ يضل فيه ركبه ... ما زلت حتى ذل عندي صعبه
والمطلق المؤسس الذي يلزمه الردف والخروج يلزمه أربعة أحرف وثلاث حركات. فالأحرف: الردف، والري، والوصل، والخروج. والحركات: الحذو، والمجرى. والنفاذ. وهو مثل قول لبيد فيما كان خروجه ألفاً:
عقت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأيد غولها فرجامها
الميم روي، وحركته مجرى، والهاء التي بعد الميم وصل، وحركتها نفاذ، والألف التي بعدها الهاء خروج، والألف التي قبل الميم ردف، والفتحة التي قبلها حذو. وما كان خروجه واواً مثل قول رؤبة:
وبلد عامية أعماؤه ... كأن لون أرضه سماؤه
وما كان خروجه ياء مثل قول الآخر:
فانقض مثل النجم من سمائه
والمطلق المؤسس يلزمه أربعة أحرف وثلاث حركات. فالأحرف: التأسيس، والدخيل، والروي، والوصل. والحركات: الرسن، والإشباع، والمجرى. وهو مثل قول الشاعر:
ألا يا ديار الحي بالأخضر اسلمي ... وليس على الأيام والدهر سالم
فالميم روي، والواو التي بعدها وصل، واللام التي قبل الميم دخيل، والألف التي قبل اللام تأسيس، والحركة التي قبل الألف رسن، وحركة اللام إشباع، وحركة الميم المجرى. ومثله فيما كان وصله ياء قول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
ومثله فيما كان وصله ألفاً قول جرير:
لنا كل مشبوب يروي بكفه ... غرارا سنان ديلمي وعامله
والمطلق المؤسس الذي يخرج يلزمه خمسة أحرف وأربع حركات. فالأحرف: التأسيس، والدخيل، والروي، والوصل، والخروج. والحركات: الرسن، والإشباع، والمجرى، والنفاذ. وهو مثل قول الشاعر فيما كان خروجه واواً:
وليل لا أنيس به ... مطحلبةٌ جوانبه
وردت وليله داج ... وقد غارت كواكبه
الياء روي، وحركته مجرى، والهاء وصل، وحركتها نفاذ، والواو التي بعد الهاء خروج، والنون في جوانبه دخيل، وحركته إشباع، والألف التي قبل النون تأسيس، والفتحة التي قبلها رسن.
ومثله فيما كن خروجه ياء مثل قول الشاعر:
أشكو إليك زماناً داؤه أبداً ... ينحي علي بكل من كلاكله
ومثله فيما كان خروجه ألفاً قول الشاعر:
يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يوافقها
فصل
في أحكام حروف الوصل إذا كانت رويا إذا تحرك ما قبل الهاء من سنخ الكلمة كانت روياً ولم تكن وصلاً، كقول رؤبة:
قالت أُبيلي لي ولم أسبه ... ما السن إلا غفلة المدله
فإن لم يكن من السنخ فهي وصل لا غير.
ويجوز أن تكون الهاء الأصلية وصلاً مع الهاء الزائدة، مثل أن تبنى القصيدة على كتابه وخطابه، ثم يجيء فيها المتشابه وما شاكل ذلك. وكذلك لو كانت القصيدة على جداره وحذاره، ثم جاء فيها الفاره والكاره لكان جائزاً.
وإذا سكن ما قبل الهاء كانت روياً ولا ينظر من سنخ الكلمة كانت أم من غيره، وذلك مثل قول جعل صريع الركبان يصف دلواً:
شلت يدا فارية فرتها ... وعميت عين التي أرتها
أساءت الخرز فأنجلتها ... أعارت الإشفى وقدرتها
مسك شبوبٍ ثم وفرتها ... لو كانت النازع أصغرتها
فالروي الهاء في هذه الأبيات.
وروى أبو الحسن العروضي أن أبا إسحاق سئل عن الروي في قول أبي عبادة:
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها
فزعم أنه الياء، فروجع في ذلك فلم ينتقل عنه. وإنما ذكر ذلك أبو الحسن يعيبه عليه؛ لأن مذهب الخليل والطبقة الذين بعده أن الروي الهاء في قول أبي عبادة، وأن الروي الساكن لا يكون بعده وصل، ومثل ذلك قول الشاعر:
إن قلبي كاد يكويه ... ذو دلالٍ لا أسميه
لان حتى لو مشى ذر عل ... يه كاد يدميه
هذا في الزائدة. وأما الأصلية فمثل قول الشاعر:
ألا لا قبح الرحم ... ن ذاك الوجه من وجه
فما إن عاين الناس ... له في الناس من شبه
وأما الواو، فإذا سكن ما قبلها وكانت أصلية لم تكن إلا روياً، مثل قول الراجز:
إني إذا ما خذلتني دلوي ... سقيت من حوض غزير الصفو
ما لم يكن في طرف من شكو
وكذلك إذا انفتح ما قبل الواو، لم تكن إلا رويا، ولا يجوز أن تكون وصلاً مثل: غزوا ورموا. وأنشد محمد بن يزيد المبرد ويحيى بن زياد الفراء في مختصرهما:
حدثنا الراوون فيما رووا ... أن شرار الناس قوم عصوا
وإذا انضم ما قبل الواو وكانت أصلية جاز أن تكون روياً، في مثل تخفيف: عدو وهدو، ويغزو ويدعو، وجاز أن تكون وصلاً، وكونها وصلاً أكثر عند الفصحاء. فإن كانت الواو المضموم ما قبلها غير أصلية لم تكن إلا وصلاً لا غير. وقد جاءت روياً في قول مروان بن الحكم، وهو محمول على الإقواء، وهو قوله:
هل نحن إلا مثل من كان قبلنا ... نموت كما ماتوا ونحيا كما حيوا
وينقص منا كل يوم وليةٍ ... ولا بد أن نلقي من الأمر ما لقوا
وأما الياء فإذا تحركت فإنها تكون روياً، ولا يجوز أن تكون وصلاً في مثل قول الشاعر:
رميتيه فأقصدت ... وما أخطأت الرميه
بسهمين مليحين ... أعارتكهما الظبيه
وكذلك إذا سكنت الياء وانفتح ما قلها فإنها تكون روياً أيضاً في مثل تخفيف الغيّ والطيّ وما شاكله.
وإذا سكنت الياء وانكسر ما قبلها فإنها تكون وصلاً، كانت من السنخ أو زائدة. وقد جعلها بعضهم روياً إذا كنت من السنخ مثل قول الشاعر:
ألم تكن حلفت بالله العلي ... إن مطاياك لمن خير المطي
ومثل قول الآخر:
أشاب الصغير وأفنى الكبي ... ر الغداة ومر العشي
إذا ليلة أهرمت أختها ... أني بعد ذلك يوم فتي
تروح مع المرء حاجاته ... وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجةٌ ما بقي
وكذلك إذا كانت الياء مخففة من ياء النسب مثل قول الشاعر:
فنجدية وحرورية ... وأزرق يدعو إلى أزرقي
فملتنا أننا مسلمون ... على دين صديقنا والنبي
وأما الألف، فإذا كانت بدلاً من التنوين، أو مع هاء التأنيث، أو كانت للترنم، فلا يجوز أن تكون رؤياً. وإذا كانت من السنخ أو كانت زائدة للتأنيث أو للإلحاق، فإن كونها روياً جائز، مثل أن تكون القافية على: كرى، وبلى، وعصا، والشنفري، وحبو كرى، وما شاكل ذلك، وهي التي تسمى المقصورة. قال الشاعر في ألف السنخ:
أتعب جوناتٍ معاً خفن المسا ... تسعاً وهقلا بينها يعدو النجا
وقال:
إن أمير المؤمنين قد بنى ... على الطريق علماً مثل الصوى
فصل
في اختلاف الحروف والحركات
وما يعاب من ذلك وما لا يعاب
ذكر التوجيه قد روي عن الخليل أنه كان يرى اختلاف التوجيه عيباً. إلا أنه يجيز الضمة مع الكسرة ولا يجيز الفتحة معهما. ولم يكن سعيد بن مسعدة والقراء يريان في ذلك بأساً. وقد جاء في أشعار الفصحاء؛ قال الأعشى:
أتهجر غانيةً أم تلم ... أم الحبل واهٍ بها منجذم
ثم قال:
وصهباء طاف بهوديها ... فأبرزها وعليها ختم
وقال أبو ذؤيب:
عرفت الديار لأم الرهي ... ن بين الظباء فوادي عشر
ثم قال:
فجاء وقد فصلته الشما ... ل عذب المذاقة يسراً خصر
وقد استعملوا ذلك في المقيد والمؤسس. قال الحطيئة:
شاقتك أظعان لليلي ... يوم ناظرةٍ بواكر
ثم قال:
الواهب المائة الهجا ... ن وفوقها وبرٌ مظاهر
قال الشيخ أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخي، المعروف بالمعري: هو عندي في المقيد والمؤسس أقبح منه في المقيد المجرد، لأنه يختلف الحرف بالحركات بين حرفين لازمين. وليس كذلك في المجرد.
ذكر الحذو والردف إذا كان بيت مردفاً وبيتٌ لا ردف له، فذلك من السناد، وهو عيب من عيوب الشعر، ولا يجوز، وهو مثل قول الحطيئة:
من الروم والأحبوش حتى تناولا ... بأيديهما مال المرازبة الغلف
ثم قال:
وبالطوف نالا خير ما ناله الفتى ... وما المرء إلا بالتقلب والظرف
ومنه قول الكسعي:
ندمت ندامة لو أن نفسي ... تطاوعني إذاً لقطعت خمسي
ثم قال:
تبين لي سفاهُ الرأي مني ... لعمر أبيك حين كسرت قومي
ويجوز في الردف دخول الواو على الياء والياء على الواو، ولا يجوز دخول الألف عليهما، وكذلك في الحذو، ولا يجوز دخول الضمة على الكسرة، والكسرة على الضمة، ولا يجوز دخول الفتحة عليهما. فإن دخلت فهو شاذ. وهو مثل قول عدي:
فوافاها رقد جمعت فيوجاً ... على أبواب حصن مصلتينا
ثم قال:
فقددت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذباً ومينا
ومثل قول عبيد:
فإن يك فاتني شابي ... وأمسى الرأس منه كاللجين
ثم قال:
فقد ألج الخباء على عذارى ... كأن عيونهن عيون عين
وكقول عمرو بن معد يكرب:
تقول ظعينتي لما رأته ... شريجاً بين مبيضٍ وجون
تراه كالثغام يعل مسكاً ... يسوء الغاليات إذا فلينى
ثم قال:
لصلصلة اللجام برأس مهري ... أحب إلي من أن تنكحيني
ذكر الرسن والتأسيس لا يجوز اختلاف الرسن ولا اختلاف التأسيس، لأن التأسيس ألف ساكنة مفتوح ما قبلها، فإذا انكسر ما قبلها وانضم خرجت عن كونها ألفاً ولم تكن بتأسيس. فإن وقع ذلك فهو من السناد ولا يجوز. وقد روى أن العجاج قال:
يا دار سلمى يا سلمى ثم اسلمي ... بسمسم أو عن يمين سمسم
ثم قال:
فخندفٌ هامة هذا العلم
وروي أن رؤبة كان يعيب هذا على أبيه. وحكى عن يونس النحوي أنه كان يهمز العالم على رأي من يرى همزه. وإذا صح ذلك فليس سناداً، لأن الهمزة من الحروف السالمة، ولا يكون التأسيس إلا أحد حروف الكلمة التي فيها الروي، فإن كانت الألف من غير الكلمة التي فيها الروي، فليست بتأسيس، وهو مثل قول العجاج:
ما هاج أحزاناً وشجواً قد شجا
ثم قال:
فهن يعكفن به إذا حجا ... يربض الأرطى وحقف أعوجا
عكف النبيط يلعبون الفنزجا
ومثل قول عنترة:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرةٌ على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم اشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمي
فإن كان ما بعد ألف التأسيس كلمة مضمرة قائمة بنفسها أو متصلة بحرف، كان البيت مؤسساً، فالأول مثل قول زهير:
رأيتهم لم يدفعوا بنفوسهم ... منيته لما رأوا أنها هيا
والثاني كقول الآخر:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
قال الشيخ أبو العلاء: وإذا كان التأسيس منفصلاً جاز أن يجعل لغواً، فإن بنيت القصيدة على مثل قولك: معطياً ومولياً، ثم جاء فيها: بداليا، لكان ذلك عند أهل العلم جائزاً، وذلك في الاستعمال. قال: وكذلك لو بنيت قصيدة أخرى قوافيها: منعماً ومكرماً، لجاز أن يجيء فيها: كما هما، على أن تجعل الألف في كما لغواً.
ذكر الدخيل والإشباع يجوز اختلاف الدخيل في ذاته، ولا يجوز اختلاف حركاته. وقد أجازوا الضمة مع الكسرة، لأنهما أختان، ولم يجيزوا الفتحة معهما، وجاء ذلك في أشعار الفصحاء. قال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلةٌ ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
ثم قال:
بمصطحبات من لصافٍ وثبرةٍ ... يزرن إلالاً سيرهن التدافع
وقال الهذلي:
لعمر أبي عمرٍ ولقد ساقه الردى ... إلى جدث يوزي له بالأهاضب
ثم قال:
فلم يرها الفرخان بعد مسائها ... ولم يهدآ في عشها من تجاوب
وهو كثير في أشعارهم غير معيب.
وأما دخول الفتحة على الكسرة والضمة فهو سناد، ولا يجوز ذلك، مثل قول ورقاء بن زهير:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالدٍ ... فأقبلت أسعى نحوه وأبادر
إلى بطلين ينهضان كلاهما ... يحاول نصل السيف والسيف نادر
ثم قال:
فشلت يميني يوم أضرب خالداً ... ويمنعه مني الحديد المظاهر
ذكر الروي والمجري لا يجوز اختلاف الروي ولا اختلاف المجري. فإن اختلف الروي فهو الإقواء، وهو عيب لا يجوز، مثل قول الراجز:
بازل عامين فتى سني ... لمثل هذا ولدتني أمي
وأما اختلاف المجرى، فهو الإكفاء، وهو من عيوب الشعر ولا يجوز، وهو مثل قول النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
ثم قال:
بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد
ذكر الوصل والنفاذ والخروج لا تختلف حركة الروي إذا كان الوصل واواً، وإذا اختلف حركة الروي، فهو الإكفاء، وهو من السناد، ولا يجوز، وقد تقدم تفسيره وأما الهاء فلا تختلف إذا كانت ساكنة، وإذا تحركت واختلفت حركتها فهو الإكفاء.
ومن عيوب الشعر: الإيطاء وهو إعادة القافية والمعنى واحد، وهو مثل قوله:
أبى القلب إلا أن تزيد بلابله ... وتهتاج من ذكر الحبيب بلابله
قال الفراء: هو إذا تقارب، وإذا تباعد لم يكن به بأس.
ومن عيوب الشعر: التضمين، وهو ألا يتم البيت إلا بما بعده، ويكون معناه في البيت الذي بعده، وقد استعمله الفصحاء، قال بشر بن أبي خازم:
وسعداً فسائلهم والرباب ... وسائل هوازن عنا إذا ما
لقيناهم كيف نعليهم ... بواتر يفلقن بيضاً وهاما
وهو كثير في أشعارهم. وبعضه أهون من بعض.
قوله: يتمثل كل ساعة في صورة، ولا يقف على طريقة محصورة، يلبس كل حين إهاب حرف، ويبدو في هيئة وظرف؛ ما ضره لو كان كالوصل والخروج، ولم يتنقل في المنازل والبروج، وأناس ليسوا على الحقيقة بناس، ولا الفكر بذاكر لهم ولا بناس؛ أهل نيرب ودد، خفضهم عن السؤدد، خفض ما بعد المائة من العدد، فهم في النسبة أنفار، وفي التجربة أصفار، ربيعهم جماد، وعِدُّهم ثِمَاد؛ ونَقْدهم عِدَّة ضِمَار، وجَوادهم وسكيتُهم مِضْمار، عندهم مَربع العالم، دارس المعالم.
الإهاب: الجلد ما لم يدبغ، وهو استعارة في هذا الموضع، لأن كل حرف من حروف المعجم يقع بين ألف التأسيس والروي فهو دخيل. وقد تقدم ذكره، وكذلك الوصل والخروج، قد تقدم ذكرهما.
والنيرب: النميمة، قال الراعي:
وفي الأقربين ذو أذاة ونيرب
والدد: اللهو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لست من ددٍ ولا ددٌ مني)، وكذلك الددن أيضاً: اللهو. قال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بددن ... إن همي في سماع وأذن
والسؤدد: العلو والشرف.
من العدد: فلا يكون ما بعد المائة إلا مخفوضاً بالإضافة، نحو مائة رجل ومائة امرأة، ومائتا رجل، وثلاثمائة رجل، وما شاكله، فإن نونت وأدخلت النون نصب على التفسير، قال الربيع بن ضبع الفزاري:
إذا عاش الفتى مائتين عاماً ... فقد ذهب اللذاذة والفتاء
والنسبة في الحساب الهندي: العدد، كقولك. واحد، اثنان، ثلاثة، وما شاكل ذلك.
والتجربة: الاختبار، قال النابغة يصف السيوف:
تخيرن من أزمان يوم حليمةٍ ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب
والأصفار: جمع صفر، وهو علامة لخلو تلك المنزلة التي هو فيها من العدد، وهو مأخوذ من صفرت يداه، إذا افتقر، وصفر البيت، إذا خلا، وقد تقدم ذكر ذلك.
والجماد: الأرض التي لم تمطر.
والعد من الماء: ما كانت له مادة فلا تنقطع أبداً.
والثماد: جمع ثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له فهو ينقطع، قال النابغة:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شرا وارد الثمد
والضمار: الوعد الكاذب، قال الراعي:
وأنضاء أنخن إلى سعيد ... طروقاً ثم عجلن ابتكارا
حمدن مزاره فأصبن منه ... عطاء لم يكن عدة ضمارا
والسكيت، بتخفيف الكاف وتشديدها: آخر خليل الحلبة وهو العاشر منها، وهي خيل تضمر للسباق، يقال للسابق من الخيل: المجلي، وللثاني: المصلي، وللثالث: المسلي. وللرابع: التالي، وللخامس: المرتاح، وللسادس: العاطف، وللسابع: الحظي، وللثامن: المؤمل، وللتاسع: اللطيم، وللعاشر: السكيت، وهو آخر الخليل سبقاً.
والمضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل للسباق، وهو أن يقصر بعد السمن على الحب وعلى الشيء اليسير من العلف.
والمربع: المنزل في الربيع خاصة.
والربع: المنزل في الربيع وغيره. وجعل منزل العالم مربعاً لما فيه من الفوائد، تشبيهاً بالمنزل في الربيع لما فيه من الخصب.
والمعالم: جمع معلم وهو الأثر، يعني: أن منزل العالم مهجور، وكذلك هو باليمن خاصة. وكان يقال لكل عالم من الناس: عالم بني فلان، وعالم أرض بني فلان، إلا وهب بن منبه، فكان يسمى: عالم الناس، وهو من أبناء فارس باليمن، فذكر وهب يوماً في مجلس الحسن البصري، فقال الحسن: وأي رجل! لكنه وقع بين حاكه. وقيل جاءه العلم بالعراق، وجاءه المال بمصر، وجاءه السلطان باليمن.
ومن أمثال الناس السائرة: قيل للعلم: أين تريد؟ قال العراق، قال العقل: وأنا معك. وقيل للمال: أين تريد؟ قال: مصر، قال البخل: وأنا معك. وقيل للحب: أين تريد؟ قال اليمن، قال الكرم: وأنا معك؛ وكذلك أهل اليمن بهذه الصفة، إلا أن العي غالب لهم.
ولما ظفر الحجاج بعبد الرحمن بن الأشعث، أتى بأيوب بن يزيد البليغ الفصيح، الذي يقال له ابن القرية ابن النمر بن قاسط، وكان ابن القرية، مع ابن الأشعث، فكان له وللحجاج حديث، فسأله الحجاج عن البلدان والأمصار وأهلها فوصفهم له بصفاتهم، حتى انتهى إلى اليمن، فقال له الحجاج: أخبرني عن اليمن؛ قال: أصل العرب، وأهل البيوتات والحسب، هم الدهماء عدداً، والبكم أبداً.
قوله: ومربع الأدِيب، مستوبل جديب.
المرتع: موضع الرُّتوع، وهو المرعى. قال قيس بن زهير العبسي:
تعلم أن خير الناس ميتٌ ... على جفر الهباءة لا يريم
ولولا بغيه ما زلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم
أظن الحلم دل على قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني ... فمعوج علي ومستقيم
والمستوبل: غير الموافق يقال: استوبل الرجل البلاد، إذا لم توافقه في جسمه.
فهما في الاجتراح فعل أمر، وفي الإطراح واو عمرو، أتى بها للفرق بينه وبين عمر، إذا اتسق بالكلام واستمر، واستغنى عنها بدخول الألف، التي جعلت عوضاً في المنصرف ظروف وغى، لا يظفر منهم بألمعي، يصفون رعا البذج والعدان، وكل ورع منهم هدان، بشدة فارس زبيد، وعبادة عمرو بن عبيد.
فهما: يعني: العالم والأديب أنهما موقوفان عن الاكتساب وقوف فعل الأمر، مطرحان عندهم اطرح واو عمرو.
والاجتراح: الاكتساب، ومنه قوله تعالى: (ما جرحتم بالنهار) وقوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) ومنه سميت كلاب الصيد: جوارح. قال تعالى: (وما علمتم من الجوارح) ومنه جوارح الإنسان، وهي أعضاؤه التي يكتسب بها، قال الحطيئة:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت جارحهم في قعر مظلمة ... فاغفر، عليك سلام الله يا عمر
يقال لهذا الفعل: موقوف، ولا يقال له: مجزوم، لأنه لم يدخل عليه عامل فيجزمه، فلما خلى من المضارعة خلا من الإعراب، وأصل البناء للأفعال والحروف إلا ما ضارع الأسماء من الأفعال، فأعرب لمضارعته إياها.
وأما واو عمرو: فإنما زادها الكتاب فرقاً بين مشتبهين، بين عمرو وعمر، في حال الرفع والخفض، فإذا صاروا إلى النصب حذفوا الواو، لأن الاشتباه قد زال بانصراف عمرو وزيادة الألف منه التي جعلت عوضاً من التنوين.
والظروف: جمع ظرف وهو الوعاء، وظروف الإنسان: جسمه، قال المغيرة بن حساء التميمي يهجو أخاه صخرا:
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... تفاضلت الطبائع والظروف
وأمك حين تنسب أم صدق ... ولكن ابنها طبع سخيف
والغي: الجهل يقال منه: رجل غيي، على فعيل وغي على فعل، وغيابا، ويقال أيضاً: فحل غيابا: إذا لم يهتد للضراب.
والألمعي: الذكي الفطن الذي يعرف الأمور قبل كونها، قال أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن الظن م ... كأن قد رأى، وقد سمعا
نصب الألمعي بفعل متقدم. وكذلك اليلمعي.
والبذج: الصغير من أولاد الضأن، قال أبو محرز المحاربي:
قد هلكت جارتنا من الهمج ... وإن تجع تأكل عتوداً أو بذج
والهمج ههنا، قيل: سوء التدبير في المعاش، وقيل الهمج: الجوع.
والعتود: الصغير من أولاد المعز، وهو ما رعى وقوى، وهو مثل البذج، وجمعه: عدان، والأصل: عتدان، مثل: قعود وقعدان، فأدغمت التاء في الدال لقرب المخرجين، لأنهما من الحروف النطعية وهي ثلاثة: الطاء والتاء والدال، ومخرجها من النطع، وهو ما ظهر من غار الفم الأعلى.
والورع: الجبان الهيوب، قال الراعي:
فبت أنجو بها نفساً تكلفني ... مالاً يهم به الجثامة الورع
قال ابن السكيت: هو الصغير الضعيف.
والهذان: الأحمق الخامل، وجمعه هذون، قال الراعي يصف الجواري:
يمشين مشي الهجان الأدم أقبلها ... خل الطريق هدان غير مهتاج
فارس زبيد: عمرو بن معدي يكرب الزبيدي، وكان أشد الناس وأشجعهم، من مضى منهم ومن غبر، وكان يقال لكل فارس من العرب: فارس بني فلان، إلا عمرو بن معد يكرب، فيقال له: فارس العرب جميعاً، وله أيام في الجاهلية مشهورة، وبقي إلى زمن عمر بن الخطاب. وشهد معه الفتوح، وشهد القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فأجمعت العرب والعجم على شدته. وله أشعار يتعتب فيها على سعد، منها قوله:
ألم خيالٌ من أميمة موهناً ... وقد جعلت أولى النجوم ثغور
ونحن بصحراء العُذيب ودارها ... حجازية أن المحل شطير
أكر بباب القادسية معلماً ... وسعد بن وقاص على أمير
وسعد أمير شره دون خيره ... كثير الشذى كابي الزناد قصير
تذكر هداك الله وقع سيوفنا ... بباب قديسٍ والمكر عسير
عشيةً ود القوم لو أن بعضهم ... يعار جناحي طائرٍ فيطيرُ
وقال أيضاً:
إذا قتلنا ولم يبك لنا أحد ... قالت قريش ألا تلك المقادير
ونحن بالصف إذ تدمى حواجبنا ... نعطي السوية مما يخلص السكير
نعطي السوية من طعن له بعد ... ولا سوية إذ تعطى الدنانير
وقال أيضاً:
وكانت قريش تحمل البر تارة ... تجاراً فأضحت تحمل السم منقعاً
واختلف الرواة في موت عمرو، فمنهم من قال: أنه استشهد في بعض فتوح عمر، وقال محمد بن الحسن بن دريد في كتاب الاشتقاق: أنه مات على فراشه من حية لسعته.
وأما عمرو بن عبيد بن ناب، فأصله من كابل من ثغور بلخ، وهو مولى لآل عرادة من يربوع بن مالك، وكان أبوه عبيد من أصحاب شرط بالبصرة، وكان الناس إذا رأوا عمراً مع أبيه قالوا: خير الناس ابن شر الناس، فيقول عبيد: صدقتم، هذا إبراهيم وأنا أزر.
ومن جبله أصحاب الحسن بن أبي الحسن البصري، وكان الحسن إذا ذكر، قال: خير فتيان هل البصرة.
قال أبو القاسم البلخي: لعمرو فضائل كثيرة لا يجمعها إلا كتاب مفرد، حج أربعين سنة ماشياً وبعيره يقاد يركبه الفقير والضعيف والمنقطع به، وكان يحي الليل كله في ركعة، فعل ذلك غير مرة في المسجد الحرام.
وقال أبو جعفر المنصور، لما صلى على قبر عمرو بن عبيد بمران: ما بقي على الأرض أحد يستحي منه.
ورثاه المنصور فقال:
صلى عليك الله من متوسد ... قبراً مررت به على مران
قبراً تضمن مؤمناً متحنفاً ... صدق الآله ودان بالقرآن
فلو أن هذا الدهر أبقى واحداً ... أبقى لنا حقاً أبا عثمان
وكان عمرو يكنى: أبا عثمان.
وقال بعضهم: إن المنصور أنشد الأبيات وهي لغيره. وذكر العتبي أنها للمنصور.
وقال المنصور: القيت الحب للناس فلقطوا إلا عمرو بن عبيد، ومعاذ بن معاذ، ثم إن معاذاً أثنى جناحيه فلقط.
وكان سفيان بن عيينة يقول: ما رأيت عيني مثل عمرو بن عبيد، وقد رأى التابعين فمن دونهم.
وقال بعضهم: رأيت عمراً بمكة، فرأيته كأن حديث عهد بمصيبة، ثم رأيته بمنى، فرايته كأنه أحضر للقود، ثم رأيته بعرفة فرأيت رجلاً كان النار لم تخلق إلا له.
قوله: وفهم حكيم فرهود، وبركة كليم المهود.
يعني بحكيم فرهود: الخليل بن أحمد العروضي النحوي وفرهود حي من الأزد بعمان، ويقال لهم الفراهيد أيضاً، منهم الخليل بن أحمد هذا، وهم من ولد فرهود بن شبان بن مالك بن فهم أخي جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله ابن مالك بن نضر بن الأزد ويقال الأسد.
وكان الخليل ذكياً فطناً لطيفاً عالماً، وهو أول من استخرج علم العروض وابتدعه، وفتق عيون النحو وشرح علله؛ وهو صاحب كتاب العين، الذي هو أصل لكتب اللغة ومنه تفرعت، وكان الخليل شاعراً فصيحاً، فقيل له: لم لا تقول الشعر؟ فقال: لأني آبي رديه ويأباني جيده.
قال ابن قتيبة: أنشدني ابن هاني، قال: أنشدنا سعد بن مسعدة الأخفش للخليل بن أحمد:
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
قال وأنشدنا له أيضاً:
كفاك لم تخلقا للندى ... ولم يك لؤمهما بدعه
فكفٌ عن الخير مقبوضة ... كما خط عن مائه تسعه
وأخرى ثلاثة آلافها ... وتسعمئنيها لها شرعه
وقال أيضاً:
الله صور كفه ... مما يراه فأبدعه
من تسعة في تسعة ... وثلاثة في أربعه
وكان الخليل ورعاً ديناً مع علمه، ودرس في علم النحو فبلغ منه مبلغاً ثم رفضه، والخليل أيضاً القائل:
أبلغ سليمان أني منه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخا بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هولاً ولا يبقى على حال
فالرزق عن قدرٍ لا الضعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه خول مختال
ُوالفقر في النفس لا في المال تعرفه ... ومثل ذاك الغنا في النفس لا المال
وأما كليم المهود: فهو عيسى عليه السلام، وأمه هي مريم بنت عمران ابن ماثان بن يعاقيم من ولد داود عليه السلام من سبط يهودا ابن يعقوب. وكان زكريا أيضاً من ولد داود. وكان هو وعمران في زمن واحد. وكانت تحت زكريا أشياع بنت عمران أخت مريم، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابنى خالة، وكان زكريا نجاراً، وأشاعت اليهود أنه ركب من مريم الفاحشة. وقتلوا زكريا في جوف شجرة قطعوها وقطعوه معها.
قال ابن قتيبة في كتاب المعارف: ويذكر في الأنجيل أن يوسف بن داود النجار خطب مريم وتزوجها، فلما صارت عنده وجدها حبلى قبل أن يباشرها، وكان رجلاً صالحاً، فكره أن يفشي عليها، وعزم على أن يسرحها خفة، فتراءى له ملك في النوم فقال: يا يوسف بن داود:؛ إن امرأتك مريم ستلد غلاماً يسمى عيسى، وهو ينجي أمته من خطاياهم.
ونشأ عيسى في حجر يوسف بن داود، وذهب به وبأمه إلى أرض الخليل، فسكن بها قرية تسمى: نصران، من أرض الشام، وقيل: ناصره، فلذلك قيل: نصارى.
وقد قص الله تعالى في كتابه من خبره وخبر أمه وكلامه في المهد، وإحيائه الموتى أبين القصص.
قوله: (وسخاء أبي عدي، ووقارسيد أهل الوبر في الندى).
الندى والنادي: المجلس، ومنه قوله تعالى: (وتأتون في ناديكم المنكر).
وأبو عدي: حاتم بن عبد الله بن سعيد الحشرج الطائي، الجواد، أكرم الناس جميعاً، وأسخاهم، لماضيهم وغابرهم، وكرمه مشهور، يمثل به العالم والجاهل، يزداد جدة على مر الليالي والأيام.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بساياطي، وفيهم جارية ظاهرة الجمال. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فقلت: لأستوهبنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله: إني بنت من يشبع الجائع، ويكسو العاري، ويفك العاتي، ويؤثر الجار على نفسه، وما رد طالب حاجة قط، إني بنت حاتم طي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يحب مكارم الأخلاق، ولو كان أبو ك مسلماً لترحمنا عليه)، وخلى سبيلها.
وابنه عدي بن حاتم، كان يكنى أبا طريف، وكان طوالاً، إذا ركب الفرس كادت رجلاه تخطان الأرض.
وقدم على عمر بن الخطاب، فكأنه رأى منه جفاء، فقال: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ فقال: بلى والله أعرفك، أكرمك الله بأحسن المعرفة: أسلمت إذ كفروا، وعرفت إذ نكروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، فقال: حسبي يا أمير المؤمنين، حسبي.
وشهد مع علي رضي الله عنه يوم الجمل، ففقئت عينه في ذلك اليوم، وقتل ابنه محمد، وقتل ابنه الآخر في قتال الخوارج.
وشهد عدي مع علي عليه السلام صفين، ومات في زمن المختار، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وأوصي ألا يصلي عليه المختار.
ولا عقب لعدي بن حاتم من الذكور، وإنما عقب حاتم بن عبد الله الطائي من ولد عبد الله بن حاتم، وهم ينزلون بنهر كربلا.
ودخل رجل على المأمون، فكلمه بكلام أعجبه، فقال: ممن الرجل؟ فقال: من طي. فقال: من أي طي؟ فقال: من ولد عدي بن حاتم. فقال المأمون: ألصلبه؟ قال الرجل: نعم. فقال المأمون: هيهات أضللت؟! إن أبا طريف لم يعقب.
وأما سيد الوبر: فهو قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر التميمي، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد تميم بعد الفتح فأسلم، وكان شريفاً، وسماه صلى الله عليه وآله وسلم: سيد أهل الوبر، وهو الذي رثاه عبدة بن الطيب فقال:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من غادرته غرض الردي ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وكان لقيس من الولد ثلاثة وثلاثون ابناً، وكان قيس موقوراً حليماً.
وكان الأحنف بن قيس، واسمه: صخر بن قيس، وقيل: الضحاك بن قيس التميمي أحلم العرب جميعاً.
وقيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ فقال: من عمي قيس بن عاصم، والله لقد كان ذات يوم يحدثنا بحديث، إذا أقبل جماعة معهم قتيل يحملونه وأسير موثق يقودونه، فقالوا لقيس: هذا ابنك قتله ابن أخيك، فوالله ما حل حبوته ولا قطع حديثه حتى فرغ منه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال: يا بني، والله ما ضررت إلا نفسك، ولا قطعت إلا يدك، ولا قصصت إلا جناحك، ولا أهنت إلا عضدك. ثم قال لبنيه: حلوا الرباط عن أخيكم، واذهبوا جميعاً فواروا أخاكم، وادفعوا إلى أمه مائة من إبلي، فإنها امرأة فينا غريبة.
قوله: وبيان شيخ إياد، وقصيد الضليل وزياد.
يعني بشيخ إياد: قس بن ساعدة الأيادي، وهو حكيم العرب وفصيحها، وأول: من قال: أما بعد، وكان على دين المسيح، قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بعكاظ على جمل أحمر وله حديث.
والضليل: كثير الضلال، كما يقال: رجل شريب: كثير الشراب.
وعني بالضليل: امرؤ القيس بن حجر الملك الكندي، وسئل علي رضي عنه: من اشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل. وذكر امرؤ القيس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ذلك سيد الشعراء وحامل لوائهم يوم القيامة بيده يقودهم حتى يدهدى في النار.
وحكى هذا الخبر الأعشى، فقال: ليت هذا القول قيل لي، وأنا المدهدي في النار.
قال أبو عبيدة: مر لبيد بن ربيعة، بمجلس لنهد بالكوفة، وكان يتوكأ على عصا، فلما جاوزه أمروا فتى منهم أن يلحقه فيسأله: من أشعر الناس؟ ففعل. فقال له لبيد: الملك الضليل، يعني: امرء القيس، فرجع، فقالوا: ألا سألته: ثم من؟ فرجع فسأله، فقال: صاحب المحجن، يعني نفسه.
وأما زياد: فهو زياد بن عمرو، وهو النابغة الذبياني، وهو من فحول الشعراء. قوله: ووفاء رب الأبلق الفرد، في الترك المتروك عنده والسرد.
الترك: جمع تركة: وهي البيضة، وبيضة الحديد. قال لبيد يصف درعاً:
فخمة ذفراء ترني بالعرى ... قرد مانياً وتركا كالبصل
وفخمة: أي ضخمة. وذفراء: منتنة الريح. وترني: أي تشدد. والقردماني: حصن كان له بتيماء.
والسموءل بن عاديا وفي العرب، يضرب بوفائه المثل، وكان من خبره: أن امرأ القيس بن حجر الكندي لما سار إلى ملك الروم قيصر مستنصراً على بني أسد، حين قتلوا أباه، مر في طريقه بالسموءل بن عادياء، من السلاح والمتاع، فوجه إلى السموءل رجلاً من أهل بيته، يقال له: الحارث بن مالك في جيش عظيم. فلما دنوا من الحصن، حصن السموءل، أغلق باب الحصن وامتنع فيه. فقال له الحارث: أعطني سلاح امرئ القيس. فقال: لا سبيل إلى ذلك. وكان للسموءل ابن خارج الحصن يتصيد، فظفر به الحارث، فقال للسموءل: إختر: إما تسليم سلاح امرئ القيس، وإما قتل ابنك؟ فقال: لا أسلم وديعتي أبداً، فاصنع ما أنت صانع. فقتل ابنه، فضربت العرب المثل بوفاء السموءل، فقال
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار
إذا سامه خطتي خسف فقال له ... قل ما تشاء فأني سامع حار
فقال: ثكل وغدر، أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
وقال آخر:
فاعتبر بابن عادياً أخي الحصن بتيماء من سراة اليهود
إذ أتاه الهمام فابتاع منه ... خفرة الجار بابنه المودود
فابتنى بالوفاء مكرمة الدهر ولم يرض باللقا الزهيد
قوله: ويجعلون الخاظئ من الهزلي، والشاكي من العزلي، ويحسبون أن السراب ما تروى به الظما، أين السراب، من السراب، من الشراب، والآل، من ضحضاح اللآل؟ كم غر خايله جهام، وسر خامله كهام، أذهل من سوائم الأنعام، إلا في كفاية العام، من الشراب والطعام، ومذاهب ضاقت فيها المذاهب، وتضاهى اللص والراهب، أطل منها الفهم، على وهم، وظفر القلب، بخلب، يسندون إلى الأحبار الأخبار، ويولون عن ألبابهم الأدبار، ويفندون العقول، بخبر منقول، وهنت منه القوى، وهن الأقوى، وضعف الأسناد، ضعيف السناد، بين طب، داع إلى عطب، يفيد جليسه، تدليسه، ويمنح إخوانه، زوانه، قد فتن بمين راقه، ضمنه أوراقه، يتعلق برواية، من الغواية، وعلة، من التعلة، وخلاف، عن الأسلاف، ويحتج بحائف، من الصحائف، وفاتر، من الدفاتر، يتلومنها سطوراً، أصبح عمودها عن الرشد ماطوراً فهي حبالة المنمس، وصحيفة المتلمس.
الخاظئ: السمين، قال امرؤ القيس:
لها متنتان خطاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
أراد خظاتان، فحذف النون استخفافا، ويقال: أراد خظتا، فرد الألف التي كانت سقطت لاجتماع الساكنين في الواحد لما تحركت التاء. وقال آخر:
خاظي البضع لحمه خظا بظا
والهزلى: جمع مهزول. قال المرار:
ترى فصلانه في الورد هزلي ... وتسمن في المقالي والحبال
والشاكي: ذو الشوكة وهو الحد في سلاحه. ومنه قوله تعالى: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم). وهو قلب الشائك.
والعزلي: جمع أعزل وهو الذي لاسلاح معه.
والسراب: الذي يكون نصف النهار لاطئاً بالأرض، ومنه قوله تعالى: (كسراب بقيعة).
والآل: الذي يرفع الشخوص بالغداة في هذا الموضع. والآل: آل الرجل، وهم أشياعه، وأتباعه وأهل ملته. ومنه قوله تعالى: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب).
ومنه قول القائل في الصلاة وغيرها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. قال عبد المطلب ابن هاشم:
نحن آل الله في بلدته ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم
يريد: إبراهيم الخليل عليه السلام. ويقال: آل الأمير: رعيته إذا ساسها، ومنه قول عمر: قد ألنا وأيل علينا. وآل الرجل أيضاً: أهله، وهو من الأول.
والضحضاح: الماء القريب القعر.
وخايله: أي راجيه.
والجهام: السحاب الذي لا ماء فيه. والكهام: السيف الذي لا يقطع، والرجل الكهام: الذي لا جداء عنده، هو من الأول.
والذهول: الغفلة والنسيان. ومنه قوله تعالى: (يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت).
والسوائم: جمع سائمة، وهي التي ترعى، ومنه قوله تعالى: (فيه تسيمون) والمذاهب: الأولى: جمع مذهب، وهو الدين، والمذاهب الأخرى: جمع مذهب: وهو السيرة والقصد.
والمضاهاة، والمقاناة، والمشابهة: بمعنى واحد، ومنه قول الله تعالى: (يضاهون قول الذين كفروا).
واللص: الخارب، والخارب: الذي يسرق البعران خاصة.
والراهب: واحد الرهبان، وهم العباد.
وأطل: أي أشرف.
والقلب: الرجل المنقلب في الأمور من عمله بها، يقال: رجل حول قلب، أي متقلب متحول من الحيلة. يقال: تحول وتحيل، وبالواو أفصح.
والخلب: البرق الكاذب.
والأسناد: النص والرواية.
والأحبار: جمع حبر، وهو العالم - بكسر الحاء - مشتق من الحبر وهو المداد، لأنه يحفظ العلم، كما يحفظه المداد، وقد تفتح الحاء، والكسر أفصح، لأنه يجمع على أحبار.
والتفنيد: التكذيب ومنه قوله تعالى: (لولا أن تفندون) والقوى: جمع قوة.
والوهن: الضعف، منه قوله تعالى (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) والأقواء والسناد: من عيوب الشعر، وقد تقدم ذكر ذلك.
والطب: العالم. والعطب: الهلاك.
والتدليس: خلط الباطل بالحق. ومنه تدليس البائع السلعة على المشتري، إذا كتم عيبها.
والزوان: الاخلاط الغثة في الطعام من الحنذره وغيرها.
والمين: الكذب.
ويقال: راقه الشيء: إذا أعجبه، يروقه، فهو له رائق.
والتعلة: ما يتعلل به، مثل التحلة: ما يتحلل به. ومنه قوله تعالى (تحلة أيمانكم).
والأسلاف: الآباء والكبراء.
والحائف: المائل.
والفاتر: الضعيف، ومنه فتور العين.
والمأطور: المعطوف. يقال: أطر العود يأطره أطراً: إذ عطفه، وفي الحديث: (يأطروه على الحق أطراً)، أي يعطفوه، وتأطر الرمح: تثنيه وانعطافه. قال الشاعر:
ونتم أناس تشمصون عن القنا ... إذا صاد في أكنافكم وتأطرا
الشمص: الطرد، قال الشاعر:
وحث بعيرهم حاد شموص
والمنمس: الذي يتخذ الناموس، والناموس: قترة الصائد.
والمتلمس: لقب جرير بن عبد المسيح بن عبد الله الشاعر منم بني دوقن من ضبيعة بن ربيعة من نزار، ويسمى: المتلمس، لقوله:
قهذا أوان العرض جن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
وكان المتلمس ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة هو وطرفة بن العبد، الشاعر، من قيس بن ثعلبة بن عكابة، من بكر بن وائل، فهجوا عمراً، فمن هجائهما قول طرفة:
إن شرار الملوك قد علموا ... طراً وأدناهم من الدنس
عمرو وقابوس وابن أمهما ... من يأتهم للخنا بمحتبس
يأتي الذي لا تخاف سبته ... عمرو وقابوس قينتا عرس
يصبح عمرو على الأمور وقد ... خضخض ما للرجال كالفرس
فلما علم عمرو بهجائهما إياه: كتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين يأمره أن يقتلهما أقبح قتله، وقال لهما: قد كتبت بحائزتكما إليه، فانصرفا، حتى إذا صارا في النجف، قال المتلمس لطرفة: يا طرفة أنت حدث غر، وكلنا قد هجا الملك ولا آمن مكره بنا في كتابيه، فهل لك أن تقرأ كتابيه؟ فقال طرفة: همة الملك أرفع من هذا، ولو هم بذلك لكان على بابه أعظم لهيبته.
وغدا المتلمس إلى غلام من أهل الحيرة ليقرئه الصحيفة. ومضى طرفة ولم يلو عليه. فلما قص الغلام الصحيفة إذا فيها: أما بعد، فإذا أتاك الملتمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً. فقال الغلام: ثكلت المتلمس أمه، وهو لا يعرفه. فأخذ المتلمس الصحيفة وخرج لأن يحدث طرفة ويرده فلم يلحقه. فألقى المتلمس صحيفته في نهر الحيرة وقال:
وألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضلل
رضيت لها لما رأيت مدادها ... يجول به التيار في كل جدول
والثني: ما انثنى من الوادي والنهر، والكافر هاهنا: النهر العظيم، واقنو: أجزى، والقط: الصحيفة والصك، والبيت الأول مجزوم.
وهرب المتلمس نحو الشام، وأتى طرفة إلى عامل البحرين، فقتله، فقال المتلمس:
من مبلغ الشعراء عن أخويهم ... خبراً فتصدقهم بذاك الأنفس
أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حياته المتلمس
ألقى صحيفته ونجت كوره ... عنس مداخلة الفقارة عرمس
فضربت العرب المثل بصحيفة المتلمس.
وقد ذكرها الفرزدق في شعره إلى مروان بن الحكم، وذلك أن الفرزدق مدح سعيد بن العاص بشعر يقول فيه:
ترى الغر الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر بالحدثان عالاً
قياماً ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به الهلالا
فقال مروان: ألا جعلتهم جلوساً؟ فقال: لا والله إلا قياماً، وأنت من بينهم صافن، فحقد ذلك عليه مروان، وكتب له كتاباً مختوماً إلى بعض عماله يأمره فيه يجلد الفرزدق، فأبى الفرزدق أن يغدو إلى العامل، فكتب إليه مروان:
قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
أي: الحق بنجد، يقال: جلس: إذا أتى نجداً، فرد عليه الفرزدق:
يا مرو إن عطيتي محبوسة ... ترجو الحباء وربها لم ييأس
وأمرت لي بصحيفة مختومة ... يخشى علي بها حباء النقرس
ألق الصحيفة يا فرزدق إنها ... نكراء مثل صحيفة المتلمس
قوله وأب، أفرى وما رأب، يلقن وليده، تقليده، يلهم ابنه، افنه، فحفظ الآخر عن الأول، ما ليس عليه بمعول، وبعض على بعض زار، وهو مثقل من الأوزار، يرى ضده جاهلاً غبياً، ولو كان صديقاً أو نبياً، ويجعل مخالفه مخطياً، وعن اللحاق بالسوابق مبطياً، ويعد سكيته سابقاً مجلياً، لا لاحقاً مصلياً، ومجلى غيره فشكلاً، وجليه الواضح مشكلا، كل يداوي سقيماً من مقالته، فمن لنا بصحيح ما به سقم؟ غلبت على الفطن الأهواء، فكل جؤجؤ هواء، واستحسنت الأسواء، فالحسن وضده سواء، كل يؤسس على هار، ويصل الليل بلا نهار، قد صك بالعمى، صكة عمى، وشغف بالغي، شغف غيلان بمي، بذ الداء كل أس، وأعجز رد العضد من الآس، صمي لقد أغرب هاتف الحمام، وأتى لوي الكمد بإمام، أغتى من طرب، أم هتف لغير أرب، لعله فقد غلفاً، فرضع من مر الفراق خلفاً، فهو عروة الحمائم، ومرقشهن الهائم، أو فجع بهديل، موف على البديل، هلك بزعمهم في عصر نوح، وكل حمامة تؤبنه وتنوح، تأبين متمم لمالك، ومراثيه لأخيه الهالك، وعلم ربك ما في الصدور، وحم على الرضا والسخط كل مقدور.
أفرى، يقال: أفرى الرجل الشيء: إذا أفسده، وفراه: إذا أصلحه.
والرأب: الإصلاح، يقال: رأب الشيء يرأبه: إذا أصلحه.
والأفن: قلة العقل، والأفن: إحصاء ما في الضرع من اللبن، قال المخبل التميمي، ثم أحد بني قريع، واسمه الربيع بن ربيعة:
إذا أفنت أروى عيالك أفنها ... وإن حينت أربى على الوطب حينها
والغبي: ذو الغباوة، وهي قلة الفطنة، يقال: غبي عن الأمر يغبو غباوة، وقال أبو عبيد: غبيت الشيء أغباه، وغبي علي مثله.
والصديق: كثير التصديق، مثل الشريب: كثير الشراب، وما شاكله، ومن ذلك سمي أبو بكر الصديق: لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: والصديقين والشهداء والصالحين).
وأما النبي: ففيه وجهان، إذا همزته فهو من الأنباء، وهو الأخبار عن الله عز وجل، وإذا شددته ولم تهمزه، فهو من النبوة، والنباوة: وهو الارتفاع، والنبي: الطريق، النبى: المكان المرتفع، قال أوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة الأسدي:
على السيد الصعب لو أنه ... يقوم على ذروة الصاقب
لأصبح رتماً دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاثب
الكاثب هنا: اسم جبل فيه رمل، وحوله رواب يقال لها النبي، الواحد: ناب، مثل غار وغرى، يقول: لو قام فضالة على الصاقب، وهو جبل، يذلله لسهل له حتى يصير كالرمل الذي في الكاثب، ونصب مكان على الظرف، ويقوم: بمعنى يقام. والرتم: الكسر والدق.
والسكيت والمجلي والمصلي: من خيل الحلبة، وقد تقدم ذكر ذلك، والفشكل: هو السكيت.
والجؤجؤ: الصدر، والهواء: الذي لا عقل له؛ قال زهير:
كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء
والتأسيس: البناء. والهار: المنهدم، وهو الهائر أيضاً، يقال هار البناء يهور، وتهور، وانهار: إذا انهدم، ومنه قوله تعالى: (فانهار به في نار جهنم).
وصكة عمي: نصف النهار، يقال إن رجلاً من العرب يقال له عمي أغار على قوم نصف النهار فأخذهم، فسمي ذلك الوقت صكة عمي. والشغف: أشد الحب، ومنه قوله تعالى (قد شغفها حباً) أي بلغ الحب شغفها، والشغاف: غلاف القلب.
وأما غيلان: فهو غيلان بن عقبة، وهو ذو الرمة الشاعر. ومي: المرأة التي يشبب بها، وهي من ولد طلبة بن قيس بن عاصم المنقري.
وبذ الداء: أي غلب الداء. والآسي: المداوي، يقال: أسا يأسو، فهو آس، أي داوى، فهو مداو.
والعضد: الشجر المقطوع، قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
فالطعن شغشغة والضرب هيقعة ... ضرب المعول تحت الديمة العضدا
الشغشغة: حكاية صوت الطعن. والهيقعة: حكاية صوت الضرب بالسيف. والمعول: الذي يبني عالة، وهي شجرة يقطعه الراعي فيستظل به. وقال: تحت الديمة: لأنه أسمع لصوته إذا ابتل. والمعول: الذي يتخذ العالة. والعالة: شبه الظلة يستظل بها عن المطر.
والآس: الرماد في هذا الموضع. والآس أيضا: الهدس.
ويقال للداهية: صمي صماء، مثل جذام وقطام، مبنى على الكسر، أي: زيدي.
ويقال: أغرب الرجل، إذا أتى بالغريب، وكذلك غيره. والكمد: الحزن. والطرب: خفة تصيب الإنسان من شدة الفرح أو شدة الغمر. والأرب: الحاجة في هذا الموضع، وكذلك الأربة والمأربة، بفتح الراء وضمها. والأرب أيضاً: العلم والعقل، قال أبو العيال الهذلي في عبد بن زهرة:
يلف طوائف الفرسا ... ن وهو بلفهم أرب
والإلف: الصاحب، وكذلك الأليف. قال الشاعر:
وكل أليف فاقد لأليفه ... ومعترف بالبين حتى البهائم
والخلف والطبي: الضرع، وجمعه أخلاف وأطباء.
وعروة ومرقش: رجلان من الشعراء. والهائم: المشتاق في هذا الموضع. والهائم: العطشان، والهيام: العطش، والهيم: الإبل التي أخذها الهيام، وهو داء.
والهديل: الذكر من الحمام، ويسمى أيضاً: ساق حر. قال حميد بن ثور الهلالي:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامه ... دعت ساق حر ترحه وترنما
وحم: أي قدر. وأحم: أي دنا. قال:
حييا ذلك الغزال الأحما ... إن يكن الفراق أجما
والعرب تزعم أن هديلاً كان في عصر نوح صاده خارج من جوارح الطير، فكل حمامة تبكي عليه من ذلك الوقت إلى آخر الدنيا.
والموفى: الزائد في هذا الموضع، والموفى: المشرف. والبديل: البدل. والتأبين: مدح الميت. والتقريظ (بالظاء والضاد المعجمتين): مدح الحي.
وأما متمم: فهو متمم بن نويرة اليربوعي الشاعر، وله مرات كثيرة في أخيه مالك بن نويرة، منها قوله:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
قلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ومنها قوله:
وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك
الأسى الأول: جمع أسوة وهي التعزية، ومنه قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
والأسى الثاني: الحزن، وهو مصدر أسى يأسى: إذا حزن، ومنه قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم).
وكان مالك بن نويرة ممن قتل في الردة، قتله خالد بن الوليد، وتزوج امرأته، وقتل من قومه مقتلة عظيمة، وبهذا السبب سخط عمر بن الخطاب على خالد بن الوليد.
ودخل متمم بن نويرة على أبي بكر، وهو يصلي بالناس، وكان متمم رجلاً ذميماً أعور، فاتكأ على سية قوسه ثم قال يرثي أخاه مالكاً:
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت ... خلف الستور قتلت يا ابن الأزور
فقال أبو بكر: زد، فبكى متمم وانحط على سية قوسه حتى دمعت عينه العوراء، ثم قال:
لا يمسك العوراء تحت ثيابه ... حلو شمائله عفيف المئزر
ولنعم حشو الدرع كنت وخاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنور
فقام إليه عمر بن الخطاب، وقال: لوددت أني رثيت أخي بما رثيت به أخاك.
فقال له متمم: رفه عنك أبا حفص، فلو صار أخي حيث صار أخوك ما رثيته.
فقال عمر: ما عزاني أحد عن أخي يمثل تعزيتك.
وكان زيد بن الخطاب استشهد يوم مسيلمة.
قوله: إلا أنه سلم من كفر واسلام، وتحصن عن الملام بأحصن لام، وتحلى بأطواق، لم تبع في الأسواق، واستشار جذلاً بمذل، ناء عن العذل، وترنم بأوزان، مسلية عن الأحزان، لا يضفر من العروض إلى ميزان، وصدح بقريض، عزب عن الغريض، ورجع بألحان حسان، كررها بإحسان، وعري من خطل الإنسان.
اللام: جمع لأمة، وهي الدرع الحصينة، مهموز، ويجوز تخفيفه والجذل: الفرح.
والمذل: اذاعة السر. والعذل: وهو اللوم. والترنم: الصوت.
والأوزان: جمع وزن، وهو استواء حروف أبيات الشعر بغير زيادة ولا نقصان.
والقريض: الشعر، يقال منه: قرض يقرض: إذا قال الشعر، وقرضه يقرضه: إذا حاذاه، ومنه قوله تعالى: (وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال)، قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف ... شمالاً وعن أيمانهن الفوارس
المشرف والفوارس: موضعان، يقول: نظرت إلى ظعن يجزن بين هذين الموضعين، مشرف: اسم رمل.
ويقال: صدح الطائر: إذا صوت.
وعزب: أي غاب، ومنه قوله تعالى: (لا يعزب عنه مثقال ذرة).
والغريض ومعبد: رجلان كانا يحسنان الغناء.
والترجيع: ترديد الصوت في الحلق.
والألحان: جمع لحن، وهو الصوت في هذا الموضع.
والألحان: المعاني، واحدهن: لحن، ومنه قوله تعالى (ولتعرفنهم في لحن القول) أي في معناه، واللحن بالتحريك: الفطنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (لعل أحدكم ألحن بحجته من بعض): أي أفطن، قال مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري:
وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق رائع ويلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحنا
يريد: إنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها، كما قال الله عز وجل: (ولتعرفنهم في لحن القول)، أي فحواه ومعناه.
واللحن: الخطأ في الكلام، وهو إزلة الإعراب عن معناه.
والخطل: المنطق الفاسد، والفحش، ومنه سمى الأخطل الشاعر.
قوله: ما فعلت قدما العرب في عبادة الأوثان، وليس مع الله في الإلهية شريك ثان، وما سنت جهالهم في الجاهلية، على قبر الميت من صبر البلية، وارتباط الفرس أو المطية، وعد ترك ذلك من الخطية، كيلا يصبح ذلك الميت بين الركبان ماشياً، إذا هب إلى الجمع يوم يبعث الناس عاشياً.
الأوثان: جمع وثن، وهي حجارة كانت تعبد من دون الله، وكانوا يتقربون بعبادتها إلى الله عز وجل، وقد ذكر الله ذلك في كتابه عز وجل، حيث يقول: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
وأول من دعا العرب إلى عبادة الأوثان، وغير دين إسماعيل: خزاعة، واسمه عمرو بن لحلي، واسم لحي ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أول من بحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وقد ذكر الله ذلك في كتابه بقوله: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام).
وكان لبني حنيفه في الجاهلية صنم من حيس فعبدوه دهراً طويلات، ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فعيرتهم العرب بذلكن قال الشاعر:
أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعه
لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعه
أحنيف هلا إذ جهلت م ... صنعت ما صنعت خزاعه
نصبوه من حجر أصم م ... وكلفوا العرب اتباعه
وقال رجل من بني تميم:
أكلت ربها حنيفة من جوع ... قديماً بها ومن أعواز
واطلع رجل من العرب يوماً على صنم لهم فرأى عليه ثعلباً يبول، فقال:
أربٌّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وصبر البلية: حبسها، ومنه قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي).
والمصبورة - التي نهى عنها في الحديث - هي المحبوسة على الموت، ومنه قولهم: قتل صبراً، إذا حبس على القتل حتى يقتل.
والبلية: الفرس أو الناقة تحبس عند قبر صاحبها ولا تعلف ولا تسقى حتى تموت، وهي من سنن الجاهلية على موتاهم، ليركبها صاحبها يوم البعث، وكانوا يرون ذلك ديناً. قال جريبة ابن أشيم الفقعسبي يوصي ابنه:
يا سعد إما أهلكن فأنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا تتركن أباك يعثر خلفهم ... تعباً يخر على اليدين وينكب
ولقل لي مما جعلت مطية ... في الهام أركبها إذا ما ركبوا
ويقال: هب النائم، إذا استيقظ من نومه هباً؛ وهبت الريح هبوباً، وهب التيس: إذا هاج وصاح، هبيباً، وهبت الناقة في سيرها: إذا تساقطت فيه وتهافتت هباباً، قال لبيد:
فلها هباب في الزمام كأنها ... صهباء راح مع الجنوب جمامها
ويقال: عشوت إليه: أي استدللت إليه ببصر ضعيف، قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
ويقال أيضاً: عشوت إليه: أي قصدته، وعشوت عنه: أي صددت عنه، ومنه قوله تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن).
وكان لقوم من العرب أيضاً في الجاهلية أديان غير عباده الأوثان.
فكانت اليهودية في حمير، وبني كنانة، وبلحرث بن كعب، وكندة.
وكانت النصرانية في ربيعة وغسان، وبعض قضاعة.
وكانت المجوسية في تميم، منهم زرارة بن عدس التميمي، وابنه حاجب بن زرارة، وكان تزوج بنته، ومنهم الأقرع بن حابس، وكان مجوسياً، والأسود جد وكيع بن حسان، كان مجوسياً.
وكانت الزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة.
المذاهب
وسنذكر في هذا الموضع جملة من عيون المذاهب، مختصرة تكون سبباً لنظر الناظر وتذكرة، ونقتصر منها على المذاهب المشهورة، والمقالات المأثورة، ونسند كل مذهب منها إلى أول من ابتدعه، وسنه لمن بعده وشرعه.
ونقتصر على أئمة الأديان وأربابها، ومصنفي الكتب وأصحابها، ولا نتعدى الأصول إلى الفروع، ولا نذكر التابع اكتفاء بذكر المتبوع، ونبين اختلاف المختلفين من الأنام، في معرفة المعبود والإمام، فما اختلافهم في سوى هذين الوجهين، فاختصرناه خوفاً أن يطول به الكتاب، لو ذكرناه، والله الموفق للصواب، والمسدد لما يرضيه من العمل في جميع الأسباب.
اعلم أن الناس اختلفوا في معرفة الصانع، فقال بعضهم: العلم محدث، لما فيه من دلائل الحديث، من التأليف والتصوير، والحركة والسكون، وذلك دليل على أن له صانعاً قديماً بخلافه.
وقال بعضهم: هو قديم، لأنههم لم يشاهدوا شيئاً إلا من شيء، كالإنسان لا يكون إلا من نطفة، والطائر لا يكون إلا من بيضة، وإنما يقع نمو ذلك باعتدال الحر والبرد، والرطوبة واليبس، ويقع فسادها بإفراط أحدها فيه.
ثم اختلف من قال بقدم العالم.
فقالت الهولانية - أرسطاليس، ومن قال بقوله هيولى - : له قدم، وتفسير الهيولى: أصل الأشياء، مثل القطن للثوب، هو هيولى له، والهيولي هو المدبر للعالم، وهو أصل له لم يزل، وقوة معه، فالعالم لن ينفك من عرض وجوهر، فالجوهر هو القابل للأعراض؛ والهيولى حرك القوة، فحرك البرد، ثم حركها فحدث الحر، فقبلهما الجوهر؛ والجوهر قديم معه؛ واعتلوا في ذلك: أنهم يرون الإنسان ضعيفاً؛ ثم يرونه قوياً، والذات قائمة بعينها، فعلموا أن القوة لمعنى الحدث، والضعف لمعنى الحدث؛ ودليلهم على الجوهر أنه قابل للأعراض: أن البشرة يحدث فيها الألوان، وهي قائمة بعينها، وذلك دليل على أن العين غير الألوان، والطعوم؛ ودليلهم على الفعل: أنك ترى الإنسان قد يحدث الفعل بعد إذ كان غير فاعل له، والفعل عرض، كذلك يجوز أن يحدث الهيولي أعراضاً هو غيرها، ولا يقال: كيف حدث هذا الفعل؟ كما لا يقال: كيف حدثت هذه الحركة من الإنسان؟ وقالت الأطباء - جالينوس، ومن قال بقوله - : أربع طبائع لم يزل العالم منها: الحر والبرد والرطوبة واليبس، قياساً على تأثيرها في المشاهد.
وقالت الفلاسفة: أربع طبائع لم تزل، وخامس معها بخلافها، والدليل على ذلك: أنهم لما رأوا الشيء لن ينقلب عن حاله التي كان عليها، مثل النار لن تنقلب رطوبة أبداً ولا برداً؛ وكذلك هذه الأربع الطبائع لما كانت غير محتازة للفعل، فلما احتاجت؛ فهي بحالها الأولى لن تنتقل عن طباعها؛ فلما رأوا الاحتياز والتمثيل، علموا أن ذلك المحتاز المثل هو الخامس.
وقالت الجوهرية: جوهرة قديمة واحدية الذات، وإنما اختلفت على قدر التقاء أجزاء الجوهرة وحركاتها، فإذا كان جزءان كان ذلك حراً، فإذا كان ثلاثة صار برداً، فإذا كان ذلك أربعة صار رطوبة، وعلى هذا المثال، واثبتوا الحركات، وزعموا أن حركة قبل حركة إلى ما لا نهاية.
وقال أصحاب الجثة: إن العالم كله لم يزل بصورة تفلقت هذه الجثة عنها؛ فكان الخلق كاملاً فظهر، وأنكروا أن يكون كانت غير صورة، فيحتاج إلى مصور.
وقال هرموس: أربع طبائع وخامس لم تزل - مثل مقالة الفلاسفة - وأثبت العالم ساكناً لم يحرك، والسكون عنده ليس بمعنى والحركة معنى؛ ودليله على ذلك: أنه لما وجد الفعل هو الحركة، وهو زوال عن المكان، فوجده لا يبقى زمنين، ووجده ليس بمحبوس ولا مدرك، وهو فعل، كان محالاً أن يكون السكون فعلاً، لأن السكون لبث في المكان، ولو كان فعلاً، كان يكون زوالاً، كما أن الفعل الزوال.
وقال بلعم بن باعور: إن العالم قديم، وإن له مدبراً بخلافه من جميع المعاني، وأثبت الحركات، فقال: إن الحركة الأولى هي الحركة الثانية معادية، وإن الجسم يبقى الأزمنة، والحركة لا تبقى، فمحال أن يكون الحديث كالقديم، وإن النفس معنى سادس غير الحواس الخمس.
وقال بعض اليوناينة: أربع طبائع لم تزل، وخامس بخلافها، وفضاء، والفضاء عندهم ليس بجسم، وأنه مكان الأشياء، وأنه ليس بمعنى، وقالوا: بل حركات، على مثل مقالة أصحاب الجوهرة.
وقال بعض اليونانية الآخرون - وهم أصحاب الأسبطون - : بمثل مقالة بلعم بن باعور، إلا أنهم زعموا أن العالم لم يزل متحركاً بحركت لا نهاية لها، وادعوا ذلك من قبل أنهم أنكروا حدث شيء في العالم، وأنكروا أن تكون الحركة لها أول وآخر، لأنها لو كان لها أول وآخر، ثبت حدث العالم، لأنه غير منفك منها.
وقالت السمينة من الهند: العالم قديم كله، إلا أنهم لا يدرون أكان الإنسان قبل النطفة، أو كانت النطفة قبل الإنسان؟ لأنهم لم يروا إنساناً إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان، ولا يدرون أيهما قبل صاحبه إلا ن لهما أولاً، وأن أحدهما مولد عن الآخر؛ وقالوا: لا موجود إلا ما وقعت عليه الحواس، وأنكروا الأعراض.
وقالت السوفسطانية: لا حقيقة للأشياء، وإنما هي خيالات، وليس لها صفات، ولا حالات متغايرات، ولا يقال: موجودة ولا معدومة، قياساً على ما يرى، ولا حقيقة له.
وقالت الشكاك: بإثبات الحواس، وزعم أنه محال أن يكون شيء إلا من شيء، مثل السنبلة، محال أن تكون إلا من الحبة والهواء والأرض والماء، واستحال أن يصور الشيء عندهم نفس، فقالوا: لا ندري، أقديمة أم محدثة؟ اختلاف الثنوية وقالت المانية - أصحاب ماني، وهو سرياني - : الأصل شيئان قديمان، وهما جسمان محدودان، نور وظلام خلافان، سميعان بصيران، عالمان، كل واحد منهما في نفس اسم لخمسة معان: اللون والطعم والرائحة والمحسة والصوت، وإنهما كانا غير ممتزجين، ثم امتزجا فحدثت الصور لامتزاجها، فالنور فاعل الخير، والظلام فاعل الشر، والدليل على ذلك: أنهم وجدوا الذات الواحدة لا يكون فيها فعلان متضادان، مثل النار لا يكون فيها التبريد، والثلج لا تكون منه الحرارة والشيخين كذلك فاعل الخير غير فاعل الشر، وفاعل الشر غير فاعل الخير، وأنهما كانا قبل الامتزاج متماسين على مثل الظل والشمس؛ وليس في مذهبهم ذبيحة ولا نكاح.
وقالت الديصانية: شيئان قديمان خلاقان، أحدهما حي، والآخر موات، فالحي هو النور الحساس الدارك، وهو يؤثر ما كان في العالم من جنسه، من الخير والحياة، والموات هو الظلام، الذي لا ينتقل إلا بالنور، وهو يؤثر ما كان في العالم من جنسه من الموت والشر، وكل واحد منهما معنى في نفس، ولون كل هو طعمه، وهو رائحته، وهو صوته، وهو شيء واحد، ودليلهم على قدمهما استحالة حدث شيء إلا من شيء قبله، ودليلهم على حياة النور: تنقل الشمس وحركتها، والظلام قائم بحاله.
وقالت المرقيونية - أصحاب يعقوب بن مرقيون - ثلاثة أشياء قديمة: شيئان نور وظلام، فالنور فاعل الخير، والظلام فاعل الشر، وثالت معدل بينهما ليس من جنسهما، وهما مصطلحان على فعله. وهم يرون النكاح وأكل اللحم، ويكرهون الذبيحة لما فيها من الألم.
وقالت الماهانية - أصحاب ماهان وهو فارسي الأصل - : بمثل مقالة المرقيونية، إلا أنهم وافقوا المانية في كراهية النكاح والذبائح.
وقال الصابؤن: شيئان قديمان: نور وظلام، فالنور عالم، والظلام جاهل، لأن النور يدخل على الظلام، ولا يدخل الظلام عليه، وذبحوا ونكحوا، وصاحبهم قابيل، وهو سرياني الأصل، وقيل إن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، وقيل: إن الصابئين قوم يخرجون من دين إلى دين.
وقالت الصامونية: بمثل ما قاله الصابئين في النور والظلام، إلا أنهم خالفوا الصابئين في الذبائح والنكاح، وصاحبهم صامون، وهو سرياني الأصل.
وقالت الكنانية: الأصل ثلاثة: الماء والأرض والنار، ثم امتزجت هذه الثلاثة، فصار منها مدبران: خير وشر، وهم يرون النكاح، وصاحبهم كينان وهو سرياني الأصل.
وقال الحرانيون - وهم عبدة النجوم - : مقالة ألمانية، إلا أنهم زعموا: أن المدبرات للعالم: السبعة الأفلاك، والبروج الأثنا عشر.
وقال المزادكة - أصحاب مزدك الفارسي - : بمثل مقالة ألمانية، إلا أنها نكحت وسفكت الدماء، وكان مزدك في وقت قباد بن فيروز بن يزدجرد الملك الفارسي، فخرج مزدك، ومن قال بقوله، على قباذ، فقالوا: إن الله جعل الأرض لعباده بالسوية، فتظالم الناس، واستأثر بعضهم على بعض، ونحن قاسمون بين الناس، ورادون على الفقراء حقوقهم في أموال الأغنياء.
وقالت المجوس وهم ثلاثة أصناف: الجرمدينية والهرابذة والموابذة.
فقالت الجرمدينية: أصل العالم النور، إلا أنه مسخ بعضه بعضاً لما غضب، فاستحال الممسوخ ظلمة، فالخير من النور، والشر من الظلمة، والأصل واحد، وهو النور، وذبحت ونكحت.
وقالت الهرابذة: الصانع واحد قديم، وهو نور، وليس كمثله في النور والعظمة والقدرة والعلم، والطول والعرض، شيء، وإنه هم همة فتولد منها الظلام، فهو إبليس، فمنه جميع الشرور، وذبحت ولم تنكح، وصاحبهم زرادشت، وهو فارس الأصل.
وقالت الموابذة - وهم قضاة المجوس وأصحاب خزائن كتبهم وعلومهم - : بقدم النور والظلام، وإنهما سميعان بصيران، إلا أن بينهما جواً، وهو مكان لهما فيه جولانهما، ورأوا النكاح على طريق التزويج، ورأوا الذبح للبهائم، وقالوا بنبوة زرادشت.
وقالت الدهرية: بقدم العالم، وقدم الدهر، وتدبيره للعالم، وتأثيره فيه، وأنه ما أبلى الدهر من شيء أحدث شيئاً آخر؛ وقد حكى الله عنهم ذلك في كتابه بقوله عز وجل: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر). فإنما يعني به، الذي يقضي عليكم بما تنسبونه إلى الدهر، وللعرب أشعار كثيرة في ذم الدهر، منها قول الشاعر:
الدهر أبلاني وما أبليته ... والدهر غيرني وما يتغير
والدهر قيدني بقيد مبرم ... فمشيت فيه وكل يوم يقصر
وقال صنف من البراهمة، وهم ثلاثة أصناف: العالم قديم، وله مدبر قديم، منيب معاقب، يفرح ويحزن، ويرضى ويغضب، وإنه ليس من جنس العالم، وليس على الخلق طاعة غير المعرفة.
فهذه أقوال من يثبت أول العالم وقدمه من الملحدين، وهم ستة وعشرون صنفاً اختلاف من قال بحدوث العالم.
وقال صنف من البراهمة: العالم محدث - على مقالة المسلمين - إلا أنهم قالوا: إن الصانع حكيم، وليس من صفة الحكيم أن يبعث الرسل إلى المعلوم منه خلاف القبول، لأنه متى فعل ذلك كان عابثاً منقوصاً جاهلاً، والله يتعالى عن ذلك، وقالوا بالتوحيد، وأبطلوا الرسل والكتب، وقالوا: ليس بين الله وبين خلقه واسطة غير العقل، وإنما هو شيء رآه العقلاء، فمن أراد أن يجعل نفسه نبياً، فليفعل، وقالوا: لا يجب على الخلق إلا معرفة الله وترك المظالم.
وقال صنف آخر من البراهمة: العالم محدث، وله محدث، إلا من مدبرات العالم: السبعة الأفلاك، والبروج الاثنا عشر، وإمامهم برهم، وهو هندي الأصل.
وقالت اليهود: العالم محدث وله محدث، ثم اختلفوا على أربعة أصناف: الجالوتية، والعنانية، والأصفهانية، والسامرية.
فقالت: الجالوتية - أصحاب رأس الجالوت - : بالتشبيه، وذلك أنهم ادعوا أن معبودهم أبيض الرأس واللحية، واحتجوا بأنهم وجدوا في سفر دانيال أو سفر شعيا رأيت قديم الأيام قاعداً على كرسي من نور وحوله الأملاك، فرأيته أبيض اللحية والرأس، والجالوتية يقولون: إن الله تعالى ملك الأرض يوسف بن يعقوب ونحن وارثوه والناس مماليك لنا.
وقالت العنانية - أصحاب عنان - : بالتوحيد ونفي التشبيه، كما قالت المعتزلة من المسلمين.
وقالت الأصفهانية: بالتشبيه، مثل الجالوتية، إلا أنها زعمت أن عزيراً ابن الله على جهة التبني، كما اتخذ الله إبراهيم خليلاً.
وقالت السامرية: مثل مقالة العنانية، إلا أنها زعمت أنه لم ينبأ من الأنبياء إلا موسى ويوشع بن نون.
وقالت النصارى: بحدث العالم وأن له محدثاً، ثم افترقوا أربع فرق: اليعقوبية، والنسطورية، والفولية، والملكانية.
فقالت اليعقوبية: إن الله لم يكن بجسم فتجسم، ولم يكن في مكان فصار في مكان متجسداً متناسياً، بعد أن كان غير متجسد ولا متناس، وهو المسيح، ودليلهم في ذلك أنهم قالوا: لما كان قادراً على الزيادة في حدثه، كان قادراً على الزيادة في ذاته، ولو لم يقدر على الزيادة في ذاته لكان عاجزاً، وهو القادر على ما يشاء.
وقالت النسطورية: إن الله تعالى ثلاثة أقانيم، وهو أقنوم واحد، الأب والابن وروح القدس، كقولك الله الرحمن الرحيم، والمعنى واحد، كالشمس لها حر وضوء وذات، وهي شيء واحد، وأنه لم يزل لاهوتاً قائماً في مكان، ثم اتخذ ناسوتا، وهو المسيح، فصار له مكان لإظهار الصنع والتدبير، ومعنى اللاهوت: الإله، والناسوت الذي انتقل إليه، هو الإنسان.
وقالت المالكانية: إن الله أقنوم واحد، إلا أنه اسم لثلاثة معان: الأب والابن والجوهر، والجوهر عندهم روح القدس، ومعناهم في قولهم: أب وابن وجوهر، أي بدن وروح وكلام، وإن له علماً هو غيره، وإنه لم يزل قديماً معه.
وقالت الفولية: قولك الله، اسم لمعنى واحد، والعلم غيره، وهو قديم معه، وزعمت أن المسيح ابن الله على جهة التبني والمحبة، كما اتخذ الله موسى نجياً، وإبراهيم خليلاً.
وقال أصحاب التناسخ منه بزرجمهر بن بختكان الفارسي ومن قال بقوله: بإثبات الصانع ونفى التشبيه، ودوام الدنيا على الأبد. قالوا: لأن الصانع الحكيم لا يوصف بالبداوات، ولا يهدم بنيان الحكمة. قالوا: ولا يفعل ذلك إلا عابث. وقالوا بدوام التعبد، وهو معرفة الله تعالى، وترك المظالم، وبدوام الثواب والعقاب، فالثواب انتقال أرواح المحسنين إلى الأبدان الأنسية، والعقاب انتقال أرواح المسيئين إلى أبدان البهائم والسباع والهوام، وبقولهم قال خالد الهمذاني.
وقالت الفضائية: يحدث العالم، وأن له محدثاً، وهو الفضاء، ثم افترقوا بفرقتين: فقالت فرقة منهم: العالم محدث، وله صانع، وصانعه قديم، وهو الفضاء، وهو جسم طويل عريض، مكان للأشياء، والأشياء فيه وتحتاج إليه، لأنهم لا يعقلون إلا ما كان عريضاً طويلاً، وإنه أكبر من كل شيء، ولا يجوز أن يكون شيء أكبر منه، وبعض الأجسام تغيب عن بعض، ولا يغيب عنه شيء منها.
وقالت فرقة منهم: صانع العالم: فضاء، ليس بجسم، والأشياء فيه، ودليلهم على أنه ليس بجسم: أن جميع الأجسام تحتاج إلى أمكنة، وهو لا يحتاج إلى مكان، ويجوز عليها الزوال والتغيير، ولا يجوز عليه.
وقالت كفار العرب: بحدث العالم، وأن له محدثاً، وهم صنفان: فقال صنف منهم، وهم عبدة الأوثان: صانع العالم قديم، إلا أنه مستغن عن عبادة خلقه، ولا يقوون على عبادته، وإنما يعبدون الأوثان لتقربهم غليه، وقد حكى عنهم ذلك بقوله عز وجل: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وأثبتوا المعاد، والثواب، والعقاب.
وقال صنف منهم: صانع العالم قديم، متفضل غير معذب، وإنه يخلق خلقاً ويتفضل عليهم، ثم يميتهم، ويخلق خلقاً بعدهم على الدوام، بغير غاية ولا نهاية، وأنكروا المعاد والبعث، وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه بقوله: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير).
فأما المسلمون، فهم ست فرق: المعتزلة، والمرجية، والشيعة، والخوارج، والحشوية، والعامة، وهم مجمعون على حدث العالم ووحدانيته، ثم اختلفوا بعد ذلك في معبودهم.
فقالت المعتزلة كلها، والخوارج، والمرجية، إلا أبا حنيفة، والزيدية من الشيعة، إلا سليمان بن جرير، فإنه خالف في العلم: إن الله تعالى واحد ليس كمثله شيء، ولا تدركه الأبصار في دنيا ولا آخرة، ولا تكيفه العقول، ولا تضبطه الأوهام، ولا تمثله القلوب، ولا تحده الأفكار، ولا تقطعه المقادير، ولا تقع عليه مساحة، وإنه غير جسم، ولا له حدود، ولا أقطار، ولا يجوز عليه التنقل من مكان إلى مكان، ولا من حال إلى حال.
وقال أبو حنيفة، وضرار بن عمرو، ومن قال بقولهما: أنه يدرك في المعاد، بحاسة سادسة؛ وقالوا: لن يكون شيء موجود إلا وله أنية ومأنية، وعلمك بالأنية غير علمك بالمانية، وذلك أن تسمع الصوت، فتعلم أن له مصوتاً، ويجهل ما هو، فعلمك بما هو، غير علمك بأن له مصوتاً.
وقال سليمان بن جرير الرقي من الزيدية: بنفي التشبيه، إلا أنه زعم أن الله عالم شيء، لا هو هو، ولا هو غيره وإنه وعلمه قائم معه؛ قال: ولا يجوز أن يكون عالم بغير علم، ولا يجوز أن يكون الشيء علم نفسه، ولا يجوز أن يكون علم الله غيره، لأنه لو كان غيره، لكان عالماً بغيره، ووقع التغاير بينهما.
وقالت الجهمية - من المجبرة أصحاب جهم بن صفوان الترمذي - : بنفي التشبيه وزعموا أن العلم محدث؛ قالوا: ولا يجوز ن يقال إن الله شيء، ولكنه منشئ الشيء؛ قالوا: لأنه لم يقع اسم الشيء إلا على مخلوق، ولا يكون الله تعالى بصفة الخلق. وقالوا: لم يزل العالم على أنه يكون علمه، كما لم يزل الخالق على أنه يكون بخلقه.
وقالت الإسماعيلية من الجعفرية: إن الله لا شيء، ولا لا شيء، لأن من قال: إنه شيء، فقد شبهه، ومن قال إنه لا شيء، فقد نفاه؛ فقالوا فيه بالنفي والإثبات جميعاً.
وقال هشام بن الحكم من القطيعة ومن قال بقوله: هو شيء جسيم، لا طويل ولا عريض، نور من الأنوار، له قدر من الأقدار، مصمت ليس بما فوق ولا متخلل، وهو كالسنبلة والذرة، يتلألأ من كل نواحيه. وقالوا: لا يعقل شيئاً إلا موجوداً أو معدوماً، والموجود عندهم ما كان جسيماً محتملاً للصفات، وما خرج من الصفات، فهو عندهم عدم خارج من الوجود. وقالوا: لم يكن في مكان، ثم أحدث المكان فاستوى بحدث الحركة.
وقالت الجوالقة - منهم هشام بن سالم، وشيطان الطلق، ومن قال بقولهما - : هو صورة من الصور على صورة الإنسان، إلا أنه نور من الأنوار، ليس له لحم ولا دم، وله حواس؛ قالوا: ولا يعقل عالماً أبداً يدرك علماً، إلا بالحواس، وأحالوا أن يوصف بغير ما تحيط به أوهامهم.
وقالت المقاتلية - من المجبرة أصحاب مقاتل بن سليمان - : هو لحم ودم، وله صورة كصورة الإنسان؛ قالوا: لأنا لم نشاهد شيئاً موسوماً بالسمع والبصر والعقل والعلم والحياة والقدرة، إلا ما كان لحماً ودماً.
وقالت الحشوية: هو واحد ليس كمثله شيء، ومعنى ذلك، أي ليس كمثله شيء، في العظمة والسلطان والقدرة والعلم والحكمة، وهو موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع والبصر، وحجتهم في ذلك من الكتاب قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) وقوله: (ويحذركم الله نفسه) وقوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) وقوله: (وكان الله سميعاً بصيراً).
وقالوا: لا تدركه الأبصار في الدنيا، ولكنها تدركه في الآخرة، ويحتجون بقوله تعالى: (إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) وبقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) وبقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة أربع عشرة).
فهذه خمسون مقالة من اختلاف الناس في صانعهم عز وجل.
وأما اختلاف المسلمون في الإمامة.
فقالت المعتزلة والخوارج، إلا النجدات، والشيعة، وأكثر المرجية: إن الإمامة فرض واجب من الله تعالى يجب على المسلمين إقامتها، وإن الناس لا يصلحون إلا على إمام واحد يجمعهم، ويمنع بعضهم من بعض، وينفذ أحكامهم، ويقيم حدودهم، ويغزوا بجيوشهم. ويقسم فيأهم، وغنائمهم، وصدقاتهم بينهم.
وقالت الحشوية، وبعض المرجية والنجدات من الخوارج: إن الإمامة ليست لازمة، ولا واجبة، ولكن إن أمكن الناس أن ينصبوا إما ما عدلا من غير إراقة دم ولا حرب، فحسن، وإن لم يفعلوا ذلك، وقام كل رجل منهم بأمر منزله، ومن يشتمل عليه من ذوي قرابة ورحم وجار، فأقام فيهم الحدود والأحكام على كتاب الله وسنة نبيه، جاز ذلك، ولم يكن بهم حاجة إلى إمام، ولا يجوز إقامة السيف والحرب.
وافترق المشتون للإمامة: بم تستحق؟ فصاروا ثلاث فرق: فقالت فرقة: هي بالشورى، وهم جميع الأمة إلا الشاذ القليل.
وقالت فرقة: هي بالقربى والوراثة.
وقالت فرقة: هي بالنص.
فأما من يقول بالشورى: فقالت المعتزلة، والمرجية، والخوارج، وبعض الحشوية، والحزيرية، والبترية، وهما فرقتان من الزيدية: إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينصا على رجل بعينه واسمه، فيجعلوه إماماً للناس، وإن الإمامة شورى بين خيار الأمة وفضلائها، يعقدونها لأصلحهم لهم، ما لم يضطروا إلى العقد قبل المشورة، لفتق يخاف حدوثه على الأمة، فإذا خافوا وقوع ذلك، وبادر قوم من خيار الأمة وفضلائها، أو رجلان من عدو لها وأهل الشورى، فعقدوا الإمامة لرجل يصلح لها ويصلح على القيام بها، ثبتت إمامته، ووجبت على الأمة طاعته، وكان على سائر الناس الرضاء.
ثم اختلف الذين أوجبوا الأمامية: هل يجوز كون إمامين، أو أكثر في وقت واحد؟ فقال بعضهم: لا يجوز ذلك، لما فيه من الاختلاف والانتشار.
وقال بعضهم: يجوز كون إمامين وثلاثة، وأكثر من ذلك، في البلدان المتقاربة، في وقت واحد.
ثم اختلفوا في إمامة المفضول: فقال أهل الشورى جميعاً، إلا الشاذ القليل منهم: إن الإمامة لا يستحقها إلا الفاضل الذي يعرف فضله، وتقدمه على جميع الأمة في خلال الخير، إلا أن تحدث علة، أو يعرض أمر يكون فيه نصب المفضول للإمامة: أصلح للأمة، وأجمع لكلمتها، وأحقن لدمائها، وأقطع لاختلافها، ولطمع العدو فيها؛ أو يكون في الفاضل علة، تمنعه من القيام، كالمرض ونحوه؛ فذا كانت الحال كذلك، فالمفضول أحق بها من الفاضل، ولا يجوز أن يولي الفاضل على هذه الحال.
قالوا: ولن يجوز أن يكون المفضول عطلاً من الفقه والعلم، أو معروفاً بريبة، أو سوء، بل يكون خيراً فاضلاً من عداد العلماء، وإن كان في الأمة من هو خير أو أفضل أو أعلم منه.
وقال سليمان بن جرير، والبترية من الزيدية: إذا كان الحال بهذه الصفة، فإقامة المفضول جائزة، وهي هدى وصواب، غير أن إقامة الفاضل على كل حال أفضل وأصوب وأصلح.
وقال قوم من المعتزلة، منهم عمرو بن بحر الجاحظ، وأكثر الشيعة، وأكثر المرجية: إن الإمامة لا يستحقها إلا الفاضل على كل حال، ولا يجوز أن تصرف إلى المفضول ما وجد الفاضل.
ثم اختلفوا فيها: فيمن تكون من الناس؟ فقال بعض المعتزلة، وبعض المرجية، وجميع الخوارج، وقوم من سائر الفرق: إن الإمامة جائزة في جميع الناس، لا يختص بها قوم دون قوم، وإنما تستحق بالفضل والطلب، وإجماع كلمة أهل الشورى.
وقال إبراهيم بن سيار النظام، مولى بلحارث بن عباد من بني قيس بن ثعلبة، وهو أحد فرسان المتكلمين، ومن قال بقوله من المعتزلة وغيرهم: الإمامة لأكرم الخلق وخيرهم عند الله، واحتجوا بقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا الآية). قال: فنادى جميع خلقه الأحمر منهم والأسود، والعربي والعجمي، ولم يخص أحداً منهم دون أحد، فقال: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فمن كان أتقى الناس لله، وأكرمهم عند الله، وأعلم بالله، وعملهم بطاعته، كان أولاهم بالأمامة، والقيام في خلقه، كائناً من كان منهم، عربياً كان أو عجمياً.
قال مصنف الكتاب: وهذا المذهب الذي ذهب إليه النظام، هو أقرب الوجوه إلى العدل، وأبعدها من المحاباة.
وقال بعض المعتزلة والمرجية: هي في قريش، ما وجد فيهم من يصلح لها، فإن لم يوجد فيهم من يصلح لها، جازت في الفضلاء من سائر الناس.
وقال الشيعة: لن تخرج من قريش، ولن تخلو قريش ممن يصلح للقيام بها.
وقال ضرار: إن الأعجمي أولى بها من العربي، لأن إزالته أهون وأيسر، متى احتيج إلى ذلك.
فهذا قول الشورى.
وقالت الراوندية: إن أولى الناس بالأمامة، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عمه العباس بن عبد المطلب، لأنه أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسباً وأمسهم بهم رحماً، وأولاهم بميراثه في مقامه، واحتجوا بقول الله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)، قالوا: ولا إمامة في النساء بالإجماع، فيكون لفاطمة إرث في الإمامة، ولا ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال لقول الله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)، ولا يرث بنو العم وبنو البنت مع العم شيئاً، فيكون لعلي ولولد فاطمة إرث مع العباس في الإمامة، فصار العباس وبنوه أولى بها من جميع الناس بهذه الوجوه.
وقال مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة:
أنّي يكون ولَيْسَ ذاك بكائِنٍ ... لبني البنَاتِ وِرَاثة الأعمَام
ولهذا السبب قالت الجعفرية: هي متوارثة في ولد الحسين، ولا يرث العم مع البنت شيئاً.
واختلف الذين قالوا: إن الإمامة بالنص، على ضربين: فمنهم من قال: إنها منصوصة بالتسمية، منصوصة بالإشارة والوصف ومنهم من قال: إنها منصوصة بالتسمية والتعيين.
فقال قوم من المرجية، والحشوية: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على أبي بكر بالإشارة والصفة، ودل على إمامته واستخلافه بما أمره به من الصلاة بالناس، وبغير ذلك مما رووه من الأخبار.
وقال قوم من الحشوية: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على إمامة أبي بكر بالتسمية، والتعيين، ونصبه للناس واستخلفه.
وقالت الشيعة كلها: إن علياً عليه السلام كان أولى الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعده، وأحقهم بالأمامة والقيام بالأمر في أمته، وأجمعوا على ذلك. ثم افترقوا ست فرق: سبئية، وسحابية، وغرابية، وكاملية، وزيدية، وإمامية.
فقالت السبئية - عبد الله بن سبأ، ومن قال بقوله - : إن علياً حي لم يمت، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ويرد جميع الناس على دين واحد قبل يوم القيامة.
وقال عبد الله بن سبأ للذي جاء بنعي علي عليه السلام إلى المدائن: لو جئتنا بدماغه في صورة لعلمنا أنه لا يموت، حتى يسوق العرب بعصاه.
فقال ابن عباس - وقد ذكر له قول ابن سبأ - : لو علمنا ذلك ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ميراثه.
وقالت السحابية: إن علياً لم يمت وإنه معبودهم، وإنه تشبه للناس في صورة علي عليه السلام، وإن البرق سيفه، والرعد صوته، وقد قال فيهم الشاعر:
برئت من الخوارج لست منهم ... ومن قول الروافض وابن داب
ومن قومٍ إذا ذكروا علياً ... يردون السلام على السحاب
وقالت الغرابية: إن علياً عليه السلام أشبه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغراب بالغُراب، فغلط جبريل عليه السلام حين بعث بالرسالة إلى علي لشبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال الكاملية - أصحاب ابن كامل، ومن قال بقوله - : كفرت الأمة وضلت، بصرفها الأمر إلى غير علي، وكفر علي - وحاشا له من الكفر - بترك للقيام، والدعاء إلى نفسه، والجهاد على إمامته، وتضييع الوصية بالأمور التي أوصي بها إليه.
وافترقت الزيدية ثلاث فرق: بترية، وجريرية، وجارودية.
فقالت البترية: إن علياً عليه السلام كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأولاهم بالأمامة، وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ، لأن علياً عليه السلام سلم لهما بمنزلة رجل كان له حق على رجل فتركه له، ووقفت في أمر عثمان، وشهدت بالكفر على من حارب علياً؛ وسموا البترية، لأنهم نسبوا إلى كثير النوى، وكان المغيرة بن سعد يلقب كثيراً بالأبتر.
وقالت الجريرية: إن علياً كان الأمام، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن بيعة أبي بكر وعمر، كانت خطأ لا يستحق عليه اسم الكفر، ولا اسم الفسوق، وإن الأمة قد تركت الأصلح، وبرئت من عثمان سبب إحداثه، وشهدت عليه وعلى من حارب علياً بالكفر.
وقالت الجارودية: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نص على علي عليه السلام بالإشارة والوصف، دون التسمية والتعيين، وإنه أشار إليه، ووصفه بالصفات التي لم توجد إلا فيه، وإن الأمة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غيره، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نص على الحسن والحسين عليهما السلام بمثل نصه على علي، ثم الأمام بعد هؤلاء الثلاثة ليس بمنصوص عليه، ولكن الإمامة شورى بين الأفاضل من ولد الحسن والحسين، فمن شهر منهم سيفه، ودعا إلى سبيل ربه، وباين الظالمين، وكان صحيح النسب، من هذين البطنين، وكان عالماً زاهداً شجاعاً، فهو الإمام.
وافترقت الجارودية في نوع آخر ثلاث فرق: أ - فرقة زعمت أن محمد بن عبد الله النفس الزكية بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب لم يمت، ولا يموت، حتى يملأ الأرض عدلاً، وأنه القائم المهدي المنتظر عندهم؛ وكان محمد بن عبد الله خرج على المنصور فقتل بالمدينة.
ب - وفرقة زعمت أن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، حي لم يمت، ولا يموت، حتى يملأ الأرض عدلاً، وأنه المهدي المنتظر عندهم؛ وكان محمد بن القاسم هذا خرج على المعتصم بالطالقان فأسره المعتصم، فلم يدر بعد ذلك كيف كان خبره.
ج - وفرقة زعمت أن يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن لعي بن أبي طالب حي لم يمت، وأنه القائم المهدي المنتظر عندهم، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً؛ وكان يحيى بن عمر هذا خرج على المستعين، فقتل بالكوفة.
هذه رواية أبي القاسم البلخي عن الزيدية، وليس باليمن من فرق الزيدية غير الجارودية وهم بصنعاء وصعدة وما يليهما.
ومنهم فرقة، يقال لها الحسينية يقولون: إن الحسن بن القاسم بن علي ابن عبد الله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب حي لم يمت، ولا يموت، حتى يملأ الأرض عدلاً، وأنه القائم المهدي المنتظر عندهم؛ وكان قتل يوم السبت الرابع من شهر صفر سنة أربع وأربعمائة، وكان مولده في سنة ثماني وسبعين وثلثمائة سنة، قتله همدان في موضع من أعمال صنعاء.
ويقولون في الحسين هذا: إنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كلامه أبهر من كلام الله، ومعنى: أبهر عندهم من كلام الله: أي أقطع لخصوم الملحدين من كلام الله؛ ويروون أن من لم يقل بقولهم هذا فيه فهو من أهل النار.
ثم افترقوا فرقتين: فرقة تزعم أنه يأتيهم في السر ولا ينقطع عن زيارتهم، في حال مغيبه، وأنهم لا يفعلون شيئاً إلا بأمره.
وفرقة تبطل ذلك، ويقولون: إنه لا يشاهد بعد الغيبة، إلى وقت ظهوره وقيامه، وإنما هم يعملون بما وضع في كتبه.
وقالت الأمامية جميعاً: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نص على إمامة علي عليه السلام باسمه وعينه ونسبه، ونصبه للناس إماماً واستخلفه وأظهر الأمر في ذلك إلى غيره، وإن الإمامة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غيره.
ثم افترقت الإمامية فرقتين: فقالت فرقة منهما: إن الإمام بعد علي ابنه الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم ابنه محمد بن علي الباقر وهو ابن الحنفية، وهذه الفرقة تسمى الكيسانية.
وقالت الفرقة الثانية: إن الإمام بعد الحسين بن علي: ابنه علي بن الحسين، ثم محمد بن علي الباقر وهو أبو جعفر.
ثم افترقت الكيسانية ثلاث فرق: فقالت فرقة منهم تسمى الكربية - أصحاب أبي كرب الضرير والسيد الحميري - : إن محمد بن الحنفية حي لم يمت، مقيم بجبال رضوى بين ملكين في صورة أسد ونمر يحفظانه من عن يمينه وشماله يأتيه رزقه بكرة وعشياً، وإن الله تعالى يبعث إليه كل يوم ملائكة تحادثه وتحمل إليه من ثمار الجنة ما يأكله. وإنه القائم المهدي المنتظر عندهم، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وإن الجبال لم تخلق إلا من أجله، ولله فيه تدبير عجيب، لا يعلمه غيره.
وبعض الكربية تقول: إنما فعل به ذلك عقوبة له على ركونه إلى عبد الملك ابن مروان وبيعته إياه، قال الشاعر الكربية:
يا شعيب رضوى ما لمن بك لا يرى ... وبنا من الصبابة أوثق
حتى متى وإلى متى وكم المدى ... يا ابن الوصي وأنت حي ترزق
وقال شاعرهم:
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الأمر أربعة سواء
عليٌ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط لبس بهم خفاء
فسبطٌ سبط إيمان وبرٍ ... وسبطٌ غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى عنا زماناً ... برضوى عنده عسل وماء
وقال شاعرهم أيضاً:
ألا قل للوصي فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشرٍ والوك منا ... وسموك الخليفة والأماما
وعادوا فيك أهل الأرض طراً ... مقامك عنهم ستين عاما
وما ذاق ابن خولة طعم موتٍ ... ولا وارت له أرضٌ عظاما
هدانا الله إذ جرتم لأمرٍ ... به وعليه تلتمس التماما
تمام مودة المهدي حتى ... تروا راياتنا تترى نظاما
وكان محمد بن الحنفية تحول إلى الطائف، هارباً من عبد الله بن الزبير، فمات بالطائف، سنة إحدى ومائتين وهو ابن خمس وستين سنة.
وقالت الفرقة الثانية من الكيسانية - وهم أصحاب الرجعة، حيان السراج ومن قال بقولهم - : إن محمد بن الحنفية ميت بجبال رضوى، وإنه يرجع إلى الدنيا، ويبعث قبل يوم القيامة، ويبعث معه شيعته، فيملك بهم الدنيا، ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ولا تقبل التوبة ممن خالفه، وإن الله تعالى عناه بقوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل).
وقالت الفرقة الثالثة من الكيسانية: إن محمد الحنفية قد مات، وإنه أوصى إلى ابنه عبد الله بن محمد وهو أبو هاشم، وهو الإمام بعده، فهلك أبو هاشم ولا عقب له، وكان عظيم القدر.
ثم افترق أصحاب أبي هاشم من بعده خمس فرق: فقالت فرقة منهم: إن أبا هاشم أوصى إلى ابن أخيه الحسن بن علي بن محمد ابن الحنفية، وإنه الإمام بعده، وإن الحسن بن علي أوصى إلى ابنه علي بن الحسن، وإنه الإمام بعد أبيه؛ فهلك علي بن الحسن ولا عقب له، فهم ينتظرون رجعة محمد ابن الحنفية إلى الدنيا، بعد موته، ويقولون: أنه سيرجع قبل يوم القيامة ويملك، فهم في التيه لا إمام لهم بعده إلى أن يرجع محمد بن الحنفية.
وقالت الفرقة الثانية من أصحاب أبي هاشم: إن الإمام بعد أبي هاشم: محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وإن أبا هاشم صار بأرض السراة بعد متصرفه من الشام، فأوصى إلى محمد بن علي، فهو الإمام بعده، ثم أفضت الخلافة إلى بني العباس بوصية بعضهم إلى بعض.
ثم افترقت هذه الفرقة فرقتين: فرقة يقال لها: المسلمية: زعمت أن أبا مسلم الخراساني، حي لم يمت، وتسمى أيضاً: الحرمية.
قال أبو القاسم البلخي: وعندنا منهم ببلخ قوم يستحلون المحارم، على ما بلغني عنهم.
وفرقة تقول يموت أبي مسلم.
وقالت الفرقة الثالثة من أصحاب أبي هاشم، وهم الحزبية: إن أبا هاشم أوصى إلى عبد الله بن حرب الكندي، وإنه الأمام بعده، وإن روح أبي هاشم تحولت فيه، ووقفوا على كذبه فرفضوه فذهبوا إلى المدينة يلتمسون إماماً، فلقيهم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدعاهم إلى إمامته، فأجابوه وقالوا بإمامته، وادعوا أن أبا هاشم أوصى إليه.
وكان عبد الله بن معاوية يقول: إنه رب، وإن العلم ينبت في قلبه، كما تنبت الكمأة والعشب، وإن الأرواح تتناسخ، وإن روح الله كانت في آدم ثم نسخت حتى صارت فيه، فعبدته شيعته، وكفروا بالقيامة، وزعموا أن الدنيا لا تفنى، واستحلوا الخمر والميتة وغيرهما من المحارم، وتأولوا قول الله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا).
فلما هلك عبد الله بن معاوية، افترقت الحزبية بعده فرقتين: أ - فرقة قالت: إنه حي بجبال أصبهان، ولا يموت حتى يلي أمور الناس، ويملأ الأرض عدلاً، وإنه المهدي المنتظر عندهم.
ومنهم من يقول: حتى يقود نواصي الخيل مع المهدي.
ب - وفرقة قالت: إنه مات، فبقوا بعده مذبذبين لا إمام لهم.
وقالت الفرقة الرابعة من أصحاب أبي هاشم: إن أبا هاشم أوصى إلى بيان بن سمعان التميمي، وإنه الإمام بعده، وليس لبيان أن يوصي بها في عقبه، ولكنها ترجع إلى الأصل؛ وكان بيان بن سمعان يقول: إن الله تعالى على صورة الإنسان وإنه يهلك ويبقى وجهه، لقوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه)، وادعى أنه يدعو الزهرة باسم الله الأعظم فتجيبه؛ فبلغ خبره خالد بن عبد الله القسري فقتله.
وقالت الفرقة الخامسة من أصحاب أبي هاشم: إن الإمام بعد أبي هاشم علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثم اجتمعت هذه الفرقة من أصحاب أبي هاشم على إمامة أبي جعفر الباقر مع الفرقة التي قالت: إنها في ولد الحسين، فصاروا فرقة واحدة.
ثم اختلفوا فصاروا ثلاث فرق: جعفرية ومنصورية ومغيرية.
فقالت الجعفرية: إن الإمام بعد محمد بن علي الباقر ابنه جعفر بن محمد.
ثم افترقت الجعفرية ست فرق: ناووسية، وإسماعيلية، وشمطية، وفحطية، وجوالقية، وخطابية.
فقالت الناووسية: إن جعفر بن محمد حي لم يمت، ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها ويملأها عدلاً، وإنه القائم المهدي المنتظر عندهم؛ ونسبت هذه الفرقة إلى رجل من أهل البصرة يقال له: ابن ناووس، كان ذا قدر فيهم.
وقالت الإسماعيلية: إن جعفراً نص على ولده إسماعيل أنه الإمام بعده، وجعل الوصية إليه، لأنه كان أسن ولده وآثرهم عنده، فمات إسماعيل في حياة أبيه.
ثم افترقت الإسماعيلية فرقتين: أ - فقالت فرقة منهم: إن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل وإنه حي لم يمت، ولا يموت حتى يملك الأرض، ويكون إماماً بعد أبيه، واحتجوا بأن جعفراً قال: ما كان الله ليدوا له علي في إمامة إسماعيل.
ب - وقالت الفرقة الثانية من الإسماعيلية - وهم يسمون المباركية نسبوا إلى عظيم من عظمائهم يسمى المبارك - : إن الإمام بعد جعفر ابن ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر، لأن جعفراً كان جعل الأمر والوصية لإسماعيل دون سائر ولده، وأن إسماعيل قد مات في حياة أبيه وأوصى إلى ولده محمد بن إسماعيل بمقامه من أبيه، فصار محمد ولي عهد جده جعفر، دون عمومه، فلما مات جعفر استحق محمد الإمامة بعده بذلك.
ثم افترقت المباركية فرقتين: أ - فقالت فرقة منهم: إن محمد بن إسماعيل بن جعفر حي لم يمت، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً، وإنه القائم المهدي المنتظر عندهم، واحتجوا بروايات لهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن سابع الأئمة قائمهم.
قالوا فالسبعة: علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، والسابع محمد بن إسماعيل بن جعفر.
ب - وقالت الفرقة الثانية من المباركية: إن محمد بن إسماعيل قد مات، وإن الإمامة في ولده من بعده.
ثم اختلفت هذه الفرقة في الحاكم بأمر الله.
فقالت فرقة: إنه قتل في شعب من شعاب المقطم ليلاً، وكان يركب إليه كل ليلة، ويتفرد فيه.
وقالت الفرقة الثانية: إنه حي لم يمت، ولا يموت حتى يملك جميع الأرض ويملأها عدلاً، وإنه المهدي المنتظر عندهم.
وقالت الشمطية من الجعفرية: إن الإمام بعد ابنه محمد بن جعفر، وإن الإمامة من بعد محمد في ولده، وقد كان خرج محمد بن جعفر وهو المعروف بديباجة... على المأمون، ثم أسر وأتى به المأمون فعفا عنه وتوفي بحرجان، وله عقب، ونسبت هذه الفرقة إلى رجل من كبرائهم يقال له: يحيى بن أبي شمط.
وقالت الفطحية: إن الإمام بعد جعفر ابنه عبد الله بن جعفر، وكان أكبر من خلف من ولده، وسموا الفطحية، لأن عبد الله كان أفطح الرأس، وأفطح القدم، أي عريضها، قال الراعي يصف جملاً:
له عنقٌ عاري المحال وكاهلٌ ... كلوح اليماني ذو أساس أفطح
والمحال: فقار الظهر. والكاهل: ما بين العنق إلى الظهر. والساس: أطراف الفقار.
وقيل: إنما نسبوا إلى رجل من رؤسائهم يسمى: عبد الله بن فطح؛ وتسمى الفطحية أيضاً: العمارية، نسبوا إلى رجل من عظمائهم يقال له: عمار الساباطي.
قال أبو القاسم البلخي: والفطحية أعظم فرق الجعفرية، وأكثرهم جمعاً؛ قال: وقد مال إلى العمارية خلق كثير من الزرارية.
والزرارية كثر الشيعة فقهاً وحديثاً، قال: والفطحية يزعمون أن زرارة ابن أعين كان على مقالتهم وإنه لم يرجع عنها، وزعم بعضهم أنه رجع عنها حين سأل عبد الله بن جعفر عن مسائل فلم يجد عنده جوابها، فتركه وقال بإمامة موسى بن جعفر.
وقال بعضهم: لم يأتم به، ولكنه أشار إلى المصحف وقال: هذا إمامي.
ثم أن الفطحية بعد موت عبد الله بن جعفر قالوا بإمامة أخيه موسى بن جعفر، وقالوا: هو الإمام من بعد عبد الله بن جعفر، ودخلوا في القطعية.
وقالت الجوالقية: إن الإمام بعد جعفر ابنه موسى بن جعفر، وإن جعفر نص على إمامة موسى عند جمهور شيعته.
ثم افترقت الجوالقية بعد حياة موسى بن جعفر الثانية، فصاروا ثلاث فرق: فقالت فرقة منهم: إن موسى بن جعفر قد مات، وقطعوا على موته فسموا: القطعية.
وقالت فرقة: إن موسى بن جعفر حي لم يمت، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً، وإنه القائم المهدي المنتظر عندهم، وهذه الفرقة تسمى: الواقفة وتسمى أيضاً: الممطورة. لأن رجلاً منهم ناظر يونس بن عبد الرحمن، وهو من القطعية، فقال له يونس: لأنتم أنتن علي من الكلاب الممطورة.
وقالت فرقة: لا ندري أمات موسى بن جعفر أو لم يمت، إلا أنا مقيمون على إمامته حتى يصح أمره لنا، وأمر هذا المنصوب، يعنون ولده.
ثم افترقت القطعية فرقتين: أ - فقالت فرقة منهما: إن الإمام بعد موسى بن جعفر ابنه علي بن موسى، وإن الإمام بعد علي بن موسى محمد بنعلي بن موسى، ومات أبوه علي وهو ابن أربع سنين، وقيل ابن ثماني سنين. فاختلف الذين قالوا بإمامة محمد بن علي، فقال بعض المؤتمين به: إنه كان إماماً في حال صغره واجب الطاعة عالماً بما تعلمه الأئمة من الأحكام والحلال والحرام، وغير ذلك من أمور الدين، يجب استفتاؤه في الحوادث، ويصلح لما يصلح له غيره من الأئمة؛ وقالوا: ليس كبر السن من شرائط الإمامة.
وقال بعضهم: إنه كان في تلك الحال إماماً، على أن الأمر له وفيه دون سائر الناس، ولا يصلح للأمامة في وقته أحد غيره، فإما يجتمع فيه في تلك الحال ما اجتمع في الأئمة المتقدمين من خلال الإمامة فلا. قالوا: ولا يجوز أن يؤمهم في الصلاة، ولا يجب استفتاؤه في الحوادث في ذلك الوقت، وإنما يتولى ذلك غيره من أهل الصلاح منهم إلى وقت إدراكه، وقالوا بعد ذلك: إن الإمام بعد محمد ابن علي ابنه علي بن محمد، وإن الإمام بعد علي ابنه الحسن بن علي وهو المعروف بالعسكري، ومات العسكري، وهو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى ابن جعفر بن محمد، في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه، سنة ستين ومائتين، ولا ولد للعسكري، فاختلط عليه أمره، فقالوا: إن له ولداً مكتوماً يظهره الله عز وجل إذا شاء، وإنه القائم المهدي المنتظر عندهم، وإن خواص شيعته تعرفه وتلقاه، وإنه يظهر إذا شاء الله.
ورووا أخباراً عن أسلافهم أن الأئمة من آل محمد اثنا عشر إماماً لا يزيدون ولا ينقصون، أولهم علي ثم الحسن ثم الحسين، ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي العسكري.
قالوا: فهؤلاء أحد عشر إماماً، والثاني عشر هو ولد العسكري هذا المستور الذي ادعوه، وهو المهدي المنتظر عندهم.
وهؤلاء يسمون: القطعية والإثني عشرية، وهم أكثر الشيعة عدداً على وجه الأرض.
وقالت الخطابية: إن الإمام بعد جعفر أبو الخطاب، واسمه محمد بن أبي زينب مولى لبني أسد؛ وقالوا: إن الأئمة أنبياء لا يزال منهم رسولان، واحد صامت، والآخر ناطق، فالصامت علي، والناطق محمد، وإن رسل الله تترى، أي اثنان في كل وقت. قالوا: فجعفر أحد الرسولين إليهم، والآخر أبو الخطاب. وقالوا: إن ولد الحسين وشيعتهم بناء الله وأحباؤه. وقالوا: إن عبادة الأئمة واجبة، وتأولوا في ذلك قول الله تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي...الآية). وعبدوا أبا الخطاب وقالوا: إنه الههم، وأن جعفر بن محمد إلههم أيضاً، إلا أن أبا الخطاب أعظم من جعفر ومن على. وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر المنصورة فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة.
والخطابية يستحلون شهادة الزور لمن وافقهم في دينهم على من خالهم في الأموال والدماء والفروج؛ وتقول: إن دماء مخالفيهم، وأموالهم، ونساءهم: لهم حلال.
ثم افترقت الخطابية أربع فرق: فرقة يقال لها: المعمرية، عبدوا معمراً الصفار وكان رجلاً يبيع الحنطة، كما عبدوا أبا الخطاب. وزعموا أن الدنيا لا تفنى، وأن الجنة هي ما يصيب الناس من العافية والخير، وأن النار ما تصيب الناس من خلاف ذلك. وقالوا بالتناسخ وإنهم لا يموتون ولكن ترفع أرواحهم إلى السماء وتوضع في أجساد غير تلك الأجساد واستحلوا الخمر والزنا وسائر المحرمات ودانوا بترك الصلاة.
وقالت الفرقة الثانية من الخطابية: إن جعفر بن محمد هو الله، ولكن تشبه للناس في صورة جعفر، وزعموا أن كل ما حدث في قلوبهم وحي، وأن كل مؤمن يوحى إليه، وتأولوا قول الله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل) وقوله: (وإذ أوحيت إلى الحواريين). وزعموا أن فيهم خيراً من جبريل ومن ميكائيل ومن محمد. وزعموا أنه لا يموت منهم أحد، ون أحدهم إذا بلغ عبادته رفع إلى الملكوت. وادعوا معاينة موتاهم وأنهم يرونهم بكرة وعشياً.
وقالت الفرقة الثالثة من الخطابية: بتكذيب هؤلاء في الموت، وقالوا: أنهم يموتون ولا يزال منهم خلف في الأرض أئمة وأنبياء، وعبدوا جعفراً كما عبده المتقدمون، وزعموا أنه ربهم، وضربوا خيمة في كناسة الكوفة ثم اجتمعوا يلبون لجعفر، ويدعون إلى عبادته، وهؤلاء يسمون: العميرية، نسبوا إلى عمير بن البنان العجلي وكان رئيسهم، فأمر عمير بن هبيرة بعمير بن البنان فقتل وصلب في كناسة الكوفة، وحبس قوماً من أصحابه.
وقالت الفرقة الرابعة من الخطابية: بالبراءة من هؤلاء، وقالوا: بربوبية جعفر وانتحلوا النبوة والرسالة، إنما خالفوهم في البراءة من أبي الخطاب فقط، لأن جعفراً أظهر البراءة من أبي الخطاب حين لبى به أصحابه في الطريق، وهؤلاء يسمون: المفضلة، نسبوا إلى رئيس لهم كان صيرفياً يسمى المفضل.
قال البلخي: وقد مال إلى الائتمام بمحمد بن إسماعيل جماعة من الخطابية أيضاً، ودخلوا في المباركية.
وقالت المغيرية: إن الإمام بعد أبي جعفر، محمد بن علي الباقر المغيرة بن سعد العجلي، وإن أبا جعفر أوصى إلى المغيرة، فهم يأتمون به إلى أن يظهر المهدي، والمهدي عندهم: محمد بن عبد الله النفس الزكية ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فلما أظهر المغيرة هذا القول، برئت منه الجعفرية، وكان المغيرة بن سعد يدعي أنه نبي، وأنه يعلم اسم الله الأكبر، وأن معبوده رجل من نور على رأسه تاج من نور، وله من الأعضاء مثل ما للرجال، وله جوف، وقلب ينبع بالحكمة، وأن حروف أبجد على عدد أعضائه، فالألف موضع قدمه، لاعوجاجها؛ وذكر الصاد فقال: لو رأيتم موضع الصاد منه لرأيتم أمراً عظيماً، يعرض لهم بالعورة، وأنه قد رآه وقال: إنه يحيي الموتى بالاسم الأعظم.
وبلغ خالد بن عبد الله القسري خبره، فقتله وصلبه، فاستأمت المغيرية بعده جابر الجعفي، فمات جابر، فادعى وصيته بكر الأعور الهجري العتات فاستأموه، ثم هجموا منه على الكذب فخلعوه، وانصرفوا إلى عبد الله بن المغيرة بن سعد، فنصبوه إماماً، فأكل عبد الله أموالهم.
وقالت المنصورية: إن الإمام بعد محمد بن علي الباقر، أبو منصور العجلي، وإن محمد بن علي إنما أوصى إلى أبي منصور دون بني هاشم، كما أوصى موسى إلى يوشع بن نون، دون ولده، ودون ولد هارون، ثم أن الإمام بعد أبي منصور يرجع إلى ولد علي.
وقال أبو منصور: إنما أنا مستودع، وليس لي أن أضعها في غيري، إلى أن يظهر المهدي المنتظر، وهو محمد بن عبد الله النفس الزكية.
وقال أبو منصور: إن آل محمد هم السماء، وشيعتهم الأرض، وإنه هو الكسف الساقط من بني هاشم.
وقال: في نزل: (وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً).
وقال: إنه عرج إلى السماء فمسح معبوده رأسه بيده، ثم قال: أي بني اذهب فبلغ عني، ثم نزل به إلى الأرض.
ويمين أصحابه إذا حلفوا أن يقولوا: لا والكلمة.
وزعم أن عيسى أول ما خلق الله من خلقه، ثم علي، وأن رسل الله لا تنقطع أبداً، وكفر بالجنة والنار، وزعم أن الجنة رجل والنار رجل، واستحل الزنا وأحل ذلك لأصحابه، وزعم أن الميتة والدم والخمر والميسر، وغير ذلك من المحارم: حلال. وقال: إن ذلك أسماء رجال حرم الله ولايتهم، وأسقط جميع الفرائض مثل الصلاة والزكاة والحج والصيام؛ وقال: هي أسماء رجال أوجب الله ولايتهم. واستحل خنق المخالفين، وأخذ أموالهم. فأمر به يوسف بن عمر فقتل وصلب.
وافترقت المنصورية بعد أبي منصور فرقتين: حسينية، ومحمدية.
فقالت: الحسينية إن الإمام بعد أبي منصور ولده الحسين بن أبي منصور، وجعلوا له الخمس مما وقع في أيديهم من الخنق.
وقالت المحمدية: إن الإمام بعد أبي منصور محمد بن عبد الله النفس الزكية، لأن أبا منصور قال: إنما أنا مستودع وليس لي أن أضعها في غيري، ولكنه محمد ابن عبد الله.
فهذه الشيعة في الإمامة على ما حكاه عنهم أبو عيسى الرزاق، وزرقان بن موسى، وأبو القاسم البلخي في كتبهم.
وأما الخوارج: فقد ذكرنا أقوالهم في أصل الإمامة، وسنذكر من فرقهم ما ذكره أبو القاسم البلخي ورواه عنهم من الاختلاف.
فمن فرق الخوارج النجدية: إمامهم نجدة بن عامر الحنفي، والذي تفردوا به أنهم قالوا: أن المخطئ بالجهل معذور، فمن اسحل شيئاً من طريق الاجتهاد مما هو محرم فهو معذور على جهله. قالوا: ومن خاف العذاب على المجتهد المخطئ في الأحكام متى تقوم عليه الحجة فهو كافر. وقالوا: من نقل عن دار هجرتهم فهو منافق. وقالوا: دماء أهل العهد في دار النقية حلال، وبرئوا ممن حرمها. وقالوا: إن أصحاب الحدود المذنبين منهم غير خارجين من الأيمان، والمذنبين من غيرهم كفار. وقالوا: لا ندري لعل الله يعذب المؤمنين بقدر ذنوبهم في غير النار. وقالوا: من أصر على نظرة محرمة، أو كذبة فهو مشرك؛ ومن زنى أو سرق غير مصر فهو مسلم.
ومنهم الفديكية. إمامهم أبو فديك قاتل نجدة بن عامر بعد إحداثه، ولا يعلم لهم قول أبدعوه، غير إنكارهم على نجدة ونافع ابن الأزرق أحداثهما.
ومنهم العطوية: إمامهم عطية بن الأسود الحنفي، وكان عطية أنكر على نجدة، ونافع بن الأزرق، ما أحدثاه، ومضى إلى سجستان وخراسان، فهو أصل الخوارج بهما.
ومن العطوية: العجزية: إمامهم عبد الكريم بن العجرد، وهم يقولون: يجب دعاء الطفل إذا بلغ، ويجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام.
ومن العجاردة: الميمونية: إمامهم ميمون، وقيل: إن ميموناً هذا كان رجلاً من أهل بلخ، وقيل: بل كان عبد الكريم بن العجرد، والميمونية لا يرون إلا قتال السلطان خاصة، وأعوانه، ومن رضي بحكمه، ومن طعن في دينهم. وهم يجيزون نكاح بنات البنين، وبنات البنات، وبنات الأخوات، وبنات بني الأخوة. ويقولون: إن الله حرم نكاح البنات والأخوات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، وأحل ما وراء ذلك. وهم يقولون بالعدل. وكانت الغلبة بخراسان وسجستان لهؤلاء وللعجاردة.
ومن الميمونية: الحلفية: وهم يخالفون الميمونية في القول بالعدل، ويقولون بالجبر، وهم بكرمان. وقالوا: لا نستحل العقد لإمام بعده، حتى يصح لنا خبره، أو يتم مائة وعشرين سنة، من يوم ولد، وكان إمامهم هذا يحارب الحمزية.
ومن الميمونية: حمزية: إمامهم حمزة بن أدرد، وهم يجيزون كون إمامين وأكثر من ذلك في وقت واحد، وهم يقولون بالعدل.
ومن العجاردة خازمية: وهم يقولون بالأحبار، ويقولون: إن الولاية والعداوة صفتان في الذات.
ومن الخازمية: مجهولية: وهم يقولون: من لم يعلم الله تعالى بجميع أسمائه فهو له جاهل، وإن أفعال العباد ليست بمخلوقة، وإن الاستطاعة مع الفعل كالكون إلا ما شاء الله.
ومن الخازمية: معلومية: وهم يقولون: من علم الله ببعض أسمائه فلم يجهله.
ومن العجاردة: صلتية: إمامهم عثمان بن أبي الصلت، والصلت بن أبي الصلت. وهم يقولون: إذا استجاب الرجل في الإسلام توليناه، وبرئنا من أطفاله، لأنهم ليس لهم إسلام حتى يدركوا، فيدعوا إلى الإسلام ويسلموا.
ومن العجاردة فرقة يقولون: ليس لأطفال المؤمنين، ولا لأطفال الكافرين ولاية ولا عداوة حتى يدركوا ويسلموا.
ومن العجاردة: ثعلبية: إمامهم ثعلبة، وهم يقولون في الأطفال: إنهم مشتركون في عقاب آبائهم، وإنهم ركن من أركانهم، وبعض من أبعاضهم.
ومن الثعلبية: أخنسية: إمامهم الأخنس، وهم يقفون عن جميع ما في دار النقية من أهل القبلة، إلا من عرفوه بإسلام، أو كفر، ويحرمون البيات والاغتيال والقتل في السر، وأن يبدأ أحد بقتال حتى يدعى إلى الإسلام، فبرئ منهم جمهور الثعالبة.
ومن الثعالبة: معبدية: إمامهم معبد، وهم يرون أخذ زكاة أموال عبيدهم إذا استغنوا، وإعطاءهم من زكاتهم إذا افترقوا، وكان مواليهم على رأيهم أو لم يكونوا، فبرئت منهم الثعالبة.
ومن الثعلبية: شيبانية: إمامهم شيبان بن سلمة الخارج في أيام أبي مسلم، وكان أحدث أحداثاً منها معاونة أبي مسلم، فبرئت منه الخوارج وقتل؛ فقالت الشيبانية: إنه قد تاب، وقال سائر الثعالبة: لا تقبل توبة مثله، إلا بأن يقص منه، أو يعفو صاحب الحق، وبرئوا ممن أجاز توبته.
ومن الثعالبة: رشيدية: إمامهم رشيد، وهم يقولون: إنه يجب فيما يسقي الفيول الجارية، والأنهار، نصف العشر، فبرئت منهم الثعالبة.
ومن الثعالبة: مكرمية: إمامهم أبو مكرم، وهم يقولون: إن تارك الصلاة كافر، وليس من قبل ترك الصلاة كفر، ولكن من قبل جهله. وكذلك قالوا في سائر الفرائض. وقالوا: من أتى كبيرة، فقد جهل الله تعالى. وقالوا بالموافاة، وهو أن الله إنما يتولى عباده، ويعاديهم على ما هم صائرون إليه لا على أعمالهم. فبرئت منه الثعالبة.
ومن الخوارج الأباضية: إمامهم عبد الله بن أباض التميمي من مقاعس تيم الحارث بن عمر بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
قال أبو القاسم البلخي: حكى أصحابنا أن عبد الله بن أباض لم يمت حتى ترك قوله أجمع، ورجع إلى الاعتزال، والقول بالحق.
قال: والذي يدل على ذلك، أن أصحابه لا يعظمون أمره.
وجمهور الأباضية يقولون: إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار، وليسوا بمشركين، حلال مناكحتهم، وحلال غنيمة أموالهم عند الحرب من السلاح والكراع، حرام ما وراء ذلك من سبيهم وقتلهم في السر، إلا من دعا إلى شرك في دار تقية وادعى الإسلام، ولا ذمة له. وقالوا: إن الدار، دار مخالفيهم، دار توحيد، إلا عسكر السلطان فإنه دار بغي. وقالوا: من سرق وزنى، أقيم عليه الحد، ثم استنيب، فن تاب وإلا قتل.
واختلفوا في النفاق.
فقالت فرقة منهم: النفاق براءة من الشرك، واحتجوا بقوله تعالى (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء).
وقالت فرقة منهم: كل نفاق شرك، لأنه يضاد التوحيد.
وقالت فرقة منهم: لا حجة لله على أحد في توحيد إلا بخبر، أو ما يقوم مقام الخبر من إيماء أو إشارة.
وقالت فرقة منهم: لا يجوز أن يخلي الله عباده من التكليف لوحدانيته ومعرفته.
وقالت فرقة منهم: يجوز أن يخليهم الله من ذلك.
وقالت فرقة منهم: من دخل في دين الإسلام وجبت عليه الشرائع والأحكام، ثم وقف على ذلك، أو لم يقف، سمعه، أو لم يسمعه.
وقالت فرقة منهم: يجوز أن يبعث الله نبياً بلا دليل.
وقالت فرقة منهم: من ورد عليه الخبر بأن الخمر قد حللت، وأن القبلة قد حولت، فعليه أن يعمل بذلك، أخبره بذلك مؤمن أو كافر، وعليه أن يفعل ذلك بالخبر، وليس عليه أن يعلم ذلك بالخبر.
وقالت فرقة منهم: من قال بلسانه إن الله واحد، وعني المسيح، فهو صادق في قوله مشرك بقلبه.
وقالت فرقة منهم: ليس على الناس المشي إلى الصلاة والزكاة والحج، ولا شيء من أسباب الطاعة، التي توصل بها إليها؛ وإنما عليهم فعلها بعينها فقط.
وقالت فرقة منهم: الدرهم بدرهمين يداً بيد حلال. وقالوا: قد يكون في الإنسان إيمان، ولا يسمى به مؤمناً.
وقالت فرقة منهم: بتحليل الأشربة التي يسكر كثيرها، إذا لم تكن الخمر بعينها؛ وحرموا السكر، وهم يرون قتل المشبهة وبسبيهم وغنيمة أموالهم ويجهزون على جريحهم.
ومن الأباضية. حفصية: إمامهم حفص بن أبي المقدام. وهم يقولون: إن ما بين الشرك والكفر معرفة الله، فمن عرف الله، ثم كفر بما سواه من رسول أو كتاب أو جنة أو نار، أو عمل جميع الجنايات، فهو كافر بريء من الشرك؛ ومن جهل الله وأنكره، فهو مشرك.
ومنهم اليزيدية: إمامهم يزيد بن أبي أنيسة، قال: إن الله تعالى سيبعث رجلاً من العجم، وينزل عليه كتاباً من السماء، ثم يكتب في السماء، وينزل عليه جملة واحدة، فيترك شريعة محمد ويأتي بشريعة أخرى وغيرها، وإن ملته تكون الصابية، وليست هذه الصابية؛ ولكن الصابين الذين ذكرهم الله في كتابه، قال: ولم يأتوا بعد؛ وزعم أن في هذه الأمة شاهدين عليها، وأنه أحدهما، وأنه لا يدري أمضى الآخر، أم هو كائن؟ فبرئ منه جل الأباضية.
ومن الخوارج الواقفة: من قصتهم أن رجلاً منهم يقال له: إبراهيم من أهل المدينة، كان يصبي في منزله من دين إلى دين - قال أبو عبيدة: صبى من دينه إلى دين آخر، كما تصبي النجوم، أي تخرج من مطالعها - ومعه جماعة منهم، فبعث جارية له إلى السوق كانوا يتولونها، فأبطأت، فغضب إبراهيم وقال: لأبيعها في الأعراب فقال له رجل ممن حضر - يقال له ميمون غير الذي من العجاردة - فكيف يسعك أن تبيع جارية مسلمة من قوم كفار؟ فقال إبراهيم: إن الله أحل البيع وحرم الربا، وقد مضى أسلافنا وهم يستحلون ذلك؟؟؟!! فبرئ ميمون ممن استحل بيعها، ووقف سائر من في البيت، فلم يقولوا بتحليل ولا تحريم، وكتبوا إلى علمائهم يسألونهم عن ذلك، فأفتوا أن بيعها حلال، وبأن يستناب أهل البيت من توقفهم في ولاية إبراهيم، وبأن يستناب ميمون، وبالبراءة من امرأة كانت معهم وقفت، فماتت قبل ورود الفتوى، فأبى من كان في البيت أن يبرأوا منها، وأن يتوبوا من الوقوف، وثبتوا عليه، فسموا: الواقفة، فبرئت منهم الخوراج.
ومن الخوارج الضحاكية: إمامهم الضحاك، وهم يجيزون أن تزوج المرأة المسلمة عندهم من كفار قولهم في دار النقية، كما يجوز للرجل منهم أن يتزوج الكافرة من قومه في دار التقية؛ فأما دار العلانية، ودار حكمهم، فلا يجوز؛ فبرئت منهم الخوارج، ووقفت فرقة في ذلك فسموا الواقفة، وقالوا: لا نعطي هذه المرأة من حقوق المسلمين شيئاً، ولا نصلي عليها إن ماتت، ونقف في أمرها، ومنهم من برئ منها.
ومن الخوارج البيهسية: وإمامهم أبو بيهس الهصيم بن جابر وهم يقولون: إن السكر من كل شراب حلال الأصل موضوع عمن سكر منه، وكل ما كان من ترك صلاة أو شتم فهو موضوع عن صاحبه، لا حد فيه ولا حكم، ولا يكفر أهله بشيء من ذلك، ما داموا في حال السكر؛ وقالوا: إن الشراب الذي هو حلال الأصل، لم يأت فيه من التحريم ولا إقلال أو إكثار أو سكر، ويقولون: إنه لا يسلم أحد حتى يقر بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة رسوله، ومعرفة ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم جملة من الشريعة؛ وقالوا: من جهل شيئاً من ذلك فهو مشرك، وقالوا: بقتل الغيلة، وأخذ مال المخالفين.
ومن البيهسية: العوفية: وهم يقولون: إذا كفر الإمام كفرت بكفره الرعية، الشاهد منهم والغائب، وصارت الدار دار شرك، يحل قتل أهلها وسبيهم على كل حال.
قال المداني: طلب الحجاج أبابيهس الهيصم بن جابر، وهو أحد بني سعد بن ضبيعة بن قيس أيام الوليد، فهرب إلى المدينة، فلم يعرفه أحد، فطلبه الحجاج، فأعياه، فبلغ الوليد أنه بمكة، فكتب إلى عثمان بن حبان المري فيه، ووصفه له صفته، فظفر به عثمان وحبسه، وكان يسامره إلى أن ورد الكتاب من الوليد بقطع يديه ورجليه وصلبه، ففعل به ذلك.
ومن الخوارج الصفرية: نسبوا إلى إمامهم زياد بن الأصفر، وزعم قوم أن الذي نسبوا إليه عبد الله بن الصفار، ونهم الصفرية بالصاد، وهم يقولون: إن كل ذنب مغلظ كفر وشرك، وكل شرك كيادة للشيطان، وهو قول الخوارج إلا الفضيلية.
والصفرية يجيزون مناكحة المشركين والمشركات، وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم ومواريثهم، ويحتجون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج بناته من المشركين في دار التقية.
ومن الخوارج: الفضيلية: وهم يقولون: إن كل معصية صغرت أو كبرت، فهي شرك، وإن صغائر المعاصي مثل كبائرها؛ ويقولون: إنه لا يكفر عندهم من قال بضرب من الحق وهو يضمر غيره، نحو أن يقول: لا إله إلا الله، وهو يريد قول النصارى، أي الذي له الولد والزوجة، أو يريد ضما قد الحدوة، ويقول: محمد رسول الله، وهو يعني غيره، ممن هو حي، وأشباه ذلك.
ومن الخوارج الشمراخية: إمامهم عبد الله بن شمراخ، وهم يصفون خلف من صلى إلى القبلة، ولو كان يهودياً أو نصرانياً ينافق بصلاته.
ومن الخوارج الأزارقة إمامهم نافع بن الأزرق الحنفي، وهو أول من الحد الخلاف من الخوارج، وهم يقولون: إن من أقام من المسلمين في دار الكفر، فهو كافر، ويرون قتل النساء والأطفال، ويحتجون بقول الله تعالى: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً... الآية إلى قوله كفاراً).
ومن الخوارج: البدعية وهم يقولون: إن الصلوات ركعتان بالعشي وركعتان بالغداة، لا غير ذلك، لقول الله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار).
والبدعية يقطعون بالشهادة على أنفسهم وموافقتهم أنهم من أهل الجنة من غير شرط ولا استثناء.
وأصل فرق الخوارج: الأزارقة، والأباضية، والنجدية، والصفرية، وسائرها متفرع من هذه الفرق، وقيل: سائرها متفرع من الصفرية.
هذه أصول فرق الشيعة والخوارج المشهورة التي نسبت إلى أول من ابتدعها منهم وقال بها من أئمتهم.
فأما الفروع التي تفرعت منها والشعب التي تشعبت عنها فهي كثيرة، وكذلك أئمة هاتين الفرقتين الخارجون، والداعون إلى الجهاد لا يجمع ذكرهم إلا كتاب مفرد.
والشيعة والخوارج أشد فرق الأمة تمسكاً بالأئمة، وأكثرهم اختلافاً وتفرقاً وبراءة من ولاية بعضهم.
وإنما سميت الشيعة: شيعة، لمشايعتهم علي بن أبي طالب، ولأولاده عليهم السلام؛ والمشايعة: الموالاة والمناصرة، والشيعة: الأولياء والأنصار والأصحاب والأحزاب، ومنه قوله تعالى: (ومن شيع الأولين)، وقوله: (وإن من شيعته لإبراهيم)، ومنه قول الكميت بن زيد الأسدي:
إذا الخيل وراها العجاج وتحته ... غبارٌ أثارته السنابك أصهب
فما لي إلا آل أحمد شيعةٌ ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب
المشعب: الطريق ويقال شيع الرجل: إذا صحبه، والمشايعة أيضاً: المخالطة والمشاركة في الأمر وغيره، ومنه يقال: سهم مشاع أي غير مقسوم، وسهم شائع أيضاً، كما يقال سائر وسار، قال أبو ذؤيب يصف ظبية:
فسود ماء المزد فاهاً فلونها ... كلون النؤور وهي أدماء سارها
أي سائرها، وقال آخر في صفة الوتد:
ومشج أماسوا قذاله ... فبدا وغيب ساره المعزاء
وقيل: إن اسم الشيعة مأخوذ من السهم الشائع، فإن صح هذا، فالشيعة جمع شاع، مثل حيرة جمع حار، والشيعة أيضاً من غير هذا: مثل الأسد وهو ولده وهو الشيع أيضاً، ويقال: هذا شوع هذا وشيع هذا: للذي ولد بعده، ولم يولد بينهما، ويقال: آتيك غداً شيع غد: أي بعد غد، قال عمر بن أبي ربيعة:
قال الخليط غداً تصدعنا ... أو شيعه أفلاً تود عناء
ويقال: إن الشيع: المقدار، ويقال: أقام شهراً أو شيعه، ويقال: شيع الراعي بأبله، وشايع، إذا صاح بها، ودعاها إذا استأخر بعضها: والمصدر: المشايعة والشياع، الشياع: صوت مزمار الراعي، قال قيس بن أبي ذريح الكناني، أخو ليث بن بكر بن كنانة، المشهور بالعشق:
إذا ما تذكرين يحن قلبي ... حنين النيب تطرب للشياع
ويقال شيعه: أحرقه، ويقال: شيعت النار بالحطب تشييعاً إذا أذكيتها به، والمشيع: الشجاع، قال أبو ذؤيب:
فتبادروا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطلٌ للقاء مشيع
الرواية المشهورة: بطل اللقاء مخدع بالخاء المعجمة ودال مهملة، أي خدع مراراً في الحرب حتى صار مجرباً، ويروى: مجذع بالذال المعجمة مفتوحة أي مقطع، أي مضروب بالسيف. والمشايع: اللاحق.
وكانت الشيعة الذين شايعوا علياً عليه السلام على قتال طلحة والزبير وعائشة، ومعاوية، والخوارج في حياة علي عليه السلام، ثلاث فرق: فرقة منهم، وهم الجمهور الأعظم الكثير، يرون إمامة أبي بكر وعمر، وعثمان، إلى أن غير السيرة، وأحدث الأحداث.
وفرقة منهم، أقل من أولئك عدداً: يرون الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبا بكر، ثم عمر، ثم علياً، ولا يرون لعثمان إمامة؛ قال أيمن ابن خزيم الأسدي:
له في رقاب الناس عهدٌ وبيعةٌ ... كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر
وحكى الجاحظ أنه كان في الصدر الأول لا يسمى: شيعياً، إلا من قدم علياً على عثمان؛ ولذلك قيل: شيعي، وعثماني؛ فالشيعي: من قم علياً على عثمان، والعثماني: من قدم عثمان على علي.
وكان واصل بن عطاء ينسب إلى التشيع في ذلك الزمان. لأنه كان يقدم علياً على عثمان.
وفرقة منهم يسيرة العدد جداً، يرون علياً أولى بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويرون إمامة أبي بكر وعمر كانت من الناس على وجه الرأي والمشورة، ويصوبونهم في رأيهم ولا يخطئونهم، إلا أنهم يقولون: إن إمامة علي كانت أصوب وأصلح.
ولم تزل الشيعة على هذه الأقوال الثلاثة، إلى أن قتل الحسين بن علي عليه السلام، ثم افترقت الشيعة بعده على ثلاث فرق: فرقة قالت: إن الإمام بعد الحسين ابنه علي بن الحسين، وإن الإمامة بعد الحسين في ولده خاصة، لأنها استقرت في يده فلم تكن لتخرج من أيدي ولده إلى غيرهم، وإنها تمضي قدماً قدماً لا تأخذ يميناً ولا شمالاً، وإنها لا ترجع القهقرى ولا تمشي إلى وراء، ولا تكون إلا بنص من الإمام الأول على الإمام الثاني، وإن الأرض لا تخلو من إمام طرفة عين، إما مشهور وإما مستور، ولهذا سموا: بالإمامية، لالتزامهم بالإمام.
وقالت الفرقة الثانية: لم يصح عندنا أن الحسين عهد إلى أحد، ولا دعى ابنه علي إلى بيعة، فنحن نقف حتى نرى رجلاً من أحد البطنين - يعنون: ولد الحسن والحسين - يصح لنا ولادته، وزهده، وعلمه، وشجاعته، وعدالته، وورعه، وكرمه، يشهر السيف، ويباين الظالمين، فتلزمنا طاعته، فسموا: الواقفة، فمكثوا بعد قتل الحسين ستين سنة، حتى قام زيد بن علي بن الحسين بالكوفة، في زمن هشام بن عبد الملك، فبايعوه، فسموا: الزيدية.
وقالت الفرقة الثالثة: إن الإمام بعد الحسين أخوه محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، واحتجوا في ذلك بأن علياً عليه السلام أحضره في وقت وصيته مع أخويه الحسن والحسين، ووصاه بطاعتهما، ووصاهما ببره وتعظيمه، قالوا: فلم يحضره في الوصية إلا وله شرك في الإمامة، وهذه الفرقة تسمى الكيسانية، نسبوا إلى رئيس لهم يقال له: كيسان، وهو مولى لبطن من بجيلة بالكوفة، وقيل: إن كيسان مولى لعلي عليه السلام.
وقيل: إن كيسان هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، وإن علياً سماه بذلك، وكان المختار كيسانياً، يؤمن بالرجعة، ويقول: إن محمد بن الحنفية، سيموت، ثم يبعث هو وشيعته، فيملأ الأرض عدلاً، وكان يدعى أن خروجه كان عن أمره، وتتبع قتلة الحسين بن علي، فقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص وابنه حفص بن عمر، وقتل شمر بن ذي الجوشن الضبابي، ووجه إبراهيم بن الأشتر، فقتل عبد الله ابن زياد، وغيرهم، وغلب على الكوفة، حتى خرج نفر من أهل الكوفة يستنجدون أهل البصرة على المختار، فخرج أهل البصرة مع مصعب بن الزبير، فقاتلوه، وكان في عسكر مصعب: عبد الله بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن الأشعث ابن قيس، فقتلهما المختار؛ ثم قتل المختار، قتله صراف بن يزيد الحنفي في سنة سبع وستين، وعقب المختار لكوفة كثير، وكان المختار يزعم أن جبريل يأتيه وينزل عليه قرآناً، وهو أحد الكذابين، قال فيه أعشى همدان، وفي الحجاج ابن يوسف:
إن ثقيفاً منهم الكذابان ... كذابها الماضي وكذابٌ ثان
إنا سمونا للكفور الفتان ... حين طغى الكفر بعد الإيمان
بالسيد الغطريف عبد الرحمن ... يا رب مكن من ثقيف همدان
وكان المختار توعد أسماء بن خارجة بن حصن الفزاري، وولد سعيد بن قيس ابن يزيد بن ذي مرت الهمداني. بهدم داريهما، وبلغ أسماء بن خارجة أن المختار يقول لأصحابه: إنه نزل عليه في قرآنه: (لتنزلن من السماء نار بالدهماء، فلتخوفن دار أسماء!!) فقال أسماء: ويلي على ابن الخبيثة، قد عمل في داري قرآناً!! لا أقف بعد هذا؛ فهرب أسماء من المختار، فهدم داره وأحرقها، وحالت همدان دون دار صاحبهم؛ فقال عبد الله بن الزبير الأسدي، يؤنب مضر في هدم دار أسماء:
فلو كان من همدان أسماء أصحرت ... كتائب من همدان صعر خدودها
لهم كان ملك الناس من قبل تبع ... تقود وما في الناس حي يقودها
وقيل لعبد الله بن عمر: إن المختار يعمد إلى كرسي فيجعله على بغل أشهب، ويحف بالديباج، ثم يطوف حوله هو وأصحابه فيستسقون به ويستنصرون به، ويقولون: هذا الكرسي فينا، مثل تابوت آل موسى.
فقال ابن عمر: فأين بعض جنادبة الأزد عنه؟ قال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: يعني: جندب بن كعب بن عبد الله ابن حر بن عامر بن مالك بن ذهل بن ثعلبة بن ظبيان، قاتل الساحر الذي يقال له: بستاني، وكان يلعب للوليد بن عقبة، يريد أنه يقتل رجلاً، ثم يحييه، ويدخل في فم ناقة، ثم يخرج من حيائها، فرآه جندب بن كعب يفعل ذلك؛ فقال لمولى له صقل: أعطني سيفاً هذاماً، فأعطاه السيف، فأقبل جندب إلى الساحر فضربه ضربة فقتله، ثم قال: أحي نفسك، فأخذه الوليد بن عقبة فحبسه؛ فلما رأى السجان صلاة جندب، وصومه، خلى سبيله؛ فأخذ الوليد السجان فقتله؛ قال أعشى همدان في المختار وأصحابه:
شهدت عليكم أنكم سبيئة ... وأني بكم يا شرطة الكفر عارف
وأن ليس كالكرسي فينا وإن سعت ... شبام حواليه ونهم وخازف
وإن شاكر طافت به وتمسحت ... بأعواده وأدبرت لا تساعف
وسميت الرافضة من الشيعة: رافضة، لرفضهم زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، وتركهم الخروج معه، حين سألوه البراءة من أبي بكر وعمر، فلم يجبهم على ذلك.
وروى عوانة بن الحكم قال: لما استتب الأمر لزيد بن علي عليه السلام جمع أصحابه فخطبهم وأمرهم بسيرة علي بن أبي طالب في الحرب.
فقالوا: قد سمعنا مقالتك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: وما عسيت أن أقول فيهما؟ صحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأحسن الصحبة، وهاجرا معه، وجاهدا في الله حق جهاده، ما سمعت أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيراً.
قالوا: فلم تطلب بدم أهل بيتك، ورد مظالمهم إذاً، وليس قد وثبا على سلطانهم، فنزعاه من أيديكم، وحملا الناس على أكتافكم، يقتلونكم إلى يومكم هذا؟ فقال لهم زيد: إنما وليا علينا وعلى الناس، فلم يألوا العمل بكتاب الله وسنة رسوله.
قالوا: فلم يظلمك بنو أمية إذاً، إن كان أبو بكر وعمر لم يظلماك! فلم تدعونا إلى قتال بني أمية، وهم ليسوا لكم ظالمين، لأن هؤلاء إنما تبعوا في ذلك سنة أبي بكر وعمر؟
فقال لهم زيد: إن أبا بكر وعمر ليسا كهؤلاء، هؤلاء ظالمون لكم ولأنفسهم، ولأهل بيت نبيهم، وإنما أدعوكم إلى كتاب الله ليعمل به، وإلى السنة أن يعمل بها، وإلى البدع أن تطفأ، وإلى الظلمة من بني أمية أن تخلع وتنفى، فإن جبتم سعدتم، وإن أبيتم خسرتم، ولست عليكم بوكيل.
قالوا: إن برئت منهما وإلا رفضناك!! فقال زيد: الله أكبر، حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: (إنه سيكون قوم يدعون حبنا لهم نبزٌ يعرفون به، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون). اذهبوا فإنكم الرافضة.
ففارقوا زيداً يومئذٍ فسماهم: الرافضة، فجرى عليهم هذا الاسم.
وروى السيد أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون الحسني في كتاب الدعامة: أن جميع فرق الأمة اجتمعت على إمامة زيد بن علي عليه السلام، إلا هذه الفرقة التي تقدم ذكرها.
فقال: لما شهر فضله وتقدمه، وظهر علمه وبراعته، وعرف كماله، الذي تقدم به أهل عصره، اجتمع طوائف الناس، على اختلاف آرائهم، على مبايعته، فلم يكن الزيدي أحرص عليها من المعتزلى، ولا المعتزلى أسرع إليها من المرجى، ولا المرجى من الخارجي، فكانت بيعته عليه السلام مشتملة على فرق الأمة، مع اختلافها، ولم يشذ عن بيعته إلا هذه الطائفة العلية التوقيف.
قال: ومن الواضح الذي لا إشكال فيه، أن زيد بن علي، يذكر مع المتكلمين إن ذكروا، ويذكر مع الزهاد إن ذكروا، ويذكر مع الشجعان وأهل المعرفة بالضبط والسياسة، وكان أفضل العترة، لأنه كان مشاركاً لجماعتهم في جميع خصال الفضل، ومتميزاً عنهم بوجوه لم يشاركوه فيها.
فمنها: اختصاصه بعلم الكلام، الذي هو أجل العلوم، وطريق النجاة والعلم الذي لا ينتفع بسائر العلوم إلا معه، والتقدم فيه، والاشتهار عند الخاص والعام.
هذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يصفه في صنعة الكلام ويفتخر به ويشهد له بنهاية التقدم، وجعفر بن حارث في كتاب الديانة، وكثير من معتزلة بغداد كمحمد ابن عبد الله الإسكافي وغيره، وينسبون إليه في كتبهم، ويقولون: نحن زيدية.
وحسبك في هذا الباب انتساب المعتزلة إليه، مع أنها تنظر إلى الناس بالعين التي ينظر بها ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلاً، فلولا ظهور علمه وبراعته، وتقدمه كل أحد في فضيلته، لما انقادت له المعتزلة.
وإذا أردت تحقيق ما قلناه فسم بعض تلامذتهم، أو متوسطهم أن ينسب إلى غيره من أهل البيت، ممن لا تحصيل له في رتبة زيد بن علي، ليسمع منه العجائب.
ومن الوجوه التي اختص بها: تميزه عن جماعتهم بفضل الفصاحة والبيان.
ومنها: اختصاصه بعلم القرآن ووجوه القراءات، وله قراءة مفردة مروية عنه.
ومنها: تقدمه بالشجاعة، والرغبة في الجهاد، فقد روى عنه عليه السلام أنه لما خفقت الروايات على رأسه، قال: الحمد لله الذي أكمل لي ديني بعد أن كنت أستحي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أرد عليه، ولم آمر في أمته بمعروف، ولم أنه عن منكر.
ومما يدل على صحة ما رواه السيد أبو طالب من إجماع فرق الأمة، على زيد ابن علي، لما كان من فضله، قول شاعر الخوارج يرثي زيداً عليه السلام ويقرع الزيدية:
يا با حسين والأمور إلى مدى ... أولاد درزة أسلموك وطاروا
يا با حسين لو شراة عصابةٍ ... علقتك كان لوردهم إصدار
وقال أيضاً:
أولاد درزة أسلموك مبلا ... يوم الخميس لغير ورد الصادر
تركوا ابن فاطمة الكرام تقوده ... بمكان مسخلة لعين الناظر
وروى حسن بن علي، عن يحيى بن أبي يعلا، عن عمر بن موسى، قال: قلت لزيد بن علي: أكان علي إماماً؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبياً مرسلاً، لم يكن أحد من الخلق بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا كان لعلي ما ينكر الغالية، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان علي من بعده إماماً للمسلمين في حلالهم وحرامهم، وفي السنة عن نبي الله، وتأويل كتاب الله، فما جاء به علي من حلال أو حرام أو كتاب أو سنة، أو أمر أو نهي، فرده الراد عليه، وزعم أنه ليس من الله، ولا من رسوله، كان رده عليه كفراً، فلم يزل ذلك حتى أظهر السيف، وأظهر دعوته، واستوجب الطاعة، ثم قبضه الله شهيداً.
ثم كان الحسن والحسين، فوالله ما ادعيا منزلة رسول الله، ولا كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القول فيهما ما قال في علي عليه السلام، وأيضاً أنه قال: سيدا شباب الجنة، فهما كما سماهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانا إمامين عدلين، فلم يزالا كذلك، حتى قبضهما الله تعالى شهيدين.
ثم كنا ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بعدهما ولد الحسن والحسين، ما فينا إمام مفترضة طاعته، ووالله ما ادعى علي بن الحسين أبي ولا أحد منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا منزلة علي، ولا كان من رسول الله فينا ما قال في الحسن والحسين، يغر أنا ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهؤلاء يقولون: حسدت أخي وابن أخي!! أحسد أبي حقاً هو له؟ لبئس الولد أنا من ولد، إني إذاً لكافر، إن جحدته حقاً هو له من الله. فوالله ما ادعاها علي بن الحسين، ولا ادعاها أخي محمد بن علي، منذ صحبته حتى فارقني.
ثم قال: إن الإمام منا أهل البيت، المفروض علينا وعليكم وعلى المسلمين، من شهر سيفه، ودعا إلى كتاب ربه وسنة نبيه، وجرى على أحكامه، وعرف بذلك، فذلك الإمام الذي لا تسعنا وإياكم جهالته.
فأما عبد جالس في بيته، مرخ عليه ستره، مغلق عليه بابه، يجري عليه أحكام الظالمين، لا يأمر بمعروف، ولا ينهي عن منكر، فأنى يكون ذلك إماماً مفروضة طاعته؟ وفي فضل زيد بن ما روى محمد بن سالم، قال: قال لي جعفر بن محمد: يا محمد هل شهدت عمي زيداً؟ قلت: نعم، قال: فهل رأيت فينا مثله؟ قلت: لا، قال: ولا أظنك والله ترى فينا مثله، إلى أن تقوم الساعة؛ كان والله سيدنا، ما ترك فينا لدين ولا دنيا مثله.
وروى عن محمد بن علي أنه قال - وأشار إلى زيد - : هذا سيد بني هاشم، إذا دعاكم فأجيبوه، وإذا استنصركم فانصروه.
وروى أن زيداً بن علي دخل على هشام بن عبد الله فدار بينهما كلام، حتى قال له هشام: إنك لترجى بالخلافة وأنت ابن أمة؟ فقال له زيد: يا أمير المؤمنين، إن أمي مع أمك كأم إسماعيل مع أم إسحاق فلم يمنعه ذلك من أن جعله صديقاً نبياً.
فلما خرج زيد أتبعه هشام بصره، وقال: كذب من قال: ذهب أهل بيت فيهم مثل هذا.
ثم خرج زيد بن علي بالكوفة على هشام بن عبد الملك - ووالى العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفي - فقتل زيد في المعركة، وذهبت أصحابه، فعلم به يوسف بن عمر، فنبشه وصلبه. ثم كتب هشام يأمر أن يحرق. فأحرق ونسف في الفرات.
ثم خرج ابنه يحيى بن زيد بالجورجان على الخليع الكافر الوليد بن يزيد ابن عبد الملك بن مروان، فبعث نصر بن سيار إليه، وأحضر المازني، فحاربه، فقتل يحيى بن زيد بالجورجان من أرض خراسان بقرية يقال لها أرعوية، ودفن في بعض الخانات.
وكان الوليد بن يزيد زنديقاً خليفاً، كافراً، فصيحاً شاعراً، ونظر يوماً إلى المصحف ليتفاءل، فوقع على قوله تعالى: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد)، فجعل المصحف غرضاً يرميه، ثم مزقه وأحرقه وقال يخاطب المصحف:
أتوعد كل جبارٍ عنيد ... فها أنا ذاك جبارٌ عنيد
إذا لاقيت ربك يوم حشرٍ ... فقل يا رب حرقني الوليد
وقال أيضاً:
تلعب بالخلائق هاشميٌ ... بلا وحي أتاه ولا كتاب
أتوعدني الحساب ولست أدري ... أحق ما تقول من الحساب
فقل لله يمنعني طعامي ... وقل لله يمنعني شرابي
وقال أيضاً:
يا أيها السائل عن ديننا ... وهم على دين أبي شاكر
نشربها صرفاً وممزوجةً ... بالسخن أحياناً وبالفاتر
وقال أيضاً:
أدر الكأس يمينا ... لا تدرها ليسار
أسق هذا ثم هذا ... صاحب العود النضار
من كميت عتقوها ... منذ دهر في جرار
ختموها بالأفاوي ... ه وكافور وقار
فلقد أيقنت أني ... غير مبعوث لنار
سأروض الناس حتى ... يركبوا أي؟.. الحمار
وذروا من يطلب الجن؟ ... ؟ة يسعى لتبار
وأما قول الوليد بن يزيد: فقل لله يمنعني طعامي... البيت، فإن هذا البيت لبجير بن عبد الله بن عامر بن سلمة القشيري، في شعره الذي رثى به هشام بن مغيرة المخزومي، إلا أن الوليد قلب البيت فجعل عروضه ضروباً وضروبه عروضاً، وهذا قول بجير:
تحيتي بالسلامة أم بكر ... وهل لك بعد رهطك من سلام
ذريني أصطبح يا بكر إني ... رأيت الموت نقب عن هشام
ونقب عن أبيك وكان قرماً ... من الفتيان شراب المدام
فود بنو المغيرة لو فدوه ... بألف من رجال أو سوام
وود بنو المغيرة لو فدوه ... بألف مدجج وبألف رام
وكائن بالطوى طوى بدر ... من الفتيان والخيل الجسام
وكائن بالطوى طوى بدرٍ ... من الأحسان والقوم الكرام
وكائن بالطوى طوى بدرٍ ... من الشيزى تكلل بالسنام
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام
أيعجز أن يرد الموت عني ... ويحييني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني مفطرٌ شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي ... وقل لله يمنعني طعامي
وكان المشركون يسمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ابن كبشة، وابن أبي كبشة.
وكان أبو كبشة، رجلاً من خزاعة، مخالفاً لقريش في عبادة الأوثان، وكان يعبد الشعرى العبور، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه بقوله: (وإنه هو رب الشعرى)، أي رب هذا النجم الذي يعبد من دونه.
وأبو كبشة جد جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمه، وأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأم وهب بن عبد مناف كبشة بنت أبي كبشة الخزاعي.
وممن رمى بالزندقة من أهل الإسلام: معن بن زايدة بن عبد الله بن زايدة بن مطر بن شريك بن عمرو الشيباني.
ومنهم عبد السلام بن رعبان، وقيل إنه القائل:
هي الدنيا وقد نعموا بأخرى ... وتسويف الظنون من السوافي
فإن يك بعض ما قالوه حقاً ... فإن المبتليك هو المعافي
ومنهم أبو نواس الحسن بن هانئ، وقيل إنه وجد في بيته بعد موته هذان البيتان:
باح لساني بمضمر السر ... وذاك أني أقول بالدهر
وليس بعد الممات حادثةٌ ... وإنما الموت بيضة العقر
وقيل: كان سبب موته أنه كان صديقاً لبني نوبخت، ولهم إليه إحسان، وكان لهم مذهب في التشيع، فأغرى بهجائهم، وكان لهم كاتب بغدادي، يقال له زنبور، فروى عليه هجاء كثيراً فيهم، من ذلك قوله في رئيس لهم يقال له إسماعيل:
خبز إسماعيل كالوشي ... إذا ما شق يرفا
عجباً من محكم الصنعة ... فيه كيف يخفى
الأبيات. وكان مما روى عنه أيضاً في هجائهم، وهجاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول فيه:
لله رافضة بليت بهم ... يتلاحظون بأعين خزر
يرضون أن أرضى أبا حسن ... لهم وأبرأ من أبي بكر
فلأجمعن على عدوانه ... ولأشهدن عليه بالكفر
ولأشكرن لراحةٍ ضربت ... تلك المفارق آخر الدهر
فلما بلغتهم هذه الأبيات سقوه سماً فمات منه.
وقيل: بل كانوا في منتزه لهم عند سليمان بن أبي سهل، ومعهم أبو نواس وزنبور، فأنشد زنبور هذا الشعر، وقد عمل فيهم الشراب، فقاموا إلى أبي نواس فداسوا بطنه، فلم يزل يضع أمعاءه حتى مات.
ومنهم عبد الكريم بن نويرة الدهلي، وهو الذي سير عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة آلاف حديث كذباً، فقتله محمد بن سليمان بن علي بالكوفة وصلبه، فقال للمسلمين حين أحس بالقتل: اعملوا ما شئتم فقد لبست عليكم دينكم وجعلت حلالكم حراماً وحرامكم حلالاً، ودسست عليكم في كتبكم أربعة آلاف حديث كذباً، كل يعملون به منها.
ومنهم الأخطل، الشاعر: غياث بن غوث بن الصلت التغلبي، وهو القائل:
ولست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي
؟ولست براكب عيساً بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بقائم كالغير أدعو ... مع الأصباح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا ... وأسجد قبل منبلج الصباح
وغير هؤلاء ممن رمي بالزندقة، وهم كثير، واختصارهم أولى من ذكرهم، إلا أنا ذكرناهم عند ذكر الوليد بن يزيد وما كان من كفره.
وكان الوليد بن يزيد، أحد خلفاء بني أمية، فلما أعلن بالكفر خرج عليه ابن عمه، يزيد بن عبد الملك، وهو الذي يقال له: الناقص، وخرجت معه الغيلانية، وهم يقولون بالعدل والتوحيد، فقتل الوليد، وولي الأمر بعده وسمي الناقص، لأنه نقص الجند من أرزاقهم.
وكان يزيد بن الوليد صالحاً، مرضي السيرة، ولم يكن من خلفاء بني أمية مثله، ومثل عمر بن عبد العزيز.
فلما استولى يزيد على الأمر، قام في الناس خطيباً، فقال - بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - : والله ما خرجت أشراً، ولا بطراً، ولا حرصاً على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما أطري نفسي وإني لها لظلوم، ولكني خرجت غضباً لله، ولدينه، وداعياً إلى كتاب الله، وسنة نبيه، لما هدمت معالم الهدى، وأطفئ نور أهل التقى، وظهر الجبار العنيد، المستحل لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان ليؤمن بيوم الحساب، وأنه لابن عمي في الحسب وكفيئي في النسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمري، وسألته ألا يكلني إلى نفسي، واستعنت من أطاعني من أهل ولايتي، إلى أن أراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، بحول الله وقوته، لا بحولي وقوتي.
أيها الناس: إن لكم علي ألا أضع حجراً، ولا أجري نهراً، ولا أكتنز مالاً، ولا أعطيه زوجة ولا ولداً، ولا أنقل مالاً من بدل إلى بلد، حتى أسد فقرة ذلك البلد، وخصصت أهله بما يغنيهم، فإن فضلت فضلة نقلته إلى البلد الذي يليه، ممن هو أحوج إليه، ولا أجهزكم في ثغوركم، فأفتنكم وفتن أهاليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم، ولكن لكم عطاياكم كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم؛ فإن أنا وفيت لكم بهذا، فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة؛ وإن لم أف لكم، فلكم أن تخلعوني إلا أن تستتيبوني، فإن تبت قبلتم مني، فإن رأيتم أحداً، أو عرفتموه بالفضل يعطيكم من نفسه، مثل ما أعطيتكم، وأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته.
أيها الناس، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.
وكانت ولاية يزيد بن الوليد خمسة أشهر ثم مات.
وولي بعده مروان بن محمد بن مروان، وهو الذي يقال له الحمار، فأمر بيزيد ابن الوليد، فنبش وصلب، وكان مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية.
قال البلخي: ولا أعلم كورة يغلب فيها التشيع إلا قُمّ وبلاد إدريس وأهلها معتزلة.
وباليمن من الشيعة فرقتان: الجارودية من الزيدية، والمباركية من الإسماعيلية.
وأول من دعا باليمن إلى مذهب الزيدية، ونشر مذهب أئمتهم: يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولقبه الهادي إلى الحق، فنزل بين خولان، وغلب على صعدة.
فخرج أحمد بن عبد الله بن محمد بن عباد الأكيلي من اليمن، إلى العراق، وافداً على المعتضد بالله في آخر أيامه، يستنجده على يحيى بن الحسين، فوجد المكتفي قد بويع له، فواجهه المكتفي بالعراق، وأمر معه بالجيوش العظيمة، حتى ورد كتاب أبي مزاحم عج بن شاح، وإلى الحرمين، يخبر أن يحيى بن الحسين العلوي خرج من صنعاء، ففتر السلطان عن ذلك العزم.
قال أبو محمد الحسن بن أحمد الهمذاني في الجزء الأول من الأكليل: حدثني أبو الصباح الحسن بن أحمد عن أبيه، قال: دخلت على الخليفة فبثثت له خبري، وأعلمته بما قصدت له، من نجدته لي.
فقال لي: أتيت على حاجتك، وبلغت منا أقصى مرادك.
قال: ثم أدخلت عليه بعد ذلك، ليتأكد علي في بعثه، الذي يبعث معي.
قال: فألح علي في ذلك.
قال: فقلت يا أمير المؤمنين، إنهم خدمك يصيرون إلى بلدك، وإلى جوار رعيتك وطاعتك.
قال: فقال لي: إن لأهل اليمن وثبات كوثبات السباع النهمة.
قال: فما أقمنا إلا أياماً حتى أتى كتاب عج، يذكر إخراج العلوي من صنعاء.
فقال لي الوزير: كيف رأيت قول أمير المؤمنين؟
قال: قلت: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ما جعله الله عميد هذا الخلق بأمر قريب.
وأحمد بن عبد الله القائل في شعره إلى العراق:
هي العين أمست والكرى لا يطيعها ... ففيم تلوم النفس أو ما صنيعها
والقائل أيضاً:
لعمرك ما زال المطايا نواجياً ... لهن رسيم دائمٌ وخبيب
شعرين من أحسن الأشعار وأفصحها.
وأول من نشر مذهب الإسماعيلية باليمن منهم: الداعي أبو القاسم أبو الحسن بن فرج بن حوشب بن زادان الكوفي، وهو منصور مستور؛ وهم يرون أن محمد بن إسماعيل بن جعفر كان بالمدينة، وولد بها ولدين: جعفر وإسماعيل، وأقام حتى شهر أمره في زمن الرشيد، فحدث به يوماً أن يومئ إليه، فبعث بحمله إليه، وحدث محمد فاتخذ سرباً، وغاب فيه زماناً واستتر في داره بالمدين ة، ثم أنه بعد أن هدأ عنه الطلب خرج مستتراً، وخلف ولديه بالمدينة، فصار إلى نيسابور.
ثم صار إلى أرض ديلم لا يعرف مكانه إلا خواص شيعته، وهو يجول في ارض الديلم إلى نيسابور، وولد هنالك ولداً يكتمون اسمه، ويسمونه: الإمام المستور. وتوفي محمد بن إسماعيل بالمشرق، وأوصى إلى ابنه هذا بالأمامة، وأكد عليه في سترة اسمه.
قال: وكذلك توصي إلى ولدك الذي تعهد إليه وتأمره أن يوصي إلى ولده بمثل ذلك، فإنه لا يزال الأمر مستوراً، حتى يظهره الله بالرابع من ولدك، فيقوم بالغرب وينجز الله له وعده، وينصب راية لا تنكس إلى يوم القيامة، من ولده يكون القائم المنتظر.
فمضى ابنه بعده على هذه السيرة، وهم يلقبونه بالمهدي، ثم أوصى إلى ابنه الثاني بمثل ذلك، وهو يلقب بالمقتدي، ثم أوصى إلى ابنه الثالث بمثل ذلك، وهو يلقب بالهادي.
ثم انتقل الهادي إلى الكوفة، وبعث منها المنصور أبا القاسم بن فرج بن حوشب بن زادان الكوفي داعياً إلى اليمن، وأمره أن يقصد اليمن، وينزل بعدن لاعه، في مغرب اليمن، فإن الله عز وجل قسم لليمانية ألا يتم أمر في هذه الشريعة إلا بنصرهم، وأمره أن يدعو إلى ابنه عبد الله المهدي.
قال: فأما أنا فلا حظ لي في الملك، وبعث معه علي بن الفضل الخنفري وكان قد وفد إليه من اليمن، فخرجا جميعاً إلى مكة، ثم افترقا. فقصد المنصور عدن لاعه، وقصد ابن فضل إلى أرض يافع، ثم أن المنصور شهر السيف وطلع جبل مسور واستفتحه، وأسر العامل الذي كان فيه للأمير إبراهيم بن محمد بن يعفر الحوالي، وبنى حصن مسور ونزل به، وغلب على تلك الناحية؛ فبعث إليه الهادي بأبي عبد الله الحسين بن أمرن الهرمزي، ولقبه المنصور أيضاً، وأمره أن يبعث أبا عبد الله هذا من اليمن إلى المغرب، فإن على يديه تمام الأمر، فبعثه المنصور، فمضى أبو عبد الله إلى كتامة، وهم من حمير من ولد مرة بن عبد شمس ابن وابل الغوث بن حيدان بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع ابن حمير الأكبر - وكتامة هؤلاء في بلد البرابر - فنزل بينهم، وكان يعلم أولادهم، فلقب بالمعلم وعرف به، ثم عرف بالشيعي وبالمشرقي، وربما لقب بالصنعاني، فمكث فيهم ستة عشر سنة، حتى تم له الأمر، وخرج عبد الله المهدي، بعد أن كان أبوه قد نزل بالشام هارباً من العراق مستتراً، فأقام في مدينة سلمية، من أعمال حمص، حتى مات الهادي في الستر، وهو آخر المستوزرين، وطلب ابنه عبد الله أشد الطلب، وبعث له المكتفي من يقبض عليه من سلمية، فهرب بوقته، حتى صار إلى سواحل الشام، ثم مضى إلى مصر فأقام بها، ثم لحقه الطلب، فخرج إلى المغرب، فظفر به بولده بسجلماسة، فحبسا وبلغ إلى أبي عبد الله الشيعي خبره، وقد كان استفتح القيروان، فكتم أمره، وسار بكتامة حتى نزل بسلجماسة، فافتتحها، وأخرج المهدي وابنه عبد الله، وقال لكتامة: هذا الذي بايعتكم له، فاجتمعوا على بيعته، وسار مع أبي عبد الله، وقد ملك المغرب كله، وجعل فيه العمال، وصارت إليه أموال عظيمة، مما جمعه أبو عبد الله من الأخماس والهدايا والوصايا والزكاة في مدته التي أقام فيها بينهم، وجاء المهدي حتى نزل القيروان، وبنى مدينة المهدية على ساحل البحر الغربي، واتخذها دار خلافته، وولده بمصر يخرج الأمر منهم، من رجل إلى ولده بالنص عليه - كما مر ذكره في فرق الخطابية - إلى وقت الحافظ ويومنا هذا، وهو سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة سنة من مهاجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وسار علي بن فضل الخنفري إلى أرض يافع، فاشتدت وطأته باليمن، واستولى على أكثر مخالفيه، وأعلن بالكفر، وأحل جميع المحرمات، وخرج المساجد، وكان يدعي أنه نبي، فقال فيه بعض شعراء أهل عصره:
خذي العود يا هذه واضربي ... نقيم شرائع هذا النبي
تولى نبي بني هاشم ... وهذا نبي بني يعرب
فحط الصلاة وحط الزكاة ... وحط الصيام ولم يتعب
وغالب الظن أنه كان من الخطابية، لأنهم يدعون أنهم أنبياء.
وابن فضل أول من سن القرمطة في اليمن، والقرمطة عند أهل اليمن عبارة عن الزندقة، وصاحبها عندهم قرمطي فجمعه قرامطة.
فلما مات علي بن فضل، قام ابنه بالمذيخرة من بعده، وفرق الأموال في أصحابه، فخرج الأمير أسعد بن يعفر بن إبراهيم بن محمد بن يعفر بن عبد الرحمن ابن كريب الحوالي من صنعاء، في رجب سنة ثلاث وثلاثمائة، ومعه قواد اليمن، فلم يزل يحارب القرامطة، حتى استفتح بلدانهم، ودخل المذيخرة في جمادى الأولى سنة أربع وثلثمائة، فحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، وظفر بهم في رجب من هذه السنة، فتمثل منهم خلقاً كثيراً، وأخذ أموالاً عظيمة، يقصر عنها الوصف، وسبى نساء ابن فضل، فوهب بنته لابن أخيه قحطان بن عبد الله بن أبي يعفر، فولدت له عبد الله بن قحطان أمير اليمن؛ وبيع من القرامطة ناس كثير، وأخذ ولدين لعلي ابن فضل، وجماعة من رؤساء القرامطة، معه إلى صنعاء، وأمر بهم فذبحوا جميعاً، وطرحت أبدانهم في بئر في الجبانة، وأخذت رؤوسهم فبقرت ووجه بها في أربعة صناديق إلى مكة، فنصبت هنالك أيام الموسم.
وسميت الخوارج: خوارج، لخروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ورضي الله عنه، ومحاربتهم إياه.
ولهم أسماء غير الخوارج يسمون بها.
فمن أسمائهم: الحرورية: سموا بذلك لنزولهم بحروراء، اسم قرية، تمد وتقصر.
ومن أسمائهم: الشراة، سموا بذلك لأنهم يقولون: إنهم شروا أنفسهم من الله بالجهاد.
ومن أسمائهم: المحكمة: سموا بذلك لإنكارهم التحكيم في صفين، وقالوا: لا حكم إلا لله.
ون أسمائهم: المارقة: وهم لا يرضون بهذا الاسم ويرضون بسائر الأسماء، وكان منهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي، قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال عمران بن حطان الخارجي الشاعر، من بني سدوس، يمدح عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
أكرم بقوم بطون الطير قبرهم ... لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا
فبلغت الأبيات القاضي أبا الطيب الطبري فقال:
إني لأبرأ مما أنت قائله ... عن ابن ملجم الملعون بهتانا
إني لأذكره يوماً فألعنه ... وألعن الدهر عمران بن حطانا
عليك ثم عليه الدهر متصلاً ... لعائن الله إسراراً وإعلانا
فأنتم من كلاب النار جاء به ... نص الشريعة برهاناً وتبيانا
وكان علي بن محمد، الذي يسمى علوي البصرة، من الخوارج، وكان يرى رأي الأزارقة.
قال البلخي: وأفعاله في النساء والصبيان تدل على ذلك.
قال: وله خطبة يقول في أولها: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ألا لا حكم إلا لله.
وكان يرى أن الذنوب كلها شرك، وكان أنصاره الزنج، وكان خرج بالبصرة سنة خمس وخمسين ومائتين، فقتله علي بن أحمد الموفق.
وفي نسبه اختلاف، فمن الناس من يقول: هو علي بن محمد بن علي بن أحمد ابن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ومن الناس من يقول: إنه دعي، وإنه من أهل الري من قرية يقال لها: وزوى.
وفيه يقول علي بن محمد العلوي الزيدي الكوفي:
يقول لك ابن عمك من تعيذ ... لتبت أو لنوح أو لهود
لهجت بنا بلا نسب إلينا ... ولو نسب اليهود إلى القرود
لحقت بنا على عجل كأنا ... على وطن وأنت على البريد
فهبنا قد رضيناك ابن عم ... فمن يرضى بأحكام اليهود
والكور التي تغلب عليها الخوارج: الجزيرة، والموصل، وعمان، وسجستان.
وأهل عمان أباضية، وأئمتهم من الأزد من بطن يقال له: التحمد بن حمى بن غيمان بن نصر بن زهران بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وهم غير منقطعين من سائر الكور.
ومن الأباضية باليمن: طائفة من همدان في مغارب همدان.
ومنهم أيضاً طائفة بحضرموت من همدان أيضاً من بشق، بطن من بطون همدان.
وممن أنكر أمر الحكمين، وليس من الخوارج، بل من أنصار علي وأوليائه: الأحنف بن قيس، والأشتر النخعي، والحسن بن أبي الحسن البصري، وهؤلاء يتولون علياً عليه السلام قبل التحكيم وبعده.
وسميت المرجية: مرجية، لأنهم يرجون أمر أهل الكبائر، من أهل محمد، إلى الله تعالى، ولا يقطعون على العفو عنهم ولا على تعذيبهم، ويحتجون بقوله تعالى: (وآخرون مرجون لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) ويقولون: إخلاف الوعد كذب، وإخلاف الوعيد عفو وتفضل وكرم، ولو تهدد رجل عبداً من عبيده قد أساء إليه، وعصى وخالف أمره، وتوعده بالجلد أو القتل أو الصلب أو غير ذلك من العذاب، ثم عفا عنه، وأخلف وعيده، ما كان يسمى كاذباً عند العرب؛ واحتجوا بقول الشاعر عامر بن الطفيل:
ولا يرهب ابن العم مني صولتي ... ولا إحنتي من قوله المتهدد
وإني إذا أوعدته ووعدته ... لمخلف ميعادي ومنجز موعدي
قالوا: فجائز أن يخلف الله وعيده في القرآن، ولا يعذب أحداً من أهل الكبائر من المسلمين، ويجوز أن يعذبهم بقدر ذنوبهم، وأرجوا الأمر في ذلك إلى الله تعالى، يقال: أرجوا وأرجأوا، بالهمزة والتخفيف، فسموا: المرجية.
وليس من كور الإسلام كورة إلا والمرجية غالبون عليها إلا القليل منها.
والمرجية على ضربين: منهم يقولون بالعدل والتوحيد، مثل: الغيلانية والشمرية.
وضرب منهم يقولون: بالجبر والتشبيه.
وخرجت المرجية على الحجاج بن يوسف الثقفي، مع عبد الرحمن بن الأشعث، حين قال الحجاج على المنبر: أيها الناس، أرسول أحدكم في حاجته أكرم أم خلفته في أهله؟ فقالوا: إنه كفر بذلك؛ وكان الشيعي فيمن خرج، وخرجت منهم الغيلانية مع يزيد بن الوليد الناقص على الخليع الكافر الوليد بن يزيد فقتلوه.
وسميت الحشوية: حشوية، لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي يدخلونها فيها وليست منها، وجميع الحشوية يقولون بالجبر والتشبيه.
وسميت العامة: عامة، لالتزامهم بالعموم، الذي اجتمع عليه أهل الخصوص، وهم الذين يقولون بالأصول ولا يعرفون شيئاً من الفروع، ويقرون بالله، وبرسوله، وكتابه، وما جاء به رسوله على الجملة، ولا يدخلون في شيء من الاختلاف.
وسميت القدرية: قدرية: لكثرة ذكرهم القدر، وقولهم في كل ما يفعلونه قدره الله عليهم.
والقدرية يسمون: العدلية، بهذا الاسم، والصحيح ما قلناه، لأن من أكثر من ذكر شيء نسب إليه، مثل من أكثر من رواية النحو، نسب إليه، فقيل: نحوي، ومن أكثر من رواية اللغة نسب إليها، فقيل: لغوي، وكذلك من أكثر من ذكر القدر، وقال في كل فعل يفعله: قدره الله عليه، قيل: قدري، والقياس في ذلك مطرد.
وسميت المعتزلة: معتزلة، لقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، وذلك أن المسلمين اختلفوا في أهل الكبائر من أهل الصلاة.
فقالت الخوارج: هم كفار مشركون.
وقال بعض المرجية: إنهم مؤمنون لإقرارهم بالله ورسوله وبكتابه، وبما جاء به رسوله، وإن لم يعملوا به.
وقالت المعتزلة: لا نسمهم بالكفر ولا بالإيمان؛ ولا يقولون: إنهم مشركون ولا مؤمنون، ولكن يقولون: إنهم فساق؛ فاعتزلوا القولين جميعاً، وقالوا بالمنزلة بين المنزلتين، فسموا: المعتزلة.
ومن الناس من يقول: إنما سموا معتزلة، لاعتزالهم مجلس الحسن بن أبي الحسن البصري، وكان الذي اعتزله عمرو بن عبيد ومن تبعه، ذكر ذلك ابن قتيبة في المعارف.
ومن الناس من يقول: سموا معتزلة، لاعتزالهم علي بن أبي طالب عليه السلام في حروبه، وليس كذلك، لأن جمهور المعتزلة، وأكثرهم إلا القليل الشاذ منهم، يقولون: إن علياً عليه السلام كان على الصواب، وإن من حاربه فهو ضال، وتبرأوا ممن لم يتب من محاربته، ولا يتولون أحداً ممن حاربه إلا من صحت عندهم توبته منهم؛ ومن كان بهذه الصفة فليس بمعتزل عنه عليه السلام، ولا يجوز أن يسمى بهذا الاسم.
وقال كثير من المعتزلة: إن أفضل الأمة بعد نبيها: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بتقدمه لنظرائه في خصال الفضل في الدين.
قال قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، في شرح الأصول الخمسة - وهذا القول هو الذي يقول به أكثر شيوخنا البغداديين، وبعض البصريين، وهو الذي نصره الشيخ أبو عبد الله رحمه الله، والمشهور في كتب أبي علي وأبي هاشم، الوقوف في ذلك - قال: وإنما استحق عليه السلام الفضل من جهة الأفعال، لا من جهة الأخبار، التي يرويها الشيعة، لأنها غير مجمع عليها، وهي مع ذلك تحتمل التأويل، والأفعال التي استحق بها الفضل في الدين، فهي العلم والتبحر فيه، والورع والزهد والتقى، والهجرة، والسبق إلى الإسلام، والجهاد، والدعاء إلى الله عز وجل، وتعليم الناس الفروع والأصول؛ ومعلوم من حال أمير المؤمنين التقدم في هذه الخصال، فيجب أن نشهد بأنه أفضل الأمة، لا بأن الأخبار دلت على فضله.
والمعتزلة يسمون: لسان الكلام، ويسمون: العدلية، لقولهم بالعدل والتوحيد. وقيل: إن المعتزلة ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلاً، ولهم التصانيف الموضوعات، والكتب المؤلفات في دقائق التوحيد، والعدل والتنزيه لله عز وجل، ما لا يقوم به سواهم ولا يوجد لغيرهم، ولا يحيط به علماً لكثرته إلا الله عز وجل، وكل متكلم بعدهم يغترف من بحارهم، ويمشي على آثارهم؛ ولهم في معرفة المقالات، والمذاهب المبتدعات، تحصيل عظيم، وحفظ عجيب، وغوص بعيد، لا يقدر عليه غيرهم، ينقدون المذاهب كما تنقد الصيارفة الدنانير والدراهم.
ويقال: إن لمذهب المعتزلة أسانيد تتصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس لأحد من فرق الأمة مثلهم، ولا يمكن خصومهم دفعه، وذلك أن مذهبهم مستند إلى واصل بن عطاء، وإن واصلاً يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية، وإلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي، وإن محمد يسند إلى أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن علياً يسند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان واصل بن عطاء من هل المدينة، رباه محمد بن الحنفية وعلمه، وكان مع ابنه أبي هاشم في الكتاب، ثم صحبه بعد موت أبيه صحبة طويلة؛ وحكى عن بعض العلماء أنه قيل له: كيف كان علم محمد بن علي؟ قال: إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره في واصل.
ثم انتقل واصل إلى البصرة، فلزم الحسن بن أبي الحسن البصري.
وكان واصل ألثغ بالراء، فما زال يروض نفسه، حتى أسقط الراء من كلامه في محاجته للخصوم وخطبه.
قال البلخي: وله الخطبة المشهورة التي ارتجلها بحضرة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فأسقط منها الراء، فذكرته الشعراء بذلك، قال الشاعر:
ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وجانب الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطراً والقول يعجله ... فعاد بالغيث إشفاقاً من المطر
وقال صفوان الأنصاري:
ملقنٌ مفهمٌ فيما يحاوله ... جمٌ خواطره جواب آفاق
وقال آخر:
تكلفوا القول والأقوام قد حفلوا ... وحبروا خطباً ناهيك من خطب
فقام مرتجلاً تغلي بديهته ... كمرجل القين لما حف باللهب
وجانب الراء لم يشعر بها أحدٌ ... قبل التصفح والإغراق في الطلب
وقال آخر:
فهذا بديه لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول زوره شهرا
وقال آخر:
عليم بإبدال الحروف وقامعٌ ... لكل خطيب يغلب الحق باطله
وقال بشار بن برد الموعت وذكر خطبته، وكان واصل يكنى بأبي حذيفة:
أبا حذيفة قد أوتيت معجبةً ... من خطبة بدهت من غير تفكير
وإن قولاً يروق الخالدين معاً ... لمسكتٌ مخرسٌ من غير تحبير
وروى عن رجل جليل من أصحاب الحسن أنه قال: ما كنا نعد علينا أيام واصل ملكاً.
قال البلخي: وفرق واصل رسله في البلاد، يدعون إلى دين الله.
فأنفذ إلى المغرب: عبد الله بن الحارث، فأجابه الخلق، وهنالك بلد يدعى البيضاء، يقال إن فيه مائة ألف يحملون السلاح، يعرف أهله بالواصلية.
وأنفذ إلى اليمن: القاسم بن الصعدي.
وإلى الجزيرة: أيوب بن الأوتر.
وإلى خراسان: حفص بن سالم، وأمره بلقاء جهم ومناظرته.
وإلى الكوفة: الحسن بن ذكوان، وهو من اصحاب الحسن وسليمان بن أرقم.
وإلى أرمينية: عثمان بن أبي عثمان الطويل، أستاذ أبي الهذيل، وكان واصل قال له: اخرج إلى أرمينية، فقال له: يا أبا حذيفة، خذ شطر مالي وأنفذ غيري. فقال له: أنت يا طويل، فلعل الله أن يصنع لك!! قال عثمان: فخرجت فربحت مائة ألف درهم عن صفقة يدي، وأجابني أكثر أهل أرمينية. وكان قال له: الزم سارية من سواري المسجد تصلي عندها حتى يعرف مكانك، ثم إذا كان كذا وكذا من شهر كذا فابتدئ في الدعاء للناس إلى الحق، فأتى أجمع أصحابي في هذا الوقت ونبتهل في الدعاء لك والرغبة إلى الله، والله ولي توفيقك.
وعتب رجل من المعتزلة جليل على عمرو بن عبيد في شيء كان بينهما، فأنشد معرضاً:
إن الزمان، وما تفنى عجائبه ... أبقى لنا ذنباً واستأصل الراسا
ثم قال: يرحم الله واصل بن عطاء!! قال: فرفع عمرو رأسه، وقد اغرورقت عيناه؛ ثم قال: نعم، يرحم الله واصل ابن عطاء، كان لي رأساً، وكنت له ذنباً، والله ما رأيت أعبد من واصل قط، والله ما رأيت أزهد من واصل قط، والله ما رأيت أعلم من واصل قط، والله الذي لا إله إلا هو، لصحبت واصل بن عطاء ثلاثين سنة، أو قال: عشرين سنة، ما رأيته عصى الله قط.
وأرباب المذاهب من المعتزلة، ومصنفو الكتب، منهم: أبو حذيفة واصل ابن عطاء، وعمرو بن عبيد، وروى عمر عن واصل عن الحسن بن أبي الحسن البصري، وروى عن عمر وسفيان الثوري، وسفيان بن عتبة، وأبي يوسف، وأبي مطيع.
وبعد واصل وعمروا: أبو الهذيل محمد بن الهذيل العلاف، وهو من أهل البصرة مولى لعبد القيس؛ وأبو اسحق إبراهيم بن سيار النظام، وهو من أهل البصرة؛ وأبو المعتم بن عباد السلمي، وهشام بن عمرو الفوطي، وأبو سهل بشر ابن المعتمر رئيس المعتزلة بالبصرة، وجميع معتزلة بغداد، وأبو عمر ثمامة بن أشرس النميري، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الكناني، وغير هؤلاء أيضاً ممن صنف الكتب منهم، وهم كثير لا يجمع ذكره إلا كتاب مفرد.
وخرجت المعتزلة مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب على أبي جعفر المنصور، ورئيس المعتزلة يومئذ: بشير الرحال، وكان متقلداً سيفاً حمائله تسعة، وعليه مدرعة صوف، متشبهاً بعمار ابن ياسر، فقتلوا بين يديه صبراً، وذلك أن أصحاب إبراهيم انهزموا، فوقف هو والمعتزلة، فقتلوا جميعاً بباخمرى على ستة عشر فرسخاً من الكوفة.
وكان أبو جعفر المنصور يقول: ما خرجت المعتزلة حتى مات عمرو بن عبيد.
وكان بلغ المنصور أن محمد بن عبد الله، النفس الزكية، كتب إلى عمرو بن عبيد يستمليه؛ فضاق المنصور بذلك ذرعاً وأرسل إلى عمرو بن عبيد، فلما وصله، أكرمه وشرفه، وقال له: بلغني أن محمد بن عبد الله كتب إليك كتاباً؛ قال عمرو: قد جاءني كتاب، يشبه أن يكون كتابه؛ فقال له المنصور: فبم أجبته؟ قال: لم أجبه إلى ما أراد؛ فقال المنصور: أجل، ولكن أحب أن تحلف لي ليطمئن قلبي؛ فقال عمرو: ولئن كنت كذبتك تقية، لأحلفن لك تقية؛ فقال له المنصور: أعني بأصحابك؛ فقال له عمرو: أظهر الحق والعدل، يتبعك أهله.
فقال له المنصور: عظنا يا أبا عثمان.
فقال عمرو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد... إلى آخرها.
فبكى المنصور بكاء شديداً كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا الساعة.
ثم قال: اتق الله، فإن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فأفقد نفسك منه ببعضها، واعلم أن الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد غيرك ممن كان قبلك، ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وأحذرك ليلة تمخض صبيحتها عن يوم القيامة.
فبكى المنصور بكاء شديداً، كبكائه الأول، حتى كادت نفسه تفيض.
فقال له سليمان بن مخالد: رفقاً بأمير المؤمنين فقد أتعبته منذ اليوم.
فقال له عمرو: اسكت لا أبا لك، وماذا خفت عليه إن بكى من خشية الله؟ فلما هم عمرو بالنهوض، قال له المنصور: هل من حاجة يا أبا عثمان؟ فقال عمرو: نعم، وذلك ألا تبعث إلي حتى آتيك؛ قال المنصور: إذاً لا نلتقي؛ فقال عمرو: عن حاجتي سألتني؛ فقال المنصور: أستحفظك الله، وودعه. وانصرف عمرو.
=
https://encrypted-tbn0.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcSSPmDDN1ybMXKMkaMa4CuexgTES2ykqzeVbw&usqp=CAU
====مجلد 2. من كتاب الحور العين الحور العين نشوان الحميري كتاب : الحور العين نشوان الحميري
والكور التي تغلب عليها الاعتزال والقول بالعدل، على ما حكى البلخي: عمانة، وهي مدينة كبيرة؛ وتدمر أيضاً، وهي من بناء الشياطين لسليمان بن داوود عليه السلام؛ وبلاد المدارح كلها، وأهلها كلبٌ وقضاعة، وتدمر أيضاً في أيدي كلب وأعرابهم بين حمص إلى رحبة مالك بن طوق، وعامة كلب يذهبون مذهب الاعتزال؛ وكثير من قرى الشام، منها: نهبا، وأزكه، وبعلبك، وغير ذلك.
ومن الغرب: البيضاء، وهي كور كبيرة، يقال إن فيها مائة ألف يحملون السلاح يقال لهم: الواصلية، وقد تقدم آنفاً، وبها أيضاً صنف من الصفرية؛ وطنجة: وهي بلاد إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وهم معتزلة، وكان رئيسهم إسحاق بن محمود بن عبد الحميد، وهو الذي اشتمل على إدريس بن عبد الله بن الحسن، حين ورد عليه، فأدخله في الاعتزال.
ومن اليمن: وهب بن منبه وأصحابه، وهم أبناء فارس الذين باليمن، ثم ارتدوا بعد ذلك عن الاعتزال، حين وليت بنو أمية اليمن، وكان بنو أمية يسمون المعتزلة: شيعة، لمحبتهم علياً رضي الله عنه، فضربوا من الأبناء لهذا السبب اثنتين وسبعين رقبة، فارتدوا عن ذلك.
وأكثر أهل أرمينية، وفيهم ضرارية، وبعض أهل أذربيجان، وبعضهم خوارج.
ومن كور الأهواز: عسكر مكرم كلها، وهي كورة عظيمة فيها بشر كثير، يقال إن بها مائة ألف حائك، سوى سائر أهل الصناعات، ورامهرمز، وستر، والسوسن وغير ذلك.
ومن كور فارس: سيراق، وغيرها أيضاً. وكورة أيضاً بكرمان.
ومن كور السند: المنصورة، وكورة أيضاً غيرها، وقيل عامة السند.
ومن جزيرة العرب: هجر، والبحرين، وعامة الأيلة، وعامة البصرة.
واعلم أن أول اختلاف جرى بين الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، اختلافهم في الإمامة يوم سقيفة بني ساعدة.
فقالت الأنصار لقريش: الإمامة فينا وفيكم، منا أمير ومنكم أمير.
وقالت قريِش: نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإمامة في قريش دون غيرهم، ونحن الأمراء وأنتم الوزراء.
فجرى هذا الاختلاف في الإمامة بين الأمة إلى يومنا هذا.
فمن الناس من يقول: الإمامة في قريش خاصة.
ومنهم من يقول: هي في جميع الناس.
وكانت الأنصار قد بايعوا يوم السقيفة أبا ثابت سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن الخزرج، فحسده ابن عمه بشير بن سعد بن خلاس بن زيد بن مالك الأصغر ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.
فكسر بشير على سعد، وكان بشير أول من بايع أبا بكر من جميع الناس، ثم تبعته الأنصار، فازدحموا على بيعة أبي بكر، ورفضوا بيعة سعد، وكان سعد بن عبادة مريضاً يوم السقيفة: فقال قائل: لا تطأوا سعد، لا تقتلوا سعداً؛ فقال عمر بن الخطاب: اقتلوا سعداً، قتله الله؛ فقام قيس بن سعد بن عبادة فلزم بلحية عمر، وقال: والله لو قذذت منه شعرة لأخذت ما فيه عيناك.
فقال سعد: والله لولا المرض لتسمعن لسعد بين لابنيها زئير كزئير الأسد يخرجك منها وأصحابك إلى حيث كنتم أذلة صاغرين! ولم يبايع سعد أبا بكر ولا عمر، وخرج إلى الشام غاضباً من قومه في خذلانهم إياه، فمات بحوران لسنتين ونصف من خلافة عمر بن الخطاب.
وللأنصار أشعارٌ كثيرة في يوم السقيفة، يلوم فيها بعضهم بعضاً على خذلانهم سعد بن عبادة، ويعنفون بشير بن سعد، وابن الحصين، ومن تبعهما منهم في ميلهم إلى قريش وكسرهم على سعد.
فمن أشعار الأنصار: قول الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري:
سعى بن الحصين في العناد لحاجةٍ ... وأسرع منه في الفساد بشير
يظنان أنا قد أتينا عظيمةً ... وخطبهما فيما تراه صغير
وما صغر إلا بما كان منهما ... وخطبهما لولا الفساد كبير
ولكنه من لا يراقب قومه ... قليلٌ ذليلٌ فاعلمن وحقير
فيا ابن الحصين وابن سعد كلاكما ... بتلك التي تعنى الرجال خبير
ألم تعلما لله در أبيكما ... وما الناس لا أكمهٌ وبصير
بأنا ذا ما سار منا كتائبٌ ... أسودٌ لها بالغايتين زئير
نصرنا وآوينا النبي وماله ... سوانا من أهل المكتين نصير
فديناه بالأبناء بعد دمائنا ... وأموالنا والمشركون حضور
وكنا له في كل أمر يرينه ... سهاماً حداداً ضمهن جفير
وكان عظيماً أنني قلت منهم ... أميرٌ ومنا يا بشير أمير
وقال حسان بن ثابت:
لا تنكرن قريش فضل صاحبنا ... سعد وما في مقالي اليوم من أود
قالت قريشٌ لنا السلطان دونكم ... لا تطمعن بهذا الأمر من أحد
قلنا لهم ثوروا حقاً فنتبعه ... لسنا نريد سواه آخر الأبد
إن كان عندكم عهدٌ فيظهر في ... أشاخ بدر وأهل الشعب من أحد
نحن الذين ضر بنا الناس عن عرض ... حتى استقاموا وكانوا بيضة البلد
في كل يوم لنا أمرٌ نفوز به ... يعطي الإله عليه جنة الخلد
لستم بأولى به منا لأن لنا ... وسط المدينة فضل العز والعدد
وإننا يوم بعنا الله أنفسنا ... لم نبد خوفاً على مالٍ ولا ولد
والناس حربٌ لنا في الله كلهم ... مثل الثعالب تغشى غابة الأسد
وقال آخر من الأنصار:
علام قريش تطلب الأمر دوننا ... وكأن نبيان يكونان في عصر
فتحمل رأياً خالف الرأي بيننا ... وفرقنا يوم السقيفة بالغمر
وهل كان لولا ذاك، خلق مكابر ... لنا من جميع الخلق في ساعة العسر
وقال آخر منهم:
وخبرتمونا أنما الأمر بيننا ... خلاف رسول الله يوم التشاجر
فهلا وزيراً واحداً تحسبونه ... إذا ما عددنا منكم ألف آمر
سقى الله سعداً يوم ذاك ولا سقى ... عراجلة هابت صدور البواتر
وقال آخر منهم أيضاً:
مالي أقاتل عن قوم إذا قدروا ... عدنا عدواً وكنا قبل أنصارا
ويل أمها أمة لو أن قائدها ... يتلو الكتاب ويخشى العار والنارا
أما قريش فلم نسمع بمثلهم ... غدراً وأقبح في الإسلام آثارا
ضلوا سوى عصبة حاطوا نبيهم ... بالعرف عرفاً وبالإنكار إنكارا
وقال آخر منهم أيضاً:
دعاها إلى حرماننا وجفائنا ... تذكر قتلي في القليب تكبكبوا
فإن يغضب الأبناء من قتل من مضى ... فوالله ما جئنا قبيحاً فتعتبوا
وكان المهاجرون والأنصار مجمعين على الشورى غير مختلفين في ذلك، يدل على ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نهج البلاغة في كتاب كتبه إلى معاوية: إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً، كان ذلك لله رضي، وإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على ابتاعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.
وقوله في الرسالة: وما فعلت حكماء الهند، في عبادة البد، واختيار العباد منهم في المواقيت، بأبكار كاليواقيت، بضم لهم منهن والتثام، ولمس للفروج للبر لا للآثام، بعد تجردهن وتجردهم من الثياب، لزوال الشك والارتياب.
من حكمة الهند أنهم يقدمون في معرفة الحساب والنجوم، ويقدمون في معرفة الطب وعلاج الأدواء.
والبد: الصنم بلغة الهند، وجمعه بددة، وهي أصنامٌ ينحتونها بأيديهم، ثم يعبدونها، ويجعلون لها بيوتاً كمساجد المسلمين، وفيها بنات رؤسائهم موهوبة لتلك البددة عل وجه التقرب بها، والنذور والكفارات، وتلك النساء واقفة للفساد والفجور، يأمرها أهلها بذلك، ويرون أن لهم فيه أجراً عظيماً، ولهم عباد ورهبان في تلك البيوت، متجردون من اللباس، يدعون الزهد في الدنيا، لا يسمون الماء، يتبركون بأوساخهم، ويختبرونهم بتلك النساء وملاعبتها، فمن اشتقاق من أولئك العباد إلى تلك النساء وأنعظ، فقد كفر كفراً عظيماً عندهم، وأتى بأعظم منكر، وألحقوه أنواع العذاب والنكال وقتلوه.
هذا في الزهاد خاصة، وأما غيرهم منهم فلا ينكر عليهم الفجور بتلك النساء.
وهذا عجيب في جمع الهندبين الحكمة في دنياهم، والجهل العظيم في دينهم، وكذلك غيرهم بهذه الصفة، وإنك لتلقي الرجل الذكي الفطن الكامل من الناس، فترى من معرفته بأمور الدنيا وفطنته فيما يعيي به غيره، وحسن نظره، وإصابة حدسه، وجودة تمييزه، وشدة ذكائه، ما يستحق به الفضل على غيره، ويستوجب به المزية على سواه، ثم إذا باحثته في أمور دينه، أنكرت منه ما عرفت، ووجدته رجلاً مستلب اللب، عازب الفهم، أعمى البصيرة، كالمصاب في عقله، والصبي في مهده.
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الأخبار: بعد، فإن الناس يحضون الدين من فاحش الخطأ، وقبيح المقال، بما لا يحضون به سواه من جميع العلوم والآراء والآداب، والصناعات؛ ألا ترى أن الفلاح والصائغ والنجار، والمهندس والمصور، والكاتب والحاسب، من كل أمة، لا تجد بينهم من التفاوت في الفهم والعقل والصناعة، ولا من فاحشة الخطأ وإفراط النقص، مثل الذي تجد في أديانهم، وفي عقولهم، عند اختيار الأديان؛ والدليل على ما وصفت لك: ن الأمم التي عليها المعتمد في العقل والبيان والرأي والأدب والاختلاف في الصناعات، من ولد سام خاصة: العرب والهند والروم والفرس، ومتى نقلتهم من علم الدين، حسبت عقولهم مجتبلة وفطرهم مسترقة.
كالعرب فإنها مخصوصة بأمور، منها: البيان الذي ليس مثله بيان، واللغة التي ليس مثلها في السعة لغة، وقيافة الأثر الإمام قيافة البشر، وليس في الأرض قوم غير العرب يرون المتباينين في الصور، والمتفاوتين في الطول والقصر، والمختلفين في الألوان، فيعلمون أن هذا الأسود ابن لهذا الأبيض، وهذا الطويل ابن أخي هذا القصير، وهذا القبيح عم هذا المليح.
وللعرب الشعر الذي لم يشاركهم فيه أحد من العجم.
قال: وقد سمعت للعجم كلاماً حسناً، وخطباً طوالاً يسمونها أشعاراً، فأما أن يكون لهم شعر على أعاريض معلومة وأوزان معروفة، إذا نقص منها حرف أو زاد حرف، أو ترك ساكن أو سكن متحرك، كسره وغيره، فليس يوجد إلا للعرب خاصة دون غيرهم، وليس في الأرض قوم أعنى بذم جليل القبيح ودقيقه، وبحمد دقيق الحسن وجليله، من العرب، حتى لو أجهد أفطن البرية وأعقل الخليقة أن يذكر معنى لم يذكروه لما أصابه.
وللعرب من صدق الحس، وصواب الحدس، وجودة الظن، وصحة الرأي، ما لا يعرف لغيرهم؛ ولهم العزم الذي لا يشبهه عزم، والصبر الذي لا يشبهه صبر، والجود والأنفة والحمية التي لا يدانيهم أحد فيها، ولا يتعلق بها روميٌ ولا هندي ولا فارسي، لأن هذه الأمم كلها بخلاف العرب شيماً.
ثم لهم من بعد الهمم، والطلب بالطوائل، ما ليس لغيرهم، مع المعرفة بمساقط النجوم، والعلم بالأنواء، وحسن المعرفة بما يكون منها للاهتداء.
ولهم خط العربية، مع الحفظ لأنسابهم، ومحاسن أسلافهم، ومساوئ أكفائهم، للتعاثر بالقبيح والتفاخر بالحسن، ليجعلوا ذلك عوناً لهم على إثبات الجميل، واصطناع المعروف، ومزجرة لهم عن إثبات القبيح وفعل العار، وليؤدبوا أولادهم بما أدبهم به آباؤهم، ثم الحفظ الذي لا يقدر أحد على مثله، وإن دونه عنده وجلده في كتبه.
وخصلة لا تصاب إلا فيهم، وذلك أن العي والبيان في كل قوم مبثوث متفرق، ولست واجداً بالبادية عياً رأساً، على أنهم وإن تفاوتوا في البيان فليس ذلك بمخرج أحسنهم إلى العي.
وفيهم أيضاً خصلة لا تصاب إلا فيهم، وذلك أن سلفة كل جيل وعلية كل صنف إذا اشتد تشاجرهم، فطالت ملاحاتهم، وكثر مزاحمهم، والدعابة بينهم، وجدتهم يخرجون إلى ذكر الحرمات، وشتم الأمهات، واللفظ السيئ، والسفه الفاحش، ولست بسامع من هذا وشبهه حرفاً بالبادية، لا من صغيرهم ولا كبيرهم، ولا جاهلهم، ولا عالمهم، وكيف يقولون هذا والحيان منهم يتعايبان بدون ذلك.
وليس في الأرض صبيان في عقول الرجال غير صبيانهم، وكل شيء تقوله العرب، فهو سهل عليها وبطبيعة منها؛ وكل شيء تقوله العجم، فهو تكلف واستكراه.
وللعرب البديهة في الرأي والقول خاصة، ولهم الكنى مع أسماء خاصة، وهي من التعظيم؛ وقد زعم قوم من الفرس: أن فيهم الكنى، واحتجوا بقول عدي ابن زيد.
أين كسرى كسرى الملوك أبوسا ... سان أم أين قبله سابور
وليس كذلك، إنما كناه عدي بن زيد على عادته، حين أراد تعظيمه، إن صحت الكنية في هذا البيت.
فأما عمرو بن العلاء، ويونس النحوي، وأبو عبيدة، فرووا جميعاً أن عدياً قال:
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان، أم أين قبله سابور
فأخطأ الرواية، وقيل ذلك عنه من لا علم له، وليس في الأرض أعجمي له كنية إلا أن تسكنيه العرب.
وليس في الناس أشد عجبا بالخيل من العرب، ولا أصنع لها، وأكثر لها ارتباطا، ولا أشد لها إيثاراً، ولا أهجا لمن لا يتخذها، أو لمن اتخذها وأهانها، وأهزلها، ولا أمدح لمن اتخذها وأكرمها ولم يهنها، ولذلك أضيفت الخيل إليهم بكل لسان، حتى قالوا جميعاً: هذا فرس عربي، ولم يقولوا: هذى فرس هندي، ولا رومي، ولا فارسي، فحصنوها تحصين الحرم، وصانوها صون الأعراض، ليبتذلوها يوم الروع وليدركوا عليها الثأر.
وكانوا يؤثرونها على أنفسهم وأولادهم، ويصبرون على مؤونتها في الجدب والأزل، ويغتبقون الماء القراح، ويؤثرونها بالحليب، لأنها كانت حصونهم ومعاقلهم؛ وقالوا في إيثارها أشعاراً كثيرة في الجاهلية والإسلام، ليقتدى الآخر منهم بالأول، ولتبقى ذكر مآثرهم وقديم مفاخرهم.
فمن أشعارهم في الجاهلية: قول الأسعر الجعفي، اسمه مرثد بن حمران، وسمي الأسعر ببيت قاله، البيت:
فلا تدعني الأقوام من آل مالكٍ ... إذا أنا لم أسعر عليهم وأثقب
وهو هذا:
لكن قعيدة بيننا مجفوة ... ناد جناجن صدرها لها غنا
تقفي بعيشة أهلها وثابة ... أو جرشع عبل المحارم والشوى
وقال خالد بن جعفر بن كلاب:
أريغوني إراغتكم فإني ... وحذفة كالشجا تحت الوريد
مقربة أسويها بخزٍ ... وألحفها ردائي في الجليد
وأوصى الحالبين ليؤثروها ... لها لبن الخلية والصعود
وقال الضبي:
نوليها الصريح إذا شتونا ... علاتنا ونلى السمارا
وقال عمرو بن مالك:
وسابح كعقاب الدجن أجعله ... دون العيال له الإيثار واللطف
وقال جرير بن لوذان، وقيل لعنترة: ؟لا تذكرى مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
كذب العتيق وماء شن باردٌ ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
إني امرؤ إن يأخذوني عنوة ... أقرن إلى سير الركاب وأجنب
إني لأخشى أن تقول حليلتي ... هذا غبار ساطعٌ فتلبب
؟إن العدو لهم إليك وسيلةٌ إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
ويكون مركبك العقود وحدجه ... وابن النعامة يوم ذلك مركبي
وقال لبيد بن ربيعة:
معاقلنا التي نأوي إليها ... بنات الأعوجية والسيوف
الأعوجية: منسوبة إلى الأعوج: فرس كريم.
وقال المرار بن منقذ الحنظلي:
أخلصته حولين أمسح وجهه ... وأخو المواطن من يصون ويدأب
وجعلته دون العيال مقربا ... حتى انجلت وهو الدخيل المقرب
وقال طفيل بن عوف الغنوي:
إني وإن قل مالي لا يفارقني ... مثل النعامة في أوصالها طول
أو ساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول
تقريبها المرطى والجوز معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول
وقال آخر: ؟بنى عامر إن الخيول وقاية لأنفسكم والموت وقتٌ مؤجل
أهينوا لها ما تكرمون وباشروا ... صيانتها والصون بالخيل أجمل
متى تكرموها يكرم المرء نفسه ... وكل امرئ من قومه حيث ينزل
وقال آخر من بني تميم، قد سأله بعض الملوك فرسالة يقال لها: سكاب، فمنعه إياها:
أبيت اللعن إن سكاب علقٌ ... نفيسٌ لا يباع ولا يعار
مفداةٌ مكرمةٌ علينا ... يجاع لها العيال ولا تجاع
سليلة سابقين تناجلاها ... إذا نسباً يضمهما الكراع
وفيها عزةٌ من غير نفرٍ ... يحيدها إذا حر القراع
فلا تطمع أبيت اللعن فيها ... ومنعكها بشيء يستطاع
وكفى يستقل بحمل سيفي ... وبي ممن تهضمني امتناع
وحولى من بني قحفان شيبٌ ... وشبانٌ إلى الهيجا سراع
إذا فزعوا فأمرهم جميعٌ ... وإن لاقوا فأيديهم شعاع
ولهم أشعار كثيرة غير هذه في إكرام الخيل في الجاهلية، غير ما قالوا في الإسلام.
قال: وهم مع ما حكيت لك من صحة العقل، وكرم الطبيعة، وحسن البيان، وسعة المعرفة، وجودة الرأي، وشدة الأنفة: يعبدون الحجارة، ويحلفون بها، ويحاربون دون كسرها، وتهجينها، وينكسون لها، ويدعونها آلهة، ويخاطبونها، ولا يستجيزون عيبها، وينكرون على من ينتقصها، ثم مع ذلك ربما رموا بها، واتخذوا سواها، ثم كانوا يرون أن الرجل منهم إذا مات فلم يأخذ وليه بعده بعيره، فيحفر له حفرة ثم يقيده على شفيرها، ويطرح برذعته على وجهه ورأسه، ثم لا يسقيه ولا يعلفه حتى يموت، ثم ن ذلك الرجل الميت بزعمهم يحيا يوم القيامة حافياً راجلاً، وإذا فعل ذلك أتى راكباً، وذلك البعير البلية، قال أبو زبيد:
؟كالبلايا رؤوسها في الولايا ... مانحات السموم حر الخدود
يعني الناقة التي كانت تعكس على قبر صاحبها، ثم تطرح الولية على رأسها إلى أن تموت، وقال الطرماح:
منازل لا ترى الأنصاب فيها ... ولا حفر المبلى للمنون
أي أنها منازل أهل الإسلام دون أهل الجاهلية، ويقولون: أيما رجل قتل، فلم يطلب وليه بدمه، خلق من دماغه طير يسمى: هامة، فلا يزال يزقو على قبره، وينعى إليه عجز وليه، حتى يبعث، قال الشاعر:
فإن تك هامة بهراة تزقو ... فقد أزقيت بالمروين هاما
وقال جريبة بن أشيم الأسدي، وهو أحد شياطين بني أسد وشعرائها:
لا تزقون لي هامة فوق مرقب ... فإن زقى الهام أخبث خابثٍ
وقال توبة بن الحمير:
فلو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربةٌ وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وكانوا يقولون: أيما شريف قتل، فوطأته امرأة مقلاة: عاش ولدها، قال بشر بن أبي حازم:
تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن: ألا يلقى على المرء مئزر
وكانوا يقولون: إذا كان لرجل ألف بعير فلم يفقأ عين بعير منها: إن السواف تأتي على إبله، فإن زادت على ألف: فقأ عينيه جميعاً، فذلك: المفقأ والمعمى.
وكانوا إذا أجدبت بلادهم، فأرادوا الاستمطار: أخذوا بعيراً أورق فشدوا في ذنبه العشر والسلع وصعدوه في جبل وأشعلوا في ذنبه النار، ودعوا وتضرعوا، فإن لم يفعلوا ذلك لم يستجب الله منهم، بزعمهم.
وكانوا إذا وقع العر في الأبل: يأخذون بعيراً سليماً لا عيب فيه، فيقطعون مشفره ثم يكوونه، ليذهب العر من سائر الإبل وإلا فشا فيها، قال النابغة:
وحملنني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو راتع
وكانوا يرون أن النهيس إذا علقوا عليه الحلي سلم، وإن لم يعلقوها عليه هلك.
وكان الرجل منهم إذا غزا عقد خيطا في ساق شجرة، فإذا رجع ورآه منحلاً، فقد خانته قعيدته، بزعمهم، وإن وجده بحاله، فقد حفظت نفسها، قال الشاعر:
هل ينفعنك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصى وتعقاد الرتم
والرتمة: اسم الخيط بعينه.
وكانوا يقولون: إذا أحب الرجل امرأة وأحبته، فإن لم يشق عليها برقعها وتشق رداءه، فسد حبهما، وإن فعلا ذلك، دام حبهما، قال سحيم عبد بني الحساس:
وكم قد شققنا من رداء محبرٍ ... ومن برقع عن طفلةٍ غير عانس
إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى كلنا غير لابس
هذا مع إيمانهم بغزو الجن وتلون الغيلان، وأن الجن هي التي طردت أهل وبارعن ديارهم، وصارت الجن سكانها، فليس بها إلا الجن والوحش.
ومع مذهبهم في الحامي والبحيرة والوصيلة والسائبة، مع أمور كثيرة لا يحتاج إلى ذكرها. وإنما أردنا من ذلك أن يعرف الناس تفاوت ما بين حال العاقل في دنياه ودينه، فإذا صار إلى التكذيب والتصديق والأيمان والكفر، صار إلى غير الذي كان.
قال: ثم ملنا إلى الهند، فوجدناهم يقدمون في الحساب والنجوم، ولهم الخط الهندي خاصة، ويقدمون في الطب، ولهم أسرار الطب وعلاج فاحش الأدواء، ولهم حفظ التماثيل، ونحت الصور مع التصوير بالأصباغ كزي المحاريب وأشباه ذلك، ولهم الشطرنج، وهي أشرف لعبة، وأكثرها تدبيراً وفطنة، ولهم صنعة السيوف، ولهم الكنكلة، وهو وتر واحد على قرعه فيقوم مقام العود والصنج، ولهم ضروب الرقص والخفة، ولهم الثقافة خاصة، ولهم السحر، والتدخين، والخطب الطوال، ولهم الرأي والنجدة والصبر، وليس لأحد من الصبر ما لهم، ولهم الزي الحسن والأخلاق المحمودة، والسواك والخضاب.
وهم - مع جميع ما ذكرنا - : أصحاب بددة، ينحتونها بأيديهم، ويوجبون عبادتها على أنفسهم، وهم اجتلبوها وأوجبوا طاعتها، ثم يتكفنون، ويتصندلون، ويحملون معهم الألطاف والهدايا، ويدخلون النيران، إذا اشتاقوا إلى موتاهم، على أنهم بزعمهم يرجعون إلى أهليهم، إذا قضوا أوطارهم من زيارة موتاهم، لا ينهى الآخر طول غيبة الأول، مع هذه الحكمة الشريفة، والأخلاق السنية، والمعرفة الحسنة، يعرفون من أمر الدنيا ما لا يعرفه أحد، ويجهلون من أمر الدين ما لا يجهله أحد.
قال: ثم ملنا إلى الروم، فوجدناهم أطباء وحكماء، ومنجمين، ولهم أصول اللحون وصنعة القرسطون، وكيان الكتب، وهم الغايات في التصوير، يصور مصورهم الإنسان حتى لا يغادر شيئاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره شاباً، وإن شاء كهلاً، وإن شاء شيخاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره باكياً أو ضاحكاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يجعله جميلاً ناعماً عتيقاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك السامت، وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستعبر، وبين ضحك السرور وضحك الهازئ، وضحك المتهدد، فيركب صورة في صورة، وصورة في صورةٍ، وصورةً في صورة؛ ثم لهم في البناء ما ليس لغيرهم، ومن الخطر والنجر والصناعة ما ليس لسواهم.
ثم هم مع ذلك أصحاب كتاب وملة، ولهم بعد في الجمال والحساب، والقضاء في النجوم، والخط، والنجدة والرأي، وأنواع المكيدة، ما لا ينكر ولا يجحد؛ وإنما قلت عقول الزنج، وأشباه الزنج، لتباعدهم عن هذه الخصال.
ثم هم - مع ذلك أجمع - : يرون أن الآلهة: ثلاثة بطن اثنان وظهر واحد، كما لا بد للمصباح من الدهن، والفتيلة، والوعاء، فكذلك جوهر الآلهة، فزعموا أن مخلوقاً استحال خالقاً، وأن عبداً تحول رباً، ون حديثاً انقلب قديماً، إلا أنه قد قتل وصلب بعد هذا، وفقد، وجعل على رأسه أكاليل الشوك، ثم أحيا نفسه بعد موته، وإنما أمكن عبيده من أخذه وأسره، وسلطهم على قتله وصلبه، ليواسي أنبياءه بنفسه، وليتحبب إليهم بالتشبيه بهم، ولأن يستصغروا جميع ما صنع بهم، ولئلا يعجبوا بأعمالهم فيستكثرونها لربهم، فكان عذرهم أعظم من جرمهم.
قال: فلولا أنا رأينا بأعيننا، وسمعنا بآذاننا، لما صدقنا ولا قبلنا أن قوماً متكلمين، وأطباء ومنجمين، ودهاة وحساباً، وكتبة وحذاق كل صنعة، يقولون في إنسان رأوه يأكل ويشرب، ويبول وينجو ويجوع ويعطش، ويكتسي ويعري، ويزيد وينقص، ثم يقتل بزعمهم ويصلب: إنه رب خالق، وإله رازق، وقديم غير محدث، يميت الأحياء ويحيى الموتى، وإن شاء خلق أضعافاً للدنيا، ثم يفخرون بقتله وصلبه، كما يفخر اليهود بقتله وصلبه.
قال: ثم ملنا إلى فارس، فوجدنا هناك العقول التي لا تبلغها عقول، والأحلام التي لا تشبهها أحلام والسياسة العجيبة، والملك المؤبد، وترتيب الأمور، والعلم بالعواقب؛ ثم كانوا مع ذلك يغشون الأمهات، ويأكلون الميتة، ويتوضون إلا بوال، والماء لهم مباح، ويعظمون النار، وهم أظهروها، فإذا شاءوا أطفأوها؛ ويقولن: بأن الله تعالى كان وحده لا شيء معه، فلما طالت وحدته استوحش، فلما استوحش فكر، فلما فكر، تولد من فكرته أهر من، وهو إبليس، فلما مثل بين يديه أراد قتله، فلما أراد قتله امتنع، فصالحه إلى أجل معلوم، ووادعه إلى مدة مسماة، على لا يمتنع عليه إذا استوفى الأجل وبلغ المدة؛ ثم أن أهر من نوى الغدر، وذلك شيمته، فأنشأ يخلق أصناف الشر، يستمد بها عليه؛ فلما عرف ذلك منه أنشأ يخلق أصناف الخير، ليضع بإزاء كل جند جنداً، وله بعد ذلك فضل قوته، وإنه يسمى القديم دونه.
ثم قولوا في قسمة العوالم الخمس عندهم، وفي أسمائها وجواهرها وهيآتها، وفي خلق مهنة ومهينة وهما آدم وحواء، وفي سويين المنتظر عندهم، ولا يستطيع وصفه أحمق منقوص، ولا عالم تام، ولو جهد كل جهده واستفرغ كل قوته.
قال: ووجه يستدل به على قلة عناية الناس بأكثر الدين، وإن شأنهم تعظيم الرجال، والاستسلام للمنشأ، والذهاب مع العصية والهوى، والرضى بالسابق إلى القلوب، واستثقال التمثيل، وبغض التحصيل، ما تجد من اعتقاد أكثر البصريين وسوادهم لتقديم عثمان بن عفان، ومن اعتقاد أكثر الكوفيين وسوادهم لتقديم علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن اعتقاد أكثر الشآمين لدين بين أمية، وتعظيم عثمان وحب بني مروان، حتى غلط لذلك قوم، فزعموا أن ذلك من قبل الطالع، وقال آخرون: بل من عمل التربة، كما تجد لأهل كل ماء وهواء وطينة: نوعاً من الأخلاق، والمنظر والزي، والصناعة واللغة؛ وليس ذلك - أكرمك الله - إلا من قبل تقليد السلف، وحب الرجال، وما وقع في القلوب، وهيجته المحبة، لأن تقليد الآباء هو الذي ارتهنهم، وحب الرجال هو الذي أعماهم وأصمهم، والنسق على التقليد هو الذي ملأ خواطرهم، وأمات قلوبهم، ولو كن ذلك من قبل الطالع أو التربة، لما حسن الأمر والنهي، ولما جاز الحمد والثواب، واللائمة والعقاب، ولما كان لإرسال الرسل معنى؛ ولو كان ذلك للطالع والبلدة، لجاز ذلك في المصيب كما في المخطئ، ولجاز في الناظر كما جاز في المقلد.
وإنما صير أكثر أهل البصرة عثمانية، لأنهم كانوا صنائع ثلاثة أمراء عليهم: أولهم عبد الله بن عامر، والثاني زياد، والثالث الحجاج بن يوسف، وهؤلاء الثلاثة الغايات في حب عثمان وبين أمية، فلم يقصروا في تقديمه واستمالة الناس إليه بالترغيب والترهيب، والسياسة والتدبير، ولصنائع ابن عامر فيهم فزع إليهم طلحة والزبير وعائشة، حين قدموا عليهم يطلبون بدم عثمان، ولأن علياً عليه السلام حاربهم وقتل أعلامهم وفل حدهم، ولذلك قال رجل من كبراء البصريين في علي عليه السلام: كيف أحب رجلاً قتل من قومي من لدن كانت الشمس ههنا إلى أن صارت ههنا إحدى عشرة مائة.
ولو كان هذا من قبل البحث والنظر، لما صار أهل عمان كلهم أباضية، وغيرهم مرجية، ولما اختار أولاد النصارى كلهم النصرانية، وأولاد اليهود كلهم اليهودية، وأولاد المجوس كلهم المجوسية؛ وكيف يجوز أن يعتقد أولاد اليهود كلهم اليهودية بالنظر؟ وقد تجد الأخوين ينظران في الشيء الواحد فيختلفان في النظر، ولربما نظر الناظر فيصير له في كل عام قول، ولربما كان ذلك في كل شهر؛ فصح أن دين الناس بالتقليد لا بالنظر، وليس التقليد إلى الحق بأسرع منه إلى الباطل.
وروى الجاحظ في كتاب الأخبار أيضاً، عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، أنه قال - في الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - : وكيف يجيز السامع صدق المبخر، إذا كان لا يضطره خبره، ولم يكن معه علم يدل على صدق غيبه، ولا شاهد قياس يصدقه، وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة العلل التي يكذب الناس لها ودقة حيلهم فيها، ولو كان الصادق عند الناس لا يكذب، والأمين لا يخون، والثقة لا ينسى، والوفي لا يغدر، لطابت المعيشة، ولسلموا من سوء العاقبة.
قال إبراهيم: وكيف نأمن كذب الصادق، وخيانة الأمين، وقد ترى الفقيه يكذب في الحديث، ويدلس في الإسناد، ويدعى لقاء من لم يبلغه، من غريب الخبر ما لم يسمعه، ثم لا يرى أن يرجع عن ذلك في مرضه بل أن تغرغر نفسه وقد أيقن بالموت، وأشفى على حفرته، بعد طول إصراره، والتمتع بالرياسة في حياته، وأكل أموال الناس به؟ ولولا أن الفقهاء والمحدثين، والرواة والصلحاء المرضيين، يكذبون في الأخبار، ويغلطون في الآثار، لما تناقضت آثارهم، ولا تدافعت أخبارهم.
قالوا: ولو وجب علينا تصديق المحدث اليوم لظاهر عدالته، لوجب علينا تصديق مثله، وإن روى ضد روايته، وخلاف خبره، وإذا نحن قد وجب علينا تصديق المتناقض، وتصحيح الفاسد، لأن الغلط في الأخبار، والكذب في الآثار، لم تجده خاصاً في بعض دون بعض!!
قال إبراهيم: وكيف لا يغلطون، ولا يكذبون، ولا يجهلون، ولا يتناقضون؛ والذين رووا منهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا عدوى ولا طيرة، وأنه قال: فمن أعدى الأول؟ هم الذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فر من المجذوم فرارك من الأسد، وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الأسلام، فأرسل إليه من بايعة مخافة أعدائه؛ وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين توجه إلى بدر أراد أن ينزل الصفرا، وهي بين جبلين، فسأل عن اسميهما، وعن الحيين النازلين بهما، فقيل: ينزلهما بنو النار، وبنو حراق، بطنان من بني عفار، فتطير منهما، وتعداهما إلى غيرهما، واسم الجبلين الضيقين.
وأنه قال: الشؤم في المرأة والدار والدابة.
قال: والذين يروون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، هم الذين رووا أن النبي صل الله عليه وآله وسلم قال: (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره).
قال: والذين رووا منهم أن الصعب بن جثامة قال: يا رسول الله ذرارى المشركين تطأهم خيلنا في ظلم الليل عند الغارة؛ قال: اقتلوهم فإنهم مع آبائهم؛ وأنه حين أغزى أسامة بن زيد إلى ناحية الشام، أمر أن يحرق المشركين بالنار وذراريهم؛ هم الذين يروون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فقتلوا النساء والصبيان، فأنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك إنكاراً شديداً؛ فقالوا: يا رسول الله، إنهم ذراري المشركين؛ وإن خالد بن الوليد لما قتل بالغمصا الأطفال، رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه، حتى رأى المسلمون بياض أبطيه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ثم بعث عليا عليه السلام فوداهم.
قال: والذين يروون أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله أرأيت أطفالي منك أين هم؟ قال: هم في الجنة، قالت: أفرأيت أطفالي من غيرك أين هم؟ قال: في النار، فأعادت عليه الكلام، فقال مثل ذلك، فلما أعادت عليه، قال: ن سكت وإلا أسمعتك ضغاءهم في النار.
وإن عقبة بن أبي معيط لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله قال: من للصبية؟ قال: النار. هم الذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المؤودة في الجنة والشهيد في الجنة وإن أولاد المشركين خدم أهل الجنة.
قال: والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله جل ذكره أوحى إلي إني خلقت عبادي كلهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاغتالتهم عن دينهم، وانه قال: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه الذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. هم الذين رووا أن النبي صلى الله عليه قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فهو يعمل للسعادة، وإن كان من أهل الشقاء فهو يعمل للشقاء؛ وأن الله عز وجل مسح ظهر آدم فقبض قبضتين، فأما الذين في قبضته اليمنى فقال: إلى الجنة برحمتي، وقال للذين في اليسرى: إلى النار ولا أبالي، والسعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقى في بطن أمه، وإذا وقعت النطفة في الرحم أوحى الله إلى ملك الأرحام: اكتب فيقول: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب شقياً أو سعيداً.
والذين رووا أن القدرية مجوس هذه الأمة، وأنهم قد لعنوا على لسان سبعين نبياً؛ هم الذين رووا أن ميكائيل كان قدرياً حتى خصمه جبريل، وأن موسى كان قدرياً حتى خصمه عمر.
قال: وتلوا علينا قول الله عز وجل: (وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى).
ثم رووا أن ولد الزنا شر الثلاثة، وأن المعول عليه يعذب بعويل أهله، وأيما صبي مات ولم يعف عنه أبواه فهو محتبس عن الجنة حتى يعفا عنه.
قال: وتلوا علينا: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وقوله: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما كفر نبيٌ قط)، ثم رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على دين قومه أربعين سنة، وأنه قال: ما ذبحت للعزى إلا كبشاً واحداً؛ وأنه زوج ابنتيه: عتبة بن أبي لهب وأبا العاص بن الربيع، وأنه قال - قبل الوحي - لزيد بن عمرو ابن نفيل: يا زيد، إنك فارقت دين قومك وشتمت ألهتهم، فقال له زيد:
يا أيها الإنسان إياك والردى ... فإنك لن تخفى من الله خافياً
والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يفضلني أحدٌ على يونس بن متى، فقد كان يرفع له في اليوم الواحد مثل عمل جميع أهل الأرض؛ هم الذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وإن كل نبي يقول في القيامة: نفسي نفسي!! وأنا أقول: أمتي أمتي، ومعي لواء الحمد) وهم الذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تفضلوا بعض الأنبياء على بعض، فإنهم بنو علات أمهاتهم واحدة، والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن روح الشهداء تكون في حواصل طير خضر تأوي الليل إلى قناديل في الجنة، وإن الأرواح في الهوا جنود مجندة، تتشام كما تتشام الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف على قليب بدر فقال: يا عتبة بن ربيعة، يا شبيبة بن ربيعة، يا أبا جهل، يا أمية بن خلف: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له في ذلك، فقال: والذي نفسي بيده إنهم ليسمعون كما تسمعون، وإن منكراً ونكيراً ليأتيان الرجل في قبره فيسألانه: من ربك وما دينك؟ وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: والذي نفسي بيده إنهم ليسمعون خفق نعالكم. هم الذين تلوا علينا: (وما أنت بمسمع من في القبور) وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اللهم رب الرواح الفانية والأجساد البالية.
وأن عبد الله بن عباس سئل عن الأرواح أين تكون إذا فارقت الأجساد وأين تذهب الأجساد إذا بليت؟ قال: أين يذهب السراج، إذا طفئ، وأين يذهب البصر إذا عمى، وأين يذهب لحم الصحيح إذا مرض؟ فقال السائل: لا أين!! قال: كذلك الأرواح، إذا فارقت الأجساد.
قال: والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم إلى الجنة؛ وقال: صلاتكم قربانكم، فلا تقربوا بين أيديكم إلا خياركم، ولا صلاة لإمام قوم له كارهون. هم الذين رووا: صلوا خلف كل إمام، براً كان أو فاجراً، ولا بد من إمام بر أو فاجر.
قال: والذين رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وأذن لي أن أحدث عن ملك من الملائكة رجلاه في الأرض السفلى وعاتقه تحت العرش، ما بين عاتقة إلى شحمة أذنه سبعمائة عام، خفقان الطير المسرع؛ هم الذين رووا أن الله عز وجل ينزل عشية عرفة، ويوم النصف من شعبان على جمل أورق، وأنه ينزل في قفص من ذهب.
والذين رووا أن أربعة أملاك التقوا، واحداً من المشرق، والآخر من المغرب، وآخر من السماء السابعة، وآخر من الأرضيين السفلى، فقال كل واحد منهم للآخر: أين تركت ربك؟ فقال: من عند ربي جئت!! هم الذين رووا أن حمل العرش من فرق غضب الله يثقل العرش على كواهلهم، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أتاني ربي في أحسن صورة فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثدي.
قال إبراهيم: ثم يتحدث فقيههم بمثل هذه الأحاديث، ويخبر بمثل هذه الأخبار، ويشهد على الله عز وجل بمثل هذه الشهادة، وهو غير محتفل بذلك ولا مستحٍ منه.
وإنما ذكر الجاحظ والنظام: أن دين الناس بالتقليد، لا بالنظر والبحث والاستدلال، وقد ذم الله تعالى في كتابه المقلدين فقال: (إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون) الأمة ههنا: الدين.
وقالت العلماء: المقلد مخطئ في التقليد، ولو أصاب الحق، لأن من اعتقد الحق بغير حجة ولا دليل، مثل من اعتقد الباطل بغير حجة ولا دليل، وإذا دخل في الحق بالتقليد، خرج منه بالتقليد، قال الشاعر في ذم التقليد:
ما الفرق بين مقلدٍ في دينه ... راضٍ بقائده الجهول الحائر
وبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الجائر
وفي كل أهل مذهب ثقة يسندون إليه، وعالم يعتمدون عليه، وكلهم يحتج بقول الله تعالى، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كثر التدليس في الكتب، والزيادة في الأخبار، والتأويل لكتاب الله عز وجل، على قدر الأهواء والمذاهب والآراء.
فيجب على العاقل التيقظ والتحرز والتحفظ من التقليد، الذي هلك به الأولون والآخرون، وجار عن قصد السبيل الحائرون، أعاذنا الله من إتباع الأهواء في الدين، وانقياد الأتباع والمقلدين.
وقوله في الرسالة: فمن شبق منهم وانعظ، فقد كفر وما اتعظ.
والشبق: شهوة النكاح، وهو مصدر شبق يشبق شبقاً، قال رؤبة بن العجاج:
لا يترك الغيرة من عهد الشبق
ويقال انعظ الرجل: إذا تحرك عضوه.
وقوله: ووجب عليه القتل، وعبادته مكيدة وختل، فعملت رجالهم في استحضار المنية، وحمل للهدايا السنية، والتكفن والتضمخ بالصندل.
وقوله: وطرح النفوس في النار طرح عود المندل.
عود المندل: الذي يتبخر به، والمندل: بلد من بلاد الهند إليها ينسب العود، قال العجير السلولي يصف جارية بطيب الريح:
إذا ما مشت نادى بما في ثيابها ... ذكى الشذا والمندلي المطيب
والشذا: كسر العود ههنا، ويروى: المندلي المطير.
وقوله: شوقاً إلى زيارة من هلك من الأحباب.
وقوله: وكم للجهل في الناس من سورة وعباب!! السورة: الحدة، ومنه سورة الشراب. والعباب: الكثرة والزيادة، ومنه عباب الماء.
وقوله: وما فعلت الروم في عبادة الصليب، والحض على ذلك والتأليب، وأكل لحوم الخنازير، بغير تثريب على الأكل ولا تعزير، وقولهم أمكن ربهم عبيده من أسره وغلبه، وأقدرهم على قتله وصلبه، ليتأسى بذلك أنبياؤه، ويتشبه حزبه وأولياؤه، ثم أحيا نفسه بعد الموت، وأعادها بعد الفوت.
صليب النصارى معروف، والصليب: المصلوب، ومنه صليب النصارى، مثل قتيل وصريع وما شاكله، والصليب أيضاً: الودك: قال مرة بن خويلد الهذلي، وذكر عقابا:
جريمة ناهض في رأس نيقٍ ... ترى لعظام ما جمعت صليبا
يقال: اصطلب الرجل: إذا جمع العظام، فاستخرج ودكها ليأتدم به، قال الكميت الأسدي:
واحتل برك الشتاء منزله ... وبات شيخ العيال يصطلب
ويقال: المصلوب من هذا، لأنه يسيل ودكه على العود الذي يصلب عليه، والصليب العلم، قال النابغة:
ظلت أقاطيع أنعام مؤبلةٍ ... لدى صليب على الزراء منصوب
والحض: الحث، ومنه قوله تعالى: (ولا يحضون على طعام المسكين) والتأليب: الجمع، يقال: ألب الجيش: إذا جمعه. والتثرب: اللوم والتعنيف، ومنه قوله تعالى: (لا تثريب عليكم اليوم).
والتعزير: الضرب والتأديب، وهو الحد، والتعزيز أيضاً - في غير هذا الموضع - : التعظيم، ومنه قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه).
وقوله: وما فعلت الفرس في عبادة النيران، وغسل الوجوه بأبوال الثيران، وأكل الميتة ووطء الأمهات، بصريح الحدود لا الشبهات، واحتجوا بأن الذبح مؤلم ضار، والنكاح لأهله سار.
النيران: جمع نار، وهو جمع فعل بفتح الفاء إلا أنه معتل العين بالألف، وكان أصل ألفه واواً يدل على ذلك تصغيره فتقول: نويرة.
والثيران: جمع ثور، وهو جمع فعل بتسكين العين، وأتى الجمعان بلفظ واحد.
وكانت المجوس يغسلون وجوههم بأبوال البقر، تخشعاً وتقرباً إلى الله تعالى، قال الشاعر فيهم، وفي غيرهم من أهل المذاهب:
عجبت لكسرى وأشياعه ... وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إلهٌ يضام ... ويظلم حقاً ولا ينتصر
وقول اليهود إلهٌ يحب ... كسيس لدماء وريح الفتر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد ... لرمي الجمار ولثم الحجر
فوا عجباً من مقالاتهم ... أيعمى عن الحق كل البشر
قوله: وقالوا للخلق فاعلان متضادان، أحدهما إهر من والآخر يزدان، فيزدان فاعل الخير والسرور، واهر من فاعل الغم والشرور، وقالوا ليس الحكيم لما بني من الحكمة هادماً، ولا يصبح على الفعل الحسن نادماً، ونسبوا فعل ذلك إلى العبث، وصريح الأديان شبيه بالخبث.
وما فعل أصحاب السبت في استقباح نسخ الأديان، وحظر المناهل على الصيدان، إلا منهلاً واحداً للفارط والتالي، والعشار والمتالي، وقالوا النسخ هو البدا، ولا يجوز على الرحمن أبداً، ورووا عن موسى أنه قال إن شريعته غير منسوخة، وعقدها غير محلولة ولا مفسوخة، وحججهم من التوراة، وكل الفرق ظاهر العورات.
الصديان: العطشان. والمنهل: المورد. والنهل: الشرب في أول الورد، ومنه اشتقاق المنهل. والحظر: المنع والتحريم، ومنه قوله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظوراً).
والفارط: المتقدم في طلب الماء. والتالي: الذي يتلوه. والعشائر: جمع عشراء وهي الحوامل التي لها عشرة أشهر منذ حملت، ثم كثر استعمال ذلك حتى قيل لكل حامل عشراء. والمتالي: التي يتلوها أولادها.
وقوله: وما فعلت الجالوتية منهم في مضاهاتها الرقوب، وإرثها الأرض عن يوسف بن يعقوب، وما وجدت في سفر شعيا أو دانيال من صفة قديم الأيام، أنه لا يزال من الأملاك في فيام، قاعداً على الكرسي، بيده ناصية كل وحشي وأنسي، أبيض اللحية والرأس.
المضاهاة: المشابهة، ومنه قوله تعالى: (يضاهون قول الذين كفروا).
والرقوب ههنا: المرأة التي لا يعيش لها ولد، والرقوب ههنا: المرأة التي ترقب موت زوجها لترثه. والرقوب: الناقة التي لا تشرب مع الأبل إذا ازدحمت على الحوض لكرمها.
والجالوتية يقولون: إن الله عز وجل ملك الأرض يوسف بن يعقوب ونحن وارثوه، والناس مماليك لنا.
والسفر: الكتاب، جمعه أسفار.
وشعياً: هو شعيا بن راموص النبي عليه السلام، وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل.
وقديم الأيام عندهم: هو الله تعالى.
والقيام: الجماعة.
وقوله: لما مر علي من الأحراس.
وما فعلت السامرية منهم في عبادة العجل الذي له خوار، ولكل جلس من المذاهب شين وعوار، والسامرية بالقول يعلنون، ألا نبوءة لغير موسى ويوشع بن نون.
وما فعلت العزيزية منهم في عزير، وسيرهم فيه بأبعد السير، ورفعه له من درجة النبوة، إلى نبوة الأبوة.
الأحراس: الدهور، واحدها حرسٌ، وهو الدهر.
وقوله: وما فعل أصحاب الأحد في المسيح، وسيرهم فيه بالعنق الفسيح، وقولهم في الحي القيوم، هو ثلاثة أقانيم يوصف بأقنوم، أبٌ وابن وروح قدس، وكل يدين بتظنن وحدس؛ وحججهم من الإنجيل، وضل عن قصد السبيل كل جبل.
وما فعلت منهم اليعقوبية، فيما جعلت لعيسى من الربوبية؛ زعمت أنه كان قديماً لا في مكان، ثم تجسم فصار جسداً ذا أركان، وأه تناسى بعد علم، وتجسم بعد أن كان غير جسم، وأنه قادر على الزيادة في الذات، ليصل بذلك إلى اللذات، ونفوا عنه لذلك وهن العجز، وما يختص بغيره من المنع والحجز، لأنه القادر على ما يشاء، لا يتعذر عليه الفعل والإنشاء.
أصحاب الأحد: النصارى، وهم يعظمون من الأيام الأحد، مثل ما تعظم اليهود السبت، ويعظم المسلمون الجمعة.
والعنق: السير الفسيح.
والأقانيم: الأشياء بلغة النصارى، واحدها: أقنوم.
وقوله: وما فعلت النسطورية منهم في صفات اللاهوت، واستتاره ببدن الناسوت.
اللاهوت: الإله بلغة النصارى. والناسوت: الإنسان بلغتهم.
وقوله: وقولهم في الماسح والممسوح، ولم يزل الجهل نازلاً بكل سوح.
الماسح عندهم: هو الله تعالى. والممسوح: هو الذي انتقل إليه، وهو عيسى. والسوح: جمع ساحة.
وقوله: وما فعلت الفلاسفة في ضرب المزاهر، والأطناب في الأعراض والجواهر، ووصف المركب والبسيط، وما ظفروا من الدين بفسيط، وأقدامهم على أبطال الشرائع؛ وقولهم بتدبير الأربع الطبائع.
والمزاهر: جمع مزهر وهو العود. والأطناب: المبالغة.
والأعراض: جمع عرض، وهو صفة الجوهر.
والجواهر: جمع جوهر، وهو القائم بذاته الحامل للأعراض، والجوهر عندهم على ضربين: مركب وبسيط، فالمركب: هو الجسم مثل الجسد وما شاكله، والبسيط: هو النفس والروح وما شاكل ذلك، والنفس: هي الروح عندهم، وهي القوة الناطقة، فكل جسم عندهم جوهر، وليس كل جوهر جسماً.
والفسيط: قلامة الظفر. والفسيط: ثفروق التمرة، وهو قمعها.
وقوله: وقد قالوا مع الأربع بخامس، كقول هرمس الهرامس، وأكثر الفلاسفة، على غير الطريق عاسفة، وفي أباض من الحيرة راسفة، وشموسها المنيرة كاسفة.
وما فعلت الهيولانية في قدم الهيولى الذي عندهم أصل الأشياء، ومدبر للموات والأحياء، بتحريك قوة في الجوهر أصلية، قديمة أزلية، تجعل الميت ناطقاً من الحيوان، وتنفرد بتدبير هذه الأكوان؛ وقولهم بقدم الجوهر القابل للأعراض، والصحاح أشبه شيء بالمراض، وقيل هي مقالة أرسطاطاليس.
هرمس الهرامس بهذه اللغة: حكيم الحكماء.
والعسف: الأخذ على غير الطريق.
والأباض: الحبل الذي يوبض به البعير، يقال: أبض البعير يأبضه: إذا شد رسغ يده إلى عضده.
والرسفان: مشى المقيد.
وقوله: ومن اطلع على الأغنياء وجدهم مفاليس.
وما فعل أصحاب التناسخ في تنقل الأرواح في الأجساد، وصلاحها بعد الفساد، ومثوبة المحسنين بالأبدان الأنسية، وإلهياً كل الحسية، وعقوبة المقدمين على الجرائم، بأبدان أعجم البهائم، ودوام الدنيا على الأبد.
يقال: اطلع الأمر واطلع على الأمر: بمعنى إذا أشرف عليه وعرف حقيقته، وقد جاءت اللغتان معاً في كتاب الله، قال الله تعالى: (اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً) وقال تعالى: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً) وقوله: وما للمثرين من سبد ولا لبد، وقيل: هي مقالة بزرجمهر ابن بختكان، وكم انقاد للغي حكيم واستكان.
وما فعلت في تعطيلها الزنادقة، وفصلت في أحكامها المزادقة، زعموا أن أهل الأرض في الأرزاق متظالمون، وأنهم بين الناس في ذلك حاكمون.
المثرون: الأغنياء أصحاب الثراء وهو المال.
والسبد: الشعر. واللبد: الصوف، يقال للنقير: ما له سبد ولا لبد، قال الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... رفق العيال فلم يترك له سبد
وقوله: يقسمون الأرزاق بالسوية، ولا يجيزون الأثرة باللوية وما فعلت الفضائية في عبادة الفضاء، ورد الحكم له والقضاء، والمشبه في الخلق والإمضاء، قالوا لحاجة كل شيء في الشاهد إليه، وغناه عما أحاط به واستولى عليه، ولأنه لا تحصره الأماكن، ولا يغرب عنه ولا يشبهه متحرك ولا ساكن، وقالوا لأنه غير متناه، وما نهى الجاهل عن الجهالة ناه.
وما فعلت المانية الغوية، ومن وافقها من الثنوية، إذ جعلت مع الله صانعاً، وله عن بعض الأفعال مانعاً؛ وقولهم بتدبير ربين خلاقين، وضدين متشاقين، حيين عالمين، ومن جميع الآفات سالمين، وهما النور والظلام، وما رشد الشيخ ولا الغلام، فالنور عن فعل القبيح متعال، والظلام لكل شر فعال؛ قالوا ولن يكون التضاد من الذات الواحدة ممكناً، فيكون المحسن مسيئاً والمسيء محسناً، كما ليس في النار برودة، ولا الثلج حرارة.
اللوية: ما خبأته المرأة لزوجها من الطعام وآثرته به، وكذلك ما خبأت لغيره، قال الراعي:
الآكلين اللوايا دون ضيفهم ... والقدر مخبوءة منها أثافيها
قوله: ولا في الشرى حلاوة، ولا في الأرى مرارة.
وما فعلت الديصانية في تدبير حي وميت، وطال التعلل بعسى وليت، فالحي هو النور الحساس الدراك، والميت هو الظلام الذي ليس له حراك، وكلاهما بزعمهم ربان، على البرية يعتقبان، ولكل واحد منهما في الخلق من جنسه تأثير، وأود المذاهب وسقطها كثير.
وما فعلت المرقبونية في تدبير الثلاثة الأرباب، خالق الهرم وخالق الشباب، وثالث بينهما معدل، لما استقبح من أفعالهما مبدل.
وما فعل الصابؤن في عبادتهم للملائكة المتعبدين، وخروجهم من دين إلى دين.
وما فعلت البراهمة في نفي الوسائط، وكم للصحة والسقم من شائب وسائط، إلا واسطة العقل فإنها عندهم غير منفية، وشواهدها النيرة غير غامضة ولا خفية، قالوا لأن إرسال المرسل إلى من علم أنه يعصيه ويمثل برسله، دليل عندهم على عبث المرسل وجهله.
وما فعلت الأطباء في تدبير الطبائع، وكم للضرر من شارٍ وبائع؟ وما فعلت الفلكية في تدبير الفلك، وسلوك سبيل الغي فيمن سلك.
وما فعل الحرانيون عبدة النجوم، وأصحاب الظن والهجوم، في تدبير البروج والأملاك، على قدر نزولها في الأفلاك، وقضائها في الخبرات والشرور، على التوالي والمرور.
الشرى: الحنظل. والأرى: العسل.
وقوله: وليس في التنجيم، غير ترجيم، ولا عند الكواكب، نفع لواكن ولا واكب.
وما فعلت السوفسطائية في نفي الحقائق، وقطع الأسباب في الدين والعلائق، لقد جار عن الحق سوفسطا، ومال عن الطريق الوسطى.
الترجيم، والرجم: الظن الذي لا يوقف على حقيقته.
والواكن: الطائر الذي يحضن بيضته في وكنه، يقال: وكن الطائر يكن وكوناً، ووكن الطائر، ووكنته وكره.
والواكب: الذي يدرج في مشيته، والوكبان: مشية فيها درجان، ويقال: ظبية وكوب، ومن ذلك اشتقاق الموكب.
والمنجمون يزعمون أنهم يدركون في علم النجوم ما سيكون من علم الغيب، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا يشاركه فيه أحد من خلقه، وفساد قولهم ظاهر، لقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول)، ولقوله تعالى: (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) وغير ذلك من الآيات.
وفي نهج البلاغة أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لما عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، إن سرت في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم، فقال عليه السلام: أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه الشر، وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟ فمن صدق بهذا، فقد كذب القرن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب، ودفع المكروه، وتبتغي بقولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه، لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر؟ ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر وبحر فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجم كالكاهن والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله عز وجل.
وقوله: ولقد اختص ما ذهب إليه بمذهبه، وبعد عن الأسفار قطع غيهبه.
وما فعل أصحاب الدهر، ومن قال بتدبير السنة والشهر، فيما نقل عنهم من الأقوال، من قدم الأعيان وحدث الأحوال، وبعضهم يقول بقدم الصفات، وما ظفر ذو السقم بالمعافات.
وأما فرق هذه الملة، فللتقاطع مستحلة، يكفر بعضهم بعضاً، ويرى عداوته عليه فرضاً، وقد أمسكت كل طائفة برئيس، وعدت حسناً منه كل بئيس، ولكل محاسن ومساو، وقولٍ ليس بمتساويٍ، وقل من يوجد على غير دين أبيه، ومعلمه وأقربيه، وداء الناس في دينهم داء قديم، ما صح معه من النغل أديم.
يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء، والقطع: ظلمة آخر الليل، ومنه قوله تعالى: (فأسر بأهلك بقطع من الليل) قال الشاعر:
افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليلٍ بهيم
البهيم: الذي لا يخلط لونه لون سواه. والغيهب: الظلمة، وجمعه غياهب.
وقوله: ومن أوضع في المذاهب، وقع في الغياهب، وأغرق في البحث عن الفرق، لم ير ناجياً من الغرق.
الإيضاع: الإسراع في السير، ومنه قوله تعالى: (ولأوضعوا خلالكم).
وقوله: أو نظر في املل، عثر على الزلل، وأشرف على اختلاف، مؤد إلى إتلاف، وهجم على رياض مرة الثمار، منهجة للأعمار.
يقال عثر على الشيء: إذا اطلع عليه، ومنه قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم).
وقوله: وموارد ماؤها أجاج، والمسيغ لها مجاج.
الأجاج: الماء المثلج المر. والمسيغ: الذي يسوغ له الشراب، يقال: ساغ الشراب في الحق، إذا نزل، وكانت له لذاذة. والمجاج: الذي يمج الماء من فيه، أي يصبه.
وقوله: في العين الصحيحة عور، وفي القناة الصليبة خور، يشقى بها الغامز والعاجم، شقاء وافد البراجم، فهل عند ضد أو ولي، من نب جلي؟ الخور: الضعف، يقال: رمح خوارٌ أي ضعيف رخو غير صليب، ورجل خوار: أي ضعيف، وهو من الأول مصدره الخور، قال عمر بن لجأ التميمي يهجو جريراً:
بل أنت نزرة خوارٍ على أمةٍ ... لا يسبق الحلبات اللؤم والخور
والغمر: اللمس باليد ليعرف لاسمين من غيره، قال جرير:
غمز ابن مرة يا فرزدق كينها ... غمز الطبيب نغانغ المعذور
وعجم العود: عضه ليعرف صلابته من خوره.
ومن أمثال العرب: إن الشقي وافد البراجم، وكان سبب ذلك أن عمراً ابن هند، عم النعمان بن منذر - وهو الذي يلقب مضرط الحجارة لتجبره وشدة ملكه - كان له أخ مسترضع في بني تميم، يقال له أسعد، فخرج يوماً يتصيد، فمر بأبل لرجل من بني تميم، فرمى ناقة منها فعقرها، فجاء صاحبها، فلما رآها معقورة وثب عليه فقتلة، فنذر عمرو بن هند أن يقتل من بني تميم مائة، فغزاهم يوم أوارة، فأقبل يقتلهم على الثنية، أي العقبة، وآلى ليقتلنهم حتى تصل دماؤهم الحضيض وليحرقنهم؛ فقال له الوصاف، وهو الحارث بن مالك من بني ضبيعة ابن عجل بن الحر: أيها الملك، لو ذبحت الخلق كلهم على حلق واحد، ما بلغت دماؤهم الحضيض، وكنت قد أفسدت ملكك، ولم تبرر أليتك، ولكن صب على دم كل قتيل منهم قربة من ماء؛ ففعل، فبلغت دماؤهم الأرض، فسمى الحارث الوصاف لذلك؛ وأمر عمرو فاحتفر له حفير عظيم، وألقى فيه الحطب واشتعلت النار، فألقى فيها تسعة وتسعون رجلاً منهم، وبقي واحد من نذره، وأبصر رجل من البراجم، لم يعلم بذلك الدخان، وشم القتار فظن أنه طعام يصنع، فأقبل إلى النار؛ فأخذ فأتى به عمرا بن هند؛ فقال: ممن أنت؟ قال: رجل من البراجم والبراجم حي من تميم - فقال عمرو: إن الشقي وافد البراجم، فأرسلها مثلا، وألقى الرجل في النار، فتم نذره مائة.
وقوله: يحدث عنه الرائد بما لقي، ويمسك عما بقي، ويزبل دجى الشكوك والشكاه، بقبس هدى لاقبس مشكاه.
الرائد: الذي يتقدم في طلب الكلأ، يقال: لا يكذب الرائد أهله. والشكاة: الشكاية، قال أبو ذؤيب الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاةٌ ظاهر عنك عارها
أي ينبو عنك، ولا يعلق بك. والقبس: شعلة من النار، يقال: قبست من فلان ناراً، واقتبست منه علماً، ومنه قوله تعالى: (بشهاب قبس). والمشكاة: الكوة التي ليست بنافذة، ومنه قوله تعالى: (كمشكاة فيها مصباح).
وقوله: يصدق جهينة الخبر عن أخيها، ويبلغ الخاتمة من توخيها.
يعني بذلك قول الشاعر:
تسائلني جهينة عن أخيها ... وعند جهينة الخبر اليقين
قال أبو بكر بن دريد في كتاب الاشتقاق: إن قولهم في هذا البيت خطأ، وهو قول العامة، وإنما هو جفينة، وله حديث.
وقوله أكثر من ينتحل السنة، في دجنة، والعامة في طرق الحيرة آمه، والقدرية، للطعن درية، وحجة الرافضة، عند الله داحضة، والحشوية، غوية شوية، وركبت المرجية، مطية غير منجية، ومشت الخوارج، بأقدام عوارج، ونزلت المعتزلة، من الفضل بمنزله، فهم ملائكة الأرض، وأعلم الناس بالسنة والفرض، فرسان الكلام، وذروة أهل الإسلام.
الدجنة: الظلماء في كتاب الخليل، قال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي في المجمل: ولو خففه الشاعر لجاز، كقول حميد الأرقط:
حتى انجلت دجا الدجون
والآمة: القاصدة، والأم: القصد، ومنه قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام).
ويقال: فلان غيي شوىٌّ اتباع له، وكذلك غويٌّ شويٌّ.
وقوله: وجارأ كثر الشيعة، عن منهج الشريعة، واتخذوا الغلو ديناً، والسب خدينا، كم ينتظر لهم إمام غائب، ولم يؤب من سفر المنون آيب، وطال انتظار السبائية لعلي، وأتت فيه السحابية بالكفر الجلي، وأخرجته إلى الربوبية من الإنسانية، كما فعلت في أئمتها الكيسانية، وطال انتظار جعفر ابن الباقر على الناووسية العمية، كما طال انتظار أبي مسلم على الجرميه، وانتظار الحاكم بأمر الله على الحاكمية، واستراحت القطعية في موسى بن جعفر الإمام انتظار الواقفة الممطورة، وأكاذيبها المسطورة، وطال انتظار ولد الحسن بن علي، المعروف بالعسكري، على الإثنى عشرية، كما طال انتظار إسماعيل بن جعفر على فرقة من الجعفرية، وطال انتظار محمد بن إسماعيل على المباركية، كما طال انتظار فرق مكن الشيعة لمحمد بن عبد الله النفس الزكية، وطال انتظار محمد بن القاسم الطلقاني ويحيى بن عمر الكوفي على الجارودية، كما انتظر غيرهما من أئمة الزيدية، وطال انتظار الحسين بن القاسم الرسي على الحسسينية، كما طال انتظار المستورين على الباطنية.
المنهج: الطريق الواضح، وكذلك المنهاج.
والخدين: الصاحب، وكذلك الخدن، والمخادنة: المصاحبة، والأخدان: الأصحاب.
والمنون: المنية، ومنه قوله تعالى: (نتربص به ريب المنون)، وسميت المنية منوناً، لأنها تنقص العدد، وتقطع المدد، وهي مأخوذة من المن، وهو النقص، ويقال: القطع، ومنه قوله تعالى: (لهم أجرٌ غير ممنون) أي غير منقوص، وقيل: غير مقطوع، ومنه قول لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبسٌ كواسب لا يمن طعامها
وقول الراجز:
ومنه سوق المطايا منا
والآيب: الراجع من سفره، قال أبو ذؤيب الهذلي:
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليبٌ لوائل
وقوله: وكل فرقة من هذه الفرق تدعي غائبها مهدياً، وتهدي اللعنة إلى مخالفها هديا، وتعلق الكل بروايات الأحاد، وما لبس به على المسلمين أهل الألحاد.
المهدي الذي ينتظر كل فرقة من فرق الشيعة أنه على رأيها، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وقد تقدم ذكر ذلك، ورواياتهم في المهدي كثيرة يطول شرحها.
والهدي: العروس.
وروايات الأحاد: التي هي غير مجمع عليها، وهي التي يرويها الواحد من الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجمع معه أحد غيره من الصحابة، وأخبار الأحاد ضعيفة عند العلماء.
وأهل الألحاد: مثل عبد الكريم بن نويرة الذهلي الذي سير عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة آلاف حديث كذباً، وغيره من الملحدين، والحشوية وغيرهم.
قال السيد أبو طالب في كتاب الدعامة: إن كثيراً من أسانيد الإثنى عشرية مبنية على أسام لا مسمى لها من الرجال، قال: وقد عرفت من رواتهم المكثرين من كان يستحل وضع الأسانيد للأخبار المنقطعة إذا وقعت إليه.
وحكى عن بعضهم: أنه كان يجمع روايات بزرجمهر، وينسبها إلى الأئمة بأسانيد يضعها؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: الحق الحكمة بأهلها؟!! ومدلسو الأخبار على المسلمين في كتبهم كثير الإمام الملحدين وغيرهم لا يحتمل ذكرهم هذا الكتاب لكثرتهم وكثرة رواياتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: ولو كشف الحجاب، لظهر العجاب، من تشبيهات الغرابية، وشهادات الخطابية، وشعوذة المغيرة، وإفك المنصورية، وشرك العميرية، ومين الهريرية، وضلال الكاملية، وتيه المفضلية، وجهل المقاتلية، وفسوق المعمرية، ومروق الحروية، وتصوير الجوالقية، وتجويز المجبرة الشقية.
العجاب: أعظم من العجب، ومنه قوله تعالى: (إن هذا لشيء عجاب).
وقوله: لقد جار في التجسيم عن الثكم، هشام بن الحكم، شبه صانع البرية، بالدرة المضية، ومثله بالخشام، هبلت أم هشام، له حد وأبعاض، وحيزٌ وأعراض، تحيط به الجهات الست، والخلف والإمام واليمين والشمال والفوق والتحت.
وفر من التشبيه ضرار، فلم ينجه الفرار، زعم أن ربه يدرك في المعاد بحاسة سادسة، بروية منه وفكرة حادسة، يا ضرار بن عمرو، لقد جئت من العجب بأمر، أي حاسة تعقل غير الخمس، من بصر وسمع وشم وذوق ولمس؟ وغير ضرار يجيز رؤية البصر، لما ولد في الكتاب والخبر، وعنده أن الجسم أعراض بالخلقة مؤلفة، وهي على هذا التأليف مضادة مختلفة، وعنده إثبات فعل واحد على الحقيقة من فاعلين، كجور من جائرين، وعدل من عادلين، وهو أول مبتدع لهذه المقالة، فهل له عند الله من عذر وإقالة؟ وإن صح ما روي عن المقاتلية، لقد عبدت صنماً كأصنام الجاهلية، زعمت أن معبودها كالآدمي من لحم ودم، يبطش بيد ويمشي على قدم.
أو صح قول البطيحة في التلذذ بعذاب النار، لقد سلك واردها سبيلاً من الرشد على منار.
يعني: هشام بن الحكم القطعي، وكان يقول: إن ربه كالدرة المضية تتلألأ من كل جوانبها.
وحكى عن أبي الهذيل أنه سأل هشام بن الحكم بمنى - بحضرة جماعة من المتكلمين، منهم عبد الله بن يزيد - فقال هذا الجبل - يومي إلى جبل هنالك - أعظم أم ربك.؟ فقال هشام: هذا الجبل!! والثكم: الطريق الواضح.
والخشام: الجبل الطويل الذي له أنف.
والهبل: الثكل، يقال: هبلته أمه تهبله هبلاً، كما تقول: ثكلته تثكله.
وقوله: وفر من التشبيه ضرار، فلم ينجه الفرار، يعني: ضرار بن عمرو الذي تنسب إليه الضرارية.
وكان ضرار يقول: بفعل من فاعلين على الحقيقة، وإن الله تعالى خالق لأفعال عباده، وهم فاعلون لها على الحقيقة دون المجاز، وهو أول من ابتدع هذا القول وأحدثه.
وكان يقول: إن الله تعالى يدرك في المعاد بحاسة سادسة، وإن الجسم أعراض مجتمعة هي له أبعاض، وإن الأعراض يجوز أن تقلب أجساماً، وإن الاستطاعة بعض المستطيع.
وقوله: أو صح قول جهم بن صفوان في أفعال العباد، فلا ذنب للحاضر ولا الباد، إذ الفاعل عنده كشجرة حركت بالريح، صرح بالجبر أي تصريخ، أو صح قوله في فناء النار والجنة، إنهما لجاني الكبائر أحصن جنة.
أوصح قول المرجية في إخلاف الوعيد، فما أشبه الشقي بالسعيد، والعفو من الكريم المنان غير بعيد.
يعني: جهم بن صفوان الترمذي، وكان جهم خرج مع الحارث بن سريح ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقتل بمرو، قتله سلم بن أحور في آخر ملك بني أمية على شط نهر بلخ، وهو الذي تنسب إليه الجهمية.
وكان جهم يقول: إن الجنة والنار يفنيان، وإن الإيمان هو المعرفة دون الإقرار، ودون سائر الطاعات، وإنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا الله تعالى، وإن الخلق فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الريح، إلا أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة بها كان الفعل، وخلق فيه إرادة الفعل واختياره، كما خلق فيه سروراً بذلك وشهوة له.
وقوله: أوصح قول المجبرة والخوارج في عذاب لأطفال، لقد حملت أحمال البوازل على الآفال.
الآفال: بنات المخاض فما فوقها.
واختلف الناس في عذاب الأطفال المشركين.
فقال واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيلان، ومحمد بن الحنفية، وبشير الرجال، والحسن بن أبي الحسن البصري، وقتادة، وعبد الواحد بن زيد، وجميع المعتزلة، والميمونية، والنجدات من الخوارج: أطفال المشركين في الجنة ولا يقع العذاب إلا على البالغين، واحتجوا بقول الله تعالى: (كل امرئ منهم بما كسب رهين) وبقوله: (لا تزر وازرةٌ وزر أخرى) وبقوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى).
قالوا: وليس للأطفال كسب يرتهنون به.
وقالت المجبرة كلها، والحشوية، وسائر الخوارج: أطفال المشركين في النار، لأنهم بعض من أبعاضهم، واحتجوا بأن الله تعالى خسف الأرض بقوم لوط، وأغرق قوم نوح وفيهم الأطفال، قالوا: فلما خسف بهم وأغرقهم مع آبائهم، قلنا: إنه يعذبهم مع آبائهم في النار، وكل فعل الله عدل، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقال عبد الله بن يزيد، وابن التمار من الزيدية، وحسين النجار والمريسي من المرجية: أطفال المشركين خدم أهل الجنة.
وقالت الروافض جميعاً - إلا هشام بن الحكم - : يجوز أن يعذبهم، ويجوز أن يعفو عنهم.
وقوله: أو صح ما قالت العوفية، إذا كفر الإمام كفرت بكفره الرعية، لقد أخذ المسلم بذنب الكافر، وضربت ذات الخف بجرم ذات الحافر.
وقوله: كمداوة ذي العر، بكى آخر سالم من الضر.
أو صح ما روى عن الميمونة من الهنات، من نكاح بنات البنين وبنات البنات.
العر: داء يقع في الإبل، وكانت الجاهلية، إذا وقع العر في إبلهم أخذوا بعيراً سليماً منها لأداء به فطقعوا مشفره وكووه، وزعموا أن ذلك يرفع الداء من سائر الإبل، قال النابغة الذبياني:
وحملتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو راتع
وقوله: لقد أحيوا سنة المجوس، وتزويج حاجب لدختنوس.
أو صح قول اليزيدية في آخر الزمن، من ظهور نبي مؤتمن، يأتي من السماء بكتاب، يزيل ريب كل مرتاب، لقد سعد من نسيه الحمام، حتى يدركه نبيٌ أو إمام.
كان زرارة بن عدس التميمي مجوسياً، وكذلك ابنه حاجب بن زرارة، كان على دين المجوس، وتزوج ابنته دختنوس، وهو القائل عند وفاته:
يا ليت شعري دخنتوس ... إذا أتاها الخبر المرموس
أتسحب الذيلين أم تميس ... لا بل تميس إنها عروس
وقيل: إن دختنوس ابنة أخيه لقيط بن زرارة، وإن لقيطاً قائل الأبيات.
وقوله: أو صح ما روي عن مالك، في العبد المملوك وسيده المالك، لقد جاء بإحدى الكبر، وأتى في الدين بصماء العبر.
أو صح ما روي عن الشافعي في القمار بالشطرنج، فليت شعري ما عنده في لعب الزنج، وضربها على الطبل والصنج.
أو صح ما روي عن أبي حنيفة من تحليل مسكر الشراب، لقد نقل بيت الخمار إلى المحراب!!.
أو صح ما روي عن الجوالقية في تزويج المتعة بالأجور، لقد حملوا المحصنات على الفجور.
أو صح قول الأباضية إنه يجوز أن يبعث نبيٌ بلا دليل، لقد أجازوا النبوة لكل ضليل؛ أو صح قولهم في تصديق ما ورد من الأخبار، عن المؤمن والكافر بغير اختيار، لقد خلطوا الصدق بالمين، وصدقوا الأذن على العين.
أو صح ما روي عن الخطابية من استحلال شهادات الزور، وأن الشاهد بها منهم على المخالف غير موزور، وأن مخالفيهم ضلال، وأموالهم ونساءهم لهم حلال، لقد أتوا في الدين بشنعاء نآد، وأوهنوا منه عضداً قوية الآد.
أو صح ما روي عن المعمرية من استحلال الزنا والفسوق، لقد أقاموا للفساد في الأرض شر سوق.
أو صح ما روي عن المعمرية المفضلية من ربوبية جعفر، لقد باءوا بذنب غير مكفر، وأنهم رسله إلى الخليقة، لقد جاءوا في الدين بالفليقة، من ربهم بعد جعفر هلك ذلك الرب؟ وأصبح به ذو السنام وهو أجب.
أو صح ما روي عن أبي منصور إنه الكسف الساقط من السماء، وإنه عرج إلى العرش بكلمة يمشي بها على الماء، وأن معبوده مسح رأسه بيده للإيناس وقال: أي نبي اذهب فبلغ عني كافة الناس، وأن النار والجنة، والبدعة والسنة، أسماء رجال، ما لها غير التسمية من مجال، يجب لبعضهم عداوة ولبعضهم إجلال، فالفروض ساقطة والمحارم حلال، وأن النبوة لا تنقطع بمحمد، ولا بد في كل وقت من نبي مصمد، وأن أول ما خلق الله موسى ثم علي، لقد خاب وخسر العجلي، ورجع دون العروج بالعرج، ولم ينج عند الله من حرج.
أو صح ما روي عن ولده الحسين من استحلال الخنق، وغيلة المخالف بوقص العنق، وأخذ ما معه من مال، لقد حمل من ظلم البرية أثقل الأحمال، وأنه ولي الأخماس؛ من ما غنم أصحابه من الخنق بالتماس، لقد تزود شر زاد للمعاد، وخرج إلى الله بحرم باغ عاد.
أو صح ما روي عن المغيرة بن سعيد، لبئس ما حفظ عنه أكرم قعيد، أن معبوده رجل من نور على رأسه من النور تاج، ينبع قلبه بالحكمة يهتاج، وأن أعضاءه بعدد حروف أبجد، لقد عضه ربه وما مجد، وأشار بالعورة إلى الصاد، إن ربك للظالم بالمرصاد، هلك المغيرة، وأحصيت الكبيرة والصغيرة.
أو صح قول البيان بن سمعان، إن معبوده في صورة الإنسان، وإنه يهلك ويبقى وجهه، كما يهلك بزعمه نظيره وشبهه، وأنه يدعو النجوم فتجيب، إن شن التميمي لعجيب، لقد بان كفر البيان، وأعلن بالكفر أي إعلان.
أو صح ما روي عن المختارية، ونقل عن الضرارية، أن الدنيا غير فانية، لقد فاز كل جان للذنوب وجانية.
أو صح ما روي عن الطيارة الغالية أن ربهم يحتجب بأبدان الأئمة، وأن عبادتهم واجبة على كل أمة، لقد كثرت الأرباب، واتسع للداخل هذا الباب.
أو صح قول أصحاب الرجعة، في قدوم من انتجع من المنون أبعد نجعة، وظهور الأموات قبل القيامة مع ابن الحنفية، ورد جميع الأديان على الحنفية، لقد ضعف ناصر الرمم، وبعد استظارها على الأمم.
أو صح قول الغرابية في أبي تراب، إنه بالنبي أشبه من الغراب بالغراب، وإن جبريل غلط في تبلغي الرسالة إلى غير علي، لقد نسبوا الغلط - جل عن ذلك - إلى الواحد العلي.
أو صح قول الراوندية إن الأمامة من التراث، وإنها لأقرب العصبة من الوراث، فإنها بعد النبي للعباس، بغير فك عندهم ولا التباس، وإن بني البنات لا يرثون شيئاً مع العم، ولا إمامة في النساء فيدلون بأرث الأم، لقد اشترك فيها البر والفاجر، ووقع الاختلاف والتشاجر، وحكم بها لكل ظالم فظ، على قدر الوارثة والحظ.
أو صح قول أصحاب النص بأمامة من في المهد، وخذ البيعة له والعهد، لقد طابقوا الأكاسرة في تقديم غير الكامل، ووضع التيجان على بطون الحوامل، والائتمام بالجنين، قبل حدوث النجو والذنين.
أو صح قول الجارودية إنها منصوصة بالإشارة والوصف، بأخبار عندهم كخير النعل والخصف، لقد وصفوا الخالق بالرمز، والتلبيس بالإشارة والغمز؛ أو صح قولهم في حصرها على الذرية، دون غيرهم من البرية، وأنها لهم كالقلادة، بما لهم من الولادة.
الكبر: الكبائر: ومنه قوله تعالى: (إنها لإحدى الكبر).
وصماء العبر: اسم من أسماء الداهية. قال الحرماني يمدح المنذر بن الجارود:
أنت لها منذر من بين البشر ... داهية الدهر وصماء العبر
يريد: يا منذر
يعني: مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن حمير ثم من الأصابح، وهو الذي تنسب إليه المالكية بالمغرب، ويروى عن المالكية أنهم يستحلون اللواط بالمماليك، وأن الشافعية يجيزون القمار بالشطرنج، وأن الحنفية يجيزون شرب الخمر، وأن الروافض يجيزون المتعة.
قال المعري يذكر هذه المذاهب:
الشافعي من الأئمة واحد ... ولديهم الشطرنج غير حرام
وأبو حنيفة قال وهو مصدق ... فيما يفسره من الأحكام
شرب المنصف والمثلث جائزٌ ... فاشرب على أمن من الآثام
وأجاز مالك الفقاح تطرفاً ... وهم دعائم قبة الإسلام
وأرى الروافض قد أجازوا متعة ... بالقول لا بالعقد والإبرام
فافسق ولط واشرب وقامر واحتجج ... في كل مسألة بقول إمام
وذو النآد: اسم من أسماء الداهية، قال الكميت:
وإياكم وداهية نآدي ... أظلتكم بعارضها المخيل
والوهن: الضعف، ومنه قوله تعالى: (فما وهنوا لما أصابهم) وقوله تعالى: (إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت).
والآد: القوة: قال الشاعر:
باد ما تنهض في أدها
والأيد أيضاً: القوة، ومنه قوله تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب).
وبآء: يقال: باء الرجل بإئمة أي احتمله، ومنه قوله تعالى: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) ويقال: باء أيضاً: أي رجع، ومنه قوله تعالى: (وباءوا بغضبٍ من الله) أي رجعوا.
ويقال: باء القتيل بالقتيل: إذا كان كفئاً له، ويقال باء بالحق: إذا قربه، قال لبيد:
أنكرت باطلها وبؤت بحقها ... عندي ولم يفخر على كرامها
والفليقة: الداهية.
والرب معرفاً: اسم الله تعالى، ورب كل شيء: مالكه.
والأجب: مقطوع السنام، قال النابغة:
ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
وأول الأبيات:
ألم أقسم عليك لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام
فإني لا ألومك في دخولٍ ... ولكن ما وراءك يا عصام
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام
ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
وعصام: حاجب النعمان بن المنذر، وهو منم تيم اللات بن ثعلبة، وهو الذي قال فيه النابغة:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكاً هماما ... حتى علا وجاوز الأقواما
والمصمد: المقصود كثيراً، قال طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة المجد الكريم المصمد
والصمد: السيد المقصود كثيراً، ومنه قوله تعالى: (الله الصمد)، قال سيرة بن عمرو الأسدي:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعودو بالسيد الصمد
واعلم أن الناس اختلفوا في النبوة: هل هي مخصوصة أم مكتسبة.
فقال أصحاب التناسخ - منهم أبو خالد الهمداني، وأبو خالد الأعمى المشعبذ الواسطي، ومن قال بقولهم - : إن النبوة مكتسبة بالطاعة، واحتجاجهم في ذلك أنهم قالوا: لو كانت النبوة من طريق المثوبة على اكتساب الطاعة لكانت جبراً وضرورة، ولو كانت جبراً لكانت الأنبياء غير ممتنعة منها، ولو كان من الأنبياء ثواب على فعل الله فيهم، فصح أنها مكتسبة بالطاعة.
وقال حسين النجار - ومن قال بقوله، والمريسي من المرجية، وهشام بن الحكم ومن قال بقولهم - : إن النبوة خصوصية من الله عز وجل، وتفضل على من تفضل عليه قسراً وجبراً، وإن الله يثبت النبوة على الأنبياء تفضلاً، كما تفضل بها عليهم، ويثبتهم على الطاعة دون النبوة جزاء، وعلى الله جزاء المحسنين.
وقال واصل بن عطاء، ومن قال بقوله: النبوة أمانة قلدها الله تعالى من كان في علمه الوفاء بها، والقبول لها، والثبات عليها، من غير جبر، لقوله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) أي لم يجعلها الله تعالى لا فيمن علم منه الوفاء بها والقبول لها، وثواب الأنبياء على قبولهم وتأديتهم الرسالة، لا على فعل الله تعالى فيهم وتعريضهم.
وقال بهذا أو الهذيل، وبشرين المعتمر، والنظام، وسائر العدلية.
والعرج: الصمود، مصدر عرج يعرج بفتح العين من الماضي وضمها من المستقبل، ومنه قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).
والعرج: مصدر يعرج: إذا صار أعرج بكسر العين من الماضي وفتحها من المستقبل.
والحرج: الإثم، ومنه قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرجٌ) وقص العنق: دقه. والوقص: العيدان تلقى على النار قال حميد:
لا تصطلي النار إلا مجمراً أرجاً ... قد كسرت من يلنجوج له وقصا
والقعيد: المقاعد، وهو الجليس المجالس، ومنه قوله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) والقعيد أيضاً: الذي يحموك من وارئك، والقعيد: الجراد الذي لم يستو جناحه بعد، والعرب تقول: قعيدك لا آتيك، وهي يمين لهم، قال متمم بن نويرة اليربوعي:
قعيدك ألا تسمعين ملامةً ... ولا تنكثي قرح الفؤاد فييجعا
وقعيدة الرجل: زوجته، قال الحطيئة:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... الى بيتٍ قعيدته لكاع
والقعيدة: الغرارة، والقعيدة من الرمل: التي ليست بمستطيلة والعضه: الشتم، والعضيهة: الشتيمة.
والتمجد لله تعالى والتعظيم.
والمرصاد: الطريق الواضح، وكذلك المرصد، مثل منهج ومنهاج.
والنجعة: الاسم من الانتجاع في طلب الكلأ.
والفظ: سيئ الخلق، ومنه قوله تعالى: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك). والفظ أيضاً: ماء الكرش وقيل: إن اشتقاق الرجل الفظ من هذا.
والجنين: الولد ما دام في بطن أمه، سمي بذلك لاجتنانه.
والنجو في هذا الموضع: ما يخرج من البطن. والنجو في غير هذا الموضع: السحاب، وجمعه نجاه، قال المسحال الهذيل، واسمه مالك بن عويمر، أحد بني لحيان بن هذيل:
كالسحل البيض جلا لونها ... سح نجاء الحمل الأسول
والنجو أيضاً: السر، والنجوة: المكان المرتفع الذي لا يبلغه الماء، قال عبيد:
فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
والنجوى مقصوراً: السر ومنه قوله تعالى: (وأسروا النجوى)، والنجوى: مثل المطوي، والمطوي: المتمطي ممدود التمطي، قال شبيب بن البرصاء:
وهم تأخذ النجواء منه ... يعل بصالب أو بالملال
والذنين: ما يسيل من الأنف.
وكانت الأكاسرة إذا مات الملك منهم وليس له ولد، وببعض نسائه حمل تركوا تاجه على بطن امرأته الحامل إلى أن تضع ولدها، ثم ملكوه عليهم، ولما هلك هرمز بن نرسا بن نهران الملك الفارسي، ولا ولد له، شق ذلك عليهم، فسألوا عن نسائه، فذكر لهم أن ببعضهن حملاً، فأرسلوا إليها: أيتها المرأة التي قد قاست الحمل، قد تعرف علامات الذكران وعلامات الأناث، فأعلمينا بالذي يقع عليه ظنك في بطنك، فأرسلت إليهم: إني أرى من نظارة لوني وتحرك الجنين في الشق الأيمن مع خفة الحمل ويسره ما أرجو أن يكون الجنين ذكراً! فاستبشروا بذلك وعقدوا التاج على بطن تلك المرأة، حتى وضعت غلاماً سموه سابور، وهم سابور ذو الأكتاف، وهو أعظم ملوكهم. وأقامت الوزراء يتولون تدبير الأمر والمملكة في حال صغره على انتشار عظيم، وضاع من ملكهم حتى طمع فيهم من يليهم من أعدائهم، وأوعثت العرب من عبد القيس وغيرهم في كثير من بلاد فارس، وأكثروا فيها الفساد.
فبينما سابور نائم ذات ليلة، وقد أثغر وأيفع إذا أنبهه ضجة الناس وأصواتهم فسأل الخدمة عن ذلك، فأعلموه أن تلك الأصوات مما على الجسر من الناس، وما يصيح به المقبل منهم، والمدبر يتنحى له عن الطريق، فقال وما دعاءهم إلى احتمال هذه المشقة وهم يقدرون على إزالتها بأيسر المؤونة؟ ألا يجعلون لهم جسرين، فيكون أحدهما للمقبلين والآخر للراجعين، ولا يزحم الناس بعضهم بعضاً؟ فسر من حضر بمقالته ولطف فطنته على صغر سنه.
فلما أتت له ست عشرة سنة أمرهم أن يختاروا ألف رجل من أهل النجدة والبأس ففعلوا، فأعطاهم الأرزاق، ثم سار لهم إلى نواحي العرب الذين كانوا يعيثون في أرضهم، فقتل من قدر عليه منهم ونزع أكتافم، فسمي ذو الأكتاف لذلك، وهو باني الإيواء الأعظم بالمدائن.
ولقد شرك فيها ولد قرين، وولد الديباج ابن ذي النورين، كما إن عيسى من ذرية الخليل، لوجود الشاهد والدليل.
أو صح قولهم إنها شورى منهم بين الأفضل، لقد أيدوا حجة المناضل، ورجعوا إلى العموم بعد الخص، وإلى الشورى بعد النص، واستحسنوا ما استقبحوا من قبل، وانقطع بهم عن التمسك ذلك الحبل.
قرين: لقب عثمان بن عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام.
وأم قرين: سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وكانت سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عند مصعب بن الزبير بن العوام، فولدت له جارية، ثم قتل مصعب؛ فخلف عليها عبد الله بن حكيم بن حزام، فولدت له قريناً، وله عقب؛ ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان أخو عمر بن عبد العزيز، فمات بمصر قبل أن يدخل بها، ثم تزوجها زيد بن عمر بن عثمان بن عفان، فأمره سليمان بن عبد الملك بطلاقها، ففعل.
وقال ابن الكلبي: أول أزواج سكينة: الأصبغ بن عبد العزيز، ومات عنها بمصر قبل أن يدخل بها؛ ثم خلف عليها مصعب بن الزبير، وولدت له جارية، ثم خلف عليها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكم بن حزام، فولدت له عثمان الذي يقال له: قرين، وله عقب، ثم خلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف جد إبراهيم بن سعد الفقيه.
قال العقيفي، يحيى بن الحسين الحسيني، في كتاب أنساب مضر: قتل الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وعليه بضعة وسبعون ألف دينار، فباع على ابنه ضياعاً لأبيه تسقيها عين جدية إلى الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، فقضي عن أبيه دينه، فورثها آل حكيم بن حزام.
وأما الديباج: فهو محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وسمي الديباج: لجماله، وكان له قدر ونبل، وكان يقال فيه: سمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذريته، وزرع الخليفة المظلوم.
وذي النورين: عثمان بن عفان.
وأخذ أبو المنصور الديباج وأخواله الفاطميين، فضرب عنقه صبراً، وله عقب وكانت بنت الحسين بن علي عند ابن عمها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فمات عنها، ثم خلف عليها عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو الذي يقال له: المطرف، سمي بذلك: لجماله، قال فيه مدرك بن حصن:
كأني إذا دخلت على ابن عمرو ... دخلت على مخبآت كعاب
فولدت لعبد الله المطرف: محمد الديباج.
فقال العقيقي، يحيى بن الحسين الحسيني: كان الحسن بن الحسن خطب إلى عمه الحسين بن علي؛ فقال الحسين: يا ابن أخي قد انتظرت هذه منك، اختر: إما فاطمة، وإما سكينة؛ فاختار الحسن فاطمة، فزوجه، فولدت فاطمة للحسن ابن الحسن: عبد الله بن الحسن وحسناً وإبراهيم وزينب وأم كلثوم، فكانت زينب بنت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند الوليد بن عبد الملك بن مروان وهو خليفة، وكانت أم كلثوم عند محمد بن علي بن الحسين بن علي، فتوفيت عنده وليس لها ولد.
قال العقيقي: فلما حضرت الحسن بن الحسن الوفاة، قال لفاطمة بنت الحسين: إنك امرأة مرغوب فيك، فكأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان إذا خرج بجنازتي، وقد جاء على فرس مرجلاً جمته لابساً حلية يسير في جانب الناس يتعرض لك، فأنكحي من شئت سواه، فإني لا داع ولا رائي من الدنيا هما غيرك. قالت له فاطمة: أنت آمن من ذلك وغلظته الإيمان من العتق والصدقة، لأنكحته.
ومات الحسن بن الحسن، وخرج بجنازته، فوافى عبد الله بن عمرو بن عثمان، في الحال التي وصف، وكان يقال لعبد الله بن عثمان: المطرف، من حسنه؛ فنظر إلى فاطمة حاسرة تضرب وجهها، فأرسل إليها: إن لنا في وجهك حاجة فارفقي!! به فاسترخت يداها، وعرف ذلك فيها وحمرة وجهها؛ فلما رحلت أرسل إليها يخطبها؛ فقالت: كيف بيميني التي حلفت بها؟ فأرسل إليها: لك مكان كل يمين من مملوك مملوكان، ومكان كل شيء شيئان؛ فوضعها من يمينها، فنكحته، فولدت له محمد الديباج بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وله عقب، والقاسم بن عبد الله، ولا عقب للقاسم، ورقية بنت عبد الله.
قال العقيقي: وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن يكنى أبا محمد، وكان خيراً، ورئي يوماً يمسح على خفيه، فقيل له: تمسح على خفيك؟ فقال: قد مسح عمر ابن الخطاب، ومن جعل عمر بن الخطاب بينه وبين الله تعالى فقد استوثق.
وكان مع أبي العباس السفاح، وكان له مكرماً وبه أنيساً، فأخرج يوماً سفط جوهر، فقاسمه إياه، وأراه بناء قد بناه، وقال له: كيف ترى هذا؟ فقال عبد الله متمثلاً:
ألم تر حوشباً أمسى يبني ... قصوراً نفعها لبني نفيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليله
فقال له أبو العباس: تتمثل بهذين البيتين، وقد رأيت صنيعي بك؟ فقال عبد الله: والله ما أردت بها سوءا، ولكنها أبيات خطرت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحتمل ما كان مني. قال: قد فعلت، ورده إلى المدينة.
فلما ولي إبراهيم جعفر ألح في طلب ابنيه إبراهيم ومحمد ابني عبد الله، وتغيباً في البادية، فأمر أبو جعفر أن يؤخذ أبوهما عبد الله بن الحسن بن الحسن وإخوته الحسن وداود وإبراهيم، ويشدوا وثاقاً ويبعث بهم إليه، فوافوه في طريق مكة بالربذة - موضع قبر أبي ذر الغفاري - مكتوفين؛ فسأله عبد الله أن يأذن له في الدخول عليه، فأبى أبو جعفر، فلم يره حتى فارق الدنيا، ومات في الحبس هو وإخوته جميعاً.
وخرج ابناه محمد وإبراهيم، وغلبا على المدينة، ومكة، والبصرة، فبعث إليهما العساكر، فقتل محمد بالمدينة، وقتل إبراهيم بباخمرى على ستة عشر فرسخاً من الكوفة.
وإدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن أخوهما، هو الذي صار إلى الأندلس والبربر فغلب على تلك الناحية.
ولن توجد جهة قاطعة على النص والحصر، يشهد لصاحبها على المخالف بالنصر، من تنزيل، لا يعارض بالتأويل، وتأويل لا ينقض بالسماع أو ضرورة العقل، التي لا تفتقر إلى النقل.
اختلاف الناس في الحجة بالخبر بعد النبي
صلى الله عليه وسلم اختلف الناس في الحجة بالخبر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالت الأمامية: لا تعقل الحجة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا عن الإمام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقالت الزيدية: لا تثبت الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بشهادة أربعة رجال من أهل العدالة، قياساً على شهادة الزنا.
وقالت الخوارج كلها - إلا الفضيلة - : الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة عدلين، لقول الله عز وجل: (وأشهدوا ذوي عدل منك).
وقال النظام: لا تعقل الحجة عند الاختلاف من بعد النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم إلا من ثلاثة أوجه: أ - من نص من تنزيل لا يعارض بالتأويل.
ب - أو من إجماع الأمة على نقل خبر واحد لا تناقض فيه.
ج - أو من جهة العقل وضرورته.
وبقوله: قال أكثر المعتزلة.
وقال أبو الهذيل: الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة عشرين رجلاً من أهل العدالة، لقوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين).
وقال واصل بن عطاء، وغيلان بن عمرو بن عبيد: لا تعقل الحجة إلا بالإجماع، إما في إجماع الأمة على الخطأ والكذب من بطلان الدين وعدم الإسلام.
وحكى الجاحظ في كتاب الأخبار: إن من الناس من يقول: إن الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهادة سبعين رجلاً لميقاتنا).
وقالت الحشوية: كل ثقة من العلماء يأتي بخبر مسند عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو حجة.
وقالت الفضيلة من الخوارج: لا تعقل الحجة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بتقليد أهل الثقة من العلماء الصالحين.
وبه قالت عامة المرجية.
قوله أو صح ما روي عن عبد الله بن معاوية، لقد هوى به إلى الهاوية، إن العلم ينبت في قلبه نبات العشب وبنات أوبر، لقد أساء العبارة بما عبر، وإن روح الله تحولت في آدم، ثم نسخت في كل نبي حدث وتقادم، حتى صارت فيه، لقد أعلن بالكفر ما يخفيه، فعبدته شيعته وكفروا بالقيامة، وكفروا على شرب المدامة.
أو صح ما روي عن الشمراخية لقد شدوا لملل الكفر مرس الأخيه، أن الصلاة جائزة خلف من صلى إلى القبلة، وإن كان مخالفاً للنحلة، من النصارى واليهود، أنهم على التصويب لهم شهود.
أو صح ما روي عن الصفرية في تجويز مناكحة المشركين والمشركات، وقبول شهادتهم وموارثتهم في التركات، لقد مزجوا الغث بالسمين، وجعلوا الكفار مسلمين.
أو صح ما روي عن الخشبية في إجازة نسخ ما حكى الله من الأخبار، لقد نسبوا الكذب جل عن ذلك إلى الجبار.
أو صح قول التغلبية إن أطفال المشركين مشركون كالآباء، لقد أخذهم بما حمل غيرهم من الأعباء.
أو صح قول الفضيلية إنه يكون مؤمناً من أظهر الإيمان، وأسر الكفر بالرحمن، لقد أجازوا النفاق، وأوجبوا عليه الاتفاق؛ أو صح قولهم في صغائر الذنوب، لقد حكموا للمؤمنين من الشرك بذنوب.
أو صح قول البيهسية إن المسكر إذا اتخذ من المال الحلال، فهو أحل من الماء الزلال، وإن الذنوب موضوعة عنهم في حال السكر، لقد أتوا في الدين بشيء نكر، والبيهسية تسير في المخالف بأخذ المال وقتل الغيله، وأعمال المكيدة في ذلك والحيله.
أو صح قول النجدية إن من أذنب منهم في الإيمان غير خارج، ومن أذنب من غيرهم فقد كفر بذي المعارج، لقد صيروا الذنب إيمانا، تكون من العذاب لأهلها أماناً.
أو صح قول الأزارقة: إن المسلم بدار الكفر كافر، ليس لذنبه غافر، لقد جعلوا الإسلام كفوراً، واتباع الحق نفوراً، والأزارقة تستحل قتل الأطفال، وترى مال المخالف من الأنفال، ويحتجون بقوله تعالى: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تدرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً).
وهذه جملة من مذاهب يسيرة، وقل من يمشي بقدم غير كسيرة، وسائرها يكثر به الشرح، ويحسن الإلغاء له والطرح، فانظر إلى اختلال هذه العقائد، وضلال مقودها والقائد، فكل عروة منها انفصام، وخسر من له بها اعتصام.
أيها الرابط على ما في الكيس، هل أمنت على ما فيه من التوكيس؟ انصرف به إلى الصيارف، فكم له من ناقد وعارف، وطف به على الطوائف، لعله من الزوائف، كم لهذه الجملة من قار، لا يرتدي عند القراءة بوقار، هل معه من الدين غير تقليد، أم فتح باباً مغلقاً بإقليد، أنى بالأران لفارس الأران، وطرفه الحري بالحران، أين المحض من الضيح، وأبي غبيش من أبي وضيح، ما للهدان بالفتك يدان، ولا للعيهب، إقدام على الغيهب، ظفر طالب الثار بكبوة العثار، وضعف ظنبوب الرار، عن الفوز بالأبرار، هل يباري الفرسان إلى الأنفال، كفل على ثفال، يعجز عن الزياد، عن الجياد، وعن قبض الرهان، بكليل الجري مهان، أصبح عن السباق، مضاعف الرباق، وعن الطراد، مثنياً عن المراد.
بنات أوبر: ضرب من الكمأة، قال الشاعر:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلاً ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
والمرس: الحبل، وجمعه: أمراس.
والأخية: مربط الدابة، وهي معروفة.
والذنوب: النصيب، ومنه قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم). قال علقمة بن عبدة:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
وشاس اسم أخي علقمة.
والذنوب: الدلو العظيمة، قال الراجز:
إني إذا نازعني شريب ... فلي ذنوب وله ذنوب
والذنوب: الفرس الطويل الذنب. والذنب: لحم المتن.
والنكر: المنكر، ومنه قوله تعالى: (لقد جئت شيئاً نكراً).
والعقائد: جمع عقيدة، وعقيدة الرجل: دينه وما يعتقده.
وفصم الشيء: كسره من غير أن يبين، ومنه قوله تعالى: (لا انفصام لها).
والإقليد: المفتاح، وهو جمع على غير القياس، ومنه قوله تعالى: (له مقاليد السموات والأرض).
وأنى بالأران: أي كيف بالأران، ومنه قوله تعالى: (أني يحيى هذه الله بعد موتها)، قال الشاعر:
عجبت لمسراها، وأني تخلصت ... إلي وباب السجن دوني مغلق
والإران: النشاط. والأران: النعش الذي يحمل عليه الموتى.
والطرف: الفرس الكريم.
والحري: الحقيق، يقال: فلان حقيق بكذا، وحري بكذا، وخليق، وقمين، وجدير، كل ذلك بمعنى واحد.
وحران الفرس: معروف.
والمحض: الخالص من اللبن.
والضبيح: الممزوج بالماء.
وأبو غبيش: الليل، وغبشه: ظلامه.
وأبو وضيح: النهار، وضحه: ضوؤه، قال الفراء: في الحديث: صوموا من وضح إلى وضح، يريد: من ضوء إلى ضوء وجاء بهما مصغرين، وهو يريد التكثير، كما قال الحباب بن المنذر يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير.
والهدان: الرجل الأحمق الخامل، والجمع هدون.
والعيهب: الرجل الضعيف عن طلب وتره. قال محمد بن حمران الجعفي، وليس الشويعر الحنفي:
حللت به وتري وأدركت ثؤرتي ... إذا ما تناسى ذحله كل عيهب
والعيهب: الظلمة.
والكبوة: السقوط، يقال منه كبا يكبو: إذا سقط.
والظنبوب: عظم الساق.
ويقال، مخ رارٌ: أي ذائب من الهزال، يقال: لمخ الضعيف: رار، ولمخ السمين: نقي.
والأبرار: السبق والغلبة. والمباراة: المسابقة.
والأنفال: الغنائم، وهي جمع نفل، وهي الغنيمة، قال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل
والكفل: الذي لا يستقيم على ظهر الفرس ولا يحسن ركوب الخيل، والثفال بالفتح: الجمل البطيء.
والذياد: الطرد.
والجياد: الخيل، ومنه قوله تعالى: (إذا عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد).
والرهان: جمع رهن وهو ما يرهن عند السباق.
وللكليل: نقيض الحديد.
والرباق: جمع ربقة: وهو حبل يشد به العنق.
قوله: وقد جمع بين المين الغابر، والمعن السائر، دهر كأم الستة من الدوائر، واللبيب مع الجميع، كحد السريع، نزل للخلاص بربع غير مريع، لا يستمتع بضرع ولا ضريع، ولزم للفكاك جزءاً وحده، واشتركت الثلاثة في الجزء الذي بعده، ولزم الآخران ثالث الأجزاء، وهو آخر النقوض والأبزاء، ولن يكون فك إلا من حركة، من آخر الدوائر المشتركة، وربما أدت الحركة، إلى غير البركة، وإل بالحرف، السكون حذف.
كثرت حركات المتكاوس فسمي مخبولاً، وأصبح على النقص مجبولاً، وطرح من عبه الضروب، وأفلت شمسه بالغروب، واعتدلت حركات المتواتر، فستره عن الوصم ساتر، والناس للدهر نظام وقصيد، وزروع منها قائم وحصيد، وقد تدخل العلل على صحيح الوزن، وتبدل سهله بالحزن، وربما قطع المذال، فاستراح العذال، وحذف المشبع، وبشر بغير السلامة مربع، وإلى النقص غاية التمام، ونغص اللذات ذكر الحمام، وإقبال الدهر إدبار، وعجماوه جبار، لا يطلب في الجناية بضمان، وكم وقع هلك من أمان.
والمبن: المقيم، يقال: أبن بالمكان: إذا أقام به.
والغابر: الباقي، ومنه قوله تعالى: (إلا عجوزاً في الغابرين).
والمعن: الذي يلبس فرسه العيان.
والربع: المكان المرتفع، قال عمارة: هو الجبل.
والريع: الطريق، ومنه قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون).
والضريع: يبس الشيراق، وهو نبت، وقد تقدم تفسير ذلك والحجة عليه وكذلك قد تقدم ذكر حدود العروض ودوائرها وفكوكها، فلا معنى لإعادة ذلك.
والنقوض: يقال: تقوضت الصفوف: إذا انتقضت، وتقوضت الخلق: إذا تفرقت.
والأبزاء: رفع العاجز للنهوض.
والمخبول من إجزاء العروض: ما دخل عليه الخبن والطي، فالخبن: سقوط ثانيه الساكن، والطي: ذهاب رابعه الساكن، مثل: مستفعلن، سقطت منه السين والفاء، فحول إلى فعلين، واشتقاقه من الخبل بالتسكين: وهو فساد الأعضاء، قال أوس:
أبنى لبينى لستم بيدٍ ... إلا يداً مخبولة العضد
والمخبول: المخلوق.
ولوصم: العيب، قال الشاعر:
فإن تك جرم ذات وصم فإنما ... دلفنا إلى جرم بألأم من جرم
والمذال من الأجزاء: ما كان في آخره وتد مجموع فزيد عليه حرف من غير الجزء، مثل فاعلن فصار فاعلاتن، فإذا قطع أسقطت منه الألف والنون وأسكنت اللام، فيصير فاعل، فتحول إلى مثله من الفعل، وهو مثل فعلن، والقطع في الأوتاد، والحذف في الأسباب.
والمشبع: ما كان في آخره سبب خفيف مثل فعولن فزيد عليه الألف فصار فعولان، فإذا حذفته أسقطت اللام والنون والألف من آخره فبقي فعو، وهو المحذوف.
قوله: وبشر بغير السلامة مربع، يريد قول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع
وهو مربع بن وعوعة بن سعيد بن قرط من بني كلاب بن ربيعة، وكان راوية جرير، قال الصنعاني: مربع لقبه، واسمه وعوعة.
والجبار: الهدر، يقال: ذهب دمه جباراً، أي هدرا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: العجماء جبارٌ أي هدر، وإنما جعل جرح العجماء هدراً إذا كانت منفلتة وليس معها قائد ولا سائق ولا راكب، فإذا كان معها أحد هؤلاء فهو ضامن، لأن الجناية له لا للعجماء، إلا فيمن لا يمكنه، نحو أن تركض ما خلفها برجلها لأنه لا يبصر ما خلفه ولا يمكنه منعها منه في حال سيره، فإذا كان واقفا عليها في طريق لا يملكه، ضمن ما أصابت بيدها أو رجلها أو غير ذلك.
ومن ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصول الفقه قوله: (الخراج بالضمان، والعجماء جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس، والمنحة مردودة، والعارية مؤداة، والزعيم غارم، ولا يغلق الرهن بما فيه، ولا وصية لوارث، ولا قطع في ثمر ولا كثر، ولا قود إلا بحديد، والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها، ولا تعقل العاقلة عبداً ولا عمداً ولا صلحاً ولا اعترفاً، ولا طلاق في إغلاق، والبيعتان بالخيار ما لم يتفرقا، والجار أحق بسقبه، والطلاق بالرجال، والعدة بالنساء.
ونهى عن بيع المخابرة، والمحاقلة، والمزابنة، والمعاومة، والثنيا، وعن ربح ما لا يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن الغرر وبيع المواصفة، وعن تلقي الركبان، وعن الكالئ بالكالي، وعن بيع وسلف، وعن العربان، وعن النجش، والمنابذة، والملامسة، وعن حلوان الكاهن، وعن عشب الفحل وعن المجر، والملاقيح، والمضامين، وحبل الحبلة.
وقال: ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقه.
فالخراج بالضمان في ضروب من البيع، مثل: رجل يشتري عبداً فيغله كل يوم ديناراً، ثم يجب له رده على بائعه لعيب يجده فيه، كان به قبل ابتياعه، فإنه يرده على بائعه، وله ما أغله بضمانة رقبتة، لأنه لو تلف عنده كان من مال المشتري.
وقوله: والبئر جبار: قيل هي البئر العادية لا يعرف من حفرها تكون في فلاة، فمن وقع فيها فهو جبار؛ وقيل: هي البئر تكون في ملك الإنسان، فإن سقط فيها إنسان أو دابة فلا ضمان عليه؛ وقيل: هو رجل يستأجر من يحفر له بئراً في ملكه فينهار به، فلا ضمان عليه.
وقوله: والمعدن جبار: هي هذه المعادن التي يستخرج منها الذهب والفضة، فيحفر فيها قوم بالأجرة، فربما أنهار المعدن عليهم فقتلهم قدما، وهم جبار لأنهم عملوا بأجرة، وهذا أصل في كل عامل عمل بأجرة ثم عطب أنه لا ضمان على مستأجره.
والركاز عند أهل الحجاز: الكنوز الجاهلية توجد مدفونة، وفيها ما في أموال المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين مثقالا نصف مثقال، وما زاد فبحساب ذلك، هذه حكاية أبي القاسم الزجاجي عند أبي عبيد.
وقوله: لا يغلق الرهن بما فيه، أي لا يستحقه المرتهن ولا يحال بين الراهن وبينه إذا أدى فكاكه؛ والفقهاء مختلفون في الرهن إذا تلف عند المرتهن، فمنهم من يقول: هو بما عليه، ومنهم من يقول: هو من مال الراهن له فضله وعليه نقصانه.
وقوله: والمنحة مردودة: أصل المنحة الناقة والشاة يمنحها الرجل رجلاً آخر ينتفع بلبنها مدة ثم يردها، فردها واجب عليه إلى صاحبها؛ هذا أصل المنحة، ثم كثر استعمالها حتى جعلت الهبة والصلة: منحة.
وللعرب أسماء تضعا موضع العارية.
فمنها: المنحة، والعرية، والأفقار، والأخبال، والإكفاء، والأعمار، والأقارب.
فالعرية: هي النخلة يهب الرجل ثمرها لرجل آخر عامه ذلك، وهي التي رخص في بيع ثمرها قبل أن تصرم، واشتقاقها من الأعراء والتجرد، كأنه لما وهب ثمرها فقد عراها.
والأفقار: أن يعطي رجل رجلاً دابته فيركبها ما أحب ثم يردها، واشتقاقه من فقار الظهر.
والأخبال: أن يعطي الرجل الرجل البعير أو الناقة، يركبها ويجتز وبرها وينتفع بها ثم يردها، قال زهير:
هنالك إن يتسخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسئلوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
واشتقاقه من قولهم: به خبل وخبال، والخبل: فساد الأعضاء، فإذا أصابت الرجل السنة استخبل صاحبه، أي استدعى منه معونته على ما به من خبل، فأخبله، أي أعانه، قال الشاعر:
لما أتاني حيدر مستخبلاً ... أخبلته قرماً هجاناً فابتهج
والأكفاء: أن يعطي الرجل الرجل الناقة لنيتفع بلبنها ووبرها وما تلده في عامها ثم يردها، والفرق بين الأخبال والأكفاء: أن المخبل يرد الولد، والمكفأ لا يرده، والإسم منه الكفأة، قال ذو الرمة:
كلا كفأتيها تنقصان ولم تجد ... لها ثيل سقب في النتاجين لامس
يقول: إنها نتجت أناثا كلها، والهاء في له عائدة على الفحل في البيت الذي قبله.
وأما الأعمار والأقارب: فهو الدور والمساكن، والاسم منه: العمري، والرقبي.
فالعمري: أن يسكن الرجل الرجل، داراً عمره، فإذا مات الساكن. أخذها المسكن، وهي مشتقة من العمر.
والرقبي: أن يسكن الرجل الرجل داراً، فإذا مات المسكن، وردها الساكن على ورثته، يقال: أعمرتك داراً وأرقبتك داراً.
وقوله: والعارية مؤداة: يقول ردها واجب على المعار إلى صاحبها.
وقوله: ولا وصية لوارث: فإن للرجل أن يوصى بثلث ماله، ولا يزيد عليه، ويستحب له أن يوصى بأقل من الثلث، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسعد: والثلث كثير، لأن تترك عيالك أو ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس.
واختلف الناس في الثلث الذي يجوز للرجل أن يوصى به، هو يجوز أن يوصى به لأحد من الورثة؟ فقال أكثر الأئمة: لا يجمع بين الميراث والوصية، ولا تجوز الوصية لأحد من الورثة، وإنما تجوز لغير الوارث، واحتجوا بالخبر: لا وصية لوارث.
ومنهم من قال: يجوز أن يوصي بالثلث لبعض ورثته دون بعض، وإن معنى الخبر: لا وصية لوارث، فيما زاد على الثلث.
وقوله: لا قطع في ثمر ولا كثر، الكثر: جمار النخل وهو شحمه، ولا قطع في الثمر إذا أخذ من رؤوس الشجر، فأما إذا أحرز فحكمه حكم غيره من الأموال المحرزات، وفيه القطع.
وقوله: لا قود إلا بحديد، فيه اختلاف بين الفقهاء.
منهم من قال: من قتل إنساناً بغير حديد لم يجب عليه القتل، وإنما تجب عليه الدية، فإن قتله بحديدة وجب عليه القود والقتل.
وبعضهم يقول: إذا قتله بما يمثله يقتل، قتل، مثل أن يرميه بصخرة عظيمة وما أشبه ذلك، فإنه يقتل.
وقوله: والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها، أي تساوي الرجل فيما دون ثلث ديتها، ثم دية المرأة نصف دية الرجل في الثلث وفيما زاد على الثلث، ومساواتهما فيما دون الثلث من الدية، نحو الأصبع فإن فيها خمساً من الأبل وكذلك الأصبعان، والثلث مما لا يجب فيه ثلث الدية، فإن دية أعضاء الرجل فيه كدية أعضاء المرأة، فإذا بلغت الثلث صارت المرأة على النصف من دية الرجل، نحو دية اليد والرجل والعين، وما أشبه ذلك.
وقوله: ولا تعقل العاقلة عبداً ولا عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً، يقول: لا تحمل عاقلة الرجل قتل العمد، لأن ذلك في صليب ماله، ولا صلحاً، ولا ما اعترف به، ولا عبداً.
وقوله: ولا طلاق في إغلاق، الأغلاق: إلا كراه، وهو من إغلاق الباب، أي لا سبيل إلى التخلص مما أكره عليه.
وقوله: والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، هما البائع والمشتري، سميا بيعين لأن كل واحد منهما يقال له: بائع، والبيع في كلام العرب من الأضداد، يقال: بعت الشيء إذا بعته، وبعته إذا اشتريته، قال الراجز:
إذا الثريا طلعت عشاء ... فبع لراعي غنم كساء
أي اشتر واختلف الفقهاء في افتراق البيعين.
فمنهم من قال: الافتراق افتراق الأبدان.
ومنهم من قال: الافتراق بالقول ووقوع العقد.
وقوله: والجار أحق بسقبه، أي بما لاصقه وقاربه والسقب: القرب، يقال: أسقبت دارك، أي دنت يرى الشفعة.
وقوله الطلاق بالرجال والعدة بالنساء، وهو مذهب أهل المدينة، وذلك في الأمة تكون تحت الحر فأن عدتها حيضتان، والحرة تكون تحت العبد فعدتها ثلاث حيض، وكذلك قال أهل العراق في العدة وخالفوا في الطلاق، فقالوا: الطلاق بالنساء: وقال أهل المدينة: هو بالرجال.
وأما المخابرة: فهي المزارعة على النصف والثلث والربع، وأكثر من ذلك وأقل، وهو الخبر أيضاً بالكسر، ومن ذلك قيل للآكار: وهو الزراع خبير، وكان ابن الأعرابي يقول: أصل المخابرة من خيبر لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرها في أيدي أهلها على النصف، فقيل: خابروهم، أي عاملوهم بخيبر، قال: ثم تنازعوا، فنهى عن ذلك، ثم جازت بعد.
وأما المحاقلة، ففيها ثلاثة أقوال: قال بعضهم: هو بيع الزرع في سنبله بالحنطة.
وقيل: هو أكثر الأرض بالحنطة.
وقيل: هي المزارعة بالثلث والربع وأكثر من ذلك وأقل.
واشتقاقه من، الحقل وهو الزرع إذا تشعب ورقه قبل أن يغلظ سوقه.
وأما المزابنة: فهي بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب على الكرم بالزبيب كيلا، واشتقاقه من الزبن، وهو الدفع، لأن المتبايعين إذا وقفا فيه على العين تزابنا، ي تدافعا، فأراد الغابن أن يمضي البيع، وأراد المغبون أن يفسخه.
وروي عن مالك أنه قال: المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده أبتيع بشيء مسمى من الكيل والوزن والعدد.
وأما المعلومة: مبيع النخل أو الشجر سنتين أو ثلاثاً أو أكثر من ذلك، وهو مشتق من العام.
قال الأصمعي: يقال للنخلة إذا حملت سنة، ولم تحمل سنة: قد عاومت وسانهت.
ويقال: عاومت فلاناً معاومة ومسانهة ومشاهرة.
وأما الثنيا: فيبيع الرجل شيئاً جزافاً لم يعرف كيله ولا وزنه ولا عدده، ثم يستثنى منه شيئاً، مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، قل ما استثناه أو كثر، فلا يجوز ذلك، لأنه لا يدري لعل ما استثناه يأتي على جميعه، إن كان لا يؤمن فيه مثل ذلك ولا يدري كم يبقى منه، هذا مذهب الشافعي في الاستثناء.
وقال مالك: من باع ثمرة فاستثنى منه مكيلاً فلا بأس بذلك، إذا كان المستثنى ثلث ذلك الشيء فما دونه، هذا هو الثنيا في البيع.
وأما في المزارعة: فأن يستثنى بعد الثلث أو النصف كيلاً معلوماً، فهذا معنى الثنيا.
وأما بيع ما لم يقبض: ففيه وجوه: منها أن يسلم الرجل في طعام ثم يبيعه من غير المسلم إليه، قبل أن يقبضه، فإن باعه بأكثر من الثمن فهو ربح ما لم يضمن.
وأما بيعتان: فمثل أن يشتري الرجل السلعة إلى شهر بدينارين، وإلى ثلاثة أشهر بثلاثة دنانير، وهو شرطان في بيع.
وبيع المواصفة: هو أن يبيع الرجل سلعة ليست عنده، ثم يبيعها المشتري بالصفة قبل القبض والرؤية، وإنما قيل لها: مواصفة، لأنه باع من غير نظر ولا جبارة ملك.
وكان عبد الله بن عمر يقول للبائع: لا تبع ما ليس عندك: ويقول للمشتري: لا تشتر ما ليس عنده.
وتلقى الركبان: هو تلقي الجلوبات، وكان أهل المصر إذا بلغهم ورود الأعراب بالسلع تلقوهم قبل أن يدخلوا المصر فاشتروا منهم، ولا علم للأعراب بسعر المصر فغشوهم، ثم أدخلوه المصر فأغلوه.
ومثله النهي عن بيع حاضر لباد، وكان الإعراب إذا قدموا بالسلع توكل لهم ناس من أهل المصر في بيعها، وانطلق الأعراب إلى باديتهم، فنهوا عن ذلك، ليصيب الناس معهم.
وأما الكالئ بالكالي فهو النسيئة بالنسيئة مهموز.
قال أبو عبيدة: وهو مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل مائة درهم إلى سنة في كر طعام، فإذا انقضت السنة ووجب الطعام عليه، قال الذي عليه الطعام للدافع: ليس عندي طعام، ولكن هذا، يعني الكر، بمائتي درهم إلى شهر، فهذه نسيئة انتقلت إلى نسيئة، وهو الكالئ بالكالئ، وما أشبهه، ولو كان قبض الطعام منه ثم باعه منه أو من غيره بنسيئة، لم يكن كالئاً بكالئ.
قال الأموي: يقال بلغ الله بك كلأ العمر، أي آخره، وأبعده، وهو من التأخير.
وأما البيع والسلف، فهو أن يقول الرجل لصاحبه أبيعك هذه السلعة بكذا على أن تسلفني كذا وكذا، لأنه لا يؤمن أن تبيعه السلعة بأقل من ثمنها، من أجل القرض.
وأما بيع العربان: فهو أن يساوم الرجل بسلعة ثم يدفع إلى صاحبها ديناراً أو درهماً عربوناً، على أنه اشترى سلعة كان الذي دفعه إليه من الثمن، وإن لم يشترها كان ذلك الشيء لصاحب السلعة، لا يرتجعه منه، يقال: عربان وعربون، وأربان وأربون، وهو الذي تسميه العامة الربون.
وأما النجش في المبايعة: فهو أن يدخل الرجل في ثمن السلعة، وهو لا يريد شراءها ليزيد غيره بزيادته، وهو من نجش الصيد، وهو جوشه وسوقه إلى الشرك، يقال للصائد: ناجش، ونجش الأبل: جمعها بعد التفرق، قال الراجز:
اجرش لها يا ابن أبي كباش ... فما لها الليلة من إنفاش
غير السرى وسائق نجاش
والمنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه انبذ إلى الثوب أو غيره من المتاع، أو أنبذه إليك، وقد وجب البيع بكذا وكذا.
وقيل: هو أن يقول الرجل: إذا نبذت إليك الحصاة من يدي، فقد وجب البيع بكذا، وهو معنى قوله: إنه نهى عن بيع الحصاة.
والملامة: أن يقول الرجل إذا لمست ثوبي، أو لمست ثوبك، فقد وجب البيع بكذا.
وقيل: بل هو أن يلمس المتاع من وراء الثوب ولا ينظر إليه.
فهذه بيوع كان أهل الجاهلية يتبايعونها، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها.
وأما حلوان الكاهن: فهو ما يعطاه الكاهن على كهانته، يقال: حلوته، إذا أعطيته على فعله.
والحلوان أيضاً: الرشوة، وهو ما يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه، وكانت العرب تعير به، قالت امرأة في زوجها:
لا يأخذ الحلوان من بناتنا
وعسب الفحل: كراؤه، الذي يؤخذ على ضرابه.
والمجر: أن يشتري الرجل البعير أو الناقة أو غير ذلك بما في بطن ناقته، قبل أن تضعه.
والملاقيح: ما في البطون، وهي الأجنة لم تولد، واحدتها: ملقوحة.
والمضامين: ما في أصلاب الفحول، كانوا يتبايعون الجنين الذي في بطن الناقة، وما يضرب الفحل في عامه وفي أعوام، وهذا الغذوي قال أبو عمرو الشيباني: الغذوي: أن يباع البعير أو الفرس أو غير ذلك بما يضرب هذا الفحل في عامه، وأنشد للفرزدق:
ومهور نسوتهم إذا ما أنكحوا ... غذوي كل هبنقع تنبال
وحبل الحبلة: نتاج النتاج، كأنه ولد ما يولد بعد إذا ولد ثم يولد ولداً، فذلك حبل الحبلة، وهذا كله كان لأهل الجاهلية يفعلونه ويتبايعون بينهم، ثم نهى عنه الإسلام.
وأما الجبهة: ففي الخيل.
والنخة: الرقيق.
والكسعة: الحمير، هذا قول أبي عبيدة.
وقيل: إن النخة: البقر الحوامل، قال ثعلب: هذا هو الصواب، واصله من النخ وهو الشوق الشديد، قال الفراء: والنخة أيضاً: أن يأخذ المصدق ديناراً بعد فراغه من الصدقة، وأنشد: ؟عمى الذي منع الدينار ضاحية دينار نخة كلب وهو مشهود وسميت الحمير: كسعة، لأنها تكسع مآخيرها، أي تضرب.
وفي الحديث: أن رجلاً من المهاجرين، كسع رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجرون: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال دعوى الجاهلية.
وفي الحديث أيضاً: لا صدقة في الإبل الجارة، ولا القتوبة.
فالجارة: التي تجر بأزمتها وتقاد، وهي فاعلة في معنى مفعوله، ومنه قوه تعالى: (خلق من ماء دافق) أي مدفوق، ومثله قوله تعالى: (في عيشة راضية) أي مرضية، ومثله قولهم: شركاتم، وليل نائم.
والقتوبة: التي توضع الأقتاب على ظهورها، وهي فعولة في معنى مفعوله، مثل ركوبة وحلوبة، لما يركبون ويحلبون.
وقوله: كما هلك الضيزن بابنته النضيرة، ودلاله نفيضة الجيش والحضيره، حين هويت سابور، واجتلبت لأهلها الثبور، وكان الضيزن ملكاً من قضاعة الحضر عظيم الملك، فلم ينج بذلك من الهلك، وعزاه سابور ذو الأكتاف الفارسي، وللدهر السهام الصائبة والقسي، فأطال عليه مدة الحصار، وما قدر منه على انتصار، فهم عنه بالإقلاع، حتى كان من النضيرة إطلاع، فرأت سابور فعشقته، فرمت أباها بالحتف ورشقته، وخانته وهي عنده أمينة، وأرسلت إلى سابور أنها له بالفتح ضمينه، وشارطته على النكاح والإيثار، وأعلمته أن عورة الحصن من الثرثاء، وعبقت أباها المدام، وسقت الحراس والخدام، وأرسلت إليه من شدة الغلمة، عند اعتكار الظلمة، إن إئت من السرب، فهذه الليلة ليلة القرب؛ فبعث إليها بالبطال، فقضى الدين بعد المطال، وطلع الفجر على أهل الحصن بالذما، وبلت العراص منه بالدما، فقتل سابور الضيزن وقومه، ولن يعد معمر يومه، وبدل الحضر خراباً بحده، وغضارة الأيام إلى مده، وأصبح خراباً تضغو به الثعالب، وللقدر أسباب وجوالب، وبات سابور بالنضيرة معرساً، وكان في العواقب متفرساً، فتجافى جنبها عن المهاد، فسألها عما لقيت من السهاد، فشكت خشونة المضجع، ومنعها ذلك أن تهجع، فقال: إنه فراش حشوه زغب النعام، لا ما يتخذ من وبر الأنعام، ولم تنم الملوك على ألين ولا أوطأ منه، فما تجافيك أيتها المرأة عنه؟ ونظر إلى ورقة من آس بين عكنتين من عكنها، فتناولها فسال موضعها دماً من بدنها، فقال: بم كان يغذوك أبواك، في طول مقامك معهما ومثواك؟ فقالت: بالمخ والزبد، وصفو الخمر والشهد، فقال: إذا كان هذا حالك معهما، فلن تصلحي لأحد بعدهما، وينبغي ألا أركن إليك، وقد فعلت ما فعلت بأبويك، وأمر بها فشدت ذائبها بين فرسين فقطعاها، ما رعت الصنيعة ولا رعاها، وصلاح الدهر إلى فساد، وكم رحم غابط من الحساد، ولكل أجل كتاب، وليس من الزمن أعقاب، أهون بأم دفر، وأيامها الشبيهة بأيام النفر، فتنت منها الرجال بكعاب، غير برية من ألعاب؛ تخدع البعولة تحت النكاح، خديعة الزباء لجذيمة الوضاح، وكم وصفها بالمكر بصير، لو يطاع قصير، وحذر منها نذير، لو ينفع التحذير.
النفيضة: الجيش الذين ينفضون الطريق، ينظرون هل فيها عدو أو خوف.
والحضيرة: الجماعة أيضاً يغزون ليسوا بالكثير، قالت سعدى الجهنية ترثي أخاها أسعد:
يرد المياه حضيرةً ونفيضة ... ورد القطاة إذا اسمأل التبع
والتبع: الظل ههنا.
وأما الضيزن، فهو الضيزن بن معاوية بن عبيد بن الأخرم بن سعد بن سليح بن عمرو بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
قال اليربوعي، إسحاق بن زكريا: والحضر حصن كان بالموصل بناه الساطرون ابن اسطيرون ملك السريانيين من أهل الموصل من رستاق، يقال له بأحرم، وهو الذي ذكره أبو دؤاد، واسمه جارية بن حجاج الأيادي بقوله:
وأرى الموت قد تدلى من الحضر على رب أهله الساطرون
ولقد كان آمناً للدواهي ... ذا ثراء وجوهر مكنون
قال: وهو الذي عناه عدي بن زيد بقوله:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... م تجني إليه والخابور
شاده مرمراً وجلله كلساً ... م فللطير في ذارة وكور
لم يهبه رب المنون فباد الملك ... م عنه فبابه مهجور
قال اليربوعي: ثم كان أهل الحضر من بعد الساطرون تنوخ وهم بنو مالك بن فهم بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وسليح بن عمرو بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ويزيد، وحيدان بنو عمرو بن الحاف بن قضاعة.
فغزاهم سابور ذو الأكتاف بن هرمز الملك الفارسي؛ وملكهم يومئذ الضيزن ابن جيهلة، أمه، بها يعرف، وهو الضيزن بن معاوية بن عبيد بن الأخرم بن سعد ابن سليح؛ فحاصرهم سابور فأطال حصارهم، فلم يقدر فيهم بشيء، لامتناع حصنهم، حتى أشرفت النضيرة بنت الضيزن يوماً من الحصن فرأت سابور فعشقته، فأرسلت إليه إن أنت ضمنت لي أن تتزوجني وتقدمني على نسائك دللتك على فتح هذا الحصن وقد كان سابور حين أطال حصارهم هم بالإقلاع عنهم، لما رأى من حصانة حصنهم فأجابها سابور إلى ذلك. فقالت له إئت على الثرثار، وهو نهر الحضر، فألق التين في الماء ثم اتبع ذلك التبن، فحيثما رأيت التبن قد غاب من النهر، فأدخل الرجل من ذلك الموضع، فإنك تصل إلى الحصن، ففعل سابور ذلك، فوجد التبن يغيب في سرب يفضي إلى الحصن؛ وعمدت النضيرة فأسكرت أباها، وأرسلت إلى سابور أن ادخل الليلة فإني قد أسكرت أبي، وسكر المقاتلة من أهل الحصن الذين يخاف بأسهم وقتالهم؛ فأدخل سابور الرجال من ذلك السرب، فظفر بالحصن فهدمه، وقتل أهله، ودعا بالنضيرة فبات معرساً بها، فجعلت تتمامل على الفراش ساهرة؛ فقال لها سابور: ما لي أراك مسهدة؟ فقالت: جنبي يتجافى عن فراشك هذا!! فقال: ولم؟ فوالله ما نامت الملوك على أوطأ منه ولا ألين، وإن حشوه لزغب النعام!! فلما أصبح نظر فإذا ورقة آس بين عكنتين من عكنها، فتناولها، فسال موضعها دماً، فقال لها: بم كان أبواك يغذوانك؟ فقالت: بالزبد والمخ والشهد، وصفو الخمر!! فقال سابور: إذا لم تصلحي لأبويك، وكانت هذه حالك عندهما، فأنت أجدر ألا تصلحي لي، وما ينبغي لي أن آمنك، ولا أثق بك؛ فأمر بها فشدت ذوائبها بين فرسين ثم خلي عنهما فطعاها وقد ذكرت ذلك الشعراء، قال أبو دؤاد الأيادي.
ألم يحزنك والأنباء تنمي ... بما لاقت سراة بني العبيد
ومقتل ضيزن وبني أيبه ... وأخلاس القبائل من يزيد
أتاهم بالفيول مجللات ... وبالأبطال سابور الجنود
فهدم من بروج الحضر صخراً ... كأن ثقاله زبر الحديد
وقال الأعشى:
ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمى وهل خالدٌ من سلم
أقام به سابور الجنو ... د حولين تضرب فيه القدم
وفي ذاك للمؤتسي إسوة ... ومأرب عفى عليها العرم
رخام بنته لهم حميرٌ ... غذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فطم
وقال عدي بن زيد:
والحضر صابت عليه داهيةٌ ... من قعره أيد مناكبها
ربية لم توق والدها ... لخبها إذ أضاع راقبها
أجشمها حبها لما فعلت ... إذا نام عنها للغي حاجبها
إذا غبقته صهباء صافية ... والخمر هل يهيم شاربها
وأسلمت أهلها بليلتها ... تظن أن الرئيس خاطبها
فكان حظ العروس إذ برق م الصبح دماء تجري سبائبها
وخرب الضر واستبيح وقد ... أحرق في خدرها مشاجبها
لم يبق فيه إلا مراوح طايات ... وبور تضغو ثعالبها
وقال أيضاً:
اقفر الحضر من نضيرة فالمر ... باع منها فجانب الثرثار
إذا تواصوا بالكبش لما أحسوه وقالوا مع الحذار حذار
وقال آخر:
هلا بكيت لضيزنٍ ... بالحضر إذ أمن الزمن
منع العدو وكان ذا م الطولي بهم لو لم يخن
فرمى به سهم النضيرة لليدين وللذقن
باعت أبها والعشير م بوجه سابور الحسن
فأتى عليهم حينهم والبيض أخون مؤتمن والثبور بالضم: الهلاك، ومنه قوله تعالى (لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً).
والغلمة: شدة شهوة الجماع، والقرب: الورد. وليلة القرب: ليلة أن ترد الأبل الماء، وذلك أن يسيمون الإبل وهم مع ذلك يسيرون نحو الماء، وإذا بقيت بينهم وبين الماء عشية عجلوا نحوه، فتلك الليلة ليلة القرب.
والسرب: النفق تحت الأرض، وسيأتي تفسيره، وضغاء الثعالب: أصواتها. والذما: بقية النفس. وأم دفر: الدنيا، والدفر: النتن، يقال: للأمة إذا شتمت يا دفار، مثل قطام، أي دفرة منتنة وكنيتها دفراء، أي سهكة من الحديد مدية.
والبعولة: جمع البعل، ومنه قوله تعالى، (وبعولتهن أحق بردهن) والزباء: امرأة من ملوك العماليق، وقيل من سليح.
وجذيمة الوضاح: هو جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن مالك بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك ابن نصر بن الأزد.
وكان جذيمة ملكاً عظيماً ينزل الأنبار والحيرة، وكان في أيام الطوائف، وملك السواد ستين سنة، وقتل أبا الزباء وغلب على ملكه، والتجأت الزباء إلى أطراف مملكتها، وكان يغير على ملوك الطوائف، حتى غلبهم على كثير من بلادهم، وكان أبرص، فهابت العرب أن تقول: أبرص، فقالوا: الأبرش والوضاح.
وكانت الزباء أديبة عاقلة، فبعثت تخطبه على نفسها، ليتصل ملكها بملكه، فدعته نفسه إلى ذلك، فشاور وزرآه فأشاروا عليه أن يفعل إلا قصير بن سعد القضاعي فإنه قال: أيها الملك لا تفعل، فإن هذا خدعة ومكر، فعصاه، فأجابها إلى ما سألت.
فقال قصير لا يقبل لقصير رأي، فجرت مثلاً.
ثم كتبت إليه بعد ذلك أن صر إلي، فجمع أصحابه بشاطئ الفرات، فأشاروا عليه بالخروج إليها، فقال قصير: لا تفعل، فإنما تهدي النساء إلى الرجال، فعصاه. فقال: أيها الملك أما إذا عصيتني، فإذا رأيت جنودها قد أقبلوا إليك فترجلوا وحيوك، ثم ركبوا وتقدموا، فقد كذب ظني، وإن رأيتهم إذا حيوك أطافوا بك، فأنى معرض لك العصا، وهي فرس لجذيمة لا تدرك. فاركبها وانج، فلما أقبل أصحابها حيوه ثم أطافوا به، فقرب إليه قصير العصا، فشغل عنها، وركب قصير فنجا، وأخذوا جذيمة، فنظر إلى قصير وهو على العصا، وقد حال دونه السراب فقال: ما ضل من تجري به العصا فجرت مثلاً، وأدخل جذيمة على الزباء، وكانت مضفورة الأسب فلما دخل تكشفت، وقالت له: أدأب عروس ترى يا جذيمة؟ أما أنه ليس ذلك من عوز المواس، ولا من قلة الأواس، ولكنها شيمة من أناس؛ وأمرت به فأجلس على نطع وجيء بطست من ذهب، فقطعت رواهشه، قال عدي بن زيد:
فقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذباً ومينا
وكان قيل لها: احتفظي بدمه، فإن أصابته الأرض منه قطرة طلب بثأره؛ فقطرت قطرة من الدم إلى الأرض، فقالت: لا تضيعوا دم الملك: فقال جذيمة: دعوا دماً ضيعه أهله، فأرسلها مثلاً، ومات.
ونجا قصير بن سعد على العصا، فصار إلى عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وهو ابن أخت جذيمة؛ فقال له قصير: ألا تطلب بثأر خالك؟ فقال عمرو: وكيف أقدر على الزباء، وهي أمنع من عقاب الجو؟ فأرسلها مثلاً. فقال له قصير: اجدع أنفي وأذني واضرب ظهري حتى تؤثر فيه، ودعني وإياها؛ ففعل عمرو ذلك، ولحق قصير بالزباء، وقال لها: لقيت ذلك من أجلك! قالت: وكيف ذلك؟ قال: إن عمراً قال إني أشرت على خاله بالخروج، حتى فعلت به ما فعلت؛ ثم أحسن خدمتها، وأظهر لها النصيحة، حتى حسنت منزلته عندها، ورغبها في التجارة، فبعثت معه عيراً إلى العراق، فصار قصير إلى عمرو مستخفياً، فأخذ منه مالاً وزاده على مالها، واشترى لها طرفاً من طرف العراق، ورجع إليها، فأراها تلك التجارة والأرباح، فسرت به، ثم كر كرة أخرى فأضعف لها المال، فلما كان في الكرة الثالثة، اتخذ جواليق من المسوح وجعل ربطها من أسافلها إلى داخل وأدخل في كل جولق رجلاً بسلاحه وواحد الجوالق جولق بضم الجيم وهو اللبيد أيضاً، ومنه اشتق اسم لبيد الشاعر. وأقبل إليها، فجعل يسير الليل ويكمن النهار، وأخذ عمراً معه، وكانت الزباء قد صور لها صورة عمرو قائماً وقاعداً وراكباً، وكانت قد اتخذت نفقاً قد أجرت عليه الفرات، من قصرها إلى قصر أختها زبينة، فلما قرب قصير من بلدها تقدم عن العير، وكان قد أبطأ عليها، وأخذ غير الطريق النهج فسالت عنه، فقيل لها: أخذ طريق الغوير فقالت: عسى الغويرأ بؤساً فأرسلتها مثلاً، ودخل قصير إلى الزباء، فقال لها: قفي فانظري إلى العير، فجعلت تنظر إلى العير مقبلة تحمل الرجال، فقالت:
ما للجمال مشيها وئيداً ... أجندلاً يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديداً ... أم الرجال جثماً قعودا
ووصف قصير لعمرو باب السرب، ووصف له الزباء؛ فلما دخلت العير المدينة، وعلى الباب بوابون من النبط، وفيهم واحد معه مخصرة، فطعن بها جوالقاً منها فأصابت المخصرة رجلاً فضرط، فقال البواب بالنبطية: بشناً بشناً يعني: في الجوالق الشر الشر؛ وحلت الرجال ربط الجوالقات، ومثلوا في المدينة بالسلاح، ووقف عمرو على باب السرب مصلتاً سيفه، وأقبلت الزباء تبادر السرب، فلما رأت عمراً عرفته بالصفة، فمصت فص خاتمها، وكان مسموماً، وقالت: بيدي لا بيد عمرو. ويقال إن عمراً جللها بالسيف فقتلها واستباح بلدها؛ ورجع عمرو وقصير بالغنائم وخلفا في بلادها خيلاً تضبطها.
وقوله: فحبها للقلوب متيم، وكل يوم هي من بعل أيم.
يقال: تيمه: الحب إذا عبده، واشتقاق تيم الله من ذلك، أي عبد الله.
والأيم: المرأة التي لا بعل لها، يقال: آمت المرأة تئيم أيمة، وفي الحديث أنه كن يتعوذ من الأيمة، والحرب مائمة، أي تئيم فيها النساء، قال الشاعر:
ألم تر أن الله أنزل نصرة ... وسعد بباب القادسية معصم
فرحنا وقد أمت نساء كثيرة ... ونسوة خائب صفر الوطاب
والصفر: الخالي. والوطاب: جمع وطب، وهو سقاء اللبن: ومن دعاء العرب: ماله صفر إناؤه، وصفرت وطابه، أي ماتت ماشيته.
قال امرؤ القيس:
ألا يا لهف هندٍ من أناسٍ ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب
وقوله: قد دقوا بينهم عليها عطر منشم، وتجشم الصعب كل متجشم.
العرب تضرب المثل بعطر منشم في الشؤم، إذا تفاني الحيان في الحرب، فقيل: دقوا بينهم عطر منشم.
واختلف الناس في منشم ابنة الوحيد الخزاعية، وإنها كانت تطيب الفتيان في الحرب، وتدق أوعية الطيب بينهم، وكان من لمس من طيبها لم يرجع في يومه ذلك حتى يبلي ويرى أثره أو يقتل أو يحمل جريحاً.
وقال بعضهم: هي من غدانة وهي صاحبة يسار الكواعب، وكان عبداً لها يعشقها ويعرض لها فزجرته، فلم يزدجر، فقالت له يوماً: اصبر فإن للحرائر طيباً حتى أشمك منه، وأتت بموسى، ثم اتكأت على أنفه فاستوعبته فضرب المثل بعطر منشم.
وقال بعضهم: هي منشم بنت عامر، امرأة ثعلبة بن الأعرج الغنوي، قاتل شاس بن زهير بن جذيمة العبسي الذي هاجت بسبب قتله الحرب بين هوازن وغطفان.
وذلك أن شاس بن زهير راح من عند النعمان بن المنذر - وكان تحت النعمان أخته النوار بنت زهير - حتى إذا كان في بلد غنى جنة الليل، وردماء من مياه بني غنى وكان على ذلك الماء رجل من بني غنى يسمى ثعلبة بن الأعرج، وكان صياداً يكمن للوحوش على ذلك الماء، وكان رامياً غلقاً فلما ورد عليه شاس، قال له: هل في حوضك هذا شيء من الماء؟ قال: فيه ما يكفيك إن قنعت! فغضب شاس من كلامه، وقال: ممن الفتى؟ قال من بني غني. قال شاس: إن كلامكم لفحيش!.
ومضى شاس يركض راحلته وهي موقرة هدايا، فاستدبره الفتى الغنوي، وهو لا يعرفه، فشتم معه رائحة المسك، فسعى خلفه حتى أدركه، ثم رماه بسهم، فصرعه عن راحلته، فلما نظر في وجهه عرفه، فندم على قتله، ثم قام فحفر له ودفنه وأخفى مكانه، وأخذ راحلته فنحاها عن الطريق ثم نحرها وأخذ من لحمها ما استطاع وأخذ ما عليها.
وكان مع شاس غلامان له قد تقدما إلى أهله، فأعلماهم بقدومه، فلما أبطأ على أهله سار زهير ومن معه إلى الموضع يطلبونه قصصا حتى وجدوه مدفوناً فحملوه إلى أهله فكفنوه وعقروا عليه، وبكاه الرجال والنساء، ولم يدر أحد من قتله.
ثم أن زهيراً عمد إلى راحلة له فنحرها، وملأ منها جرابين كبيرين شحماً ولحماً، ثم دعا جارية له يقال لها سلامة، دهية أريبة، فقال لها: خذي هذين الجرابين فاذهبي في قبائل ذبيان وبني غنى وبني عامر، واعرضي ما فيهما على النساء بالمسك والعنبر، وكان ذلك في سنة مجاعة أصابتهم.
فمرت سلامة تعرض على نسائهم ما معها، فلم تجد من ذلك شيئاً، حتى مرت بمنشم بنت عامر زوجة ثعلبة بن الأعرج، قاتل شاس بن زهير، وهي يومئذ حاملة مضطرة، فأعلمتها أنها تطلب مسكاً أو عنبراً لبنت لها تريد أن تزفها إلى زوجها؛ فقالت لها منشم: عندي قضاء حاجتك، إن كتمت عني؛ قالت الجارية: لست مظهرة لك سراً، فأخرجت لها منشم حاجتها وما تطلب؛ فلما نظرت سلامة إلى ذلك، قالت لها: من أين لك هذا المتاع الرفيع، ولا يكون إلا عند الملوك؟ فأعلمتها منشم بقصة زوجها وقصة شاس؛ فرجعت سلامة إلى مولاها زهير بن جذيمة، فأخبرته الخبر، فقال زهير:
أتتني سلامة بعد الضحى ... تهتك لي الستر من منشم
فلست لشاسٍ إذاً والداً ... ولا من جذيمة الأكرم
إذا لم أقم لغني العدا ... مقام امرئ ثائرٍ بالدم
وقال زهير بن أبي سلمى:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فلما تبين لزهير قاتل ولده، قال لبني غنى ونبي عامر: هلم إلى النصفة قبل الحرب؛ فقالوا: نحن نحكمك يا أبا شاس؛ فقال لهم زهير: إني مخيركم إحدى ثلاث، قالوا: وما هن يا أبا شاس؟ اجعل لنا في الثالثة مخرجاً!! قال إما أن تردوا شاساً حياً، وإما أن تملأوا لي ثوبي هذا من نجوم السماء، وإما أن تأتوني بغنى كلها، رجالها ونسائها، فإن شئت قتلت، وإن شئت صفحت!!.
فقالوا: لا نقدر على واحدة منها، لا نقدر على إحياء الموتى، ولا على نجوم السماء، وأما بنو غنى فإنهم أحرار لا ينقادون لأحد ولا يهدرون نفوسهم في جريرة غيرهم، ولكن يا أبا قيس نعطيك خيراً مما تطلبه، وندفع إليك قاتل ولدك تحكم فيه بحكمك، وندفع إليك بعد ذلك عشر ديات حتى نرضيك؛ فقال زهير: ما كان شاس بحزور فآكل ثمنه، ولا قاتله مثله، فأقتله به، واستكبر؛ حتى هاجت الحرب بين هوازن وغطفان بسبب ذلك، وإنما دخلت هوازن مع بني غنى لأنهم كانوا حلفاً، فقتل زهير في تلك الحرب، قتله خالد بن كلاب، وقتل ثعلبة بن الأعرج وغيرهما، ولهم حديث.
قوله: عارية تسترد م مستعيرها، وعرية يرتجعها معيرها، كم لها من آير، تعلن بذمها على المنابر، ومن لائم، وهو بها جد هائم، يغدو منها الزاهد، وهو لضنك العيش مجاهد، فقيل هو للدنيا رافض، وقد ركضه عن الدنو منها راكض، سمعت في الناس بزاهد واحد، ولا تخفى الغزالة لجاحد، رب الخورنق، في صفو عيش غير مرنق، فسره ما رأى من ملكه العقيم، وميز بصحيح من الفكر غير سقيم، فقال أو كلما آري إلى زوال؟ قيل نعم وتقلب من الأحوال، فقال: لأطلبن عيشاً لا يزول، وملكاً ربه عنه غير معزول، فانخلع من ملكه ولبس الأمساح، وذهب في الأرض مترهباً وساح، وحق للعاقل أن يتوب، قبل أن يوافي أجله المكتوب.
العارة: أن يستعير الإنسان من شيء ثم يرده، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (العارية مؤداة)، واشتقاقها من التعاور، وهو التداول، يقال: تعاوروا الشيء بينهم: إذا تداولوه، وعورت فلاناً الشيء: إذا داولته إياه، وأصل العارية: عورية، فانقلبت واوها ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
والعرية: النخلة يهب الرجل ثمرها لرجل آخر عامه ذلك، وهي التي رخص في بيع ثمرها في رأسها، وجمعها عرايا، قال سويد بن الصامت الأنصاري:
ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الحوائج
الشدائد ويقال: أعار بنو فلان خيلهم: إذا سمنوها، وفرس معار: أي سمين.
قال الشاعر:
أعيروا خيلكم ثم اركضوها ... أحق الخيل بالركض المعار
وقال الطرماح:
وجدنا في كتاب بني تميم ... أحق الخيل بالركض المعار
والآبر: الذي يلقح النخل.
والغزالة: الشمس.
ورب الخورنق والسدير: النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر بن عدي، الملك اللخمي، وهو النعمان الأكبر، وكان عظيم الملك، وكان أعور، وهو الذي بنى الخورنق، وهو الذي عناه المنخل اليشكري، واسمه أبي بن مسعود، والمنخل لقبه، بقوله:
وإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
ويقال: إن أنو شروان بن قباذ هو الذي ملكه، فأشرف النعمان بن امرئ القيس يوماً على الورنق، فنظر إلى ما حوله، فقال: أكل ما أرى إلى فناء وزوال؟ قالوا: نعم، قال: فأي خير فيما لا يبقى؟ لأطلبن عيشاً لا يزول.
فانخلع من ملكه ولبس الأمساح وساح في الأرض، فلم يعلم أحد بمكانه، وهو الذي ذكره عدي بن زيد العبادي بقوله:
وتفكر رب الخورنق إذمأشرف يوماً وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يملكموالبحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال: فما غبطة ... حيٍ إلى الممات يصير
وملك أنو شروان بعد أخاه المنذر بن امرئ القيس، الذي يقال له: ابن ماء السماء، وكانت أم المنذر من النمر بن قاسط، ويقال لها: ماء السماء، لجمالها، وكان أيضاً يقال لعامر بن حارثة الأزدي: ماء السماء، سمي بذلك لأن الناس كانوا إذا أقحطوا، أقام ماله مقام القطر.
والمنذر بن امرئ القيس هذا جد النعمان الأصغر ابن المنذر بن امرئ القيس، سمي بالنعمان الأكبر.
قوله: اللهم إني إليك تائب، ومن لم يتب من عبادك فهو خائب، توبة من يهضه الذنب، وأثقل منه الغارب والجنب، واستغفرك استغفار منيب هائد، إلى كل ما يسخطك غير عائد، قد اعترف، بما اقترف، ووجل مما عمل، فخجل، نادم من تلك الخطايا، وركوب تلك المطايا، التي اقتعد منها العشواء، فتابعت به الأهواء، حتى أوردته في المهالك، وسلكت به أضيق المسالك، فهو يتململ تململ السليم، ويتأوه تأوه المليم، كدابغة أديم ذي حلم، ومداوي ميت لا يحس بألم، كيف السبيل إلى الخلاص من الورطة، ودخوله باب حطه، لا خلاص إلا بالإخلاص، ولات حين مناص، لمن علق بشرك القناص، لو كظمت لما ظلمت، أو عفوت لما هنوت، فهل من متصدق على بائس فقير، مثقل من الذنوب وقير، بصدقة من حل، تفكه من الغل، أو دعوة مثابة، يرجى له بها الإجابة، إن الله يجزي المتصدقين ويثيب المتقين.
نحن بنو آدم وحواء، لأب وأم في الولادة سواء، فما فضل أخ على أخيه، إلا بالعمل الصالح وتوخيه، كلنا لله عبيد أكرمنا عنده من اتقاه، وصان وجهه عن حر النار ووقاه، لا نسأل يوم القيامة عن نسب، كل يؤخذ بما اجترح واكتسب، نجا المخفون، وأمن الخائفون، أفلح من أخلص النيه، قبل هجوم المنيه، وبنك أساب الأمل، ووصل حبال العمل، وشغله ذكر المعاد، عن ذكر هند وسعاد.
اللهم قد علمت السرائر، وحفظت الجرائر، فأمنى من الخيفه، وامح سيئاتي من الصحيفة، بقبول هذه التوبه، والتجاوز عن الحوبه.
اللهم إني غير قائم بشكرك، ولا آمن لمكرك، لا يجير عليك أحد، ولا لمخلوق دونك ملتحد، وقد استجرت من عذابك بكرمك، ومن بطشك بحلمك، وهربت منك إليك، وجعلت توكلي عليك، وقرعت باب فضلك بالسؤال، وطلب ما عندك من النوال، وجعلت جودك لي إليك شافعاً، ولما أخشى من الرد دافعاً، ولن تخيب سائلك، ولا ترد وسائلك.
اللهم هذا مقام العائذ بك من عذابك، والثائب إلى ثوابك، فنفرا غفرا، ورأبا لما أفرط فيه وأفرى، لن يجدي الأسف، بعد ركوب المعتسف، ولا الأرق، بعد الغرق، إلا بعفو من الكريم، عن مطالبة الغريم، ومحو ما سلف، والصفح عما اجترم واستلف.
اللهم اهد ضليلاً جار عن اللقم، واشف عليلاً موفياً عن السقم، طال ما ضربت له الأماني حبالها، وألبسته المطامع سربالها، فشام خلبا يومض في جهام، وقتاماً يحسبه دفع الرهام، حتى انقضت أيام العنفوان، ومضت بوادر الأوان، وقد شغل شغل ذات النحيين، وبلغ حزام رحله الطبيبن، وهو في ذلك المضمار، يعلل النفس بضمار، قد أنفق رأس المال بالآمال، ومنع بالأثقال عن الانتقال، طمع في الدنيا طمع أشعب، فعني نفسه وأتعب، فظفر منها بخفي حنين، وبصر بكمه القلب لا العينين، يا صفر الكفين، بظفر الخفين، ويا ندم الكسعي، لنظيره في العي.
اللهم أقل عاثراً زلت به القدم، وطال تأسفه والندم، وارحم قنيصاً أوقع نفسه في الحبالة، ومقرحاً مفعم اللبيد والباله. وافكك أسيراً يرسف في الصفاد، لا الصفد المستفاد، يا خير مدعو، وأفضل مرجو، يدعوه المضطر، ويرجوه القانع والمعتز، إنك بالإجابة جدير، وأنت على كل شيء قدير.
بهضه الذنب: أي أثقله. والهائد: التائب، ومنه قوله تعالى: (إنا هدنا إليك) قال إعرابي:
إن امرؤٌ من مدحه هائد
والعشواء، في قول الخليل: الناقة التي لا تبصر ما أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء، وترفع طرفها لا تنظر موقع يديها. فضرب بها المثل لمن لا يتبين في أمره، فقيل: كراكب العشواء، وركب العشواء، وهو يخبط خبط العشواء.
والسليم: الملدوغ، وهو مما كني به عن العاهات، كالبصير، وهو الأعمى. والمليم الذي يأتي بما يلام عليه، ومنه قوله تعالى: (فالتقمه الحوت وهو مليم) مثل: أقام يقيم إقامة فهو مقيم، وما شاكل ذلك من الألفاظ.
والحلم: النغل، وهو مصدر حلم الأديم يحلم حلماً: إذا نغل، قال الوليد بن عقبة بن أبي عقبة يحرض معاوية على حرب علي رضي الله عنه:
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... يهدر في دمشق فما يريم
فإنك والكتاب إلي عليٍ ... كدابغة وقد حلم الأديم
والوقير: حامل الوقر، يقال فقير وقير.
والحوبة: الإثم، يقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي، أي إثمي، وكذلك الحوب أيضاً.
والنوبة: واحدة النوب، والنائبة: واحدة النوائب.
والملتحد: الملجأ، قال الله تعالى: (ولن تجد من دونه ملتحداً).
والبطش: الأخذ بقوة، ومنه قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد).
والغفر: مصدر غفر يغفر غفراً وغفراناً ومغفرة، ومعنى ذلك كله: ستر الذنوب، ومنه اشتقاق المغفرة.
والمجترم: المكتسب للجرم، وكذل الجرم، ومنه قوله تعالى: (فعلي إجرامي) والجائر: المائل. واللقم: الطريق الواضح. والخلب: البرق الكاذب. والجهام: السحاب الذي لا ماء فيه. والرهام: جمع رهمة، وهي المطرة. وعنفوان الشباب: أوله، وكذلك بادرته وشرخه وريقه.
وذات النحيين: امرأة كنت تبيع فيهما سمناً بسوق عكاظ. فأتى غليها خوات بن جبير الأنصاري في الجاهلية، فساومها في السمن وحل رباط أحد النحيين، فنظر إلى ما فيه ودفعه، فأمسكته بيدها لينظر إلى ما في الآخر، فلما فتح الآخر دفعه إليها، فأخذته بيدها الأخرى، ثم فجر بها، ويداها مشغولتان بالنحيين، مخافة أن يسل السمن من النحيين، فضرب بها المثل في الشغل، فقيل: أشغل من ذات النحيين، ثم أسلم خوات بعد ذلك وحسن إسلامه، وهو القائل فيها:
وذات عيال واثقين بعقلها ... خلجت لها جار استها خلجات
فأخرجته ريان ينطف رأسه ... من الرامك المدموم بالمقرات
وشدت يديها إذ أردت خلاطها ... بنحيين من سمن ذوي عجرات
فكانت لها الويلات من ترك سمنها ... ورجعتها صفراً بغير بتات
فشدت على النحيين كفاً شديدة ... على سمنها، والفتك من فعلاتي
فلما أسلم وشهد بدراً، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا خوات كيف شراؤك؟ وتبسم صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد رزق الله خيراً، وأعوذ بالله من الحور بعد الكور.
والعرب تقول، إذا اشتد الأمر: بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين، يعنون حزام الفرس والناقة وغيرهما، وهو منتهي الجهد، والطبيان: الضرعان، واحدهما بطيء، وجمعه أطباء.
ولما اشتد الحصار على عثمان بن عفان كتب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يستنجده: أما بعد، فقد بلغ السيل الزبي، وجاوز الحزام الطبيين، وتمثل بقول الممزق العبدي، واسمه شاس بن مهازن:
فأن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
فأمده بالحسن والحسين في جماعة من بني هاشم، فدفعوا الناس عن باب دار عثمان، ففرضوا الدار ودخلوا عليه من خلفها فقتلوه، ولا علم للذين بالباب.
وخفي حنين يضرب بهما المثل لمن جاء خائباً، وحنين إسكاف من أهل الحيرة، ساومه أعرابي في خفين، فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، فتركه حنين حتى ارتحلن وتقدم له في طريقه، وألقى أحد الخفين في موضع وأحدهما في موضع آخر، فلما مر الأعرابي بالخف الأول منهما، قال: ما أشبه هذا الخف بخفي حنين، ولو كان معه الآخر لأخذته، ومضى حتى انتهى إلى الآخر، فلما رآه ندم على عدم أخذ الأول، فأناخ راحلته وأخذه، ورجع للأول فأخذه، وقد كمن له حنين، فأخذ الراحلة وما عليها، فأتى الأعرابي إلى الراحلة، فلم يجدها، فراح الأعرابي وليس معه غير الخفين؛ فقال له قومه: ما الذي أتيت به؟ فقال: بخفي حنين، فضربت العرب المثل بذلك لكل من جاء خائباً.
والكمه: العمى، والأكمه الأعمى، ومنه قوله تعالى: (وتبرئ الأكمه والأبرص)، قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
كمهت عيناه لما ابيضتا ... فهو يلحي نفسه لما نزع
والكسعي: صائد وقف على طريق الظباء فمرت عليه وهو يرمي كل ظبي منها بسهم، فلم تتحير الظباء حتى توارت عنه، فظن أنه أخطأها، فكسر قوسه، وعض على إبهامه فقطعها وقال:
ندمت ندامة لو أن نفسي ... تطاوعني إذاً لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي مني ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وهذا مما يعاب في الشعر، لأنه أتى ببيت مردف وبيت لا ردف فيه وهو السناد، فضربت العرب المثل بندامة الكسعي.
والقنيص المقنوص، مثل قتيل ومقتول وصريع ومصروع.
والحبالة: حبال الصائد.
والمفرح: المثقل، يقال: أفرحه الدين إذا أثقله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يترك في الإسلام مفرح)، وقال بيهس العذري:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانةً ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
والمفعم: المملوء.
واللبيد: الجوالق وهو الخرج، ومنه اشتق اسم لبيد الشاعر.
والبالة: شبيهة بالحراب والرسفان: مشي المقيد. والصفاد: الصيد، والصفد أيضاً: الغل وجمعه أصفاد، ومنه قوله تعالى (مقرنين في الأصفاد) والصفد في هذا الموضع: العطاء قال: النابغة:
هذا الثناء فن تسمع لقائله ... فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
والمعتر: المتعرض للمسألة.
والقانع السائل، ومنه قوله تعالى: (وأطعموا القانع والمعتر).
والجدير: الحقيق بالشيء. يقال فلان جدير بكذا، وقمين به، وخليق به، وحقيق به، كل ذلك بمعنى.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق