الخميس، 15 نوفمبر 2018

نهاية الظالمين +كتاب عقوبة الظلم ومصير الظالمين د/حمد عرفة

 

عقوبة الظلم ومصير الظالمين إعداد/ د: أحمد عرفة

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أما بعد:

فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ ، وإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.

أيها الأخوة الأحباب :

نعيش فى هذه اللحظات حول كبيرة من الكبائر التى بين لنا ربنا تبارك وتعالى فى كتابه العزيز عقوبتها وخطورتها ، وبين لنا النبى صلى الله عليه وسلم ما أعده الله عز وجل من جزاء وعقوبة لمرتكبى هذه الكبيرة فى الدنيا والآخرة ألا وهى الظلم.

أولاً : التحذير من الظلم وعقوبة الظالمين فى القرآن الكريم :

إن المتأمل والمتدبر لآيات القرآن الكريم يجد أن المولى تبارك وتعالى قد ذم الظلم والظالمين فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم .

انظر وتأمل أخى الحبيب فى هذه الآيات المباركة من سورة إبراهيم ، والتى تبين لنا حال الظالمين ومصيرهم فى الآخرة بين يدي رب العالمين جل وعلا :

قال الله تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)([1]).

 

 

معنى الآيات:

في هذا السياق الكريم تقوية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر ليواصل دعوته إلى ربه إلى أن ينصرها الله تعالى وتبلغ المدى المحدد لها والأيام كانت صعبة على رسول الله وأصحابه لتكالب المشركين على أذاهم، وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} من قومك إنه إن لم ينزل بهم نقمته ولم يحل عذابه إنما يريد أن يؤخرهم {ليوم تشخص فيه الأبصار} أي تنفتح فلا تغمض ولا تطرف لشدة الأهوال وصعوبة الأحوال.

{مهطعين} أي مسرعين {مقنعي رؤوسهم} أي حال كونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين للداعي الذي دعاهم إلى المحشر، قال تعالى: {واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب} {لا يريد إليهم طرفهم} أي لا تغمض أعينهم من الخوف {وأفئدتهم} أي قلوبهم {هواء} أي فارغة من الوعي والإدراك لما أصابها من الفزع والخوف.

ثم أمر تعالى رسوله في الآية (44) بإنذار الناس مخوفاً لهم من عاقبة أمرهم إذا استمروا على الشرك بالله والكفر برسوله وشرعه، {يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا} أي أشركوا بربهم، وآذوا عباده المؤمنين {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} أي يطلبون الإنظار والإمهال {نجب دعوتك} أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك، فيقال لهم: توييخاً وتقريعاً وتكذيباً لهم: {أو لم تكونوا أقسمتم} أي حلفتم {من قبل ما لكم من زوال} أي أطلبتم الآن التأخير ولم تطلبوه عندما قلتم ما لنا من زوال ولا ارتحال من الدنيا إلى الآخرة.

{وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} بالشرك والمعاصي {وتبين لكم} أي عرفتم {كيف فعلنا بهم} أي بإهلاكنا لهم وضربنا لكم الأمثال في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا فيوبخون هذا التوبيخ ولا يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم، وقوله تعالى : {وقد مكروا مكرهم} أي وقد مكر كفار قريش برسول الله في حيث قرروا حبسه مغللاً في السجن حتى الموت أو قتله، أو نفيه وعزموا على القتل ولم يستطيعوه {وعند الله مكرهم} أي علمه وما أرادوا به، وجزاؤهم عليه، وقوله: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه لا وزن له ولا اعتبار فلا تحفل به أيها الرسول ولا تلتفت، فإنه لا يحدث منه شيء، وفعلاً قد خابوا فيه أشد الخيبة([2]).

من هداية الآيات:

1- تأخير العذاب عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم، وإنما هو تأخيرهم إلى يوم القيامة أو إلى أن يحين الوقت المحدد لأخذهم.

2- بيان أهوال يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته.

3- التنديد بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم.

4 - تقرير جريمة قريش في ائتمارها على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم([3]).

وبين جل وعلا فى محكم كتابه أنه أعد العذاب الأليم للظالمين الذى يعتدون على الناس بغير حق فيقول سبحانه:{ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ }([4]).

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي إنما المؤاخذة والعقوبة على الذين يبدءون الناس بالظلم، أو يتعدّون مبدأ المماثلة، ويتجاوزون الحد في الانتقام، ويجنون على النفوس والأموال بغير الحق، ويتكبرون ويتجبرون بظلم الناس، وسلب الحقوق.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أولئك البادئون بالظلم أو المتجاوزون الحدود لهم عذاب مؤلم شديد بسبب اعتدائهم([5]).

قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) أي يتعدون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر، وقال ابن جريج: أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم (ويبغون في الأرض) أي يعملون في النفوس والأموال (بغير الحق) كذا قال الأكثر قيد به لأن البغي قد يكون مصحوباً بحق كالانتصار المقترن بالتعدي فيه، وقال مقاتل: بغيهم عملهم بالمعاصي، وقيل: يتكبرون ويتجبرون؛ وقال أبو مالك: هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً.

(أولئك) أي الذين يظلمون الناس (لهم) بهذا السبب (عذاب أليم) شديد الألم([6]).

وانظروا إلى الحق تبارك وتعالى وهو يبين مصير وعاقبة الظالمين فيقول جل وعلا : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}([7]).

قال الإمام القرطبي رحمه الله :

{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} في هذا تهديد لمن انتصر بظلم.

قال شريح: سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل ؛ فالظالم ينتظر العقاب ، والمظلوم ينتظر النصرة.

وقرأ ابن عباس : {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} بالفاء والتاء ومعناهما واحد ذكره الثعلبي. ومعنى : {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون ؛ لأن مصيرهم إلى النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه ، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبا ، وليس كل منقلب مرجعا ؛ والله أعلم ؛ ذكره الماوردي([8]).

ثانياَ: التحذير من الظلم وعقوبته فى السنة النبوية :

جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين لنا عاقبة الظلم وجزاء الظالمين فى الدنيا والآخرة منها :

1- الظلم ظلمات يوم القيامة :

عن جابر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اتقوا الظّلم فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، واتّقوا الشّحّ فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم»([9]).

قال الإمام النووي رحمه الله:

قوله صلى الله عليه و سلم:(اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)

قال القاضي: قيل: هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلا حتى يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم ، ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد وبه فسروا قوله تعالى:(قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) أي شدائدهما ، ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات.

قوله صلى الله عليه وسلم:(واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم)

قال القاضي: يحتمل أن هذا الهلاك هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا بأنهم سفكوا دماءهم ، ويحتمل أنه هلاك الآخرة ، وهذا الثاني أظهر ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة([10])

2-الظالم لا يفلت من عقاب الله تعالى :

عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " قال : ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" ([11]) .

قال الإمام المناوي رحمه الله:

(إن الله تعالى ليملى) بفتح اللام الأولى أي ليمهل (للظالم) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه (حتى إذا أخذه لم يفلته) أي لن ينفلت منه أو لم يفلته منه أحد أي لم يخلصه بل يهلكه فإن كان كافرا خلده في النار أو مؤمنا لم يخلصه مدّة طويلة بقدر جنايته([12]).

3- القصاص من الظالمين فى الآخرة :

وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء ، فليتحلله منه اليوم ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه "([13]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" أتدرون من المفلس ؟ " ، قالوا : المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ، ولا متاع له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته ، وقد شتم هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيقعد فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يعطي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار"([14]).

وعن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا خلص المؤمنون من النّار حبسوا بقنطرة بين الجنّة والنّار، فيتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدّنيا، حتّى إذا نقّوا وهذّبوا أذن لهم بدخول الجنّة، فو الّذي نفس محمّد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنّة أدلّ بمنزله كان في الدّنيا»([15]).

4- حرم الله عز وجل الظلم على نفسه فلا تظالموا :

عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا 000 " ([16]).

هذا الحديث شريف القدر، عظيم المنزلة، جليل الموقع، جامع لفوائد شتى، قد تضمن من قواعد الدين العظيمة: من العلوم، والأعمال، والأصول، والفروع، وغير ذلك مما لا يحصره قلم، ولا يحصيه عاد؛ لذلك كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام.

وكان أبو إدريس الخولاني: إذا حدَّث به جثا على ركبته، كما ذكره مسلم في صحيحه([17]).

وللعلماء في تفسير الظلم المنفي هنا أقوال، وتنازع، فبعضهم قد شذ، وبعضهم قد غلا، وتجاوز، والقول الوسط في ذلك ما أشرنا إليه قبل، وهو: أنَّ الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفى إرادته كما تقدَّم هو مثل أن يترك حسنات المحسن، فلا يجزيه بها، ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي يُنزَه الرب عنها لقسطه، وعدله، وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد، والثناء؛ لأنه ترك الظلم، وهو قادر عليه، وكما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، والعيب، فهو أيضًا منزه عن أفعال النقص، والعيب.

وقوله: " وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا" -هو بفتح التاء- وتخفيف الظاء في الأصول المعتبرة، ونقل ابن حجر: أنه روي مشددًا، والأشهر تخفيفها؛ أي: جعلت الظلم بينكم يا عبادي محرمًا، فلا يظلم بعضكم بعضًا، والخطاب للثقلين؛ لاختصاصهم بالتكليف، وتعاقب التقوى والفجور، ولأن ما بعده من الألفاظ كالطعام، والكسوة ينص على ذلك، وهذه الجملة تجمع الدين كله، فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل ولهذا قال تعالى في كتابه الحكيم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}([18]) .

وقال الإمام تقي الدين بن تيمية في شرح هذا الحديث:

فأخبر أنه جل ذكره أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي، والسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا، ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب، وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: الأمراء، والعلماء([19]).

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: " الصواب الذي دلت عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه فعلا وإرادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره ولا يعذب بما لم تكسب يداه ولم يكن سعى فيه , ولا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها إذا قارنها أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها وهذا الظلم الذي نفى الله تعالى خوفه عن العبد بقوله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) قال السلف والمفسرون : لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته ما يتحمل فهذا هو العقول من الظلم ومن عدم خوفه "([20]).

وقال الإمام النووي رحمه الله :

قوله صلى الله عليه وسلم : (إني حرمت الظلم على نفسي) قال العلماء: معناه تقدست عنه وتعاليت والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى كيف يجاوز سبحانه حدا وليس فوقه من يطيعه ، وكيف يتصرف في غير ملك والعالم كله في ملكه وسلطانه ، وأصل التحريم في اللغة المنع فسمي تقدسه عن الظلم تحريما لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشئ.

قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) هو بفتح التاء أي لا تتظالموا، والمراد لا يظلم بعضكم بعضا ، وهذا توكيد لقوله صلى الله عليه وسلم : يا عبادي وجعلته بينكم محرماً وزيادة تغليظ في تحريمه([21]).

 

 

5- دعوة المظلوم مستجابة :

قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب "([22]).

وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ثلاث دعوات مستجابات:دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»([23]).

وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ثلاثة لا تردّ دعوتهم:الصّائم حتّى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها اللّه فوق الغمام ويفتح لها أبواب السّماء ويقول الرّبّ: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين»([24]).

وأنشد بعضهم :

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا ... فالظلم يرجع عقباه إلى الندم

تنام عيناك و المظلوم منتبه ... يدعو عليك و عين الله لم تنم

بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من الظلم كلما خرج المرء من بيته وما أكثر ما يخرج الإنسان من بيته فعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خَرَجَ من بَيْتِهِ قال ( بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ من أَنْ أَزِلَّ أو أَضِلَّ أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ )([25]).

فالحث على هذا الدعاء فيه إشعار ببيان خطورة الظلم بأنواعه لذا تأكد الاستعاذة بالله منه كلما خرج من بيته لأن الخروج من البيت مظنة الظلم بسبب كثرة الاختلاط بالناس على اختلاف مشاربهم وتعدد أهوائهم.

قال الطيبي رحمه الله :

" إن الإنسان إذا خرج من منزله لا بد أن يعاشر الناس ويزاول الأمر فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم فإما أن يكون في أمر الدين فلا يخلو من أن يَضل أو يُضل وإما أن يكون في أمر الدنيا فإما بسبب جريان المعاملة معهم بأن يَظلم أو يُظلم وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة فإما أن يَجهل أو يُجهل فاستعيذ من هذه الأحوال كلها بلفظ سلسل موجز وروعي المطابقة المعنوية والمشاكلة اللفظية "([26]).

وقال المناوي رحمه الله:

" أي أفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء والإضلال ويحتمل أن يراد بقوله أجهل أو يجهل علي الحال الذي كانت العرب عليها قبل الإسلام من الجهل بالشرائع والتفاخر بالأنساب والتعاظم بالأحساب والكبرياء والبغي ونحوها.."([27]).

ثالثاً: من أقوال السلف فى التحذير من الظلم وعقوبته :

و كان بعض السلف يقول : لا تظلم الضعفاء فتكون من أشرار الأقوياء .

وقال أبو هريرة رضي الله عنه : إن الحباري لتموت في وكرها هزالا من ظلم الظالم .

وقيل مكتوب في التوراة : ينادي مناد من وراء الجسر ـ يعني الصراط ـ يا معشر الجبابرة الطغاة و يا معشر المترفين الأشقياء إن الله يحلف بعزته و جلاله أن لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم .

وعن جابر قال : لما رجعت مهاجرة الحبشة عام الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ فقال فتية كانوا منهم : بلى يا رسول الله بينما نحن يوما جلوس إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت المرأة على ركبتيها و انكسرت قلتها فلما قامت التفتت إليه ثم قالت : سوف تعلم يا غادر إذا وضع الله الكرسي و جمع الله الأولين و الآخرين و تكلمت الأيدي و الأرجل بما كانوا يكسبون سوف تعلم من أمري و أمرك عنده غدا قال: فقال: رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم ؟ ] ([28]).

وعن عبد الله بن سلام قال : إن الله تعالى لما خلق الخلق و استووا على أقدامهم رفعوا رؤوسهم إلى السماء و قالوا : يا رب مع من أنت ؟ قال : مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه.

وعن وهب بن منبه قال : بني جبار من الجبابرة قصرا و شيده فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلى جانبه كوخا تأوي إليه فركب الجبار يوما و طاف حول القصر فرأى الكوخ فقال : لمن هذا ؟ فقيل لامرأة فقيرة تأوي إليه فأمر به فهدم فجاءت العجوز فرأته مهدوما فقالت : من هدمه ؟ فقيل : الملك رآه فهدمه فرفعت العجوز رأسها إلى السماء و قالت : يا رب إذا لم أكن أنا حاضرة فأين كنت أنت ؟ قال : فأمر الله جبريل أن يقلب القصر على من كان فيه فقلبه.

وقيل لما حبس خالد بن برمك وولده قال : يا أبتي بعد العز صرنا في القيد والحبس فقال : يا بني دعوة المظلوم سرت بليل غفلنا عنها و لم يغفل الله عنها.

و كان يزيد بن حكيم يقول : ما هبت أحدا قط هيبتي رجلا ظلمته و أنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله يقول لي : حسبي الله : الله بيني و بينك .

وحبس الرشيد أبا العتاهية الشاعر فكتب إليه من السجن هذين البيتين شعرا :

أما و الله إن الظلم شوم ... و ما زال المسيء هو المظلوم

ستعلم يا ظلوم إذا التقينا ... غدا عند المليك من الملوم ([29]).

وكان شريح القاضي يقول: سيعلم الظالمون حق من انتقصوا إن الظالم لينتظر العقاب والمظلوم ينتظر النصر والثواب.

وروي إذا أراد الله بعبد خيراً سلط عليه من ظلمه.

دخل طاوس اليماني على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق يوم الأذان قال: هشام وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى:( فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) فصعق هشام فقال طاوس: هذا ذل الصفة فكيف المعاينة.

وقال سعيد بن المسيب : لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لئلا تحبط أعمالكم الصالحة .

وقال مكحول الدمشقي:  ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأعوانهم فما يبقى أحد حبر لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلا حضر معهم فيجمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنم .

وجاء خياط إلى سفيان الثوري رحمه الله تعالى فقال: إني أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة فقال له سفيان بل أنت من الظلمة أنفسهم ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط([30]).

وقال الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله:

«الظّلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حقّ، ومبارزة الرّبّ بالمخالفة، والمعصية فيه أشدّ من غيرها لأنّه لا يقع غالبا إلّا بالضّعيف الّذي لا يقدر على الانتصار. وإنّما ينشأ الظّلم عن ظلمة القلب ولو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتّقون بنورهم الّذي حصل لهم بسبب التّقوى اكتنفت ظلمات الظّلم الظّالم، حيث لا يغني عنه ظلمه شيئا»([31]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

«إنّ النّاس لم يتنازعوا في أنّ عاقبة الظّلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويروى (اللّه ينصر الدّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدّولة الظّالمة وإن كانت مؤمنة»([32]).

وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله:

«الإنسان خلق في الأصل ظلوما جهولا، ولا ينفكّ عن الجهل والظّلم إلّا بأن يعلّمه اللّه ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد به خيرا علّمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علّمه فخرج به عن الظّلم ومن لم يرد به خيرا أبقاه على أصل الخلقة. فأصل كلّ خير هو العلم والعدل، وأصل كلّ شرّ هو الجهل والظّلم

وقد جعل اللّه سبحانه للعدل المأمور به حدّا، فمن تجاوزه كان ظالما معتديا، وله من الذّمّ والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه([33]).

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، اللهم ارزقنا الإخلاص فى القول والعمل وتقبل منا ووفقنا لما تحبه وترضاه يارب العالمين اللهم آمين .

 

 

 

والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل

للتواصل مع الكاتب

01119133367

Ahmedarafa11@yahoo.com

 



([1])سورة إبراهيم : الآيات : 42- 46 .

([2]) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير : للشيخ أبو بكر الجزائري جـ3 صـ66 طبعة مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة - الطبعة : الخامسة، 1424هـ/2003م .

   ([3]) المرجع السابق : جـ3 صـ67 .

   ([4])سورة الشورى : الآية : 42 .

   ([5]) التفسير المنير : جـ25 صـ86 .

   ([6])فتح البيان فى مقاصد القرآن : صديق حسن خان : جـ12 صـ314 طبعة المكتبة العصرية – بيروت .

        ([7])سورة الشعراء : الآية : 227 .

  ([8]) الجامع لأحكام القرآن : جـ13 صـ152 وما بعدها .

      ([9])صحيح مسلم  - كتاب البر والصلة والآداب- باب تحريم الظلم - حديث:‏4781‏ .

([10])شرح صحيح مسلم : جـ16 صـ134 .

 ([11])صحيح البخاري  - كتاب تفسير القرآن-  سورة البقرة -  باب قوله : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة-  حديث:‏4417‏ .

 ([12]) التيسير بشرح الجامع الصغير : جـ1 صـ529 .

 ([13]) صحيح البخاري  - كتاب المظالم والغصب-  باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له  -  حديث:‏2337‏ .

   ([14])سنن الترمذي  الجامع الصحيح  - الذبائح-  أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه -  باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص-  حديث:‏2401‏ وصححه الألباني فى صحيح سنن الترمذي حديث رقم 2418 .

   ([15]) صحيح البخاري  - كتاب المظالم والغصب-  باب قصاص المظالم - حديث:‏2328‏ .

([16])صحيح مسلم  - كتاب البر والصلة والآداب-  باب تحريم الظلم - حديث:‏4780‏ .

([17])الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية: للإمام محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهرى (المتوفى : 1367هـ) جـ1 صـ50 طبعة دار ابن كثير- دمشق .

([18])سورة الحديد : الآية : 25 .

([19]) الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية:جـ1 صـ51 .

([20])مفتاح دار السعادة : جـ2 صـ107 طبعة دار الكتب بيروت :

([21]) شرح صحيح مسلم : جـ16 صـ132 .

([22]) صحيح البخاري  - كتاب الزكاة-  باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا - حديث:‏1436‏ .

([23])سنن أبي داود  - كتاب الصلاة-  باب تفريع أبواب الوتر -  باب الدعاء بظهر الغيب-  حديث:‏1326‏ ، سنن الترمذي  الجامع الصحيح  - الذبائح-  أبواب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -  باب ما جاء في دعوة الوالدين-  حديث:‏1877‏ وحسنه الألباني فى صحيح سنن أبى داود حديث رقم 1536 ، وصحيح سنن الترمذي حديث رقم 1905 .

([24])سنن الترمذي  الجامع الصحيح  - الذبائح-  أبواب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - حديث:‏3606‏ .

  ([25])سنن أبي داود  - كتاب الأدب-  أبواب النوم -  باب ما يقول إذا خرج من بيته-  حديث:‏4451‏ وصححه الألباني فى صحيح سنن أبى داود حديث رقم 5094 .

  ([26])مرقاة المفاتيح : جـ5صـ 354 .

  ([27])فيض القدير 5/123

([28]) انظر : الكبائر : للإمام شمس الدين الذهبي صـ 104 طبعة دار الندوة الجديدة – بيروت .

([29])المرجع السابق : نفس الموضع .

([30]) الزواجر عن اقتراف الكبائر : للإمام ابن حجر الهيتمي جـ2 صـ753 .

([31])  فتح الباري : جـ5 صـ100 طبعة دار المعرفة – بيروت .

([32]) مجموع الفتاوى : جـ28 صـ63 .

([33]) إغاثة اللهفان : جـ2 صـ136 .

 =====================================
رابط سلايد شير 
*********************

نهاية الظالمين 
................. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق