الاثنين، 13 أغسطس 2018

1.كتاب قصص الانبياء

كتاب قصص الانبياء - ابن كثير ج 1
قصص الانبياء
ابن كثير ج 1
(1/)
قصص الانبياء للامام أبى الفداء إسماعيل بن كثير 701 - 774 ه تحقيق مصطفى عبد الواحد الجزء الاول يطلب من دار الكتب الحديثة 14 شارع الجمهورية بعابدين ت: 916107 الطبعة الاولى 1388 ه - 1968 م مطبعة دار التأليف 8 شارع يعقوب بالمالية بمصرإت 21825 بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وبعد.
فهذا كتاب " قصص الانبياء " للامام ابن كثير أقدمه لامتنا الاسلامية، راجيا أن يكون في نشره في هذه الصورة المحققة ما ييسر النفع وما يقدم هذا الجانب من ترائنا الاسلامي في صورة دانية إلى الكمال قريبة إلى الحقيقة دقيقة في العرض ممحصة الروايات والاخبار.
وهذا القسم هو جانب قصص الانبياء من كتاب البداية والنهاية لابن كثير، وقد رأيت من الخير نشره مستقلا، بعد أن نشرت له من قبل قسم السيرة النبوية وشمائل الرسول، بعد أن تبينت من كلام ابن كثير في تفسيره ومن كتب التراجم أنه كان لابن كثير سيرة مطولة، ورجحت أنه ضمنها في كتابه " البداية " الذى ألفه في آخر عمره.
وقد رأيت أن قصص الانبياء موضوع جدير بأن يفرد بالعرض وأن ينال من العناية ما نالته السيرة النبوية، إذ أن تاريخ النبوة حلقات متصلة لابد من اكتمالها ومن وضوح صورتها في الاذهان للتقرر الحقيقة
(1/1)
الانسانية والتاريخية ولتتجلى الحكمة التى قصد إليها القرآن الكريم من اهتمامه بإيراد هذا القصص في موضع بارز يهدف إلى وضوح العبرة وضرب المثل وإيجاز حركة التاريخ الانساني وبيان سنته من خلال عرضه لقصص الانبياء.
وقد كان لابن كثير في قصص الانبياء بلاء مشكور ومنهج حكيم استطاع به أن يقرب الصورة القرآنية لقصص الانبياء، وأن يعكس التصور الاسلامي لتاريخ النبوة وحياة المرسلين.
وقبل أن نتحدث عن الكتاب ومنهجه نوجز القول في مؤلفه ونلم بشئ من أخباره.
ابن كثير: (1) هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل، بن عمر، بن كثير، بن ضوء، ابن كثير، بن زرع، القرشى الشافعي.
كان أصله من البصرة، ولكنه نشأ بدمشق وتربى بها.
ولد بمجدل القرية، من أعمال مدينة بصرى شرقي دشق سنة
سبعمائة أو إحدى وسبعمائة.
وتوفى بعد أن فقد بصره في يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة، عن أربع وسبعين سنة.
__________
(1)
ترجمته في شذرات الذهب 6 / 231، والدرر الكامنة 1 / 374 وذيل تذكرة الحفاظ للحسيني 58 ; وذيل الطبقات للسيوطي.
(*)
(1/2)
نشأته: كان أبوه خطيبا لقريته، وبعد مولد ابن كثير بأربع سنين توفى والده، فرباه أخوه الشيخ عبد الوهاب.
وعلى هذا الاخ تلقى ابن كثير علومه في مبدأ أمره.
ثم انتقل إلى دمشق سنة 706 في الخامسة من عمره.
شيوخه: كان ابن كثير في دراسته متجها إلى الققه والحديث وعلوم السنة، إذ كانت الوجهة الغالبة في عصره، وشيوخه في هذا الباب كثيرون.
فقد أخذ الفقه عن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحمن الفزارى الشهير بابن الفركاح المتوفى سنة 729.
وسمع بدمشق من عيسى بن المطعم، ومن أحمد بن أبى طالب المعمر الشهير بابن الشحنة، المتوفى سنة 730، ومن القاسم ابن عساكر وابن الشيرازي وإسحق بن الآمدي ومحمد بن زراد.
ولازم الشيخ جمال يوسف بن المزكى المزى صاحب تهذيب الكمال المتوفى سنة 742.
وقد انتفع به ابن كثير وتخرج به وتزوج بابنته.
كما قرأ كثيرا على شيخ الاسلام تقى الدين ابن تيمية المتوفى سنة
728
، ولازمه وأحبه وتأثر برأيه، وفى ذلك يقول ابن العماد: " كانت له خصوصية بابن تيمية ومناضلة عنه، واتباع له في كثير من آرائه، وكان يفتى برأيه في مسألة الطلاق وامتحن بسبب ذلك وأوذى ".
(1/3)
ويقول ابن حجر: " وأخذ عن ابن تيمية ففتن بحبه وامتحن بسببه " كما قرأ على الشيخ الحافظ المؤرخ شمس الدين الذهبي محمد بن أحمد ابن قايماز المتوفى سنة 748.
وأجاز له من مصر أبو موسى القرافى والحسيني وأبو الفتح الدبوسي، وعلى بن عمر الوانى وموسى الختنى وغير واحد.
وقد ولى ابن كثير مشيخة أم الصالح والتنكزية بعد إمامه الذهبي، كما ذكره الذهبي في مسودة طبقات الحفاظ (1).
عصره: عاش ابن كثير في القرن الثامن الهجرى من مطلعه إلى قرب منتهاه، في ظل دولة المماليك التى كانت تبسط سلطانها على مصر والشام.
وقد شهد عصره نكبات شديدة من هجوم الافرنج والتتار، وكثرة الاوبئة والمجاعات وتقلب السلطة بين أمراء المماليك الذين كان بعضهم يوالى الانتقاض على بعض.
ولكن تلك الحقبة كان يسودها نشاط علمي تمثل في كثرة المدارس واتساع نطاق التعليم والتأليف، ولذلك أسباب مذكورة في كتب التاريخ من تنافس الامراء ورصد الاوقاف على العلماء والطلاق واتصال الافطار الاسلامية بعضها ببعض، وغير ذلك.
وقد كان ذلك النشاط محصورا في دائرة ضيقة من الاتباع والتقليد
__________
(1)
ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني 58.
(*)
(1/4)
فاهتم العلماء بالتلخيص والاختصار أو الشرح اللفظى والتقرير.
كذلك انصرف التعليم في جملته إلى العلوم الشرعية وما يتصل بها.
ويبدو تأثر ابن كثير باتجاهات عصره في انصرافه إلى علوم القرآن والسنة والفقه أو العلوم الشرعية بوجه عام، ففى بعض مؤلفاته اختصار لكتب الافدمين وإدماج لبعضها في بعض وتعليق عليها، كما سيتضح ذلك من النظر في كتبه الباقية.
غير أن ابن كثيرا كان إماما مجددا في جوانب أخرى من تأليفه، فهو في التفسير إمام وصاحب مدرسة ينفر من الاسرائيليات والاخبار الواهية، ويضيق بالتفلسف وإقحام الرأى في كتاب الله ويؤثر منهج تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالحديث والاثر.
ويرجع جانب التجديد فيه إلى صلته بابن تيمية، وحبه له وتأثره بآرائه، فقد كان ابن كثير كأستاذه ابن تيمية بعيدا عن الخرافات حريصا على الرجوع إلى السنة، يعتمد على التحقيق والتدقيق بوسيلته العلمية التى يملكها، وهى نقد الاسانيد وتمحيص الاخبار.
منزلته وآراء العلماء فيه: احتل ابن كثير منزلة عالية في الفقه والتفسير والحديث والفتوى، يقول عنه الذهبي: " الامام المفتى المحدث البارع، فقيه ومفسر نقال وله تصانيف مفيدة ".
ويقول عنه ابن حجر: " اشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله،
(1/5)
وكان كثير الاستحضار حسن المفاكهة سارت تصانيفه في حياته وانتفع الناس بها بعد وفاته ".
ويقول عنه ابن تغرى بردى: " لازم الاشتغال ودأب وحصل وكتب، وبرع في الفقه والتفسير والحديث وجمع وصنف، ودرس وحدث وألف، وكان له اطلاع عظيم في الحديث والتفسير والفقه والعربية وغير ذلك، وأفتى ودرس إلى أن توفى ".
وقد اشتهر ابن كثير بالضبط والتحرى والاستقصاء، وانتهت إليه في عصره الرياسة في التاريخ والحديث والتفسير.
يقول عنه ابن حجى أحد تلامذته: " أحفظ من أدركناه لمتون الاحاديث ورجالها، وأعرفهم بجرحها وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وما أعرف أنى اجتمعت به على كثرة ترددي إليه إلا واستفدت منه " ويصفه ابن العماد الحنبلى فيقول: " كان كثير الاستحضار قليل النسيان، جيد الفهم، يشارك في العربية وينظم نظما وسطا.
قال فيه ابن حبيب: سمع وجمع وصنف، وأطرب الاسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير " ويقول عنه ابن حجر: " ولم يكن على طريق المحدثين في تحصيل العوالي وتمييز العالي من النارل، ونحو ذلك من فنونهم، وإنما هو من محدث الفقهاء ".
ولكن السيوطي يحيب على كلام ابن حجر بقوله:
(1/6)
"
العمدة في علم الحديث على معرفة صحيح الحديث وسقيمه وعلله
واختلاف طرقه ورجاله جرحا وتعديلا، وأما العالي النازل ونحو ذلك فهو من الفضلات، لا من الاصول المهمة ".
شعره وأسلوبه: كان ابن كثير مشاركا في العربية، وكان - كما قال ابن العماد - ينظم نظما وسطا، ولا يذكر له إلا القليل من النظم مثل قوله: تمر بنا الايام تترى وإنما * نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائد ذاك الشباب الذى مضى * ولا زائل هذا المشيب المكدر وعلى كل فهو لم يشتعر بقول الشعر.
وقد كانت ثقافته الادبية جيدة، بالنظر إلى فقيه مفسر محدث مثله، وكان يسير في أسلوبه على مقتضى عصره، من إيثار السجع والميل إلى المحسنات، وأسلوبه في التفسير قوى متناسب.
كتبه: اشتغل ابن كثير بالتأليف والتصنيف، وأكثر كتبه في الحديث وعلومه، ومؤلفاته معدودة، وأهمها: 1 - تفسير القرآن الكريم.
الذى قال فيه السيوطي: " لم يؤلف على نمطه مثله " وهو يعتمد على التفسير بالراوية، فيفسر القرآن ثم بالاحاديث المشتهرة يسوقها
(1/7)
بأسانيدها، ثم ينقد الاسانيد ويحكم عليها، ثم يذكر الآثار المروية عن الصحابة والتابعين.
وهو مطبوع مشهور.
2 -
البداية والنهاية في التاريخ.
وهو أيضا مطبوع مشهور، وإن كانت طبعته غير موثقة ولا مصححة.
وهو مرجع دقيق لا يزال عليه التعويل، قال عنه ابن تغرى بردى: " وهو في غاية الجودة ".
3 -
اختصار علوم الحديث لابن الصلاح.
وهو كتاب نافع أضاف فيه ابن كثير فوائد كثيرة ورتبه واختصره وهو مطبوع من تعلقات للمرحوم الشيخ أحمد شاكر باسم " الباعث الحثيث ".
4 -
مختصر كتاب " المدخل إلى كتاب السنن " للبيهقي ذكره في مقدمة اختصار علوم الحديث.
وهو مخطوط.
5 -
رسالة في الجهاد.
مطبوعة.
6 -
التكميل في معرفة " الثقات والضعفاء والمجاهيل " جمع فيه كتابي " تهذيب الكمال " للمزى و " ميزان الاعتدال " للذهبي.
وزاد عليهما زيادات مفيدة في الجرح والتعديل.
وهو مخطوط.
7 - "
الهدى والسنن في أحاديث المسانيد والسنن " وهو المعروف بجامع المسانيد، جمع فيه بين مسند أحمد والبزار وأبى يعلى وابن أبي شيبة مع الكتب الستة: الصحيحين والسنن الاربعة، ورتبه على أبواب.
وهو مخطوط.
8 -
مسند الشيخين أبى بكر وعمر.
(1/8)
وفيه - كما قال ابن كثير (1) - ذكر كيفية إسلام أبي بكر وأورد فضائله وشمائله وأتبع ذلك بسيرة الفاروق رضى الله عنه، وأورد ما رواه كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، من الاحاديث وما روى عنه من الآثاو والاحكام والفتاوى، فبلغ ذلك ثلاث مجلدات.
وهو مخطوط لا ندري مكانه ! 9 - السيرة النبوية، مطولة ومختصرة، ذكرها في تفسير سورة الاحزاب، في قصة غزوة الخندق (2).
10 -
طبقات الشافعية.
مجلد وسط، ومعه مناقب الشافعي.
مخطوط 11 - تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فقه الشافعية.
12 -
وخرج أحاديث مختصر ابن الحاجب.
13 -
كتاب المقدمات، ذكره في اختصار مقدمة ابن الصلاح وأحال عليه.
14 -
وقد ذكر ابن حجر أن ابن كثير شرع في شرح للبخاري ولم يكمله.
15 -
وشرح في كتاب كبير في الاحكام لم يكمل وصل فيه إلى الحج وفى هذه الكتب المعرفة لنا من تراث ابن كثير يظهر اتجاهه في اهتمامه بالسنة وعلومها، وتغلب عليه روح عصره في مختصراته وشروحه ويظهر ابتكاره في تفسيره للقرآن الكريم وفى منهجه في تاريخه الفذ: " البداية والنهاية ".
__________
(1)
السيرة النبوية لابن كثير 1 / 433.
(2)
قمت بنشرها في أربعة مجلدات، عن النسخ المحفوظة من البداية والنهاية مطبعة عيسى الحلبي سنة 1966.
(*)
(1/9)
وقد شاع الانتفاع بالقدر القليل الذى عرف طريقه إلى الناس من كتب هذا الامام، وبقى منها قدر كبير لا يهتدى إلى مكانه ولا يعرف طريقه إلى أيدى الناس.
وقد كان علينا أن نولي كتب هذا الامام العظيم ما يستحق من اهتمام وأن نيستر للناس الانتفاع بها، لنودى واجبنا نحو تراثنا وتاريخنا ولنصل ماضينا بحاضرنا، ولا ندع مصابيح الهداية تنطفئ وأمتنا أحوج ما تكون إلى ما فيها من ضياء.
قصص الانبياء: وكتابنا هذا الذى نقدمه، هو جانب " قصص الانبياء " من البداية والنهاية لابن كثير، آثرت نشره محققا، لاستقلاله في موضوعه وحاجة جماهير الناس إليه، وقد كان موضوع قصص الانبياء من الموضوعات التى أفردها العلماء بالتأليف منذ عصر التدوين، وأول من أفرد لها كتابا مستقلا هو محمد بن إسحاق بن يسار المتوفى سنة 150 ه فقد ألف كتابه " المبتدأ " أو " المبدأ " وقصص الانبياء، وقد أهمل ابن هشام هذا القسم حين لخص السيرة النبوية لابن إسحق، ولم يبق من هذا الكتاب إلا نقول نقلها عنه الطبري في التاريخ والتفسير والازرقي.
ثم كتب أو رفاعة عمارة بن وثيمة بن موسى بن الفرات الفارسى المتوفى سنة 289 كتابه " بدء الخلق وقصص الانبياء " ويوجد الجزء الاخير منه في الفاتيكان ثالث 265 (1).
__________
(1)
تاريخ الادب العربي لبروكلمان 2 / 45.
(*)
(1/10)
وقد صار افتتاح كتب التاريخ العام بقصص الانبياء وبدء الخلق سنة متبعة، منذ صنف أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المولود سنة 234 ه بطبرستان، تاريخه الكامل وتناول فيه تاريخ العالم من بدء الخلق إلى عصره.
ومن بعده أبو الحسن على بن الحسين المسعودي المتوفى سنة 345
في تاريخ " مروج الذهب ".
ومعنى ذلك أن موضوع قصص الانبياء كان موضع اهتمام كتاب السيرة والتاريخ المسلمين منذ عصر التدوين إلى عصر ابن كثير.
وعلينا الآن أن نتأمل منهج ابن كثير قى قصص الانبياء لنرى ما قدمه من جديد وما تفرد به من خصائص، مما يعد تجديدا في هذا الجانب من التاريخ.
إن ذلك يقتضينا أن ننظر في مصادر ابن كثير في قصص الانبياء ونصنفها حسب تعويله عليها.
وأول ما يتضح لنا أن ابن كثير قد جعل القرآن الكريم مصدره الاول في تاريخ الانبياء، فعول على طريقته والتزم بأخباره، وقطع بأن كل ما يخالفه من أقوال أهل الكتاب فهو كذب وبهتان، وذلك الحق الذى يقطع به كل مسلم.
ويبدأ ابن كثير في كل قصة من قصص الانبياء بجمع الآيات القرآنية المنعلقة بها باستقصاء من كل سور القرآن، حسب ترتيب السور.
ثم يجنح إلى جانب التفسير فيستخرج دلائل الآيات الكريمة بمنهجه المشهور، من تفسير القرآن، ثم بالسنة والاثر.
(1/11)
وبعد ذلك يجمع ابن كثير الاحاديث المروية في قصص الانبياء بأسانيدها من الصحاح والمسانيد، ولا يفوته أن يخرج تلك الاحاديث ويدلنا على حظها من الثبوت.
ثم يتجه ابن كثير إلى روايات المؤرخين وعلماء السير، يختار منها ما يساير حقائق القرآن والسنة وآراء المفسرين وأبرز من ينقل عنهم ابن
كثير: محمد ابن إسحق في كتاب " المبتدأ " وابن جرير في تاريخه وتفسيره، وابن عساكر في تاريخه، وتلك الروايات لا تمثل في الكتاب لحمة ولا سدى، إنما هي تأييد للاخبار الاسلامية أو تفصيل لها حينما يجنح الخيال إلى الاستقصاء ووصل الحلقات بعضها ببعض، وأغلب تلك الروايات منقول عن علماء أهل الكتاب، وكثيرا ما يعلق عليه ابن كثير بأنه غريب.
ويبقى بعد ذلك من مصادر ابن كثير في قصص الانبياء أخبار أهل الكتاب، المتلقاة من التوراة التى بأيديهم.
وقد وقف ابن كثير من هذا المصدر موقفا عدلا، فلم يهمله بالكلية مادام هناك من يتطلع إليه ومن ينقل عنه، فأشار ابن كثير إلى طرف يسير من أخبار أهل الكتاب مقترنة ببيان رأيه فيها، وهو يرى أن التوراة إن خالفت الحق الذى بأيدينا من الكتاب والسنة، فهى باطل يجب رده.
فعندما ذكر عن التوراة أن الذى دل حواء على الاكل من الشجرة هي الحية، وكانت من أحسن الاشكال وأعظمها، أعقبه بقوله: " وهذا
(1/12)
الذى في هذه التوراة التى بأيديهم غلط منهم، وتحريف وخطأ في التعريب فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يتيسر لكل أحد، ولا سيما ممن لا يكاد يعرف كلام العرب جيدا، ولا يحيط علما بفهم كتابه أيضا، فلهذا وقع في تعريبهم لها خطأ كثير لفظا ومعنى، وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس في قوله: " ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " فهذا لا يرد لغيره من الكلام " (1).
وقد كان ابن كثير يقرأ التوراة ويرى ما فيها من تحريف، وقد نبه إلى ذلك في مواضع من كتابه هذا، فهو يقول عن قابيل: " والذى رأيته في الكتاب الذى بأيدى أهل الكتاب الذى يزعمون أنه التوراة: أن الله عزوجل أجله وأنظره وأنه سكن في أرض نور في شرق عدن " وبعد أن يذكر تواريخ أهل الكتاب عن ذرية قابيل يقول: " هذا مضمون ما في كتابهم صريحا، وفى كون هذه التواريخ محفوظة فيما نزل من السماء نظر، كما ذكره غير واحد من العلماء طاعنين عليهم في ذلك، والظاهر أنها مقحمة فيها، ذكرها بعضهم على سبيل الزيادة والتفسير، وفيها غلط كثير (2) ".
وفى موضع آخر يقول: " فكيف يترك هذا ويذهل عنه، ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها (3) ".
__________
(1)
ص 22 من هذا الجزء.
(2)
ص 62 من هذا الجزء.
(3)
ص 107 من هذا الجزء.
(*)
(1/13)
وبذلك وضع ابن كثير أخبار أهل لكتاب في موضعها الصحيح، يستأنس بها حين تطابق الحق الذى بأيدينا، وينبه على تحريفها وكذبها حين تخالف، فإن لم يكن لها دليل في أخبارنا واحتملت الصدق أوردها متوقفا، وقد أمرنا أن لا يصدق أهل الكتاب ولا نكذبهم.
ومن هنا فقد نجا ابن كثير مما تورط فيه المؤرخون من قبله من الاسراف في رواية الاسرائيليات والتعويل عليها، واحتفظ بصورته الاسلامية
المشرقة، وجعل قارئه يطمئن إلى مصادره ويتبين قيمتها.
فإذا أردنا أن نتبين خصائص ابن كثير في قصص الانبياء، فإن أهم ما يستوقفنا من ذلك: (ا) الاحاطة بالاخبار والاستقصاء في روايتها من طرقها، مما يجعله أوفى مرجع في هذا القصص.
وقد أعانه على ذلك عصره المتأخر، إذ عاش في القرن الثامن، فتمكن أن يجيل النظر فيما سلف من تراث.
(
ب) التحقيق العلمي في إيراد الاخبار فهو لا يذكر قولا إلا ومعه دليله ولا رواية إلا ويبين حالها من الصحة أو الضعف وهو وإن تسامح في إيراد بعض الاخبار الواهية، إلا أنه أخلى تبعته بالحكم عليها وفق أصول الرواية.
3 -
الاهتمام بمقاصد القرآن الكريم في إبراز العظة وجلاء العبرة في هذا القصص وما دام ابن كثير مفسرا متقنا فقد استطاع أن يلفت النظر إلى كثير من مواطن العبرة في آيات الانبياء، وأن يجعل من عرض قصصهم وسيلة لتقرير كثير من الاحكام والآداب.
(1/14)
4 -
وقد عنى ابن كثير بدفع الشبه التى أثارها كثير من المفسرين والمتلقين عن أهل للكتاب، واستطاع بمقدرته في التفسير وقوته في الاستدلال أن يوضح جانب الحق وأن يرد كثيرا من الآراء الفاسدة التى لا تتفق مع كرامة الانبياء.
فقد كان موفقا في تأويل الآيات التى ثار حولها الخلاف وكثرت الاقاويل، كموقفه من تأويل قوله سبحانه على لسان لوط: " هؤلاء بناتى هن أطهر لكم " وقوله عن يوسف: " ولقد همت به وهم بها " وكذلك
بيانه لقول الخليل عليه السلام " بل فعله كبيرهم هذا " وكذلك فصله في احتجاج موسى وآدم عليه السلام، وغير ذلك.
وهذا جانب لم يهتم به أحد من المؤرخين من قبل، إنما دفع ابن كثير إليه إمامته في التفسير واهتمامه بمقاصد الهداية من قصص الانبياء.
وبذلك يمكننا القول أن تناول ابن كثير لقصص الانبياء يعتبر جديدا في منهجه، إذ نلمح فيه عناصر أخرى غير التاريخ، كالتفسير والحديث، والعظة والتوجيه، وفى بعض الاحيان اللغة والادب، وقد مزج ابن كثير بين هذه العناصر وجعل الصدارة فيها للتصور القرآني لقصص الانبياء، فهو بحق تعبير صادق عن النظرة الاسلامية لهذا الموضوع وقد برئ من الحشو والتكلف والولوع بالغرائب، وساير منهج العقل والعلم، ونفر من الخرافات والاباطيل.
وذلك ما جعلني أرى في نشر هذا الكتاب ضرورة لعصرنا وتراثنا على السواء.
(1/15)
منهج التحقيق: اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على نسختين من " البداية والنهاية " 1 - النسخة المصورة عن مكتبة ولى الدين بالآستانة والمحفوظة بدار الكتب المصرية برقم 1110 تاريخ.
وهى نسخة جيدة لولا ما يقع فيها من سقط في بعض المواضع.
وإليها الاشارة بحرف ا.
2 -
النسخة المطبوعة بمطبعة السعادة سنة 1351 ه وقد قوبلت على نسخة محفوظة بالمدرسة الاحمدية بحلب، وإليها الاشارة بحرف ط.
وقد كان جهدي متجها إلى ضبط الاصل ومقابلة النسختين لاستخراج الصواب منهما.
وقد تبينت في النسخة المطبوعة سقطا كثير أشرت إليه في الهوامش، كما أن فيها تحريف شائعا قومته بالرجوع إلى المخطوطة وإلى المراجع التى نقل عنها ابن كثير، وأشرت إلى بعض هذه الاخطاء في هوامش الصفحات.
وبعد ذلك كان لا بد من شرح المفردات وإثبات فروق النسخ والتعريف ببعض الاعلام والتعليق على ما لا يطمأن إليه من الروايات وغير ذلك مما يتطلبه تقويم الكتاب وتقديمه في صورة قريبة من الصحة دانية من الصواب.
وأرجو أن أكون في نشرى لهذا الكتاب من كتب ابن كثير قد أديت واجبى نحو أمتنا الاسلامية حين يسرت هذا المرجع الاصيل
(1/16)
لهذا الجانب الهام من جوانب الثقافة الاسلامية، بل الانسانية وهو قصص الانبياء، وهم أبطال التضحية المجردة عن كل شائبة، وأمثلة الكمال البشرى الذين تستهديهم الانسانية في كل زمان.
والله المسئول أن يهئ لنا من أمرنا رشدا وأن يمدنا بعونه وقوته، نعم المولى ونعم النصير.
مصطفى عبد الواحد القاهرة صفر سنة 1388 ه مايو سنة 1968 م
(1/17)
باب ما ورد في خلق آدم عليه السلام قال الله تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل في الارض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال إنى أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الاسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة، فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العلم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم، قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا هبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (1) ".
وقال تعالى: " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (2) " وقال تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام، إن الله كان عليكم رقيبا (3) ".
__________
(1)
سورة البقرة 30 - 39 (2) سورة آل عمران 59 (3) سورة النساء 1 " م 1 - قصص الانبياء 1 " (*)
(1/1)
كما قال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير (1) ".
وقال تعالى: " هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها...الآية (2) ".
وقال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرنك ؟ قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها، فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لاملان جهنم منكم أجمعين * ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ماوورى عنهما من سوآتهما، وقال مانها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ؟ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ؟ * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض
__________
(1)
سورة الحجرات 13 (2) سورة الاعراف 189.
(*)
(1/2)
عدو، ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون
ومنها تخرجون (1) ".
كما قال في الآية الاخرى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى (2) ".
وقال تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين ؟ * قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته ن صلصال من حمأ مسنون.
قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط على مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (3).
وقال تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ؟ * قال أرأيتك هذا الذى كرمت على، لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك، وأجلب
__________
(1)
سورة الاعراف 21 - 25 (2) سورة طه 55 (3) سورة الحجر 26 - 44 (*)
(1/3)
عليهم بخيلك ورجلك، وشاركهم في الاموال والاولاد، وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " (1)
وقال تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه، أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ؟ بئس للظالمين بدلا " (2).
وقال تعالى ": ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك، فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى * فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ؟ * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وعصى آد ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم منى هدى فمن ابتع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتهما وكذلك اليوم تنسى (3) ".
وقال تعالى: " قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لى من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين * إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى ؟ أستكبرت أم كنت من العالين ؟ * قال أنا خير منه خلقتي من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها
__________
(1)
سورة الاسراء (2) سورة الكهف (3) سورة طه (*)
(1/4)
فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين *
إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين * قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين (1) ".
* * *
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن، وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير، ولنذكرها هنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات، وما يتعلق بها من الاحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله المستعان.
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلا لهم: " إنى جاعل في الارض خليفة " أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضا كما قال: " وهو الذى جعلكم خلائف الارض " [ وقال: " ويجعلكم خلفاء الارض " ] (2) فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته، كما يخبر بالامر العظيم قبل كونه، فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا على وجه الاعتراض والتنقص (3) لبنى آدم والحسد لهم، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين، قالوا: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ ".
قيل علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن (4).
قاله قتادة.
__________
(1)
سورة ص.
(2)
سقطت من المطبوعة.
(3)
ا: والنقص.
(4)
كذا، ولعلها الحن، وهم طائفة من الجن وقيل ضعفتهم.
(*)
(1/5)
وقال عبد الله بن عمر: كانت الجن قبل آدم بألفى عام فسفكوا الدماء فبعث الله إليهم جندا من الملائكة (1) فطردوهم إلى جزائر البحور.
وعن ابن عباس نحوه.
وعن الحسن ألهموا ذلك.
وقيل: لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ، فقيل أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما يقال له السجل.
رواه ابن أبى حاتم عن أبى جعفر الباقر.
وقيل: لانهم علموا أن الارض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالبا.
"
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " أي نعبدك دائما لا يعصيك منا أحد، فإن كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن لا نفتر ليلا ولا نهارا.
"
قال إنى أعلم ما لا تعلمون " أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هؤلاء مالا تعلمون، أي سيوجد منهم الانبياء والمرسلون والصديقون والشهداء [ والصالحون (2) ].
ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال: " وعلم آدم الاسماء كلها ".
قال ابن عباس: هي هذه الاسماء التى يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وجمل، وحمار، وأشباه ذلك من الامم وغيرها.
وفى رواية: علمه اسم الصحفة، والقدر، حتى الفسوة والفسية.
وقال مجاهد: علمه اسم كل دابة، وكل طير وكل شئ.
وكذا قال سعيد ابن جبير [ وقتادة وغير واحد (3) ].
__________
(1)
ا: من الملائكة جندا (2) سقطت من المطبوعة.
(3)
ليست في ا (*)
(1/6)
وقال الربيع: علمه أسماء الملائكة.
وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته.
والصحيح: أنه علمه أسماء الذورات وأفعالها مكبرها ومصغرها، كما أشار إليه ابن عباس رضى الله عنهما.
وذكر البخاري هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شئ " وذكر تمام الحديث.
"
ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ".
قال الحسن البصري: لما أراد الله خلق آدم، قالت الملائكة: لا يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه.
فابتلوا بهذا.
وذلك قوله " إن كنتم صادقين ".
وقيل غير ذلك كما بسطناه في التفسير.
قالوا: " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " أي سبحانك أن يحيط أحد بشئ من علمك من غير تعليمك، كما قال: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ".
"
قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ؟ " أي أعلم السر كما أعلم العلانية.
وقيل إن المراد بقوله: " أعلم ما تبدون " ما قالوا: أتجعل فيها من يفسد
(1/7)
فيها، وبقوله " وما كنتم تكتمون " المراد بهذا الكلام إبليس حين أسر الكبر والنفاسة (1) على آدم عليه السلام.
قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدى والضحاك والثوري واختاره ابن جرير.
وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة: " وما كنتم تكتمون " قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه.
وقوله: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر " هذا إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، كما قال: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " فهذه أربع تشريفات: خلقه له بيده الكريمة، ونفخه من روحه، وأمره (2) الملائكة بالسجود له، وتعليمه أسماء الاشياء.
ولهذا قال له موسى الكليم حين اجتمع هو وإياه في الملا الاعلى وتناظر كما سيأتي: أنت آدم أبو البشر الذى خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شئ.
وهكذا يقول [ له (3) ] أهل المحشر يوم القيامة كما تقدم، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال في الآية الاخرى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتي من نار وخلقته من طين ".
قال الحسن البصري: قاس إبليس وهو أول من قاس.
وقال محمد بن
__________
(1)
المطبوعة: والتخيرة.
(2)
ا: وأمر.
(3)
من ا (*)
(1/8)
سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس و [ لا ] (1) القمر إلا بالمقاييس، رواهما ابن جرير.
ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم، فرأى نفسه أشرف من آدم فامتنع من السجود له، مع وجود الامر له ولسائر الملائكة بالسجود.
والقياس إذا كان مقابلا بالنص كان فاسد الاعتبار.
ثم هو فاسد في نفسه، فإن الطين أنفع وخير من النار، لان الطين فيه الرزانة والحلم والاناة والنمو، والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والاحراق.
ثم آدم شرفه الله بخلقه له بيده ونفخه فيه من روحه، ولهذا أمر الملائكة بالسجود له، كما قال: " وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين.
قال: يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين قال: لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون قال: فاخرج منها فإنك رجيم.
وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " استحق هذا من الله تعالى لانه استلزم تنقصه لآدم وازدراءه به وترفعه عليه مخالفة الامر الالهى، ومعاندة الحق في النص على آدم على التعيين.
وشرع في الاعتذار بما لا يجدى عنه شيئا، وكان اعتذاره أشد من ذنبه كما قال تعالى في سورة سبحان: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ؟ قال أرأيتك هذا الذى كرمت على لئن أحرتنى إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا.
قال اذهب فمن تبعك
__________
(1)
ليست في ا.
(*)
(1/9)
منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا، واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ".
وقال في سورة الكهف: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " أي خرج عن طاعة الله عمدا وعنادا واستكبارا عن امتثال أمره، وما ذاك إلا لانه خانه طبعه ومادته الخبيثة أحوج ما كان إليها، فإنه مخلوق
من ناركما قال، وكما جاء في صحيح مسلم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ".
قال الحسن البصري: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط.
وقال شهر بن حوشب: كان من الجن، فلما أفسدوا في الارض بعث الله إليهم جندا من الملائكة فقتلوهم وأجلوهم إلى جزائر البحار، وكان إبليس ممن أسر فأخذوه معهم إلى السماء فكان هناك، فلما أمرت الملائكة بالسجود امتنع إبليس منه.
وقال ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة وسعيد بن المسيب وآخرون: كان إبليس رئيس الملائكة بالسماء الدنيا.
قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل، وفى رواية عنه (1): الحارث.
قال النقاش: وكنيته أبو كردوس.
قال ابن عباس: وكان من حى من الملائكة يقال لهم الجن،
__________
(1)
المطبوعة: عن وهو تحريف.
(*)
(1/10)
وكانوا خزان الجنان، وكان من أشرفهم و [ من ] (1) أكثرهم علما وعبادة، وكان من أولى الاجنحة الاربعة فمسخه الله شيطانا رجيما.
وقال في سورة ص: " وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين.
قال: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى استكبرت أم كنت من العالين.
قال: انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال: فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين.
قال: رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون.
قال فإنك من المنظرين إلى
يوم الوقت المعلوم قال: فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
قال: فالحق والحق أقول.
لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " وقال في سورة الاعراف: " قال فبما أغويتني لافعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين " أي بسبب إغوائك إياى لاقعدن لهم كل مرصد، ولآتينهم من كل جهة منهم، فالسعيد من خالفه والشقى من اتبعه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عقيل - هو عبد الله ابن عقيل الثقفى - حدثنا موسى بن المسيب، عن سالم بن أبى الجعد، عن سبرة بن أبى الفاكه (2) قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان قعد (3) لا بن آدم بأطرقه " وذكر الحديث.
* * *
__________
(1)
من ا.
(2)
ا: فا كه.
(3)
ط: يقعد.
(*)
(1/11)
وقد اختلف المفسرون في الملائكة المأمورين بالسجود لآدم: أهم جميع الملائكة كما دل عليه عموم الآيات ؟ وهو قول الجمهور.
أو المراد بهم ملائكة الارض ؟ كما رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس، وفيه انقطاع وفى السياق نكارة، وإن كان بعض المتأخرين قد رجحه.
ولكن الاظهر من السياقات الاول، ويدل عليه الحديث: " وأسجد له ملائكته " وهذا عموم أيضا والله أعلم.
وقوله تعالى لابليس: " اهبط منها " و " اخرج منها " دليل على أنه كان في السماء فأمر بالهبوط منها، والخروج من المنزلة والمكانة التى كان قد نالها
بعبادته، وتشبه بالملائكة في الطاعة والعبادة، ثم سلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته لربه، فأهبط إلى الارض مذءوما مدحورا.
* * *
وأمر الله آدم عليه السلام أن يسكن هو وزوجته الجنة فقال: " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ".
وقال في الاعراف: " قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لاملان جهنم منك أجمعين * ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ".
وقال تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى *
(1/12)
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ".
وسياق هذه الآيات يقتضى أن خلق حواء كان قبل دخول آدم [ إلى ] (1) الجنة لقوله: " ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " وهذا قد صرح به إسحاق ابن يسار (2) وهو ظاهر هذه الآيات.
ولكن حكى السدى عن أبى صالح وأبى مالك، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة أنهم قالوا: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشى فيها وحشى (3) ليس له فيها زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه.
فسألها ما (4) أنت ؟ قالت: امرأة.
قال: ولم خلقت ؟ قالت: لتسكن إلى، فقالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم ؟ قال: حواء، قالوا: ولم كانت
حواء ؟ قال لانها خلقت من شئ حى.
وذكر محمد بن إسحاق عن ابن عباس أنها خلقت من ضلعه الاقصر الايسر وهو نائم ولام مكانه لحما.
ومصداق هذا في قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء...الآية " وفى قوله تعالى: " هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها
__________
(1)
من ا.
(2)
ط: بشار.
وهو تحريف.
(3)
كذا بالاصول، ولعله على تقدير مبتدأ محذوف.
وهو وحشى.
(4)
ط: من أنت.
(*)
(1/13)
ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به..." الآية وسنتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وفى الصحيحين من حديث زائدة، عن ميسرة الاشجعي، عن أبى حازم، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا ".
لفظ البخاري.
و [ وقد ] (1) اختلف المفسرون في قوله تعالى: " ولا تقربا هذه الشجرة " فقيل هي الكرم، وروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبى وجعدة ابن هبيرة، ومحمد بن قيس والسدى في رواية عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة، قال: وتزعم يهود أنها الحنطة، وهذا مروى عن ابن عباس والحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفى، وأبى مالك ومحارب بن دثار،
و عبد الرحمن بن أبى ليلى.
قال وهب: والحبة منه ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وقال الثوري عن أبى حصين، عن أبي مالك: " ولا تقربا هذه الشجرة " هي النخلة.
وقال ابن جريج عن مجاهد: هي التينة، وبه قال قتادة وابن جريج وقال أبو العالية: كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغى في الجنة حدث.
وهذا الخلاف قريب، وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها، ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها من المحال التى تبهم في القرآن.
__________
(1)
ليس في ا.
(*)
(1/14)
وإنما الخلاف الذى ذكروه في أن هذه الجنة التى أدخلها آدم: هل هي في السماء أو في الارض، هو الخلاف الذى ينبغى فصله والخروج منه.
والجمهور على أنها هي التى في السماء وهى جنة المأوى، لظاهر الآيات والاحاديث كقوله تعالى: " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " والانف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي، وإنما تعود على معهود ذهني، وهو المستقر شرعا من جنة المأوى، وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام: " علام أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟..." الحديث كما سيأتي الكلام عليه.
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبى مالك الاشجعى - واسمه سعد ابن طارق - عن أبي حازم سلمة بن دينار، عن أبى هريرة، وأبو مالك عن ربعى، عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة.
فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ؟ " وذكر الحديث بطوله.
وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في (1) الدلالة على أنها جنة المأوى، وليست
تخلو عن نظر.
وقال آخرون: بل الجنة التى أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد، لانه (2) كلف فيها ألا يأكل من تلك الشجرة، ولانه نام فيها وأخرج منها، ودخل عليه إبليس فيها، وهذا مما ينافى أن تكون جنة المأوى.
وهذا القول محكى عن أبى بن كعب، و عبد الله بن عباس ووهب بن منبه وسفيان بن عيينة، واختاره ابن قتيبة في المعارف، والقاضى منذر بن سعيد
__________
(1) 1:
على.
(2)
ا: لانها.
(*)
(1/15)
البلوطى في تفسيره وأفرد له مصنفا على حدة.
وحكاه عن أبى حنيفة الامام وأصحابه رحمهم الله.
ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي بن خطيب الرى في تفسيره عن أبى القاسم البلخى وأبى مسلم الاصبهاني.
ونقله القرطبى في تفسيره عن المعتزلة والقدرية.
وهذا القول هو نص التوراة التى بأيدى أهل الكتاب.
وممن حكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم في الملل والنحل، وأبو محمد بن عطية في تفسيره، وأبو عيسى الرماني في تفسيره، وحكى عن الجمهور الاول، وأبو القاسم الراغب [ والقاضى (1) ] الماوردى في تفسيره فقال: واختلف في الجنة التى أسكناها يعنى آدم وحواء على قولين: أحدهما أنها جنة الخلد.
الثاني [ أنها (2) ] جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء، وليست جنة الخلد التى جعلها دار جزاء.
ومن قال بهذا اختلفوا على قولين: أحدهما أنها في السماء لانه أهبطهما منها، وهذا قول الحسن، والثانى أنها في الارض لانه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التى نهيا عنها دون غيرها من الثمار.
وهذا قول ابن يحيى، وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم، والله أعلم بالصواب من ذلك.
هذا كلامه.
فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة، وأشعر كلامه أنه متوقف في المسألة.
ولهذا (3) حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة أقوال: هذه الثلاثة التى أوردها الماوردى، ورابعها الوقف.
وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى، عن أبى على الجبائى.
__________
(1)
ليست في ا.
(2)
من ا.
(3)
ط: ولقد.
(*)
(1/16)
وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالا يحتاج مثله إلى جواب، فقالوا: لا شك أن الله سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الالهية، وأمره بالخروج عنها والهبوط منها وهذا الامر ليس من الاوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته، وإنما هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع، ولهذا قال: " اخرج منها مذءوما مدحورا ".
وقال: " اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها " وقال: " اخرج منها فإنك رجيم " والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة.
وأياما كان فمعلوم أنه ليس له الكون قدرا في المكان الذى طرد عنه وأبعد منه، لا على سبيل الاستقرار ولا على سبيل المرور والاجتياز.
قالوا: ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله له: " هل أدلك على شجرة الخلد وملك لايبلى " وبقوله: " ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين.
فدلاهما بغرور.." الآية وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنتهما.
وقد أجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور فيها لا على سبيل الاستقرار بها، وأنه وسوس لهما وهو على باب الجنة أو من تحت السماء.
وفى الثلاثة نظر، والله أعلم.
ومما احتج به أصحاب هذه المقالة: ما رواه عبد الله بن الامام أحمد في الزيادات عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن البصري، عن يحيى بن ضمرة السعدى، عن أبى بن كعب، قال: إن آدم لما احتضر اشتهى " م 2 - قصص الانبياء 1 "
(1/17)
قطفا من عنب الجنة، فانطلق بنوه ليطلبوه له، فلقيتهم الملائكة فقالوا: أين تريدون يا بنى آدم ؟ فقالوا إن أبانا اشتهى قطفا من عنب الجنة.
فقالوا لهم: ارجعوا فقد كفيتموه.
فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه، وصلى عليه جبريل ومن خلفه من الملائكة ودفنوه، وقالوا: هذه سنتكم في موتاكم.
وسيأتى الحديث بسنده، وتمام لفظه عند ذكر وفاة آدم عليه السلام.
قالوا: فلولا أنه كان الوصول إلى الجنة التى كان فيها آدم التى اشتهى منها القطف ممكنا، لما ذهبوا يطلبون ذلك، فدل على أنها في الارض لا في السماء، والله تعالى أعلم.
قالوا: والاحتجاج بأن الالف واللام في قوله: " ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " [ لم يتقدم عهد يعود عليه فهو المعهود الذهنى (1) ] مسلم، ولكن هو مادل عليه سياق الكلام، فإن آدم خلق من الارض ولم ينقل أنه رفع إلى السماء، وخلق ليكون في الارض، وبهذا أعلم الرب الملائكة حيث قال: " إنى جاعل في الارض خليفة " قالوا: وهذا كقوله تعالى: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة (2) " واللام ليس للعموم، ولم يتقدم معهود لفظي، وإنما هي للمعهود الذهنى الذى
فالالف دل عليه السياق وهو البستان.
قالوا: وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء، قال الله تعالى: " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك (2) " وإنما كان
__________
(1)
ليست في ا (2) الآية: 17 من سورة ن (3) الآية: 48 من سورة هود (*)
(1/18)
في السفينة (1) حين استقرت على الجودى ونضب الماء عن وجه الارض أمر (2) أن يهبط إليها هو ومن معه مباركا عليه وعليهم.
وقال الله تعالى: " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " الآية (3) وقال تعالى: " وإن منها لما يهبط من خشية الله.." الآية (4).
وفى الاحاديث واللغة من هذا كثير.
قالوا: ولا مانع - بل هو الواقع - أن الجنة أسكنها آدم كانت مرتفعة عن (5) سائر بقاع الارض، ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور، كما قال تعالى: " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى ".
أي لايذل باطنك بالجوع ولا ظاهرك بالعرى " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " أي لا يمس باطنك حر الظمأ ولا ظاهرك حر الشمس، ولهذا قرن بين هذا وهذا، وبين هذا وهذا، لما بينهما من الملاءمة.
فلما كان منه ماكان من أكله من الشجرة التى نهى عنها، أهبط إلى أرض الشقاء والتعب والنصب والكدر والسعى والنكد، والابتلاء والاختبار والامتحان، واختلاف السكان دينا وأخلاقا وأعمالا، وقصودا وإرادات وأقوالا وأفعالا، كما قال تعالى: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين ".
ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء كما قال: " وقلنا من بعده لبنى إسرائيل اسكنوا الارض، فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " (6)، ومعلوم أنهم كانوا فيها ولم يكونوا في السماء.
__________
(1) 1:
السفن (2) ط: وأمر (3) الآية: 61 من سورة البقرة (4) الآية: 74 من سورة البقرة (5) ا: على (6) الآية: 104 من سورة الاسراء
(1/19)
قالوا: وليس هذا القول مفرعا على قول من ينكر وجود الجنة والنار [ اليوم ] (1) ولا تلازم بينهما، فكل من حكى عمنه هذا القول من السلف وأكثر (2) الخلف، ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم، كما دلت عليه الآيات والاحاديث الصحاح.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
* * *
وقوله تعالى: " فأزلهما الشيطان عنها " أي عن الجنة " فأخرجهما مما كانا فيه " أي من النعيم والنضرة والسرور إلى دار التعب والكد والنكد، وذلك بما وسوس لهما وزينه في صدورهما، كما قال تعالى: " فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ماوورى عنهما من سوآتهما، وقال مانها كما ركما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " [ يقول: مانها كما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (3) ]، أي لو أكلتما منها لصرتما كذلك.
"
وقاسمهما " أي حلف لهما على ذلك " إنى لكما لمن الناصحين "، كما قال في الآية الاخرى: " فوسوس إليه الشيطان، قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لايبلى ؟ ": أي هل أدلك على الشجرة التى إذا أكلت منها حصل لك الخلد فيما أنت فيه من النعيم، واستمررت في ملك لا يبيد ولا ينقضى ؟ وهذا من التغرير والتزوير والاخبار بخلاف الواقع.
والمقصود أن قوله شجرة الخلد التى إذا أكلت منها خلدت، وقد تكون
هي الشجرة التى قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، حدثنا شعبة،
__________
(1)
ليست في ا (2) ا: وأكثرهم (3) ليست في ا (*)
(1/20)
عن أبى الضحاك، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، شجرة الخلد ".
وكذا رواه أيضا عن غندر وحجاج، عن شعبة ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة أيضا به.
قال غندر: قلت لشعبة: هي شجرة الخلد ؟ قال ليس فيها هي.
تفرد به الامام أحمد.
وقوله: " فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " [ كما قال في طه " فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما، وطقا يخصفان عليهما من ورق الجنة (1) ] وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم، رهى التى حدته على أكلها والله أعلم.
وعليه يحمل (2) الحديث الذى رواه البخاري: حدثنا بشر بن محمد، حدثنا عبد الله، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه: " لولا بنو إسرائيل لم يخنز (3) اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها ".
تفرد به من هذا الوجه، وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة به، ورواه أحمد ومسلم عن هارون بن معروف، عن أبى (4) وهب، عن عمرو بن الحارث (5) عن أبى يونس، عن أبى هريرة به.
__________
(1)
ليست في ا (2) ا: حمل (3) يخنز: ينتن
(4)
ا: عن ابن (5) ط: حارث (*)
(1/21)
وفى كتاب التوراة التى بأيدى (1) أهل الكتاب: أن الذى دل حواء على الاكل من الشجرة هي الحية، وكانت من أحسن الاشكال وأعظمها، فأكلت حواء عن قولها وأطعمت آدم عليه السلام، وليس فيها ذكر لابليس، فعند ذلك انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين وعملا مآزر وفيها أنهما كانا عريانين.
وكذا قال وهب بن منبه: كان لباسهما نورا على فرجه وفرجها.
وهذا الذى في هذه التوراة التى بأيديهم غلط منهم، وتحريف وخطأ في التعريب، فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يتيسر (2) لكل أحد، ولا سيما ممن لا [ يكاد (3) ] يعرف كلام العرب جيدا، ولا يحيط علما بفهم كتابه أيضا، فلهذا وقع في تعريبهم لها خطأ كثير (4) لفظا ومعنى.
وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس في قوله: " ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " فهذا لايرد لغيره من الكلام.
والله تعالى أعلم.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا على بن الحسن بن أسكاب، حدثنا على بن عاصم، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن عن أبى بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق (5)، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول مابدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن عزوجل: يا آدم منى تفر ؟ فلما سمع كلام الرحمن قال يا رب لا، ولكن استحياء ".
__________
(1)
ط: بين أيدى.
وما أثبته عن ا (2) ط: لا يكاد يتيسر.
ولعله تحريف
(3)
سقطت من المطبوعة (4) ا: كبير (5) السحوق: الطويلة (*)
(1/22)
وقال الثوري عن ابن أبى ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: " وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " ورق التين.
وهذا إسناد صحيح إليه وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب، وظاهر الآية يقتضى أعم من ذلك، وبتقدير تسليمه فلا يضر، والله تعالى أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن إسحاق، عن الحسن ابن ذكوان، عن الحسن البصري عن أبى بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أباكم آدم كان كالنخلة السحوق، ستون ذراعا، كثير الشعر موارى العورة، فلما أصاب الخطيئة في الجنة بدت له سوأته، فخرج من الجنة، فلقيته شجرة فأخذت بناصيته، فناداه ربه: أفرارا منى يا آدم ؟ قال: بل حياء منك (1) يا رب مما جئت به ".
ثم رواه من طريق سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن يحيى ابن ضمرة، عن أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وهذا أصح، فإن الحسن لم يدرك أبيا.
ثم أورده أيضا من طريق خيثمة بن سليمان الاطرابلسى، عن محمد بن عبد الوهاب أبى مرصافة العسقلاني، عن آدم بن أبى إياس، عن سنان، عن قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه.
"
وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ؟ * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ".
__________
(1)
ط: بل حياء منك والله يا رب.
(*)
(1/23)
وهذا اعتراف ورجوع إلى الانابة، وتذلل وخضوع واستكانة، وافتقار إليه تعالى في الساعة الراهنة، وهذا السر ما سرى في أحد من ذريته إلا كانت عاقبته إلى خير في دنياه وأخراه.
"
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس، قيل والحية معهم، أمروا أن يهطبوا من الجنة في حال كونهم متعادين متحاربين.
وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الحيات، وقال: ما سالمناهن منذ حاربناهن.
وقوله في سورة طه: " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو " هو أمر لآدم وإبليس، واستتبع آدم حواء وإبليس الحية.
وقيل هو أمر لهم بصيغة التثنية كما في قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يخكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (1) ".
[
والصحيح أن هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين اثنين مدع ومدعى عليه، قال: وكنا لحكمهم شاهدين (2) ].
وأما تكريره الاهباط في سورة البقرة في قوله: " وقلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لعبض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين.
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم.
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى، فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
__________
(1)
سورة الانبياء 77 (2) سقط من ا (*)
(1/24)
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " فقال
بعض المفسرين: المراد بالاهباط الاول: الهبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، وبالثانى: من السماء الدنيا إلى الارض.
وهذا ضعيف لقوله في الاول: " قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " فدل على أنهم أهبطوا إلى الارض بالاهباط الاول والله أعلم.
والصحيح: أنه كرره لفظا وإن كان واحدا، وناط مع كل مرة حكما ; فناط بالاول عداوتهم فيما بينهم، وبالثانى الاشتراط عليهم أن من تبع هداه الذى ينزله عليهم بعد ذلك فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقى، وهذا الاسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم.
وروى الحافظ ابن عساكر عن مجاهد قال: أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء من جواره، فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الاكليل عن جبينه، وتعلق به غصن، فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة، فنكس رأسه يقول: العفو العفو، فقال الله: أفرارا منى ؟ قال: بل حياء منك يا سيدي ! وقال الاوزاعي عن حسان - هو ابن عطية - مكث آدم في الجنة مائة عام، وفى رواية ستين عاما، وبكى على الجنة سبعين عاما، وعلى خطيئته سبعين عاما، وعلى ولده حين قتل أربعين عاما.
رواه ابن عساكر.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا
(1/25)
جرير، عن سعيد، عن ابن عباس قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها " دحنا " بين مكة والطائف.
وعن الحسن قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميان
من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان.
رواه ابن أبي حاتم أيضا.
وقال السدى: نزل آدم بالهند ونزل معه بالحجر الاسود وبقبضة من ورق الجنة، فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب هناك.
وعن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة.
رواه ابن أبى حاتم أيضا.
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبى موسى الاشعري، قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الارض علمه صنعة كل شئ.
وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو بكر بن بالوية، عن محمد بن أحمد بن النضر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عمار بن أبى معاوية البجلى، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس قال: ما أسكن آدم الجنة إلا مابين صلاة العصر إلى غروب الشمس.
ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفى صحيح مسلم من حديث الزهري عن الاعرج، عن أبى هريرة قال: قال
(1/26)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها ".
وفى الصحيح من وجه آخر: " وفيه تقوم الساعة ".
وقال أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الاوزاعي، عن أبى عمار، عن عبد الله بن فروخ، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير
يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة ".
على شرط مسلم.
فأما الحديث الذى رواه ابن عساكر من طريق أبى القاسم البغوي، حدثنا محمد بن جعفر الوركانى، حدثنا سعيد بن ميسرة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هبط آدم وحواء عريانين جميعا، عليهما ورق الجنة، فأصابه الحر حتى قعد يبكى ويقول لها: يا حواء قد آذانى الحر، قال فجاءه جبريل بقطن، وأمرها أن تغزل وعلمها، وأمر آدم بالحياكة وعلمه أن ينسج (1) "، وقال: " كان آدم لم يجامع امرأته في الجنة، حتى هبط منها للخطيئة التى أصابتهما (2) بأكلهما من الشجرة "، قال: " وكان كل واحد منهما ينام على حدة، وينام أحدهما في البطحاء والآخر من ناحية أخرى، حتى أتاه جبريل فأمره أن يأتي أهله "، قال: " وعلمه كيف يأتيها، فلما أتاها جاءه جبريل فقال: كيف وجدت امرأتك ؟ قال: صالحة ".
فإنه حديث غريب ورفعه منكر جدا.
وقد يكون من كلام بعض السلف
__________
(1)
ا: وعلم آدم بالحياكة وأمره أن ينسج (2) ا: أصابها (*)
(1/27)
وسعيد بن ميسرة هذا هو أبوعمران البكري البصري، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروى الموضوعات، وقال ابن عدى: مظلم الامر.
* * *
وقوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم " قيل هي قوله: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين (1) ".
روى هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبى العالية والربيع ابن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وخالد بن معدان وعطاء الخراساني و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا على بن الحسن بن أسكاب، حدثنا على بن عاصم، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبى بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدى إلى الجنة ؟ قال: نعم " فذلك قوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ".
وهذا غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.
وقال ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: الكلمات: " اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسي فاغفر لى إنك خير الراحمين.
اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسي فتب على إنك أنت التواب الرحيم ".
(1)
الآية: 23 من سورة الاعراف (*)
(1/28)
وروى الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " قال: قال آدم يا رب ألم تخلقني بيدك ؟ قيل له بلى، ونفخت في من روحكم ؟ قيل له بلى، وعطست فقلت يرحمك الله وسبقت رحمتك غضبك ؟ قيل له: بلى، وكتبت على أن أعمل هذا ؟ قيل له بلى، قال: أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال: نعم.
ثم قال الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
وروى الحاكم أيضا والبيهقي وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما اقترف آدم الخطيئة قال: بارب أسألك بحق محمد إلا (1) غفرت لى ".
فقال الله: فكيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد ؟ فقال: يا رب لانك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحكم، رفعت رأسي فرايت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ؟ فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.
فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لاحب الخلق إلى، وإذ سألتنى بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك.
قال البيهقى: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه وهو ضعيف.
والله أعلم.
وهذه الآية كقوله تعالى: " وعصى آدم ربه فغوى.
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " (2).
__________
(1)
ط: أن وهو تحريف (2) الآيتان من سورة طه 121، 123 (*)
(1/29)
ذكر احتجاج آدم وموسى عليهما السلام قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حاج موسى آدم عليهما السلام فقال له: أنت الذى أخرجت الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم.
قال آدم: " يا موسى أنت الذى اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر [ قد ] (1) كتبه الله على قبل أن يخلقني، أو قدره على قبل أن يخلقني ؟ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فحج آدم موسى ".
وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد، والنسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن أيوب بن النجار به.
قال أبو مسعود الدمشقي: ولم يخرجا عنه في الصحيحين سواه.
وقد رواه أحمد، عنم عبد الرازق عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة، ورواه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرازق به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم، حدثنا أبو شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذى اخرجتك خطيئتك من الجنة ؟.
فقال له آدم: وأنت موسى الذى اصطفاك الله برسالاته وبكلامه تلومني على أمر قدر على قبل أن أخلق ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فحج آدم موسى " مرتين.
__________
(1)
ليست في ا (*)
(1/30)
قلت: وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائده، عن الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت الذى خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة ".
قال: " فقال آدم: وأنت موسى الذى اصطفاك الله بكلامه تلومني عنى عمل أعمله، كتبه الله على قبل أن يخلق السموات والارض ؟ قال: فحج آدم موسى ".
وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن يحيى بن حبيب بن عدى، عن معمر ابن سليمان، عن أبيه، عن الاعمش به.
قال الترمذي: وهو غريب (1) من حديث سليمان التيمى عن الاعمش.
قال: وقد رواه بعضهم عن الاعمش عن أبى صالح عن أبى سعيد.
قلت: هكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده، عن محمد بن مثنى، عن معاذ بن أسد، عن الفضل بن موسى، عن الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى سعيد.
ورواه البزار أيضا: حدثنا عمرو بن على الفلاس، حدثنا أبو معاوية، عن
__________
(2)
ط: قريب.
(*)
(1/31)
الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، أو أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه.
وقال أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو سمع طاووسا، سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة.
فقال له آدم: يا موسى أنت الذى اصطفاك الله بكلامه - وقال مرة برسالته - وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله على قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ " قال: " حج آدم موسى، حج آدم موسى، حج آدم موسى ".
وهكذا رواه البخاري عن على بن المدينى، عن سفيان، قال حفظناه من عمرو عن طاووس، قال سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة.
فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده، أتلومني على
أمر قدره الله على قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى.
هكذا ثلاثا.
قال سفيان: حدثنا أبو الزناد، عن الاعرج، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجة من عشر طرق، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
(1/32)
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد، عن عمار، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقى آدم موسى، فقال: أنت آدم الذى خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، ثم فعلت ما فعلت ؟ فقال: أنت موسى الذى كلمك الله واصطفاك برسالته، وأنزل عليك التوراة، أنا أقدم أم الذكر ؟ قال: لابل الذكر.
فحج آدم موسى.
قال أحمد: وحدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحميد عن الحسن عن رجل - قال حماد أظنه جندب بن عبد الله البجلى - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقى آدم موسى " فذكر معناه.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا حسين (1)، حدثنا جرير - هو ابن حازم - عن محمد، هو ابن سيرين، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقى آدم موسى فقال: أنت آدم الذى خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد
لك ملائكته، ثم صنعت ما صنعت ؟ قال آدم: لموسى (2) أنت الذى كلمه الله، وأنزل عليه التوراة ؟ قال نعم قال: فهل تجده مكتوبا على قبل أن أخلق ؟ قال نعم.
قال: " فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ".
وكذا رواه حماد بن زيد، عن أيوب، وهشام عن محمد بن سيرين، عن أبى
__________
(1)
ط: الحسن (2) ط: يا موسى (م 3 - قصص الانبياء 1) (*)
(1/33)
هريرة رفعه.
وكذا رواه على بن عاصم، عن خالد، وهشام، عن محمد بن سيرين وهذا على شرطهما من هذه الوجوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الاعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني أنس بن عياض، عن الحارث بن أبى دياب، عن يزيد بن هرمز، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى، قال موسى: أنت الذى خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، ثم أهبطت الناس إلى الارض بخطيئتك ؟ قال آدم: أنت موسى الذى اصطفاك الله برسانته وكلامه، وأعطاك الالواح فيها تبيان كل شئ، وقربك نجيا ؟ فبكم وجدت الله [ كتب التوراة (1) ] قال موسى: بأربعين عاما، قال آدم: فهل وجدت فيها: " وعصى آدم ربه فغوى ؟ " قال نعم.
قال أفتلومنى على أن عملت عملا كتب الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فحج آدم موسى ".
قال الحارث: وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك، عن أبى هريرة، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه مسلم عن إسحق بن موسى الانصاري، عن أنس بن عياض، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبى ذباب، عن يزيد بن هرمز والاعرج، كلاهما عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر ; عن الزهري، عن أبى سلمة،
__________
(1)
سقطت من ا (*)
(1/34)
عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: يا آدم أنت الذى أدخلت ذريتك النار.
فقال آدم: يا موسى اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وأنزل عليك التوراة، فهل وجدت أن أهبط ؟ قال نعم، قال فحجه آدم ".
وهذا على شرطهما ولم يخرجاه من هذا الوجه، وفى قوله أدخلت ذريتك النار، نكارة.
فهذه طرق هذا الحديث عن أبى هريرة، رواه عنه حميد بن عبد الرحمن، وذكوان أبو صالح السمان، وطاووس بن كيسان، و عبد الرحمان بن هرمز الاعرج، وعمار بن أبى عمار، ومحمد بن سيرين، وهمام بن منبه، ويزيد بن هرمز، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
* * *
وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضى الله عنه فقال: حدثنا الحارث بن مسكين المصرى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال موسى عليه السلام:
يا رب أرنا آدم الذى أخرجنا ونفسه من الجنة.
فأراه آدم عليه السلام، فقال: أنت آدم ؟ فقال له آدم: نعم.
فقال: أنت الذى نفه الله فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك الاسماء كلها ؟ قال نعم.
قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم: من أنت ؟ قال أنا موسى.
قال: أنت موسى بنى
(1/35)
بنى إسرائيل ؟ أنت الذى كلمك الله من وراء الحجاج، فلم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه ؟ قال: نعم.
قال: تلومني على أمر قد سبق من الله عزوجل القضاء به قبل ؟ ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ".
ورواه أبو داود عن أحمد بن صالح المصرى، عن ابن وهب به.
قال أبو يعلى: وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعى، حدثنا عمران، عن الردينى، عن أبى مجلز عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عمر - قال أبو محمد أكبر ظنى أنه رفعه - قال: " التقى آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت أبو البشر، أسكنك الله جنته، وأسجدلك ملائكته.
قال آدم: يا موسى أما تجده على مكتوبا ؟ قال: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ".
وهذا الاسناد أيضا لا بأس به، والله أعلم.
وقد تقدم رواية الفضل بن موسى لهذا الحديث عن الاعمش، عن أبى صالح عن أبى سعيد، ورواية الامام أحمد له عن عفان، عن حماد بن سلمة عن حميد، عن الحسن عن رجل.
قال حماد: أظنه جندب بن عبد الله البجلى، عن النى صلى الله عليه وسلم: " لقى آدم موسى " فذكر معناه.
* * *
وقد اختلف مسالك الناس في هذا الحديث: فرده قوم من القدرية لما تضمن من إثبات القدر السابق.
واحتج به قوم من الجبرية، وهو ظاهر لهم بادى الرأى حيث قال: فحج آدم موسى، لما احتج عليه بتقديم كتابه، وسيأتى الجواب عن هذا.
(1/36)
وقال آخرون: إنما حجه لانه لامه على ذنب قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لاذنب له.
وقيل إنما حجه لانه أكبر منه وأقدم.
وقيل لانه أبوه.
وقيل لانهما في شريعتين متغايرتين.
وقيل لانهما في دار البرزخ وقد انقطع التكليف فيما يزعمون.
والتحقيق: أن هذا الحديث روى بألفاظ كثيرة بعضها مروى بالمعنى، وفيه نظر.
ومدار معظمها في الصحيحين وغيرهما على أنه لامه على إخراجه نفسه وذريته من الجنة، فقال له آدم: أنا لم أخرجكم، وإنما أخرجكم الذى رتب الاخراج على أكلى من الشجرة، والذى رتب ذلك وقدره وكتبه قبل أن أخلق، هو الله عزوجل، فأنت تلومني على أمر ليس له نسبة إلى أكثر من أنى نهيت عن الاكل من الشجرة فأكلت منها، وكون الاخراج مترتبا على ذلك ليس من فعلى، فأنا لم أخرجكم ولا نفسي من الجنة، وإنما كان هذا من قدر الله وصنعه، وله الحكمة في ذلك.
فلهذا حج آدم موسى.
ومن كذب بهذا الحديث فمعاند ; لانه متواتر عن أبى هريرة رضى الله عنه، وناهيك به عدالة وحفظا وإتقانا.
ثم هو مروى عن غيره من الصحابة كما ذكرنا.
ومن تأوله بتلك التأويلات المذكورة آنفا، فهو بعيد من اللفظ والمعنى، وما فيهم من هو أقوى مسلكا من الجبرية.
وفيما قالوه نظر من وجوه: أحدها: أن موسى عليه السلام لا يلوم على أمر قد تاب عنه فاعله.
(1/37)
الثاني: أنه قد قتل نفسا لم يؤمر بقتلها، وقد سأل الله في ذلك بقوله: " رب إنى ظلمت نفسي فاغفر لى فغفر له (1) ".
الثالث: أنه لو كان الجواب عن اللوم على الذنب بالقدر المتقدم كتابته على العبد، لا نفتح هذا لكل من ليم على أمر قد فعله، فيحتج بالقدر السابق فينسد باب القصاص والحدود.
ولو كان القدر حجة لاحتج به كل أحد على الامر الذى ارتكبه في الامور الكبار والصغار، وهذا يفضى إلى لوازم فظيعة.
فلهذا قال من قال من العلماء، بأن جواب آدم إنما كان احتجاجا بالقدر على المصيبة لا المعصية.
والله تعالى أعلم.
__________
(1)
سورة القصص 16.
(*)
(1/38)
ذكر الاحاديث الواردة في خلق آدم عليه السلام قال الامام أحمد: حدثنا يحيى ومحمد بن جعفر، حدثنا عوف، حدثنى قسامة ابن زهير، عن أبى موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله خلق آدم من قبضه قبضها من جميع الارض، فجاء بنو آدم على قدر الارض، فجاء منهم الابيض والاحمر والاسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن وبين ذلك.
ورواه أيضا عن هوذة، عن عوف، عن قسامة بن زهير، سمعت الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض، فجاء بنو آدم على قدر الارض، فجاء منهم الابيض والاحمر والاسود وبين ذلك والسهل والحزن وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك ".
وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه، من حديث عوف ابن أبي جميلة الاعرابي، عن قسامة بن زهير المازتى البصري، عن أبى موسى عبد الله بن قيس الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد ذكر السدى عن أبى مالك وأبى صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فبعث الله عزوجل جبريل في الارض ليأتيه بطين منها، فقالت الارض: أعوذ بالله منك أن تنقص منى أو تشيننى، فرجع ولم يأخذ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها.
(1/39)
فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل.
فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الارض وخلط (1)، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.
فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا لازبا.
واللازب: هو الذى يلزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: " إنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ".
فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، فخلقه بشرا، فكان جسدا من
طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر به فيضربه، فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فذلك حين يقول: " من صلصال كالفخار " ويقول: لامر ماخلقت، ودخل من فيه وخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لاهلكنه.
فلما بلغ الحين الذى يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت الملائكة قل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت الروح في جوه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، وذلك حين يقول الله تعالى: " خلق الانسان من عجل " فسجد الملائكة
__________
(1)
ط: وخلطه.
(*)
(1/40)
كلهم أجمعون ؟ إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين " وذكر تمام القصة.
ولبعض هذا السياق شاهد من الاحاديث، وإن كان كثير منه متلقى من الاسرائيليات.
فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه، فجعل إبليس يطيف به، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك ".
وقال ابن حبان في صحيحه: حدثنا الحسبن بن سفيان، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما نفخ في آدم فبلغ الروح رأسه عطس، فقال: الحمد لله
رب العالمين، فقال له تبارك وتعالى: يرحمك الله ".
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا حبان ابن هلال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيدالله، عن حبيب، عن حفص - هو ابن عاصم بن عبيدالله بن عمر بن الخطاب - عن أبى هريرة رفعه قال: " لما خلق الله آدم عطس، فقال الحمد لله، فقال له ربه رحمك ربك يا آدم ".
وهذا الاسناد لا بأس به ولم يخرجوه.
وقال عمر بن عبد العزيز: لما أمرت الملائكة بالسجود كان أول من سجد منهم إسرافيل، فآتاه الله أن كتب القرآن في جبهته.
رواه ابن عساكر.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا عمرو بن محمد،
(1/41)
عن إسماعيل بن رافع، عن المقبرى، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينا ثم تركه، حتى إذا كان حما مسنونا خلقه الله وصوره ثم تركه، حتى إذا كان صلصالا كالفخار قال: فكان إبليس يمر به فيقول: لقد خلقت لامر عظيم.
ثم نفخ الله فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه، فعطس فلقاه الله رحمة به، فقال الله: يرحمك ربك، ثم قال الله: يا آدم اذهب إلى هؤلاء النفر فقل لهم فانظر ماذا يقولون ؟ فجاء فسلم عليهم فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
فقال: يا آدم: هذا تحيتك وتحية ذريتك.
قال يا رب: وما ذريتي ؟ قال: اختر يدى يا آدم، قال: أختار يمين ربى وكلتا يدى ربى يمين، فبسط كفه فإذا من هو كائن من ذريته في كف الرحمن، فإذا رجال منهم أفواههم النور، وإذا رجل يعجب آدم نوره، قال يا رب من هذا ؟
قال ابنك داود، قال يا رب: فكم جعلت له من العمر ؟ قال جعلت له ستين، قال: يا رب فأتم له من عمرى حتى يكون عمره (1) مائة سنة، ففعل سنة، ففعل الله ذلك، وأشهد على ذلك.
فلما نفد عمر آدم بعث الله ملك الموت، فقال آدم: أو لم يبق من عمرى أربعون سنة ؟ قال له الملك: أو لم تعطها ابنك داود ؟ فجحد ذلك، فجحدت ذريته، ونسى فنسيت ذريته ! ".
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار والترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث صفوان بن عيسى، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبى ذباب، عن سعيد
__________
(1)
ط: حتى يكون له من العمر (*)
(1/42)
المقبرى، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الترمذي [ حديث (1) ] حسن غريب من هذا الوجه.
وقال النسائي: هذا حديث منكر.
وقد رواه محمد بن عجلان، عن أبيه عن أبى سعيد المقبرى (2)، عن عبد الله بن سلام [ قوله (3) ].
وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عينى كل إنسان منهم وبيصا (4) من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا فأعجبه وبيص مابين عينيه، فقال: أي رب من هذا ؟ قال هذا رجل من آخر الامم من ذريتك يقال له داود، قال: رب وكم جعلت عمره ؟ قال ستين سنة، قال: أي رب زده من عمرى أربعين سنة.
فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمرى أربعون سنة ؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود ؟ قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسى آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته ".
ثم قال الترمذي: حسن صحيح.
وقد روى من غير وجه عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبى نعيم الفضل ابن دكين، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
__________
(1)
ليست في ا.
(2)
عن سعيد المقبرى عن أبيه (3) الوبيص: البريق (4) من ا.
(*)
(1/43)
وروى ابن أبى حاتم من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبى هريرة مرفوعا فذكره وفيه: " ثم عرضهم على آدم فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الاجذم والابرص والاعمى وأنواع الاسقام، فقال آدم: يا رب لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال: كى تشكر نعمتي ".
ثم ذكر قصة داود.
وستأتى من رواية ابن عباس أيضا.
وقال الامام أحمد في مسنده: حديثا الهيثم [ بن خارجة، حدثنا أبو الربيع (1) ] عن يونس بن ميسرة، عن أبى إدريس، عن أبى الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الدر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم (2)، فقال الذى في يمينه: إلى الجنة ولا أبالى، وقال للذى في كتفه (3) اليسرى: إلى النار ولا أبالى ".
وقال ابن أبى الدنيا: حدثنا خلف بن هشام، حدثنا الحكم بن سنان، عن حوشب، عن الحسن قال: خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة
من صفحته اليمنى، وأخرج أهل النار من صفحته (4) اليسرى، فألقوا على وجه الارض ; منهم الاعمى والاصم والمبتلى.
فقال آدم: يا رب ألا سويت بين ولدى ؟ قال: يا آدم إنى أردت أن أشكر.
وهكذا روى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة عن الحسن بنحوه.
__________
(1)
ليست في ا (2) الحمم: الفحم (3) ا: كفه (4) ا: حضرنه (*)
(1/44)
وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه فقال: حدثنا محمد بن إسحاق ابن خزيمة، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا الحارث ابن عبد الرحمن بن أبى ذباب، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال الحمد لله.
فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه، يرحمك ربك يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملا منهم جلوس فسلم عليهم، فقال: السلام عليكم، فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله.
ثم رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم.
وقال الله ويداه مقبوضتان: اختر أيما شئت، فقال اخترت يمين ربى، وكلتا يدى ربى يمين مباركة، ثم بسطهما فإذا فيهما آدم وذريته، فقال: أي رب ما هؤلاء ؟ قال هؤلاء ذريتك، وإذا كل إنسان منهم مكتوب عمره بين عينيه، وإذا فيهم رجل أضوؤهم - أو من أضوئهم - لم يكتب له إلا أربعون سنة، قال: يا رب من هذا ؟ قال: هذا ابنك داود.
وقد كتب الله عمره أربعين سنة.
قال: أي رب زد في عمره، فقال: ذاك الذى كتب له، قال: فإنى قد جعلت له من عمرى ستين سنة، قال: أنت وذاك.
اسكن الجنة.
فسكن الجنة ما شاء الله ثم هبط منها، وكان آدم يعد لنفسه.
فأتاه ملك الموت فقال له آدم: قد عجلت، قد كتب لى ألف سنة.
قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود منها ستين سنة، فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسى فنسيت ذريته، فيومئذ أمر بالكتاب والشهود " هذا لفظه.
وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر،
(1/45)
عن همام بن منبه، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال اذهب فسلم على أولئك [ النفر (1) ] من الملائكة، فاستمع ما يجيبونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا السلام عليك ورحمة الله.
فزادوه ورحمة الله.
فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن ".
وهكذا رواه البخاري في كتاب الاستئذان (2)، عن يحيى بن جعفر، ومسلم، عن محمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح، حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان طول آدم ستين ذراعا في سبع أذرع عرضا ".
انفرد به أحمد.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول من جحد آدم، إن أول من جحد آدم، إن أول من جحد آدم.
إن الله لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج منه ما هو ذارى إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يزهر، قال:
أي رب من هذا ؟ قال: هذا ابنك داود، قال أي رب كم عمره.
قال: ستون عاما.
قال: أي رب زد في عمره.
قال: لا، إلا أن أزيده من عمرك، وكان
__________
(1)
سقطت من الاصول وأثبتها من صحيح البخاري (2) صحيح البخاري 3 / 158 ط الاميرية (*)
(1/46)
عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاما.
فكتب الله عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة.
فلما احتضر آدم أتته الملائكة لقبضه، قال: إنه قد بقى من عمرى أربعون عاما، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود قال: ما فعلت، وأبرز الله عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة.
وقال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول من جحد آدم.
قالها ثلاث مرات.
إن الله عزوجل لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم (1) عليه، فرأى فيهم رجلا يزهر، فقال أي رب زد في عمره.
قال: لا، إلا أن تزيده أنت من عمرك.
فزاده أربعين سنة من عمره.
فكتب الله تعالى عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة.
فلما أراد أن يقبض روحه قال: إنه بقى من أجلى أربعون سنة، فقيل له: إنك قد جعلتها لابنك داود.
قال: فجحد، قال: فأخرج الله الكتاب، وأقام عليه البينة، فأتمها لداود مائة سنة، وأتم لآدم عمره ألف سنة.
تفرد به أحمد وعلى بن زيد، في حديثه نكارة.
ورواه الطبراني عن على بن عبد العزيز، عن حجاج بن منهال، عن حماد ابن سلمة، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس وغير
زواحد، عن الحسن قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول من جحد آدم ثلاثا " وذكره.
__________
(1)
ا: فاعرضهم.
وهو تحريف (*)
(1/47)
وقال الامام مالك بن أنس في موطئه عن زيد بن أبى أنيسة، أن عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أخبره عن مسلم بن يسار الجهنى أن عمر ابن الخطاب سئل عن هذه الآية: " وإذا أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم ؟ قالوا بلى (1) " الآية، فقال عمر ابن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال: " إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون.
ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل المنار يعملون ".
فقال رجل: يارسول الله فقيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذ خلق الله العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق الله العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار ".
وهكذا رواه الامام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبى حاتم، وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه من طرق، عن الامام مالك به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع عمر.
وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة، زاد أبو حاتم: وبينهما نعيم بن ربيعة.
وقد رواه أبو داود عن محمد بن مصفى، عن بقية، عن عمر بن جثعم، عن زيد بن أبى أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب،
__________
(3)
سورة الاعراف 172 (*)
(1/48)
عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، قال: كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية فذكر الحديث.
قال الحافظ الدارقطني: وقد تابع عمر بن جثعم أبو فروة بن يزيد بن سنان الرهاوى، عن زيد بن أبى أنيسة قال: وقولهما أولى بالصواب من قول مالك رحمه الله.
وهذه الاحاديث كلها دالة على استخراجه تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر، وقسمتهم قسمين: أهل اليمين وأهل الشمال، وقال: هؤلاء للجنة ولا أبالى، وهؤلاء للنار ولا أبالى.
فأما الاشهاد عليهم واستنطاقهم بالاقرار بالوحدانية، فلم يجئ في الاحاديث الثابتة.
وتفسير الآية التى في سورة الاعراف وحملها على هذا فيه نظر كما بيتناه هناك وذكرنا الاحاديث والآثار مستقصاة بأسانيدها وألفاظ متونها، فمن أراد تحريره فليراجعه ثم.
والله أعلم.
* * *
فأما الحديث الذى رواه أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير - يعنى ابن حازم - عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا قال: " ألست بربكم ؟ قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون " (1).
__________
(1)
من سورة الاعراف 172، 173 " م 4 - قصص الانبياء 1 " (*)
(1/49)
فهو بإسناد جيد قوى على شرط مسلم، رواه النسائي وابن جرير والحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد المروزى به.
وقال الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه، إلا أنه اختلف فيه على كلثوم بن جبر فروى عنه مرفزوعا وموقوفا، وكذا روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا.
وهكذا رواه العوفى والوالبى والضحاك وأبو جمرة، عن ابن عباس قوله.
وهذا أكثر وأثبت والله أعلم.
وهكذا روى عن عبد الله بن عمر موقوفا ومرفوعا، والموقوف أصح.
* * *
واستأنس القائلون بهذا القول - وهو أخذ الميثاق على الذرية وهم الجمهور - بما قال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنى شعبة، عن أبى عمران الجونى، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: لو كان لك ما على الارض من شئ أكنت مفتديا به ؟ قال: فيقول نعم.
فيقول قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بى شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بى ".
أخرجاه من حديث شعبة به.
وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أبى بن كعب، في قوله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم.." الآية والتى بعدها.
قال: فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة، فخلقهم ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهد عليهم
أنفسهم: " ألست بربكم ؟ قالوا: بلى.." الآية.
(1/50)
قال: فإنى أشهد عليكم السموات السبع والارضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم، أن لا تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيرى ولا رب غيرى، ولا تشركوا بى شيئا، وإنى سأرسل إليكم رسلا ينذرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتابي.
قالزوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك.
فأقروا له يومئذ بالطاعة.
ورفع أباهم آدم فنظر إليهم، فرأى فيهم الغنى والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: يا رب لو سويت بين عبادك ؟ فقال: إنى أحببت أن أشكر.
ورأى فيهم الانبياء مثل السرج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذى يقول الله تعالى: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم.
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " (1) وهو الذى يقول: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " (2) وفى ذلك قال: " هذا نذير من النذر الاولى " (3) وفى ذلك قال: " وما وجدنا لاكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (4) ".
رواه الائمة: عبد الله بن أحمد وابن أبى حاتم وابن جرير وابن مردويه، في تفاسيرهم من طريق أبى جعفر، وروى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير
__________
(1)
سورة الاحزاب 8 (2) من سورة الروم 31 (3) من سورة النجم 57 (4) سورة (*)
(1/51)
والحسن البصري وقتادة والسدى، وغير واحد من علماء السلف بسياقات توافق هذه الاحاديث.
* * *
وتقدم أنه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم، امتثلوا كلهم الامر الالهى، وامتنع إبليس من السجود له حسدا وعداوة له، فطرده الله وأبعده، وأخرجه من الحضرة الالهية، ونفاه عنها، وأهبطه إلى الارض طريدا ملعونا شيطانا رجيما.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، ويعلى ومحمد ابنا (1) عبيد، قالوا حدثنا الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكى يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار ".
ورواه مسلم من حديث وكيع وأبى معاوية عن الاعمش به.
ثم لما أسكن آدم الجنة التى أسكنها، سواء، أكانت في السماء أم (2) في الارض على ما تقدم من الخلاف فيه، أقام بها هو وزوجته حوا عليهما السلام، يأكلان منها رغدا حيث شاءا، فلما أكلا من الشجرة التى نهيا عنها، سلبا ما كانا فيه من اللباس وأهبطا إلى الارض.
وقد ذكرنا الاختلاف في مواضع هبوطه منها.
واختلفوا في مقدار مقامه في الجنة: فقيل بعض يوم من أيام الدنيا،
__________
(1)
ا: حدثنا عبيد.
(2)
ا: أو.
(*)
(1/52)
وقد قدمنا ما رواه مسلم عن أبى هريرة مرفوعا: " وخلق آدم في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة " وتقدم أيضا حديثه عنه، وفيه - يعنى يوم الجمعة - خلق آدم، وفيه أخرج منها.
فإن كان اليوم الذى خلق فيه فيه أخرج - وقلنا إن الايام الستة كهذه الايام - فقد لبث بعض يوم من هذه، وفى هذا نظر.
وإن كان إخراجه في غير اليوم الذى خلق فيه، أو قلنا بأن تلك الايام مقدارها ستة آلاف سنة، كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد والضحاك واختاره ابن جرير، فقد لبث هناك مدة طويلة.
قال ابن جرير: ومعلوم أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة، والساعة منه ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فمكث مصورا طينا قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين سنة، وأقام في الجنة قبل أن يهبط ثلاثا وأربعين سنة وأربعة أشهر، والله تعالى أعلم.
وقد روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن سوار خبر عطاء بن أبى رباح: أنه كان لما أهبط رجلاه في الارض ورأسه في السماء، فحطه الله إلى ستين ذراعا.
وقد روى عن ابن عباس نحوه.
وفى هذا نظر، لما تقدم من الحديث المتفق على صحته عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن " وهذا يقتضى أنه خلق كذلك لا أطول من ستين ذراعا، وأن ذريته لم يزالوا يتناقص خلقهم حتى الآن.
وذكر ابن جرير عن ابن عباس: إن الله قال: يا آدم إن لى حرما بحيال
(1/53)
عرشى، فانطلق فابن لى فيه بيتا، فطف به كما تطوف ملائكتي بعرشي، وأرسل الله له ملكا فعرفه مكانه وعلمه المناسك، وذكر أن موضع كل خطوة
خطاها آدم صارت قربة بعد ذلك.
وعنه: أن أول طعام أكله آدم في الارض، أن جاءه جبريل بسبع حبات من حنطة، فقال: ماهذا ؟ قال: هذا من الشجرة التى نهيت عنها فأكلت منها فقال: وما أصنع بهذا ؟ قال: ابذره في الارض، فبذره.
وكان كل حبة منها زنتها أزيد من مائة ألف، فنبتت فحصده، ثم درسه ثم ذراه، ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه، فأكله بعد جهد عظيم وتعب ونكد، وذلك قوله تعالى: " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ".
وكان أول كسوتهما من شعر الضأن: جزاه ثم غزلاه، فنسج آدم له جبة، ولحواء درعا وخمارا.
واختلفوا: هل ولد لهما بالجنة شئ من الاولاد ؟ فقيل: لم يولد لهما إلا في الارض، وقيل بل ولد لهما فيها، فكان قابيل وأخته ممن ولدبها (1).
والله أعلم.
وذكروا أنه كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، وأمر أن يزوج كل ابن أخت أخيه (2) التى ولدت معه، والآخر بالاخرى وهلم جرا، ولم يكن تحل أخت لاخيها الذى ولدت معه.
__________
(1)
ا: من ولديها (2) المطبوعة: أخت أخته.
وهو تحريف.
(*)
(1/54)
ذكر قصه ابني آدم: قابيل وهابيل قال الله تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق، إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لاقتلنك، قال: إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلى يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدى إليك لاقتلك، إنى أخاف الله رب العالمين * إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من
أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه، قال يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب، فأوارى سوأة أخى، فأصبح من النادمين (1) ".
وقد تكلمنا على هذه القصة في سورة المائدة في التفسير بما فيه كفاية.
ولله الحمد.
ولذكر هنا ملخص ما ذكره أئمة السلف في ذلك.
فذكر السدى عن أبى مالك وأبى صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة، أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الآخر (2) وأن هابيل أراد أن يتزوج بأخت قابيل، وكان أكبر من هابيل وأخت هابيل أحسن، فأراد قابيل (3) أن يستأثر بها على أخيه، وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قربانا، وذهب آدم ليحج
__________
(1)
من سورة المائدة 31 - 35 (2) المطبوعة: الاخرى (3) المطبوعة: هابيل.
وهو تحريف (*)
(1/55)
إلى مكة، واستحفظ السموات على بنيه فأبين، والارضين والجبال فأبين، فتقبل قابيل بحفظ ذلك.
فلما ذهب قربا قبانهما ; فقرب هابيل جذعة سمينة، وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من درئ زرعه، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لاقتلنك حتى لا تنكح أختى، فقال: إنما يتقبل الله من المتقين.
وروى عن ابن عباس من وجوه أخر، وعن عبد الله بن عمرو.
وقال
عبد الله بن عمرو، وايم الله إن كان المقتول لاشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط إليه يده ! وذكر أبو جعفر الباقر أن آدم كان مباشرا لتقريبهما القربان والتقبل من هابيل دون قابيل، فقال قابيل لآدم: إنما تقبل منه لانك دعوت له ولم تدع لى.
وتوعد أخاه فيما بينه وبينه.
فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل في الرعى، فبعث آدم أخاه قابيل لينظر ما أبطأ به (1)، فلما ذهب إذا هو به، فقال له: تقبل منك ولم يتقبل منى.
فقال: إنما يتقبل الله من المتقين.
فغضب قابيل عندها وضربه بحديدة كانت معه فقتله.
وقيل: إنه إنما قتله بصخرة رماها على رأسه وهو نائم فشدخته.
وقيل: بل خنقه خنقا شديدا وعضه كما تفعل السباع فمات والله أعلم.
وقوله له لما توعده بالقتل: " لئن بسطت إلى يدك لتقتلني، ما أنا بباسط
__________
(1)
ا: ما بطأ (*)
(1/56)
يدى إليك لاقتلك ; إنى أخاف الله رب العالمين " دل على خلق حسن، وخوف من الله تعالى وخشية منه (1)، وتورع أن يقابل أخاه بالسوء الذى أراد منه أخوه مثله.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.
قالوا يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه ".
وقوله: " إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ": أي إنى أريد ترك مقاتلتك وإن كنت أشد منك وأقوى، إذ قد عزمت على ما عزمت عليه، أن تبوء بإثمى وإثمك، أي تتحمل
إثم قتلى (2) مع مالك من الآثام المتقدمة قبل ذلك.
قاله مجاهد والسدى وابن جرير وغير واحد.
وليس المراد أن آثام المقتول تتحول بمجرد قتله إلى القاتل كما قد توهمه بعض الناس (3) ; فإن ابن جرير حكى الاجماع على خلاف ذلك.
وأما الحديث الذى يورده بعض من لا يعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما ترك القاتل على المقتول من ذنب " فلا أصل له، ولا يعرف في شئ من كتب الحديث بسند صحيح ولاحسن ولا ضعيف أيضا.
ولكن قد يتفق في بعض الاشخاص يوم القيامة، أن يطالب المقتول القاتل فتكون حسنات القاتل لاتفى بهذه المظلمة فتحول من سيئات المقتول
__________
(1)
ا: وخشية الله (2) ا: إثم مقاتلتي (3) ط: بعض من قال (*)
(1/57)
إلى القاتل، كما ثبت به الحديث الصحيح في سائر المظالم، والقتل من أعظمها والله أعلم.
وقد حررنا هذا كله في التفسير ولله الحمد.
وقد روى الامام أحمد وأبو داود والترمذي، عن سعد بن أبى وقاص، أنه قال عند فتنة عصثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون فتنة ; القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي ".
قال: أفرأيت إن دخل على بيتى فبسط يده إلى ليقتلني.
قال " كن كابن آدم ".
ورواه ابن مردويه عن حذيفة بن اليمان مرفوعا.
وقال: كن كخير ابني آدم.
وروى مسلم وأهل السنن إلا النسائي عن أبى ذر نحو هذا.
وأما الآخر فقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: قال حديثا الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها ; لانه كان أول من سن القتل ".
ورواه الجماعة سوى أبى داود من حديث الاعمش به.
وهكذا روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وإبراهيم النخعي أنهما قالا مثل هذا سواء.
وبجبل قاسيون شمالى دمشق مغارة يقال لها مغازة الدم، مشهورة بأنها المكان الذى قتل قابيل أخاه هابيل عندها، وذلك مما تلقوه عن أهل الكتاب فالله اعلم بصحة ذلك.
(1/58)
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير - وقال إنه كان من الصالحين - أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهابيل، وأنه استحلف هابيل أن هذا دمه فحلف له، وذكر أنه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء، فأجابه إلى ذلك، وصدقه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان في كل يوم خميس.
وهذا منام لو صح عن أحمد بن كثير هذا، لم يترتب عليه حكم شرعى.
والله أعلم.
وقوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه، قال: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب، فأوارى سوأة أخى ؟ فاصبح من النادمين " ذكر بعضهم أنه لما قتله حمله على ظهره سنة، وقال آخرون حمله مائة سنة ! ولم يزل كذلك حتى بعث الله غرابين.
قال
السدى بإسناده عن الصحابة: أخوين، فتقاتلا فقتل أحدهما الآخر، فلما قتله عمد إلى الارض يحفر له فيها ثم ألقاه ودفنه وواراه، فلما رآه ينصع ذلك قال: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخى ؟ ففعل مثل ما فعل الغراب فواراه ودفنه.
وذكر أهل التواريخ والسير أن آدم حزن على ابنه هابيل حزنا شديدا، وأنه قال في ذلك شعرا، وهو قوله فيما ذكره ابن جرير عن ابن حميد: تغيرت البلاد ومن عليها * فوجه الارض مغبر قبيح تغير كل ذى لون وطعم * وقل بشاشة الوجه المليح
(1/59)
فأجيب آدم: أبا قابيل (1) قد قتلا جميعا * وصار الحى كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كان منها * على خوف فجاء بها يصيح وهذا الشعر فيه نظر.
وقد يكون آدم عليه السلام قال كلاما يتحزن به بلغته، فألفه بعضهم إلى هذا، وفيه أقوال والله أعلم.
وقد ذكر مجاهد أن قابيل عوجل بالعقوبة يوم قتل أخاه ; فعلقت ساقه إلى فخذه، وجعل وجهه إلى الشمس كيفما دارت، تنكيلا به وتعجيلا لذنبه وبغيه وحسده لاخيه لابويه.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغى وقطيعة الرحم ".
* * *
والذى رأيته في الكتاب الذى بأيدى أهل الكتاب الذين يزعمون أنه
التوراة: أن الله عزوجل أجله وأنظره، وأنه سكن في أرض " نود " في شرقي عدن وهم يسمونه قتنين.
وأنه ولد له خنوخ، ولخنوخ عند ر، ولعندر محوايل، ولمحوايل متوشيل، ولمتوشيل لامك.
وتزوج هذا امرأتين: عدا وصلا.
فولدت " عدا " ولدا اسمه ابل، وهو أول من سكن القباب واقتنى المال.
وولدت أيضا نوبل.
وهو أول من أخذ في ضرب الونج والصنح (2).
وولدت " صلا "
__________
(1)
ط: هابيل (2) الونج محركة ضرب من الاوتار أو العود أو المعزف.
والصنج: شئ يتخذ من صفر يضرب أحدهما على الآخر، وآلة بأوتار يضرب بها.
(*)
(1/60)
ولدا اسمه توبلقين، وهو أول من صنع النحاس والحديد، وبيتا اسمها " نعمى ".
وفيها أيضا أن آدم طاف على امرأته فولدت غلاما ودعت اسمه " شيث " وقالت من أجل أنه قد وهب لى خلفا من هابيل الذى قتله قابيل (1).
وولد لشيث أنوش.
قالوا: وكان عمر آدم يوم ولد له شيث مأته وثلاثين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة، وكان عمر شيث يوم ولد له أنوش مائة وخمسا وستين (2)، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وسبع سنين.
وولد له بنون وبنات غير أنوش.
فولد لانوش " قينان " وله من العمر تسعون سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وخمس عشر سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان عمر قينان سبعين سنة ولد له مهلاييل، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وأربعين سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان لمهلاييل من العمر خمس وستون سنة ولد له " يرد " وعاش بعد ذلك ثمانمائة وثلاثين سنة وولد له بنون وبنات.
فلما كان ليرد مائة سنة واثنتان وستون سنة ولد له " خنوخ " وعاش بعد
ذلك ثمانمائة سنة وولد له بنون وبنات.
فلما كان لخنوخ خمس وستون سنة ولد له متوشلخ، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان لمتوشلخ مائة وسبع وثمانون سنة ولد له " لامك " وعاش بعد ذلك سبعمائة واثنين وثمانين سنة وولد له بنون وبنات.
__________
(1)
ا: قاين (2) ا: مائة وخمس سنين (*)
(1/61)
فلما كان للامك من العمر مائة واثنتان وثمانون سنة ولد له " نوح " وعاش بعد ذلك خمسمائة وخمسا وتسعين سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان لنوح خمسمائة سنة ولد له بنون: سام وحام ويافث.
هذا مضمون ما في كتابهم صريحا.
وفى كون هذه التواريخ محفوظة فيما نزل من السماء نظر، كما ذكره غير واحد من العلماء طاعنين عليهم في ذلك.
والظاهر أنها مقحمة فيها، ذكرها بعضهم على سبيل الزيادة والتفسير.
وفيها غلط كثير كما سنذكره (1) في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر الامام أبو جعفر بن جرير في تاريخه عن بعضهم: أن حواء ولدت لآدم أربعين ولد في عشرين بطنا.
قالخه ابن إسحاق سماهم.
والله تعالى أعلم.
وقيل مائة وعشرين بطنا في كل واحد ذكر وأنثى، أولهم قابيل وأخته قليما، وآخرهم عبدالمغيث وأخته أم المغيث.
ثم انتشر الناس بعد ذلك وكثروا، وامتدوا في الارض ونموا، كما قال الله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم ممن نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء..." (2) الآية.
وقد ذكر أهل التاريخ أن آدم عليه السلام لم يمت حتى رأى من ذريته من أولاده وأولاد أولاده أربعمائة ألف (3) نسمة.
والله أعلم.
__________
(1)
ا: مما سننبه (2) النساء 1 (3) ا: أربعمائة سنة (*)
(1/62)
وقال تعالى: " هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون " (1) الآيات.
فهذا تنبيه أولا بذكر آدم، ثم استطرد إلى الجنس كما في قوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (2) " وقال تعالى: " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين (2) " ومعلوم أن رجوم الشياطين ليست هي أعيان مصابيح السماء، وإنما استطرد من شخصها إلى جنسها.
* * *
فأما الحديث الذى رواه الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عمر بن إبراهيم، حدثنا قتادة عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد، فقال سميه عبد الحارث فإنه يعيش.
فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحى الشيطان وأمره ".
وهكذا رواه الترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم عند هذه الآية، وأخرجه الحاكم في مستدركه، كلهم من حديث عبد الصمد
ابن عبد الوارث به، فقال الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه، وقال الترمذي
__________
(1)
ا: أربعمائة نسمة (2) سورة المؤمنون 13 (3) سورة الملك 6 (*)
(1/63)
حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه.
فهذه علة قادحة في الحديث أنه روى موقوفا على الصحابي وهذا أشبه.
والظاهر أنه تلقاه من الاسرائيليات، وهكذا روى موقوفا عن ابن عباس.
والظاهر أن هذا متلقى عن كعب الاحبار وذويه (1).
والله أعلم.
وقد فسر الحسن البصري هذه الآيات بخلاف هذا، فلو كان عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه إلى غيره.
والله أعلم.
وأيضا فالله تعالى إنما خلق آدم وحواء ليكونا أصل البشر، وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء، فكيف كانت حواء لا يعيش لها ولد كما ذكر في هذا الحديث إن كان محفوظا ؟ ! والمظنون بل المقطوع به أن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ.
والصواب وقفه والله أعلم.
وقد حررنا هذا في كتابنا التفسير ولله الحمد.
ثم قد كان آدم وحواء أتقى لله مما ذكر عنهما في هذا ; فإن آدم أبو البشر الذى خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شئ وأسكنه جنته.
وقد روى ابن حبان في صحيحه عن أبى ذر قال: قلت " يا رسول الله كم الانبياء ؟ قال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ".
قلت: يا رسول الله كم
__________
(1)
ط: ودونه.
وهو تحريف (*)
(1/64)
الرسل منهم ؟ قال: " ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير " قلت يا رسول الله من كان أولهم ؟ قال آدم.
قلت: يا رسول الله نبى مرسل ؟ قال: نعم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم سواه قبلا ".
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن نائلة الاصبهاني، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا نافع بن هرمز، عن عطاء بن أبى رباح، عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بأفضل الملائكة: جبريل، وأفضل النبيين آدم، وأفضل الايام يوم الجمعة، وأفضل الشهور شهر رمضان، وأفضل الليالى ليلة القدر، وأفضل النساء مريم بنت عمران ".
وهذا إسناد ضعيف، فإن نافعا أبا هرمز كذبه ابن معين، وضعفه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم والله أعلم.
وقال كعب الاحبار: ليس أحد في الجنة له لحية إلا آدم، لحيته سوداء إلى سرته.
وليس أحد يكنى في الجنة إلا آدم ; كنيته في الدنيا أبو البشر وفى الجنة أبو محمد.
وقد روى ابن عدى من طريق شيخ (1) ابن أبى خالد، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله مرفوعا: أهل الجنة يدعون بأسمائهم إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد.
ورواه ابن عدى أيضا من حديث على بن أبى طالب، وهو ضعيف من كل وجه.
والله أعلم.
وفى حديث الاسراء الذى في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله
__________
(1)
الاصل: سبح.
وهو تحريف.
والتصويب من ميزان الاعتدال 2 / 286.
وشيخ هذا متهم بالوضع.
"
م 5 - قصص الانبياء 1 " (*)
(1/65)
عليه وسلم لما مر بآدم وهو في السماء الدنيا، قال له مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح، قال: وإذا عن يمينه أسودة (1) وعن يساره أسودة، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى فقلت يا جبريل ما هذا ؟ قال هذا آدم وهؤلاء نسم (2) بنيه، فإذا نظر قبل أهل اليمين - وهم أهل الجنة - ضحك، وإذا نظر قبل أهل الشمال - وهم أهل النار - بكى.
وهذا معنى الحديث.
وقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنى يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان عن الحسن قال: كان عقل آدم مثل عقل جميع ولده.
وقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: " فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطى شطر الحسن " قالوا: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام.
وهذا مناسب، فإن الله خلق آدم وصوره بيده الكريمة، ونفخ فيه من روحه، فما كان ليخلق إلا أحسن الاشباه.
وقد روينا عن عبد الله بن عمر وابن عمر أيضا موقوفا ومرفوعا: أن الله تعالى لما خلق الجنة، قالت الملائكة: يا ربنا اجعل لنا هذه، فإنك خلقت لبنى آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالى لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدى كمن قلت له كن فكان.
وقد ورد الحديث المروى في الصحيحين وغيرهما من طرق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم على صورته " وقد تكلم العلماء على هذا الحديث فذكروا فيه مسالك كثيرة ليس هذا موضع بسطها.
والله أعلم.
__________
(1)
الاسودة يكنى بها عن الشخص (2) النسم: جمع نسمة، وهى الروح (*)
(1/66)
ذكر وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث عليه السلام ومعنى شيث: هبة الله، وسمياه بذلك لانهما رزقاه بعد أن قتل هابيل.
قال أبو ذر في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أنزل مائة صحيفة وأربع صحف، على شيث خمسين صحيفة ".
قال محمد بن إسحاق: ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث وعلمه ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادات تلك الساعات، وأعلمه بوقوع الطوفان بعد ذلك.
قال: ويقال إن أنساب بنى آدم اليوم كلها تنهى إلى شيث، وسائر أولاد آدم غيره انقرضوا وبادوا.
والله أعلم.
ولما توفى آدم عليه السلام - وكان ذلك يوم الجمعة - جاءته الملائكة بحنوط، وكفن من عند الله عزوجل من الجنة، وعزوا فيه فيه ابنه ووصيه شيثا عليه السلام.
قال ابن إسحاق: وكسفت الشمس والقمر سبعة أيام بليا ليهن.
وقد قال عبد الله ابن الامام أحمد: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن يحيى - هو ابن ضمرة السعدى - قال: رأيت شيخا بالمدينة يتكلم فسألت عنه فقالوا هذا أبى بن كعب، فقال: إن آدم لما حضره الموت قال لبنيه: أي بنى ! إنى أشتهى من ثمار الجنة.
قال: فذهبوا يطلبون له، فاستقبلتهم الملائكة ومعهم أكفانه
(1/67)
حنوطه، ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل، فقالوا لهم: يا بنى آدم ما تريدون وما تطلبون ؟ أو ما تريدون وأيت تطلبون ؟ قالوا: أبونا مريض واشتهى من ثمار الجنة، فقالوا لهم: ارجعوا فقد قضى أبوكم.
فجاءوا فلما رأتهم حواء عرفتهم فلاذت بآدم، فقال: إليك عنى فإنى إنما أتيت من قبلك، فخلى بينى وبين ملائكة ربى عزوجل.
فقبضوه وغسلوه وكفنوه وحنطوه، وحفروا له ولحدوه وصلوا عليه ثم أدخلوه قبره فوضعوه في قبره، ثم حثوا عليه، ثم قالوا: يا بنى آدم هذه سنتكم.
إسناد صحيح إليه.
وروى ابن عساكر من طريق شيبان بن فروخ، عن محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال: " كبرت الملائكة على آدم أربعا، وكبر أبو بكر على فاطمة أربعا، وكبر عمر على أبى بكر أربعا، وكبر صهيب على عمر أربعا " قال ابن عساكر: ورواه غيره عن ميمون فقال عن ابن عمر.
واختفلفوا في موضع دفنه: فالمشهور أنه دفن عند الجبل الذى أهبط فيه (1) في الهند، وقيل بجبل أبى قبيس بمكة.
ويقال إن نوحا عليه السلام لما كان زمن الطوفان حمله هو وحواء في تابوت، فدفنهما ببيت المقدس.
حكى ذلك ابن جرير.
وروى ابن عساكر عن بعضهم أنه قال: رأسه عند مسجد إبراهيم ورجلاه عند صخرة بيت المقدس.
وقد ماتت بعده حواء بسنه واحدة.
__________
(1)
ط.
منه.
(*)
(1/68)
واختلف في مقدار عمره عليه السلام: فقدمنا في الحديث عن ابن
عباس وأبى هريرة مرفوعا: أن عمره اكتتب في اللوح المحفوظ ألف سنة.
وهذا لا يعارضه ما في التوراة من أنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة، لان قولهم هذا مطعون فيه مردود، إذا خالف الحق الذى بأيدينا مما هو المحفوظ عن المعصوم.
وأيضا فإن قولهم هذا يمكن الجمع بينه وبين ما في الحديث ; فإن ما في التوراة إن (1) كان محفوظا - محمول على مدة مقامة في الارض بعد الاهباط، وذلك تسعمائة [ سنة ] (2) وثلاثون سنة شمسية، وهى بالقمرية تسعمائة وسبع وخمسون سنة، ويضاف إلى ذلك ثلاث وأربعون سنة مدة مقامه في الجنة قبل الاهباط على ما ذكره ابن جرير وغيره، فيكون الجميع ألف سنة.
وقال عطاء الخراساني: لما مات آدم بكت الخلائق عليه سبعة أيام، رواه ابن عساكر.
فلما مات آدم عليه السلام قام بأعباء الامر بعده ولده شيث عليه السلام وكان نبيا بنص الحديث الذى رواه ابن حبان في صحيحه، عن أبى ذر مرفوعا أنه أنزل عليه خمسون صحيفة.
فلما حانت وفاته أوصى إلى ابنه أنوش (3) فقام بالامر بعده، ثم بعده ولده قينن (4) ثم من بعده ابنه مهلاييل - وهو الذى يزعم الاعاجم
__________
(1)
ا: إذا (2) من ا.
(3)
ا: يانش.
(4)
ط: قاين.
(*)
(1/69)
من الفرس أنه ملك الاقاليم السبعة، وأنه أول من قطع الاشجار، وبنى المدائن والحصون الكبار.
وأنه هو الذى بنى مدينة بابل ومدينة السوس الاقصى.
وأنه قهر إبليس وجنوده وشردهم عن الارض إلى أطرافها
وشعاب جبالها وأنه قتل خلقا من مردة الجن والغيلان، وكان له تاج عظيم، وكان يخطب الناس ودامت دولته أربعين سنة.
فلما مات قام بالامر بعده ولده يرد فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ولده خنوخ، وهو إدريس عليه السلام على المشهور.
(1/70)
ذكر ادريس عليه السلام قال الله تعالى: " واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا (1) " فإدريس عليه السلام قد أثنى الله عليه ووصفه بالنبوة والصديقية، وهو خنوخ هذا.
وهو في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره غير واحد من علماء النسب.
وكان أول بنى آدم أعطى النبوة بعد آدم وشيث عليهما السلام.
وذكر ابن إسحاق أنه أول من خط بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمائة سنة وثماني سنين.
وقد قال طائفة من الناس إنه المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمى لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخط بالرمل فقال: " إنه كان نبى يخط به فمن وافق خطه فذاك ".
يويزعم كثير من علماء التفسير والاحكام أنه أول من تكلم في ذلك، ويسمونه هرمس الهرامسة، ويكذبون عليه أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الانبياء والعلماء والحكماء والاولياء.
وقوله تعالى: " ورفعناه مكانا عليا " هو كما ثبت في الصحيحين في حديث الاسراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو في السماء الرابعة.
وقد روى ابن جرير عن يونس عن عبد الاعلى، عن ابن وهب،
عن جرير بن حازم، عن الاعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف
__________
(1)
من سورة مريم 57، 58 (*)
(1/71)
قال: سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر فقال له: ما قول الله تعالى لادريس " ورفعناه مكانا عليا " ؟ فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه: إنى أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بنى آدم - لعله من أهل زمانه - فأحب أن يزداد عملا، فأتاه خليل له من الملائكة فقال: إن الله أوحى إلى كذا وكذا فكلم ملك [ الموت (1) ] حتى أزداد عملا، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرا، فكلم ملك الموت في الذى كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس ؟ قال هو ذا على ظهرى، فقال ملك الموت: يا للعجب (2) ! بعثت وقيل لى اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الارض ؟ ! فقبض روحه هناك.
فذلك قول الله عزوجل " ورفعناه مكانا عليا ".
ورواه ابن أبى حاتم عند تفسيرها.
وعنده فقال لذلك الملك: سل لى ملك الموت كم بقى من عمرى ؟ فسأله وهو معه: كم بقى من عمره ؟ فقال: لا أدرى حتى أنظر، فنظر فقال إنك لتسألني عن رجل ما بقى من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك إلى تحت جناحه إلى إدريس فإذا هو قد قبض وهو لا يشعر.
وهذا من الاسرائيليات، وفى بعضه نكارة.
وقول ابن أبى نجيح عن مجاهد في قوله: " ورفعناه مكانا عليا "
__________
(1)
سقطت من المطبوعة.
(2)
ا: فالعجب (*)
(1/72)
قال: إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى.
إن أراد أنه لم يمت إلى الآن ففى هذا نظر، وإن أراد أنه رفع حيا إلى السماء ثم قبض هناك.
فلا ينافى ما تقدم عن كعب الاحبار.
والله أعلم.
وقال العوفى عن ابن عباس في قوله " ورفعناه مكانا عليا ": رفع إلى السماء السادسة فمات بها، وهكذا قال الضحاك.
والحديث المتفق عليه من أنه في السماء الرابعة أصح، وهو قول مجاهد وغير واحد.
وقال الحسن البصري: " ورفعناه مكانا عليا " قال: إلى الجنة، وقال قائلون رفع في حياة أبيه يرد بن مهلاييل والله أعلم.
وقد زعم بعضهم أن إدريس لم يكن قبل نوح بل في زمان بنى إسرائيل.
قال البخاري: ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس، واستأنسوا في ذلك بما جاء في حديث الزهري عن أنس في الاسراء: انه لما مر به عليه السلام قال له مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح، ولم يقل كما قال آدم وإبراهيم: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح.
قالوا: فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قالا (1) له.
وهذا لا يدل ولا بد، لانه قد لا يكون الراوى حفظه جيدا، أو لعله قاله على سبيل الهضم والتواضع، ولم ينتصب له في مقام الابوة كما انتصب لآدم أبى البشر، وإبراهيم الذى هو خليل الرحمن وأكبر أولى العزم بعد محمد.
صلوات الله عليهم أجمعين.
__________
(1)
ط: قال.
وهو تحريف (*)
(1/73)
قصة نوح عليه السلام
هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ - وهو إدريس - بن يرد بن مهلاييل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم أبى البشر عليه السلام.
وكان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، فيما ذكره ابن جرير وغيره.
وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون سنة، وكان بينهما عشرة قرون كما قال الحافظ أبو حاتم ابن حبان في صحيحه: حدثنا محمد بن عمر بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، سمعت أبا سلام سمعت أبا أمامة: أن رجلا قال: يا رسول الله أنبى كان آدم ؟ قال: نعم مكلم.
قال: فكم كان بينه وبين نوح ؟ قال: عشرة قرون.
قلت: وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه.
وفى صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام.
فإن كان المراد بالقرن مائة سنة - كما هو المتبادر عند كثير من الناس - فبينهما ألف سنة لا محالة، لكن لا ينفى أن يكون أكثر باعتبار ما قيد به ابن عباس بالاسلام، إذ قد يكون بينهما قرون أخر متأخرة
(1/74)
لم يكونوا على الاسلام، لكن حديث أبى أمامة يدل على الحصر في عشرة قرون، وزادنا ابن عباس أنهم كلهم كانوا على الاسلام.
وهذا يرد قول من زعم من أهل التواريخ وغيرهم من أهل الكتاب:
أن قابيل وبنيه عبدوا النار.
والله أعلم.
وإن كان المراد بالقرن الجيل من الناس كما في قوله تعالى: " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح " وقوله: " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " وقال تعالى: " وقرونا بين ذلك كثيرا " وقال: " وكم أهلكناه قبلهم من قرن " وكقوله عليه السلام: " خير القرون قرنى..." الحديث، فقد كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة، فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوف من السنين.
والله أعلم.
وبالجملة فنوح عليه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الاصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد فكان اول رسول بعث إلى أهل الارض، كما يقول أهل الموقف يوم القيامة.
وكان قومه يقال لهم بنو راسب فيما ذكره ابن جبير وغيره.
واختلفوا في مقدار سنة يوم بعث، فقيل كان ابن خمسين سنة، وقيل ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، وقيل ابن أربعمائة وثمانين سنة حكاها ابن جرير، وعزا الثالثة منها إلى ابن عباس.
* * *
(1/75)
وقد ذكر الله قصته وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة، في غير ما موضع من كتابه العزيز ; ففى الاعراف ويونس وهود والانبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات واقتربت، وأنزل فيه سورة كاملة.
فقال في سورة الاعراف: " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إنى اخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملا من قومه إيا لنراك في ضلال مبين.
قال يا قوم ليس بى ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون * أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون * فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (1) ".
وقال تعالى في سورة يونس: " واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إلى ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر، إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين.
فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك، وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (2) ".
__________
(1)
الآيات: 59 - 64.
(2)
الآيات: 72 - 74.
(*)
(1/76)
وقال تعالى في سورة هود: " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم.
فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى، وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين.
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى، وآتاني رحمة من
عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك، ولا أقول للذين تزدرى اعينكم لن يؤتيهم الله خيرا، الله أعلم بما في أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين.
قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون.
واوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون.
ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه، قال: إن
(1/77)
تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل.
وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربى لغفور رحيم * وهى تجرى بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل
يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوى إلى جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل يا أرض ابلعى ماءك وياسماء أقلعى، وغيض الماء وقضى الامر، واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين.
ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من اهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح، فلا تسألن ما ليس لك به علم، إنى أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمني أ كن من الخاسرين * قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمستهم منا عذاب أليم * تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين " (1).
__________
(1)
الآيات: 26 - 50.
(*)
(1/78)
وقال تعالى في سورة الانبياء: " ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (1) ".
وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون: " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * فقال الملا الذى كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم، ولو شاء الله لانزل ملائكة، ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين *
إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين * قال رب انصرني بما كذبون * فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا، فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك، إلا من سبق عليه القول منهم، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين (2) ".
وقال تعالى في سورة الشعراء: " كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * فاتقوا الله وأطيعون * قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين * قالوا لثن لم تنته يا نوح
__________
(1)
الآيتان: 27، 28.
(2)
الآيات: 24 - 31.
(*)
(1/79)
لتكونن من المرجومين * قال رب إن قومي كذبون * فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين * فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " (1) وقال تعالى في سورة العنكبوت: " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ".
وقال تعالى في سورة والصافات: " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه واهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * ثم أغرقنا الآخرين (2) " وقال تعالى في سورة اقتربت: " كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربع أنى مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجرى بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (3) ".
وقال تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم * إنا أرسنا نوحا إلى قومه
__________
(1)
الآيات: 106 - 123 (2) الآيات.
76 - 83 (3)
الآيات 10 - 17 (*)
(1/80)
أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يا قوم إنى لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجفل مسمى، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب إنى دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إنى دعوتهم جهارا * ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين،
ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الارض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الارض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا * مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا * رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل " م 6 - قصص الانبياء 1 "
(1/81)
بيتى مؤمنا، وللمؤمنين والمؤمنات، ولا تزد الظالمين إلا تبارا (1) " وقد تكلمنا على كل موضع من هذه في التفسير.
وسنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه الاماكن المتفرقة، ومما دلت عليه الاحاديث والآثار.
وقد جرى ذكره أيضا في مواضع متفرقة من القرآن فيها مدحه وذم من خالفه، فقال تعالى في سورة النساء: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان، وآتينا داود زبورا * رسلا قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلا لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (2) " وقال في سورة الانعام: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون، وكذلك نجزى المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا، وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (3) " الآيات.
وتقدمت قصته في الاعراف (4).
__________
(1)
سورة نوح بتمامها.
(2)
الآيات.
163 - 165 (3)
الآيات: 84 - 88 (4) ا: قصة الاعراف (*)
(1/82)
وقال في سورة براءة: " ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (1) " وتقدمت قصته في يونس وهود.
وقال في سورة إبراهيم: " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم، وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به، وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب (2) " وقال في سورة سبحان: " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3) " وقال فيها أيضا: " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح،
وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (4) ".
وتقدمت قصته في الانبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت.
وقال في سورة الاحزاب: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (5) وقال في سورة ص: " كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب الايكة أولئك الاحزاب * إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (6) ".
__________
(1)
الآية: 72 (2) الآية: 10 (3) الاسراء 3 (4) الاسراء 17.
(5)
الآية 7 (6) الآيات: 11 - 13 (*)
(1/83)
وقال في سورة غافر: " كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب * وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار (1) ".
وقال في سورة الشورى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.
الله يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب (2) ".
وقال تعالى في سورة ق: " كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (3) ".
وقال في الذاريات: " وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين (4) " وقال في النجم: " وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (5) ".
وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة.
وقال تعالى في سورة الحديد: " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا فيث ذريتهما النبوة والكتاب ; فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (6) ".
__________
(1)
الآيتان 5: 6 (2) الآية: 12 (3) الآيات: 11 - 13 (4) الآية: 45 (5) الآية: 52 (6) الآية: 27 (*)
(1/84)
وقال تعالى في سورة التحريم: " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين، فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، وقيل ادخلا النار مع الداخلين (1) ".
* * *
وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذا من الكتاب والسنة والآثار، فقد قدمنا عن ابن عباس: أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام، رواه البخاري.
وذكرنا أن المراد بالقرن الجيل أو المدة على ما سلف.
ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الاصنام.
وكان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن جريح عن عطاء، عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى: " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن
ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (2) " قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وانتسخ (3) العلم عبدت.
قال ابن عباس: وصارت هذه الاوثان التى كانت في قوم نوح في العرب بعد.
__________
(1)
الآية 10.
(2)
سورة نوح (3) ا: ونسخ (*)
(1/85)
وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن إسحاق.
وقال ابن جرير في تفسيره: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع (1) يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم.
فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر.
فعبدوهم.
وروى ابن أبى حاتم عن عروة ابن الزبير أنه قال: ود ويغوث ويعوق وسواع ونسر، أولا د آدم، وكان " ود " أكبرهم وأبرهم به.
قال ابن أبى حاتم: حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا الحسن بن موسى ; حدثنا يعقوب عن أبى المطهر، قال: ذكروا عند أبى جعفر - هو الباقر - وهو قائم يصلى يزيد بن المهلب، قال فلما انفتل من صلاته قال: ذكرتم يزيد بن المهلب، أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تعالى.
قال ذكر ودا قال: كان رجلا صالحا (2)، وكان محببا في قومه، فلما مات
عكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان ثم قال: إنى أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به ؟ قالوا نعم.
فصور لهم مثله، قال: فوضعوه (3) في ناديهم وجعلوا يذكرونه.
فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أجعل في منزل كل واحد.
__________
(1)
ا: تباع.
(2)
أ: مسلما (3) أو وضعوه (*)
(1/86)
منكم تمثالا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه ؟ قالوا نعم.
قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به.
قال: وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به.
قال: وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان اول ما عبد غير الله " ود " الصنم الذى سموه ودا.
ومقتضى هذا السياق أن كل صنم من هذه عبده طائفة من الناس.
وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والازمان، جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لها (1)، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عزوجل.
ولهم في عبادتها مسالك كثيرة جدا قد ذكرناها في مواضعها من كتابنا التفسير.
ولله الحمد والمنة.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة، تلك الكنيسة التى رأينها بأرض الحبشة، ويقال لها مارية، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله عزوجل ".
* * *
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الارض وعم البلاء بعبادة الاصنام فيها، بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه السلام، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه.
__________
(1)
ط: لهم (*)
(1/87)
فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الارض، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبى حيان، عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة، قال: " فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ الا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فيقول: ربى [ قد (1) ] غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن شجرة فعصيت، نفسي نفسي.
اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الارض، وسماك الله عبدا شكورا، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما بلغنا ؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عزوجل ؟ فيقول: ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، نفسي ينفسى " وذكر تمام الحديث بطوله كما أورده البخاري في قصة نوح.
فلما بعث الله نوحا عليه السلام، دعاهم إلى إفراد عبادة الله وحده لا شريك له، وألا يعبدوا معه صنما ولا تمثالا ولا طوغوتا وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده
من الرسل الذين هم كلهم من ذريته، كما قال تعالى: " وجعلنا ذريته هم الباقين (2) ".
وقال فيه وفى إبراهيم " وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب " أي كل نبى من بعد نوح فمن ذريته.
وكذلك إبراهيم.
__________
(1)
سقطت من ا.
(2)
من سورة الصافات 79.
(*)
(1/88)
قال الله تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وقال تعالى: " واسأل من أرسنا قبلك من رسلنا، أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وقال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " ولهذا قال نوح لقومه: " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وقال: ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم اليم " وقال: " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " وقال: " يا قوم إنى لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون " إلى: " وقد خلقكم أطوارا " الآيات الكريمات فذكر أنهم دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار، والسر والاجهار، بالترغيب تارة والترهيب أخرى، وكل هذا لم ينجح فيهم، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الاصنام والاوثان.
ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به، وتوعدهم بالرجم والاخراج، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم.
"
قال الملا من قومه " أي السادة الكبراء منهم: " إنا لنراك في ضلال مبين ".
"
قال يا قوم ليس بى ضلالة ولكني رسول من رب العالمين "
أي لست كما تزعمون من أنى ضال، بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين، أي الذى يقول لشئ كن فيكون " أبلغكم رسالات ربى
(1/89)
وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ".
وهذا شأن الرسول أن يكون بليغا، أي فصيحا ناصحا، أعلم الناس بالله عزوجل.
وقالوا له فيما قالوا: " ما نراك إلا بشرا مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى، وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ".
تعجبوا أن يكون بشرا رسولا، وتنقصوا من اتبعه ورأوهم أراذلهم.
وقد قيل إنهم كانوا من أفناد الناس وهم ضعفاؤهم، كما قال هرقل: وهم أتباع الرسل، وما ذاك إلا لانه لامانع لهم من اتباع الحق.
وقولهم " بادى الرأى " أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية.
وهذا الذى رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضى الله عنهم: فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحا للصديق: " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت له كبوة غير أبى بكر، فإنه لم يتلعثم ".
ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضا سريعة من غير نظر ولا روية: لان أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضى الله عنهم.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذى أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه، قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضى الله عنه.
(1/90)
وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به: " وما نرى لكم علينا من فضل " أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالايمان ولا مرية علينا " بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكوها وأنتم لها كارهون ".
وهذا تلطف في الخطاب معهم: وترفق بهم في الدعوة إلى الحق، كما قال تعالى: " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (1) " وقال تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتى هي أحسن (2) " وهذا منه.
يقول لهم: " أرأيتهم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده " أي النبوة والرسالة، " فعميت عليكم " أي فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها، " أنلزمكموها " أي أنغصبكم بها ونجبركم عليها ؟ " وأنتم لها كارهون " أي ليس لى فيكم حيلة والحالة هذه.
"
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله " أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغى إياكم ما ينفعكم في دنيا كم وأخراكم، إن أطلب ذلك إلا من الله الذى ثوابه خير لى، وأبقى مما تعطونني أنتم.
وقوله: " وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم، ولكني أراكم قوما تجهلون " كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك وقال: " إنهم ملاقوا ربهم " أي فأخاف إن طردتهم أفلا تذكرون.
__________
(1)
سورة طه 46 (2) سورة النحل 137 (*)
(1/91)
ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين، كعمار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم، نهاه الله عن ذلك، كما بيناه في سورتي الانعام والكهف.
"
ولا أقول لكم عندي خرائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك " أي بل أنا عبد رسول، لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به، ولا أقدر إلا على ما أقدرنى عليه، ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله.
"
ولا أقول للذين تزدرى أعينكم " يعنى من أتباعه " لن يؤتيهم الله خيرا، الله أعلم بما في أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين " أي لا اشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة، الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كما قالوا في المواضع الاخر: " أنؤمن لك واتبعك الارذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون * وما أنا بطارد المومنين * إن أنا إلا نذير مبين ".
* * *
وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون " أي ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم.
وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الايمان به ومحاربته ومخالفته.
وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه، وصاه فيما بينه وبينه، ألا يؤمن بنوح أبدا ما عاش ودائما ما بقى.
(1/92)
وكانت سجاياهم تأبى الايمان واتباع الحق، ولهذا قال: " ولا يلدوا
إلا فاجرا كفارا ".
ولهذا: " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جسدا لنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين " أي إنما يقدر على ذلك الله عزوجل، فإنه الذى لا يعجزه شئ ولا يكترثه أمر، بل هو الذى يقول للشئ كن فيكون.
"
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون " أي من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته، هو الذى يهدى من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو العزيز الحكيم، العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
* * * "
وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " تسلية له عما كان منهم إليه، " فلا تبتئس بما كانوا يفعلون " وهذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، أي لا يسوأنك ما جرى فإن النصر قريب والنبأ [ عجب (1) ] عجيب.
"
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ".
__________
(1)
من: ا (*)
(1/93)
وذلك أن نوحا عليه السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق، من فعال ومقال، دعا عليهم دعوة غضب [ الله عليهم (1) ] فلبى الله دعوته
وأجاب طلبته قال الله تعالى: " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ".
وقال تعالى: " ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ".
وقال تعالى " قال رب إن قوم كذبون * فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين " وقال تعالى: " فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر " وقال تعالى: " قال رب انصرني بما كذبون ".
وقال تعالى: " مما خطيأتهم أغرقوا فأدخلوا نارا * فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ".
فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم.
فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك، وهى السفينة العظيمة التى لم يكن لها نظير قبلها ولا يكون بعدها مثلها.
وقدم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره، وحل بهم بأسه الذى لا يرد عن القوم المجرمين، أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه ; فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس الخبر كالمعاينة.
ولهذا قال: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون.
__________
(1)
من: ا (*)
(1/94)
"
ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه " أي يستهزئون به استبعادا لوقوع ما توعدهم به، " قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون " أي نحن الذين نسخر منكم ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم وعنادكم الذى يقتضى وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم.
"
فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ".
وقد كانت سجاياهم الكفر الغليظ والعناد البالغ في الدنيا، وهكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضا أن يكون جاءهم رسول.
كما قال البخاري: حدثنا موسى بن إسمعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجئ نوح عليه السلام وأمته، فيقول الله عزوجل هل بلغت ؟ فيقول: نعم أي رب.
فيقول لامته هل بلغكم ؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبى، فيقول لنوح: من يشهد لك ؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهد أنه قد بلغ " وهو قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا (1) ".
والوسط العدل.
فهذه الامة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق، بأن الله قد بعث نوحا بالحق، وأنزل عليه الحق وأمره به، وأنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه وأتمها، ولم يدع شيئا مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به، ولا شيئا مما قد يضرهم إلا وقد نهاهم عنه، وحذرهم منه.
__________
(1)
سورة البقرة 145 (*)
(1/95)
وهكذا شأن جميع الرسل، حتى إنه حذر قومه المسيح الدجال، وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانهم ; حذرا عليهم وشفقة ورحمة بهم.
كما قال البخاري: حدثنا عبدان، حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال سالم قال ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأنثى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: " إنى
لانذركموه، وما من نبى إلا وقد أنذره قومه.
لقد أنذره نوح قومه، ولنى أقول لكم فيه قولا لم يقله نبى لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور ".
وهذا الحديث في الصحيحين أيضا من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الا أحدثكم عن الدجال حديثا ما حدث به نبى قومه ؟ إنه أعور، وإنه يجئ معه بمثال الجنة والنار والتى يقول عليها الجنة هي النار، وإنى أنذركم كما أنذر به نوح قومه ".
لفظ البخاري.
وقد قال بعض علماء السلف: لما استجاب الله له، أمره أن يغرس شجرا ليعمل منه السفينة، فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائة أخرى، وقيل في أربعين سنة.
والله أعلم.
قال محمد بن إسحق عن الثوري: وكانت من خشب الساج، وقيل من الصنوبر وهو نص التوراة.
(1/96)
قال الثوري: وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعا، وأن يطلى ظاهرها وباطنها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤا (1) أزور يشق الماء.
وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعا.
وهذا الذى في التوراة على ما رأيته.
وقال الحسن البصري: ستمائة في عرض ثلاثمائة، وعن ابن عباس ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع وقيل كان طولها ألفى ذراع، وعرضها مائة ذراع.
قالوا كلهم: وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعا، وكانت ثلاث طبقات
كل واحدة عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعليا للطيور.
وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
* * *
قال الله تعالى: " قال رب انصرني بما كذبون * فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا " أي بأمرنا لك، وبمرأى من الصنعتك لها، ومشاهدتنا لذلك، لنرشدك إلى الصواب في صنعتها.
فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (2) ".
فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه، أن
__________
(1)
الجؤجؤ: صدر السفينة.
وفى ا جؤجا.
والازور: المائل.
(2)
ا: بأن.
(
م 7 - قصص الانبياء 1) (*)
(1/97)
يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أي أهل بيته، إلا من سبق عليه القول منهم، أي إلا من كان كافرا فإنه قد نفذت فيه الدعوة التى لا ترد، ووجب عليه حلول البأس الذى لا يرد.
وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعانيه من العذاب العظيم، الذى قد حتمه عليهم الفعال لما يريد.
كما قدمنا بيانه قبل.
والمراد بالتنور عند الجمهور وجه الارض، أي نبعت الارض من
سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التى هي محال النار.
وعن ابن عباس: التنور عين في الهند، وعن الشعبى بالكوفة، وعن قتادة بالجزيرة.
وقال على بن أبى طالب: المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر، أي إشراقه وضياؤه.
أي عند ذلك فاحمل فيه من كل زوجين اثنين وهذا قول غريب.
وقوله تعالى " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول، ومن آمن وما آمن معه إلا قليل " هذا أمر بأنه (1) عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.
وفى كتاب أهل الكتاب: أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، وما لا يؤكل زوجين ذكر وأنثى.
__________
(1)
ا: بأن.
(*)
(1/98)
وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق: " اثنين " إن جعلنا ذلك مفعولا به ; وأما إن جعلناه توكيدا لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافى.
والله أعلم.
وذكر بعضهم - ويروى عن ابن عباس: أن أول ما دخل من الطيور الدرة (1)، وآخر ما دخل من الحيوانات الحمار.
ودخل إبليس متعلقا بذنب الحمار.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنى لليث، حدثنى هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما حمل نوح في السفينة من
كل زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن ؟ أو كيف تطمئن المواشى ومعنا الاسد ؟ فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الارض.
ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا.
فأوحى الله إلى الاسد فعطس، فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها.
هذا مرسل (2).
وقوله: " وأهلك إلا من سبق عليه القول " أي من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه " يام " الذى غرق كما سيأتي بيانه.
__________
(1)
الدرة: ضرب من الببغاوات.
وفى الاصل: الذرة.
محرفة.
والتصويب من الحيوان للجاحظ 5 / 151.
(2)
هذه خرافات لا تنتمي إلى العلم الصحيح، وأوهام ما كان ينبغى أن يلقى إليها ابن كثير بالا، ولكنه كان يسير على منهج الجمع مع بيان حالة ما يرويه.
(*)
(1/99)
"
ومن آمن " أي واحمل فيها من آمن بك من أمتك.
قال الله تعالى: " وما آمن معه إلا قليل " هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الاكيدة ليلا ونهارا بضروب المقال وفنون التلطفات والتهديد والوعيد تارة، والترغيب والوعيد أخرى.
وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة: فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم، وعن كعب الاحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا.
وقيل كانوا عشرة.
وقيل إنما كانوا نوحا وبنيه الثلاثة وكنائنه الاربع بامرأة " يام "
الذى انخزل وانعزل، وسلك (1) عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل.
وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية، بل هي نص في أنه قد ركب معه [ من ] (2) غير أهله طائفة ممن آمن به، كما قال: " ونجنى ومن معى من المؤمنين ".
وقيل كانوا سبعة.
وأما امرأة نوح وهى أم أولاده كلهم: وهم حام وسام، ويافث، ويام، ويسميه أهل الكتاب كنعان وهو الذى قد غرق، وعابر، فقد ماتت قبل الطوفان، وقيل إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها.
وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيحتمل أنها كفرت
__________
(1)
ط: وتسلل.
(2)
سقطت من ط.
(*)
(1/100)
بعد ذلك، أو أنها أنظرت ليوم القيامة.
والظاهر الاول لقوله: " ولا نذر على الارض من الكافرين ديارا ".
* * *
قال الله تعالى: " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ".
أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة، فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه، كما قال تعالى: " والذى خلق الازواج كلها، وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا
سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون (1) " وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الامور: أن يكون على الخير والبركة، وأن تكون عاقبتها محمودة، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر: " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق، واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا (2) " وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية وقال: " اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسلها إن ربى لغفور رحيم " أي على اسم الله ابتداء
__________
(1)
سورة الزخرف 12 - 14 (2) سورة الاسراء 80.
(*)
(1/101)
سيرها وانتهاؤه.
"
إن ربى لغفور رحيم " أي وذو عقاب أليم، مع كونه غفورا رحيما، لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، كما أحل بأهل الارض الذين كفروا به وعبدوا غيره.
قال الله تعالى: " وهى تجرى بهم في موج كالجبال " وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرا لم تعهده الارض قبله ولا تمطره بعده، كان كأفواه القرب، وأمر الارض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها.
كما قال تعالى: " فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر " (1).
والدسر المسامير " تجرى بأعيننا " أي بحفظنا وكلاءتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها " جزاء لمن كان كفر ".
وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن الطوفان كان في ثالث عشر من شهر آب في حساب القبط.
وقال تعالى: " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية " أي السفينة
"
لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ".
قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل في الارض (2) خمسة عشر ذراعا، وهو الذى عند أهل الكتاب.
وقيل ثمانين ذراعا، وعم جميع الارض طولها والعرض، سهلها وحزنها، وجبالها وقفارها ورمالها، ولم يبق على وجه الارض ممن كان بها من الاحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير.
__________
(1)
سورة اقتربت (2) ط: بالارض (*)
(1/102)
قال الامام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملاوا السهل والجبل.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكن بقعة في الارض إلا ولها مالك وحائز.
رواهما ابن أبى حاتم.
"
ونادى نوح ابنه وكان في معزل، يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوى إلى جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرفين ".
وهذا الابن هو " يام " أخو سام وحام ويافث، وقيل اسمه كنعان.
وكان كافرا عمل عملا غير صالح، فخالف أباه في دينه ومذهبه، فهلك مع من هلك.
هذا وقد نجا مع أبيه الاجانب في النسب، لما كانوا موافقين في الدين والمدهب.
"
وقيل يا أرض ابلعى ماءك وياسماء أقلعى، وغيض الماء وقضى الامر، واستوت على الجودى، وقيل بعدا للقوم الظالمين ".
أي لما فرغ من أهل الارض، ولم يبق بها (1) أحد ممن عبد غير الله
عزوجل، أمر الله الارض أن تبتلع (2) ماءها، وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر، " وغيض الماء " أي نقص عما كان، " وقضى الامر " أي وقع بهم الذى كان قد سبق في علمه وقدره ; من إحلاله بهم ماحل بهم.
__________
(1)
ط: منها.
(2)
ا: تبلع.
(*)
(1/103)
"
وقيل بعدا للقوم الظالمين " أي نودى عليهم بلسان القدرة: بعدا لهم من الرحمة والمغفرة.
كما قال تعالى: " فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (1) ".
وقال تعالى: " فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " (2).
وقال تعالى: " ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (3) ".
وقال تعالى: " فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الحكيم (4) ".
وقال تعالى: " فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين " وقال تعالى: " ثم أغرقنا الآخرين ".
وقال: " ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (5) ".
وقال تعالى: " مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من
__________
(1)
من سورة الاعراف 64 (2) من سورة يونس 73
(3)
من سورة الانبياء 77 (4) من سورة الشعراء 119 - 122 (5) سورة القدر (*)
(1/104)
دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (1) " وقد استجاب الله تعالى - وله الحمد والمنة - دعوته، فلم يبق منهم عين تطرف.
وقد روى الامامان أبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبى حاتم في تقسيريهما من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن قائد مولى عبد الله ابن أبى رافع، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبى ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فلو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبى ! ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة - يعنى إلا خمسين عاما - وغرس مائة سنة الشجر، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعلها سفينة، ويمرون عليه ويسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر كيف تجرى ؟ قال: سوف تعلمون.
فلما فرغ ونبع الماء وصار السكك خشيت أم الصبى عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبى ! ".
__________
(1)
سورة نوح (*)
(1/105)
وهذا حديث غريب.
وقد روى عن كعب الاحبار ومجاهد وغير واحد، شبيه لهذه القصة.
وأخرى بهذا الحديث أن يكون موقوفا متلقى عن مثل كعب الاحبار.
والله أعلم.
* * *
والمقصود أن الله لم يبق من الكافرين ديارا.
فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق - ويقال ابن عناق - كان موجودا من قبل نوح إلى زمان موسى.
ويقولون كان كافرا متمردا جبارا عنيدا.
ويقولون كان لغير رشدة، بل ولدته أمه بنت آدم من زنا، وأنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشويه في عين الشمس، وأنه كان يقول لنوح وهو في السفينة: ما هذه القصعة التى لك ؟ ويستهزئ به.
ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا إلى غير ذلك من الهذيانات التى لولا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس (1)، لما تعرضنا لحكايتها، لسقاطتها وركاكتها.
ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول.
أما المعقول: فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره، وأبوه نبى الامة وزعيم أهل الايمان، ولا يهلك عوج بن عنق، ويقال عناق، وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا ؟
__________
(1)
الاصل: وأيام النام (*)
(1/106)
وكيف لا يرحم الله منهم أحدا ولا أم الصبى ولا الصبى، ويترك هذا
الدعى (1) الجبار العنيد الفاجر، الشديد الكافر، الشيطان المريد على ما ذكروا ؟ وأما المنقول فقد قال الله تعالى: " ثم أغرقنا الآخرين " وقال: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا ".
ثم هذا الطول الذى ذكروه مخالف لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل (2) الخلق ينقص حتى الآن ".
فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذى لا ينطق عن الهوى " إن هو إلا وحى يوحى " أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن، أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم إخباره بذلك وهلم جرا إلى يوم القيامة.
وهذا يقتضى أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه.
فكيف يترك هذا ويذهل عنه، ويصار گلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب، الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها ؟ فما ظنك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه [ وهم الخونة والكذبة عليهم لعائن الله التابعة إلى يوم القيامة (3) ] وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلاقا من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الانبياء.
والله أعلم.
* * *
__________
(1)
ا: المدعى.
(2)
ا: قزل.
(3)
من ا.
(*)
(1/107)
ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده، وسؤاله له عن غرفه على وجه الاستعلام والاستكشاف.
ووج السؤال: أنك وعدتني بنجاة أهلى معى وهو منهم وقد غرق ؟ فأجيب بأنه ليس من أهلك، أي الذين وعدت بنجاتهم.
أي أنا قلنا لك: " وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم " فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأنه سيغرق بكفره، زولهذا ساقته الاقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الايمان، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان.
ثم قال تعالى: " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ".
هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الارض، وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها، أن يهبط من السفينة التى كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر حبل الجودى، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور، " بسلام منا وبركات " أي اهبط سالما مباركا عليك، وعلى أمم ممن سيولد بعد، أي من أولادك، فإن الله لم يجعل لاحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ولا عقبا سوى نوح عليه السلام.
قال تعالى: " وجعلنا ذريته هم الباقين "، فكل من على وجه الارض اليوم من سائر أجناس بنى آدم، ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم: سام، وحام، ويافث.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن
(1/108)
الحسن، عن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم ".
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدى، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعا نحوه.
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وقد روى عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
قال: والمراد بالروم هنا الروم الاول وهم اليونان المنتسبون إلى رومى بن لبطى بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام.
ثم روى من حديث إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: ولد نوح ثلاثة: سام ويافث وحام، وولد كل واحد من هذه الثلاثة، فولد سام: العرب وفارس والروم.
وولد يافث: النرك والصقالبة ويأجوج ومأجوج.
وولد حام: القبط والسودان والبربر.
قلت وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن هانئ، وأحمد بن حسين بن عباد أبو العباس قالا: حدثنا محمد بن يزيد ابن سنان الرهاوى، حدثنى أبى عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولد لنوح: سام وحام ويافث، فولد لسام: العرب وفارس والروم والخير فيهم.
وولد ليافث: يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم.
وولد لحام: القبط والبربر والسودان ".
(1/109)
ثم قال: لا نعلم يروى مرفوعا إلا من هذا الوجه.
تفرد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه.
ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلا ولم يسنده، وإنما جعله من قول سعيد.
قلت: وهذا الذى ذكره أبو عمر، هو المحفوظ عن سعيد قوله،
وهكذا روى عن وهب بن منبه مثله والله أعلم.
ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوى ضعيف بمرة لا يعتمد عليه.
وقد قيل إن نوحا عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الاولاد إلا بعد الطوفان، وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذى غرق، وعابر مات قبل الطوفان.
والصحيح أن الاولاد الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم وهو نص التوراة.
وقد ذكر أن " حاما " واقع امرأته في السفينة، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته، فولد له ولد أسود وهو كنعان بن حام جد السودان.
وقيل بل رأى أباه نائما وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخواه، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته، وأن يكون أولاده عبيدا لاخوته (1).
وذكر الامام أبو جعفر بن جرير من طريق على بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أنه قال: قال الحواريون لعيسى بن
__________
(1)
وهذا من خرافات القدماء، ولا يعول عليه.
(*)
(1/110)
مريم: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها.
قال: فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه، وقال: اتدرون ما هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: هذا كعب حام بن نوح.
قال: وضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينقض التراب عن رأسه قد شاب.
فقال له عيسى عليه السلام هكذا هلكت: قال لا، ولكني مت وأنا شاب، ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت.
قال: حدثنا عن سفينة نوح.
قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي
ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الانس، وطبقة فيها الطير.
فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عزوجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث.
ولما وقع الفأر يخرز السفينة بقرضه، أوحى الله عزوجل نوح عليه السلام: أن اضرب بين عينى الاسد، فخرج من منخره سنور وسنورة فاقبلا على الفار.
فقال له عيسى: كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت ؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت.
قال: ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها، فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التى في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان، فمن ثم تألف البيوت.
قال: فقالوا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال: فقال له: عد بإذن الله.
فعاد ترابا.
(1/111)
وهذا أثر غريب جدا (1).
وروى علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما، وإن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما، ثم وجهها إلى الجودى فاستقرت عليه، فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الارض، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين، فعرف نوح أن الماء قد نضب، فهبط إلى
أسفل الجودى فابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها العربية.
وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم.
وقال قتادة وغيره: ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب (2)، فساروا مائة وخمسين يوما واستقرت بهم على الجودى شهرا.
وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم.
وقد روى ابن جرير خبرا مرفوعا يوافق هذا، وأنهم صاموا يومهم ذلك.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو جعفر، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الازدي، عن أبيه حبيب بن عبد الله، عن شبل، عن أبى هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء، فقال
__________
(1)
بل هي أساطير مختلقة لا سبيل لها إلى الصحة.
(2)
ومن أين لقتادة هذا العلم القديم، ومعلوم أن الشهور العربية إنما عرفها العرب بعد الطوفان بزمان بعيد.
(*)
(1/112)
ما هذا الصوم ؟ فقالوا: هذا اليوم الذى نجى الله فيه موسى وبنى إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا اليوم استوت فيه السفينة على الجودى، فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عزوجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم " وقال لاصحابه: " من كان منكم أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان منكم قد أصاب من غد أهله فليتم بقية يومه ".
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر، والمستغرب ذكر نوح أيضا.
والله أعلم.
وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم، ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها، وطحنوا الحبوب يومئذ، واكتحلوا بالاثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة - فكل هذا لا يصح فيه شئ، وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بنى إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها.
والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان - أرسل ريحا على وجه الارض، فسكن الماء وانسدت ينابيع الارض، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر، وكان استواء الفلك [ على الجودى (1) ] فيما يزعم أهل التوراة - في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه.
وفى أول يوم من الشهر العاشر رئيت رءوس الجبال.
فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التى صنع فيها، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء
__________
(1)
من ا (م 8 - قصص الانبياء 1) (*)
(1/113)
فلم يرجع إليه، فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعا، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها، ثم مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع، فرجعت حين أمست وفى فيها ورق زيتونة، فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الارض.
ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه، فعلم نوح أن الارض قد برزت، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الاول من سنة اثنين، برز وجه الارض، وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك.
وهذا الذى ذكره ابن إسحق هو بعينه مضمون سياق التوراة التى بايدى أهل الكتاب.
وقال ابن إسحق: وفى الشهر الثاني من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ".
وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك، وجميع الدواب التى معك، ولينموا وليكثروا (2) في الارض.
فخرجوا وابتنى نوح مذبحا لله عزوجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عزوجل وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الارض.
وجعل تذكارا لميثاقه (2) إليه القوس الذى في الغمام، وهو قوس قزح الذى روى عن
__________
(1)
ط: وليكبروا (2) ا: وجعل تذكار ميثاق (*)
(1/114)
ابن عباس أنه أمام من الغرق.
قال بعضهم: فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر، أي أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وتوع الطوفان، واعترف به آخرون منهم وقالوا: إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا.
قالوا: ولم نزل نتوارث الملك كابرا عن كابر، من لدن كيومرث - بعنون آدم - إلى زماننا هذا.
وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان.
وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجهل بليغ، ومكابرة للمحسوسات، وتكذيب لرب الارض والسموات.
وقد أجمع أهل الاديان الناقلون عن رسل الرحمن، مع ما تواتر عند الناس في سائر الازمان، على وقوع الطوفان، وأنه عم جميع البلاد، ولم يبق الله أحدا من كفرة العباد ; استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم، وتنفيذا لما سبق في القدر المحتوم.
ذكر شئ من أخبار نوح نفسه عليه السلام قال الله تعالى: " إنه كان عبدا شكورا " (1).
قيل: إنه كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبى زائدة
__________
(1)
من الآية: 3 من سورة الاسراء.
(*)
(1/115)
عن سعيد بن أبى بردة، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أبو يشرب الشربة فيحمده عليها ".
وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث [ أبى ] أسامة (1).
والظاهر أن الشكور هو الذى يعمل بجميع الطاعات القلبية والقولية والعملية ; فإن الشكر (2) يكون بهذا وبهذا كما قال الشاعر: أفادتكم النعماء منى ثلاثة * يدى ولساني والضمير المحجبا ذكر صومه عليه السلام وقال ابن ماجة: باب صيام نوح عليه السلام: حدثنا سهل بن أبى سهل حدثنا سعيد بن أبى مريم، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبى فراس، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صام نوح الدهر إلا يوم عيد الفطر ويوم الاضحى ".
وهكذا رواه ابن ماجة عن طريق عبد الله بن لهيعة بإسناده ولفظه.
وقد قال الطبراني: حدثنا أبوالزنباع روح بن فرج، حدثنا عمر بن خالد الحرانى، حدثنا ابن لهيعة، عن أبى قتادة، عن يزيد بن رباح أبى فراس، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والاضحى، وصام داود نصف الدهر، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر ".
__________
(1)
سقطت من ط.
(2)
ا: الشكور.
(*)
(1/116)
ذكر حجه عليه السلام وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا أبى، عن زمعة - هو ابن أبى صالح - عن سلمة بن دهران (1)، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتى وادى عسفان قال: " يا أبا بكر أي واد هذا ؟ " قال هذا وادى عسفان.
قال: " لقد مر بهذا نوح وهود وإبراهيم على بكران (2) لهم حمر خطمهم الليف، أزرهم العباء وأرديتهم النمار (3) يحجون البيت العتيق ".
فيه غرابة.
ذكر وصيته لولده عليه السلام قال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن الصقعب بن زهير، عن زيد بن أسلم - قال حماد: أظنه عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أهل البادية عليه جبة سيحان مزرورة بالديباج فقال: " ألا إن صاحبكم هذا قد وضع كل فارس ابن فارس، أو قال: يريد أن يضع كل
فارس ابن فارس، ورفع كل راع ابن راع ".
قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجامع جبته وقال: " ألا أرى عليك لباس من لا يعقل ! " ثم قال: " إن نبى الله نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه: إنى قاص عليك وصية (4) ;
__________
(1)
ط: وهرام.
(2)
البكران: النوق الفتية (3) النمار: برود من صوف (4) ا: الوصية (*)
(1/117)
آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع والارضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله.
ولو أن السموات السبع والارضين السبع كن حلقة مبهمة (1) ضمتهن لا إله إلا الله، وبسبحان الله وبحمده.
فإن بها صلات كل شئ، وبها يرزق الخلق.
وأنهاك عن الشرك والكبر " قال: يقلت - أو قيل - يا رسول الله، هذا الشرك قد عرفناه، فلما الكبر ؟ أن يكون لاحدنا نعلان حسنتان لهما شرا كان حسنان ؟ قال: " لا " قال: هو أن يكون لاحدنا حلة يلبسها ؟ قال " لا " قال: هو أن يكون لاحدنا دابة يركبها ؟ قال: " لا " قال: هو أن يكون لاحدنا أصحاب يجلسون إليه ؟ قال: " لا " قلت - أو قيل - يا رسول الله فما الكبر ؟ قال: " سفه الحق وغمط (2) الناس ".
وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد ابن إسحق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان في وصية نوح لابنه: أوصيك بخصلتين وأنهاك عن
خصلتين "، فذكر نحوه.
وقد رواه أبو بكر البزار عن إبراهيم بن سعيد، عن أبى معاوية الضرير عن محمد بن إسحق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
والظاهر أنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، كما رواه أحمد والطبراني.
والله أعلم.
__________
(1)
المبهمة: المصمتة.
(2)
ا: وغمص (*)
(1/118)
ويزعم أهل الكتاب أن نوحا عليه السلام لما ركب [ في (1) ] السفينة - كان عمره ستمائة سنة.
وقدمنا عن ابن عباس مثله، وزاد: وعاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة، وفى هذا القول نظر.
ثم إن لم يمكن الجمع بينه وبين دلالة القرآن فهو خطأ محض.
فإن القرآن يقتضى أن نوحا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.
ثم الله أعلم كم عاش بعد ذلك ؟ فإن كان ما ذكر محفوظا عن ابن عباس - من أنه بعث وله أربعمائة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة - فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة.
وأما قبره عليه السلام: قروى ابن جرير والازرقي عن عبد الرحمن ابن سابط أو غسيره من التابعين مرسلا، أن قبر نوح عليه السلام بالمسجد الحرام.
وهذا أقوى وأثبت من الذى يذكره كثير من المتأخرين، من أنه ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامع قد بنى بسبب ذلك فيما ذكر.
والله أعلم.
__________
(1)
من ا (2) ا: سبعمائة.
(*)
(1/119)
قصة هود عليه السلام وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.
ويقال إن هودا هو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، ويقال هود بن عبد الله بن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
ذكره ابن جرير.
وكان من قبيلة يقال لهم عاد بن عوض بن سام بن نوح.
وكانوا عربا يسكنون الاحقاف - وهى جبال الرمل - وكانت باليمن بين عمان وحضر موت، بأرض مطلة على البحر يقال لها الشحر، واسم واديهم مغيث.
وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الاعمدة الضخام، كما قال تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد " أي عاد إرم وهم عاد الاولى.
وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه.
وأما عاد الاولى فهم عاد " إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها في البلاد " أي مثل القبيلة، وقيل مثل العمد.
والصحيح الاول كما بيناه في التفسير.
ومن زعم أن " إرم " مدينة تدور في الارض، فتارة في الشام، وتارة في اليمن ; وتارة في الحجاز، وتارة في غيرها، فقد أبعد النجعة، وقال ما لا دليل عليه، ولا برهان يعول عليه، ولا مستند يركن إليه.
(1/120)
وفى صحيح ابن جبان عن أبى ذر في حديثه الطويل في ذكر الانبياء والمرسلين قال فيه: " منهم أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب ونبيك يا أبا ذر ".
ويقال إن هودا عليه السلام أول من تكلم بالعربية، وزعم وهب ابن منبه أن أباه أول من تكلم بها، وقال غيره: أول من تكلم بها نوح، وقيل آدم وهو الاشبه، وقيل غير ذلك.
والله أعلم.
ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام، العرب العاربة، وهم قبائل كثيرة: منهم عاد، وثمود، وجرهم، وطسم، وجديس ; وأميم، ومدين، وعملاق، وعبيل، وجاسم، وقحطان، وبنو يقطن، وغيرهم.
وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان.
وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن عادا - وهم عاد الاولى - كانوا أول من عبد الاصنام بعد الطوفان.
وكانت أصنامهم ثلاثة: صدا وصمودا، وهرا.
فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه السلام فدعاهم إلى الله، كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح، وما كان من أمرهم في سورة الاعراف:
(1/121)
"
وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا
لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بى سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وانا لكم ناصح أمين * أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ؟ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادكم في الخلق بسطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون * قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده، ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب، اتجادلوننى في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (1) ".
وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود: " وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا، إن أجرى إلا على الذى فطرني أفلا تعقلون * ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويردكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين * قالوا يا هود ما جئتنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.
قال إنى أشهد الله واشهدوا
__________
(1)
الآيات من 65 - 72 (*)
(1/122)
أنى برئ مما تشكرون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إنى توكلت على الله ربى وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم،
ويستخلف ربى قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شئ حفيظ * ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود (1) ".
وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون " بعد قصة قوم نوح: " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرني بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين " (2).
__________
(1)
الآيات: من 50 - 60.
(2)
الآيات من 31 - 41 (*)
(1/123)
وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضا: " وكذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ؟ إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع آية تعبثون ؟ وتتخذون مصانع لعلكم
تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الاولين * وما نحن بمعذبين * فكذبوه فأهلكناهم، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم (1) ".
وقال تعالى في سورة حم السجدة: " فأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من أشد مناقوة ؟ أو لم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات، لنذيقهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (2) ".
وقال تعالى في سورة الاحقاف: " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف، وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا أجئتنا لتافكنا عن آلهتنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما العلم عند الله وأبلغكم
__________
(1)
الآيات: 123 - 140 الآيتان 15، 16 (*)
(1/124)
ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون * فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شئ بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، كذلك نجزى القوم المجرمين (1) ".
وقال تعالى ف الذاريات: " وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم *
ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم ".
وقال تعالى في النجم: " وأنه أهلك عادا الاولى * وثمود فما أبقى * وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى * فبأى آلاء ربك تتمارى ".
وقال تعالى في سورة اقتربت: " كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ".
وقال في الحاقة: " وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية ".
وقال في سورة الفجر: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد "
__________
(1)
الآيات: 21، 25 (*)
(1/125)
وفرعون ذى الاوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ".
وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير.
ولله الحمد والمنة.
وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة وإبراهيم والفرقان والعنكبوت وفى سورة ص، وفى سورة ق.
* * *
ولنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه السياقات، مع ما يضاف إلى ذلك من الاخبار.
وقد قدمنا أنهم أول الامم الذين عبدوا الاصنام بعد الطوفان.
وذلك بين في قوله لهم: " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة " أي جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش.
وقال في المؤمنون: " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " وهم قوم هود على الصحيح.
وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله: " فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء ".
قالوا: وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة " وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية ".
وهذا الذى قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية عليهم كما سيأتي في قصة أهل مدين اصحاب الايكة فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات، ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود.
(1/126)
والمقصود أن عادا كانوا جفاة كافرين، عتاة متمردين في عبادة الاصنام، فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله وإلى إفراده بالعبادة والاخلاص له، فكذبوه وخالفوه وتنقصوه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
فلما أمرهم بعبادة الله ورغبهم في طاعته واستغفاره، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة " قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة " أي هذا الامر الذى تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الاصنام التى يرتجى منها النصر والرزق، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك
أن الله أرسلك.
"
قال يا قوم ليس بى سفاهة ولكني رسول من رب العالمين "، أي ليس الامر كما تظنون ولا كما (1) تعتقدون " أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين " والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه، ويستلزم أداءه (2) بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب.
وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم، لا يبتغى منهم أجرا ولا يطلب منهم جعلا ; بل هو مخلص لله عزوجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه، لا يطلب أجره إلا من الذى أرسله، فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه
__________
(1)
ا: ولا ما تعتقدون.
(2)
ط: إبلاغه.
(*)
(1/127)
ولهذا وقال: " يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرني أفلا تعقلون " أي أما لكم عقل تميزون به وتفهمون أنى أدعوكم إلى الحق المبين الذى تشهد به فطركم التى خلقتم عليها، وهو دين الحق الذى بعث الله به نوحا وأهلك من خالفه من الخلق.
وها أنا أدعوكم إليه ولا أسألكم أجرا عليه، بل أبتغى ذلك عند الله مالك الضر والنفع.
ولهذا قال مؤمن " يس ": " اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * ومالى لا أعبد الذى فطرني وإليه ترجعون ؟ " وقال قوم هود له فيما قالوا: " يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء "، يقولون ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق
ماجئت به، وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك ; بلا دليل أقمته ولا برهان نصبته، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه.
وعندنا أنه إنما أصابك هذا لان بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فأعتراك جنون بسبب ذلك.
وهو قولهم: " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ".
"
قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما تشكرون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ".
وهذا تحد منه لهم، وتبرأ من آلهتهم وتنقص منه لها، وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر، وأنها جماد حكمها حكمه وفعلها فعله.
فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر فها أنا برئ منها
(1/128)
لا عن لها " فكيدوني ثم لا تنظرون " أنتم جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه، ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين فإنى لا ابالى بكم ولا أفكر فيكم، ولا أنظر إليكم.
"
إنى توكلت على الله ربى وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربى على صراط مستقيم " أي أنا متوكل على الله ومتأيد به، وواثق بجنابه الذى لا يضيع من لاذبه واستند إليه، فلست أبالى مخلوقا سواه، لست أتوكل إلا عليه ولا أعبد إلا إياه.
وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله ; لانهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروها.
فدل على صدقه فيما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه.
وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله: " يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إلى ولا تنظرون (1) ".
وهكذا قال الخليل عليه السلام: " ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا، وسع ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ؟ فأى الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا
__________
(1)
من الآية: 71 من سوره يونس (م 9 - قصص الانبياء 1) (*)
(1/129)
إيمانهم بظلم، أولئك لهم الامن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (1) " " وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا، ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون (2) ".
استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا.
وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا، كما قال تعالى: " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس (3) " وقال تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء
ملكا رسولا (4) ".
ولهذا قال لهم هود عليه السلام: " أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " أي ليس هذا بعجيب ; فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وقوله: " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين *
__________
(1)
سورة الانعام: 80: 83 (2) سورة المؤمنون: 33: 35.
(3)
أول سورة يونس.
(4)
الآيتان: 94، 95 من سورة الاسراء.
(*)
(1/130)
قال ربى انصرني بما كذبون " استبعدوا الميعاد وأنكروا قيام الاجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما، وقالوا: هيهات هيهات، أي بعيد بعيد هذا الوعد، " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " أي يموت قوم ويحيا آخرون.
وهذا هو اعتقاد الدهرية، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة: ارحام تدفع وأرض تبلع.
وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل ستة وثلاثين الف سنة.
وهذا كله كذب وكفر وجهل وضلال، وأقوال باطلة وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل، يستميل عقل الفجرة الكفرة من بنى آدم الذين لا يعقلون ولا يهتدون، كما قال تعالى: " ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون ".
(2)
وقال لهم فيما وعظهم به: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون
مصانع لعلكم تخلدون ".
يقول لهم: أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ونحوها، تعبثون ببنائها لانه لا حاجة لكم فيه، وما ذاك إلا لانهم كانوا يسكنون الخيام، كما قال تعالى: " ألم تركيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها في البلاد " فعاد إرم هم عاد الاولى الذين كانوا يسكنون الاعمدة التى تحمل الخيام.
ومن زعم أن " إرم " مدينة من ذهب وفضة وهى تنتقل في البلاد، فقد غلط وأخطأ، وقال مالا دليل عليه.
__________
(1)
الآية: 113 من سورة الانعام (*)
(1/131)
وقوله: " وتتخذون مصانع " قيل هي القصور، وقيل بروج الحمام وقيل مآخذ الماء " لعلكم تخلدون " أي رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة " وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون * أمدكم بانعام وبنين * وجنات وعيون * إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ".
وقالوا له مما قالوا: " أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " أي أجئتنا لنعبد الله وحده، ونخالف آباؤنا وأسلافنا وما كانوا عليه ؟ فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال، فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك.
كما قالوا: " سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الاولين * وما نحن بمعذبين ".
اما على قراءة فتح الخاء، فالمراد به اختلاق الاولين، أي إن هذا الذى جئت به إلا اختلاق
منك، أخذته من كتب الاولين.
هكذا فسره غير واحد من الصحابة والتابعين.
وأما على قراءة ضم الخاء واللام - فالمراد به الدين ; أي إن هذا الدين الذى نحن عليه إلا دين [ الاولين (1) ] الآباء والاجداد من الاسلاف (2)، ولن نتحول عنه ولا نتغير، ولا نزال متمسكين به.
ويناسب كلا القراءتين الاولى والثانية قولهم: " وما نحن بمعذبين "
__________
(1)
من ا (2) ط: من أسلافنا.
(*)
(1/132)
قال: " قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب، أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا إنى معكم من المنتظرين " أي قد استحققتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله، أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم ؟ اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم، ما نزل الله بها من سلطان.
أي لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليل ولا برهانا.
وإذ أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا، فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم، وبأسه الذى لا يرد ونكاله الذى لا يصد.
* * *
وقال تعالى: " قال رب انصرني بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين " وقال تعالى: " قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون * فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم، قالوا
هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شئ بأمر بها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، كذلك نجزى القوم المجرمين ".
وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية كما تقدم مجملا ومفصلا، كقوله: [ " فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين
(1/133)
كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (1) " ] وكقوله: " ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ * وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود " وكقوله: " فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين " وقال تعالى: " فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم ".
وأما تفصيل إهلاكهم فكما (2) قال تعالى: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " [ كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب، أنهم كانوا ممحلين مسنتين (3)، فطلبوا السقيا فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة، فإذا هو سقيا عذاب.
ولهذا قال تعالى: " بل هو ما استعجلتم به " أي من وقوع العذاب (4) ] وهو قولهم: " فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " ومثلها في الاعراف.
وقد ذكر المفسرون وغيرهم هاهنا الخبر الذى ذكره الامام محمد بن إسحق بن يسار (5) قال: فلما أبوا إلا الكفر بالله عزوجل، أمسك
عنهم القطر (6) ثلاث سنين، حتى جهدهم ذلك.
قال: وكان الناس إذا
__________
(1)
ليست في ا.
(2)
ط: فلما.
وهو تحريف.
(3)
ممحلين: أصابهم المحل وهو الشدة وانقطاع المطر.
ومسنتين: أصابتهم السنة وهى الجدب والقحط.
(4)
سقطت من ا.
(5)
المطبوعة: بشار.
وهو تحريف (6) ط: المطر.
(*)
(1/134)
جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته.
وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبرى.
قال: فبعث عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر [ بظاهر مكة، فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا، يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان، قينتان لمعاوية (1) ] وكانوا قد وصلوا إليه في شهر.
فلما طال مقامهم عنده، وأخذته شفقة على قومه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف - عمل شعرا يعرض لهم فيه (2) بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنيهم به، فقال: ألا يا قيل ويحك قم فهينم * لعل الله يصحبنا (2) غماما فيسقى أرض عاد إن عادا * قد امسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير * فقد أمست نساؤهم أيامى وإن الوحش يأتيهم جهارا * ولا يخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم * نهاركم وليلكم تماما (3)
فقبح وفدكم من وفد قوم * ولا لقوا التحية والسلاما قال: فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز، فأنشأ الله سحابات ثلاثا:
__________
(1)
ليست في ا.
(2)
ط: يمنحنا.
(3)
ا: التماما.
ولعلها: نياما.
(*)
(1/135)
بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب، فقال: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه مناد: اخترت رماد رمددا، لا تبقى من عاد أحدا، لا والدا يترك ولا ولدا إلا جعلته همدا إلا بنى اللوذية الهمدا.
قال: وهم بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم.
قال: ومن بقى من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة.
قال: وساق الله السحابة السوداء التى اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا، وقالوا هذا عارض ممطرنا، فيقول تعالى: " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شئ بأمر ربها " أي [ تهلك (1) ] كل شئ أمرت به.
فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنهغا ريح فيما يذكرون أمرأة من عاد يقال لها " مهد "، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت.
فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مهد ؟ قالت رأيت ريحا فيها شبه (2) النار أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، والحسوم الدائمة ; فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك.
قال: واعتزل هود عليه السلام - فيما ذكر لى - في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين، ما يصيبهم إلا ما تلين عليه الجلود، وتلذ (3) الانفس، وإنها
__________
(1)
ليست في ا.
(2)
ا: كشهب النار (3) ا: ويلبد.
(*)
(1/136)
التمر على عاد بالظعن فيما بين السماء والارض، وتدمغهم بالحجارة.
وذكر تمام القصة.
وقد روى الامام أحمد حديثا في مسنده يشبه هذه القصة فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم ابن أبى النجود، عن أبى وائل، عن الحارث - وهو ابن حسان - ويقال ابن يزيد البكري، قال: خرجت أشكو العلاء [ بن (1) ] الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بنى تميم منقطع بها، فقالت لى: يا عبد الله إن لى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت ما شأن الناس ؟ قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها.
قال: فجلست، قال فدخل منزله - أو قال رحله - فاستأذنت عليه فاذن لى، فدخلت فسلمت فقال: " هل كان بينكم وبين بنى تميم شئ " ؟ فقلت: نعم.
وكانت لنا الدائرة (2) عليهم ومررت بعجوز من بنى تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك وهامى بالباب، فأذن لها فدخلت، فقلت يا رسول الله: إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بنى تميم حاجزا، فاجعل الدهناء (3) [ فإنها كانت لنا، قال (4) ] فحميت العجوز واستوفزت وقالت
__________
(1)
سقطت من ا.
(2)
ا: الدبرة (3) ط: الدهماء.
وهو تحريف.
(4)
ليست في ا (*)
(1/137)
يا رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك ؟ قال: فقلت: إن مثلى ما قال الاول: " معزى حملت حتفها " حملت هذه الامة [ ولا (1) ] أشعر أنها كانت لى خصما، أعوذ بالله ورسوله [ أن أكون (1) ] كوافد عاد، قال: [ هيه (1) ] وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منى (2) ولكن يستطعمه.
قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية ابن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة (3)، فقال: اللهم إنك تعلم أنى لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه.
فمرت به سحابات سود فنودى: منها اختر.
فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودى منها: خذها رمادا رمددا، لا تبقى من عاد أحدا.
قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا كقدر ما يجرى في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا.
قال أبو وائل: وصدق، وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا (4) لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد.
وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب به.
ورواه النسائي من حديث سلام أبى المنذر عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجة.
وهكذا أورد هذا الحديث وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين كاين جرير وغيره.
__________
(1)
سقطت من ا.
(2)
ا: بالحديث فيه.
(3)
ا: جبال مهرة.
(4)
ط: وفدا.
(*)
(1/138)
وقد يكون هذا السياق لاهلاك عاد الآخرة ; فإن فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل، فنزلت جرهم عندهم كما سيأتي، وعاد الاولى قبل الخليل، وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الاولى، ولا يشبه كلام المتقدمين.
وفيه أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الاولى إنما أهلكوا بريح صرصر.
وقد قال ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من أئمة التابعين: هي الباردة، والعاتية الشديد الهبوب.
"
سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " أي كوامل متتابعات.
قيل كان أولها الجمعة، وقيل الاربعاء.
"
فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " شبههم بأعجاز النخل التى لارءوس لها، وذلك لان الريح كانت تجئ إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ; ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس، كما قال: " إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر [ أي في يوم نحس عليهم، مستمر (1) ] عذابه عليهم.
"
تنزع الناس كأنهم اعجاز نخل منقعر " ومن قال إن اليوم النحس المستمر هو يوم الاربعاء وتشاءم به لهذا الفهم، فقد أخطأ وخالف القرآن ; فإنه قال في الآية الاخرى: " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات " ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت
__________
(1)
سقطت من ا.
(*)
(1/139)
جميع الايام السبعة المندرجة فيها (1) مشئومة، وهذا لا يقوله أحد، وإنما المراد في أيام نحسات، أي عليهم.
وقال تعالى: " وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " أي التى لا تنتج خيرا، فإن الريح المفردة لا تثير سحابا ولا تلقح شجرا، بل هي عقيم لا نتيجة خير لها، ولهذا قال: " ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم " أي كالشئ البالى الفاني الذى لا ينتفع به بالكلية.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نصرت بالصبا، واهلكت عاد بالدبور ".
وأما قوله تعالى: " واذكر أخا عاد إذ انذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله، إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " فالظاهر أن عادا هذه هي عاد الاولى ; فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود وهم الاولى.
ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية.
ويدل عليه ما ذكرنا وما سيأتي من الحديث عن عائشة رضى الله عنها.
وأما قوله: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا " فإن عادا لما رأوا هذا العارض وهو الناشئ في الجو كالسحاب ظنوه سحاب مطر، فإذا هو سحاب عذاب.
اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة
__________
(1)
ا: المندرجة في الثمانية (*)
(1/140)
رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر.
قال الله تعالى: " بل هو ما استعجلتم به " [ أي من العذاب، ثم فسره بقوله (1) ]: " ريح فيها عذاب
أليم " يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوط، التى استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية فلم تبق منهم أحدا، بل تتبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم وتخرجهم وتهلكهم، وتدمر عليهم البيوت المحكمة والقصور المشيدة، فكما منوا بشدتهم وبقوتهم (2) وقالوا: من أشد منا قوة ؟ ! سلط الله عليهم ما هو أشد منهم قوة، وأقدر عليهم، وهو الريح العقيم.
ويحتمل أن هذه الريح اثارت في آخر الامر سحابة، ظن من بقى منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقى منهم، فأرسلها الله عليهم شررا ونارا.
[
كما ذكره غير واحد.
ويكون هذا (1) ] كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين، وجمع لهم بين الريح الباردة وعذاب النار، وهو أشد ما يكون من العذاب بالاشياء المختلفة المتضادة، مع الصيحة التى ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون.
والله أعلم.
وقد قال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا محمد بن يحيى [ بن ] (1) الضريس.
حدثنا ابن فضيل عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فتح الله على عاد من الريح التى أهلكوا بها إلا مثل [ موضع (1) ] الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم [ وأموالهم (1) ] بين السماء والارض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة
__________
(1)
ليست في ا.
(2)
ط: بقوتهم وشدتهم (2) ليست في ا.
(*)
(1/141)
من عاد، الريح وما فيها " قالوا هذا عارض ممطرنا " فالقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة.
وقد رواه الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن اسماعيل بن زكريا الكوفى، عن أبى مالك، عن مسلم الملائى، عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فتح الله على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم البدو إلى الحضر، فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل أو ديتنا.
وكان أهل البوادى فيها، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا ".
قال: عتت على حزانها (1) حتى خرجت من خلال الابواب.
قلت: وقال غيره: خرجت بغير حساب.
[
والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر.
ثم اختلف فيه على مسلم الملائى، وفيه نوع اضطراب (2) ] والله أعلم.
وظاهر الآية أنهم رأوا عارضا والمفهوم منه لغة السحاب، كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري، إن جعلناه مفسرا لهذه القصة.
وأصرح منه في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: حدثنا أبو [ بكر (2) ] الطاهر، حدثنا ابن وهب قال: سمعت ابن جريج حدثنا
__________
(1)
ط: عن خزائنها.
ولعله تحريف (2) سقط من ا (3) ط: لمعة.
وهو تحريف.
(*)
(1/142)
عن عطاء بن أبى رباح، عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به " قالت: " وإذا غيبت السماء تغير لونه، وخرج
ودخل، وأقبل وأدبر.
فإذا أمطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال: " لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث ابن جريج.
طريق أخرى: قال الامام أحمد: حدثنا هرون بن معروف، أنبأنا عبد الله بن وهب، أنبأنا عمرو - [ وهو (1) ] ابن الحارث - أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته (2)، إنما كان يتبسم وقالت: كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، قالت يا رسول الله: [ إن (1) ] الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال: " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ! قد عذب قوم نوح بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا " [ فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين كما أشرنا إليه أولا.
فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الاحقاف خبرا عن قوم عاد الثانية وتكون بقية السياقات في القرآن خبرا عن عاد الاولى، والله أعلم بالصواب (1).
]
__________
(1)
ليست في ا.
(2)
اللهوات: جمع لهاة وهى لحمة ناتئة في أقصى الحلق.
(*)
(1/143)
وهكذا رواه مسلم عن هارون بن معروف، وأخرجه البخاري وأبو داود من حديث ابن وهب.
وقدمنا حج هود عليه السلام عند ذكر حج نوح عليه السلام.
وروى عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام
في بلاد اليمن.
وذكر آخرون أنه بدمشق، وبجامعها مكان في حائطه القبلى يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام.
والله أعلم.
(1/144)
قصة صالح عليه السلام نبى ثمود وهم قبيلة مشهورة، يقال لهم ثمود باسم جدهم ثمود أخى جديس، وهما ابنا عاثر بن إرم بن سام بن نوح.
وكانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر الذى بين الحجاز وتبوك.
وقد مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين.
وكانوا بعد قوم عاد، وكانوا يعبدون الاصنام كأولئك.
فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو عبد الله ورسوله: صالح بن عبيد ابن ماسح بن عبيد بن حادر بن ثمود بن عاثر بن إرم بن نوح فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يخلعوا الاصنام والانداد ولا يشركوا به شيئا.
فآمنت به طائفة منهم، وكفر جمهورهم، ونالوا منه بالمقال والفعال، وهموا بقتله، وقتلوا الناقة التى جعلها الله حجة عليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
كما قال تعالى في سورة الاعراف: " وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية، فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم * واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا،
(10 -
قصص الانبياء 1)
(1/145)
فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين * قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم، أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ؟ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذى آمنتم به كافرون * فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين (1).
وقال تعالى في سورة هود: " وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربى قريب مجيب * قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريب * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير * ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب * فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب * فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا، ومن خزى يومئذ، إن ربك هو القوى العزيز * وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين *
__________
(1)
الآيات: 73 - 79 (*)
(1/146)
كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود (1) " وقال تعالى في سورة الحجر: " ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (2) ".
وقال سبحانه وتعالى في سورة سبحان: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (3) ".
وقال تعالى في سورة الشعراء " كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتتركون فيما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخفل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله واطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون * قالوا إنما أنت من المسحرين * ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين * قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم * فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم (4) " وقال تعالى في سورة النمل: " ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا
__________
(1)
الآيات: 61 - 68 (2) الآيات: 80 - 84 (3) الآية: 59 (4) الآيات: 141 - 159 (*)
(1/147)
أن اعبدوا الله، فإذا هم فريقان يختصمون * قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون * قالوا اطيرنا بك وبمن معك، قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون * وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون * ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، إن في ذلك لآية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (1) ".
وقال تعالى في سورة حم.
السجدة: " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون * ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (2) ".
وقال تعالى في سورة اقتربت: " كذبت ثمود بالنذر * فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه ؟ إنا إذا لفى ضلال وسعر * أألقى الذكر عليه من بيننا ؟ بل هو كذاب أشر * سيعلمون غدا من الكذاب الاشر * إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر.
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر * فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر * فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (3) ".
وقال تعالى: " كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال.
__________
(1)
الآيات: 45 - 53 (2) الآيتان: 17 و 18 الآيات: 23 - 32.
(*)
(1/148)
لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم
ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها (1) ".
وكثيرا ما يقرن الله في كتابه بين ذكر عاد وثمود، كما في سورة براءة وإبراهيم والفرقان، وسورة ص، وسورة ق، والنجم والفجر.
ويقال إن هاتين الامتين لايعرف خبرهما أهل الكتاب، وليس لهما ذكر في كتابهم التوراة.
ولكن في القرآن ما يدل على أن موسى أخبر (2) عنهما، كما قال تعالى في سورة إبراهيم: " وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فإن الله لغنى حميد * ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات.
" (3)
الآية.
الظاهر أن هذا من تمام كلام موسى مع قومه، ولكن لما كان هاتان الامتان من العرب لم يضبطوا خبرهما جيدا، ولا اعتنوا بحفظه، وإن كان خبرهما كان مشهورا في زمان موسى عليه السلام.
وقد تكلمنا على هذا كله في التفسير مستقصى.
ولله الحمد والمنة.
* * *
والمقصود الآن ذكر قصتهم وما كان من أمرهم، وكيف نجى الله نبيه صالحا عليه السلام ومن آمن به، وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم وعتوهم، ومخالفتهم رسولهم عليه السلام.
__________
(1)
الآيات: 23 - 32 سورة الشمس (2) ا.
أخبرهم (3) الآيتان: 8، 9.
(*)
(1/149)
[
وقد قدمنا أنهم كانوا عربا، وكانوا بعد عاد ولم يعتبروا بما كان من أمرهم.
ولهذا قال لهم نبيهم عليه السلام ] (1): " اعبدوا الله ما لكم
من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية، فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم * واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا، فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين " أي إنما جعلكم خلفاء من بعدهم لتعتبروا بما كان من أمرهم، وتعملوا بخلاف عملهم.
وأباح لكم هذه الارض تبنون في سهولها القصور، " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " أي حاذقين في صنعتها وإتقانها وإحكامها.
فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح، والعبادة له وحده لا شريك له، وإياكم ومخالفته والعدول عن طاعته، فإن عاقبة ذلك وخيمة.
ولهذا وعظهم بقوله: " أتتركون فيما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم " أي متراكم كثير حسن بهى ناضج.
"
وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون ".
وقال لهم أيضا: " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها " أي هو الذى خلقكم فأنشأكم من الارض، وجعلكم عمارها، أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار، فهو الخالق
__________
(1)
سقطت من ا.
(*)
(1/150)
الرزاق، وهو الذى يستحق العبادة وحده لا [ ما (1) ] سواه.
"
فاستغفروه ثم توبوا إليه " أي أقلعوا عما أنتم فيه وأقبلوا على عبادته، فإنه يقبل منكم ويتجاوز عنكم " إن ربى قريب مجيب ".
"
قالوا: يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا " أي [ قد (2) ] كنا نرجو أن يكون عقلك كاملا قبل هذه المقالة، وهى دعاؤك إيانا إلى إفراد العبادة، وترك ما كنا نعبده من الانداد، والعدول عن دين الآباء والاجداد ولهذا قالوا: " أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريب ".
"
قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخير ".
وهذا تلطف منه لهم في العبارة ولين الجانب، وحسن تأت في الدعوة لهم إلى الخير.
أي فما ظنكم إمن كان الامر كما أقول لكم وأدعوكم إليه ؟ ماذا (3) عذركم عند الله ؟ وماذا يخلصكم بين يديه وأنتم تطلبون منى أن أترك دعاءكم إلى طاعته ؟ وأنا لا يمكنني هذا لانه واجب على، ولو تركته لما قدر أحد منكم ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني.
فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له، حتى يحكم الله بينى وبينكم.
وقالوا له أيضا: " إنما أنت من المسحرين " أي من المسحورين، يعنون مسحورا لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة لله وحده، وخلع ما سواه من الانداد.
وهذا القول عليه الجمهور، وهو أن المراد
__________
(1)
من ا.
(2)
ليست في ا.
(3)
كذا.
والاصح ما عذركم (*)
(1/151)
بالمسحرين المسحورين.
وقيل من المسحرين: أي ممن له سحر - وهو الرئى (1) - كأنهم يقولون إنما أنت بشر [ له سحر.
والاول أظهر لقولهم بعد هذا: ما أنت إلا بشر (2) ] مثلنا [ وقولهم (3) ] " فأت بآية إن كنت من الصادقين " سألوا منه أن يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم به.
"
قال: هذه ناقة لها شرب، ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم " كما قال: " قد جاءتكم بينة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم " وقال تعالى: " وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله، وذكرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة - وأشاروا إلى صخرة هناك - ناقة، من صفتها كيت وكيت [ وذكروا أوصافا يسموها ونعتوها وتعنتوا فيها.
وأن تكون عشراء طويلة، من صفتها كذا وكذا (4) ] فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذى طلبتم، أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به ؟ قالوا: نعم.
فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك.
ثم قام إلى مصلاه فصلى لله عزوجل ما قدر له، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا.
فأمر الله عزوجل تلك الصخرة أن
__________
(1)
ا: الرئية.
والرئى: التابع من الجن (2) سقطت من المطبوعة (3) ليست في ا (4) سقطت من ا.
(*)
(1/152)
تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء، على الوجه المطلوب الذى طلبوا، أو على الصفة التى نعتوا.
فلما عاينوها كذلك رأوا أمرا ومنظرا هائلا، وقدرة باهرة ودليلا قاطعا وبرهانا [ ساطعا (1) ] فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم.
ولهذا قال: " فظلموا بها " أي جحدوا
بها ولم يتبعوا الحق بسببها، أي أكثرهم.
وكان رئيس الذين آمنوا: جندع بن عمرو بن محلاة بن لبيد بن جواس.
وكان من رؤسائهم.
وهم بقية الاشراف بالاسلام فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعر بن جلمس.
ودعا جندع بن عمه شهاب بن خليفة وكان من أشرافهم، فهم بالاسلام [ فنهاه أولئك، قمال إليهم (1) فقال في ذلك رجل من المسلمين يقال له مهرش بن غنمة ابن الذميل رحمه الله: وكانت عصبة من آل عمرو * إلى دين النبي دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعا * فهم بأن يجيب ولو أجابا لاصبح صالح فينا عزيزا * وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجر * تولوا بعد رشدهم ذبابا ولهذا قال لهم صالح عليه السلام: " هذه ناقة الله " أضافها لله سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتعظيم، كقوله بيت الله و عبد الله " لكم آية " أي دليلا على صدق ما جئتكم به " فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ".
__________
(1)
سقطت من ا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق