84.ب اوهو

قال الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِدُخُولِ الْجَنَّة بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَة فَقَالَ : يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ اِقْتِصَارًا مِنْ بَعْض الرُّوَاة نَشَأَ مِنْ تَقْصِيره فِي الْحِفْظ وَالضَّبْط لَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ مَجِيئِهِ تَامًّا فِي رِوَايَة غَيْرها قلت المدون/ اللهم اشفني شفاءا لا يغادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني رحمة واسعة مباركة طيبة واكفني همي كله وفرج كربي كله واكشف البأساء والضراء عني واعتقني من كل سوء في الدارين يا ربي

 الثانوية العامة ٣ثانوي. /عقوبة من قتل نفسه؟وصف الجنة والحور العين /المدونة التعليمبة الثانية أسماء صلاح ٣.ثانوي عام /الفتن ونهاية العالم /المقحمات ا. /قانون الحق الإلهي اا /القرانيون الفئة الضالة اوه /قواعد وثوابت قرانية /مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها اوهو /المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة /مدونة  /الصفحات المقتوحة /الخوف من الله الواحد؟ /قانون ثبات سنة الله في الخلق /اللهم ارحم أبي وأمي والصالحين /السيرة النبوية /مدونة {استكمال} مدونة قانون الحق الإلهي /مدونة الحائرين الملتاعين. /الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها /عياذا بالله الواحد./  لابثين فيها أحقابا /المدونة المفتوحة /نفحات من سورة الزمر/  /أمَاهُ عافاكِ الله ووالدي ورضي عنكما ورحمكما /ترجمة معان القران /مصنفات اللغة العربية /كتاب الفتن علامات القيامة لابن كثير /قانون العدل الإلهي /الفهرست /جامعة المصاحف /قانون الحق الإلهي /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا /تعلم للتفوق بالثانوية العامة /مدونات لاشين /الرافضة /قانون الحق الألهي ٣ /قانون الحق الإلهي٤. /حدود التعاملات /العقائدية بين المسلمين /المقحمات اا. /منصة الصلاة اا /مدونة تخفيف/https://nawweyof.blogspot.com/2023/09/blog-post_30.html        النفخ في الصور وموعد تصادم المجرات والافلاك  / /https://nawweyof.blogspot.com/2023/09/blog-post_30.html     النفخ في لصور وموعد تصادم المجرات والافلاك

الخميس، 26 يوليو 2018

000 صفات النسيج القراني التجانس والانسجام والترابط وانعدام التضاد بين كل اجزاءه وأن أوله كآخره حق لا تعارض فيه ولا تغاير ولا غباشة ولا رمادية



صفات النسيج القراني

1.التجانس

2.والانسجام

3.والترابط

4.وانعدام التضاد بين كل اجزائه 5.وأن أوله كآخره حق لا تعارض فيه ولا تغاير ولا غباشة ولا رمادية و..........

6. وقد انفرد القران الكريم يصفات معجزة ليس فيه اعوجاجا ولا أمتا وتميز بقدر إعجازه بإستأثاره علي قواعد ضبط الزمان بين أحداثه وترتيب هذه الاحكام بحسب زمانها ومكانها والتفريق بين المكي والمدني ووشرع الله فيه الناسخ لتترتيب احكامه بدقة متناهية فيظن القاريئ انها متعارضة وليس فيها ادني تعارض ووضع فيه رب العزة قواعد الفهم وقواعد مصدره وقواعد ضط الزمان عموما وضبط زمان الاحداث خصوصا وسنتناول هنا كل هذه الضوابط ان شاء الله بدقة وتفصيل ونذكر أمثلة منها

1.التجانس 2.الترابط 3. التوافق الزمني 4. التوافق المكاني 5.ارتباط جزئياته من اوله الي اخره بدقة متناهية 6.عدم تناقض قواعده او تعارضا او تغايرها او خبوت بعضها 7.يتبع التكليف بمواده قواعد ثابتة لا تخبو ولا تنسي وهي في أولها كما هي في اخرها فقواع الجزاء والثواب في اول اية كما هي في منتصفه كما هي في اخره ثابتة لم تتغير زمانا ومكانا فمعصية ادم كان جزاءها الإغواء واخلع ادم منها بقاعدة التوبة وظلت هذه القاعدة منذ ادم الي شريعة محمد في الشهاد والغيب لم تتغير مثقال ذرة *****{يستكمل بمشيئة الله الواحد}

 

 

المقال تحت الإنشاء لم يكتمل بعد

 

الموضوع:

قلت المدون : يتميز النص القراني بأن صانعه هو الله العليم الخبير الحسيب المقيت وأنه علي كل شيئ قدير وهذا يعني أن ثبات هذه الصفات من العلم المطلق والخبرة المطلقة والحسبة والقائم على كل شيء بالتدبير وهو القدير، وقيل:الذي يعطي القوت.

--------

---------

 

 

الحسيب هو اسم من أسماء الله الحسنى، على وزن فعيل بصيغة المبالغة، له معنيان :

الكفاية والاقتدار، بمعنى أنه كافي المتوكلين، والحفيظ على كل شيء، الذي يحفظ أعمال عباده من طاعة أو معصية ليجازيكم بها.

المكافيء والمُحاسب.[1]

في القرآن الكريم

 

قد ورد في القرآن الكريم ثلاث واحدة منونًا[1] :

وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا سورة النساء:6

وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا سورة النساء:86

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا سورة الأحزاب:39

 

وورد الحاسب مرتين بصيغة الجمع :

ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ سورة الأنعام:62

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ سورة الأنبياء:47

الأقوال في معناه

قال ابن جرير الطبري[2] في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا﴾ سورة الأحزاب:39 :«أي: وكفاك يا محمد بالله حافظاً لأعمال خلقه ومحاسباً عليهم»

قال الزجاج [3]: «الحسيب يجوز أن يكون من حسبت الحساب، ويجوز أن يكون أحسبني الشيء إذا كفاني. فالله تعالى "محسب" أي: كاف فيكون فعيلاً في معنى مفعل كأليم ونحوه»

قال السعدي :[4]«الحسيب: هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها»

وقال أيضاً:[5]«والحسيب بمعنى الرقيب الحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وبمعنى الكافي عبده همومه، وغمومه. وأخص من ذلك أنه الحسيب للمتوكلين: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ سورة الطلاق:30، أي: كافيه أمور دينه ودنياه»

وقال أيضًا :[6]«والحسيب أيضاً هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير، وشر، ويحاسبهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة الأنفال:64، أي: كافيك وكافي أتباعك، فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به في متابعة الرسول ظاهراً وباطناً، وقيامه بعبودية الله تعالى»

وقال في موطن أخر :[7]«﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ سورة النساء:86، فيحفظ على العباد أعمالهم حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود»

قال الخطابي :[8]«الحسيب هو المكافئ فعيل بمعنى فعل كقولك: أليم بمعنى مؤلم، تقول العرب: نزلت بفلان فأكرمني وأحسبني أي أعطاني ما كفاني حتى قلت: حسبي، والحسيب أيضاً بمعنى المحاسب، كقولهم: وزير ونديم بمعنى موازر ومنادم ومنه قول الله سبحانه: ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ سورة الإسراء:14 أي: محاسباً والله أعلم»

قال ابن القيم :

 

وهو الحسيب كفاية وحماية

والله كافي العبد كل أوان

 

 

 

 

اما المقيت

 

المُقيت هو اسم من أسماء الله الحسنى، على وزن مُفعِل، واختُلف في معناه :فقيل بمعنى الحفيظ والشهيد، وقيل: القائم على كل شيء بالتدبير وقيل: هو القدير، وقيل:الذي يعطي القوت.[1]

في القرآن الكريم

 

قد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة [2] في قوله تعالى: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا سورة النساء:85

الأقوال في معناه

قال ابن جرير الطبري :[1]

 

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ﴿وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا﴾ سورة النساء:85، فقال بعضهم تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظاً وشهيداً، وقال آخرون معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير وقال آخرون: هو القدير، ثم قال: (والصواب من هذه الأقوال، قول من قال: معنى المقيت القدير، وذلك فيما يذكر كذلك بلغة قريش وينشد للزبير بن عبد المطلب عم رسول الله :

 

وذي ضغن كففت النفس عنه

وكنت على مساءته مقيتًا

 

 

وقد قيل: إن منه قول النبي :[3] «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت» وفي رواية من رواها (يقيت) يعني: من هو تحت يديه وفي سلطانه من أهله وعياله، فيقدر له قوته، يقال منه أقات فلان الشيء يقيته إقاته، ووقاته يقوته قياتة، والقوت الاسم.

 

 

قال السعدي :[4]«المقيت الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها، وصرفها كيف يشاء بحكمته وحمده»

اختار أن معنى (المقيت): القدير، كلًا من الفراء[5]، والخطابي[6]، وابن قتيبة[7] .

قال ابن العربي [8]: «وقد قال علماء اللغة أنه بمعنى القادر وليس فيه على هذا أكثر من السماع، فلو رجعنا إلى الاستقراء وتتبع مسالك النظر لجعلناه في موارده كلها بمعنى القوت، ولكن السماع يقضي على النظر، وعلى القول بأنه القادر يكون من صفات الذات، وإن قلنا إنه اسم للذي يعطي القوت فهو اسم للوهاب والرزاق، ويكون من صفات الأفعال»

قال القرطبي [8]: «بعد أن ذكر المعنى اللغوي: فالمعنى أن الله تعالى يعطي كل إنسان وحيوان قوته على مر الأوقات، شيئاً بعد شيء، فهو يمدها في كل وقت بما جعله قواماً لها، إلى أن يريد إبطال شيء منها فيحبس عنه ما جعله مادة لبقائه فيهلك»

وقال القرطبي أيضًا :[9]«وقال أبو عبيدة:«المقيت: الحافظ»، وقال الكسائي:«المقيت: المقتدر»، وقال النحاس: «وقول أبي عبيدة أولى؛ لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان»»

قال الغزالي [10]: «المقيت معناه خالق الأقوات، وموصلها إلى الأبدان وهي الأطعمة، وإلى القلوب وهي المعرفة، فيكون بمعنى الرزاق إلا أنه أخص منه إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت، والقوت ما يكتفي به في قوام البدن، وأما أن يكون بمعنى المستولي على الشيء، القادر عليه، والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم، وعليه يدل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا﴾ سورة النساء:85، أي: مطلعاً قادراً، فيكون معناه راجعاً على القدرة والعلم، ويكون بهذا المعنى وصفه بـــ المقيت أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده، لأنه دال على اجتماع المعنيين، وبذلك يخرج هذا الاسم عن الترادف»

قال الراغب الأصفهاني :[11]«القوت ما يمسك الرمق وجمعه: أقوات ، ذكر القرآن : وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ سورة فصلت:10، وقاته يقوته قوتاً: أطعمه قوته . وأقاته يقيته جعل له ما يقوته وفي الحديث : «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» قيل مقتدراً، وقيل: شاهداً. وحقيقته قائماً عليه يحفظه ويقيته

جاء في القاموس المحيط :[12]«المقيت: الحافظ للشيء، والشاهد له، والمقتدر، كالذي يعطي كل أحد قوته»

قال البغوي :[13]«قال ابن عباس:«مقتدراً أو مجازياً»، وقال مجاهد:«شاهداً»، وقال قتادة:«حافظاً» وقيل:معناه على كل حيوان مقيتاً: أي يوصل القوت إليه»

قال ابن كثير :[14]«أي حفيظاً، وقال مجاهد: «شهيداً»، وفي رواية عنه: حسيباً، وقيل قديراً، وقيل: المقيت الرازق، وقيل مقيت لكل إنسان بقدر عمله

أسم الله تعالي : العليم

العليم من أسماء الله الحسني ،ومعناه: أن الله عليمٌ بما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأحاط علمه سبحانه وتعالى بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها.

 

محتويات

 

1 ذكره في القرآن

2 المعنى اللغوي

3 وصف غير الله بالعلم

4 كيف تحصل على العلم من العليم سبحانه ؟

5 الفرق بين علم الله وعلم غيره

6 كيف وسع الله العليم كل شيء علماً ؟

6.1 يعلم ما كان

6.2 يعلم ماهو كائن

6.3 يعلم ماسيكون

6.4 يعلم مالم يكن لو كان كيف يكون

7 مفاتح الغيب الخمسة

7.1 عِلْمُ السَّاعَةِ

7.2 يُنَزِّلُ الْغَيْثَ

7.3 يَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ

7.4 مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا

7.5 بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ

8 كيف نعرف عظمة الله تعالى العلمية ؟

9 أعلم من في الأرض

10 التعامل مع اسم الله العليم

11 الحث على تعليم الأطفال اسم الله العليم

12 مراجع

ذكره في القرآن

 

ورد اسم الله العليم في القرآن الكريم 157 مرة ،منها قوله تعالى:

في سورة الأنعام قال الله تعالى : فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .

في سورة العنكبوت قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

في سورة يس قال الله تعالى : أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ .

في سورة التحريم قال الله تعالى : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ .

في سورة البقرة قال الله تعالى : وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .

في سورة البقرة قال الله تعالى : فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

في سورة الأنعام قال الله تعالى : وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

في سورة يوسف قال الله تعالى : فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

في سورة الحجر قال الله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ .

في سورة النمل قال الله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ .

في سورة العنكبوت قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

في سورة الروم قال الله تعالى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ .

في سورة يس قال الله تعالى : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .

في سورة غافر قال الله تعالى : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .

في سورة فصلت قال الله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

المعنى اللغوي

 

العلم هو المعرفة وهو ضد الجهل وتختلف درجاته فلا يسمى عالماً إلا بعد الوصول إلى ذروة المعرفة والإلمام بالشئ.

فهناك المتعلم وهو من يتلقى العلم الجديد.

وهناك العالم وهو القديم في العلم والمتمرس فيه.

وهناك العلاّمة ، ويوصف بها الذكر والأنثى ، وإنما جائت "التاء" لزيادة المبالغة حيث يوصف بها من بلغ النهاية والغاية من العلم حيث لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة في علمه.

وهناك العليم وهو فوق الكل وهو من يعطي مايشاء من علمة للعلماء بكافة أنواعهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون ويعلم ذات الصدور ويقلب علمه كيف يشاء ويقسمه على من يشاء وقت ما يشاء ولا يجهل شيء ولا يخفى عليه خافية وهو الذي أحاط بالعلم كاملاً.

 

ذكر ابن منظور في كتابه لسان العرب مجمل أقوال علماء اللغة في معنى علم فقال

 

قول ابن عيينة والعِلْمُ نقيضُ الجهل عَلِم عِلْماً وعَلُمَ هو نَفْسُه ورجل عالمٌ وعَلِيمٌ من قومٍ عُلماءَ فيهما جميعاً قال سيبويه يقول عُلَماء من لا يقول إلاّ عالِماً قال ابن جني لمَّا كان العِلْم قد يكون الوصف به بعدَ المُزاوَلة له وطُولِ المُلابسةِ صار كأنه غريزةٌ ولم يكن على أول دخوله فيه ولو كان كذلك لكان مُتعلِّماً لا عالِماً فلما خرج بالغريزة إلى باب فَعُل صار عالمٌ في المعنى كعَليمٍ فكُسِّرَ تَكْسيرَه ثم حملُوا عليه ضدَّه فقالوا جُهَلاء كعُلَماء وصار عُلَماء كَحُلَماء لأن العِلمَ محْلَمةٌ لصاحبه

وصف غير الله بالعلم

 

من فضل الله تعالى وعظمته وكمال علمه أن أنعم على بعض خلقه بالقليل من العلم الذي إذا اجتمع كله فإنه لا يساوي عند علم الله قطرة ماء في بحر بل أقل من ذلك بكثير والله تبارك وتعالى يؤتي علمه من يشاء بفضل منه ورحمة وليس لأحد من العالمين فضل على الله نسأله تعالى أن يؤتينا من علمه.

قال الله تعالى : فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (سورة الكهف).

و قال الله تعالى : وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (سورة النمل).

و قال الله تعالى في مدح موسى : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (سورة القصص).

و قال الله تعالى في مدح نبي الله يوسف علية السلام : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (سورة يوسف).

و قال الله تعالى : وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (سورة الأنبياء).

و قال الله تعالى : وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (سورة الأنبياء).

كيف تحصل على العلم من العليم سبحانه ؟

 

أن العلم لله تعالى يؤتي منه من يشاء بقدر منه وبفضله وبرحمته ، وهو بعلمه يقدِّر ما يشاء ولا رَادَّ لقضائه وينقسم العلم إلى علوم الدنيا وعلوم الآخرة:

 

1) فأما علوم الدنيا فهي هينة على الله تعالى ولا يقيم الله تعالى لها وزنا ولا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة كما هي الدنيا كلها فيعطي منها البر والفاجر والمؤمن والكافر والأعمى والبصير والقوي والضعيف والفقير والغني. و منها علم حسن مفيد ومنها علم سيء ضار ومنها علوم يتنزه الله سبحانه وتعالى عنها كالسحر والفسوق والعصيان.

قال الله تعالى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (سورة البقرة).

قال الله تعالى : كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (سورة الإسراء).

 

2) وأما علوم الآخرة ومعرفة الله فهي غالية على الله تعالى ولا ينالها أحد إلا جزاء من الله على صلاح عمل أو حسن عبادة أو شكر من الله وفضل منه وهو العلم الذي تفضل به الله على الأنبياء والرسل والصالحين نسأل الله منه.

قال الله تعالى في مدح موسى : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (سورة القصص) فكان علم موسى علية السلام هو جزاء الإحسان.

و قال الله تعالى في مدح نبي الله يوسف علية السلام : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (سورة يوسف) فكان علم يوسف علية السلام هو جزاء الإحسان.

و قال الله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (سورة فاطر) فإنه من يعلم عظمة الله وقوّته وأسمائه وصفاته حق المعرفة فإنة سوف يخشاه ويخاف منه ويرجو ما عنده من العلم والرحمة.

الفرق بين علم الله وعلم غيره

 

الفرق بين علم الله وعلم عباده لايمكن أن يُعد أو أن يُحصى ، فعلم الله أجلّ وأعظم من أن يقارن بعلم أحد من خلقة ولكن لبيان ضعف المخلوق ورداً على الظالمين فقد سبقنا بهذا نبي الله موسى علية السلام في خطابه لفرعون عندما سأله مابال القرون الأولى قال الله تعالى : قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (سورة طه) ،فاكتفى نبي الله موسى عليه السلام بوصفين لعلم الله لا يمكن أن يتصف بها علم أي أحد من خلقه وهي كالتالي :

 

1) علم غيرِ اللهِ سَبَقَهُ الجهل بينما علمُ اللهِ لم يسبقه جهل

قال الله تعالى : قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (سورة طه).

قال الله تعالى : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة النحل).

قال الله تعالى : فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (سورة البقرة).

 

2) علم غيرِ اللهِ قابلٌ أن يُنسى و إن لم ينساه صاحبه فإنه سيموت ويتركه وإن تعلمه أحد من بعده فسيأتي يوم ليترك علمه أو يتركه علمه بينما علم الله لا يمكن أن ينسى.

قال الله تعالى : قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (سورة طه).

قال الله تعالى : وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (سورة مريم).

قال الله تعالى : وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (سورة يس).

كيف وسع الله العليم كل شيء علماً ؟

 

قال الله تعالى : إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (سورة طه) ،وسع الله كل شي علما فهو سبحانه وتعالى له علم كل شي فهو يعلم ما كان وماهو كائن وما سيكون ومالم يكن لو كان كيف يكون.

يعلم ما كان

 

ومن هذا إخبار الله تعالى عباده بما كان من أنباء القرون الماضية التي لم يعرفوها ولم يعاصروها ولم تصل إليهم أخبارها.

قال الله تعالى : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (سورة هود).

و قال الله تعالى : كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (سورة طه).

و قال الله تعالى : وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (سورة هود).

و قال الله تعالى : تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (سورة هود).

و قال الله تعالى : ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (سورة آل عمران).

يعلم ماهو كائن

 

ومن هذا إخبار الله تعالى عبادة بما يدور حولهم في قريتهم.

قال الله تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (سورة المجادلة).

و قال الله تعالى : سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (سورة الفتح).

و قال الله تعالى : لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (سورة آل عمران).

و قال الله تعالى : يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (سورة المنافقون).

يعلم ماسيكون

 

ومن هذا إخبار الله تعالى عباده بما سيكون في المستقبل وفي اليوم الآخر.

قال الله تعالى : فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (سورة المرسلات).

و قال الله تعالى : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (سورة طه).

و قال الله تعالى : قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (سورة آل عمران).

و قال الله تعالى : يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (سورة مريم).

و قال الله تعالى : يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (سورة طه).

يعلم مالم يكن لو كان كيف يكون

 

ومن هذا إخبار الله تعالى عباده بما لم يكن وما لم يكون لو كان كيف سيكون مثل أهل النار لو خرجو منها أو لو خرج المنافقون للقتال ماذا سيكون.

قال الله تعالى : بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (سورة الأنعام).

و قال الله تعالى : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (سورة التوبة).

مفاتح الغيب الخمسة

 

هناك أمور اختص الله بعلمها وأخبر سبحانه بأنه لا يعلمها إلا هو ، وسماها مفاتح الغيب ذكرها سبحانه إجمالاً في سورة الأنعام ،قال الله تعالى : وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (سورة الأنعام) ،ثم فصّلها سبحانه وتعالى في آخر سورة لقمان ،قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (سورة لقمان).

عِلْمُ السَّاعَةِ

 

أحد مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله وهي وقت نهايه العالم والعالمين وقيام الجزاء والحساب.

قال الله تعالى : يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (سورة الأحزاب).

قال الله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سورة الأعراف).

قال الله تعالى : اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (سورة الشورى).

قال الله تعالى : بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (سورة القمر).

قال الله تعالى : وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (سورة الزخرف).

قال الله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (سورة النازعات).

يُنَزِّلُ الْغَيْثَ

 

أحد مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله.

قال الله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (سورة الشورى).

قال الله تعالى : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (سورة البقرة).

قال الله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (سورة البقرة).

قال الله تعالى : أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (سورة الرعد).

قال الله تعالى : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (سورة الحجر).

قال الله تعالى : وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (سورة الفرقان).

قال الله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (سورة فاطر).

قال الله تعالى : وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (سورة ق).

يَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ

 

أحد مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله.

قال الله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (سورة الرعد).

قال الله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (سورة فاطر).

قال الله تعالى : إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (سورة فصلت).

مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا

 

أحد مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله.

قال الله تعالى : اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (سورة العنكبوت).

قال الله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (سورة الروم).

قال الله تعالى : قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (سورة سبأ).

قال الله تعالى : إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (سورة ص).

قال الله تعالى : وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (سورة النحل).

بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ

 

أحد مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله.

قال الله تعالى : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (سورة آل عمران).

قال الله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (سورة العنكبوت).

قال الله تعالى : فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (سورة سبأ).

قال الله تعالى : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (سورة الزمر).

قال الله تعالى : قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (سورة الجمعة).

كيف نعرف عظمة الله تعالى العلمية ؟

 

إن ظهور النقص في علم المخلوقين يدل على كمال علم الخالق وظهور العلوم الجديدة والأفكار الجديدة لدى المخلوقين تبين أن الخالق قد وسع كل شي علما ، وتباين واختلاف العلماء المخلوقين تشير إلى عظمة الخالق وقدرته وتدبيره ،بينالله تعالى في كتابه الكريم عجز كثير من عباده عن معرفة كل شي رغم ما سخّره لهم من الإمكانات وعظمة الملك والسلطان.

في قصة نبي الله سليمان سخّر الله تعالى له الريح والجن والطير وأعطاه ملك عظيم كما أنه ملك ابن ملك رغم هذا كله أحب الله أن يبين له أن هناك مايَخفَى عنه فبين له هذا بطير ضعيف يملكة وهو الهدهد.

 

قال الله تعالى : وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (سورة النمل).

في قصة نبي الله إبراهيم فرغم أن الله تعالى يحبه وهو خليل الله فقد بين له أنه لم يعرف الملائكة وقدّم لهم الطعام ،قال الله تعالى : هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (سورة الذاريات).

بل أن سيد الخلق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بيَّن الله تعالى له علمه بالمنافقين من أهل المدينة ،قال الله تعالى : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (سورة التوبة)

بل أن ربنا سبحانه وتعالى بين لنا بأن هناك قبيلتين موجودة في الأرض التي نسكن فيها وسخر لنا الأقمار الصناعية وعلم الأرض واستخراج بعض الخيرات من باطن الأرض ولكن حتى الآن لم يستطع أحد معرفة أين يسكنون ووعد الله بإخراجهم في آخر الزمان ،قال الله تعالى : قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (سورة الكهف) ،وقال الله تعالى : حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (سورة الأنبياء).

أعلم من في الأرض

 

سأل رجل نبي الله موسى علية السلام هل في الأرض أعلم منك ؟ فنسي موسى بقدر الله أن يقول الله أعلم فقال لا يوجد أعلم مني على الأرض ، فعاتبه ربه وبين له أن هناك في الأرض من هو أعلم منه ويسَّر له الوصول له ،قال الله تعالى : قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (سورة الكهف).

التعامل مع اسم الله العليم

 

إذا علم العبد بأن الله يعلم كل شي ووسع علمه كل شي فإنه يستحي ويتأدب مع العليم والحياء من الله والخشية منه مرتبطة بمعرفة الله والعلم به وبقدرته وأنه يعلم مافي الصدور.

قال الله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (سورة فاطر).

قال الله تعالى : قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة آل عمران).

الحث على تعليم الأطفال اسم الله العليمأن تعليم الأطفال أسماء الله الحسنى تُعطي الطفل الحكمة وحسن التعامل مع الله وعندما يعلم الطفل قدرة الله وعلمه فإنه يُراقب تصرفاته ولا يعمل إلا الأعمال الطيبة الحسنة ،وقد ذكر الله تعالى تعليم لقمان الحكيم لإبنه كوصية منه تعالى لنا بتعليم أبنائنا وبناتنا حسن التعامل مع الله تعالى ،قال الله تعالى : يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (سورة لقمان).

 

والخبير

الخبير هو من أسماء الله الحسنى، وهو من صيغ المبالغة، ومعناه: العالم بما كان وما يكون، والخبير هو الذى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.[1]

في القرآن الكريم

 

ورد في القرآن الكريم في أربعين آية، وورد الخبير مقترناً بثلاثة أسماء:

مقترنا مع اسم الحكيم منها قوله تعالى:[2]﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ سورة الأنعام:18

ومقترناً مع اسم اللطيف :[2]﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾ سورة الأنعام:103

ومقترناً مع اسم العليم في قوله تعالى :[2]﴿نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ سورة التحريم:3

الأقوال في معناه

قال السعدي:[3]«العليم الخبير وهو الذي أحاط علمِه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء»

قال الغزالي:[4]«الخبير هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ولا يجري في الملك والملكوت شيء ولا يتحرك ذرة ولا يسكن ولا يضطرب نفس ولا يطمئن إلا ويكون عنده خبره. وهو بمعنى العليم، لكن العليم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرًا»

قال ابن القيم:[5]«الخبير: الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها

قال ابن عاشور:[6]«والخبير: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية»

قال الخطابي:[7]«هو العالم بكنه الشّيء، المطّلع على حقيقته»

قال أبو هلال العسكري[8]:«الفرق بين العلم والخُبر: أنّ الخبر هو العلم بكنه المعلومات على حقائقها، ففيه معنى زائد على العلم»

 

---

خصائص أسلوب القرآن الكريم

كلية الاداب القسم قسم اللغة العربية المرحلة 3

أستاذ المادة علاء كاظم جاسم الموسوي

خصائص أسلوب القرآن :

1. جمال التعبير :

جاء رصف المباني في القران الكريم على وفق رصف المعاني , فكان نظام القرآن الصوتي في ائتلاف حركاته و سكناته , و مدَّاتِهِ و غنَّاته , و اتصالاته وسكتاته , نظامًا يبهر العقول ، ويسترعي الأسماع ، و يستهوي النفوس , بصوره تختلف كل الاختلاف عما يجده المتذوق لكلام الناس من نسق و انسجام . و قد امتاز اللفظ القرآني عن غيره من الألفاظ السائدة في كلام العرب بثلاث سمات رئيسه :

الأولى: جمال وقعه في السمع .

الثانية: انسجامه الكامل في المعنى .

الثالثة : اتساع دلالته لما لا تتسع له عادة دلالات الألفاظ الأخرى ز

وهذه السمات الثلاثة لا تجتمع كلها في أسلوب أديب .

2.دقة التصوير :

وهي نوع آخر من أنواع الجمال الفني المعجز , فالقران الكريم يبرز المعاني المعقولة في صور محسه منتزعه من الواقع المشاهد , مؤتلفة ائتلافا عجيبا في قولب كلية متحركة , تشعر فيها بالأصوات و الألوان و الحركات , مما يجعلك تعيش مع الواقع الذي تصوره لك هذه التشبيهات و الاستعارات و الكنايات , المسبوكة سبكا فريدا يأخذ بمجامع القلوب , و يملك على الإنسان حسه و مشاعره .

3. قوة التأثير :

يخاطب القران الكريم العقل و العاطفة معًا , و لا يخاطب العقل وحده ؛ لأنه ليس كتابَ فلسفةٍ يقف عند حدود سرد المقدمات ، واستنتاج النتائج في أسلوب متقعِّرٍ أو جافٍّ متحجر ، ولا يخاطب القلب وحده ؛ لأنه ليس كتاب أدب يعذب فيه الكذب ، ويروق فيه الخيال المفرط ، وإنا هو كتاب هداية ومنهج حياة ، يهدي الناس الى ما فيه صلاح أمرهم في دينهم ودنياهم وصولا إلى الآخرة .

4. براعته في تصريف القول وثروته في أفانين الكلام :

فهو يورد المعنى الواحد بألفاظ مختلفة وطرق متعددة إذ ينتقل بك بين الأساليب الإنشائية والخبرية في المعنى المراد إبرازه ، ويسلك بك مسالك شتى في التعبير والتصوير ، والترغيب والترهيب من غير أن تشعر بفجوة بين أسلوب وأسلوب أو تنافر بين كلمة وأخرى .

5. الدقة في اختيار الكلمة القرآنية :

إن التعبير القرآني تعبير فني مقصود ، فكل كلمة بل كل حرف فيه قد وُضِعَ وضعا فنيا مقصودا ، والألفاظ فيه لم توضع عبثا ولا من غير حساب ، ومن خلال استعمال الإحصاء تبين لنا :

إنَّ (الدنيا) فد تكررت في القرآن بقدر (الآخرة) فقد تكررت كل منهما 115 مرة .

والملائكة تكررت بقدر الشياطين ، فقد تكررت كل منهما 88 مرة .

والصيف والحر تكررا بقدر لفظ الشتاء والبرد فقد تكرر كل منهما خمس مرات .

ولفظ الإيمان تكرر بقدر لفظ الكفر فقد تكرر كا منهما 17 مرة .

ولفظ الشهر تكرر 12 مرة في القرآن الكريم بعدد شهور السنة .

ولفظ اليوم تكرر 365 مرة بعدد أيام السنة .

 



 

"إنَّ هذا القُرْآنَ يَهْدي للتي هيَ أقْوَمُ"

 

تحديد "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته  … مسألة ضرورية، لأسباب كثيرة:

ضرورية لأنه لابد للمسلم من تفسير شامل للوجود، يتعامل على أساسه مع هذا الوجود .. لابد من تفسير يقرّب لإدراكه طبيعة الحقائق الكبرى التي يتعامل معها، وطبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الحقائق: حقيقة الألوهية. وحقيقة العبودية (وهذه تشتمل على حقيقة الكون. وحقيقة الحياة. وحقيقة الإنسان) .. وما بينها جميعاً من تعامل وارتباط.

وضرورية لأنه لابد للمسلم من معرفة حقيقة مركز الإنسان في هذا الوجود الكوني، وغاية وجوده الإنساني.. فمن هذه المعرفة يتبين دور "الإنسان" في "الكون" وحدود اختصاصاته كذلك. وحدود علاقته بخالقه وخالق هذا الكون جميعاً.

وضرورية لأنه بناء على ذلك التفسير الشامل، وعلى معرفة حقيقة مركز الإنسان في الوجود الكوني وغاية وجوده الإنساني، يتحدد منهج حياته، ونوع النظام الذي يحقق هذا المنهج. فنوع النظام الذي يحكم الحياة الإنسانية رهين بذلك التفسير الشامل، ولابد أن ينبثق منه انبثاقاً ذاتياً وإلا كان نظاماً مفتعلاً، قريب الجذور، سريع الذبول. والفترة التي يقدر له فيها البقاء، هي فترة شقاء "للإنسان"، كما أنها فترة صدام بين هذا النظام وبين الفطرة البشرية، وحاجات "الإنسان" الحقيقية! الأمر الذي ينطبق اليوم على جميع الأنظمة في الأرض كلها – بلا استثناء – وبخاصة في الأمم التي تسمى "متقدمة([2]) ! "

وضرورية لأن هذا الدين جاء لينشئ أمة ذات طابع خاص متميز متفرد. وهي في الوقت ذاته أمة جاءت لقيادة البشرية، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من القيادات الضالة، والمناهج الضالة، والتصورات الضالة- وهو ما تعاني اليوم مثله مع اختلاف في الصور والأشكال – وإدراك المسلم لطبيعة التصور الإسلامي، وخصائصه ومقاومته، هو الذي يكفل له أن يكون عنصراً صالحاً في بناء هذه الأمة، ذات الطابع الخاص المتفرد المتميز، وعنصراً قادراً على القيادة والإنقاذ. فالتصور الاعتقادي هو أداة التوجيه الكبرى، إلى جانب النظام الواقعي الذي ينبثق منه، ويقوم على أساسه، ويتناول النشاط الفردي كله، والنشاط الجماعي كله، في شتى حقول النشاط الإنساني.

*     *     *

ولقد كان القرآن الكريم قد قدم للناس هذا التفسير الشامل، في الصورة الكاملة، التي تقابل كل عناصر الكينونة الإنسانية، وتلبي كل جوانبها، وتتعامل مع كل مقوماتها .. تتعامل مع "الحس" و "الفكر" و "البديهة" و "البصيرة" … ومع سائر عناصر الإدراك البشري، والكينونة البشرية بوجه عام – كما تتعامل مع الواقع المادي للإنسان، هذا الواقع الذي ينشئه وضعه الكوني- في الأسلوب الذي يخاطب، ويوحي، ويوجه كل عناصر هذه الكينونة متجمعة، في تناسق، هو تناسق الفطرة كما خرجت من يد بارئها سبحانه!

وبهذا التصور المستمد مباشرة من القرآن، تكيفت الجماعة المسلمة الأولى. تكيفت ذلك التكيف الفريد. وتسلمت قيادة البشرية، وقادتها تلك القيادة الفريدة، التي لم تعرف لها البشرية – من قبل ولا من بعد- نظيراً. وحققت في حياة البشرية- سواء في عالم الضمير والشعور، أو في عالم الحركة والواقع- ذلك النموذج الفذ الذي لم يعهده التاريخ. وكان القرآن هو المرجع الأول لتلك الجماعة. فمنه انبثقت هي ذاتها.. وكانت أعجب ظاهرة في تاريخ الحياة البشرية: ظاهرة انبثاق أمة من خلال نصوص كتاب! وبه عاشت. وعليه اعتمدت في الدرجة الأولى. باعتبار أن "السنة" ليست شيئاً آخر سوى الثمرة الكاملة النموذجية للتوجيه القرآني. كما لخصتها عائشة –رضي الله عنها- وهي تُسأَل عن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتجيب تلك الإجابة الجامعة الصادقة العميقة: "كان خلقه القرآن" .. (أخرجه النسائي).

*     *     *

ولكن الناس بعدوا عن القرآن، وعن أسلوبه الخاص، وعن الحياة في ظلاله، عن ملابسة الأحداث والمقوّمات التي يشابه جوُّها الجوُّ الذي تنزّل فيه القرآن .. وملابسةُ هذه الأحداث والمقوّمات، وتَنسُّمُ جوها الواقعي، هو وحده الذي يجعل هذا القرآن مُدرَكاً وموحياً كذلك. فالقرآن لا يدركه حق إدراكه من يعيش خالي البال من مكان الجهد والجهاد لاستئناف حياة إسلامية حقيقة، ومن معاناة هذا الأمر العسير وجرائره وتضحياته وآلامه، ومعاناة المشاعر المختلفة التي تصاحب تلك المكابدة في عالم الواقع، في مواجهة الجاهلية في أي زمان!

إن المسألة-في إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته- ليست هي فهم ألفاظه وعباراته، ليست هي "تفسير" القرآن- كما اعتدنا أن نقول! المسألة ليست هذه. إنما هي استعداد النفس برصيد من المشاعر والمدركات والتجارب، تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التي صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة وهي تتلقاه في خضم المعترك .. معترك الجهاد .. جهاد النفس وجهاد الناس. جهاد الشهوات وجهاد الأعداء. والبذل والتضحية. والخوف والرجاء. والضعف والقوة. والعثرة والنهوض.. جو مكة، والدعوة الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس .. جو الشَّعب والحصار، والجوع والخوف، والاضطهاد والمطاردة، والانقطاع إلا عن الله.. ثم جو المدينة: جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم، بين الكيد والنفاق، والتنظيم والكفاح .. جو "بدر" و "أحد" و "الخندق" و "الحديبية". وجو "الفتح"، و "حنين" و "تبوك". وجو نشأة الأمة المسلمة ونشأة نظامها الاجتماعي والاحتكاك الحي بين المشاعر والمصالح والمبادئ في ثنايا النشأة وفي خلال التنظيم.

في هذا الجو الذي تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية.. كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحاءاتها. وفي مثل هذا الجو الذي يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد يفتح القرآن كنوزه للقلوب، ويمنح أسراره، ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور ..

لقد كانوا يومئذ يدركون حقيقة قول الله لهم:

"يَمنُّون عليك أن أسلموا. قل: لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين"..

(الحجرات: 17)

وحقيقة قول الله لهم:

"يا أيها الذين آمنوا استجيبوا الله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم. واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون. واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذي ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب. واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس. فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون".

(الأنفال: 24-26)

وحقيقة قول الله لهم:

"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"..

(آل عمران: 123)

وحقيقة قول الله لهم:

"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. وتلك الأيام نداولها بين الناس. وليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منكم شهداء. والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين. ولقد كنتم تَمَنَّون الموت من قبل أن تلقوه، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون" …

(آل عمران: 139-143)

وحقيقة قول الله لهم:

"لقد نصركم الله في مواطن كثيرة. ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وَليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وعذب الذين كفروا. وذلك جزاء الكافرين" ..

(التوبة: 25، 26).

وحقيقة قول الله لهم:

"لتبلَوُن في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعُنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً. وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور"..

(آل عمران: 186)

كانوا يدركون حقيقة قول الله لهم في هذا كله، لأنه كان يحدثهم عن واقعيات في حياتهم عاشوها، وعن ذكريات في نفوسهم لم تغب معالمها، وعن ملابسات لم يبعد بها الزمن، فهي تعيش في ذات الجيل..

والذين يعانون اليوم وغداً مثل هذه الملابسات، هم الذين يدركون معاني القرآن وإيحاءاته. وهم الذين يتذوقون حقائق التصور الإسلامي كما جاء بها القرآن. لأن لها رصيداً حاضراً في مشاعرهم وفي تجاربهم، يتلقونها به، ويدركونها على ضوئه.. وهم قليل..

ومن ثم لم يكن بد – وقد بعد الناس عن القرآن ببعدهم عن الحياة الواقعية في مثل جوه- أن نقدم لهم حقائق: "التصور الإسلامي" عن الله والكون والحياة والإنسان من خلال النصوص القرآنية، مصحوبة بالشرح والتوجيه، والتجميع والتبويب. لا ليغنى هذا غناء القرآن في مخاطبة القلوب والعقول. ولكن ليصل الناس بالقرآن- على قدر الإمكان- وليساعدهم على أن يتذوقوه، ويلتمسوا فيه بأنفسهم حقائق التصور الإسلامي الكبير!

على أننا نحب أن ننبه هنا إلى حقيقة أساسية كبيرة. . إننا لا نبغي بالتماس حقائق التصور الإسلامي، مجرد المعرفة الثقافية. لا نبغي إنشاء فصل في المكتبة الإسلامية، يضاف إلى ما عرف من قبل باسم "الفلسفة الإسلامية". كلا! إننا لا نهدف إلى مجرد "المعرفة" الباردة، التي تتعامل مع الأذهان، وتحسب في رصيد "الثقافة"! إن هذا الهدف في اعتبارنا لا يستحق عناء الجهد فيه! إنه هدف تافه رخيص! إنما نحن نبتغي "الحركة" من وراء "المعرفة". نبتغي أن تستحيل هذه المعرفة قوة دافعة، لتحقيق مدلولها في عالم الواقع. نبتغي استجاشة ضمير "الإنسان" لتحقيق غاية وجوده الإنساني، كما يرسمها هذا التصور الرباني. نبتغي أن ترجع البشرية إلى ربها، وإلى منهجه الذي أراده لها، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التي تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي تحققت في فترة من فترات التاريخ، على ضوء هذا التصور، عندما استحال واقعاً في الأرض، يتمثل في أمة، تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء.

ولقد وقع – في طور من أطوار التاريخ الإسلامي- أن احتكت الحياة الإسلامية الأصلية، المنبثقة من التصور الإسلامي الصحيح، بألوان الحياة الأخرى التي وجدها الإسلام في البلاد المفتوحة، وفيما وراءها كذلك. ثم بالثقافات السائدة في تلك البلاد.

واشتغل الناس في الرقعة الإسلامية- وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد، واستسلموا لموجات الرخاء .. وجدّت في الوقت ذاته في حياتهم من جراء الأحداث السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأي والمذهبية- كان بعضها في وقت مبكر منذ الخلاف المشهور بين علي ومعاوية- اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية وبالمباحث اللاهوتية التي تجمعت حول المسيحية، والتي ترجمت إلى اللغة العربية .. ونشأ عن هذا الاشتغال الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي في عهد العباسيين وفي الأندلس أيضاً، انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامي الأصيل. التصور الذي جاء ابتداء لإنقاذ البشرية من مثل هذه الانحرافات، ومن مثل هذه الاتجاهات، وردها إلى التصور الإسلامي الإيجابي الواقعي، الذي يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة، للبناء والتعمير، والارتفاع والتطهير. ويصون الطاقة أن تنفق في الثرثرة. كما يصون الإدراك البشري أن يطوح به في التيه بلا دليل.

ووجد جماعة من علماء المسلمين أن لابد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك، وهذا الانحراف، بردود وإيضاحات وجدل حول ذات الله-سبحانه- وصفاته. وحول القضاء والقدر. وحول عمل الإنسان وجزائه، وحول المعصية والتوبة.. إلى آخر المباحث التي ثار حولها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي! ووجدت الفرق المختلفة خوارج وشيعة ومرجئة. قدرية وجبرية. سنية ومعتزلة…. إلى آخر هذه الأسماء.

كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية- وبخاصة شروح فلسفة أرسطو- أو المعلم الأول كما كانوا يسمونه- وبالمباحث اللاهوتية- "الميتافيزيقية" – وظنوا أن "الفكر الإسلامي" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو مظاهر أبهته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي- زي التفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات! وكما يفتن من اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها. فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية. وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو!

وبدلاً من صياغة "التصور الإسلامي" في قالب ذاتي مستقل، وفق طبيعته الكلية، التي تخاطب الكينونة البشرية جملة، بكل مقوماتها وطاقاتها، ولا تخاطب "الفكر البشري" وحده خطاباً بارداً مصبوباً في قالب المنطق الذهني.. بدلاً من هذا فإنهم استعاروا "القالب" الفلسفي ليصبوا فيه "التصور الإسلامي"، كما استعاروا بعض التصورات الفلسفية ذاتها، وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين التصور الإسلامي.. أما المصطلحات فقد كادت تكون كلها مستعارة!

ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة  ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية.. فقد بدت "الفلسفة الإسلامية" –كما سميت- نشازاً كاملاً في لحن العقيدة المتناسق! ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصفر مساحته، وأصابه بالسطحية.

ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط. مما جعل تلك "الفلسفة الإسلامية" ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام، وطبيعته، وحقيقته، ومنهجه، وأسلوبه!

وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة – على الأقل!- سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة.. ولكني أقرره، وأنا على يقين جازم بأن "التصور الإسلامي" لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ، إلا حين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم "الفلسفة الإسلامية". وبكل مباحث "علم الكلام" وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً! ثم نعود إلى القرآن الكريم، نستمد منه مباشرة "مقومات التصور الإسلامي". مع بيان "خصائصه" التي تفرده من بين سائر التصورات. ولا بأس من بعض الموازنات- التي توضح هذه الخصائص – مع التصورات الأخرى- أما مقومات هذا التصور فيجب أن تستقى من القرآن مباشرة، وتصاغ صياغة مستقلة .. تماماً.

ولعله مما يحتم هذا المنهج الذي أشرنا إليه أن ندرك ثلاث حقائق هامة:

الأولى: أن أول ما وصل إلى العالم الإسلامي من مخلفات الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي، وكان له أثر في توجيه الجدل بين الفرق المختلفة وتلوينه، لم يكن سوى شروح متأخرة للفلسفة الإغريقية، منقولة نقلاً مشوهاً مضطرباً في لغة سقيمة. مما ينشأ عنه اضطراب كثير في نقل هذه الشروح!

والثانية: أن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي كانت تنم عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية، وعناصرها الوثنية العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد. مما يخالف النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة.. فالفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثنى مشحون بالأساطير، واستمدت جذورها من هذه الوثنية ومن هذه الأساطير، ولم تخل من العناصر الوثنية الأسطورية قط. فمن السذاجة والعبث –كان- محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس "التوحيد" المطلق العميق التجريد.. ولكن المشتغلين بالفلسفة والجدل من المسلمين، فهموا –خطأ- تحت تأثير ما نقل إليهم من الشروح المتأخرة المتأثرة بالمسيحية أن "الحكماء" – وهم فلاسفة الإغريق- لا يمكن أن يكونوا وثنيين، ولا يمكن أن يحيدوا عن التوحيد! ومن ثم التزموا عملية توفيق متعسفة بين كلام "الحكماء" وبين العقيدة الإسلامية. ومن هذه المحاولة كان ما يسمى "الفلسفة الإسلامية"!

والثالثة: أن المشكلات الواقعية في العالم الإسلامي – تلك التي أثارت ذلك الجدل منذ مقتل عثمان –رضي الله عنه- قد انحرفت بتأويلات النصوص القرآنية، وبالأفهام والمفهومات انحرافاً شديداً. فلما بدأ المباحث لتأييد وجهات النظر المختلفة، كانت تبحث عما يؤيدها من الفلسفات والمباحث اللاهوتية، بحثاً مغرضاً في الغالب ومن ثم لم تعد تلك المصادر- في ظل تلك الخلافات- تصلح أساساً للتفكير الإسلامي الخالص، الذي ينبغي أن يتلقى مقوماته ومفهوماته من النص القرآني الثابت، في جو خالص من عقابيل تلك الخلافات التاريخية. ومن ثم يحسن عزل ذلك التراث جملة! عن مفهومنا الأصيل للإسلام، ودراسته دراسة تاريخية بحتة، لبيان زوايا الانحراف فيه، وأسباب هذا الانحراف، وتجنب نظائرها فيما نصوغه اليوم من مفهوم التصور الإسلامي، ومن أوضاع وأشكال ومقومات النظام الإسلامي أيضاً..

*     *     *

ولقد سارت مناهج الفكر الغربي في طريقها الخاص. مستمدة ابتداء من الفكر الإغريقي وما فيه من لوثة الوثنية، ثم مستمدة أخيراً من عدائها للكنيسة، وللتفكير الكنسي في الغالب!

وكان الطابع العام لهذا الفكر منذ عصر النهضة، وهو معارضة الكنيسة الكاثوليكية وتصوراتها. ثم –فيما عد- معارضة الكنيسة إطلاقاً، ومعارضة التصور الديني جملة.. والتصورات الكنسية – بصفة عامة- لم تكن في يوم من الأيام تمثل النصرانية الحقيقية. فإن الملابسات التي صاحبت نشأة النصرانية في ظل الدولة الرومانية الوثنية، ثم التي صاحبت دخول الدولة الرومانية في النصرانية قد جنت على النصرانية الحقة جناية كبرى، وحرفتها تحريفاً شديداً. حرفتها ابتداء بما أدخلت فيها من رواسب الوثنية الرومانية. ثم بما أضافته الكنيسة والمجامع بعد ذلك من التأويلات والإضافات التي ضمت –مع الأسف- إلى الأصل الإلهي في النصرانية، لمجاراة الأحداث السياسية، والاختلافات المذهبية، ولمحاولة تجميع المذاهب وتجميع القطاعات المتعارضة في الدولة الرومانية في مذهب واحد يرضى عنه الجميع([3])! مما جعل "النصرانية" تعبيراً عن "التصور الكنسي" أكثر مما هي تعبير عن الديانة النصرانية المنزلة من عند الله.

ثم كان من جراء احتضان الكنيسة لهذه التصورات المنحرفة، ومن جراء احتضانها كذلك لكثير من المعلومات الخاطئة أو الناقصة عن الكون- مما هو من شأن البحوث والدراسات والتجارب البشرية- أن وقفت موقفاً عدائياً خشناً من العلماء الطبيعيين حين قاموا يصححون هذه المعلومات "البشرية" الخاطئة أو الناقصة. ولم تكتف بالهجوم الفكري عليهم، بل استخدمت سلطانهم المادي ببشاعة في التنكيل لكل المخالفين لتصوراتها الدينية والعلمية على السواء!

ومنذ ذلك التاريخ، وإلى اليوم، اتخذ "الفكر الأوربي" موقفاً عدائياً لا من الأفكار والتصورات الكنسية التي كانت سائدة يومذاك، بل من الأفكار والتصورات الدينية على الإطلاق. بل تجاوز العداء الأفكار والتصورات الدينية إلى منهج التفكير الديني بجملته! واتجه الفكر الأوربي إلى ابتداع مناهج ومذاهب للتفكير، الغرض الأساسي منها هو معارضة منهج الكفر الديني، والتخلص من سلطان الكنيسة، بالتخلص من إله الكنيسة! ومن كل ما يتعلق به من أفكار ومن مناهج للتفكير أيضاً" وكمن العداء للدين وللمنهج الديني، لا في الموضوعات والفلسفات والمذاهب التي أنشأها الفكر الأوربي، بل في صميم هذا الفكر، وفي صميم المناهج التي يتخذها للمعرفة.

ومن ثم لم يعد نتاج الفكر الأوربي، ولا مناهج التفكير الأوربية تصلح لأن تتخذ أساساً للفكر الإسلامي، ولا لتجديد هذا الفكر – كما يعبر بعض المفكرين المسلمين أنفسهم .. وسيرى قارئ هذا البحث – بعد فراغ منه- أنه لا سبيل لاستعارة مناهج الكفر الغربي، ولا استعارة نتاج هذا الفكر الذي قام على أساس هذه المناهج، للفكر الإسلامي!

*      *     *

منهجنا إذن في هذا البحث عن: "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" أن نستلهم القرآن الكريم مباشرة – بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً – وأن نستحضر بقدر الإمكان- الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر، والملابسات الاعتقادية والاجتماعية والسياسية التي كانت البشرية تتيه فيها وقت أن جاءها هذا الهدى. ثم التيه الذي ضلت فيه بعد انحرافها عن الهدي الإلهي!

ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم، ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً. لا مقررات عقلية ولا مقررات شعورية – من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته –نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة.

لقد جاء النص القرآني –ابتداء- لينشئ المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليها تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم. وأقل ما يستحقه هذا التفضل من العلي الكبير، وهذه الرعاية من الله ذي الجلال –هو الغني عن العالمين- أن يتلقوها وقد فرّغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل، ليقوم تصورهم الجديد نظيفاً من كل رواسب الجاهليات –قديمها وحديثها على السواء- مستمداً من تعليم الله وحده. لا من ظنون البشر، التي لا تغني من الحق شيئاً!

ليست هناك إذن مقررات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى. إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداء، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا! وهذا – وحده- هو المنهج الصحيح، في مواجهة القرآن الكريم، وفي استلهامه خصائص التصور الإسلامي ومقوّماته.

*     *      *

ثم إننا لا نحاول استعارة "القالب الفلسفي" في عرض حقائق "التصور الإسلامي" اقتناعاً منا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة "الموضوع" وطبيعة "القالب". وأن الموضوع يتأثر بالقالب. وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه، إذا عرض في قالب، في طبيعته وفي تاريخه عداء وجفوة وغربة عن طبيعته! الأمر المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي. والذي يدركه من يتذوق حقيقة هذا التصور كما هي معروضة في النص القرآن!.

نحن نخالف "إقبال" في محاولته صياغة التصور الإسلامي في قالب فلسفي، مستعار من القوالب المعروفة عند هيجل من "العقليين المثاليين" وعند أوجست كونت من "الوضعيين الحسيين".

إن العقيدة –إطلاقاً- والعقيدة الإسلامية-بوجه خاص- تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوبها الخاص، وهو أسلوب يمتاز بالحيوية والإيقاع واللمسة المباشرة والإيحاء. الإيحاء بالحقائق الكبيرة، التي لا تتمثل كلها في العبارة. ولكن توحي بها العبارة. كما يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها. ولا يخاطب "الفكر" وحده في الكائن البشري.. أما الفلسفة فلها أسلوب آخر. إذ هي تحاول أن تحصر الحقيقة في العبارة. ولما كان نوع الحقائق التي تتصدى لها يستحيل أن ينحصر في منطوق العبارة –فضلاً عن جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها أكبر من المجال الذي يعمل فيه "الفكر" البشري([4]) –فإن الفلسفة تنتهي حتماً إلى التعقيد والتخليط والجفاف، كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة!

ومن ثم لم يكن للفلسفة دور يذكر في الحياة البشرية العامة، ولم تدفع بالبشرية إلى الأمام شيئاً مما دفعتها العقيدة، التي تقدمت البشرية على حدائها في تيه الزمن، وظلام الطريق.

لابد أن تعرض العقيدة بأسلوب العقيدة، إذ أن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها، ويطفئ إشعاعها وإيجاءها، ويقصرها على جانب واحد من جوانب الكينونة الإنسانية الكثيرة.

ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها.

ولسنا حريصين على أن تكون هناك "فلسفة إسلامية"! لسنا حريصين على أن يوجد هذا الفصل في الفكر الإسلامي، ولا أن يوجد هذا القالب في قوالب الأداء الإسلامية! فهذا لا ينقص الإسلام شيئاً في نظرنا، ولا ينقص "الفكر الإسلامي". بل يدل دلالة قوية على أصالته ونقائه وتميزه!

*        *         *

وكلمة أخرى في المنهج الذي نتوخاه في هذا البحث أيضاً …

إننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات الفكر الإسلامي، أو الواقع الإسلامي، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله. بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو المحرك الكلي لنا فيما نبذله من جهد في تقرير "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته".. إنما نحن نحاول تقرير حقائق هذا التصور –في ذاتها- كما جاء بها القرآن الكريم، كاملة شاملة، متوازنة متناسقة، تناسق هذا الكون وتوازنه، وتناسق هذه الفطرة وتوازنها.

ذلك أن استحضار انحراف معين، أو نقص معين، والاستغراق في دفعه، وصياغة حقائق التصور الإسلامي للرد عليه .. منهج شديد الخطر، وله معقباته في إنشاء انحراف جديد في التصور الإسلامي لدفع انحراف قديم .. والانحراف انحراف على كل حال !!!

ونحن نجد نماذج من هذا الخطر في البحوث التي تكتب بقصد "الدفاع" عن الإسلام في وجه المهاجمين له، الطاعنين فيه، من المستشرقين والملحدين قديماً وحديثاً. كما نجد نماذج منه في البحوث التي تكتب للرد على انحراف معين، في بيئة معينة، في زمان معين!

يتعمد بعض الصليبيين والصهيونيين مثلاً أن يتهم الإسلام بأنه دين السيف، وأنه انتشر بحد السيف.. فيقوم منا مدافعون عن الإسلام يدفعون عنه هذا "الاتهام"! وبينما هم مشتطون في حماسة "الدفاع" يسقطون قيمة "الجهاد" في الإسلام، ويضيقون نطاقه ويعتذرون عن كل حركة من حركاته، بأنها كانت لمجرد "الدفاع"! – بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق! – وينسون أن للإسلام – بوصفه المنهج الإلهي الأخير للبشرية – حقه الأصيل في أن يقيم "نظامه" الخاص في الأرض، لتستمع البشرية كلها بخيرات هذا "النظام".. ويستمتع كل فرد – في داخل هذا النظام – بحرية العقيدة  التي يختارها، حيث "لا إكراه في الدين" من ناحية العقيدة .. أما إقامة "النظام الإسلامي" ليظلل البشرية كلها ممن يعتنقون عقيدة الإسلام وممن لا يعتنقونها، فتقتضي الجهاد لإنشاء هذا النظام وصيانته، وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة في نطاقه. ولا يتم ذلك إلا بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض!

وليس هذا إلا نموذجاً واحداً من التشويه للتصور الإسلامي، في حماسة الدفاع ضد هجوم ماكر، على جانب من جوانبه!

أما البحوث التي كتبت للرد على انحراف معين، فأنشأت هي بدورها انحرافاً آخر، فأقرب ما نتمثل به في هذا الخصوص، توجيهات الأستاذ الإمام الشيخ "محمد عبده". ومحاضرات "إقبال" في موضوع: "تحديد الفكر الديني في الإسلام"([5]).

لقد واجه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، بيئة فكرية جامدة، أغلقت باب "الاجتهاد" وأنكرت على "العقل" دوره في فهم شريعة الله واستنباط الأحكام منها، واكتفت بالكتب التي ألفها المتأخرون في عصور الجمود العقلي وهي – في الوقت ذاته- تعتمد على الخرافات والتصورات الدينية العامية! كما واجه فترة كان "العقل" فيها يعبد في أوربا ويتخذه أهلها إلهاً، وخاصة بعد الفتوحات العلمية التي حصل فيها العلم على انتصارات عظيمة، وبعد فترة كذلك من سيادة الفلسفة العقلية التي تؤله العقل! وذلك مع هجوم من المستشرقين على التصور الإسلامي، وعقيدة القضاء والقدر فيه، وتعطيل العقل البشري والجهد البشري عن الإيجابية في الحياة بسبب هذه العقيدة … الخ. فلما أراد أن يواجه هذه البيئة الخاصة، بإثبات قيمة "العقل" تجاه "النص". وإحياء فكرة "الاجتهاد" ومحاربة الخرافة والجهل والعامية في "الفكر الإسلامي".. ثم إثبات أن الإسلام جعل للعقل قيمته وعمله في الدين والحياة، وليس – كما يزعم "الإفرنج" أنه قضى على المسلمين" بالجبر" المطلق وفقدان "الاختيار" .. لما أراد أن يواجه الجمود العقلي في الشرق، والفتنة بالعقل في الغرب، جعل "العقل" البشري ندّاً للوحي في هداية الإنسان، ولم يقف به عند أن يكون جهازاً –من أجهزة – في الكائن البشري، يتلقى الوحي. ومنع أن يقع خلاف ما بين مفهوم العقل وما يجئ به الوحي. ولم يقف بالعقل عند أن يدرك ما يدركه، ويسلم بما هو فوق إدراكه، بما أنه – هو والكينونة الإنسانية بجملتها- غير كلي ولا مطلق، ومحدود بحدود الزمان والمكان، بينما الوحي يتناول حقائق مطلقة في بعض الأحيان كحقيقة الألوهية، وكيفية تعلق الإرادة الإلهية بخلق الحوادث.. وليس على العقل إلا التسليم بهذه الكليات المطلقة، التي لا سبل له إلى إدراكها([6])!.. وساق حجة تبدو منطقية، ولكنها من فعل الرغبة في تقويم ذلك الانحراف البيئي الخاص الذي يحتقر العقل ويهمل دوره.. قال رحمه الله في رسالة التوحيد.

"فالوحي بالرسالة الإلهية أثر من آثار الله. والعقل الإنساني أثر أيضاً من آثار الله في الوجود. وآثار الله يجب أن ينسجم بعضها مع بعض، ولا يعارض بعضها بعضاً"..

وهذا صحيح في عمومه.. ولكن يبقى أن الوحي والعقل ليسا ندين. فأحدهما أكبر من الآخر وأشمل. وأحدهما جاء ليكون هو الأصل الذي يرجع إليه الآخر. والميزان الذي يختبر الآخر عنده مقرراته ومفهوماته وتصوراته. ويصحح به اختلالاته وانحرافاته. فبينما –ولا شك- توافق وانسجام. ولكن على هذا الأساس. لا على  أساس أنهما ندان متعادلان، وكفو أحدهما تماماً للآخر! فضلاً عن أن العقل المبرأ من النقص والهوى لا وجود له في دنيا الواقع، وإنما  هو "مثال"!

وقد تأثر تفسير الأستاذ الإمام لجزء عم بهذه النظرة تأثراً واضحاً. وتفسير تلميذه المرحوم الشيخ رشيد رضا وتفسير تلميذه الأستاذ الشيخ المغربي لجزء "تبارك" حتى صرح مرات بوجوب تأويل النص ليوافق مفهوم العقل! وهو مبدأ خطر. فإطلاق كلمة "العقل" يرد الأمر إلى شيء غير واقعي! –كما قلنا- فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان .. وليس هنالك عقل مطلق لا يتناوبه النقص والهوى والشهوة والجهل يحاكم النص القرآني إلى "مقرراته". وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة، فإننا ننتهي إلى فوضى!

وقد نشأ هذا كله من الاستغراق في مواجهة انحراف معين.. ولو أخذ الأمر – في ذاته- لعرف للعقل مكانه ومجال عمله بدون غلو ولا إفراط، وبدون تقصير ولا تفريط كذلك. وعرف للوحي مجاله. وحفظت النسبة بينهما في مكانها الصحيح..

إن "العقل" ليس منفياً ولا مطروداً ولا مهملاً في مجال التلقي عن الوحي، وفهم ما يتلقى وإدراك ما من شأنه أن يدركه، مع التسليم بما هو خارج عن مجاله. ولكنه كذلك ليس هو "الحكم" الأخير. وما دام النص مُحكماً، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحكم. وعلى العقل أن يتلقى مقرراته هو من مدلول هذا النص الصريح. ويقيم منهجه على أساسه (وفي صلب هذا البحث تفصيل واف للحد المأمون والمنهج الإسلامي المستقيم).

ولقد واجه "إقبال" في العالم الشرقي بيئة فكرية "تائهة!" في غيبوبة "إشراقات" التصوف "العجمي" كما يسميه! .. فراغه هذا "الفناء" الذي لا وجود فيه للذاتية الإنسانية. كما راعته "السلبية" التي لا عمل معها للإنسان ولا أثر في هذه الأرض. وليس هذا هو الإسلام بطبيعة الحال – كما واجه من ناحية أخرى التفكير الحسي في المذهب الوضعي، ومذهب التجريبيين في العالم الغربي. كذلك واجه ما أعلنه نيتشه في "هكذا قال زرادشت" عن مولد الإنسان الأعلى (السوبرمان) وموت الإله! وذلك في تخبطات الصرع التي كتبها نيتشه وسماها بعضهم "فلسفة"!.

وأراد أن ينفض  "الفكر الإسلامي" وعن "الحياة الإسلامية" ذلك الضياع والفناء والسلبية. كما أراد أن يثبت للفكر الإسلامي واقعية "التجربة" التي يعتمد عليها المذهب التجريبي ثم المذهب الوضعي!

ولكن النتيجة كانت جموحاً في إبراز الذاتية الإنسانية، اضطر معه إلى تأويل بعض النصوص القرآنية تأويلاً تأباه طبيعتها، كما تأباه طبيعة التصور الإسلامي. لإثبات أن الموت ليس نهاية للتجربة. ولا حتى القيامة. فالتجربة والنمو في الذات الإنسانية مستمران أيضاً-عند إقبال -  بعد الجنة والنار. مع أن التصور الإسلامي حاسم في أن الدنيا دار ابتلاء وعمل، وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وليست هنالك فرصة للنفس البشرية للعمل إلا في هذه الدار. كما أنه لا مجال لعمل جديد في الدار الآخرة بعد الحساب والجزاء.. ولكن هذا الغلو إنما جاء من الرغبة الجازفة في إثبات "وجود" الذاتية، واستمرارها، أو ألـ "أنا" كما استعار إقبال من اصطلاحات هيجل الفلسفية.

ومن ناحية أخرى اضطر إلى إعطاء اصطلاح "التجربة" مدلولاً أوسع مما هو في "الفكر الغربي" وفي تاريخ هذا الفكر. لكي يمد مجاله إلى "التجربة الروحية" التي يزاولها المسلم ويتذوق بها الحقيقة الكبرى. "فالتجربة" بمعناها الاصطلاحي الفلسفي الغربي، لا يمكن أن تشمل الجانب الروحي أصلاً! لأنها نشأت ابتداء لنبذ كل وسائل المعرفة التي لا تعتمد على التجربة الحسية.

ومحاولة استعارة الاصطلاح الغربي، هي التي قادت إلى هذه المحاولة. التي يتضح فيها الشد والجذب والجفاف أيضاً. حتى مع شاعرية إقبال الحية المتحركة الرفافة!

ولست أبتغي أن أنقص من قدر تلك الجهود العظيمة المثمرة في إحياء الفكر الإسلامي وإنهاضه التي بذلها الأستاذ الإمام وتلاميذه، والتي بذلها الشاعر إقبال .. رحمهم الله رحمة واسعة .. وإنما أريد فقط  التنبيه إلى أن دفعة الحماسة لمقاومة انحراف معين، قد تنشئ هي انحرافاً آخر. وأن الأوْلى في منهج البحث الإسلامي، هو عرض حقائق التصور الإسلامي في تكاملها الشامل، وفي تناسقها الهادئ. ووفق طبيعتها الخاصة وأسلوبها الخاص..

*       *       *

وأخيراً فإن هذا البحث ليس كتباً في "الفلسفة" ولا كتاباً في "اللاهوت" ولا كتاباً في "الميتافيزيقا".. إنه عمل يمليه الواقع. وهو يخاطب الواقع أيضاً..

لقد جاء الإسلام لينقذ البشرية كلها من الركام الذي كان ينوء بأفكارها وحياتها ويثقلها. ومن التيه الذي كانت أفكارها وحياتها شاردة فيه. ولينشئ لها تصوراً خاصاً متميزاً متفرداً، وحياة أخرى تسير وفق منهج الله القويم. فإذا بالبشرية كلها اليوم ترتكس إلى التيه وإلى الركام الكريه!

ولقد جاء الإسلام لينشئ أمة، يسلمها قيادة البشرية،لتنأى بها عن التيه وعنا لركام.. فإذا هذه الأمة اليوم تترك مكان القيادة، وتترك منهج القيادة، وتلهث وراء الأمم الضاربة فيا لتيه، وفي الركام الكريه!

ولقد جاء الإسلام لينشئ أمة، يسلمها قيادة البشرية، لتنأى بها عن التيه وعن الركام.. فإذا هذه الأمة اليوم تترك مكان القيادة، وتترك منهج القيادة، وتلهث وراء الأمم الضاربة في التيه، وفي الركام الكريه!

هذا الكتاب محاولة لتحديد خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، التي ينبثق منها منهج الحياة الواقعي- كما أراده الله- ودستور النشاط الفكري والعلمي والفني، الذي لابد أن يستمد من التفسير الشامل الذي يقدمه ذلك التصور الأصيل. وكل بحث في جانب من جوانب الفكرة الإسلامية أو النظام الإسلامي، لابد له من أن يرتكن أولاً إلى فكرة الإسلام.

والحاجة إلى جلاء تلك الفكرة هي حاجة العقل والقلب. وحاجة الحياة والواقع. وحاجة الأمة المسلمة والبشرية كلها على السواء.

وهذا القسم الأول من البحث يتناول "خصائص التصور الإسلامي" وسيتناول القسم الثاني: "مقومات التصور الإسلامي" [والله الموفق والهادي والمعين].


تيه وركام

”أفمن يَمشي مُكبّاً على وجهـه أهـدى؟

أم من يِمْشي سَوِياً على صراطٍ مُستقيم؟"

 

جاء الإسلام، وفي العالم ركام هائل، من العقائد والتصورات، والفلسفات، والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال.. يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة.. والضمير البشري – تحت هذا الركام الهائل – يتخبط في ظلمات وظنون، لا يستقر منها على يقين. والحياة الإنسانية – بتأثير هذا الركام الهائل- تتخبط في فساط وانحلال، وفي ظلم وذل، وفي شقاء وتعاسة، لا تليق بالإنسان، بل لا تليق بقطيع من الحيوان!

وكان التيه الذي لا دليل فيه، ولا هدى ولا نور، ولا قرار ولا يقين .. هو ذلك التيه الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها وصفاتهن وعلاقته بالكون وعلاقة الكون به، وحقيقة الإنسان، ومركزه في هذا الكون، وغاية وجوده الإنساني، ومنهج تحقيقه لهذه الغاية .. ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص.. ومن هذا التيه ومن ذلك الركام كان ينبعث الشر كله في الحياة الإنسانية، وفي الأنظمة التي تقوم عليها.

ولم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، وفي أمر نفسه، وفي غاية وجوده وفي منهج حياته، وفي الارتباطات التي تقوم بين الإنسان والكون، والتي تقوم بين أفراده هو وتجمعاته.. لم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في شيء من هذا كله، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدتهن وفي أمر تصوره لإلهه، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح، في وسط هذا العماء الطاخي، وهذا التيه المضل، وهذا الركام الثقيل.

ولم يكن الأمر كذلك لأن التفكير الديني كان هو طابع القرون الوسطى – كما يقول مفكرو الغرب، فيتلقف قولتهم هذه ببغاوات الشرق! – كلا .. إنما كان الأمر كذلك لأن هناك حقيقتين أساسيتين، ملازمتين للحياة البشرية، وللنفس البشرية، على كل حال، وفي كل زمان:

الحقيقة الأولى: أن هذا الإنسان –بفطرته- لا يملك أن يستقر في هذا الكون الهائل ذرة تائهة مفلتة ضائعة. فلابد من رباط معين بهذا الكون، يضمن له الاستقرار فيه، ومعرفة مكانه في هذا الكون الذي يستقر فيه. فلابد له إذن من عقيدة تفسر له ما حوله، وتفسر له مكانه فيما حوله. فهي ضرورة فطرية شعورية، لا علاقة لها بملابسات العصر والبيئة.. وسنرى حين يتقدم بنا هذا البحث كم كان شقاء الإنسان وحيرته وضلاله حين أخطأ هذا الارتباط، وحقيقة هذا التفسير.

والحقيقة الأخرى: هي أن هناك تلازماً وثيقاً بين طبيعة التصور الاعتقادي، وطبيعة النظام الاجتماعي .. تلازماً لا ينفصل، ولا يتعلق بملابسات العصر والبيئة.. بل إن هناك ما هو أكثر من التلازم.. هناك الانبثاق الذاتي.. فالنظام الاجتماعي هو فرع عن التفسير الشامل لهذا الوجود، ولمركز الإنسان فيه ووظيفته، وغاية وجوده الإنساني. وكل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس هذا التفسير، هو نظام مصطنع. لا يعيش. وإذا عاش فترة شقى به "الإنسان"، ووقع التصادم بينه وبين الفطرة الإنسانية حتماً.. فهي ضرورة تنظيمية، كما أنها ضرورة شعورية.

ولقد كان الرسل – عليهم الصلاة والسلام- من لدن نوح إلى عيسى .. قد بينوا للناس هذه الحقيقة، وعرفوهم بإلههم تعريفاً صحيحاً، وأوضحوا لهم مركز "الإنسان" في الكون، وغاية وجوده .. ولكن الانجرافات الدائمة عن هذه الحقيقة، تحت ضغط الظروف السياسية والشهوات البشيرة، والضعف الإنساني، كانت قد غشت تلك الحقيقة، وأضلت البشرية عنها، وأهالت عليها ركاماً ثقيلاً يصعب رفعه بغير رسالة جديدة كاملة شاملة، ترفع هذا الركام، وتبدد هذا الظلام، وتنير هذا التيه، وتقر التصور الاعتقادي على أساس من الحق الخالص، وتقيم الحياة الإنسانية على أساس مستقر من ذلك التصور الصحيح. وما كان يمكن أن ينصرف أصحاب التصورات المنحرفة في الأرض كلها، وأن ينفكوا عمّا هم فيه، إلا بهذه الرسالة، وإلا بهذا الرسول .. وصدق الله العظيم:

"لم يكن الذين كفروا – من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة. رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة"..

(البينة: 1، 2)

ولا يدرك الإنسان ضرورة هذه الرسالة، وضرورة هذا الانفكاك عن الضلالات التي كانت البشرية تائهة في ظلماتها، وضرورة الاستقرار على يقين واضح في أمر العقيدة .. حتى يطلع على ضخامة ذلك الركام، وحتى يرتاد ذلك التيه، من العقائد والتصورات، والفلسفات والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال، التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري في كل مكان، وحتى يدرك حقيقة البلبلة والتخليط والتعقيد. التي كانت تتخبط فيها بقايا العقائد السماوية، التي دخلها التحريف والتأويل، والإضافات البشرية إلى المصادر الإلهية، والتي التبست بالفلسفات والوثنيات والأساطير سواء!

ولما لم يكن قصدنا –في هذا البحث- هو عرض التصورات، إنما هو عرض التصور الإسلامي، وخصائصه ومقوماته.. فإننا نكتفي بعرض بعض النماذج من التصورات الدينية في اليهودية والمسيحية –كما وصلت إلى عرب الجزيرة- وبعض النماذج من التصورات الجاهلية العربية التي جاء الإسلام فواجهها هناك.

لقد حفلت ديانة بني إسرائيل –اليهودية- بالتصورات الوثنية، وباللوثة القومية على السواء. فبنو إسرائيل- وهو يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام –جاءتهم رسلهم- وفي أولهم أبوهم إسرائيل- بالتوحيد الخالص، الذي علمهم إياه أبوهم إبراهيم. ثم جاءهم نبيهم الأكبر موسى –عليه السلام- بدعوة التوحيد أيضاً مع الشريعة الموسوية المبنية على أساسه. ولكنهم انحرفوا على مدى الزمن، وهبطوا في تصوراتهم إلى الوثنيات، واثبتوا في كتبهم (المقدسة!) وفي صلب (العهد القديم) أساطير وتصورات عن الله –سبحانه- لا ترتفع عن أحط التصورات الوثنية للإغريق وغيرهم من الوثنيين، الذين لم يتلقوا رسالة سماوية، ولا كان لهم من عند الله كتاب..

ولقد كانت عقيدة التوحيد التي أسسها جدهم إبراهيم – عليه السلام- عقيدة خالصة ناصعة شاملة متكاملة واجه بها الوثنية مواجهة حاسمة كما صورها القرآن الكريم، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه قبل أن يموت:

"واتل عليهم نبأ إبراهيم. إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدونه؟ قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين! قال: هل يسمعونكم إذا تدعون؟ أو ينفعونكم أو يضرون؟ قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون! قال: أفرأيتم، ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين .. رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين. واجعل لي لسان صدق في الآخرين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. واغفر لأبي إنه كان من الضالين. ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم".

(الشعراء 69-89)

"ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه؟ ولقد اصطفيناه في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؟ إذ قال لبنيه: ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، إلهاً واحداً ونحن له مسلمون".

(البقرة 130-133)

ومن هذا التوحيد الخالص، وهذه العقيدة الناصعة، وهذا الاعتقاد في الآخرة انتكس الأحفاد. وظلوا في انتكاسهم حتى جاءهم موسى عليه السلام بعقيدة التوحيد والتنزيه من جديد.. والقرآن الكريم يذكر أصول هذه العقيدة التي جاء بها موسى –عليه السلام- لبني إسرائيل، ويذكر تراجعهم عنها:

"وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل: لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً، وذي القربى واليتامى والمساكين. وقولوا للناس حسناً. وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون. وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان…".

(البقرة 83-85)

"ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. وإذ أخذنا ميثاقكم، ورفعنا فوقكم الطور. خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا. قالوا: سمعنا وعصينا، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. قل: بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين".

(البقرة: 92-93)

ولقد بدا انحرافهم، وموسى عليه السلام بين أظهرهم .. من ذلك عبادتهم للعجل الذي صنعه لهم السامري، من الذهب الذي حملوه معهم من حلي نساء المصريين. وهو العجل الذي أشير إليه في الآيات السابقة.. وقبل ذلك كانوا قد مرّوا عقب خروجهم من مصر، على قوم يعبدون الأصنام، فطلبوا إلى موسى عليه السلام أن يقيم لهم صنماً يعبدونه!

"وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم. قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبّر ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون".

(الأعراف: 138-139)

وكذلك حكى القرآن الكثير عن انحرافهم وسوء تصورهم لله سبحانه وشركهم ووثنيتهم:

"وقالت اليهود عزير ابن الله" ..

(التوبة: 30)

"وقالت اليهود: يد الله مغلولة: غُلت أيديهم ولُعنوا بما قالوا: بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"..

(المائدة: 64)

"لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء. سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق. ونقول: ذوقوا عذاب الحريق"..

(آل عمران: 181)

"وإذ قلتم: يا موسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون".

(البقرة: 55)

ومن لوثة القومية واعتقادهم أن إلههم إله قومي! لا يحاسبهم بقانون الأخلاق إلا في سلوكهم مع بعضهم البعض. أما الغرباء –غير اليهود- فهو لا يحاسبهم معهم على سلوك معيب! .. من هذه اللوثة كان قولهم الذي حكاه القرآن الكريم:

"ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً. ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون".

(آل عمران: 75)

وقد تضمنت كتبهم المحرفة أوصافاً لإلههم لا ترتفع كثيراً على أوصاف الإغريق في وثنيتهم لآلهتم:

جاء في الإصحاح الثالث من سفر التكوين: (بعد ارتكاب آدم لخطيئة الأمل من الشجرة. وهي كما يقول كاتب الإصحاح: شجرة معرفة الخير والشر):

"وسمعنا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله، في وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم. وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان، فختبأت. فقال من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟.

"وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً! ويأكل ويحيا إلى الأبد.. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ليعمل في الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان. وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب، لحراسة شجرة الحياة!".

وعن سبب الطوفان جاء في هذا السفر نفسه:

"وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنهم نساءً من كل ما اختاروا. فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيغانه. هو بشر. وتكون أيامه مئة وعشرين سنة.. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام .. وبعد ذلك أيضاً. إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن أولاداً. هؤلاء هم الجبابرة، الذين منذ الدهر ذوو اسم!!!

"ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض. وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلفته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم. وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب".

وجاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين (بعد ما عمرت الأرض بذرية نوح):

"وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة. وحدث في ارتحالهم شرقاً أنهم وجدوا نعمة في أرض شنعار، وسكنوا هناك. وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لبناً ونشويه شيا، فكان لهم اللبن مكان الحجر. وكان لهم الحمر مكان الطين. وقالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسماً لئلا نتبدد على وجه كل الأرض.. فنزل الرب المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دعى اسمها (بابل) لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض"!!!

وجاء في سفر صموئيل الثاني: الإصحاح الرابع والعشرين: "فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد. فمات من الشعب –من دان إلى بئر سبع- سبعون ألف رجل. وبسط الملاك يده على أورشليم. فندم الرب عن الشر. فقال للملاك المهلك الشعب: كفى الآن رويدك!"..

ولم تكن الحال مع النصرانية خيراً مما كانت مع اليهودية. بل كان الأمر أدهى وأمر.. عبرت النصرانية إلى الدولة الرومانية الوثنية في أشد عصور الوثنية والانحلال في هذه الدولة. ثم أخذت تنتشر حتى استطاعت أن تولي قسطنطين امبراطوراً في سنة 305 ميلادية. ومن ثم دخلت الإمبراطورية الرومانية في النصرانية. لا لتخضع للنصرانية. ولكن لتخضع النصرانية لوثنيتها العريقة. وفي هذا يقول الكاتب الأمريكي: درابر في كتابه: "الصراع بين الدين والعلم"

"دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين، الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومانية، بتظاهرهم بالنصرانية. ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين. ولم يخلصوا له يوماً من الأيام. وكذلك كان قسطنطين .. فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره سنة 337 ميلادية.

"إن الجماعة النصرانية، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية، وتقتلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتاً، ونشر عقائده خالصة بغير غبش.

"وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين – النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما. حتى أن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ونقحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها([7])".

ولكن الديانة الجديدة لم تتخلص قط من أناس الوثنية وأرجاسها، وتصوراتها الأسطورية –كما أمّل النصارى الراسخون- فقد ظلت تتلبس بالخلافات السياسية والعنصرية والطائفية، تلبسها بالأساطير الوثنية والتصورات الفلسفية. ووقع انقسام في التصور بغير حد:

قالت فرقة: إن المسيح إنسان محض. وقالت فرقة: إن الأب والابن وروح القدس إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس. فالله –بزعمهم- مركب من أقانيم ثلاثة: الأب وروح القدس؟ (الابن هو المسيح) فانحدر الله، الذي هو الأب، في صورة روح القدس وتجسد في مريم إنساناً، وولد منها في صورة يسوع. وفرقة قالت: إن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له. وفرقة أنكرت كون روح القدس أقنوماً .. وقرر مجمع نيقية سنة 325ميلادية، ومجمع القسطنطينية سنة 381 أن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن روح القدس منبثق من الأب .. وقرر مجمع طليطلة سنة 589 بأن روح القدس منبثق من الابن أيضاً. فاختلفت الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وظلتا مختلفتين .. كذلك ألهت جماعة منهم مريم كما ألّهو المسيح عليه السلام ..

ويقول الدكتور ألفرد بتلر في كتابه: "فتح العرب لمصر. ترجمة الأستاذ محمد فريد أبو حديد":

"عن ذينك القرنين –الخامس والسادس- كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين. نضال يذكيه اختلاف في الجنس، واختلاف في الدين. وكان اختلاف الدين أشد من اختلاف الجنس. إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك العداوة بين الملكانية والمنوفيسية. وكانت الطائفة الأولى – كما يدل عليه اسمها- حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملك والبلاد وكانت تعتقد العقيدة السية الموروثة- وهي ازدواج طبيعة المسيح- على حين أن الطائفة الأخرى – وهي حزب القبط الموفيسيين –أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حرباً عنيفة. في حماسة هوجاء، يصعب علينا أن نتصورها، أو نعرف كنهها في قوم يعقلون، بله يؤمنون بالإنجيل!".

ويقول "سيرت. و. أرنولد" في كتابه: "الدعوة إلى الإسلام" عن هذا الخلاف، ومحاولة هرقل لتسويته بمذهب وسط:

"ولقد أفلح جستنيان Justinian قبل الفتح الإسلامي بمئة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكنها سرعان ما تصدعت بعد موتهن وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة. أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس، أن يقف كل ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات، وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وبينهم وبين الحكومة المركزية.

"وكان مجمع خلقيدونه قد أعلن في سنة 451م "أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين، لا اختلاط بينهما، ولا تغير ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي اختلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها، وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد، لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين. بل متجمعة في أقنوم واحد: هو ذلك الابن الواحد والله والكلمة.

"وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع. وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: إنه مركب الأقاليم، له كل الصفات الإلهية والبشرية. ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية، بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم.

"وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام، والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطيةن في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة: Monotheletism: ففي الوقت الذي نجد هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد، الذي هو ابن الله، يحقق الجانب الإنساني، والجانب الإلهي. بقوة إلهية إنسانية واحدة. ومعنى ذلك أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة.

"لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداًن ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام، ذلك أن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون الاحتدام فحسب. بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين سواء"([8])!

وقد ورد في القرآن الكريم بعض الإشارات إلى هذه الانحرافات، ونهى لأهل الكتاب عنها، وتصحيح حاسم لها، وبيان لأصل العقيدة النصرانية كما جاءت من عند الله، قبل التحريف والتأويل:

"لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار.. لقد كفر الذين قالوا: عن الله ثالث ثلاثة. وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه، والله غفور رحيم؟ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبين لهم الآيات، ثم انظر أنى يؤفكون. قل: أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً؟ والله هو السميع العليم. قل: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل"…

(المائدة: 72-77)

"وقالت اليهود عزير ابن الله. وقالت النصارى المسيح ابن الله. ذلك قولهم بأفواهم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله أنى يؤفكون؟"…

(التوبة: 30)

"وإذا قال الله: يا عيسى ابن مريم، أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال سبحانك! ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. إن كنت قلته فقد علمته. تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم. وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم. فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد. إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"…

(المائدة: 116-118)

"وهكذا نرى مدى الانحراف الذي دخل على النصرانية، من جراء تلك الملابسات التاريخية، حتى انتهت إلى تلك التصورات الوثنية الأسطورية، التي دارت عليهم الخلافات والمذابح عدة قرون!

أما الجزيرة العربية التي نزل فيها القرآن، فقد كانت تعج بركام العقائد والتصورات. ومن بينها ما نقلته من الفرس وما تسرب إليها من اليودية والمسيحية في صورتهما المنحرفة.. مضافاً إلى وثنيتها الخاصة المتخلفة من الانحرافات في ملة إبراهيم التي ورثها العرب صحيحة ثم حرفوها ذلك التحريف. والقرآن يشير إلى ذلك الركام كله بوضوح:

زعموا أن الملائكة بنات الله –مع كراهيتهم هم للبنات!- ثم عبدوا الملائكة- أو تماثيلها الأصنام- معتقدين أن لها عند الله شفاعة لا ترد، وأنهم يتقربون بها إليه سبحانه:

"وجعلوا له من عباده جزءاً. إن الإنسان لكفور مبين. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟! وجعلوا الملائكة –الذين هم عباد الرحمن- إناثاً. أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم. ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون"…

(الزخرف: 15-20)

"ألا لله الدين الخالص. والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار. لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء. سبحانه هو الله الواحد القهار"..

(الزمر: 3-4)

"ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.قل: أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض؟ سبحانه وتعالى عما يشركون"..

(يونس:18)

وزعموا أن بين الله –سبحانه- وبين الجنة نسباً. وأن له –سبحانه- منهم صاحبة. ولدت له الملائكة! وعبدوا الجن أيضاً.. قال الكلبي في كتاب الأصنام: "كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن"([9]).

وجاء في القرآن الكريم عن هذه الأسطورة:

"فاستفتهم: ألربك البنات ولهم البنون؟ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون؟.

ألا إنهم من إفكهم ليقولون: ولد الله. وإنهم لكاذبون. اصطفى البنات على البنين؟ ما لكم؟؟ كيف تحكمون؟ أفلا تذكرون؟ أم لكم سلطان مبين؟ فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين. وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً، ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون. سبحان الله عما يصفون"…

(الصافات: 149-159)

"ويوم يحشرهم جميعاً، ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا: سبحانك! أنت ولينا من دونهم. بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون"…

(سبأ: 40-41)

وشاعت بينهم عبادة الأصنام إما بوصفها تماثيل للملائكة، وإما بوصفها تماثيل للأجداد، وإما لذاتها. وكانت الكعبة، التي بنيت لعبادة الله الواحد، تعج بالأصنام، إذ كانت تحتوي على ثلاثمائة وستين صنماً. غير الأصنام الكبرى في جهات متفرقة. ومنها ما ذكر في القرآن بالاسم كاللات والعزى ومناة. ومنها هبل الذي نادى أبو سفيان باسمه يوم "أحد" قائلاً: اعلُ هبل!

ومما يدل على أن اللات والعزى ومناة كانت تماثيل للملائكة ما جاء في القرآن في سورة النجم:

"أفرأيتم اللاّت والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى؟ ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذن قسمة ضيزي! عن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. أم للإنسان ما تمنى؟ فلله الآخرة والأولى. وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً. إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى. وما لهم به من علم، إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"…

(النجم: 19-28)

وانحطت عبادة الأصنام فيهم حتى كانوا يعبدون جنس الحجر!

روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: "كنا نعبد الحجر. فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر! فإذا لم نجد جمعنا جثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه، ثم طفنا به"([10]).

وقال الكلبي في كتاب الأصنام: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، فجعله ربّاً، وجعل ثلاث أثافيّ لقدره. وإذا ارتحل تركه"([11]).

وعرفوا عبادة الكواكب – كما عرفها الفرس من بين عباداتهم-قال صاعد: كانت حمير تعبد الشمس. وكنانة القمر. وتميم الدبران. ولخمٌ وحذامٌ المشترى. وطيئُ سهيلاً. وقيسُ الشعري العبّور. وأسدٌ عطارد"([12]).

وقد جاء عن هذا في سورة فصلت:

"لا تسجدوا للشمس ولا للقمر. واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون"…

(فصلت: 37)

وجاء في سورة النجم:

"وأنه هو رب الشعرى"…

(النجم: 49)

وكثرت الإشارات إلى خلق النجوم والكواكب وربوبية الله سبحانه لها كبقية خلائقه. وذلك لنفي ألوهية الكواكب وعبادتها..

وعلى العموم فقد تغلغلت عقائد الشرك في حياتهم. فقامت على أساسها الشعائر الفاسدة، التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة.. من ذلك جعلهم بعض ثمار الزروع، وبعض نتاج الأنعام خاصاً بهذه الآلهة المدعاة، لا نصيب فيه لله –سبحانه- وأحياناً يحرمونها على أنفسهم. أو يحرمون بعضها على إناثهم دون ذكورهم. أو يمنعون ظهور بعض الأنام على الركوب أو الذبح. وأحياناً يقدمون أبناءهم ذبائح لهذه الآلهة في نذر. كالذي روى عن نذر عبد المطلب أن يذبح ابنه العاشر، إن وهُب عشرة أبناء يحمونه. فكان العاشر عبد الله.. ثم افتداه من الآلهة بمئة ناقة!.. وكان أمر الفتوى في هذه الشعائر كلها للكواهن والكهان!

وفي هذا يقول القرآن الكريم:

"وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً. فقالوا: هذا لله –بزعمهم- وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله. وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون! وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله ما فعلوه. فذرهم وما يفترون. وقالوا: هذه أنعام وحرث حِجر، لا يطعمها إلا من نشاء –بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها. وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها –افتراء عليه- سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرمٌ على أزواجنا. وإن يكن ميتةً فهم فيه شركاء.. سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله. قد ضلوا ما كانوا مهتدين"..

(الأنعام: 136-140)

وكانت فكرة التوحيد الخالص هي أشد الأفكار غرابة عندهم، هي وفكرة البعث سواء. ذلك مع اعترافهم بوجود الله –سبحانه وتعالى- وأنه الخالق للسماوات والأرض وما بينهما. ولكنهم ما كانوا يريدون أن يعترفوا بمقتضى الوحدانية هذه وهو أن يكون الحكم لله وحده في حياتهم وشؤونهم، وأن يتلقوا منه وحده الحلال والحرام، وأن يكون إليه وحده مرد أمرهم كله في الدنيا والآخرة. وأن يتحاكموا في كل شيء إلى شريعته ومنهجه وحده .. الأمر الذي لا يكون بغيره دين ولا إيمان. يدل على ذلك ما حكاه القرآن الكريم من معارضتهم الشديدة لهاتين الحقيقتين:

"وعجبوا أن جاءهم منذر منهم. وقال الكافرون: هذا ساحر كذاب. اجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق"…

(ص: 4-7)

" وقال الذين كفروا: هل ندلكم على رجل بنبئكم –إذا مزقتم كل ممزق- إنكم لفي خلق جديد؟ أفترى على الله كذباً أم به جنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد"..

هذه هي الصورة الشائهة للتصورات في الجزيرة العربية نضيفها إلى ذلك الركام من بقايا العقائد السماوية المنحرفة، التي كانت سائدة في الشرق والغرب، يوم جاء الإسلام، فتتجمع منها صورة مكتملة لذلك الركام الثقيل، الذي كان يجثم على ضمير البشرية في كل مكان، والذين كانت تنبثق منه أنظمتهم وأوضاعهم وآدابهم وأخلاقهم كذلك([13]).

ومن ثم كانت عناية الإسلام الكبرى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد الصورة الصحيحة التي يستقر عليها الضمير البشري في حقيقة الأولوهية، وعلاقتها بالخلق، وعلاقة الخلق بها.. فتستقر عليها نظمهم وأوضاعهم، وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وآدابهم وأخلاقهم كذلك. فما يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها، إلا أن تستقر حقيقة الألوهية، وتتبين خصائصها واختصاصاتها. وعني الإسلام عناية خاصة بإيضاح طبيعة الخصائص والصفات الإلهية المتعلقة بالخلق والإرادة والهيمنة والتدبير .. ثم بحقيقة الصلة بين الله والإنسان.. فلقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه العقائد والفلسفات، مما يتعلق بهذا الأمر الخطير الأثر في الضمير البشري وفي الحياة الإنسانية كلها.

ولقد جاء الإسلام –وهذا ما يستحق الانتباه والتأمل- بما يعد تصحيحاً لجميع أنواع البلبلة، التي وقعت فيها الديانات المحرفة، والفلسفات الخابطة في الظلام. وما يعد رداً على جميع الانحرافات والأخطاء التي وقعت فيها تلك الديانات والفلسفات .. سواء ما كان منها قبل الإسلام وما جدّ بعده كذلك .. فكانت هذه الظاهرة العجيبة إحدى الدلائل على مصدر هذا الدين .. المصدر الذي يحيط بكل ما هجس في خاطر البشرية وكل ما يهجس، ثم يتناوله بالتصحيح والتنقيح!

والذي يراجع ذلك الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله –سبحانه- وفي صفاته. وفي علاقته بالخلق وعلاقة الخلق به .. ذلك الجهد الذي تمثله النصوص الكثيرة –كثرة ملحوظة- في القرآن المكي بصفة خاصة، وفي القرآن كله على وجه العموم..

الذي يراجع ذلك الجهد المتطاول، دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل، في ذلك التيه الشامل، الذي كانت البشرية كلها تخبط فيه، والذي ظلت تخبط فيه أيضاً كلما انحرفت عن منهج الله أو صدت عنه، واتبعت السبل، فتفرقت بها عن سبيله الواحد المستقيم..

الذي يراجع ذلك الجهد، دون أن يراجع ذلك الركام، قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر في القرآن، وإلى هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير وكل مسالك الحياة.

ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد، كما تكشف عن عظمة الدور الذي جاءت هذه العقيدة لتؤديه في تحرير الضمير البشري وإعتاقه، وفي تحرير الفكر البشري وإطلاقه، وفي تحرير الحياة. والحياة تقوم على أساس التصور الاعتقادي كيفما كان.

عندئذ ندرك قيمة هذا التحرر في إقامة الحياة على منهج سليم قويم، يستقيم به أمر الحياة البشرية، وتنجو به الفساد والتخبط ومن الظلم أو الاستذلال .. وندرك قيمة قول عمر –رضي الله عنه- "ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية".. فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمة الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المتحققة به.

إن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها، وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها .. إن هذا كله لا يتجلى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية –السابقة للإسلام واللاحقة- عندئذ تبدو هذه العقيدة رحمة .. رحمة حقيقية .. رحمة للقلب والعقل. ورحمة بالحياة والأحياء. رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق..

وصدق الله العظيم:

"أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى؟ أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم؟".


خصائص التصور الإسلامي

"صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟"

 

للتصور الإسلامي خصائصه المميزة، التي تفرده من سائر التصورات، وتجعل له شخصيته المستقلة، وطبيعته الخاصة، التي لا تتلبس بتصور آخر، ولا تستمد من تصور آخر.

هذه الخصائص تتعدد وتتوزع، ولكنها تتضام وتتجمع عند خاصية واحدة، هي التي تنبثق منها وترجع إليها سائر الخصائص .. خاصية الربانية..

إنه تصور رباني. جاء من عند الله بكل خصائصه، وبكل مقوماته، وتلقّاه "الإنسان" كاملاً بخصائصه هذه ومقوماته، لا ليزيد عليه من عنده شيئاً، ولا لينقص كذلك منه شيئاً. ولكن ليتكيف هو به وليطبق مقتضياته في حياته..

وهو –من ثم- تصور غير متطور في ذاته، إنما تتطور البشرية في إطاره، وترتقي في إدراكه وفي الاستجابة له. وتظل تتطور وتترقى، وتنمو وتتقدم، وهذا الإطار يسعها دائماً، وهذا التصور يقودها دائماً. لأن المصدر الذي أنشأ هذا التصور، هو نفسه المصدر الذي خلق الإنسان. هو الخالق المدبر، الذي يعلم طبيعة هذا الإنسان، وحاجات حياته المتطورة على مدى الزمان. وهو الذي جعل في هذا التصور من الخصائص ما يلبي هذه الحاجات المتطورة في داخل هذا الإطار.

وإذا كانت التصورات والمذاهب والأنظمة التي يضعها البشر لأنفسهم – في معزل عن هدي الله –تحتاج دائماً إلى التطور في أصولها، والتحور في قواعدها، والانقلاب أحياناً عليها كلها حين تضيق عن البشرية في حجمها المتطور! وفي حاجاتها المتطورة.. إذا كانت تلك التصورات والمذاهب والأنظمة التي هي من صنع البشر، تتعرض لهذا وتحتاج إليه، فذلك لأنها من صنع البشر! الشر القصار النظر! الذين لا يرون إلا ما هو مكشوف لهم من الأحوال والأوضاع والحاجات في فترة محدودة من الزمان، وفي قطاع خاص من الأرض.. رؤية فيها –مع هذا- قصور الإنسان وجهل الإنسان، وشهوات الإنسان، وتأثرات الإنسان. فأما التصور الإسلامي –بربانيته- فهو يخالف في أصل تكوينه وفي خصائصه، تلك التصورات البشرية، ومن ثم لا يحتاج – في ذاته- إلى التطور والتغير .. فالذي وضعه يرى بلا حدود من الزمان والمكان. ويعلم بلا عوائق من الجهل والقصور. ويختار بلا تأثر من الشهوات والانفعالات. ومن ثم يضع للكينونة البشرية كلها، في جميع أزمانها وأطوارها .. أصلاً ثابتاً، لتدور الحياة البشرية حوله، وتتحرك في إطاره. وهو مصنوع بحيث يسعها دائماً ويشدها دائماً. وهي تنمو وترتقي. وهي تتطور وتتحرك إلى الأمام.

وهو –من ثم- كامل متكامل. لا يقبل تنمية ولا تكميلا، كما لا يقبل "قطع غيار" من خارجه. فهو من صنعة الله، فلا يتناسق معه ما هو من صنعة غيره. والإنسان لا يملك أن يضيف إليه شيئاً، ولا يملك أن يعدل به دائماً إلى الأمام .. جاء ليضيف إلى قلبه وعقله، وإلى حياته وواقعه. جاء ليوقظ كل طاقات الإنسان واستعداداته، ويطلقها تعمل في إيجابية كاملة، وفي ضبط كذلك وهداية، وتؤتى أقصى ثمراتها الطيبة، مصونة من التبدد في غير ميدانها، ومن التعطل عن إبراز مكنونها، ومن الانحراف عن طبيعتها ووجهتها، ومن الفساد بأي من عوامل الفساد.. وهو لا يحتاج –في هذا كله- إلى استعارة من خارجه، ولا إلى دم غير دمه! ولا إلى منهج غير منهجه. بل إنه ليحتم أن يتفرد هو في حياة البشر، بمفهوماته وإيحاءاته ومنهجه ووسائله وأدواته. كي تتناسق حياة البشر مع حياة الكون- الذي تعيش في إطاره – ولا تصطدم حركته بحركة الكون فيصيبها العطب والدمار!.

وهو –من ثم- شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً. ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيراً. ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعاً. بما أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي خلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير. فليس أمامه –سبحانه- مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة .. ومن ثم فقد وضع له التصور الصحيح. الشامل لكل جوانب كينونته، ولكل أطوار حياته.. المتوازن مع كل جوانب كينونته ومع كل أطوار حياته. الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كل ظروف حياته.

وهو – من ثم- الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان وفي كل زمان، بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمهن وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله.. ليعلم أين هو من الحق. وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هنالك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن .. إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير وأحسن تأويلاً".

(النساء: 59)

وفي خاصية التصور الإسلامي الأساسية –التي تحدد طبيعته- وفي سائر الخصائص التي تنبثق منها .. يرى بوضوح تفرد هذا التصور، وتميز ملامحه، ووضوح شخصيته بحيث يصبح من الخطأ المنهجي الأصيل محاولة استعارة أي ميزان، أو أي منهج من مناهج التفكير المتداولة في الأرض –في عالم البشر- للتعامل بها مع هذا التصور الخاص المستقل الأصيل. أو الاقتباس منها والإضافة إلى ذلك التصور الرباني الكامل الشامل.

وسنرى هذا بوضوح كلما تقدمنا في هذا البحث. فنكتفي الآن بتقرير هذه القاعدة التي لا بد من مراعاتها جيداً في كل بحث إسلامي، في أي قطاع من قطاعات الفكر الإسلامية أو المنهج الإسلامي .. فهذا هو مفرق الطريق..

والآن فلننظر في هذه الخاصية الأساسية، وفي الخصائص التي تنبثق منها، بشيء من البيان والتفصيل..

 


الربانيــة

"قل: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم"

 

الربانية أولى خصائص التصور الإسلامي، ومصدر هذه الخصائص كذلك.. فهو تصور اعتقادي موحى به من الله –سبحانه- ومحصور في هذا المصدر لا يستمد من غيره .. وذلك تمييزاً من التصورات الفلسفية التي ينشئها الفكر البشري حول الحقيقة الإلهية، أو الحقيقة الكونية، أو الحقيقة الإنسانية، والارتباطات القائمة بين هذه الحقائق، وتمييزاً له كذلك من المعتقدات الوثنية، التي تنشئها المشاعر والأخيلة والأوهام والتصورات البشرية.

ويستطيع الإنسان أن يقول –وهو مطمئن-: إن التصور الإسلامي هو التصور الاعتقادي الوحيد الباقي بأصله "الرباني" وحقيقته "الربانية". فالتصورات الاعتقادية السماوية، التي جاءت بها الديانات قبله، قد دخلها التحريف – في صورة من الصور- كما رأينا. وقد أضيفت إلى أصول الكتب المنزلة، شروح وتصورات وتأويلات وزيادات، ومعلومات بشرية، أدمجت في صلبها، فبدلت طبيعتها "الربانية". وبقي الإسلام –وحده- محفوظ الأصول، لم يشب نبعه الأصيل كدر، ولم يلبس فيه الحق بالباطل. وصدق وعد الله في شأنه:

"إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون" …

(الحجر: 9)

وهذه هي الحقيقة المسلمة، التي تجعل لهذا التصور قيمته الفريدة.

ومفرق الطريق بين التصور الفلسفي والتصور الاعتقادي –بصفة عامة- أن التصور الفلسفي ينشأ في الفكر البشري – من صنع هذا الفكر – لمحاولة تفسير الوجود وعلاقة الإنسان به. ولكنه يبقى في حدود المعرفة الفكرية الباردة. فأما التصور الاعتقادي –في عمومه- فهو تصور ينبثق في الضمير، ويتفاعل مع المشاعر، ويتلبس بالحياة. فهو وشيجة حية بين الإنسان والوجود. أو بين الإنسان وخالق الوجود.

ثم يتميز التصور الإسلامي بعد ذلك عن التصور الاعتقادي –في عمومه- بأنه –كما أسلفنا- تصور رباني، صادر من الله للإنسان. وليس من صنع الإنسان. تتلقاه الكينونة الإنسانية بجملتها من بارئها. وليست الكينونة الإنسانية هي التي تنشئه، كما تنشئ التصور الوثني، أو التصور الفلسفي –على اختلاف ما بينهما- وعمل الإنسان فيه هو تلقيه وإدراكه والتكيف به، وتطبيق مقتضياته في الحياة البشرية.

وينص المصدر الإلهي الذي جاءنا بهذا التصور –وهو القرآن الكريم- على أنه كله من عند الله. هبة للإنسان من لدنه، ورحمة له من عنده. وأن الفكر البشري –ممثلاً ابتداءً في فكر الرسول –صلى الله عليه وسلم – أو فكر الرسل كلهم – باعتبار أنهم جميعاً أرسلوا بهذا التصور في أصله – لم يشارك في إنشائه. وإنما تلقاه تلقياً، ليهتدي به ويهدي. وأن هذه الهداية عطية من الله كذلك، يشرح لها الصدور. وأن وظيفة الرسول –أي رسول- في شأن هذا التصور، هي مجرد النقل الدقيق، والتبليغ الأمين، وعدم خلط الوحي الذي يوحي إليه من عند الله بأي تفكير بشري – أو كما يسميه الله سبحانه بالهوى! أما هداية القلوب به، وشرح الصدور له، فأمر خارج عن اختصاص الرسول، ومرده إلى الله وحده في النهاية:

"وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض. ألا إلى الله تصير الأمور"…

(الشورى: 52-53)

"والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى"…

(النجم: 1-4)

"ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين"…

(الحاقة: 44-47)

"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك. وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"…

(المائدة: 67)

"إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين"…

(القصص: 56)

"فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء"…

(الأنعام: 125)

وهذا التوكيد على مصدر هذا التصور، هو الذي يعطيه قيمته الأساسية، وقيمته الكبرى.. فهو وحده مناط الثقة في أنه التصور المبرأ من النقص، المبرأ من الجهل، المبرأ من الهوى .. هذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع التصورات التي صاغها البشر ابتداء من وثنيات وفلسفات. أو التي تدخل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة! وهو كذلك مناط الضمان في انه التصور الموافق للفطرة الإنسانية، الملبي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها. ومن ثم فهو التصور الذي يمكن أن ينبثق منه، ويقوم عليه، أقوم منهج للحياة وأشمله.

ولكن إذا كان الفكر البشري لم ينشئ هذا التصور، فإنه ليس منفياً من مجاله، ولا محظوراً عليه العمل فيه. بيد أن عمله هو التلقي والإدراك والتكيف والتطبيق في واقع الحياة .. غير أن القاعدة المنهجية الصحيحة للتلقي – كما أشرنا في "كلمة عن المنهج" – هي هذه .. إنه ليس للفكر البشري أن يتلقى هذا التصور بمقررات سابقة، يستمدها من أي مصدر آخر، أو يستمدها من مقولاته هو نفسه، ثم يحاكم إليها هذا التصور، ويزنه بموازينها.. إنما هو يتلقى موازينه ومقرراته من هذا التصور ذاته، ويتكيف به، ويستقيم على منهجه. كما يتلقى الحقائق الموضوعية في هذا التصور من المصدر الإلهي الذي جاء بها، لا من أي مصدر آخر خارجه. ثم هو الميزان الذي يرجع بكافة ما يعين له، من مشاعر وأفكار، وقيم وتصورات، في مجرى حياته الواقعية كذلك. ليزنها عنده، ويعرف حقها من باطلها، وصحيحها من زائفها:

"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"…

(النساء: 59)

وفي الوقت ذاته يعتبر الفكر البشري – في ميزان هذا التصور- أداة قيمة وعظيمة، يوكل إليها إدراك خصائص هذا التصور ومقوّماته – مستقاة من مصدرها الإلهي- وتحكيمها في كل ما حوله من القيم والأوضاع. دون زيادة عليها من خارجها، ودون نقص كذلك منها .. ويبذل منهج التربية الإسلامي لهذه الأداة العظيمة من الرعاية والعناية، لتقويمها وتسديدها وابتعاثها للعمل، في كل ميدان هي مهيأة له .. الشيء الكثير([14]).

على أن "الفكر" ليس وحده الذي يتلقى هذا التصور. إنما هو يشارك في تلقيه. فميزة هذا التصور – المنبثقة من خاصية الربانية- أنه يلبي الكينونة الإنسانية بجملتها .. ويدخل كذلك في دائرة إدراكها.. والذي لا تدركه منه إدراك ماهية وحقيقة، أو إدراك عليه أو كيفية .. لا يتعذر عليه التسليم به في طمأنينة. لنه داخل في مفهوم منطقها المعقول. منطقها الذي يسلم بالحقيقة البسيطة: حقيقة أن المجال الذي يتناوله هذا التصور – بما فيه من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها، ومن تعلق إرادة الله بالخلق وكيفيته – أكبر وأوسع من الكينونة الإنسانية بجملتها. فهو مجال السرمدية الأزلية الأبدية الكلية المطلقة. والكينونة الإنسانية – ككل ما هو مخلوق حادث – متحيزة في حدود من الزمان والمكان، لا تملك مجاوزتها على الإطلاق، ولا تملك من باب أولى الإحاطة بالكلي المطلق بأي حال:

"يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا. لا تنفذون إلا بسلطان"…

(الرحمن: 33)

"لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير"…

(الأنعام: 103)

ومن ثم فلا قدرة للكينونة البشرية بجملتها – لا الفكر وحده- على العمل خارج هذه الحدود. إنما وظيفتها أن تتلقى من الذات الإلهية المطلقة المحيطة بالوجود. وأن تتلقى في حدود طبيعة الإنسان، وفي حدود وظيفته.

ونزيد هذه الجملة الأخيرة إيضاحاً.. فالإنسان محكوم أولاً، بطبيعته: طبيعة أنه مخلوق حادث. ليس كلياً ولا مطلقاً. ليس أزلياً ولا أبدياً. ومن ثم فإن إدراكه لابد أن يكون محدوداً بما تحده به طبيعته .. ثم هو محدود بوظيفته. وظيفة الخلافة في الأرض لتحقيق معنى العبادة لله فيها –كما سيجئ- ومن ثم فقد وهُب من الإدراك ما يناسب هذه الخلافة. بلا نقص ولا زيادة .. وهناك أمور كثيرة لا يحتاج إليها في وظيفته هذه. ومن ثم لم يوهب القدرة على إدراكها –إدراك ماهية أو إدراك كيفية- وإن كان موهوباً أن يدرك إمكانها. وأن يحيل هذا على معرفته بطلاقة المشيئة الإلهية من ناحية، ومن ناحية أخرى على معرفته بأنه هو مخلوق حادث، غير كلي ولا مطلق، فلا يمكن –من ثم- أن يحيط بخصائص الأزلي الأبدي، الذي هو بكل شيء محيط.

والقرآن الكريم يشير إلى بعض هذه الجوانب، التي لم يزوَّد هذه الجوانب، التي لم يزوَّد الإنسان بالقدرة على الإحاطة بها .. بماهيتها أو بكيفيتها .. إما لأنها لا تدخل في حدود طبيعة البشرية المحدودة. وإما لأنها لا تلزم له في النهوض بوظيفته المحددة كذلك .. كما يشير إلى طريقة الفطرة السليمة المؤمنة في تلقي هذه الجوانب، وطريقة الفطرة المنحرفة الزائغة:

من هذه الجوانب مسألة كنه الذات الإلهية. فالكينونة الإنسانية لا تدركها وليس مما تعرفه شيء يماثلها فيمكن أن تقابلها به، وتقيسها عليه:

"لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"..

(الأنعام: 103)

"ليس كمثله شيء" ..

(الشورى: 11)

"فلا تضربوا لله الأمثال" …

(النحل: 74)

ومنها مسألة المشيئة الإلهية وكيفية تعلقها بالخلق:

"قال: رب أنى يكون لي غلام، وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر؟ قال: كذلك الله يفعل ما يشاء"..

(آل عمران: 40)

"قالت: رب أنى يكون لي ولد، ولم يمسسني بشر؟ قال: كذلك الله يخلق ما يشاء. إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون" …

(آل عمران: 47)

هكذا دون بيان للكيفية، لأنها فوق إدراك الكينونة البشرية. وكل من أراد من البشر بيانا لكيفية تخبط وخلّط، لأنه قاسها على كيفيات عمل الإنسان، وشتان شتان([15]).!

ومنها مسألة الروح – سواء كان المقصود بها: "الحياة" أو "جبريل" أو "الوحي":

"ويسألونك عن الروح. قل: الروح من أمر ربي. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" …

(الإسراء: 85)

ومنها مسألة الغيب المحجوب عن العلم البشري، إلا بالقدر الذي يأذن به الله لمن يشاء:

"وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو"…

(الأنعام: 59)

"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً. إلا من ارتضى من رسول"..

(الجن: 36، 27)

"قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب" …

(الأنعام: 50)

"وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي ارض تموت" …

(لقمان: 34)

ومن هذا الغيب خاصة مسألة موعد الساعة:

"إن الله عنده علم الساعة"…

(لقمان: 34)

"يسألونك عن الساعة: أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها! إلى ربك منتهاها. إنما أنت منذر من يخشاها. كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها"..

(النازعات: 24-46)

"بل تأتيهم بغتة فتبهتهم، فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون" …

(الأنبياء: 40)

ويبين الله –سبحانه- كيف ينبغي تلقي هذه وأمثالها، مما هو فوق مدركات الكينونة البشرية:

"هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات هن أم الكتاب. وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله – وما يعلم تأويله إلا الله – والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا- وما يذّكر إلا أولوا الألباب- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب"..

(آل عمران: 7-8)

وفيما عدا هذه الجوانب فإن الفكر البشري – أو الإدراك البشري بتعبير أشمل- مدعو للتدبر والتفكر، والنظر والاعتبار، والتكيف والتأثر، والتطبيق، في عالم الضمير وعالم الواقع، لمقتضيات هذا التصور، والإيجابية في العمل والتنفيذ وفق هذا التصور الشامل الكبير.

وما من دين احتفل بالإدراك البشري، وإيقاظه، وتقويم منهجه في النظر، واستجاشته للعمل، وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة، وتحريره من قيود الكهانة والأسرار المحظورة.! وصيانته في الوقت ذاته من التبديد في غير مجاله، ومن الخبط في التيه بلا دليل .. ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام..

ومن من دين وجه النظر إلى سنن الله في الأنفس والآفاق، وإلى طبيعة هذا الكون وطبيعة هذا الإنسان، وإلى طاقاته المذخورة وخصائصه الإيجابية، وإلى سنن الله في الحياة البشرية معروضة في سجل التاريخ .. ما من دين وسّع على الإدراك في هذا كله ما وسّع الإسلام.

في تربية وتقويمه وتقويم منهج النظر والحكم:

"ولا تقف ما ليس لك به علم. إن السمع والبصر والفؤاد. كل أولئك كان عنه مسؤولاً"..

(الإسراء: 36)

"يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" ..

(الحجرات:12)

"وما يتبع أكثرهم إلا ظنا، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" ..

(يونس: 36)

"ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون" ..

(الزخرف:20)

وفي النظر إلى آيات الله في الأنفس والآفاق:

"قل: انظروا ماذا في السماوات والأرض" ..

(يونس: 101)

"وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم. أفلا تبصرون؟"

(الذاريات: 20-21)

"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" ..

(فصلت: 53)

وفي النظر إلى سنن الله في الحياة البشرية وفي مصائر من قبلهم ودلالتها التاريخية:

"قل: سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير" …

(العنكبوت: 20)

"أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها، وجاءتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون" …

(الروم: 9-10)

"أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها؟ والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب"…

(الرعد: 41)

وأمثال هذه التوجيهات كثير كثرة ملحوظة في القرآن الكريم، يتكون منها منهج كامل لتربية الإدراك البشري وتقويمه وتوجيهه([16]). وستأتي منه نماذج كثيرة في الفصول التالية.

على أن الله، فاطر هذا الإنسان، العالم بحقيقة طاقاته، كان يعلم أنه بقدر ما وهبة من القدرة على إدراك قوانين المادة، والتعرف إلى طاقات الكون في هذا المجال، لتسخيرها في الخلافة .. بقدر ما روى عنه من أسرار "الحياة" – كنهها وكيفية وجودها وتصرفها- وأسرار تكوينه الروحي والعقلي. وحتى تكوينه الجسمي المتصل بنشاطه الروحي والعقلي لا يزال معظمه خافياً على علمه وإدراكه، على نحو ما كشف لنا في القرن العشرين عالم من أكبر العلماء المتخصصين في إخلاص وصراحة. وهو الدكتور "الكسيس كاريل" في كتابه: "الإنسان ذلك المجهول" وهو يقول:

" …لقد بذل الجنس البشري مجهوداً جباراً لكي يعرف نفسه. ولكن بالرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا .. إننا لا نفهم الإنسان ككل.. إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة. وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا! فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح، تسير في وسطها حقيقة مجهولة!

"وواقع الأمر أن جهلنا مطبق. فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة.. فنحن لا نعرف –حتى الآن- الإجابة على أسئلة كثيرة مثل:

كيف تتحد جزئيات المواد الكيماوية لكي تكون المركب والأعضاء المؤقتة للخلية.

كيف تقر "الجينس" –وحدات الوراثة- الموجودة في نواة البويضة الملقحة صفات الفرد المشتقة من هذه البويضة؟

كيف تنتظم الخلايا في جماعات من تلقاء نفسها، مثل الأنسجة والأعضاء؟ فهي كالنمل والنحل تعرف مقدماً الدور الذي قدر لها أن تلعبه في حياة المجموع وتساعدها العمليات الميكانيكية الخفية على بناء جسم بسيط ومعقد في الوقت ذاته.

ما هي طبيعة تكويننا النفساني والفسيولوجي؟ إننا نعرف أننا مركب من الأنسجة والأعضاء، والسوائل، والشعور ولكن العلاقات بين الشعور والمخ ما زالت لغزاً..

إننا مازلنا بحاجة إلى معلومات كاملة تقريباً عن "فسيولوجية" الخلايا العصبية..إلى أي مدى تؤثر الإرادة في الجسم؟ كيف يتأثر العقل بحالة الأعضاء؟ على أي وجه تستطيع الخصائص العضوية والعقلية، التي يرثها كل فرد، أن تتغير بواسطة طريقة الحياة، والمواد الكيماوية الموجودة في الطعام، والمناخ، والنظم النفسية والأدبية؟

إننا ما زلنا بعيدين جداً من معرفة ماهية العلاقات الموجودة بين الهيكل العظمي والعضلات والأعضاء، ووجوه النشاط العقلي والروحي.. وما زلنا نجهل العوامل التي تحدث التوازن العصبي، ومقاومة التعب، والكفاح ضد الأمراض.

إننا لا نعرف كيف يمكن أن يزداد الإحساس الأدبي، وقوة الحكم، والجرأة.

ولا ما هي الأهمية النسبية للنشاط العقلي الأدبي. كذا النشاط الديني.

أي شكل من أشكال النشاط مسؤول عن تبادل الشعور أو الخواطر؟

لا شك مطلقاً في أن عوامل فسيولوجية وعقلية معينة هي التي تقرر السعادة أو التعاسة. النجاح أو الفشل.. ولكننا لا نعرف ما هي هذه العوامل.

إننا لا نستطيع أن نهب أي فرد ذلك الاستعداد لقبول السعادة بطريقة صناعية وحتى الآن فإننا لا نعرف: أي البيئات أكثر صلاحية لإنشاء الرجل المتمدين وتقدمه..

هل في الإمكان كبت روح الكفاح والمجهود، وما قد نحس به من عناء بسبب تكويننا الفسيولوجي والروحي؟

كيف نستطيع أن نحول دون تدهور الإنسان وانحطاطه في المدينة العصرية؟

بالنسبة لنا. ولكنها ستظل جميعاً بلا جواب .. فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان ما زال غير كاف، وأن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية في الغالب"([17])..

هذا هو مدى جهلنا بحقيقة "الإنسان" – إحدى الحقائق التي يتألف منها التصور الاعتقادي الشامل – بل جهلنا بأصغر وأظهر جانب من جوانب هذه الحقيقة .. كما يقرره عالم من أكبر العلماء في القرن العشرين، غير متهم في علمه، وغير منازع في مكانته في العالمين: القديم والجديد!

أما أسباب هذا الجهل، من وجهة نظره القائمة على "المنهج العلمي" كما هو معروف في الغرب، وعلى انطباعاته في جو بيئته الغربية وفي جو "البحث العلمي"، وفي حدود "العلم" كما يقرر هو في مقدمة الكتاب .. أما أسباب هذا الجهل من وجهة نظره هذه، التي نوافقه في بعضها ونخالفه في بعضها. فهي كما يقول:

"قد يعزى جهلنا في الوقت ذاته، إلى طريقة حياة أجدادنا. وإلى طبيعتنا المعقدة. وإلى تركيب عقلنا..".

ويتحدث عن السببين الأولين حديثاً دقيقاً، ولكنه لا يعنينا هنا. فننتقل إلى حديثه عن السبب الثالث:

يقول:

"وثم سبب آخر للبطء الذي اتسمت به معرفتنا لأنفسنا. وذلك أن تركيب عقولنا يجعلنا نبتهج بالتفكير في الحقائق البسيطة. إذا أننا نشعر بضرب من النفور حين نضطر إلى تولي حل مشكلة معقدة مثل: تركيب الكائنات الحية والإنسان.. فالعقل –كما يقول برجسون- يتصف بعجز طبيعي عن فهم الحياة .. وبالعكس فإننا نحب أن نكتشف، في جميع العوالم، تلك الأشكال الهندسية الموجودة في أعمال شعورنا .. إن دقة النسب البادية في تماثيلنا وإتقان آلاتنا يعبران عن صفة أساسية لعقلنا .. فالهندسة غير موجودة في دنيانا، وإنما أنشأناها نحن. إذ أن وسائل الطبيعة لا تكون أبداً بالدقة التي تتصف بها وسائل الإنسان !!! فنحن لا نجد في العالم ذلك الوضوح وتلك الدقة التي يتصف بها تفكيرنا .. ومن ثم فإننا نحاول أن نستخلص من تعقد الظواهر، وبعض النظم البسيطة التي تحمل عناصر، لإحداها بالأخرى علاقات معينة، تكون قابلة للوصف حسابياً .. وقدرة الاستخلاص هذه التي يتمتع بها العقل البشري، مسؤولة عن ذلك التقدم الرائع الذي أحرزه علماء الطبيعة والكيمياء..

"ولقد لقيت الدراسة الطبيعية – الكيماوية للكائنات الحية نجاحاً مماثلاً. فقوانين الطبيعة والكيمياء، متماثلة في عالم الكائنات الحية وعالم الجماد – كما خطر ببال كلود برنار منذ أمد بعيد – وهذه الحقيقة توضح لماذا اكتشف علم وظائف الأعضاء الحديث مثلاً أن استمرار قلوية الدم وماء المحيط تفسرها قوانين متماثلة، وأن النشاط الذي تستهلكه العضلات المتقلصة يقدمه تخمر السكر … الخ .. إن النواحي الطبيعية – الكيماوية للكائنات الحية يسهل تقريباً فحصها، مثل تلك النواحي في الأشياء الأخرى الموجودة في العالم المادي .. وتلك المهمة التي نجح علم وظائف الأعضاء في تحقيقها.

"إن دراسة الظواهر الفسيولوجية الحقة – أي تلك الظواهر التي تنتج من تنظيم الكائن الحي- تواجه عقبات أكثر أهمية. إذ أن شدة ضآلة الأشياء التي يجب تحليلها، تجعل من المستحيل استخدام الفنون العادية لعلمي الطبيعة والكيمياء.. فأي طريقة يمكن أن تكشف القناع عن التركيب الكيماوي لنواة الخلية الجنسية، والكروموسومات؟ والجينس "ناقلات الوراثة" التي تؤلف هذه الكروموسومات؟.. مهما يكن .. إن المجموع الكلي للمواد الكيماوية شديدة الضآلة، على أعظم جانب من الأهمية، لأنها تحتوي على مستقبل الفرد والجنس([18]) .. كما أن قابلية أنسجة معينة لسرعة العطب، مثل المادة العصبية، عظيمة إلى درجة أن دراستها في حالة الحياة مستحيلة تقريباً .. ونحن لا نملك أي فن يمكننا من النفوذ إلى أعماق المخ وغوامضه، أو إلى الاتحاد المتناسق بين خلاياه. وعقلنا الذي يحب ذلك الجمال البسيط للتراكيب الحسابية، ينتابه الفزع حينما يفكر في تلك الأكداس الهائلة من الخلايا والأخلاط والإحساسات، التي يتكون منها الفرد، ومن ثم فإننا نحاول أن نطبق على هذا المخلوط، الأفكار التي ثبتت فائدتها في مملكة الطبيعة والكيمياء والميكانيكيات. كذا في النظم الفلسفية والدينية.. ولكن مثل هذه المحاولة لا تلقى نجاحاً كبيراً. لأن أجسامنا لا يمكن أن تختزل إلى: نظام طبيعي كيميائي. أو إلى كيان روحي.. بالطبع. إن على علم الإنسان أن يستخدم آراء جميع العلوم الأخرى. ولكن عليه أيضاً أن ينمي آراءه الخاصة لأنه علم جوهري، مثل علوم الجزئيات والذرات والإلكترونات".

وينهي هذا الفصل بقوله:

"صفوة القول: أن التقدم البطئ في معرفة بني الإنسان – إذا قورن بالتقدم الرائع في علوم الطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا، يعزى إلى حاجة أجدادنا إلى وقت الفراغ. وإلى تعقد الموضوع. وإلى تركيب عقولنا..

"وهذه العقبات أساسية. وليس هناك أمل في تذليلها. وسيظل التغلب عليها شاقاً، يستلزم جهوداً مضنية..

إن معرفة أنفسنا لن تصل أبداً إلى تلك المرتبة من البساطة المعبرة، والتجرد، والجمال، التي بلغها علم المادة. إذ ليس من المحتمل أن تختفي العناصر التي أخرت تقدم علم الإنسان.. فعلينا أن ندرك بوضوح، أن علم الإنسان هو أصعب العلوم جميعاً"([19]).

هذا هو تعليل ذلك الجهل بحقيقة الإنسان، أو بأصغر وأظهر جانب من جوانب هذه الحقيقة- من وجهة نظر العالم الغربي الكبير .. ومهما نختلف معه في طريقة النظر إلى القضية كلها .. فإننا نكتفي بهذه الشهادة. ونراه قد لمس فيها السبب الأساسي – وهو طبيعة تكوين عقلنا – فهذا التكوين مرتبط بوظيفة الإنسان في الأرض – وظيفة الخلافة – وهي تقتضي أن يكون تركيب عقله على هذا التصميم لأنه أنسب تصميم للقيام بالوظيفة! وسيتقدم في إدراك قوانين المادة وتسخيرها، كما سيتقدم في معرفة جوانب من "حقيقة الإنسان" أكثر مما عرف. ولكن أسرار التكوين الإنساني ستظل خافية عليه أبداً .. سيظل سر الحياة، وسر الموت، خافيين تماماً. وسيظل سر الروح الإنساني بعيداً عن مجال إدراكه .. لأن شيئاً من هذا كله لا يلزمه في وظيفته الأساسية.

وعلى أية حال، فإنه من خلال هذه الشهادة –وحدها- تبرز لنا حقيقتان جاهرتان:

أولاهما: حقيقة رحمة الله بهذا الإنسان، حين لم يدعه –بجهله هذا الذي يشهد به عالم كبير من علمائه في القرن العشرين- يصنع تصوره الاعتقادي لنفسه. وهذا التصور يشتمل تفسيراً شاملاً- لا لحقيقة الإنسان المجهولة له فحسب، ولكن كذلك الحقيقة الألوهية الكبرى ولحقيقة الكون وحقيقة الحياة، وسائر الارتباطات بين هذه الحقائق جميعاً .. وحين لم يدعه – بجهله هذا بحقيقة ذاته – يصنع منهج حياته وشكل نظامه، وشريعته وقوانينه … ولكها تقتضي علماً كاملاً شاملاً. لا بحقيقة الإنسان وحدها. ولكن كذلك بحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان. وبحقيقة الحياة التي ينتسب إليها. ثم بحقيقة القوة الكبرى الخالقة المدبرة لهذا الكون وما فيه ومن فيه …

وثانيتهما: حقيقة التبجح الذي تبجحه كل من تصدى من جنس البشر- قديماً وحديثاً- لوضع ذلك التفسير الشامل للكون والحياة والإنسان. ولوضع مناهج للحياة وأنظمة للناس وشرائع لحياتهم.. بمثل هذا الجهل، الذي لا يمكن أن يؤدي، إلا لمثل ما أدى إليه من تيه وركام في التصورات. ومن فساد وقصور في المناهج. ومن شقاء وتعاسة في الحياة.. فهذه كلها هي النتائج الطبيعية والثمار المرة لذلك التبجح الكريه! ولذلك الجهل العميق([20]).

إن التصور الرباني الذي يتلقاه الإنسان من "الله" هبة لدنية خالصة.. قد أعفى البشر الضعاف الجهال من الكد فيها، ووفر عليهم همّ إنشائها، وتبديد طاقتهم في هذا المجال الذي لم يهبهم الله دليله ولا أداته.. وذلك ليفرغوا لتلقي هذه الهبة وإدراكها، والتكيف بها، ، واتخاذها أساساً لمنهج حياتهم، وميزاناً لقيمهم، ودليلاً هادياً يصلون به ومعه.. فإذا فارقوه ضلوا وتاهوا، وخبطوا وخلطوا، وجاءوا بما يضحك ويبكي من التصورات والانحرافات، وشقوا وتعسوا بالمناهج والأنظمة التي يقيمونها على أساس من ذلك الجهل العميق! ومن ذلك الخبط والتخليط!

وفي هذا يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين":

"وقد كان الأنبياء –عليهم السلام- أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله. وعن بداية هذا العالم ومصيره. وما يهجم عليه الإنسان بعد موته. وأتاهم علم ذلك كله بواسطتهم عفواً بدون تعب. وكفوهم مؤونة البحث والفحص، وفي علوم ليس عندهم مبادئها، ولا مقدماتها التي يبنون عليها بحثهم، ليتوصلوا إلى مجهول. لأن هذه العلوم وراء الحس والطبيعة، ولا تعمل فيها حواسهم، ولا يؤدي إليها نظرهم، وليست عندهم معلوماتها الأولية.

لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة، وأعادوا الأمر جذعاً، وبدأوا البحث أُنفاً، وبداوا رحلتهم في مناطق مجهولة، لا يجدون فيها مرشداً ولا خِرّيتاً([21]) . وكانوا في ذلك أكثر ضلالاً، وأشد تعباً وأعظم اشتغالاً بالفضول .. من رائد لم يقتنع بما أدى إليه العلم الإنساني في الجغرافية، وما حدد وضبط في الخرائط على تعاقب الأجيال، فحاول أن يقيس ارتفاع الجبال وعمق البحار من جديد، ويختبر الصحارى والمسافات والحدود بنفسه .. على قصر عمره، وضعف قوته، وفقدان آلته .. فلم يلبث أن انقطعت به مطيته، وخانته عزيمته، فرجع بمذكرات وإشارات مختلة.. وكذلك الذين خاضوا في الإلهيات، من غير بصيرة، وعلى غير هدىن جاءوا في هذا العلم بآراء فجة، ومعلومات ناقصة، وخواطر سانحة ونظريات مستعجلة.. فضلوا وأضلوا"([22]).

على أن أمر الذين حاولوا إنشاء تصورات اعتقادية من عند أنفسهم، أو إنشاء تصورات فلسفية لتفسير الوجود وارتباطاته كانوا أشد ضلالاً من هذا الذي صوره الأستاذ الندوي، وأكثر خطراً على حياة البشرية. أما الأخطر من هذا كله، فكان هو تحريف العقائد السماوية –وبخاصة النصرانية- وقيام كنيسة في أوربا تملك السلطان باسم هذه النصرانية المحرفة، وتفرض تصوراتها الباطلة بالقوة كما تفرض معلوماتها الخاطئة والناقصة عن الكون المادي، وتعارض بوحشية خط البحث العلمي في ميدانه الأصيل، بمقولات تعطيها طابع الدين. والدين منها برئ..

وقد نشأ هذا كله من تدخل الفكر البشري بالإضافة والتأويل والتحريف للأصل الرباني للعقيدة النصرانية وللتصور النصراني. وإلحاق هذا كله بالأصل الرباني والعقيدة السماوية.

فإذا نحن تكرنا أن جميع النزعات الأوربية، التي نشأت معادية للدين وللفكر الديني، كان منشؤها هو هذا الانحراف، وهذه الأوضاع التي قامت على أساس هذا الانحراف.. "من عقلية مثالية" إلى "وضعية حسية" إلى "جدلية مادية" ..  إذا تذكرنا هذا أدركنا أن هذا البلاء الذي يعم البشرية كلها اليوم، إنما نشأ من عقابيل تدخل الفكر البشري، في أصل التصور الرباني. وهو بلاء لا يعد له بلاء آخر في تاريخ البشرية الطويل ..

ولعله يحسن – لتكون هذه النقطة واضحة وضوحاً يناسب خطورتها – أن نذكر خلاصة موجزة للخط الذي سار فيه الفكر الأوربي، بوصفه نتيجة طبيعية مباشرة لانحراف التصور الديني. بتدخل الفكر البشري فيه، وبإخضاعه للعوامل السياسية، والخلافات العنصرية والمذهبية.

ولعل هذه الخلاصة أن تكشف لنا عن حكمة الله ورعايته في حفظ أصول التصور الإسلامي بعيدة عن تحريف البشر. وعن خطورة أية محاولة باسم "التجديد الديني" أو "التطور في الفكر الديني" أو غيرهما، لإدخال أي عنصر بشري على التصور الرباني .. فهذا التصور هو الوحيد الباقي من غير أن يعبث به جهل البشر وقصورهم وهو وحده ملاذ البشرية، لتفئ إليه في يوم من الأيام. فنجد عنده الهدى والسكينة والاطمئنان.

وسنكتفي في هذا التلخيص لخط سير الفكر الأوربي – في اتجاه مضاد للكنيسة وتفكيرها الديني – بمقتبسات من الفصل الذي كتبه الدكتور محمد البهي بعنوان: "الدين مخدر!" في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي":

"الصراع بين الدين والعقل والحس في تاريخ الفكر الغربي: أربع مراحل في تاريخ التفكير الأوربي، منذ القرن الرابع عشر إلى الآن. شهدت فيها العقلية الأوربية صراعاً فكرياً، واتجاهات عقلية مختلفة، تدور حول "تبرير" مصدر من مصادر المعرفة، التي عرفتها البشرية في تاريخها حتى الوقت الحاضر. وهي: الدين. والعقل. والحس أو الواقع، وفي كل مرحلة من هذه المراحل ينشأ سؤال عن "قيمة" أي واحد من هذه الثلاثة كمصدر للمعرفة المؤكدة، أو اليقينية. ثم يكون الجواب على هذا السؤال إيجاباً أو سلباً. ومن السؤال وما يدور حوله من جدل، وأخذ ورد، تتكون المذاهب الفلسفية التي تعبر عن قيمة المصدر، الذي وضع للاختبار والتقدير.

"سيادة النص أو الدين" كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائداً في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة. وكان يقصد بالدين "المسيحية"،  وكان يراد من المسيحية "الكثلكة"، وكانت الكثلكة تعبر عن "البابوية". والبابوية نظام كنسي ركز "السلطة العليا" – باسم الله- في يد البابا، وقصر حق تفسير "الكتاب المقدس" على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية، وجعل عقيدة "التثليث" عقيدة أصيلة في المسيحية، كما جعل "الاعتراف بالخطأ" و "صكوك الغفران" من رسوم العبادة وغير ذلك مما يتصل بالكاثوليكية كمذهب وكنظام لاهوتي.

"حتى كان القرن الخامس عشر، وحتى ابتدأت الحروب الصليبية تثمر ثمرتها الإيجابية في العقلية الأوربية. فقام مارتن لوثر (Luther) (1453-1546م) وكافح "تعاليم الشيطان"  -كما سماها- وهي تعاليم البابوية والكنيسة الكاثوليكية، فحارب صكوك الغفران، ونظر إليها كوسائل للرق والعبودية. وحارب عقيدة "التثليت"، كما حارب سلطة البابا. وجعل السلطة الوحيدة في المسيحية هي الكتاب المقدس، وكلمة الله: "النص" وطالب بالحرية في بحث الكتاب. ولكن ليست أية حرية على العموم. ومع ذلك جعل الكتاب المقدس نفسه هو مصدر الحقيقة فيما يتصل بالإيمان. ثم جعل الإيمان في الاعتبار، سابقاً على أي شيء آخر عداه، من العقل أو الطبيعة.

" وجاء بعد لوثر –في طريقه- كالفن (Calvin) (1509-1564م) واقر لوثر على أن الإنجيل وحده هو المصدر "للحقيقة المسيحية" وأن عقيدة التثليث لا تقبلها المسيحية الصحيحة.

" و بحركه لوثر وكالفن الإصلاحية تعرضت المسيحية للجدل الفكري، وأصبحت موضوعاً للنقاش العقلي، والمذاهب الفلسفية.. والمسيحية التي تعرضت لذلك هي المسيحية التي تناولها لوثر بإصلاحه. أي الكاثوليكية البابوية. ومن أنكر من الفلاسفة على الدين أن تكون له "سلطة" أنكر سلطة البابوية. ومن وضع العلاقة بين الدين والعقل كشيئين متقابلين أو متناقضين، حدد العلاقة بين الكثلكة – وما فيها من عقيدة التثليث ومراسم صكوك الغفران – وبين العقل الإنساني العام. ومن دافع عن المسيحية من الفلاسفة، كهجيل، دافع عن "التعاليم النقية للمسيحية" التي احتضنها لوثر، في مقابل تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.

"وهكذا كان "الدين" الذي جعل موضوعاً للصراع العقلي الأوربي، نوعاً خاصاً من الدين، والذي قبل منه باسم الفلسفة، كان جملة خاصة من تعاليمه، والذي رفض منه باسم الفلسفة أيضاً، كان كذلك جملة خاصة من تعاليمه.

"سيادة العقل": استمر اعتبار الوحي، كمرجع أخير للمعرفة، على خلاف في تحديد تعاليمه، حتى كان النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو عصر "التنوير" في تاريخ الفلسفة الأوربية. وعصر التنوير له طابعه المشترك في الفكر الألماني والإنجليزي والفرنسي، في الفترة الزمنية التي تحدده، وله فلاسفة في دوائر الفكر الثلاث كونوا الطابع الفكري الذي عرف به..

"وطابعه الفكري:

تزايد شعور العقل وإحساسه بنفسه، وبقدرته على أن يأخذ مصير مستقبل الإنسانية في يده، بعد أن يزيل كل عبوديه ورثها هو، حتى لا تحجبه عن التخطيط الواضح لهذا المصير([23]).

الشجاعة والجرأة التي لا تتأرجح في إخضاع كل حدث تاريخي لامتحان العقل. وكذلك في تكوين الدولة والجماعة، والاقتصاد، والقانون، والدين، والتربية، تكويناً جديداً، على الأسس السليمة المصفاة، التي لكل واحد منها!

الإيمان بتعاون جميع المصالح والمنافع، وبالأخوة في الإنسانية، على أساس من هذه الثقافة العقلية، المستمرة في التطور..

"ومعنى ذلك كله: سيادة "العقل" – كمصدر للمعرفة- على غيره. وغيره الذي ينازعه "السيادة" هو الدين. أي المسيحية الكاثوليكية أولاً. وقد تكون معها البروتستانتية، كمذهب عرف للإصلاح الديني هناك.

"فللعقل الحق في الإشراف على كل اتجاهات الحياة، وما فيها من سياسة، وقانون، ودين، و "الإنسانية" هي هدف الحياة للجميع.

"وكما يسمى هذا العصر بـ "عصر التنوير" يسمى أيضاً بـ "العصر الإنساني"، وكذا بعصر الـ Deism أي عصر الإيمان الفلسفي بإله، ليس له وحي، وغير خالق للعالم. إذ كل مسميات هذه الأسماء تعتبر من خواصه. فالتنوير لا يقصد به إلا إبعاد الدين عن مجال التوجيه، وإحلال العقل فيه محله. والإنسانية التي يبشر بها هذا العصر ليست إلا عوضاً عن "القربى من الله" كهدف للإنسان في سلوكه في الحياة. والإله، الذي ليس له وحي ولا خلق، يتفق مع تحكيم العقل وحده، وطلب سيادته على أحداث الحياة واتجاهاتها.

"وإذن في عصر التنوير كانت الخصومة الفكرية بين الدين والعقل. واتجه التفكير فيه إلى إخضاع الدين للعقل. ولذلك عد زمن هذا العصر فترة سيادة العقل. كما عد العصر السابق عليه فترة سيادة الدين ..

"ومن هذا يتضح أن صراع العقل مع الدين، هو صراع الفكر الإنساني مع مسيحية الكنيسة. وأن دوافع هذا الصراع هي الظروف التي أقامتها الكنيسة في الحياة الأوروبية. سواء في مجال التوجيه والبحث، أو في مجال السياسة، أو نطاق العقيدة والإيمان…

"سيادة الحس": انتهى عصر التنوير بانتهاء القرن الثامن عشر تقريباً، وابتدأ عصر آخر من عصور الفكر الأوربي، وبظهور فجر القرن التاسع عشر. وموضوع الصراع واحد لم يختلف عن ذي قبل، هو: الدين، والعقل، والطبيعة. ولكن تميز القرن التاسع عشر بفلسفة معينة. لأن اتجاه الفكر فيه مال إلى "سيادة الطبيعة" على الدين والعقل، وإلى استقلال "الواقع" كمصدر للمعرفة اليقينية إزاء الدين والعقل. تميز القرن التاسع عشر بأنه عصر "الوضعية" (Positivism). والوضعية نظرية فلسفية نشأت في دائرة "المعرفة". وقامت في جو معين، وعلى أساس خاص، أما جوها المعين فهو أولاً وبالذات سيطرة الرغبة على بعض العلماء والفلاسفة في معارضة الكنيسة. والكنيسة تملك نوعاً خاصاً من المعرفة، وتستغله في خصومة المعارضين لنفوذها من العلماء والباحثين. وقد تسود به على هؤلاء المعارضين فترة من الزمن. وهذا النوع هو "المعرفة المسيحية الكاثوليكية" بوجه خاص –كما سبق أن ذكر- أو هو المعرفة الدينية، أو المعرفة الميتافزيقية بوجه عام. يضاف إلى هذه الرغبة القوية في معارضة الكنيسة، ومعارضة ما تملك من معرفة خاصة، أن فلسفة عصر "التنوير" وهي الفلسفة "العقلية" أو "المثالثة" قد أفلست – في نظر فلاسفة "الوضعية" – فيما أرادت أن تصل إليه: وهو إبعاد التوجيه الكنسي كلية عن توجيه الإنسان، وتنظيم الجماعة الإنسانية. فقد مالت هذه الفلسفة على عهد "هيجل" إلى تأييد الوحي والدين من جديد !!!

"فالغاية الأولى للمذهب الوضعي، من منطقة، هي معارضة الكنيسة، أو معارضة معرفتها. ومن باب التغطية باسم "العلم"! هي معارضة الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) والمثالية العقلية. وإلا فالمذهب الوضعي في الوقت الذي ينكر فيه دين الكنيسة يضع ديناً جديداً بدله، هو دين "الإنسانية الكبرى"، ويقوم على "عبادة" و "طقوس" – كما تقوم المسيحية – وله قداسة واحترام على نحو ما للكثلكة!

"وأما الأساس الخاص الذي قامت عليه الوضعية فهو تقدير "الطبيعة" والطبيعة، والحقيقة، والواقع، والحس.. كلها سواء في نظر الوضعيين. وتقدير الطبيعة – لا كمصدر مستقل فحسب للمعرفة – بل كمصدر فريد للمعرفة اليقينية أو المعرفة الحقة. ومعنى تقدير الطبيعة على هذا النحو: أن الطبيعة هي التي تنقش الحقيقة في عقل الإنسان، وهي التي توحي بها، وترسم معالمها الواضحة. وهي التي تكوّن عقل الإنسان. والإنسان –لهذا- لا يملي عليه من خارج الطبيعة، مما وراءها، كما لا يملي عليه من ذاته. إذ ما يأتي من "ما وراء الطبيعة" خداع للحقيقة، وليس حقيقة! وما يتصوره العقل من نفسه وهم وتخيل للحقيقة، وليس حقيقة أيضاً! وبناء على ذلك: الدين وهو وحي "ما بعد الطبيعة" – خداع. هو وحي ذلك الموجود، الذي لا يحدده ولا مثله كائن من كائنات الطبيعة. هو وحي الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية.. وكذلك "المثالية العقلية" وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي. إذ هي تصورات الإنسان عن نفسه، من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة، التي يعيش فيها، وتدور حوله.

"وإذن ما يتحدث به الإنسان، ككائن شخصي، عن الإنسان، كموضوع للوصف. أو ما يتحدث به الإنسان عن الطبيعة التي يعيش فيها، كموضوع للحكم عليها – مستمداً حديثه عن هذه أو ذاك من معارف الدين، أو المثالية – هو حديث بشيء غير حقيقي، عن شيء حقيقي. هو حديث غير صادق، خضع فيه الإنسان المتحدث إلى خداع الدين بحكم التقاليد، أو إلى "الوهم" بحكم غرور الإنسان بنفسه!

"إن عقل الإنسان –أي ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة، التي تتمثل في: الوراثة، والبيئة، والحياة الاقتصادية، والاجتماعية.. إنه مخلوق. ولكن خالقه الوجود الحسي .. إنه يفكر. ولكن عن تفاعل مع الوجود المحيط به. . إنه مقيد مجبر. وصانع القيد والجبر هو حياته المادية… ليس هناك عقل سابق، كما أنه ليست هناك معرفة سابقة للإنسان. عقل الإنسان ومعرفته بوجدان تبعاً لوجود الإنسان. هما انطباع لحياته الحسية المادية.

"الطبيعة تنطق عن نفسها. ويجب على الإنسان أن يعتمد منطقها. إذا أراد أن يعيش فيها. ومنطقها وحده – لا منطق المؤهلين، ولا منطق العقليين، ولا منطق أصحاب النظرية السيكولوجية في معرفة الإنسان – هو الذي يخط الطريق المستقيم في حياة الإنسان فيها. وهو الذي يحدد أهدافه فيها!

"وطريق الإنسان في حياته الطبيعية يبتدئ من الفرد، وينتهي بالجماعة، وإذن: الفرد نفسه ليس غاية. وحياته التي يعيشها ليست هدفاً لسعيه. إنما غايته الأخيرة التي يجب أن يسعى إليها، ويذهب فيها – كما يذهب العابد الصوفي، صاحب عقيدة "الاتحاد" فيما يؤهله ويعبده – هي "الجماعة" وطالما كانت الجماعة هي غاية الفرد الأخيرة، فهي معبوده، وتذهب حريته، لتبقى لها الحرية! وتفنى حياته لتبقى لها الحياة!([24])".

"الماركسية": -الجدلية المادية- ولماركس نظرية مادية، تأثر فيها بكومت (من فلاسفة الوضعية). وهو لا ينكر وجود "العقل" كما ينكره المذهب المادي الميكانيكي. ولكنه لا يدعي فحسب أن المادة توجد قبل العقل، بل أيضاً المادة أكثر أهمية واعتباراً من العقل متوقف على المادة في وجوده، ولا يمكن أن يوجد منفصلاً عنها. ونتيجة ذلك: ان ماركس لا يرفض فقط أن يبقى العقل (أو الروح) بعد الجسم – كما يذكر الدين- بل يرفض الفكرة الأساسية في الدين. وهي الإيمان بالله. كموجود أزلي مستقل تماماً ومتجرد تماماً على المادة.. وكحقيقة واضحة: كل دين بالنسبة لماركس – من حيث المبدأ- لعنة. وهو يحدثنا أن "كل دين مخدر للشعب"!

"وتبعية العقل للمادة، يصورها ماركس في صورة: أن العقل انعكاس للمادة، وليس كما يصرح "هيجل" بأن المادة انعكاس للعقل. وهذا يعني أن العقل نوع من المرآة العاكسة للعالم المادي. وهذا التصور الماركسي للحقيقة المادية، على أنها الأصل، يشمل عموم منطق الماركسية كل الأحداث الطبيعية وما يحيط بها من وجهة نظر متعددة، هي القوة المادية الرئيسية أيضاً. أما الأحداث السياسية والاجتماعية، والأخلاقية، فهي انعكاس للأحداث الاقتصادية الراهنة. وماركس وإنجلز، عن وجدا مغزى التاريخ في أحداث الحياة الاجتماعية بصفة عامة، لكنهما ينظران إلى الجانب الاقتصادي بالذات، من بين أحداث هذه الحياة. والأحوال الاقتصادية تبعاً لذلكن هي العوامل المحددة في كل الحالات الاجتماعية، وهي التي تكوّن البواعث الأخيرة، لكل الأعمال الإنسانية في تاريخ الجماعة البشرية.

"وتغير الأحوال الاقتصادية وتطورها يؤثر لذلك – وحده – على حياة الدولة، وعلى سياستها، وكذلك على العلم، والدين. وهكذا كل الإنتاج الثقافي والذهني فرع عن الحياة الاقتصادية. وكل التاريخ لهذا يجب أن يكون تاريخ اقتصاد"([25]).

وهكذا انتهت محاولة الهروب من الكنيسة، وتصوراتها الدينية لا المحرفة المشوبة بالأفكار البشرية، وسوء استغلالها لسلطانها باسم الدين .. انتهت أولاً إلى الفلسفة العقلية المثالية – على اختلاف اتجاهاتها ما بين معارضة الدين وإعلان سيطرة العقل في رأي فيشته .. وبين تأييد الدين  باعتبار أن الله –سبحانه- عقل! في رأي هيجل – ثم انتهت ثانياً إلى الفلسفة الحسية الوضعية على يد كومت واشتين تال. ثم إلى الجدلية المادية على يد كارل ماركس وزميله إنجلز.

وكان هذا الخط الطويل من الانحراف في الفكر الأوربي نتيجة مباشرة لتشويه التصور الديني بمقولات وتصورات بشرية، من صنع الكنائس والمجامع المتوالية. هذه المقولات التي استغلتها الكنيسة ذلك الاستغلال المنفر البغيض.

وإلا فإن نظرة إلى هذا التخبط في خطواته المتعثرة تكشف للباحث المتثبت أن الهاربين من "الله" – لكي يهربوا من قبضة الكنيسة – لم يصلوا إلى أية  حقيقة "مضبوطة" يصح أن تكون عذراً أو حجة لمن يريد أن يقول: إنه يلجأ إلى هذا هروباً من معميات ما وراء الطبيعة!

وإلا فأي شيء "مضبوط" وصلت إليه الفلسفة العقلية المثالية مثلاً؟ ما هو هذا "العقل" الذي وكلت إليه أمر المعرفة بعيداً عن الله وعن الطبيعة؟ ماذا تعرف عن ماهية العقل أو عن خصائصه؟ وماذا تعرف عن طريقة عمله وتأثراته وتأثيراته؟ أين يقع هذا العقل؟ أين يوجد؟ ما طبيعته؟ ما قانونه؟ .. كلها أسئلة لا جواب عليها حتى في القرن العشرين!

ثم هذه المقولات التي ابتدعتها هذه الفلسفة، وجعلتها حتمية، وبنت عليها كل قضاياها؟

"مبدأ النقيض" الذي قام عليه المذهب – والذي اعتمد عليه كارل ماركس فيما بعد – ما هو ؟ ما قيمته الواقعية؟ إنه ليس سوى مقولة عقلية مجردة، لا تتعامل مع الواقع في شيء:

استخدم "فيشته" مبدأ النقيض على النحو التالي.

"تصور الإنسان لنفسه –وحده- هو بداية الطريق. وأشبه بالمقدمات التي تستلزم نتائجها، على النحو الذي حدد به غاية فلسفته. فإذا تصور الإنسان نفسه، أي إذا "أنا" تصورت "أنا" نشا عنه أن "أنا" هو "أنا" و "ما ليس أنا" هو "غير أنا" فهنا "أنا" وهنا أيضاً "ليس أنا". ولكن وجود "ليس أنا" منطو في وجود "أنا الحقيقي" وإذن "أنا" باعتبار أنه يطوى في ذاته وجود "ليس أنا" هو "أنا وليس أنا" .. وتصور الإنسان لنفسه أنتج إذن خطوات ثلاثاً في الفكر – أو ثلاثية!

"وبما أنه ليس هناك في الأصل، عندما تصور الإنسان نفسه، إلا "أنا" فالأشياء الخارجة عن أنفسنا – أي الأشياء التي هي "ليس أنا" – نتصورها فقط عن طريق أن "أنا" يطوى في نفسه حقيقة أخرى، وهي: "ليس أنا". وهذه الأشياء الخارجة عن أنفسنا ليست منطوية فقط في "أنا" بل هي عمل لـ "أنا" ومن إنتاجه"([26])!

والآن .. ما الذي يحتم –من الواقع- أن يكون "أنا" هو وحده الموجود. وأن يكون "ليس أنا" لا وجود له ابتداء، إنما هو من عمل "أنا" ومنطو في "أنا"؟ ومن إنتاجه؟

ماذا يحتم هذه المقولة من الواقع؟ لا شيء! وإنما هو مجرد تحكم عقلي من "فيشته" لبناء مذهب! ومن هنا يكون هذا الأساس العقلي "المثالي" لا يتعامل مع الواقع في شيء. وليس له رصيد في حياة البشر! وكان من حق المدرسة الوضعية أن تسخر من هذه "المثالية" التي لا مدلول لها في دنيا الواقع، ولا فاعلية ما في حياة الناس! لولا أنها لم تسخر منها لتأتي بما هو خير. بل بما هو أشد إحالة وأبعد عن الصواب!

إن فيشته يتخذ من المبدأ السابق، الذي لا رصيد له من الواقع كما رأينا، قاعدة يثبت بها أن العقل هو الموجود الحقيقي الذي لا يتوقف وجوده على غيره.

"ومنطق هذا المبدأ – على هذا النحو الذي استخدمه فيشته – أن العقل مستقل تماماً عن غيره. وموجود من أجل نفسه. ووجوده هو وجوده هو، لا وجود غيره. وماهية العقل تتضح إذن من العقل نفسه. وليست مما هو خارج عنه. إذ لو توقف العقل على غيره الخارجي عنه، لكان معنى ذلك أن "ليس أنا" هو نقطة البداية. وفي ذلك إلغاء للعقل نفسه، قبل أن يصل إلى غيره. لأنه لا معنى لوجود "ليس أنا" إلا نفي وجود "أنا" أي نفي العقل"([27])!

فما الذي يحتم –من الواقع- أن يكون معنى وجود "ليس أنا" هو نفي وجود "أنا"؟ ولماذا هذا التحتيم؟ إنه مجرد تحكم ينقضه العقل ذاته، حين يتخلص من إسار المذهب!

فإنه ليس هناك ما يمنع –عقلاً- أن يكون "أنا" موجوداً و "ليس أنا" موجوداً كذلك، و يتوقف وجود أحدهما على وجود الآخر !!

ولكن المسألة كلها كانت هي إقامة إله آخر، غير إله الكنيسة! إله ليس له كهنة ولا كرادلة ولا بابا ولا كنيسة! ومن ثم أقيم هذا "العقل" إلها، لا سدنة له ولا كهنة! وهذا هو الهدف النهائي المقصود !!!

كذلك استخدم هيجل مبدأ النقيض، مع استخدام مصطلحات جديدة غير مصطلحات فيشته:

"وإذا كان فيشته قد استخدم مبدأ "النقيض" في دعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة، مقابل الدين أو الطبيعة –على نحو ما رأينا- فـ "هيدل" استخدم نفس المبدأ لتأكيد قيمة العقل. ثم لدعم فكرة الألوهية من جديد، وتأكيد "الوحي" كمصدر أخير "للحقيقة" على اعتبار أن الله عقل. وبدل المصطلحات الثلاثة التي تعرف لـ "فيشته" في استخدامه مبدأ النقيض، والتي تعبر عن الخطوات الثلاث للفكر عند تطبيقه – يعبر هيجل عن ذلك بعبارات خاصة به، هي: الدعوى. ومقابل الدعوى. وجامع الدعوى ومقابلها.

… "فقد تصور – في مجال "الفكرة" – أن هناك فكرة مطلقة أسماها "العقل المطلق" ولهذا العقل المطلق وجود ذاتي أزلي قبل خلق الطبيعة وقبل خلق العقل المنتهي. هذا العقل المطلق هو الله. وقد انبثقت منه "الطبيعة" وهي تغيره. إذ أنها بعيدة متفرقة بينما العقل المطلق واحد وحدة مطلقة من كل قيد. وبوجود الطبيعة ظهرت أو انتقلت "الفكرة" في العقل المطلق غير المحدد، فيما وجوده مقيد محدد. فالطبيعة هي خروج "الفكرة" من دائرتها الأولى. ومن أجل ذلك هي ضرورة وصدفة. وليس فيها حرية واختيار. وتعتبر بذلك مقابلاً ونقيضاً للفكرة في العقل المطلق. وإذا كان العقل المطلق "دعوى" فالطبيعة عندئذ "مقابل الدعوى". و "الفكرة" بذلك انتقلت من المطلق إلى المقيد، أو من النقيض إلى نقيضه. فالفكرة من حيث هي فكرة، انطوت على نقيضها، حتى الآن، ولكن "الفكرة" في الطبيعة، تسعى من جديد لتكسب الوحدة، بعد أن افتقدتها في تفرق الكائنات فيها، وتسعى لتحصيلها وتحقيقها. وتحصيلها هو "العقل المجرد". والعقل المجرد هو نهاية الطبيعة وغايتها. وهو عندئذ جامع الدعوى ومقابل الدعوى!" ([28]).

وهذا نموذج كذلك من "المثالية" التي ضاقت بها "الوضعية" في أوربا. وحق لها أن تضيق! وهي هكذا تتعامل مع تصورات عقلية مجردة، ومع مصطلحات لا رصيد لها من الواقع ولا علاقة لها بالإنسان الواقعي ولا بالحياة الواقعية!

ولكن السادة الوضعيين حين كفروا بغله الكنيسة، ثم كفروا بإله "العقل"، لم إلى ما هو أهدى. لقد أقاموا من الطبيعة إلها .. ولكن ما هي هذه الطبيعة؟ ما هي هذه الطبيعة التي "خلقت" العقل، والتي كما يقولون: "تنقش الحقيقة في العقل"؟ أهي كائن محدد؟ أهي ذات كلية؟ أم هي هذه "الأشياء" المتفرقة من أجرام وأشكال وحركات وهيئات؟ أهي شيء له حقيقة مستقلة عن تصور العقل الإنساني لها؟ أم هي الصورة التي تنطبع في العقل عن المحسوسات التي يدركها؟ أم هي شيء له حقيقة في ذاته، وما ينطبع منها في العقل قد يطابق حقيقتها وقد لا يطابقها؟

وإذا كانت هذه الطبيعة هي التي "خلقت" العقل البشري، فهل هي "خالق" له إيجابية "الخلق" من العدم؟ ولماذا إذن خلقت العقل في الإنسان ولم تخلقه في الحيوان؟ أو في النبات؟ أهي ذات إرادة مميزة مختارة؟ تختار كائناً بعينه من الكائنات لتمنحه هذه المنحة الفريدة؟

أما إذا كانت حقيقتها لا تتجلى إلا في الفكر البشري. أفلا يكون ظهور هذه الحقيقة إذن متوقفاً على وجود العقل البشري؟ فكيف تكون هذه الطبيعة "خالقة" له، بينما هي لا تظهر إلا فيه؟!

ثم إن هؤلاء السادة يحيلوننا على معمى لا ضابط له ولا حدود .. وهم يشيرون إلى الطبيعة !!!

فما الطبيعة؟ أهي مادة هذا الكون؟ وما هي ماهية هذه المادة؟ إن ما كانوا يسمونه "المادة" ويحسبونه شيئاً ثابتاً قد تبين لهم هم أنفسهم أنهم لا يستطيعون تحديد ماهيته. إن المادة تنحل فإذا هي إشعاع. فهل الإشعاع هو الطبيعة. وهو المادة؟ أم إن المادة –والطبيعة كذلك- هي الصورة التي يتجسم فيها هذا الإشعاع؟ إنه لا يثبت على حال هذا الإله! فبينما هو متجسم إذا هو منطلق. وبينما هو منطلق إذا هو متجسم! ففي أي حالة من حالاته يا ترى تكون له القوة الخالقة للعقل البشري؟ وهل هو الذي يخلق كذلك صورة نفسه المتوالية المتحركة أبداً؟ من إشعاع إلى ذرات. ومن ذرات إلى كتل.. ومن كتل إلى ذرات. ومن ذرات إلى إشعاع! – ودع عنك الحياة والخلية الحية والحياة المترقية!- متى يكون لهذا الإله قوة الخلق؟ في أي حالاته؟ ومن الذي خلق الإنسان الذي تخلق الطبيعة عقله؟ أهي خلقته ابتداء؟ أم اكتفت بأن تخلق عقله بعد وجوده؟!

وإذا كانت الطبيعة هي التي "تنقش الحقيقة في العقل الإنساني" .. فلماذا العقل الإنساني بالذات؟ أليست تنطق وتسمعها كل الكائنات الحية؟ فهل يا ترى تنقش هذه الحقيقة كذلك في عقول البغال والحمير والببغاوات والقرود أم لا تنقشها؟ وهل الحقيقة التي نقشتها في عقل الببغاء أو عقل القرد هي ذاتها التي نقشتها في عقل "أوجست كومت" أو عقل كارل ماركس؟!

وإذا كانت الطبيعة هي التي تنقش الحقيقة في العقل الإنساني فما هي الحقيقة الصحيحة؟ هل كانت هذه الحقيقة والعقل يجزم بأن الأرض مركز الكون؟ أم وهو يجزم بأنها ليست سوى تابع صغير من توابع الشمس؟ هل كانت والعقل يجزم بأن المادة هي هذه الأشياء الصلبة المحسة؟ أم وهو يجزم بأن المادة ليست سوى طاقة متجمعة، في صور متحولة؟ هل كانت والعقل يجزم بأن الطبيعة ليست شيئاً سوى "عمل العقل"؟ أم هو يجزم بأن العقل ليس شيئاً سوى انطباع المادة؟

أيّ هذه المقررات العقلية كانت هي الحقيقة التي نقشتها الطبيعة في العقل البشري؟ تراها تخطئ في النقش؟ أم أن العقل نفسه هوا لذي يشوه النقش؟ وهل له إذن فاعلية ذاتية وشخصية مستقلة؟ في حين يقول السادة الوضعيون: إنه ليس شيئاً آخر سوى ما تنقشه هذه الطبيعة؟!

وندع الحياة ونشأتها وأسرارها –كما قلنا- إلى موضع مناقشة هذا السر في التصور الإسلامي والتصورات الأخرى.. ندع الحياة وأسرارها فلا نناقشها هنا ونسأل: أي إله هذا الذي يقدمه لنا السادة الماديون؟ إننا لا نجد بين أيدينا ولا في عقولنا ولا في واقعنا منه شيئاً "مضبوطاً" فلماذا يا ترى نختاره ونلوذ به. وهو هباء لا يثبت على اللمس، ولا يثبت على الرؤية، ولا يثبت على النظر العقلي أيضاً؟ نحن – والحمد لله – لسنا هاربين من الكنيسة؟!!

أما هذا المسخ الذي يثير الاشمئزاز في تصور كارل ماركس وانجلز للحياة البشرية ودوافعها ومجالها الذي تتحرك فيه، وحصرها في حجر "الاقتصاد" فإن الشعور بالاشمئزاز منه يزداد، عندما يقف الإنسان أمام عظمة الكون المادي نفسه. وما فيه من موافقات عظيمة عجيبة، يبدو فيها كلها كأنما هي تمهيد للحياة البشرية بوجه خاص: فلا يتمالك نفسه من الاحتقار والاشمئزاز لمثل هذا التفكير الصغير، ولمثل هذا الشعور الذي لا تروعه عظمة هذا الكون ذاته، ولا تروعه الموافقات الكامنة فيه لاستقبال الحياة البشرية.. فإذا به يدير ظهره لكل هذه العظمة، ولكل هذه الروعة، ليخنس في حجر الاقتصاد، والآلة والإنتاج- لا بوصفها غاية للإنسان ومحركاً فحسب – ولكن بوصفها كذلك العلة الأولى، والإله الخالق، والرب المتصرف، المصرّف لهذه الحياة!

ولكنا نعود بعد ذلك كله فنذكر أن هذا البلاء كله – من مبدئه إلى نهايته- إنما جاء ثمرة طبيعية لانحراف الكنيسة والمجامع بالتصور الرباني. ومحاولة الفكر الأوربي أن يأبق من وجه الكنيسة وإلهها الذي تستطيل به! فنحمد الله أن ظل التصور الإسلامي "الرباني" محفوظاً! وإن لم تقم عليه كنيسة! وإن لم يقع بينه وبين العقل البشري والعلم البشري ذلك الصدام، الذي قادم الفكر الأوروبي إلى هذا التيه وهذا الركام!

ونذكر أن التصور الإسلامي يدع العقل البشري وللعلم البشري ميدانه واسعاً كاملاً – فيما وراء أصل التصور ومقوّماته – ولا يقف دون العقل يصده عن البحث في الكون. بل هو يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه إليه دفعاً. ولا يقف دون العلم البشري في المجال الكوني. بل هو يكل أمر الخلافة كله –في حدود التصور الرباني- للعقل البشري وللعلم البشري.. وندرك مقدار نعمة الله ومقدار رحمته في تفضله علينا بهذا التصور الرباني، وفي إبقائه وحفظه على أصله الرباني..


الثّبات

"فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطــر

الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم"

 

من الخاصية الأساسية للتصور الإسلامي – خاصية الربانية- تنبثق سائر الخصائص الأخرى. وبما أنه "رباني" صادر من الله، وظيفة الكينونة الإنسانية فيه هي التلقي والاستجابة والتكيف والتطبيق في واقع الحياة. وبما أنه ليس نتاج فكر بشري، ولا بيئة معينة، ولا فترة من الزمن خاصة، ولا عوامل أرضية على وجه العموم .. إنما هو ذلك الهدى الموهوب للإنسان هبة لدنية خالصة من خالق الإنسان، رحمة بالإنسان..

بما أنه كذلك. فمن الخاصية فيه تنشأ خاصية أخرى.. خاصية: "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت".

هناك "ثبات" في "مقومات" هذا التصور الأساسية، و "قيمه" الذاتية. فهي لا تتغير ولا تتطور، حينما تتغير "ظواهر" الحياة الواقعية، و "أشكال" الأوضاع العملية .. فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع، يظل محكوماً بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور..

ولا يقتضي هذا "تجميد" حركة الفكر والحياة. ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة –بل دفعها إلى الحركة- ولكن داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت..

وهذه السمة – سمة الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت- هي طابع الصنعة الإلهية في الكون كله – فيما يبدو لنا- لا في التصور الإسلامي وحده.

"مادة" هذا الكون – سواء كانت هي الذرة أو الإشعاع البسيط المنطلق عند تحطيمها، أو أية صورة أخرى – ثابتة الماهية. ولكنها تتحركن فتتخذ أشكالاً دائمة التغير والتحور والتطور.

والذرة ذات نواة ثابتة تدور حولها الإلكترونات في مدار ثابت.

وكل كوكب وكل نجم له مداره، يتحرك فيه حول محوره، حركة منتظمة، محكومة بنظام خاص.

و "إنسانية" هذا الإنسان، المستمدة من كونه مخلوقاً فيه نفخة من روح الله اكتسب بها إنسانيته المتميزة عن سائر طبائع المخلوقات حوله.. إنسانية هذا الإنسان ثابتة([29]). ولكن هذا "الإنسان" يمر بأطوار جنينية شتى من النطفة إلى الشيخوخة! ويمر بأطوار اجتماعية شتى، يرتقي فيها وينحط حسب اقترابه وابتعاده من مصدر إنسانيته. ولكن هذه الأطوار وتلك لا تخرجه من حقيقة "إنسانيته" الثابتة. ونوازعها وطاقاتها واستعداداتها المنبثقة من حقيقة إنسانيته.

ونزوع هذا الإنسان إلى الحركة لتغيير الواقع الأراضي وتطويره .. حقيقة ثابتة كذلك .. منبثقة أولاً من الطبيعة الكونية العامة، الممثلة في حركة المادة الكونية الأولى وحركة سائر الأجرام في الكون. ومنبثقة ثانياً من فطرة هذا الإنسان. وهي مقتضى وظيفته في خلافة الأرض. فهذه الخلافة تقتضي الحركة لتطوير الواقع الأرضي وترقيته .. أما أشكال هذه الحركة فتتنوع وتتغير وتتطور([30]).

وهكذا تبدو سمة: "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت" سمة عميقة في الصنعة الإلهية كلها. ومن ثم فهي بارزة عميقة في طبيعة التصور الإسلامي.

ونحن نسبق السياق هنا، فنستعرض نماذج من المقومات والقيم الثابتة في هذا التصور (سيجئ تفصيل الكلام عنها في موضعه في القسم الثاني من هذا البحث) وهي التي تمثل "المحور الثابت" الذي يدور عليه المنهج الإسلامي في إطاره الثابت.

إن كل ما يتعلق بالحقيقة الإلهية – وهي قاعدة التصور الإسلامي- ثابت الحقيقة، وثابت المفهوم أيضاً. وغير قابل للتغيير ولا للتطوير:

حقيقة وجود الله، وسرمديته، ووحدانيته –بكل إشعاعاتها- وقدرته، وهيمنته، وتدبيره لأمر الخلق، وطلاقة مشيئته .. إلى آخر صفات الله الفاعلة في الكون والحياة والناس..

وحقيقة أن الكون كله –أشياءه وأحياءه- من خلق الله وإبداعه. أراده الله –سبحانه- فكان. وليس لشيء ولا لحي في هذا الكون، أثارة من أمر الخلق في هذا الكون، ولا التدبير ولا الهيمنة. ولا مشاركة في شيء من خصائص الألوهية بحال..

وحقيقة العبودية لله .. عبودية الأشياء والأحياء .. وعموم هذه العبودية للناس جميعاً. بما فيهم الرسل –عليهم الصلاة والسلام- عبودية مطلقة، لا تتلبس بها أثارة من خصائص الألوهية. مع تساويهم في هذه العبودية..

وحقيقة أن الإيمان بالله – بصفته التي وصف بها نفسه – وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.. شرط لصحة الأعمال وقبولها. وإلا فهي باطلة من الأساس، غير قابلة للتصحيح، ومردودة غير محتسبة وغير مقبولة ..

وحقيقة أن الله لا يقبل من الناس ديناً سواه. وأن الإسلام معناه إفراد الله –سبحانه- بالألوهية وكل خصائصها. والاستسلام لمشيئته، والرضى بالتحاكم إلى أمره ومنهجه وشريعته. وأن هذا هو دينه الذي ارتضاه. لا أي دين سواه.

وحقيقة أن "الإنسان" – بجنسه- مخلوق مكرم على سائر الخلائق في الأرض مستخلف من الله فيها. مسخر له كل ما فيها. ومن ثم فليست هناك قيمة مادية في هذه الأرض تعلو قيمة هذا الإنسان، أو تهدر نم أجلها قيمته..

وحقيقة أن الناس من أصل واحد. ومن ثم فهم –من هذه الناحية- متساوون. وأن القيمة الوحيدة التي يتفاضلون بها – فيما بينهم- هي التقوى والعمل الصالح. لا أية قيمة اخرى، من نسب، أو مال، أو مركز، أو طبقة، أو جنس .. إلى آخر القيم الأرضية.

وحقيقة أن غاية الوجود الإنساني هي العبادة لله .. بمعنى العبودية المطلقة لله وحده. بكل مقتضيات العبودية، وأولها الائتمار بأمره –وحده- في كل أمور الحياة صغيرها وكبيرا والتوجه إليه –وحده- بكل نية وكل حركة، وكل خالجة وكل عمل. والخلافة في الأرض وفق منهجه- أو بتعبير القرآن وفق دينه – إذ هما تعبيران مترادفان عن حقيقة واحدة..

وحقيقة أن رابطة التجمع الإنساني هي العقيدة، وهي هذا المنهج الإلهي .. لا الجنس، ولا القوم، ولا الأرض، ولا اللون، ولا الطبقة، ولا المصالح الاقتصادية أو السياسية، ولا أي اعتبار آخر من الاعتبارات الأرضية ..

وحقيقة أن الدنيا دار ابتلاء وعمل. وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وأن الإنسان مبتلى وممتحن في كل حركة، وفي كل عملن وفي كل خير يناله أو شر، وفي كل نعمة وفي كل ضر .. وأن مرد الأمور كلها إلى الله..

… هذه وأمثالها من المقومات والقيم – التي سنعرض لها بالتفصيل في مواضعها في القسم الثاني من هذا البحث –كلها ثابتة، غير قابلة للتغير ولا للتطور .. ثابتة لتحرك ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع في إطارها، وتظل مشدودة إليها. ولتراعي مقتضياتها في كل تطور لأوضاع الحياة، وفي كل ارتباط يقوم في المجتمع، وفي كل تنظيم لأحوال الناس أفراداً وجماعات، في جميع الأحوال والأطوار.

وقد تتسع المساحة التي تتجلى فيها مدلولات هذه المقومات والقيم، كلما اتسعت جوانب الحياة الواقعية، وكلما اتسع مجال العلم الإنساني، وكلما تعددت المفاهيم التي تتجلى فيها هذه المقومات والقيم. ولكن أصلها يظل ثابتاً. وتتحرك في إطاره تلك المدلولات والمفاهيم.

حقيقة أن الإنسان مستخلف في هذه الأرض –مثلاً- تتجلى في صور شتى .. تتجلى في صورته وهو يزرع الأرض. لأن أوضاع حياته ومدى تجاربه تجعل الزراعة هي التي تفي في ذلك الطور باحتياجاته الضرورية، وبها تتحقق الخلافة.. وتتجلى كذلك في صورته وهو يفجر الذرة، ويرسل الأقمار الصناعية لتكشف له طبيعة الغلاف الجوي للأرض، أو طبيعة الكواكب والتوابع من حوله .. هذه وتلك – وما بينهما وما بعدهما- صور من صور الخلافة في الأرض، قابلة دائماً للزيادة والاتساع. ولكن  حقيقة الخلافة في الأرض ثابتة على كل حال. يقتضي مفهومها الثابت ألا يحال بين الإنسان ومزاولة حقه في الخلافة وفق منهج  الله المرسوم. وألا يعلوا شيء في هذه الأرض على "الإنسان". وألا تهدر قيمته "الإنسانية" لينشئ قمراً صناعياً، أو ليضاعف الإنتاج المادي ! فهو سيد الأقمار الصناعية، وسيد الإنتاج المادي!

وحقيقة أن غاية الوجود الإنساني هي العبادة –مثلاً- تتمثل في كل نشاط يتجه به الإنسان إلى الله. وألوان النشاط غير محدودة. فهي تابعة لمقتضيات الخلافة النامية المتجددة .. وتتمثل في عبوديته لله وحده، بالتحاكم إلى منهجه وحده، في كل شؤون الحياة. وهذه الشؤون غير محدودة. فهي كذلك تابعة لمقتضيات الخلافة النامية المتجددة .. ولكن حقيقة الغاية ثابتة لا تتغير. فإذا لم يتجه إلى الله بكل نشاط. وإذا لم يتحاكم إلى منهج الله في كل شأن، فقد أخل بهذه الحقيقة الثابتة، وخرج على غاية وجوده الإنساني. واعتبر عمله باطلاً غير قابل للتصحيح المستأنف، ولا بالقبول من المؤمنين.

وهكذا – على هذا النحو- تتسع مساحة مدلولات هذه المقومات، وتتنوع الصور التي تتجلى فيها .. ولكنها هي ثابتة في التصور الإسلامي، لا يتناولها التغير ولا التطور على كل حال.

وقيمة وجود تصور ثابت للمقومات والقيم على هذا النحو، هي ضبط الحركة البشرية، والتطورات الحيوية. فلا تمضي شاردة على غير هدى – كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة – فانتهت إلى تلك النهاية البائسة، ذات البريق الخادع واللألاء الكاذب، الذي يخفي في طياته الشقوة والحيرة والنكسة والارتكاس.

وقيمته هي وجود الميزان الثابت الذي يرجع إليه "الإنسان" بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجدّ في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات. فيزنها بهذا الميزان الثابت. ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب.. ومن ثم يظل دائماً في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه، الذي لا دليل فيه من نجم ثابت، ولا من معالم هادية في الطريق!

وقيمته هي وجود "مقوّم" للفكر الإنساني مقوّم منضبط بذاته. يمكن أن ينضبط به الفكر الإنساني. فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات. وإذا لم يكن هذا المقوم الضابط ثابتاً. فكيف ينضبط به شيء إطلاقاً! إذا دار مع الفكر البشري –كيفما دار- ودار مع الواقع البشري –كيفما دار- فكيف تصبح عملية الضبط ممكنة. وهي لا ترجع إلى ضابط ثابت. يمسك بهذا الفكر الدوّار؟ أو بهذا الواقع الدوّار؟!

إنها ضرورة من ضرورات صيانة النفس البشرية، والحياة البشرية، أن تتحرك داخل إطار ثابت، وان تدور على محور لا يدور! إنها على هذا النحو تمضي على السنة الكونية الظاهرة في الكون كله، والتي لا تختلف في جرم من الأجرام!

إنها ضرورة لا تظهر كما تظهر اليوم. وقد تركت البشرية هذا الأصل الثابت، وأفلت زمامها من كل ما يشدها إلى محور. وأصبحت أشبه بجرم فلكي خرج من مداره، وفارق محوره الذي يدور عليه في هذا المدار. ويوشك أن يصدكم فيدمر نفسه ويصيب الكون كله بالدمار.

"ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ..".

(المؤمنون: 71)

والعاقل "الواعي" الذي لم يأخذه الدوار الذي يأخذ البشرية اليوم. حين ينظر إلى هذه البشرية المنكودة يراها تتخبط في تصوراتها، وأنظمتها، وأوضاعها، وتقاليدها، وعاداتها، وحركاتها كلها تخبطاً منكراً شنيعاً .. يراها تخلع ثيابها وتمزقها كالمهووس! وتتشنج في حركاتها وتتخبط وتتلبط كالممسوس  .. يراها تغير أزياءها في الفكر والاعتقاد، كما تغير أزياءها في الملابس، وفق أهواء بيوت الأزياء! .. يراها تصرخ من الألم، وتجري كالمطارد، وتضحك كالمجنون، وتعربد كالسكير، وتبحث عن لاشيء! وتجري وراء أخيله! وتقذف بأثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به يداها من أحجار وأوضار!

لعنة! لعنة كالتي تتحدث عنها الأساطير!

إنها تقتل "الإنسان" وتحوله إلى آلة .. لتضاعف الإنتاج!

إنها تقضي على مقوماته "الإنسانية" وعلى إحساسه بالجمال والخلق والمعاني السامية لتحقيق الربح لعدد قليل من المرابين وتجار الشهوات، ومنتجي الأفلام السينمائية وبيوت الأزياء.

وتنظر إلى وجوه الناس، ونظراتهم، وحركاتهم، وأزيائهم، وأفكارهم، وآرائهم، ودعواتهم. فيخيل إليك أنهم هاربون! مطاردون! لا يلوون على شيء، ولا يتثبتون من شيء! ولا يتريثون ليروا شيئاً ما رؤية واضحة صحيحة .. وهم هاربون فعلاً! هاربون من نفوسهم التي بين جنوبهم! هاربون من نفوسهم الجائعة القلقة الحائرة، التي لا تستقر على شيء "ثابت" ولا تدور على محور ثابت، ولا تتحرك في إطار ثابت.. والنفس البشرية لا تستطيع أن تعيش وحدها شاذة عن نظام الكون كله. ولا تملك أن تسعد وهي هكذا شاردة تائهة، لا تطمئن إلى دليل هاد، ولا تستقر على قرار مربح!

وحول هذه البشرية المنكودة زمرة من المستنفعين بهذه الحيرة الطاغية، وهذا الشرود القاتل.. زمرة من المرابين، ومنتجي السينما، وصانعي الأزياء والصحفيين، والكتاب.. يهتفون لها بالمزيد من الصرع والتخبط والدوار، كلما تعبت وكلت خطاها، وحنت إلى المدار المنضبط والمحور الثابت، وحاولت أن تعود!

زمرة تهتف لها .. التطور .. الانطلاق .. التجديد .. بلا ضوابط ولا حدود .. وتدفعها بكلتا يديها إلى المتاهة كلما قاربت من المثابة .. باسم التطور .. وباسم الانطلاق .. وباسم التجديد..

إنها الجريمة. الجريمة المنكرة في حق البشرية كلها. وفي حق هذا الجيل المنكود([31])!

وفكرة "التطور" المطلق، لكل الأوضاع، ولكل القيم، ولأصل التصور الذي ترجع إليه القيم. فكرة تناقض –كما قلنا- الأصل الواضح في بناء الكون، وفي بناء الفطرة. ومن ثم ينشأ عنها الفساد الذي لا عاصم منه .. إنها تمنح حق الوجود، ومبرر الوجود، لكل تصور، ولكل قيمة، ولكل وضع، ولكل نظام. ما دام تالياً في الوجود الزمني! وهو مبرر تافه، عرضي، لا ينبغي أن يكون له وزن في الحكم على تصور أو وضع أو قيمة أو نظام. إنما ينبغي أن يكون الوزن لمقومات ذاتية في ذات الوضع أو ذات النظام.

ونحن نعرف أن الفكر الأوربي – في هروبه من الكنيسة، ورغبته الخفية والظاهرة في خلع نيرها- قد مال إلى نفي  فكرة "الثبات" –على الإطلاق- واستعاض عنها فكرة "التطور"  –على الإطلاق-  لم يستثن منها أصل العقيدة والشريعة. بل لقد كانت فكرة ثبات مقومات العقيدة والشريعة بالذات هي التي يريد التفلت منها والتملص والخلاص!

وسلوك الفكر الغربي هذا المسلك مفهوم لنا جيداً من خلال الاستعراض السابق. وما يفسره – وإن لم يكن له ما يبرره على إطلاقه – ونحن لا نشتد في لوم الفكر الغربي على موقفه هذا. وإن يكن موقفاً خاطئاً معيباً. فقد صادف عقيدة محرفة مشوهة مشوبة بالوثنيات والأساطير منذ اللحظة الأولى. ثم واجه كنيسة مستبدة فاسدة في الوقت ذاته، تستطيل على الفكر والعلم والناس باسم هذه الخرافات التي تجعلها أساس العقيدة "الثابتة"!

نحن لا نشتد في لوما لفكر الغربي على هذا الموقف. ولكننا –في الوقت ذاته- يجب أن نفطن إلى الأسباب الحقيقية لجنوح الفكر الغربي – أو جموحه- لتغليب فكرة "التطور" المطلق، الذي لا يتقيد بأي أصل ثابت، ولا بأية قيمة ثابتة، ولا بأية حقيقة ثابتة. فليست هذه "حقيقة علمية" وإنما هي شهوة جامحة، وهوى شارد، مبعثه الرغبة في التملص من وثاق الكنيسة الجبار!

إن دارون – وهو يقرر مذهب التطور في خط سير الحياة – لم يكن يبحث، ولم يكن بحثه يتناول، إلا جزئية سطحية من جزئيات هذا الكون، تبدأ بعد وجود الحياة. ولا تمتد إلى مصدر الحياة، ولا إلى الإرادة التي صدرت عنها الحياة.. وحتى على فرض صحة نظريته – والآن توجه معاول الهدم إلى صلب النظرية([32]) – فإن خط التطور يثبت أن هناك إرادة ثابتة من ورائه. وأنه يتم وفق خط مرسوم لا مجال للمصادفة فيه. وأنه جزء من "الحركة" التي هي قانون من قوانين الكون. وحركة الكون كما قلنا ليست فوضى، وإنما هي تتم حول قاعدة "ثابتة" وتتم في إطار "ثابت!".

وعلى أية حال فلم يكن لا "المنهج العلمي" ولا "الحقائق العلمية" هي التي أملت على دارون – حين لم يهتد إلى سر الحياة، ولم يستطع تعليلها علمياً- أن يهرب من ردها إلى الله. ووجودها ذاته يحتم الاعتراف بأن موجدها لابد أن يكون مريداً مختاراً فيما يريد، عليماً خبيراً، قادراً على تحقيق ما يريد .. ولكن دارون كان هارباً من "الله" لأنه كان هارباً من الكنيسة وإلهها الذي تصول باسمه وتجول .. ومن ثم رد الحياة إلى "الطبيعة" – التي لا حد لقدرتها كما يقول! ومن ثم حاول أن يوهم أن لا ثبات لشيء –على الإطلاق- بينما بحثه كله كان في دائرة خط سير الحياة. بعد وجود الحياة. ولم يكن يتناول "كل شيء" على الإطلاق([33])!

والمذهب الماركسي، هو أشد المذاهب "الوضعية" معارضة لحقيقة "الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت"، لأن الاعتراف بهذه الحقيقة البارزة في طبيعة الكون "المادي" ذاته، يفقد المذهب ركيزته الأولى التي يقوم عليها، ويحطم دعواه في "التقدمية" كما يفهمها!

"وماركس له جدل (Dialektik) ومنطق استخدم فيه مبدأ "النقيض" الذي عرف للفيلسوفين الألمانيين قبله: نيتشه وهيجل. ولكن استخدمه في مجال آخر غير مجال "التصور" عند نيتشه وغير مجال "الفكرة" عند هيجل استخدمه في مجال "الاقتصاد" مستنداً إلى تاريخ الجماعة.

" فكل "شيء" في نظره يتضمن نقيضه. بحيث أن كل "شيء" يهدم نفسه.. وهذا هو التصوير العام لمبدأ النقيض .. ولكن ماركس يستخدمه للتدليل على وقوع انهيار "الجماعات" التي قامت على "الرأسمالية". فالجماعات السابقة عليها. وهي دول الملوك، والجماعات الإقطاعية (أصحاب المزارع الكبيرة) انهارت – بناء على تفكير ماركس – لأنها تضمنت عنصر المقابلة أو النقيض. وعلى هذا النحو كذلك ستنهار هذه الجماعة الحديثة "الرأسمالية" وتتحول إلى المقابل والنقيض. وهو الجماعة "الشيوعية" ذات الطبقة الواحدة من العمال.

"ومع أن مبدأ النقيض لا يقف بتحول الشيء إلى مقابله فقط. بل سيتحول الشيء ومقابله إلى جامع لهما. ثم هذا الجامع يصير إلى "شيء" يتحول أيضاً إلى مقابلة. ثم إلى جامع … وهكذا. مع أن منطق هذا المبدأ هو الاستمرار في التحول .. فالماركسية تقف بترقب تحول الجماعة. ولا تتحدث – فضلاً عن أن تترقب – عن انهيار الجماعة الشيوعية وسقوطها، وهدم نفسها في جماعة مقابلة. بناء على أن كل شيء يتضمن نقيض نفسه، وفيه عامل الهدم لنفسه!!

… "وكنتيجة لهذا (أي للتحول الدائم الذي يقف به ماركس عند الشيوعية تحكماً وهوىً) أن الذي يعتقد بالقيم الأزلية هو مصدق بأشياء لا توجد. حتى هؤلاء الذين يعتقدون أن بعض القيم للوقت الحاضر، أو للحال الراهن، يجب أن يحتفظ بها، هم مصدقون بما لا يقع. فإذا اعتقد شخص أن كل شيء يتغير. فمن السذاجة أن يكون محافظاً"!

"وعلى نحو صنيع هيجل في صياغة مبدأ النقيض، توضح الماركسية أن كل شيء يتضمن قوتين رئيسيتين متقابلتين: واحدة تسمى "الدعوى" والأخرى تسمى "مقابل الدعوى". وهاتان القوتان تهدم إحداهما الأخرى. ولكن ينشأ من الهدم حالة جديدة تسمى "جامع الدعوى ومقابلها" ثم يسقط هذا الجامع ويتحول إلى مقابله. وعندئذ نحصل على دعوى ومقابل الدعوى من جديد. ثم ينشا من تقابلهما وتناقضهما جامع جديد. في تسلسل لا نهاية له([34]).

وصياغة مبدأ النقيض في هذه العبارات تناسب تطبيقه في دائرة "الجماعة" التي اختارتها الماركسية مجالاً للتطبيق. كما تناسب "الصراع" بين الطبقات في الجماعة، التي حرصت هي أيضاً على أن يكون مصطلحاً لها، بدلاً عن "التقابل" بين الشيء ومقابله، الذي اصطلح عليه نيتشه وهيجل من قبل في شرح النقيض.

"واستخدام مبدأ النقيض في دائرة "الجماعة" –كما اختارت الماركسية- يعطيها دليلاً على أن الشيوعية –كجماعة- هي أسمى في القيمة من كل جماعة وجدت سابقاً! فالجماعة ذات النظام الملكي سقطت، وتحولت إلى الجانب المقابل- وهو حكام الملك من جانب والعبيد والفقراء من جانب آخر – ومن الكفاح بين الفريقين المتقابلين تكوَّن الجامع بين الشيء ومقابله –وهو الجماعة الإقطاعية- وبعد ذلك سقط الإقطاع في القوة المقابلة – وهي قوة الملاك من جانب والفلاحين من جانب آخر- ومن الكفاح بين الملاك والفلاحين نشأت الرأسمالية .. وتريد الماركسية أن تقول الآن:إن الرأسمالية (في الصناعة) ستسقط في القوة المقابلة – وهي قوة العمال من جانب وأصحاب العمل من جانب آخر – والجماعة الجديدة هي الجماعة الاشتراكية الماركسية ذات الطبقة الواحدة!

"ولكن أيقف "مبدأ النقيض" عند هذه الجماعة الجديدة؟ أم ستسقط هي بدورها في مقابل لها – كما هي ضرورة منطق هذا المبدأ- كضرورة حتمية في الوجود؟!

"وانتقال الجماعة من حال إلى حال يصحبه في نظر الماركسية التطور في "القيمة" فالإقطاع أسمى من دولة الملك. والرأسمالية أسمى من الإقطاع. والشيوعية أسمى من الجماعات الرأسمالية!

"وادعاء أن كل جماعة أسمى من سابقتها مصدر براق للدعاية الشيوعية. وكثير من الناس يصيرون أتباعاً للشيوعية، لأنهم يعتقدون أنهم يعملون من أجل عالم أحسن من أي عالم وجد قبل ذلك"([35])!!!

وظاهر من هذا العرض لأصول المذهب الماركسي أنه قائم على "التحكم" الذي تمليه الرغبة في الوصول إلى نتائج معينة مرسومة من قبل! لا على الواقع. ولا على تتبع هذا الواقع.

فمبدأ النقيض ابتداء – كما هو في فلسفة نيتشه وهيجل – مجرد "تحكم" تصوري فكري، لا رصيد له من الواقع –كما أسلفنا- وحين يطبقه كارل ماركس على تاريخ الجماعة البشرية، يعتمد أولاً أن يسقط جميع "مقومات" الجماعات البشرية، التي يمكن أن يجري فيها التحول – إذا صح مبدأ النقيض – ويعتمد فقط المقوّم الاقتصادي ويشرح التحول فيه – وهو على كل أهمية- لا يمثل كل مقومات الحياة الإنسانية.. ثم هو بعد ذلك كله يعتمد تاريخ جماعة معينة – هي الجماعة الأوربية- ثم هو يتحكم في تاريخ هذه الجماعة الخاصة. فيختار نقطاً معينة فيه. فضلاً على استحالة إدراك فرد واحد، في جيل من الأجيال، لجميع العوامل والمؤثرات التي لعبت أدوارها في حياة هذه الجماعة على مدار القرون! فيختار مظهراً واحداً من مظاهر نشاطها ويهمل سائر المظاهر! ثم يتحكم مرة رابعة أو خامسة أو عاشرة، فيعتبر أن كل وضع تال خير من الوضع السابق له على الإطلاق. ومع ذلك لا يريد أن يدع العجلة تمضي إلى وضع خير من الشيوعية .. بل يوقف سير التاريخ عند هذه النقطة! ويضحي بالخير الآتي !!!

ومع هذا التهافت في بناء المذهب على مجرد التحكم والهوى، فقد صحبته لوثة في وزن القيم لم تقتصر على معتنقيه، بل تجاوزتهم إلى المعارضين له كذلك: في أوربا وفي أمريكا! لوثة التخلي عن كل ما هو سابق، والتقاط كل ما هو لاحق. ولوثة التحلل من كل قيمة تصد الشهوات عن الانطلاق بلا حدود ولا قيود. ولوثة السخرية من ثبات القيم الأخلاقية وغير الأخلاقية. اللوثة التي كان للماركسية من ورائها هدف خاص، وغاية مرسومة سلفاً. ولم تكن هي بذاتها نتيجة منطقية لأية دراسة "علمية"!

فالتطور المطلق هو مجرد عملية تبرير لكل ما يراد عمله. وهو أولاً وقبل كل شيء عملية تبرير لما تريده "الدولة" بالأفراد، بحيث لا يكون هناك مبدأ ثابت، ولا قيمة ثابتة، يلوذ بها الأفراد في مواجهة الدولة. وبحيث لا يكون هناك "حق ثابت" يفئ إليه الجميع، ولا دستور ثابت يتحاكم إليه الجميع!

وفي نظير إطلاق يد الدولة تجاه الأفراد من كل قيد، تطلق الدولة "شهوات" الأفراد من كل قيد. ليجدوا في هذا الانطلاق "الحيواني" تعويضاً عن قيمهم المسلوبة، وحرياتهم المسلوبة، وحقوقهم المسلوبة!

انطلاق حيواني للشهوات، يقابله انطلاق استبدادي للسلطة.. واحدة بواحدة .. وبدلاً من أن تقوم هذه الصفقة على مجرد الاصطلاح العرفي الصامت بين الفريقين! فإنها تقوم على مبدأ "فلسفي"! وعلى مذهب "علمي"! تقوم على "مبدأ النقيض" وتقوم على "المادية الجدلية"!

وهذا هو المذهب الذي يزعم أن "الدين مخدر" وأن ثبات القيم في الدين مقصود به خدمة الطبقة الحاكمة!

إن "الثبات" في مقومات التصور الإسلامي وقيمه – فضلاً على أنه امتداد للنظام الكوني- هو الذي يضمن للحياة الإسلامية خاصية "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت" فيضمن للفكر الإسلامي وللحياة الإسلامية مزية التناسق مع النظام الكوني العام، ويقيه شر الفساد الذي يصيب الكون كله لو اتبع أهواء البشر، بلا ضابط من قاعدة ثابتة لا تتأرجح مع الأهواء.

وهو الذي يقي الفكر الإسلامي ويقي المجتمع الإسلامي مثل تلك اللوثة في الفكر الماركسي وفي الجماعة الشيوعية. وهي اللوثة ذاتها التي أصابت الفكر الغربي والمجتمعات الغربية بصفة عامة – حتى وهي تعارض الماركسية من الناحية المذهبية والسياسية – وذلك منذ أفلتت من نطاق العقيدة، في ظل تلك الملابسات النكدة..

وهو الذي يبث الطمأنينة في الضمير المسلم، وفي المجتمع المسلم .. الطمأنينة إلى ثبات الإطار الذي تتحرك فيه حياته، وثبات المحور الذي تدور حياته حوله. فيشعر أن حركته إلى الأمام، ثابتة الخطو، موصولة الخيط، ممتدة من الأمس إلى اليوم إلى الغد. نامية مطردة النمو. صاعدة في المرتقى المرسوم، بالتقدير الإلهي القويم.

ثم هو –في النهاية- الذي يضمن للمسلم في المجتمع الإسلامي مبادئ ثابتة يتحاكم إليها هو وحكامه على السواء. فلا يطلق هؤلاء أيديهم في مقوماته وحرياته وحقوقه، في مقابل أن يطلقوا هم حرية الشهوات والنزوات الحيوانية للجماهير المكبوتة في قماقم الاستبداد!

وبعد فإن التصور الإسلامي – من ثم- يقوم على أساس أن هناك حالتين اثنتين للحياة البشرية. ولا علاقة للزمان أو للمكان في تقدير قيمة هاتين الحالتين. إنما القيمة لذات كل حالة. ولوزنها في ميزان الله الثابت، الذي لا يتأثر بالزمان والمكان..

حالتان اثنتان تتعاوران الحياة البشرية على مدى الزمان واختلاف المكان: حالة الهدى وحالة الضلال – مهما تنوعت ألوان الضلال – حالة الحق وحالة الباطل – مهما تنوعت ألوان الباطل – حالة النور وحالة الظلام- مهما تنوعت ألوان الظلام- حالة الشريعة وحالة الهوى مهما تنوعت ألوان الهوى – حالة الإسلام وحالة الإسلام وحالة الجاهلية – مهما تنوعت ألوان الجاهلية- حالة الإيمان وحالة الكفر – مهما تنوعت ألوان الكفر – وإما يلتزم الناس الإسلام ديناً (أي منهجاً للحياة ونظاماً) وإلا فهو الكفر والجاهلية والهوى والظلام والباطل والضلال.

"إن الدين عند الله الإسلام" …

(آل عمران: 19)

"ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" …

(آل عمران: 85)

"فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ …

(يونس: 32)

"ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون" …

(الجاثية: 18)

"وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله"…

(الأنعام: 153)

"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات" …

(البقرة: 257)

"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"…

(المائدة: 44)

"أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟"

(المائدة: 50)

"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" ..

(النساء: 59)

فإذا ثبت هذا الإطار استطاعت الحياة – فكرة وتصوراً وواقعاً ونظاماً – أن تتحرك في داخله بحرية ومرونة، واستجابة لكل تطور فطري صحيح، مستمد من التصور الكلي الثابت القويم.

والقيمة الكبرى لهذه الخاصية، هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه شعور المسلم وتصوره، فتقوم عليه الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في استقرار وثبات. مع إطلاق الحرية للنمو الطبيعي في الأفكار والمشاعر، وفي الأنظمة والأوضاع. فلا تتجمد في قالب حديدي ميت – كالذي أرادته الكنيسة في العصور الوسطى – ولا تنفلت كذلك من كل ضابط انفلات النجم الهالك من مداره وفلكه! وانفلات القطيع الشارد في المهلكة المقطوعة! كما صنعت أوربا في تاريخها الحديث، حتى انتهت إلى ذلك التفكير الشائه!

ولعل هذه الخاصية هي التي ضمنت للمجتمع الإسلامي تماسكه وقوته مدى ألف عام. على الرغم من جميع الهزات، ومن جميع الضربات، ومن جميع الهجمات الوحشية عليه من أعدائه المحيطين به في كل مكان .. ولم يبدأ تفككه وضعفه إلا منذ أن تخلى عن هذه الخاصية في تصوره، وإلا منذ أن أفلح أعداؤه في تنحية التوجيه الإسلامي، وإحلال التوجيهات الغربية مكانه في العالم الإسلامي([36]).

ومما لا شك فيه أن المجتمع الذي يجري دائماً وراء تصورات متقلبة أبداً، لا تستند إلى أصل ثابت إطلاقاً، تنبع من الفكر البشري المحدود المعرفة، الظنى المعرفة كذلك، الذي يبني علمه –مهما علم- على الظن والحدس والخرص، والفروض المتقلبة أبداً .. ثم يجعل من هذا العلم الظني إلهاً، او يجعل من الهوى المتقلب إلهاً، يتلقى منه التصورات والقيم والموازين.

مما لا شك فيه أن مجتمعاً كهذا معرض دائماً للهزات العنيفة، والأرجحة المستمرة، التي تنشئ في عقله الحيرة، وفي ضميره البلبلة، وفي أعصابه التعب، وفي حياته الشرود، وفي كيانه الفساد.

وهذا هو الذي حدث في المجتمعات الأوروبية المفلتة من كل أصل ثابت. وهذا هو الذي تشقى به البشرية كلها اليوم. وهي تخبط في التيه، وراء المجتمعات الأوروبية الشاردة([37])!

لابد من تصور ثابت المقومات والقيم، يجئ من مصدر ثابت العلم والإرادة! مصدر يرى المجال كله، والخط كله، فلا تخفى عليه منحنيات الدرب، ولا يقدر اليوم تقديراً يظهر في غد خطؤه ونقصه، ولا تتلبس به شهوة أو هوى يؤثر في موازينه وتقديراته .. ولا ضير بعد هذا من الحركة، والتغير، والتطور، والنمو والترقي.. بل تصبح كلها مطلوبة، وتصبح كلها مأمونه، وتصبح كلها تلبية للفطرة: القائمة على الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت. ولكنها حركة راشدة واعية، مدركة للغاية الثابتة التي تتجه إليها، في خطو متزن، مستقيم راسخ.. وهذا هو ضمان الحياة الطويلة المدى، المتناسقة التصميم.

ولا نحتاج إلى الحيطة ضد التجمد في قالب حديدي، ونحن نستمسك بهذه الخاصية في التصور الإسلامي – خاصية الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت – فخاطر التجمد لا يرد على مثل هذا التصور، ولا على الحياة التي تتحرك في إطاره. فالحركة كما قلنا هي القاعدة فيه، كما أنها هي القاعدة في التصميم الكوني. والكون لا يتجمد ولا يأسن ولا يفسد ولا يركد. فهو في حركة دائمة، وفي تغير دائم، وفي تطور دائم، وفي تشكل مستمر في كل لحظة. ولكنه يتحرك مع استبقاء حقيقته الأصيلة كما قلنا في مطلع هذه الفقرة.

وحين نطالع مذاهب الفكر الغربي، فنرى الطابع الغالب عليها هو اعتبار "التطور" المطلق – دون الرجوع إلى أي أصل ثابت – فيجب أن نكون واعين للعوامل التاريخية التي جعلت هذا الفكر يجنح –أو يجمح- هكذا. ويجب أن نفطن لما اندس في هذا الفكر من عداء عميق كامن للتفكير الديني على الإطلاق، والأسباب القابعة وراء هذا العداء. ويجب أن ندرك أن مناهج هذا الفكر – بما اندس في صلبها من هذا العداء – لا تصلح للتطبيق على مناهجنا الإسلامية، ولا تصلح للاستعانة بها في بحوثنا الإسلامية كذلك!

إننا نقتبس من هذا الفكر – تارة مناهجه، وتارة النتائج التي وصل إليها، وتارة رقعاً ممزقة منه – ثم نخلط هذا كله بحديثنا عن الإسلام، أو عن المجتمع، أو عن مناهج الفكر والنظر.. وهذه كلها جهالة تتباهي وهي تتبدى في ثياب المعرفة! وأحياناً يضاف إلى الجهالة التفاهة وسوء النية كذلك!

يقول الأستاذ المهتدي محمد أسد (ليوبولدفايس) في كتابه القيم: (الإسلام على مفترق الطرق":

"يخبرنا التاريخ أن جميع الثقافات الإنسانية، وجميع المدنيات، أجسام عضوية تشبه الكائنات الحية.. إنها تمر في جميع أدوار الحياة العضوية، التي يجب أن تمر بها. إنها تولد، ثم تشب وتنضج، ثم يدركها البلى في آخر الأمر. فالثقافات كالنبات الذي يذوى ثم يستحيل تراباً. تموت في أواخر أيامها، وتفسح المجال لثقافات أخر ولدت حديثاً.

"أهذه إذن حال الإسلام؟ ربما ظهرت كذلك عند إلقاء أول نظرة سطحية.. مما لا شك فيه أن الثقافة الإسلامية شهدت نهضة مجيدة، وعهداً من الازدهار. وكان لها من القوة ما يلهم الرجال جلائل الأعمال، وأنواع التضحية. ولقد غيرت معالم الشعوب، وخلقت دولاً جديدة .. ثم سكنت وركدت، وأصبحت كلمة جوفاء .. وها نحن أولاء اليوم نشهد انحطاطها التام وانحلالها .. ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟

"إذا كنا نعتقد أن الإسلام ليس مدنية من المدنيات الأخر، وليس نتاجاً بسيطاً لآراء البشر وجهودهم، بل هو شرع سنة الله لتعمل به الشعوب في كل مكان وزمان، فإن الموقف يتبدل تماماً.

"وإذا كانت الثقافة الإسلامية – في اعتقادنا – نتيجة لاتباعنا شرعاً منزلاً.. فإننا حينئذ لا نستطيع أبداً أن نقول: إنها كسائر الثقافات، خاضعة لمرور الزمن، ومقيدة بقوانين الحياة العضوية .. ثم إن ما يظهر انحلالاً في الإسلام ليس إلا موتاً وخلاء يحلان في قلوبنا، التي بلغ من خمولها وكسلها أنها لا تستمع إلى الصوت الأزلي .. ثم ليس ثمة علامة ظاهرة تدل على أن الإنسانية – مع نموها مع الحاضر- قد استطاعت أن تشب عن الإسلام.. إنها لم تستطع أن تبني فكرة الإخاء الإنساني على أساس عملي، كما استطاع الإسلام أن يفعل، حينما أتى بفكرة القومية العليا: "الأمة" .. إنها لم تستطع أن تشيد صرحاً اجتماعياً يتضاءل التصادم والاحتكاك بين أهله فعلاً على مثال ما تم في النظام الاجتماعي الإسلامي .. إنها لم تستطع أن ترفع قدر الإنسان، ولا أن تزيد في شعوره بالأمن، ولا في رجائه الروحي وسعادته.

"ففي جميع هذه الأمور نرى الجنس البشري في كل ما وصل إليه، مقصراً كثيراً عما تضمنه المنهج الإسلامي .. فأين ما يبرر القول إذن بأن الإسلام قد ذهبت أيامه؟ أذلك لأن أسسه دينية خالصة. والاتجاه الديني زي غير شائع اليوم؟ ولكن إذا رأيناً نظاماً بني على الدين، قد استطاع أن يقدم منهاجاً عملياً للحياة أتم وأمتن وأصلح للمزاج النفساني في الإنسان، من كل شيء آخر يمكن العقل البشري أن يأتي به عن طريق الإصلاح والاقتراح .. أفلا يكون هذا نسه حجة بالغة في ميدان الاستشراف الديني؟

"لقد تأيد الإسلام – ولدينا جميع الأدلة على ذلك – بما وصل إليه الإنسان من أنواع الإنتاج الإنساني، لأن الإسلام كشف عنها، وأشار إليها، على أنها مستحبة، قبل أن يصل إليها الناس بزمن طويل.

"ولقد تأيد أيضاً –على السواء- بما وقع في أثناء التطور الإنساني من قصور وأخطاء وعثرات. لأنه كان قد رفع الصوت عالياً واضحاً بالتحذير منها، من قبل أن تتحقق البشرية أن هذه أخطاء.. وإذا صرفنا النظر عن الاعتقاد الديني نجد – من وجهة نظر عقلية محض – كل تشويق إلى أن نتبع الهدي الإسلامي، بصورة عملية، وبثقة تامة"…

…. " نحن لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام – كما يظن بعض المسلمين- لأن الإسلام كامل بنفسه من قبل. أما الذي نحتاج إليه فعلاً، فهو إصلاح موقفنا من الدين، بمعالجة كسلنا، وغرورنا، وقصر نظرنا، وبكلمة واحدة: معالجة مساوئنا …

… "إن الإسلام – كمؤسسة روحية واجتماعية- غنى عن كل تحسين. وإن كل تغيير في مثل هذه الحال يطرأ على مدركاته، وعلى تنظيمه الاجتماعي، بافتئات من ثقافة أجنبية  -ولو بإشراق ضئيل- سيكون مدعاة إلى الأسف الشديد، وسترجع الخسارة حتماً علينا نحن"([38]).

ونحن نقول، إن الخسارة لن ترجع علينا – نحن المسلمين وحدنا- ولكنها سترجع على البشرية كلها .. سترجع على البشرية كلها بتشويه وتحريف المصدر الوحيد الباقي لها من هداية الله. وتكدير – أو تسميم – المورد الوحيد، الذي يمكن أن تستقي منه الهدى الرباني الخالص .. وسترجع البشرية كلها بحرمانها هذه المثابة الثابتة المستقرة، في الأرض المرجرجة التي تمور بالأهواء. والتي ظهر فيها الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولم تعد لها منجاة إلا في هذه المثابة الآمنة المستقرة، الموصولة بالله..

والذين يحاولون زعزعة هذه المثابة .. سواء باسم التجديد والإصلاح والتطور، أو باسم التخلص من مخلفات القرون الوسطى! أو تحت أي شعار آخر، هم: أعداؤنا الحقيقيون. هم أعداء الجنس البشري. وهم الذين ينبغي أن نطاردهم، وأن نطلب إلى الجنس البشري مطاردتهم كذلك!

إنهم يتحدثون باسم "التقدمية" ضد "الرجعية" في حين أنهم لا يزالون يقتاتون على نتاج القرن التاسع عشر، أو القرن الثامن عشر – نتاج أوربا لا نتاجهم! – ولم يصلوا بعد إلى نتاج القرن العشرين" إنهم متخلفون في تفكيرهم نصف قرن على الأقل. لم يعلموا بعد أن التفكير المضاد للماركسية، وللحيوانية، قد أخذ يبدو كظاهرة عامة في الفكر الأوربي نفسه، بينما هم يتعبدون لمادية وجدلية الفكر الماركسي ومشتقاته! ولنشوء وارتقاء دارون ومشتقاته! إنهم "رجعيون" يزعمون أنهم "تقدميون"! بينما "التقدمية" الحقيقية اليوم تجد نفسها مضطرة أن تعود إلى الدين. تتطلب عنده الطمأنينة والراحة واليقين. بعد الحيرة والقلق والشرود خلال ثلاثة قرون!

ونحن الذين وقانا الله شر تلك الملابسات التاريخية التي شردت الفكر الغربي في مجاهل التيه.. نكون أحمق الحمقى إذا نحن شردنا في التيه مختارين بدون عذر ولا سبب ولا ملابسة من ملابسات التاريخ!

ولا نكون مضيعين لأنفسنا في التيه فحسب، بل نكون مضيعين للبشرية كلها، حين نُفقدها المثابة الثابتة، التي يمكن أن تفئ إليها ذات يوم. فنجد عندها الأمن والطمأنينة والاستقرار، بعد طول الشرود والقلق والعثار.

فلنقدر تبعتنا الخطيرة تجاه أنفسنا وتجاه البشرية كلها في هذا الأمر الخطير.


الشُّمُول

"وكلّ شيء أحصيناه في إمامٍ مُبين"

 

والخاصية الثالثة من خصائص التصور الإسلامي هي .. الشمول .. وهي كذلك ناشئة من طبيعة الخاصية الأولى: خاصية أنه رباني، من صنع الله لا من صنع الإنسان.. والشمول طابع الصنعة الإلهية الأصيل!

فالإنسان لأنه أولاً محدود الكينونة من ناحية الزمان والمكان .. إذ هو حادث زمن، يبدأ بعد عدم، وينتهي بعد حدوث. ومتحيز في مكان، سواء كان فرداً أو كان جيلاً أو كان جنساً، لا يوجد إلا في مكان، ولا ينطلق وراء المكان – كما أنه لا يوجد إلا في زمان ولا ينطلق وراء الزمان – ولأنه محدود الكينونة من ناحية العلم والتجربة والإدراك .. يبدأ علمه بعد حدوثه، ويصل من العلم إلى ما يتناسب مع حدود كينونته في الزمان والمكان، وحدود وظيفته كذلك –كما أسلفنا- ولأنه فوق أنه محدود الكينونة – بهذه الاعتبارات كلها- محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته – فوق ما هو محكوم بقصوره وجهله…

الإنسان وهذه ظروفه، حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي من ذات نفسه، أو في إنشاء منهج للحياة الواقعية من ذات نفسه كذلك، يجئ تفكيره محكوماً بهذه السمة التي تحكم كينونته كلها .. يجئ تفكيره جزئياً .. يصلح لزمان ولا يصلح لآخر. ويصلح لمكان ولا يصلح لآخر. ويصلح لحال ولا يصلح لآخر، ويصلح لمستوى ولا يصلح لآخر .. فوق أنه لا يتناول الأمر الواحد من جميع زواياه وأطرافه، وجميع ملابساته وأطواره، وجميع مقوماته وأسبابه .. لأنه هذه كلها ممتدة في الزمان والمكان، وممتدة في الأسباب والعلل، وراء كينونة الإنسان ذاته، ومجال إدراكه .. وذلك كله فوق ما يعتور هذا التفكير من عوامل الضعف والهوى وهما سمتان إنسانيتان أصيلتان!

وكذلك لا يمكن أن تجئ فكرة بشرية، ولا أن تجئ منهج من صنع البشرية يتمثل فيه "الشمول" أبداً .. إنما هو تفكير جزئي. وتفكير وقتي. ومن جزئيته يقع النقص، ومن وقتيته يقع الاضطراب الذي يختم التغيير، ويتمثل في الأفكار التي استقل البشر بصنعها، وفي المناهج التي استقل البشر بوضعها دوام "التناقض" أو دوام "الجدل" المتمثل في التاريخ الأوربي!

فأما حين يتولى الله –سبحانه- ذلك كله .. فإن التصور الاعتقادي، وكذلك المنهج الحيوي المنبثق فيه، يجيئان بريئين من كل ما يعتور الصنعة البشرية من القصور والنقص والضعف والتفاوت .. وهكذا كان "الشمول" خاصية من خواص "التصور الإسلامي".

وتتمثل خاصية الشمول التي يتسم بها هذا التصور في صور شتى:

إحدى هذه الصور وأكبرها: رد هذا الوجود كله .. بنشأته ابتداء، وحركته بعد نشأته، وكل انبثاقة فيه، وكل تحور وكل تغير وكل تطور. والهيمنة عليه وتدبيره وتصريفه وتنسيقه .. إلى إرادة الذات الإلهية السرمدية الأزلية الأبدية المطلقة .. هذه الذات. المريدة، القادرة، المطلقة المشيئة، المبدعة لهذا الكون، ولكل شيء فيه ولكل حي، ولكل حركة، وكل انبثاقة، وكل تحور، وكل تغير، وكل تطور. بقدر خاص .. وكل انبثاق وليد ..

وهذه هي حقيقة "التوحيد" الكبيرة، التي هي المقوّم الأول للتصور الإسلامي .. وتقرير هذه الحقيقة يشغل مساحة واسعة من القرآن الكريم. لا نملك أن نستعرضها هنا. فسيجئ بعضها عند ذكر خاصية "الإيجابية" في هذا القسم. كما سيجئ بعضها الآخر عند ذكر خاصية التوحيد في نهاية هذا القسم من البحث. ثم يجئ التفصيل الكامل بوصفها المقوّم الأول من مقوّمات التصور الإسلامي، في القسم الثاني من هذا البحث الخاص بالمقومات. فنكتفي هنا بتقدير قيمة هذه الخاصية:

إن هذا التصور – عن طريق خاصية الشمول في صورتها هذه – يملك أن يعطينا تفسيراً مفهوماً. لوجود هذا الكون ابتداء. ثم لكل حركة فيه بعد ذلك وكل انبثاقة … ويعطينا  -على الأخص- تفسيراً مفهوماً لانبثاق ظاهرة "الحياة" في المادة الصماء. وهي بدون شك شيء آخر غير المادة الصماء. شئ هائل. وشئ عجيب. وشئ مقصود. وبين خصائصه المادة الصماء من الأبعاد، ما يلي مباشرة ما بين العدم والوجود من الأبعاد.

إن هذا الكون يواجه الكينونة الإنسانية ابتداء بوجوده! ويتطلب منها إدراكاً وتفسيراً لهذا الوجود. ثم يواجهها بتناسقه وتوازنه وموافقاته العجيبة – التي يستحيل أن تأتي بها المصادفة- فللمصادفة كذلك قانون يستحيل معه أن تتجمع هذه الموافقات كلها مصادفة([39]). ويتطلب منها إدراكاً وتفسيراً لهذا التناسق والتوازن والموافقات العجيبة!…

والحياة – كذلك تواجه الكينونة الإنسانية بعلامات استفهام كثيرة، لا تقل –إن لم تزد عمقاً- عن علامات الاستفهام التي يثيرها الكون بوجوده وبتناسقه:

هذه الحياة كيف انبثقت في المادة الميتة؟ وكيف سارت –وتسير- سيرتها هذه العجيبة المحوطة بآلاف الموافقات والموازنات والتقديرات المرسومة المحسوبة بهذا الحساب الدقيق؟

إن التصور الإسلامي هو –وحده- الذي يملك أن يقدم لنا التفسير المفهوم لكل هذه الموافقات في "تصميم الكون". هو الذي يملك أن يقدم لنا تفسيراً نواجه به كل علامة استفهام عن وجود هذا الكون ابتداء، وعن كل انبثاقة تقع فيه. كما أنه هو الذي يملك أن يفسر لنا سر انبثاق الحياة في المادة الميتة، وسر سيرتها هذه السيرة العجيبة. دون أن نضطر إلى الهروب من سؤال واحد، أو إلى المماحكة والمماحلة والإحلالة إلى جهات غير محددة المفهوم – كالإحالة إلى الطبيعة!

إن المسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يكاد يعبرها العقل البشري. فكيف وجد هذا العالم؟ كيف وجدت هذه "الطبيعة" إن كانوا يعنون بها الوجود المادي؟ كيف يعبر العقل البشري هذه المسافة الهائلة إلا بالإحالة على الإرادة المبدعة، التي تقول للشيء: كن فيكون؟ إنه إذا لم يعترف بهذه الإرادة المبدعة عجز تماماً عن التعليل والتفسير. أو تخبط تخبط الفلاسفة في شتى العصور!

والمسافة بين المادة الجامدة والخلية الحية تلي المسافة التي بين الوجود والعدم. إنها كذلك مسافة هائلة لا يعبرها العقل البشري إلا بالإحالة على تلك الإرادة المبدعة، التي تنشئ ما تريد إنشاء، وتبدعه إبداعاً. إرادة الله "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى".

والعقل البشري، والكينونة البشرية كلها تجد في هذا الجواب ما يريح. لأنه مفر من أن تجئ الحياة إلى المادة الميتة من مصدر آخر غير المادة الميتة الفاقدة للحياة. ففاقد الشيء لا يعطيه. ولا يمكن القول بأن الحياة خاصية من خواص المادة الكامنة فيها .. وإلا فكيف ظلت كامنة فيها ما لا يحصى من السنين، لتظهر في وقت معلوم، دون مدبر وراءها ودون قصد مرسوم؟!

وحسبنا هذه العجالة عن الكون والحياة في هذا الموضع، فسيجئ الكلام المفصل عنها في موضعه في القسم الثاني. ولنعد إلى خاصية الشمول التي نتحدث عنها، والتي تتجلى في رد كل شيء في هذا الكون إلى الله. وشمول إرادته وتدبيره وهيمنته وسلطانه لكل شيء.. فنورد بعض النصوص القرآنية التي ترسم هذه الخاصية:

"إنا كل شيء خلقناه بقدر"

(القمر: 49)

"خلق كل شيء فقدره تقديراً"

(الفرقان: 2)

"وكل شيء عنده بمقدار"

(الرعد: 8)

"الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى"

(طه: 50)

"إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون".

(النحل: 40)

"إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يُغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين".

(الأعراف: 54)

"وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها. ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون".

(يس: 37-40)

"والله خلق كل دابة من ماء. فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع. يخلق الله ما يشاء. إن الله على كل شيء قدير"

(النور: 45)

"وجعلنا من الماء كل شيء حي"

(الأنبياء: 30)

"إن الله فالق الحب والنوى. يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي. ذلك الله، فأنى تؤفكون! فالق الإصباح، وجعل الليل سكناً، والشمس والقمر حسباناً. ذلك تقدير العزيز العليم. وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر. قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون. وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع. قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون. وهو الذي أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به نبات كل شيء، فأخرجنا منه خضراً، نخرج منه حباً متراكباً. ومن النخل من طلعها قنوان دانية، وجنات من أعناب، والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه. انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه، إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون".

(الأنعام 95-99)

وحتى الأحداث التي يبدو فيها سبب قريب ظاهر، يعني التصور الإسلامي بردها إلى إرادة اله من وراء الأسباب القريبة.

"ونحن خلقناكم فلولا تصدقون؟ أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون. ولقد علمتم النشأة الأولى، فلولا تذكرون! .. أفرأيتم ما تحرثون! أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون! إنا لمغرمون! بل نحن محرومون! .. أفرأيتم الماء الذي تشربون؟ أأنتم أنزلتموه من المزن؟ أم نحن المنزلون؟ لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون! .. أفرأيتم النار التي تورون؟ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للموقين .. فسبح باسم ربك العظيم"..

(الواقعة: 57-74)

"فلم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم. وما رميت –إذا رميت- ولكن الله رمى. ولِيُبلى المؤمنين منه بلاءً حسناً".

(الأنفال: 17)

ولا نملك في هذا الموضع أن نمضي – أكثر من هذا – في تصوير خاصية الشمول في صورتها هذه – صورة التوحيد – فسيجئ تفصيلها في القسم ا