الأربعاء، 4 يوليو 2018

الصاواق المرسلة لابن القيم -ج1//3..


ص -513- فأخبر سبحانه أن المختلفين بالتأويل لم يختلفوا لخفاء العلم الذي جاءت به الرسل عليهم وإنما اختلفوا بعد مجيء العلم وهذا كثير في القرآن كقوله {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس93] وقال تعالى {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة4] فهؤلاء المختلفون بالتأويل بعد مجيء الكتاب كلهم مذمومون والحامل لهم على التفرق والاختلاف البغي وسوء القصد.
(22/15)
الصواعق المرسلة - الجزء الثاني
الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم
(23/1)
ص -514- الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم
الاختلاف في كتاب الله نوعان:
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين وهم الذين اختلفوا بالتأويل وهم الذين نهانا الله سبحانه عن التشبه بهم في قوله {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران105] وهم الذين تسود وجوههم يوم القيامة وهم الذين قال الله تعالى فيهم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة176] فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد. وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين ويوقع التحزب والتباين.
(23/2)
ص -515- والنوع الثاني: اختلاف ينقسم إهله إلى محمود ومذموم فمن أصاب الحق فهو محمود ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه وهو محمود في اجتهاده معفو عن خطئه وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.
ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة253] وقال تعالى {مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى10]
والاختلاف المذموم: كثيرا ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقر له خصمه به بل يجحده إياه بغيا ومنافسة فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه وهذا شأن جميع المختلفين بخلاف أهل الحق فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به فيأخذون حق جميع الطوائف ويردون باطلهم فهؤلاء الذين قال الله فيهم:
(23/3)
ص -516- {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة213] فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختلف فيه من الحق. فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلا وأقومهم قيلا وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمة
(23/4)
ص -517- وهدى يقر بعضهم بعضا عليه ويواليه ويناصره وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب فيأتي كل منهم بما قدحه زناد فكره وأدركه قوة بصيرته فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة وعرضت على الحاكم الذي لا يجور وهو كتاب الله وسنة رسوله وتجرد الناظر عن التعصب والحمية واستفرغ وسعه وقصد طاعة الله ورسوله فقل أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال وما هو أقرب إليه والخطأ وما هو أقرب إليه فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب وما هو أقرب إليه والخطأ وما هو أقرب إليه ومراتب القرب والبعد متفاوتة.
وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة ولا افتراقا في الكلمة ولا تبديدا للشمل فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة وعتق أم الولد بموت سيدها ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة
(23/5)
ص -518- واحدة وفي الخلية والبرية والبتة وفي بعض مسائل الربا وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل وبعض مسائل الفرائض وغيرها فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة ولا قطع بينه وبينه عصمة بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغنا ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه. فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق. وهنا نوع آخر من الاختلاف وهو وفاق في الحقيقة وهو اختلاف في الاختيار والأولى بعد الاتفاق على جواز
(23/6)
ص -519- الجميع كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة وصفات التشهد والاستفتاح وأنواع النسك الذي يحرم به قاصد الحج والعمرة وأنواع صلاة الخوف والأفضل من القنوت أو تركه ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها ونحو ذلك فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة.
فصل
ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية ولكن إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة.
(23/7)
الصواعق المرسلة - الجزء الثاني
الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله
(24/1)
ص -520- الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله
ذكر الحميدي في هذا فصلا من كلام أبي محمد بن حزم وهو من أحسن كلامه فرأينا سياقه بلفظه قال الحميدي قال لنا الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه تطلعت النفس بعد تيقنها أن الأصل المتفق عليه المرجوع إليه أصل واحد لا يختلف وهو ما جاء عن
(24/2)
ص -521- صاحب الشرع إما في القرآن وإما من فعله أو قوله الذي لا ينطق عن الهوى فيه. لما رأيت وشاهدت من اختلاف علماء الأمة فيما سبيله واحد وأصله غير مختلف فبحثت عن السبب الموجب للاختلاف ولترك من ترك كثيرا مما صح من السنن فوضح لها بعد التفتيش والبحث أن كل واحد من العلماء بشر ينسى كما ينسى البشر وقد يحفظ الرجل الحديث ولا يحضره ذكره فيفتي بخلافه وقد يعرض هذا في آي القرآن ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أمر على المنبر ألا يزاد مهور النساء على عدد ذكره ميلا إلى أن النبي لم يزد على
(24/3)
ص -522- ذلك العدد في مهور نسائه حتى ذكرته امرأة من جانب المسجد بقوله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء20] فترك قوله وقال: "كل أحد أعلم منك حتى النساء" وفي رواية أخرى "امرأة أصابت ورجل أخطأ" علما
(24/4)
ص -523- منه رضي الله عنه بأن النبي وإن كان لم يزد في مهور النساء على عدد ما فإنه لم يمنع مما سواه والآية أعم.
وكذلك أمر رضي الله عنه برجم امرأة ولدت لستة أشهر فذكره علي رضي الله عنه بقوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف15]
مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة233] فرجع عن الأمر برجمها.
(24/5)
ص -524- وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ جفا عليه حتى ذكره الحر بن قيس بقول الله عز وجل {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف199].
(24/6)
ص -525- فأمسك عمر.
وقال رضي الله عنه يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا حتى قرئ عليه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر30] فرجع عن ذلك" وقد كان علم الآية ولكنه نسيها لعظم الخطب الوارد عليه. وقد يذكر العالم الآية والسنة ولكن يتأول
(24/7)
ص -526- فيهما تأويلا من خصوص أو نسخ أو معنى ما وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا بالمدينة حوله مجتمعين وكانوا ذوي معايش يطلبونها وفي ضنك من القوت فمن محترف في الأسواق ومن قائم على نخله ويحضره في كل وقت منهم طائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله.
وقد نص على ذلك أبو هريرة فقال إن إخواني من
(24/8)
ص -527- المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم وكنت امرءا مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. وقد قال عمر رضي الله عنه ألهاني الصفق بالأسواق في حديث استئذان أبي موسى وكان
(24/9)
ص -528- صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ويأمر بالشيء ويفعل الشيء فيحضره من حضره ويغيب عنه من غاب عنه فلما مات ولي أبو بكر كان إذا جاءته القضية ليس عنده فيها نص سأل من بحضرته من الصحابة عنها فإن وجد عندهم نصا رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم فيها وكان اجتهاده واجتهاد غيره منهم رضي الله عنهم رجوعهم إلى نص عام أو إلى أصل إباحة متقدمة أو إلى نوع من هذا يرجع إلى أصل ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد احد منهم هو أن يشرع شريعة باجتهاد ما أو يخترع حكما لا أصل له حاشاهم من ذلك.
فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الأمصار وتفرقت
(24/10)
ص -529- الصحابة في الأقطار فكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو بغيرها من البلاد فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نص حكم به وإلا اجتهدوا في ذلك وقد يكون في تلك القضية نص موجود عند صاحب آخر في بلد آخر.
وقد حضر المدني مالم يحضر المصري وحضر المصري مالم يحضر الشامي وحضر الشامي مالم يحضر البصري والبصري مالم يحضر الكوفي والكوفي مالم يحضر البصري والمدني مالم يحضر الكوفي والبصري كل هذا موجود في الآثار وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من
(24/11)
ص -530- مغيب بعضهم عن مجلسه في بعض الأوقات وحضور غيره يم مغيب الذي حضر وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضره ويفوته ما غاب عنه هذا أمر مشاهد.
وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا لا يتيمم الجنب ولو لم يجد الماء شهرين.
وكان حكم المسح على الخفين عند علي وحذيفة ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة على أنهم
(24/12)
ص -531- مدنيون.
وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود وغاب ذلك عن أبي موسى وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأبي سعيد الخدري وأبي وغاب عن عمر.
(24/13)
ص -532- وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سليم ولم يعلمه ابن عمر وزيد بن ثابت.
وكان حكم المتعة والحمر الأهلية عند علي وغيره ولم يعلمه ابن عباس وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وغاب ذلك عن طلحة وابن عباس وابن عمر.
(24/14)
ص -533- وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنتين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم ومثل هذا كثير فمضى الصحابة على هذا ثم خلف بعدهم
(24/15)
ص -534- التابعون الآخذون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإنما تفقهوا بمن كان عندهم من الصحابة وكانوا لا يتعدون فتاويهم لا تقليدا لهم ولكن لأنهم أخذوا ورووا عنهم إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم كإتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوي ابن عمر وإتباع أهل مكة في الأكثر فتاوي ابن عباس وإتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوي ابن مسعود.
ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة وابن
(24/16)
ص -535- جريج بمكة ومالك وابن الماجشون بالمدينة وعثمان البتي
(24/17)
ص -536- وسوار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن
(24/18)
ص -537- الصحابة فيما كان عندهم وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم وهو موجود عند غيرهم ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه أجرين ومأجور فيما خفي عنه ولم يبلغه أجرا واحدا قال تعالى {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام19] وقد يبلغ الرجل ممن ذكرنا نصان ظاهرهما التعارض فيميل إلى أحدهما بضرب من الترجيحات ويميل غيره إلى النص الآخر الذي تركه بضرب آخر من الترجيحات كما روى
(24/19)
ص -538- عثمان بن عفان في الجمع بين الأختين أحلتهما آية وحرمتهما آية وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملة بقوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة221] وقال لا أعلم شركا أعظم من قول المرأة إن عيسى ربها وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى ومثل هذا كثير.
فعلى هذه الوجوه ترك بعض العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات وعلى هذه الوجوه خالفهم
(24/20)
ص -539- نظراؤهم فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء لا قصدا إلى خلاف النصوص ولا تركا لطاعتها ولكن لأحد الأعذار التي ذكرنا إما من نسيان وإما أنها لم تبلغهم وإما لتأويل ما وإما لأخذ بخبر ضعيف لم يعلم الآخذ به ضعف رواته وعلمه غيره فيأخذ بخبر آخر أصح منه أو بظاهر آية وقد يتنبه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى ويلوح منه حكم بدليل ما ويغيب عن غيره وقد كثرت الرحل إلى الآفاق وتداخل الناس وانتدب أقوام لجمع حديث النبي وضمه وتقييده ووصل من البلاد
(24/21)
ص -540- البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث وعرف الصحيح من السقيم وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغها إليه وقيام الحجة بها عليه ولم يبق إلا العناد والتقليد.
وعلى هذه الطريقة كان الصحابة رضي الله عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الأيام الكثيرة طلبا للسنن والتزاما لها.
وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر في حديث واحد إلى عقبة بن عامر ورحل علقمة والأسود إلى
(24/22)
ص -541- عائشة وابن عمر ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام وكتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا كثير انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية جماع الأعذار في
(24/23)
ص -542- ترك من ترك من الأئمة حديثا ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي قاله
الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول
الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة
السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه فإذا لم يبلغه وقد قال في تلك النازلة بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو استصحاب فقد يوافق الحديث المتروك تارة ويخالفه أخرى وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأئمة واعتبر ذلك
(24/24)
ص -543- بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأحواله وخصوصا الصديق الذي لم يكن يفارقه لا سفرا ولا حضرا وكان عنده غالب الأوقات حتى كان يسمر عنده بالليل وكان كثيرا ما يقول: "دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"
(24/25)
ص -544- "وذهبت أنا وأبو بكر وعمر" ثم مع ذلك الاختصاص خفي على أبي بكر ميراث الجدة وكان علمه عند المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وعمران بن الحصين وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر ولا قريبا منه في العلم وخفي على عمر سنة الاستئذان وتوريث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض البوادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فترك رأيه لذلك وقال
(24/26)
ص -545- لو لم نسمع هذا لقضينا بخلافه وخفي عليه حكم المجوس حتى أخبره عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وخفي عليه حكم الطاعون حتى أخبره عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع
(24/27)
ص -546- بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه".
وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي شك في صلاته فلم يكن قد بلغته السنة في ذلك حتى حدثه عبدالرحمن بن عوف عن النبي أنه يطرح الشك ويبني على ما استيقن.
(24/28)
ص -547- وكان مرة في السفر فهاجت ريح فجعل يقول من يحدثنا عن الريح قال أبو هريرة فبلغني ذلك وأنا في أخريات الناس فحثثت راحلتي حتى أدركته فحدثته بما أمر به النبي عند هبوب الريح.
فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلغه إياها من عمر أعلم منه بكثير.
ومواضع أخرى لم يبلغه ما فيها من السنة فقضى وأفتى بغيرها كما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها وقد كان عند أبي موسى
(24/29)
ص -548- وابن عباس وهما دونه في العلم أن النبي قال: "هذه وهذه سواء" فبلغت هذه السنة معاوية في إمارته فقضى بها ولم يجد المسلمون بدا من اتباع ذلك.
وكان عمر ينهى المحرم عن التطيب قبل الإحرام وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي الجمرة هو وابنه عبدالله وغيرهما من أهل العلم ولم يبلغهم حديث عائشة رضي الله عنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت
(24/30)
ص -549- وكان أمر لابس الخف أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت واتبعه على ذلك طائفة من السلف ولم تبلغهم أحاديث التوقيت التي صحت عند من عمر أعلم منه.
وكذلك عثمان لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الموت حتى حدثته الفريعة بنت مالك
(24/31)
ص -550- أخت أبي سعيد الخدري بقصتها لما توفي زوجها وأن النبي قال لها امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فأخذ به عثمان وترك فتواه.
وأهدي له مرة صيد كان قد صيد لأجله وهو محرم فهم بأكله حتى أخبره علي رضي الله عنهما بأن النبي رد لحما أهدي له وهو محرم.
(24/32)
ص -551- وأفتى علي وابن عباس وغيرهما أن المتوفى عنها إذا كانت حاملا تعتد أقصى الأجلين ولم تكن قد بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيعة الأسلمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها حين وضعت حملها بأنها قد حلت للأزواج.
(24/33)
ص -552- وأفتى هو وزيد بن ثابت وابن عمر وغيرهم بأن المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها ولم تكن بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق وهذا باب واسع.
وأما المنقول فيه عن من بعد الصحابة والتابعين
(24/34)
ص -553- فأكثر من أن يحصى فإذا خفي على أعلم الأمة وأفقهها بعض السنة فما الظن بمن بعدهم فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل فرد من الأئمة أو إماما معينا فقد أخطأ خطأ فاحشا.
قال أبو عمر وليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد خفيت عليه بعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة فمن بعدهم.
وصدق أبو عمر رضي الله عنه فإن مجموع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وإقراره لا يوجد عند رجل واحد أبدا ولو كان أعلم أهل الأرض فإن قيل فالسنة قد دونت وجمعت وضبطت وصار ما تفرق منها عند الفئة الكثيرة مجموعا عند واحد.
(24/35)
ص -554- قيل هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض عصر الأئمة المتبوعين.
ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة ثم لو فرض انحصار السنة في هذه الدواوين فليس كل ما فيها يعلمه العالم ولا يكاد يحصل ذلك لأحد أبدا بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علما بما فيها بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو بإسناد منقطع أو لا يبلغنا بالكلية وكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين.
(24/36)
ص -555- فصل
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو من فوقه مجهول عنده أو سيء الحفظ أو متهم أو لم يبلغه مسندا بل منقطعا أو لم يضبط له لفظ الحديث ويكون ذلك الحديث بعينه قد رواه الثقات لغيره بإسناد صحيح متصل بأن يعلم غيره عدالة ذلك المجهول أو يرويه له ثقة غيره ويتصل له من غير تلك الجهة المنقطعة ويضبطه له من لم يضبطه للآخر أو يقع له من الشواهد والمتابعات مالم يقع لغيره فيكون الحديث حجة على من بلغه من هذا الوجه وليس بحجة على من بلغه من الوجه الأول ولهذا علق كثير من الأئمة القول بموجب الحديث على صحته فيقول قولي فيها كيت وكيت وقد روي فيها حديث بخلافه فإن صح فهو قولي وأمثلة هذا كثيرة جدا.
(24/37)
ص -556- فصل
السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره فقد يعتقد أحد المجتهدين ضعف رجل ويعتقد الآخر ثقته وقوته وقد يكون الصواب مع المضعف لاطلاعه على سبب خفي على الموثق وقد يكون الصواب مع الآخر لعلمه بأن ذلك السبب غير قادح في روايته وعدالته إما لأن جنسه غير قادح وإما لأن له فيه عذرا أو تأويلا يمنع الجرح.
وقد لا يعتقد الذي بلغه الحديث أن راويه سمعه من غيره لأسباب معروفة عنده خفيت على غيره.
وقد يكون للمحدث حالان: حال استقامة وحال اضطراب فلا يدري الرجل أن حديثه المعين حدث به في حال الاستقامة أو في حال الاضطراب فيتوقف فيه ويعلم غيره أنه حدث به في حال الاستقامة فيقبله.
(24/38)
ص -557- وقد يكون المحدث قد نسي الحديث الذي قد حدث به فينكره فيبلغ المجتهد إنكاره له ولا يعمل به ويرى غيره أن نسيانه له لا يقدح في صحة الحديث ووجوب العمل به.
وأيضا فكثير من الحجازيين لا يحتج بحديث عراقي ولا شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز حتى قال بعض من يذهب هذا المذهب نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقيل لبعض من كان يذهب إلى هذا المذهب سفيان عن منصور
(24/39)
ص -558- عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله حجة قال إن لم يكن له أصل بالحجاز فلا. وكان الشافعي يرى هذا المذهب أولا ثم رجع عنه وقال للإمام أحمد يا أبا عبدالله إذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميا كان أو عراقيا
(24/40)
ص -559- ولم يقل أو حجازيا لأنه لم يكن يشك هو ولا غيره في أحاديث أهل الحجاز.
وأكثر أهل العلم على خلاف هذا المذهب وأن الحديث إذا صح وجب العمل به من أي مصر من الأمصار كان مخرجه وعلى هذا إجماع أهل الحديث قاطبة.
فصل
السبب الرابع: اشتراط بعضهم في خبر الواحد العدل شروطا يخالفه فيها غيره كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيها إذا خالف ما رواه القياس واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان مما تعم به البلوى واشتراط بعضهم أن لا يكون الحديث قد تضمن زيادة على نص القرآن لئلا يلزم منه نسخ القرآن به وهذه مسائل معروفة.
(24/41)
ص -560- فصل
السبب الخامس: أن ينسى الحديث أو الآية كما نسي عمر قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر30] ونسي قوله {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء20] ونسي فتوى النبي له ولعمار بالتيمم للجنابة في السفر وكذلك ما روي أن عليا ذكر الزبير يوم الجمل شيئا عهده إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره فانصرف عن القتال قلت فيكون الناسي معذورا بفتواه بخلاف النص فما عذر الذاكر
(24/42)
ص -561- للنص إذا قلد الناس وخالف الذاكر والذكر.
فصل
السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث إما لكون لفظ الحديث غريبا عنده مثل لفظ المزابنة والمحاقلة
(24/43)
ص -562- والمخابرة والملامسة والمنابذة والحصاة والغرر
(24/44)
ص -563- ونحوها من الكلمات الغريبة التي يختلف العلماء في تأويلها ومثل قوله لا طلاق ولا عتاق في إغلاق.
فإنهم فسروا الإغلاق بالإكراه قلت هذا تفسير كثير من الحجازيين.
ومنهم من فسره بالغضب وهو تفسير العراقيين ونص عليه أحمد وأبو عبيد وأبو داود.
ومنهم من فسره بجمع الثلاث في كلمة واحدة فإنه مأخوذ من غلق الباب أي أغلق عليه باب الطلاق جملة وصحح بعضهم هذاالتفسير وجعله أولى التفاسير
(24/45)
ص -564- وممن حكى الأقوال الثلاثة صاحب مطالع الأنوار وصاحب مشارق الأنوار وهذا الباب يعرض منه اختلاف كثير سببه أن يكون لذلك اللفظ في لغته وعرفه معنى غير معناه في لغة الرسول أو أعم منه أو أخص فتفطن لهذا الموضع فإنه منشأ لغلط كثير على صاحب الشرع
والصواب في لفظ الإغلاق أنه الذي يغلق على صاحبه باب تصوره أو قصده كالجنون والسكر
(24/46)
ص -565- والإكراه والغضب كأنه لم ينفتح قلبه لقصده ولا وطر له فيه ومن هذا لفظ الخمر فإنه في لغة الشارع اسم لكل مسكر لا يختص بنوع من أنواعه وهذا المعنى مطابق لاشتقاقه فتخصيصه ببعض الأنواع المسكرة دون بعض اصطلاح حادث حصل بحمل كلام الشارع عليه تخصيص لما قصد الشارع تعميمه ولهذا لم يختلف المخاطبون بالقرآن أولا وهم الصحابة في تحريم ذلك كله.
فصل
ومن هذا الخلاف العارض من جهة كون اللفظ مشتركا أو مجملا أو مترددا بين حمله على معناه عند الإطلاق وهو المسمى بالحقيقة أو على معناه عند التقييد وهو المسمى بالمجاز كاختلافهم في المراد من القرء هل هو الحيض أو الأطهار ففهمت طائفة منه الحيض
(24/47)
ص -566- وأخرى الطهر وكما فهمت طائفة من الخيط الأبيض والأسود الخيطين المعروفين وفهم غيرهم بياض النهار وسواد الليل وكما فهمت طائفة من قوله في التيمم {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة6] المسح إلى الآباط ففعلوه وفهم آخرون المسح إلى المرافق ففعلوه وأسعد الناس بفهم الآية من فهم منها المسح إلى الكوع وهذا هو الذي فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآية وهو نظير فهمه
(24/48)
ص -567- القطع من الكوع من آية السرقة.
وكما فهمت طائفة من قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} البعض مقدرا أو غير مقدر وفهم آخرون مسح الجميع وفهمهم مؤيد بفعل الرسول.
وكما فهم بعضهم من قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء11]
(24/49)
ص -568- الثلاثة فصاعدا اعتمادا على الحقيقة وفهم الآخرون الإثنين فصاعدا اعتمادا على فهم الجنس الزائد على الواحد وهؤلاء أسعد بفهم الآية.
وكما فهم الصديق ومن معه من الكلالة التي يرث معها الإخوة والأخوات للأب أنها عدم الولد وإن سفل والأب وإن علا وفهم آخرون منها عدم الأب دون من فوقه والصديق أسعد بفهم الآية كما اتفق المسلمون على أن الكلالة في قوله:
(24/50)
ص -569- {كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء12] أنها عدم الولد وإن سفل والأب وإن علا وكما فهم من فهم من السلف والخلف من قوله تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَان} [البقرة229]
أنه مرة بعد مرة مثل قوله {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة101] وقوله {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور6]
وقوله في الحديث "فلما أقر أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور58].
(24/51)
ص -570- وجميع ما ذكر فيه تعدد المرة فهذا سبيله فالثلاث المجموعة بكلمة واحدة مرة واحدة وفهم آخرون منها الجمع والإفراد ولا يخفى أي الفهمين أولى.
وكما فهم من أباح نكاح التحليل ذلك من قوله {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة230] وفهم المحرمون المبطلون له بطلانه من نفس الآية من عدة أوجه منها قوله {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة230] ونكاح التحليل لا يدخل في النكاح المطلق كما لم يدخل فيه نكاح الشغار والمتعة ونكاح المعتدة ونكاح المحرمة فإن الذي أخرج هذه الأنواع من النكاح المطلق المأذون فيه هو الذي أخرج نكاح التحليل منه بنصوص أكثر وأصرح من تلك النصوص.
ومنها تسميته سبحانه لهذا الثاني زوجا وأحكام الزوج عرفا وشرعا منتفية عن المحلل وانتفاء الأحكام
(24/52)
ص -571- مستلزم لانتفاء الاسم شرعا وعرفا وكذلك هو فإن أهل العرف لا يسمونه زوجا والشارع إنما سماه تيسا مستعارا فلا يجوز تسميته زوجا إلا على وجه التقييد بأن يقال زوج ملعون أو زوج في نكاح تحليل أو في نكاح باطل.
ومنها أنه جعل الزوج الثاني وطلاقه بمنزلة الزوج الأول وطلاقه فالمفهوم منها واحد وغير ذلك من الوجوه التي أفهمت منها الآية بطلان نكاح المحلل وهي عشرة قد ذكرناها في موضع آخر ولا ريب أن فهم هؤلاء أولى بالصواب.
(24/53)
ص -572- ومن هذا فهم بعضهم إباحة العينة من قوله تعالى {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة282] وفهم آخرون منها تحريمها وبطلانها فإن لفظ التجارة البيع المقصود الذي يقصد به كل واحد من المتعاقدين الربح والانتفاع ولا يعرف أهل اللغة والعرف من لفظ التجارة إلا ذلك ولا يعد أحد منهم قط الحيلة على الربا تجارة وإن كان المرابي يعد ذلك تجارة كما يعد بيع الدرهم بالدرهمين فالعينة لا تعد تجارة لغة ولا شرعا ولا عرفا.
وكما فهم من فهم من قوله تعالى {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور3] أنه العقد وفهم آخرون أنه نفس الوطء وفهم الأولين أصوب لخلو الآية عن الفائدة إذا حمل على الوطء. وكما فهم أهل الحجاز من قوله تعالى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة33].
(24/54)
ص -573- طرده من الأرض من موضع إلى موضع وفهم أهل العراق منه الحبس. وبالجملة فهذا الفصل معترك النزاع.
فصل
السبب السابع: أن يكون عارفا بدلالة اللفظ وموضوعه ولكن لا يتفطن لدخول هذا الفرد المعين تحت اللفظ إما لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد وأنه مماثل لغيره من الأفراد الداخلة تحته وإما لعدم حضور ذلك الفرد بباله وإما لاعتقاده اختصاصه بخصيصة يخرجه من اللفظ العام وإما لاعتقاده العموم فيما ليس بعام أو الإطلاق فيما هو مقيد فيذهل عن المقيد كما يذهل عن المخصص.
(24/55)
ص -574- فصل
السبب الثامن: اعتقاده أن لا دلالة في ذلك اللفظ على الحكم المتنازع فيه فهاهنا أربعة أمور أحدها أن لا يعرف مدلول اللفظ في عرف الشارع فيحمله على خلاف مدلوله. الثاني أن يكون له في عرف الشارع معنيان فيحمله على أحدهما ويحمله غيره على المعنى الآخر.
الثالث أن يفهم من العام خاصا أو من الخاص عاما أو من المطلق مقيدا أو من المقيد مطلقا.
الرابع أن ينفي دلالة اللفظ وتارة يكون مصيبا في نفس الدلالة وتارة يكون مخطئا فمن نفى دلالة قوله {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة187] على حل أكل ذي الناب والمخلب أصاب ومن نفى دلالة قوله {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور32].
(24/56)
ص -575- على جواز نكاح الزانية أصاب ومن نفى دلالة قوله {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام145] على الإذن في أكل ما عدا المذكور في الآية أصاب ومن نفى دلالة العام على ما عدا محل التخصيص غلط ومن نفى دلالته على ما عدا محل السبب غلط ومن نفى دلالة الأمر على الوجوب والنهي على التحريم غلط ومن هذا ما يعرض من الاختلاف في الأفعال المنفية بعد وجود صورتها كقوله "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" "ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"
(24/57)
ص -576- ولا صلاة لفذ خلف الصف ونحو ذلك. وطائفة لم تفهم المراد منه فجعلته مجملا يتوقف العمل به على البيان.
وطائفة فهمت منه نفي الكمال المستحب وهذا ضعيف جدا فإن النفي المطلق بعيد منه.
وطائفة فهمت نفي الأجزاء والصحة وفهم هؤلاء أقرب إلى اللغة والعرف والشرع.
وطائفة فهمت نفي المسمى الشرعي وهؤلاء أسعد الناس بفهم المراد.
فصل
هذا كله قبل الوصول إلى السبب التاسع: وهو اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما هو مساو لها
(24/58)
ص -577- فيجب التوقف أو ما هو أقوى منها فيجب تقديمه وهذه المعارضة نوعان معارضة في الدليل ومعارضة في مقدمة من مقدماته.
فالمعارضة في الدليل أن يعتقد أنه قد عارضه ما هو أرجح منه فيجب عليه العمل بالراجح وقد يكون مصيبا في ذلك وقد لا يكون مصيبا فالمصيب من اعتقد المعارضة بناسخ يصح فيه دلالته ومقاومته وتأخره فإن انتفى بعضها كان واهما في اعتقاد المعارضة وإبطال النص بها.
وأما المعارضة في المقدمة فأن يقوم عنده معارض كجزء الدليل مثاله أن يعتقد تحريم الميسر بالنص الدال على تحريمه ويدل عنده دليل على دخول الشطرنج فيه ثم يقوم عنده دليل معارض لهذا الدليل يدل على أن الشطرنج ليس من الميسر فها هنا أربعة أمور
(24/59)
ص -578- أحدها: أن لا يعتقد دلالة اللفظ على المعنى.
الثاني: أن يعتقد دلالته ولكن يقوم عنده معارض للدليل.
الثالث: أن يقوم عنده معارض لمقدمة من مقدماته.
الرابع: أن يتعارض عنده الدلالتان والتعارض قد يقع في الدليلين وقد يقع في الدلالتين والفرق بينهما أن تعارض الدليلين يكون مع اعتقاد دلالة كل واحد منهما على مطلوبه.
وتعارض الدلالتين يقع في الدليل الواحد فيكون له وجهان ثم قد يتبين رجحان المعارض فيصير إلى الراجح وقد لا يتبين له الرجحان فيتوقف وقد يترك الحديث لظنه انعقاد الإجماع على خلافه إذ لم يبلغه الخلاف ويكون إنما معه عدم العلم بالمخالف لا العلم بوجود المخالف وهذا العذر لم يكن أحد من الأئمة
(24/60)
ص -579- والسلف يصير إليه وإنما لهج به المتأخرون وقد أنكره أشد الإنكار الشافعي والإمام أحمد وقال الشافعي مالا يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع هذا لفظه وأما الإمام أحمد فقال من ادعى الإجماع فقد كذب وما يدريه لعل الناس اختلفوا وقد كتبت نصوصه ونصوص الشافعي في غير هذا الموضع ولا خلاف بين الأئمة أنه إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عدم العلم بالقائل به مسوغا لمخالفته فإنه دليل موجب للاتباع وعدم العلم بالمخالف لا يصلح أن يكون معارضا فلا يجوز ترك الدليل له وإذا تأملت هذا الموضع وجدت كثيرا من أعيان العلماء قد صاروا إلى أقوال متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع قيام الأدلة الظاهرة على
(24/61)
ص -580- خلاف تلك الأقوال وعذرهم رضي الله عنهم أنهم لم يكن لأحد منهم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلا مع علمه بأن الناس قد قالوا خلافه فيتركب من هذا العلم وعدم ذلك العلم الإمساك عن اتباع ذلك الدليل.
وها هنا انقسم العلماء ثلاثة أقسام: فقسم أخذوا بما بلغهم من أقوال أهل العلم وقالوا لا يجوز لنا أن نخالفهم ونقول قولا لم نسبق إليه وهؤلاء معذورون قبل وصول الخلاف إليهم فأما من وصل إليه الخلاف وعلم بذلك القول قائلا فما أدري ما عذره عند الله في مخالفته صريح الدليل.
وقسم توقفوا وعلقوا القول فقالوا إن كان في المسألة إجماع فهو أحق ما اتبع وإلا فالقول فيها كيت وكيت وهو موجب الدليل ولو علم هؤلاء قائلا به لصرحوا بموافقته فإذا علم به قائل فالذي ينبغي ولا يجوز غيره أن يضاف ذلك القول إليهم لأنهم إنما تركوه لظنهم أنه لا قائل
(24/62)
ص -581- به وأنه لو كان به قائل لصاروا إليه فإذا ظهر به قائل لم يجز أن يضاف إليهم غيره إلا على الوجه المذكور وهذه الطريقة أسلم.
وقسم ثالث: اتبعوا موجب الدليل وصاروا إليه ولم يقدموا عليه قول من ليس قوله حجة ثم انقسم هؤلاء قسمين.
فطائفة علمت أنه يستحيل أن تجمع الأمة على خلاف هذا الدليل وعلمت أنه لا بد أن يكون في الأمة من قال بموجبه وإن لم يبلغهم قوله فما كل ما قاله كل واحد من أهل العلم وصل إلى كل واحد من المجتهدين وهذا لا يدعيه عاقل ولا يدعي في أحد وقد نص الشافعي على مثل ذلك فذكر البيهقي عنه في المدخل أنه قال له
(24/63)
ص -582- بعض من ناظره فهل تجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثابتة متصلة خالفها الكل قلت لا لم أجدها قط كما وجدت المرسل.
وطائفة قالت: يجوز أن لا يتقدم به قائل ولكن لا يلزم انعقاد الإجماع على خلافه إذ لعل تلك النازلة تكون قد نزلت فأفتى فيها بعض العلماء أو كثير منهم أو أكثرهم بذلك القول ولم يستفت فيها الباقون ولم تبلغهم فحفظ فيها قول طائفة من أهل العلم ولم يحفظ لغيرهم فيها قول والذين حفظ قولهم فيها ليسوا كل الأمة فيحرم مخالفتهم.
قالوا فنحن في مخالفتنا لمن ليس قوله حجة أعذر منكم في مخالفتكم لمن قوله حجة فإن كنتم معذورين في مخالفة الدليل لقول من بلغتكم أقوالهم مع أنهم ليسوا كل الأمة فنحن في مخالفتهم لقيام الدليل أعذر عند الله ورسوله منكم وهذا كما تراه لا يمكن دفعه إلا بمكابرة أو إجماع متيقن معلوم لا شك فيه وبالله التوفيق.
(24/64)
ص -583- ومما يوضح هذا أن كل من ترك موجب الدليل لظن الإجماع فإنه قد تبين لغيره أنه لا إجماع في تلك المسألة والخلاف فيها قائم ونحن نذكر من ذلك طرفا يسيرا يستدل به العالم على ما وراءه.
فمن ذلك قول مالك لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد وصدق رضي الله عنه فلم يعلم أحدا أجازها وعلمه غيره فأجازها علي بن أبي طالب وأنس بن مالك وشريح القاضي حكاه الإمام أحمد وغيره وروى أحمد عن أنس قال لا أعلم أحدا رد شهادة العبد وقال لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
(24/65)
ص -584- في الصلاة ووجوبها محفوظ عن أبي جعفر الباقر وقال الشافعي أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث وقد صح توريثه عن علي وابن مسعود وقال الشافعي وقد قيل له فهل من مرسل ما قال به أحد قال نعم أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن المنكدر أن رجلا جاء إلى النبي فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي مالا وعيالا وإن لأبي مالا وعيالا يريد أن يأخذ مالي
(24/66)
ص -585- فيطعمه عياله فقال: "أنت ومالك لأبيك" قال الشافعي فقال محمد بن الحسن أما نحن فلا نأخذ بها ولكن هل من أصحابك من يأخذ به قلت لا لأن من أخذ بهذا جعل للأب الموسر أن يأخذ من مال ابنه قال أجل ما يقول بهذا أحد قال فلم يخالفه الناس قلت لأنه لم يثبت فإن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره وقد يكون أنقص حظا من كثير من
(24/67)
ص -586- الورثة دل ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه وقد قال بهذا الحديث جماعة من السلف منهم شيخ الشافعي سفيان بن عيينة وصاحبه الإمام أحمد وغيرهما ولم يعلم به الشافعي قائلا واعتذر عن مخالفته بأنه مرسل لم يثبت ولم يعتذر عن مخالفته بالإجماع وقد صح اتصاله.
وقال الثوري فيما إذا طلق المدخول بها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخول ثان بعد الرجعة فإن أكثر العلماء على أنها تستأنف العدة قال سفيان أجمع الفقهاء على هذا وسفيان من كبار أئمة الإسلام وقد حكى الإجماع على هذا والنزاع في ذلك موجود قبله وبعده
(24/68)
ص -587- فإن مذهب عطاء أنها تبنى على ما مضى كما لو طلقها قبل الرجعة وهو أحد قولي الشافعي وأحد الروايتين عن أحمد وحكى عن مالك قول ثالث أنه إن قصد الإضرار بها بنت وإلا استأنفت وحكي عن داود قول رابع أنه لا عدة عليها بحال جعلها مطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها بالطلاق الثاني والأول انقطعت عدته بالرجعة والأكثرون يقولون هي زوجة مدخول بها.
ومن ذلك أن الليث بن سعد حكى الإجماع على أن المسافر لا يقصر الصلاة في اقل من يومين هذا مع سعة علمه وفقهه وجلالة قدره والنزاع في مسافة القصر عن الصحابة والتابعين أشهر من أن يذكر.
ومن ذلك ما ذكره مالك في موطأه فقال فمن الحجة على من قال ذلك القول أي أنه لا يقضى بشاهد
(24/69)
ص -588- ويمين لأنه ليس في القرآن فيقال أرأيت لو أن واحدا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه وإن حلف بطل ذلك الحق عنه وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق إن حقه لحق وثبت حقه على صاحبه قال فهذا مما لا خلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلاد اه والحلف بالقضاء بالنكول وحده دون اشتراط رد اليمين أشهر من أن يذكر.
وإبراهيم النخعي لا يقول بالرد بحال ومذهب أبي حنيفة وأصحابه لا يرون لزوم تحليف المدعي بحال بل يقضون بالنكول وأبو ثور ذكر في المسألة قولا ثالثا أنه إذا امتنع أن يحلف وسأل حبس المدين حبسه له.
وأحمد وإن كان يحلف المدعي في بعض الصور
(24/70)
ص -589- كالقسامة والقضاء بشاهد ويمين فإن المشهور عنه أنه يقضي بالنكول دون الرد. وفي مذهب أحمد قول آخر أنه يقضي بالرد وهو اختيار أبي الخطاب وأبي محمد المقدسي في العمدة. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه من قضى بالنكول نقض حكمه. ومع هذا فأبو عبيد يحكي الإجماع على خلاف هذا
(24/71)
ص -590- فإنه قال في كتاب القضاء لما ذكر أحاديث القضاء إن اليمين على المدعى عليه قال وفي ذلك سنة يستدل عليها بالتأويل وذلك أنه لما قضى أنه لا براءة للمطلوب إلا باليمين إلى الطالب كان فيه دليل على أن ترك أدائها إيجاب للدعوى عليه وتصديق لما يدعي.
قال وقد زعم بعض من يدعي النظر في الفقه أن إباء اليمين لا يوجب عليه حقا ولكنه زعم يحبس حتى يقر أو يحلف وهذا خلاف التأويل والأخبار وإجماع العلماء.
ومن ذلك ما قاله مالك في موطئه الأمر المجمع عليه عندنا والذي سمعت ممن أرضى به في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث أن يبدأ بيمين المدعين في القسامة وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين إما أن يقول المقتول دمي عند
(24/72)
ص -591- فلان أو يأتي ولاة الدم بلوث فهذا يوجب القسامة للمدعين للدم على من ادعوه عليه.
قال مالك ولا تجب القسامة إلا بأحد هذين الوجهين قال مالك وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا والذي لم يزل عليه الناس أن المبدئين بالقسامة أهل الدم الذي يدعونه في العمد والخطأ.
قال ابن عبدالبر وقد أنكر العلماء على مالك قوله إن القسامة لا تجب إلا بقول المقتول دمي عند فلان أو يأتي بلوث يشهدون به لأن المقتول بخيبر لم يدع على أحد ولا قال دمي عند أحد ولا قال النبي للأنصار تأتون بلوث قالوا وقد جعل مالك سنة ما ليس له مدخل في السنة.
وكذلك أنكروا عليه أيضا في هذا الباب قوله الأمر
(24/73)
ص -592- المجمع عليه أن يبدأ المدعون بالإيمان في القسامة قالوا فكيف اجتمعت الأئمة في الفقه والحديث وابن شهاب يروي عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن رجل من الأنصار أن النبي بدأ اليهود في الإيمان قال وهذا الحديث وإن لم يكن من روايته عن ابن شهاب فمن روايته عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دية وليه على رجل من بني سعد بن ليث وكان أجرى فرسه فوطئ على إصبع الجهني فنزى منها الدم فمات فقال عمر للذي ادعى عليهم:
(24/74)
ص -593- أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها فأبوا وتحرجوا وقال للمدعين احلفوا فأبوا فقضى بشطر الدية على السعديين قالوا فأي أمة اجتمعت على هذا.
ومن ذلك قال الشافعي في مختصر المزني في مسألة اليمين الغموس ودل إجماعهم على أن من حلق في الإحرام عمدا أو خطأ أو قتل صيدا عمدا أو خطأ في الكفارة سواء وعلى أن الحالف بالله وقاتل المؤمن عمدا أو خطأ في الكفارة سواء فقد ذكر الإجماع على التسوية بين العامد والمخطئ في قتل الصيد وحلق الشعر ومعلوم ثبوت النزاع في ذلك قديما وحديثا فمذهب جماعة من السلف أن قاتل الصيد خطأ لا جزاء عليه ويروى ذلك عن ابن عباس وطاوس
(24/75)
ص -594- وسعيد بن جبير ويروى ذلك عن القاسم وسالم وعطاء ومجاهد وهو قول ابن المنذر
(24/76)
ص -595- وداود وأصحابه وقول إسحاق في الشعر وهو رواية عن أحمد في الصيد وخرج أصحابه في مذهبه في الحلق والتقليم قولا مثله وكذلك ذكره ابن أبي هريرة قولا للشافعي في
(24/77)
ص -596- الصيد وذكر أبو إسحاق وغيره أن له قولا مخرجا في الحلق والتقليم في الخطأ أنه لا كفارة فيه كالطيب واللباس فصار في المسألة ثلاثة أقوال الكفارة فيهما وعدم الكفارة فيهما والكفارة في الصيد دون الحلق والتقليم.
ومن ذلك ما حكاه ابن المنذر قال أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار فطلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد ما انقضت عدتها ثم نكحها الحالف الأول ثم دخلت الدار أنه لا يقع عليها الطلاق لأن طلاق الملك قد انقضى والنزاع في هذه المسألة معروف فإن هذه المسألة لها صورتان:
(24/78)
ص -597- إحداهما: أن لا توجد الصفة فإن الصفة تعود في المشهور في مذهب أحمد حتى إن من أصحابه من يقول تعود الصفة هنا رواية واحدة وهذا أحد أقوال الشافعي بل هو الصحيح عند العراقيين من أصحابه كما ذكره أبو إسحاق وغيره وهو قول حماد بن أبي سليمان وزفر وكذلك ذكره الطحاوي عن الأوزاعي وعثمان البتي وابن الماجشون
(24/79)
ص -598- إذا طلق ثم تزوج تعود اليمين قال الطحاوي ولم يذكروا بعد الثلاث.
والقول الثاني: لا تعود الصفة بحال وهو قول أبي ثور والمزني وقد حكى ابن حامد رواية فيمن قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه قبل الدخول ثم اشتراه لم يعتق عليه بحال فذكر عنه في العتق أن الصفة لا تعود وفي الطلاق أولى كما صرح أصحابه بمثل ذلك القول.
الثالث: أنه إن أبانها بالثلاث لم ترجع
(24/80)
ص -599- الصفة وبدونها ترجع وهو مذهب أبي حنيفة وقول الشافعي ومن ذلك ما حكاه ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن شئت فقالت قد شئت إن شاء فلان أنها قد ردت الأمر ولا يلزمه الطلاق إن شاء فلان كذلك قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الشافعي.
ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة وجهان حكاهما الماوردي وغيره ومن ذلك قال ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا إثنتين أنها تطلق واحدة وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة أنها تطلق ثنتين فإن قال: أنت طالق
(24/81)
ص -600- ثلاثا إلا ثلاثا طلقت ثلاثا وممن حفظ هذا عنه الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
والخلاف في المسألة مشهور فمذهب أحمد المنصوص عنه إذا قال أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين وقعت الثلاث لأن استثناء الأكثر عنده باطل وإذا قال ثلاثا إلا واحدة صح الاستثناء في المشهور من مذهبه.
وقال أبو بكر عبدالعزيز لا يصح الاستثناء في الطلاق وهو نظير أشهر الروايتين عند شريح فيما إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار أنها تطلق ولا يتعلق بالشرط المؤخر وهي رواية ثابتة عن أحمد وأكثر أجوبته كقول الجمهور.
ومن ذلك ما حكاه أن ابن عبدالبر نقل
(24/82)
ص -601- الإجماع على أن الاعتكاف يلزم بالشروع فقال وقال مالك يلزمه بالنية مع الدخول وإن قطعه لزمه قضاؤه.
قال ابن عبدالبر لا يختلف في ذلك الفقهاء ويلزمه القضاء عند جمهور العلماء والخلاف في ذلك أشهر شيء فمذهب الشافعي وأحمد في مشهور قوله إنه لا يلزم وقال الشافعي كل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة.
ومن ذلك ما حكاه صالح بن أحمد عن أبيه أنه قال لا اختلاف أنه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة والتابعين.
ومن ذلك ما ذكره أبو عمر بن عبدالبر في الاستذكار قال وأما القراءة في الركوع والسجود
(24/83)
ص -602- فجميع العلماء على أن ذلك لا يجوز اه وليس ذلك بإجماع فقد سئل عطاء عن ذلك فقال رأيت عبيد بن عمير يقرأوهو راكع وحكي عن سلمان بن ربيعة أنه كان يقرأوهو ساجد وقال مغيرة عن إبراهيم في الرجل يقرأ فيترك الآية فيذكرها وهو راكع قال يقرأها وهو راكع وقال مغيرة كانوا يقرأون في الركوع الآية والآيتين إذا بقي على الرجل من قراءته.
(24/84)
ص -603- ومن ذلك ما حكاه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في كتاب الطهور وقد ذكر من كان يتوضأ من مس الذكر ثم قال وهو منسوخ لأن أهل العلم اجتمعوا على خلاف هذا.
ومن ذلك ما ذكره أبو عمر بن عبدالبر فقال وأما الشهادة على رؤية الهلال فأجمع الفقهاء على أنه لا يقبل في شهادة شوال في الفطر إلا شهادة رجلين عدلين والخلاف في ذلك مشهور وقد حكى ابن المنذر عن أبي ثور وطائفة من أهل الحديث القول بقول الواحد في الصوم والفطر.
ومن ذلك ما قاله أبو ثور لا يختلفون أن أقل الطهر خمسة عشر يوما والخلاف في ذلك مشهور وقد قال إسحاق توقيت هؤلاء بخمسة عشر باطل وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه أقله ثلاثة عشر يوما.
(24/85)
ص -604- ومن ذلك ما حكاه غير واحد من العلماء أن الحالف بالطلاق والعتاق إذا حنث في يمينه أنه تطلق عليه زوجته ويعتق عليه عبده أو جاريته حكى ذلك بضعة عشر من أهل العلم وعذرهم أنهم قالوا بموجب علمهم وإلا فالخلاف في ذلك ثابت عن السلف والخلف من وجوه:
الوجه الأول: ما رواه الأنصاري حدثنا أشعث ثنا بكر عن أبي
(24/86)
ص -605- رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة فكلهم قال لها أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت وأمروها أن تكفر يمينها وتخلي بينهما.
وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان
(24/87)
ص -606- التيمي حدثنا بكر بن عبدالله عن أبي رافع فذكره عن زينب ورواه الأوزاعي حدثني حسن بن الحسن حدثني بكر بن عبدالله المزني حدثني
(24/88)
ص -607- رافع فذكره وذكر فيه العتق فهذه ثلاث طرق فقد برىء سليمان التيمي من عهدة التفرد بذكر العتق بمتابعة أشعث وحسن بن الحسن له حتى ولو تفرد بها التيمي فهو أجل من أن يرد ما تفرد به وهو أجل من الذين لم يذكروا الزيادة فصح ذكر العتق في هذا الأثر وزال الارتياب فهؤلاء ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم لهم مخالف أفتوا من قالت كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين مملوكها وبين امرأته أن تكفر يمينها وتخلي بين الرجل وامرأته وهم ابن عباس في سعة علمه وابن عمر في شدة ورعه وتحريه وأبو هريرة مع كثرة حفظه وعائشة وحفصة وأم سلمة وهؤلاء من أفقه نساء الصحابة أو أفقههن على الإطلاق.
فإن كان التقليد فمن جعل هؤلاء بينه وبين الله أعذر عند الله ممن جعل بينه وبينه من لا يدانيهم وأن
(24/89)
ص -608- كان الدليل والحجة فهاتوا دليلا واحدا لا يطعن فيه من كتاب الله أو سنة رسوله أو قياس يستوي فيه حكم الأصل والفرع على وقوع الطلاق المحلوف به وأكثركم لم يعول في ذلك إلا على ما ظنه من الإجماع وهو معذور قبل الاطلاع على النزاع فما عذره بعد الاطلاع على أن المسألة مسألة خلاف بين الأئمة إذا استحل عقوبة من يفتي بها وجاهر بالكذب والبهت أنه خالف إجماع الأمة أفترى هؤلاء الذين هم من سادات الأمة وعلمائها يفتون بالكفارة في العتق وبلزوم الطلاق وهل يمكن بشر على وجه الأرض أن يفرق بين قول الحالف إن فعلت كذا فعبدي حر وبين قوله إن فعلت كذا وكذا فإمرأتي طالق بفرق تلوح منه رائحة الفقه.
الوجه الثاني: من الوجوه المثبتة أن المسألة مسألة
(24/90)
ص -609- نزاع لا مسألة إجماع ما رواه عبدالرزاق في جامعه حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري.
الوجه الثالث: ما رواه سنيد بن داود في تفسيره حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول عن عكرمة في رجل قال لغلامه إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتي طالق.
(24/91)
ص -610- قال لا يجلد غلامه ولا تطلق امرأته هذا من خطوات الشيطان.
الوجه الرابع: أن في الطلاق المعلق بالشرط قولين للعلماء أحدهما يقع عند وقوع شرطه والثاني لا يقع بحال ولا يتعلق الطلاق بالشرط كما لا يتعلق النكاح به وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعي الذي أخذ عنه وكان يلازمه أبو عبدالرحمن ولا ينزل اختياره عن درجة من له وجه من المتأخرين بل هو أجل من أصحاب الوجوه وهو مذهب داود بن علي الأصبهاني وابن حزم وأصحابهما.
قال أبو محمد بن حزم واليمين بالطلاق لا يلزم
(24/92)
ص -611- سواء بر أو حنث لا يقع به طلاق ولا طلاق إلا كما أمر الله عز وجل ولا يمين إلا كما أمر الله على لسان رسوله والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين لا يجوز وكل ذلك لا يلزم ولا يكون طلاق إلا كما أمر الله عز وجل به وعلمه وهو القصد إلى الطلاق وأما ما عدا ذلك فباطل وممن قال بقولنا في أن اليمين بالطلاق ليس شيئا ولا يقضى به على من حلف به علي بن أبي طالب وشريح وطاوس ولا يعرف لعلي مخالف من الصحابة.
الوجه الخامس: أن أبا الحسين القدوري ذكر في
(24/93)
ص -612- شرحه أنه إذا قال طلاقك علي واجب أو لازم أو فرض أو ثابت أو إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب أو لازم أو ثابت ففعلت قال فعلى قول أبي حنيفة لا يقع الطلاق في الكل وعند أبي يوسف إن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب قال صاحب الذخيرة: وكان الشيخ ظهير الدين المرغيناني يفتي بعدم الوقوع في الكل
الوجه السادس: إن القفال أفتى في قوله الطلاق
(24/94)
ص -613- يلزمني أنه لا يقع به الطلاق نواه أو لم ينوه قال قال أبو القاسم عبدالرحمن بن يونس في شرح التنبيه في قول المصنف وإن قال الطلاق والعتاق لازم لي ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية وهذا اللفظ يحتمل فجعل كناية فقال الروياني الطلاق لازم صريح وعد ذلك في صرايح الطلاق ولعل وجهه عنده استعماله لإرادة الطلاق وقال القفال في فتاويه ليس بصريح ولا كناية حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه.
(24/95)
ص -614- الوجه السابع: إن أشهب بن عبدالعزيز وهو من أجل أصحاب مالك أفتى فيمن قال لإمرأته إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق ففعلته تقصد وقوع الطلاق به أنها لا تطلق مقابلة لها بنقيض قصدها كما لو قتل الوارث مورثه أو المدبر سيده أو الموصي له ونظائر ذلك مما يقابل به الرجل بنقيض قصده ذكر ذلك عنه ابن رشد في مقدماته وهذا محض الفقه لو كان الحلف يقع به الطلاق.
(24/96)
ص -615- الوجه الثامن: أن أصحاب مالك من أشد الناس في هذا الباب فلا يعذرون الحالف بجهل ولا نسيان ويوقعون الطلاق على من حلف على مالا يعلم فبان كما حلف عليه ومع هذا فقد حكوا عدم الوقوع بالحلف بالطلاق عن علي بن أبي طالب وشريح وطاوس ونحن نذكر ألفاظهم قال أبو القاسم عبدالعزيز بن إبراهيم بن أحمد بن بزيزة في كتاب مصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق فقد قدمنا في كتاب الإيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي
(24/97)
ص -616- وغير ذلك هل يلزم أم لا فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وشريح وطاوس لا يلزم عن ذلك شيء ولا يقضى بالطلاق على من حلف به فحنث ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة هذا لفظه مع اعتقاده وقوع الطلاق على من حلف به فحنث ولم يطعن في هذا النقل ولم يعترضه باعتراض.
الوجه التاسع: إن فقهاء الإمامية من أولهم إلى آخرهم ينقلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به وهذا متواتر عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت.
وهب أن مكابرا كذبهم كلهم وقال قد تواطئوا
(24/98)
ص -617- على الكذب عن أهل البيت ففي القوم فقهاء وأصحاب علم ونظر في اجتهاد وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة فلا يوجب ذلك الحكم عليهم كلهم بالكذب والجهل وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة وحملوا حديثهم واحتج به المسلمون ولم يزل الفقهاء ينقلون خلافهم ويبحثون معهم والقوم وإن أخطأوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأ حتى يرد عليهم هذا لو انفردوا بذلك عن الأمة فكيف وقد وافقوا في قولهم من قد حكينا قولهم وغيره ممن لم تقف على قوله.
الوجه العاشر: إنه لم يزل أئمة الإسلام يفتون بما يظهر لهم من الدليل وإن لم يتقدمهم إليه أحد وإذا شئت أن تقف على ذلك فانظر إلى كثير من فتاوي الأئمة التي لا تحفظ عن أحد من أهل العلم قبلهم.
وقال إسحاق بن منصور الكوسج سألت إسحاق عن مسألة فذكر قوله فيها فقلت إن أخاك
(24/99)
ص -618- أحمد بن حنبل أجاب فيها بمثل جوابك فقال ما ظننت أن أحدا يوافقني عليها.
وقال ابن المنذر وهو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف لم يسبق الشافعي إلى نجاسة الأبوال أحد يريد بول ما يؤكل لحمه وقال شيخنا لم يسبق أحمد بن حنبل إلى الحكم بإسلام أولاد أهل الذمة الصغار بموت آبائهم أحد ولم يسبقه إلى إقعاد المرأة أول ما ترى الدم يوما وليلة ثم تصلي وهي ترى الدم أحد.
وأما غيره فمن له أدنى اطلاع على أقوال السلف والخلف لا يخفى عليه ذلك ولكثرته تركنا ذكره.
الوجه الحادي عشر: أنا لو لم نعلم النزاع في هذه المسألة لم يكن لنا علم بالإجماع المعلوم الذي تكون مخالفته
(24/100)
ص -619- كفرا أو فسقا عليها بل ولا ظن به فإنا قد رأينا أكثر هؤلاء الذين يحكون الإجماع إنما يحكونه على حسب اطلاعهم ومعناه عدم العلم بالمخالف وقد رأيت من نقض إجماعاتهم التي حكوها ما هو قليل من كثير.
فغاية هذه الإجماعات أن تفيدنا عدم علم ناقلها بالخلاف وهذا بمجرده لا يكون عذرا للمجتهد في ترك موجب الدليل والله أعلم.
فصل
ومن ذلك نقل من نقل الإجماع على أن المتكلم بالطلاق الثلاث في مرة واحدة يقع به الثلاث وقال بموجب علمه وما بلغه وإلا فالخلاف في هذه المسألة ثابت من وجوه:
الوجه الأول: إنه على عهد الصديق إنما كان يفتي بأنها واحدة كما روى مسلم في صحيحه أن أبا الصهباء قال
(24/101)
ص -620- لعبدالله بن عباس ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر من طلق ثلاثا جعلت واحدة قال نعم وذكر الحديث ومن تتبع ألفاظه وطرقه جزم ببطلان تلك التأويلات التي غايتها أن يتطرق إلى بعض ألفاظه وسياق طرقه وألفاظه صريحة في المراد فلو قال القائل إن هذا مذهب أبي بكر الصديق وجميع الصحابة في عهده أصاب وصدق حاش من لم يصرح منهم بأنها ثلاث وهم جمع من الصحابة صح ذلك عنهم بلا ريب فأقل أحوال المسألة أن تكون مسألة نزاع بين الصحابة.
(24/102)
ص -621- الوجه الثاني: إنه صح عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه أفتى بأنها واحدة ذكر ذلك أبو داود وغيره
الوجه الثالث: إن هذا مذهب الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف حكاه عنهما ابن وضاح وابن مغيث في وثائقه وغيرهما
الوجه الرابع: إنه إحدى الروايتين عن علي وابن مسعود وابن عباس
الوجه الخامس: إنه مذهب طاوس وخلاس بن عمرو
(24/103)
ص -622- ومحمد بن إسحاق وداود وجمهور أصحابه
الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه في غير المدخول بها صرح به في كتاب اختلاف العلماء له وهو مذهب بعض فقهاء التابعين
الوجه السابع: أنه أحد القولين في مذهب مالك حكاه التلمساني في شرح التفريع قال ابن الجلاب ومن
(24/104)
ص -623- طلق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة حرمت عليه قال الشارح إذا كان ذلك في كلمات فلا خلاف في حرمتها لقوله تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة229] إلى قوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة230] وإن كان في كلمة ففيه خلاف هل يرجع إلى الواحدة والمشهور من المذهب أنها ثلاث ثم قال الشارع في موضع آخر في قوله من طلق امرأته ثلاثا في كلمة قال هذا تنبيه على الخلاف وهو أن الثلاث في كلمة ترجع إلى الواحدة وهو قول شاذ في المذهب ووجهه ما روي أن الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت واحدة.
الوجه الثامن: أنه أحد القولين في مذهب أبي حنيفة اختاره محمد بن مقاتل الرازي حكاه عنه الطحاوي.
(24/105)
ص -624- الوجه التاسع: أنه أحد القولين في مذهب أحمد حكاه شيخنا واختاره وأفتى به وأقل درجات اختياراته أن يكون وجها في المذهب ومن الممتنع أن يكون اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب والشيخ أبي محمد وجوها يفتى بها واختيارات شيخ الإسلام لا تصل إلى هذه المرتبة فالذي يجزم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمة واحدة واحدة أحد الوجهين في مذهب أحمد وهو مخرج على أصوله أصح تخريج والغرض نقض قول من ادعى الإجماع في ذلك ولتقرير هذه المسألة موضع آخر.
(24/106)
ص -625- الوجه العاشر: أنه من المحال أن تجمع الأمة على لزوم الثلاث وفيها حديثان صحيحان صريحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا معارض لهما ولا ناسخ وحديث آخر ظاهر في عدم الوقوع.
الحديث الأول: حديث أبي الصهباء عن ابن عباس وقد رواه مسلم في صحيحه الحديث الثاني قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي حدثنا محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف طلقها قال طلقتها ثلاثا قال في مجلس واحد قال نعم قال فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت قال فرجعها".
(24/107)
ص -626- قال وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر ورواه محمد بن عبدالواحد المقدسي في مختارته التي هي أصح من صحيح الحاكم فهذا من رواية عكرمة عن ابن عباس والأول من رواية طاوس وكان طاوس وعكرمة يقولان هي واحدة.
قال إسماعيل بن إبراهيم ثنا أيوب عن عكرمة
(24/108)
ص -627- إذ قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة قال أبو داود وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهؤلاء رواة الحديث عن ابن عباس قد أفتوا به ومنهم محمد بن إسحاق كان يفتي بأن من قال أنت طالق ثلاثا فهي واحدة.
وكان يقول من جهل السنة فيرد إليها وهذا عين الفقه فإن العامي الجاهل إذا جهل سنة الطلاق وطلق رد طلاقه إلى السنة لقوله كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد.
وأما الحديث الظاهر في عدم لزوم الثلاث فهو حديث محمود بن لبيد قال أخبر النبي عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان
(24/109)
ص -628- ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" حتى قام رجل فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أقتله رواه النسائي ولم يقل إنه أجازه عليه بل الظاهر برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقرب من القطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز حكما تلاعب موقعه بكتاب الله بل هو أشد ردا له وإبطالا والله المستعان.
فصل
ومن ذلك حكاية من حكى الإجماع على وقوع الطلاق في الحيض بحسب ما بلغه والمسألة مسألة نزاع لا مسألة إجماع فصح عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا تعتد بذلك وصح عن طاوس أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول وجه الطلاق أن يطلقها
(24/110)
ص -629- طاهرا من غير جماع أو إذا استبان حملها وصح عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال لا يعتد بها قال أبو محمد بن حزم ويكفي من هذا كله المسند البين الثابت الذي خرجه أبو داود السجستاني قال حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبدالرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبدالرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال ابن عمر طلق ابن عمر امرأته وهي
(24/111)
ص -630- حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبدالله بن عمر طلق امرأته وهي حائض قال عبدالله فردها علي ولم يرها شيئا وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك" وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق1]
قال وهذا إسناد في غاية الصحة لا يحتمل التوجيهات والكلام على هذا الحديث وعلى الحديث
(24/112)
ص -631- الآخر أرأيت إن عجز واستحمق وبيان عدم التعارض بينهما له موضع آخر والمقصد أن المسألة من مسائل النزاع لا من مسائل الإجماع فأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقع الطلاق في زمن الحيض اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وبالله التوفيق فلنرجع إلى ما كنا فيه وهو المقصود بذكر هذا الفصل وهو الوهم الواقع بظن الإجماع فيما فيه النزاع حتى يقدم على مقتضى الحديث أو مقتضى الدليل ثم يسلك من ظن الإجماع في تلك الأدلة مسلك التأويل فيكون الحامل له على التأويل ما ظنه من الإجماع فإذا تبين الخلاف الثابت في المسألة لم يبق للتأويل بما يخالف الظاهر مساغ وبالله التوفيق.
(24/113)
الصواعق المرسلة - الجزء الثاني
الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان
(25/1)
ص -632- الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان
وهي قولهم: إن كلام الله وكلام رسوله أدلة لفظية لا تفيد علما ولا يحصل منها يقين
وقولهم: إن آيات الصفات وأحاديث الصفات مجازات لا حقيقة لها
وقولهم: إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي رواها العدول وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد العلم وغايتها أن تفيد الظن
وقولهم: إذا تعارض العقل ونصوص الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي
فهذه الطواغيت الأربع هي التي فعلت بالإسلام ما فعلت وهي التي محت رسومه وأزالت معالمه وهدمت قواعده وأسقطت حرمة النصوص من القلوب ونهجت طريق الطعن فيها لكل زنديق وملحد فلا يحتج عليه
(25/2)
ص -633- المحتج بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله إلا لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت واعتصم به واتخذه جنة يصد به عن سبيل الله والله تعالى بحوله وقوته ومنه وفضله قد كسر هذه الطواغيت طاغوتا طاغوتا على ألسنة خلفاء رسله وورثة أنبيائه فلم يزل أنصار الله ورسوله يصيحون بأهلها من أقطار الأرض ويرجمونهم بشهب الوحي وأدلة المعقول ونحن نفرد الكلام عليها طاغوتا طاغوتا
الطاغوت الأول: قولهم نصوص الوحي أدلة لفظية وهي لا تفيد اليقين
قال متكلمهم مسألة الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقن أمور عشرة عصمة رواة تلك الألفاظ وإعرابها وتصريفها وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والتخصيص بالأشخاص والأزمنة وعدم الإضمار والتقديم والتأخير والنسخ وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح عليه إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح
(25/3)
ص -634- في العقل المستلزم للقدح في النقل لافتقاره إليه فإذا كان المنتج ظنيا فما ظنك بالنتيجة
قال شيخ الإسلام والجواب عن هذا من وجوه
أحدها: أنا لا نسلم أنه موقوف على هذه المقدمات العشر بل نقول ليس موقوفا على ما به يعرف مراد المتكلم فإن مراد القائل بقوله الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين أنه لا يعلم بها مراد المتكلم فأما كون مراده مطابقا للحق فذاك مبني على ثبوت صدقه وعلمه وليس مرادهم هذا وإن أرادوا ذلك دون الأول فهو موقوف على ثبوت عصمة المتكلم ومعرفة صدقه فقط فمن عرف أن الرسول أراد هذا المعنى وعرف أنه صادق حصل له العلم اليقيني
والمقدمة الثانية: إيمانية فإن كل من شهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنه خبر مطابق لمخبره فلا يجوز عليه الإخبار بما لا يطابق مخبره وأما المقدمة الأولى فتعرفها علماء أمته وورثته وخلفاؤه قلت هاهنا أمران أحدهما اليقين بمراد المتكلم والثاني اليقين بأن ما أراده هو الحق فقول القائل كلام
(25/4)
ص -635- الله ورسوله لا يفيد اليقين يحتمل أن يريد به مجموع الأمرين أي لا يفيد علما بمراده ولو أفاد علما بالمراد لم يفد علما بكون ذلك المراد مطابقا للحق في نفس الأمر ويحتمل أن يريد به المعنى الأول فقط وأنه لو حصل لنا اليقين بمراده لحصل لنا اليقين بكونه حقا في نفس الأمر ويحتمل أن يريد به المعنى الثاني فقط وهو أنه لو حصل اليقين بمراده لم يحصل اليقين بكونه مطابقا للحق فإن ذلك لا يعلم إلا بأدلة والمعقول لا يعلم بمجرد الخبر فهذه ثلاثة احتمالات فإن أراد المعنى الأول أو الثالث كان ذلك قدحا في الإيمان به وتجويز الكذب عليه وأمثال ذلك مناف للجزم بتصديقه وإن أراد المعنى الثاني وحده وهو أنها لا يحصل منها اليقين بمراده ولو حصل ذلك منها لحصل اليقين بكونه حقا فهذا وإن لم يقدح في تصديقه فهو قادح في تحكيمه والتحاكم إليه والاهتداء بكلامه موجب لعزله عن ذلك والإعراض عنه لأن التحاكم إلى من لا يفيدك كلامه علما ولا يقينا لا يحصل به المقصود.
فإذا انضم إلى هذه المقدمة أن النقل إذا عارض العقل وجب تقديم العقل كمل عزل الوحي واستحكم الإعراض عنه في باب معرفة الله عز وجل واسمائه وصفاته وأفعاله فنقول معرفة مراد المتكلم تحصل بالنقل المتواتر كما حصل العلم بأنه قال ذلك اللفظ بالنقل المتواتر فإنا نعلم أن قوله {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران97]
(25/5)
ص -636- متواتر نقل لفظه ونقل معناه عن الرسول ونعلم أن المراد بالله رب العالمين وبالناس بنو آدم وبالبيت الكعبة التي يحجها الناس بمكة كما علمنا بالمتواتر أن الرسول بلغ هذا الكلام عن الله وكذلك نعلم بالتواتر أن قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة185] المراد به هذا الشهر الذي بين شعبان وشوال وأن القرآن هذا الكتاب الذي بين دفتي المصحف وكذلك عامة ألفاظ القرآن نعلم قطعا مراد الله ورسوله منها كما نعلم قطعا أن الرسول بلغها عن الله فغالب معاني القرآن معلوم أنها مراد الله خبرا كانت أو طلبا بل العلم بمراد الله من كلامه أوضح وأظهر من العلم بمراد كل متكلم من كلامه لكمال علم المتكلم وكمال بيانه وكمال هداه وإرشاده وكمال تيسيره للقرآن حفظا وفهما عملا وتلاوة فكما بلغ الرسول ألفاظ القرآن للأمة بلغهم معانيه بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظم من مجرد تبليغ ألفاظه ولهذا وصل العلم بمعانيه إلى من لم يصل إليه حفظ ألفاظه والنقل لتلك المعاني أشد تواترا وأقوى اضطرارا فإن حفظ المعنى أيسر من حفظ اللفظ وكثير من الناس يعرف صورة المعنى ويحفظها ولا يحفظ اللفظ والذين نقلوا الدين عنه علموا مراده قطعا لما تلا عليهم من تلك الألفاظ.
ومعلوم أن المقتضى التام لفهم الكلام الذي بلغهم إياه
(25/6)
ص -637- قائم وهم قادرون على فهمه وهو قادر على إفهامهم وإذا حصل المقتضى التام لزم وجود مقتضاه وبالجملة فالأدلة السمعية اللفظية قد تكون مبنية على مقدمتين يقينتين
إحداهما: أن الناقلين إلينا فهموا مراد المتكلم
والثانية: أنهم نقلوا إلينا ذلك المراد كما نقلوا اللفظ الدال عليه وكلا المقدمتين معلومة بالاضطرار فإن الذين خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء والغسل وغيرها من ألفاظ القرآن في سائر الأنواع من الأعمال والأعيان والأزمنة والأمكنة وغيرها يعلم بالاضطرار أنهم فهموا مراده من تلك الألفاظ التي خاطبهم بها أعظم من حفظهم لها وهذا مما جرت به العادة في كل من خاطب قوما بخطبة أو دارسهم علما أو بلغهم رسالة وإن حرصه وحرصهم على معرفة مراده أعظم من حرصهم على مجرد حفظ ألفاظه ولهذا يضبط الناس من معاني المتكلم أكثر مما يضبطونه من لفظه فإن المقتضى لضبط المعنى أقوى من المقتضى لحفظ اللفظ لأنه هو المقصود واللفظ وسيلة إليه وإن كانا مقصودين فالمعنى أعظم المقصودين والقدرة عليه أقوى فاجتمع عليه قوة الداعي وقوة القدرة وشدة الحاجة فإذا كانوا قد نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول مبلغا لها عن الله
(25/7)
ص -638- وألفاظه التي تكلم بها يقينا فكذلك نقلهم لمعانيها فهم سمعوها يقينا وفهموها يقينا ووصل إلينا لفظها يقينا ومعانيها يقينا وهذه الطريقة إذا تدبرها العاقل علم أنها قاطعة وأن الطاعن في حصول العلم بمعاني القرآن شر من الطاعن في حصول العلم بألفاظه ولهذا كان الطعن في نقل بعض ألفاظه من فعل الرافضة وأما الطعن في حصول العلم بمعانيه فإنه من فعل الباطنية الملاحدة فإنهم سلموا بأن الصحابة نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول وأن القرآن منقول عنه لكن ادعوا أن لها معاني تخالف المعاني التي يعلمها المسلمون وتلك هي باطن القرآن وتأويله. وقول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين دهليز
(25/8)
ص -639- إلى مذهب هؤلاء ومرقاة إليه لكن الفرق بينهما أنه يقول لا أعلم مراد المتكلم بها وهم يقولون مراده هذه التأويلات الباطنة.
وما جاء به الرسول نوعان طلب وخبر فالطلب يقولون المراد به تحصيل الأخلاق التي تستعد بها النفس لنيل العلوم العقلية فإذا حصلت لها تلك المعارف لم يكن لاشتغالها بتلك الأسباب التي أمرت بها فائدة فسقط عنها ما يجب على غيرها من النفوس الجاهلة ويباح لها ما يحرم على غيرها وعند هؤلاء مقصود الشرائع تعديل النفوس بالأخلاق التي تعدها لإدراك العلوم.
وأما الأخبار فعقلاؤهم ورؤوسهم يعلمون قطعا أن الرسل إنما أرادت إفهام الخلق ظواهرها وما دلت عليه لكن لا حقيقة لها في نفس الأمر والرسل كانت تعلم ذلك لكن خيلوا إلى الناس ما ينتفعون به ويكونون به أدعى إلى الانقياد ولم يكن ذلك إلا بإظهار ما لا حقيقة له وذلك سائغ للمصلحة إذ كان فهم الجمهور عندهم للحقائق في نفس الأمر يوجب انحلالهم وانهماكهم في الشهوات.
وطائفة منهم تزعم أن الرسل إنما قصدت إفهام تلك التأويلات لكن أهل الظاهر غلظ حجابهم وكثفت أفهامهم عن إدراكها فوقعوا بسبب قصور أفهامهم في العناء والمشقة وتحمل أعباء التكاليف وهؤلاء وضعوا لهم قانونا في تأويل الأمر والنهي والخبر كما وضعت الجهمية
(25/9)
ص -640- والقدرية لهم قانونا في تأويل آيات الصفات وأخبارها واتفقت الطائفتان على تقديم ما ظنوه من العقليات على نصوص الوحي وأنها لا يستفاد منها علم أصلا ولا يعرف أحد من فرق الإسلام قبل ابن الخطيب وضع هذا الطاغوت وقرره وشيد بنيانه وأحكمه مثله بل المعتزلة والأشعرية والشيعة والخوارج وغيرهم يقولون بفساد هذا القانون وإن اليقين يستفاد من كلام الله ورسوله وإن كان بعض هذه الطوائف يوافقون صاحب هذا القانون في بعض المواضع فلم يقل أحد منهم قط إنه لا يحصل اليقين من كلام الله ورسوله البتة.
(25/10)
ص -641- فصل
الطريق الثاني: في إبطال هذا الأصل أن يقال من المعلوم أن دلالة الأدلة اللفظية لا تختص بالقرآن والسنة بل جميع بني آدم يدل بعضهم بعضا بالأدلة اللفظية والإنسان حيوان ناطق فالنطق ذاتي له وهو مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش وحده كما يعيش الوحش بل لا يمكنه أن يعيش إلا مع بني جنسه فلا بد أن يعرف بعضهم مراد بعض ليحصل التعاون فعلمهم الحكيم العليم تعريف بعضهم بعضا مراده بالألفاظ كما قال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن4 , 1] وقال تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة31] وقال {عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق5] فكانت حكمة ذلك التعليم تعريف مراد المتكلم فلو لم يحصل له المعرفة كان في ذلك إبطال لحكمة الله وإفساد لمصالح بني آدم وسلب الإنسان خاصيته التي ميزه بها على سائر الحيوان وهذه الطريق يستدل بها من وجوه
(25/11)
ص -642- أحدها: أن هذا المقصود ضروري في حياة بني آدم فلا بد من وجوده فلو لم تفد الأدلة اللفظية العلم بمراد المتكلم لم يعش بنو آدم واللازم منتف فالملزوم مثله
الثاني: أنا نعلم قطعا أن جميع الأمم يعرف بعضهم مراد بعض بلفظه ويقطع به ويتيقنه فقول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين قدح في العلوم الضرورية التي اشترك الناس في العلم بها.
الثالث: أن معرفة الناس بمراد المتكلم منهم بكلامه أعظم من معرفتهم عامة العلوم العقلية فمعرفتهم مراد المتكلم لهم بكلامه أتم وأقوى من معرفتهم بتلك القوانين التي وضعها أربابها للقدح في إفادة الخطاب لليقين.
الرابع: أن الطفل أول ما يميز يعرف مراد من يربيه بلفظه قبل أن يعرفه شيئا من العلوم الضرورية فلا أقدم عنده ولا اسبق من تيقنه لمراد من يخاطبه بلفظه فالعلم بذلك مقدم على سائر العلوم الضرورية فمن جعل العقليات تفيد اليقين والسمعيات لا تفيد معرفة مراد المتكلم فقد قلب الحقائق وناقض الفطرة وعكس الواقع.
(25/12)
ص -643- الخامس: أن كل إنسان يدل غيره بالأدلة اللفظية على ما يعرفه ويعرف مراد غيره بالأدلة اللفظية وأما الاستدلال بالعقليات الكلية فلا يعرفه إلا بعض الناس وما يعرفه كل أحد ويتيقنه فهو أظهر مما لا يعرفه إلا بعض الناس.
السادس: أن التعريف بالأدلة اللفظية أصل للتعريف بالأدلة العقلية فمن لم يكن له سبيل إلى العلم بمدلول هذه لم يكن له سبيل إلى العلم بمدلول تلك بل العلم بمدلول الأدلة اللفظية أسبق فإنه يوجد في أول تمييز الإنسان وحينئذ فالقدح في حصول العلم بمدلول الأدلة اللفظية قدح في حصول العلم بمدلول الأدلة العقلية بل هي أصل العلم بها فإذا بطل الأصل بطل فرعه يوضحه:
الوجه السابع: وهو أن الإنسان في فهمه وإفهامه للدليل العقلي محتاج إلى معرفة مراد المخبر به الذاكر له لمن يخاطبه فإذا لم يحصل له علم بمراده من الدليل فكيف يحصل له علم بالمدلول.
الوجه الثامن: أن تعليم الأدلة اللفظية يحسنه كل أحد فما من أحد إلا ويمكنه أن يعرف غيره لغته ويعرفه ما يعرفه بالأدلة اللفظية وأما تعليم الدلالة العقلية فلا يحسنه كل أحد.
(25/13)
ص -644- الوجه التاسع: أن الله سبحانه هدى البهائم والطير أن يعرف بعضها بعضا مرادها بأصواتها كما يشاهد في أجناس الحيوان والطيور فالديك يصوت فيعرف الدجاج مراده والفرس يصهل فيعرف الخيل مراده والكلب ينبح فتعرف الكلاب مراده والهر تنوء فتعرف أولادها مرادها والدجاجة تعرف أفراخها مرادها بصوتها وهذا من تمام عناية الخالق سبحانه بخلقه وهدايته العامة كما قال موسى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه50] وقال تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى3-1]
فكيف لا يعلم الآدميون مراد بعضهم من بعض وخطابهم بألفاظهم ولا يجزمون به.
الوجه العاشر: أن أبلد الناس وأبعدهم فهما يعلم مراد أكثر من يخاطبه بالكلام الركيك العادم للبلاغة والفصاحة فكيف لا يعلم أذكى الناس وأصحهم أذهانا وأفهاما مراد المتكلم بأفصح
(25/14)
ص -645- الكلام وأبينه وأدله على المراد ويحصل لهم اليقين بالعلم بمراده وهل ذلك إلا من أمحل المحال.
الوجه الحادي عشر: أن هذا يستلزم الطعن والقدح في بيان المتكلم وفصاحته أو في فهم السامع وذهنه أو فيهما معا فإن عدم العلم بمراده إن كان لتقصير في بيانه كان ذلك قدحا فيه وإن كان لقصور فهم السامع كان كذلك فإذا كان المتكلم تام البيان والمخاطب تام الفهم فكيف يتخلف العلم عنه بمراده.
الوجه الثاني عشر: أنه إذا كان التفاهم والعلم بمراد الحيوان من غيره حاصلا للحيوانات فما الظن بأشرف أنواعها وهو الإنسان فما الظن بأشرف هذا النوع وهم العقلاء المعتنون بالبيان والإيضاح فما الظن بالأنبياء المخصوصين من العلم والبيان والأفهام بما ليس مثله لسواهم فما الظن بأفضل الأنبياء وأعلمهم وأكملهم بيانا وأتمهم فصاحة وأقدرهم على التعبير عن المعنى باللفظ الذي لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ولا يوهم غيره وأحرصهم على تعليم الأمة وتفهيمهم وأصحابه أكمل الأمم عقلا وفهما وفصاحة وحرصا على فهم مراده فكيف لا يكونون قد تيقنوا مراده بألفاظه وكيف لا يكون التابعون لهم بإحسان قد تيقنوا مرادهم مما بلغوهم إياه عن نبيهم ونقلوه إليهم.
(25/15)
ص -646- الوجه الثالث عشر: أنا نعلم بالضرورة أن شيوخنا الذين كانوا يخاطبوننا كانوا يعرفونا مرادهم بألفاظهم وقد عرفنا مرادهم يقينا وهكذا نحن فيمن نعلمه ونخاطبه وهم كانوا أفضل منا وأكمل علما وتعليما ومن قبلهم كانوا أفضل منهم وأكمل علما وتعليما ومن قبلهم كذلك وهلم جرا إلى أوائل هذه الأمة فكيف يكون هؤلاء كلهم لم يعلموا مراد الله ورسوله من كلامه ولا حصل لهم يقين بمعرفة مراده من ألفاظه؟ ومن تدبر هذا أو تصوره تبين له أن قول القائل الأدلة اللفظية التي جاء بها الرسول لا تفيدنا علما ولا يقينا من أعظم أنواع السفسطة وأكثر أسباب الزندقة وأن هؤلاء
(25/16)
ص -647- شر من اللاأدرية وشر من الباطنية
الوجه الرابع عشر: أن دلالة الأدلة اللفظية على مراد المتكلم أقوى من دلالة الأدلة العقلية على الحقائق الثابتة كما تقدم تقريره فكيف بدلالة المقدمات المشتبهة التي غايتها أن يكون فيها حق وباطل وليس مع أصحابها إلا إحسان الظن بمن قالها فإذا طولبوا بالبرهان على صحتها قالوا هكذا قال العقلاء وهذا أمر قد صقلته أذهانهم وقبلته عقولهم فبين دلالة الأدلة اللفظية على مراد المتكلم ودلالة هذه المقدمات على الحقائق تفاوت عظيم فكيف تفيد هذه اليقين دون تلك وهل هذا إلا قلب للفطر وتعكيس للأذهان.
الوجه الخامس عشر: أن دلالة قول الرسول على مراده أكمل من دلالة شبهات هؤلاء العقلية على معارضته بما لا نسبة بينهما فكيف تكون شبهاتهم تفيد اليقين وكلام الله ورسوله لا يفيد اليقين
(25/17)
ص -648- الوجه السادس عشر: أنك إذا تأملت العقليات التي زعموا أنها تفيد اليقين وقدموها على كلام الله ورسوله وجدتها مخالفة لصريح المعقول وقد اعترفوا أنها مخالفة لظاهر المنقول وهذا لا يعرف إلا بالامتحان كحكم عقولهم بأن العرض لا يبقى زمانين وأن الأجسام كلها متماثلة فجسم النار مساو لجسم الماء في الحقيقة وإنما اختلفا بالأعراض وجسم البول مساو لجسم المسك بالحقيقة وإنما اختلفا في أعراضهما وحكم عقولهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وأن ذلك المصدر لا يسمى باسم ولا يوصف بصفة ولا له ماهية غير الوجود المطلق ثم الذي صدر عنه إن وجب أن يكون كذلك كان مصدره أيضا كذلك ولم يكن بالعالم تكثر وإن كان فيه نوع تكثر فقد صدر عنه أكثر من واحد ومثل حكمهم بأن العاقل والمعقول والعقل شيء واحد فالمبدأ الأول عاقل ومعقول وعقل ومثل حكمهم بأن في الخارج كليات لا تتقيد بقيد ولا تتشخص بتشخيص ولا تتعين بتعيين وليست داخلة العالم ولا خارجة وأنها جزء من هذه المعينات ومثل حكمهم بأن ذات الرب تعالى مع كونها خارجة الذهن فليست خارجة العالم ولا داخلة فيه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه ولا حالة فيه ولا مباينة له ومثل حكمهم
(25/18)
ص -649- بأن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل في الأزل وحصول المقدور فيه محال ثم انتقل الفعل من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي فلا يحدد بسبب أصلا وحدث من غير تجدد أمر يقتضي حدوثه بل حال الفاعل قبله ومعه وبعده واحدة ومثل حكمهم بأن كلامه معنى واحد لا ينقسم ولا يتجزأ ولا له بعض ولا كل وأن الأمر هو عين النهي وهما عين الخبر والاستخبار فالكل حقيقة واحدة وأن الحواس والإدراكات يصح تعلقها بكل موجود فتؤكل الأصوات وتشم وتذاق وتسمع الروائح والطعوم إلى أضعاف أضعاف ذلك من خواص علومهم التي جعلوها قواطع عقلية تفيد اليقين وكلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تفيد اليقين فقد تبين أن ما نفى عنه هؤلاء اليقين من أعظم ما يفيد اليقين وما أثبتوا له اليقين أبعد شيء عن اليقين.
الوجه السابع عشر: أن هذا من أنواع السفسطة بل هو شر أنواعها فإن أنواعها ثلاثة
أحدها: التجاهل وهو لا أدري وأصحابه يسمون اللاأدرية
الثاني: النفي والجحود الثالث قلب الحقائق وهو جعل الموجود معدوما
(25/19)
ص -650- والمعدوم موجودا إما في نفس الأمر وإما بحسب الاعتقاد والذي يدعي قلب الحقائق في نفس الأمر أشد سفسطة ممن يدعي أنها تبع لاعتقاد الإنسان فيها فإذا جعلت الأدلة العقلية التي هي من جنس ما تقدم وغيره تفيد اليقين بمدلولاتها الخارجية والأدلة اللفظية التي أعلاها كلام الله ورسوله لا تفيد اليقين كان ذلك من أعظم أنواع السفسطة وأكثر أسباب الزندقة فإن قلت فهم لم يجعلوا كل دليل عقلي يفيد اليقين بل ما كانت مقدماته يقينية وتأليفه صحيحا يوضحه.
الوجه الثامن عشر: إن قول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين إما أن يريد به نفي العموم أو عموم النفي فإن أراد نفي العموم لم يفده شيئا فإن عاقلا لا يدعي أن كل دليل لفظي يفيد اليقين حتى ينصب معه الخلاف ويحتج عليه وإن أراد به عموم النفي كان هذا مكابرة للعيان وبهتا ومجاهرة بالكذب والباطل.
(25/20)
ص -651- الوجه التاسع عشر: أنا نعلم بالاضطرار أن مصنفي العلوم على اختلاف أنواعها علم الناس مرادهم من ألفاظهم علما يقينيا وإنما يقع الشك في قليل من كلامهم ويقل ذلك ويكثر بحسب القابل وقوة إدراكه وجودة تصوره وإلفه لكلامهم وغرائبه منه ومعلوم قطعا أن علم الرسول بما يقوله وحرصه على إفهامه وتعليمه وشدة بيانه له وحرص أمته على فهمه أعظم من حرص هؤلاء المصنفين ومن يتعلم منهم فإذا حصل لأولئك اليقين بمعرفة مراد أرباب التصانيف فحصول اليقين لأهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله أولى وأحرى.
وليس الكلام في هذا المقام في تثبيت نبوته بل الكلام مع من يقر بنبوته ويشك في معرفة مراده بألفاظه فيقال لا ريب عند كل مؤمن بالله ورسوله أنه كان أعلم الخلق بما يخبر به وما يأمر به فهو أعلم الخلق بما أخبر به عن الله واليوم الآخر وأعلمهم بدينه وشرعه الذي شرعه لعباده وأنه كان أفصح الأمة وأقدرهم على البيان وكشف المعاني فإنه عربي والعرب أفصح الأمم وقرشي وقريش أفصح العرب وهو في نفسه كان أفصح قريش على الإطلاق وقد أقر له أعداؤه بذلك ولهذا قال أنا أفصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر وقد تكلم
(25/21)
ص -652- الناس في فصاحة الحاضرة والبادية وفي شعر الحاضرة والبادية ورجح هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه ورسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الله له كمال فصاحة البادية والحاضرة ومن تدبر كلامه الذي تكلم به والقرآن الذي بلغه عن الله وأخبر أن الله تكلم به وجد التفاضل بين كلامه هو عليه السلام وكلام غيره من البشر ثم من المعلوم بالاضطرار من حاله أنه كان أحرص الناس على هدى أمته وتعليمهم والبيان لهم فاجتمع في حقه كمال القدرة وكمال الداعي وكمال العلم فهو أعلم الناس بما يدعو إليه وأقدرهم على أسباب الدعوة وأعظمهم رغبة وأتمهم نصيحة فإذا كان من هو دونه بمراتب لا تحصى في كل صفة من هذه الصفات قد بين مراده بلفظه كان هو أحق وأولى من كل وجه أن يكون قد استولى على الأمد الأقصى من البيان.
فمن قال إن اليقين لا يحصل بألفاظه ولا يستفاد العلم من كلماته كان قدحه في بيانه أعظم من قدحه في مراد سائر العلماء المصنفين ومن قدحه في حصول العلم واليقين بمرادها وإلا كان قدحه في مراد عامة الآدميين أقرب وقدحه
(25/22)
ص -653- في معرفته مراد البهائم بلغاتها أقرب ومن كان قوله مستلزما لهذه اللوازم كان قوله من أفسد أقوال بني آدم وكان قوله قدحا في العقليات والشرعيات والضروريات.
الوجه العشرون: إنه من المعلوم أن الصحابة سمعوا القرآن والسنة من النبي وقرأوه وأقرأوه من بعدهم وتكلم العلماء في معانيه وتفسيره ومعاني الحديث وتفسيره وما يتعلق بالأحكام ومالا يتعلق بها وهم مجمعون على غالب معاني القرآن والحديث ولم يتنازعوا إلا في قليل من كثير لا سيما القرون الأولى فإن النزاع بينهم كان قليلا جدا بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه وكان النزاع في التابعين أكثر وكلما تأخر الزمان كثر النزاع وحدث من الاختلاف بين المتأخرين ما لم يكن في الذين قبلهم فإن القرآن تضمن الأمر بأوامر ظاهرة وباطنة والنهي عن مناه ظاهرة وباطنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين مقادير الصلوات ومواقيتها وصفاتها والزكوات ونصبها ومقاديرها وكذلك سائر العبادات وعامة هذه الأمور نقلتها الأمة نقلا عاما متواترا خلفا عن سلف وحصل العلم الضروري للخلق بذلك كما حصل لهم العلم الضروري بأنه بلغهم ألفاظها وأنه قاتل المشركين وأهل الكتاب وأنه بعث بمكة
(25/23)
ص -654- وهاجر إلى المدينة وأنه دعا الأمة إلى أن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن هذا القرآن كلام الله الذي تكلم به لا كلامه ولا كلام مخلوق وأنه ليس قول البشر وأنه علمهم أن ربه فوق سمواته على عرشه وإن الملك نزل من عنده إليه ثم يعرج إلى ربه وأن ربه يسمع ويرى ويتكلم وينادي ويحب ويبغض ويرضى ويغضب وأن له يدين ووجها وأنه يعلم السر وأخفى فلا يخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض وأنه يقيمهم من قبورهم أحياء بعدما مزقهم البلى إلى دار النعيم أو إلى الجحيم فالعلم الضروري بأنه جاء بذلك وأراده كالعلم الضروري بوجوده ومبعثه ومخرجه وقتاله لمن خالفه فالقدح فيما أخبر به من ذلك وأنه لا يفيد اليقين كالقدح في مخبر الأخبار المتواترة وأنه لا يفيد اليقين.
الوجه الحادي والعشرون: إن كل صنف من أصناف العلماء تكفلوا بعلم من العلوم المنقولة عن الرسول متفقون على أكثر علمهم مسائله ودلائله.
فالفقهاء متفقون على غالب الشريعة عامها وخاصها وهم متفقون على أكثر خاصها الذي لا يعرفه العامة وإذا كانوا قد عرفوا مراده بهذا فكيف لا يعرفون مراده بالذي هو أظهر وأشهر وأكثر نصوصا وأعظم بيانا.
(25/24)
ص -655- والمفسرون فسروا القرآن واتفقوا على المراد منه في غالب القرآن ونزاعهم في القليل من ذلك وأكثره عند التحقيق ليس نزاعا في نفس الأمر بل هو اختلاف في التعبير واختلاف تمثيل وتنويع لا اختلاف تناقض ولا تضاد.
وأهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جدا وهم متفقون على لفظها ومعناها كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه وهذا مما ينفرد بعلمه الخاصة وهم القليل من الناس وهم مع ذلك يعلمون بالاضطرار بطلان تأويل القرآن والحديث بما يتأوله به الفلاسفة والقرامطة والجهمية ويعلمون أنه خلاف مراد الرسول بالضرورة فكيف بما اشتركت الأمة عامتها وخاصتها في نقله قرنا بعد قرن فكيف لا يعرفون مراد الرسول منه يقينا فإن الأمة كلها تنقل عن من قبلها ومن قبلها عمن قبلها حتى ينتهي الأمر إلى الرسول أن الله يرى ويسمع ويتكلم ويعلم وأنه فوق السموات السبع على العرش وأنه يرى يوم القيامة جهرة وعلم الأمة بمراد الرسول من ذلك فوق علمهم بمراده من أحاديث الشفعة والربا والحيض والفرائض ونحوها فكيف يقال حصل لهم اليقين بمراده من ذلك دون هذا وهل هذا إلا من أقبح المكابرة.
(25/25)
ص -656- الوجه الثاني والعشرون: أن يقال من المعلوم بالضرورة أن المخاطبين أولا بالقرآن والسنة لم يتوقف حصول اليقين لهم بمراده على تلك المقدمات العشر التي ذكروها ولا على شيء منها أما عصمة رواة اللغة فإنهم خوطبوا شفاها فلم يحتاجوا إلى واسطة في نقل الكلام فضلا عن واسطة في نقل اللغة ولا إلى قاعدة ينفون بها نفي احتمال اللفظ لغير المعنى الذي قصده المتكلم فإنهم علموا مراده بالضرورة وإذا كانوا عالمين بمراده بالضرورة مع علمهم بصدقه امتنع عندهم أن يكون في نفس الأمر معارض ينافي مراده.
وقد قال أبو عبدالرحمن السلمي من كبار التابعين حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا وكان يمكث أحدهم في السورة مدة حتى يتعلمها وقد أقام ابن عمر على تعلم سورة البقرة ثماني
(25/26)
ص -657- سنين وقال أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا ولم يتوقف معرفة مراد الله ورسوله من كلامه عندهم على شيء من تلك الأمور العشرة ولا تابعي التابعين ولا أئمة الفقه المتبوعين ولا أئمة الحديث ولا أئمة التفسير حتى نبغت قلف الأذهان عجم القلوب فزعموا أنهم لا يحصل لهم اليقين بمراده إلا بعد هذه الأمور ثم قالوا ولا سبيل إلى العلم بانتفائه إذ غاية ما يقدر بعد البحث والطلب التام عدم العلم بها ولا يلزم من عدم العلم عدم المعلوم فلا سبيل لنا إلى العلم بمراد الرسول البتة وطلبت نفوسهم ما يحصل لها به العلم فعادوا إلى العقول فوجدوها قد تصادمت فيما تقضي به من جائز على الله وواجب ومستحيل أعظم تصادم فخرجوا عن السمع الصحيح ولم يظفروا بدلالة العقل الصريح ففاتهم العقل والسمع جميعا.
الوجه الثالث والعشرون: إن جميع ما ذكروه من الوجوه العشرة يرجع إلى حرف واحد وهو احتمال اللفظ لمعنى آخر غير ما يظهر من الكلام فإنه لا ينازع عاقل أن غالب ألفاظ النصوص لها ظواهر هي موضوعة لها ومفهومة عند الإطلاق منها لكن النزاع أن
(25/27)
ص -658- اعتقاد ذلك المعنى يقيني لا يحتمل غيره أو ظني يحتمل غيره فالمدار كله على احتمال إرادته معنى آخر غير الظاهر وعدم ذلك الاحتمال ومعلوم أن الطرق التي يعلم بها انتفاء إرادته معنى يناقض ذلك المعنى طرق كثيرة لا يحتاج شيء منها إلى ما ذكروه بل قد يعلم السامع انتفاء معنى يناقض المعنى الذي ذكره المتكلم ضرورة وتارة يغلب على ظنه قرينة من الضرورة وتارة يحصل له ذلك ظنا وتارة لا يفهم مراده وتارة يشتبه عليه المراد بغيره وهذا القطع والظن والشك له أسباب غير الأمور التي ذكروها فقد يكون سبب الاحتمال كون السامع لم يألف ذلك اللفظ في لغة قومه أو أن له في لغتهم معنى غير معناه في لغة المتكلم أو أن اللفظ قد اقترنت به قرينة يقطع السامع معها بالمراد فخفيت عليه أو ذهل عنها ولو نبه عليها لتنبه كما اقترن بلفظ المفاداة في أنه الخلع تقدم طلقتين وتأخر طلقة ثالثة ووقع بين الطلقتين والطلقة الثالثة ففهم جمهور
(25/28)
ص -659-
الصحابة منه أنه غير محسوب من الثلاث واحتج بذلك ابن عباس وغيره وقد تكون القرينة منفصلة في كلام آخر بحيث يجزم السامع بالمراد من مجموع الكلام فيخفى أحدهما على السامع أو لا يتفطن له فلا يعرف المراد فهذا قد يقع لأعلم الناس بخطابه وهو من لوازم الطبيعة الإنسانية ولكنه قليل جدا بالإضافة إلى ما يتقنونه من مراده لا نسبة له إليه فلا يجوز أن يدعي لأجله أن كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين بمراد ولا سبيل لنا إلى اقتباس العلم واليقين منه.
الوجه الرابع والعشرون: إن قول القائل الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند أمور عشرة نفي عام وقضية سالبة كلية فإن أراد قائلها أن أحدا من الناس لا يعلم مراد متكلم ما يقينا إلا عند هذه الأمور العشرة فكذب ظاهر وإن أراد به أنه لا يعلم أحد المراد بألفاظ القرآن والسنة إلا عند هذه الأمور ففرية ظاهرة أيضا فإن الصحابة كلهم من أولهم إلى آخرهم والتابعين كلهم وأئمة الفقه كلهم وأئمة التفسير كلهم لم يتوقف علمهم بمراد الرسول على هذه الأمور بل لم يخطر ببالهم ولم يذكرها أحد منهم في كلامه.
وإن أراد أن من بعد الصحابة لا يعرف مراد الرسول
(25/29)
ص -660- إلا بهذه الأمور العشرة فكذب أيضا فإن التابعين ومن بعدهم جازمون متيقنون لمراده أعظم تيقن بل نحن ونسبتنا إليهم أقل نسبة متيقنون لمراد الله ورسوله من كلامه يقينالا ريب فيه وجازمون به جزما لا شك فيه ومن قبلنا كان أعلم منا وأعظم جزما ومن قبلهم كان كذلك فكيف يستحل الرجل أن يحكم حكما عاما كليا أن أحدا لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله وإن أراد به أنها لا تفيد اليقين في شيء وتفيده في شيءآخر قيل له هذا لا يفيدك شيئا حتى تبين أن محل النزاع بينك وبين أهل السنة وأنصار الله ورسوله من النوع الذي لا يفيد اليقين فهم يزعمون أن استفادتهم اليقين منه أعظم من استفادتهم اليقين من كلام كل متكلم وليس لك أن تحكم عليهم بأنهم لم يستفيدوا منه اليقين فإن غاية ما عندك أنك أنت فاقد اليقين لم تظفر ببرده ولم تفز به فكيف ساغ لك أن تحكم على غيرك بهذا. فإن أردت بذلك أني أنا لا أستفيد اليقين من هذه الأدلة إلا بعد هذه الأمور العشرة فعلمت أن غيري كذلك قيل له هذا من أبطل الباطل عند كل عاقل فإنه من المعلوم بالضرورة أن الشيء الواحد يكون مجهولا عند رجل أو طائفة ومعلوما عند آخر وضروريا عند شخص ونظريا عند آخر والاشتراك في المعلومات الضروريات غير واجب ولا واقع والواقع خلافه فالصحابة كانوا يعلمون من أحوال النبي بالاضطرار
(25/30)
ص -661- ما لم يعلمه غيرهم وكان أبو بكر يعلم من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامه يقينا مالا يعلمه غيره ولا يفهمه كما قال أبو سعيد الخدري وكان أبو بكر أعلمنا به وكان التابعون يعلمون من أحوال الصحابة بالاضطرار مالا يعلمه غيرهم والفقهاء وأهل الحديث يعلمون بالاضطرار أن النبي سجد سجدتي السهو في الصلاة وقضى بالشفعة وجعل الدية على العاقلة وأخبر أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة وأنه يرى بالأبصار جهرة يوم القيامة وأنه يدخل النار قوما من أهل التوحيد ثم يخرجهم بالشفاعة وأنه أخبر بخروج الدجال ونزول المسيح من السماء وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يجهله كثير من الناس ومن أقر به فهو عنده ظني وأهل الحديث جازمون به متيقنون له كتيقنهم أنه بعث من مكة وهاجر إلى المدينة ومات بها وأهل المغازي والسير والحديث يعلمون بالاضطرار أن غزوة بدر كانت قبل أحد وأن أحدا قبل الخندق والخندق قبل الحديبية والحديبية قبل خيبر وخيبر قبل فتح مكة وفتح مكة قبل حنين وحنين قبل الطائف والطائف قبل تبوك وتبوك آخر الغزوات ولم يكن فيها قتال وكان الغزو
(25/31)
ص -662- فيها للنصارى أهل الكتاب وفي خيبر لليهود وفي بدر وأحد للمشركين وأنه أوقع باليهود أربع مرات ببني قينقاع وكانت بعد بدر وبالنضير وكانت بعد أحد وبقريظة وكانت بعد الخندق وبأهل خيبر وكانت بعد الحديبية وأكثر الناس بل كثير من العلماء والفقهاء لا يعلمون هذا التفصيل وكذلك العلماء بالتفسير والحديث يعلمون بالاضطرار أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة مدنيات نزلن بعد الهجرة وسورة الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف والنحل مكيات نزلن قبل الهجرة وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ضرورة ولا نظرا فليس المعلوم من أقوال الرسول وسيرته ومراده بكلامه أمرا مشتركا بين جميع الناس ولا بين المسلمين ولا بين العلماء وإذا لم يكن هذا أمرا مضبوطا لا من العالم ولا في العلوم أمكن في كثير من مراد الرسول بالاضطرار أن تكون مكتسبة عند قوم ضرورية عند آخرين وغير معلومة البتة عند آخرين وإن قال أردت أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين عند من لا يعرف مدلولها إلا بهذه المقدمات قيل له فهذا لا فائدة فيه فكأنك قلت من لم يعرف مراد المتكلم إلا بمقدمة ظنية كان استدلاله بكلامه ظنيا وذلك من باب تحصيل الحاصل وكذلك من لم يعرف
(25/32)
ص -663- الدليل العقلي إلا بمقدمة ظنية كان استدلاله به ظنيا وأيضا فإنه إذا كان هذا مرادك فكيف تحكم حكما عاما كليا أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فبطل حكم هذه القضية الكاذبة أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين على كل تقدير ولله الحمد يوضحه.
الوجه الخامس والعشرون: إن الذين لم يحصل لهم اليقين بالأدلة العقلية أضعاف أضعاف الذين حصل لهم اليقين بالأدلة السمعية والشكوك القادحة في العقليات أكثر بكثير من الشكوك القادحة في السمعيات فأهل العلم والكتاب والسنة متيقنون لمراد الله ورسوله جازمون به معتقدون لموجبه اعتقادا لا يتطرق إليه شك ولا شبهة أما المتكلمون الذين عدلوا عن الاستدلال بالأدلة السمعية إلى الأدلة العقلية في المسائل الكبار كمسألة حدوث العالم ومسألة ما هي الحوادث ومسألة تماثل الأجسام وبقاء الأعراض ومسألة وجود الشيء هل هو زائد على ماهيته أو هو نفس ماهيته ومسألة المعدوم هل هو شيء أم لا ومسألة المصحح للتأثير هل هو الحدوث أو الإمكان وهل يمكن أن يكون الممكن قديما أم لا ومسألة الجوهر الفرد وهل الأجسام مركبةمنه أم لا ومسالةالكلام وحقيقته واضعاف ذلك من المسائل التي عولوا فيها على مجرد عقل أفضلهم وأشدهم حيرة وتناقضا واضطرابا فيها
(25/33)
ص -664- لا يثبت له فيها قول بل تارة يقول بالقول ويجزم به وتارة يقول بضده ويجزم به وتارة يحار ويقف وتتعارض عنده الأدلة العقلية وأهل الكلام والفلسفة أشد اختلافا وتنازعا بينهم فيها من جميع أرباب العلوم على الإطلاق ولهذا كلما كان الرجل منهم أفضل كان إقراره بالجهل والحيرة على نفسه أعظم كما قال بعض العارفين أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام وقال أفضل المتأخرين من هؤلاء لتلاميذه عند الموت أشهدكم أني أموت وما عرفت مسألة واحدة إلا مسألة افتقار الممكن إلى واجب ثم قال والافتقار أمر عدمي فهاأنذا أموت وما عرفت شيئا وقال ابن الجويني عند موته لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم وما أدري على ماذا أموت أشهدكم أني أموت على عقيدة أمي وقال آخر في خطبة كتابه في الكلام لعمري:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
(25/34)
ص -665- وقال الرازي في كتابه أقسام اللذات وقد ذكر أنواعها وأن أشرفها لذةالعلم والمعرفة وأشرف العلم العلم الإلهي لشرف معلومه وشدة الحاجة إليه وأنه على ثلاثة أقسام العلم بالذات وعليه عقدة وهي أن الوجود هل هو الماهية أو زائد عليها والعلم بالصفات وعليه عقدة وهي أن الصفات هل هي أمور وجودية زائدة على ذات الموصوف أم ليست بزائدة على الذات والعلم بالأفعال وعليه عقدة وهي هل الفعل مقارن للفاعل أو متراخ عنه ثم قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب أو ذاق من هذا الشراب ثم أنشد:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال فماتوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات:
(25/35)
ص -666- {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر10] واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110]
ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي فليتأمل اللبيب ما في كلام هذا الفاضل من العبر فإنه لم يأت في المتأخرين من حصل من العلوم العقلية ما حصله ووقف على نهايات أقدام العقلاء وغايات مباحث الفضلاء وضرب بعضها ببعض ومخضها أشد المخض فما رآها تشفي علة داء الجهالة ولا تروي غلة ظمأ الشوق والطلب وأنها لم تحل عنه عقدة واحدة من هذه العقد الثلاث التي عقدها أرباب المعقولات على قافية القلب فلم يستيقظ لمعرفة ذات الله ولا صفاته ولا أفعاله وصدق والله فإنه شاك في ذات رب العالمين هل له ماهية غير الوجود المطلق يختص بها أم ماهيته نفس وجوده الواجب ومات ولم تنحل له عقدتها وشاك في صفاته هل هي أمور وجودية أم نسب إضافية عدمية ومات ولم تنحل له عقدتها وشاك في أفعاله هل هي مقارنة له أزلا وأبدا لم تزل معه أم الفعل متأخر عنه تأخرا لا نهاية لأمده فصار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا ومات لم تنحل له عقدتها فننظر في كتبه الكلامية قول المتكلمين وفي كتبه
(25/36)
ص -667- الفلسفية قول الفلاسفة وفي كتبه التي خلط فيها بين الطريقتين يضرب أقوال هؤلاء بهؤلاء وهؤلاء بهؤلاء ويجلس بينهما حائرا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وكذلك أفضل أهل زمانه ابن أبي الحديد فإنه مع بحثه ونظره وتصديه للرد على الرازي حتى يقول في قصيدة له:
وحقك لو أدخلتني النار قلت لل ذين بها قد كنت ممن أحبه
وأفنيت عمري في فنون دقيقة وما بغيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتم من كان فينا مجاهدا سيكرم مثواه ويعذب شربه
أما رد شك ابن الخطيب وزيفه وتمويهه في الدين إذ حل خطبه
(25/37)
ص -668- يعترف بأن المعقولات لم تعطه إلا حيرة وأنه لم يصل منها إلى يقين ولا علم حيث يقول:
فيك يا أغلوطة الفكر ضاع دهري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر
قاتل الله الأولى زعموا أنك المعروف بالنظر
كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر
وقال بعض الطالبين من المتأخرين وقد سافر في طلب ربه على هذه الطريق فلم يزدد إلا حيرة وبعدا من مطلبه حتى قيض الله له من أخذ بيده وسلك به على الطريق التي سلك عليها الرسل وأتباعهم فجعل يهتف بصوته لأصحابه هلموا فهذه والله الطريق وهذه أعلام مكة والمدينة وهذه آثار القوم لم تنسخها الرياح ولم تزلها الأهوية ثم قال:
وكنت وصحبي في ظلام من الدجى نسير على غير الطريق ولا ندري
(25/38)
ص -669- وكنا حيارى في القفار ولم يكن دليل لنا نرجوا الخلاص من القفر
ظماء إلى ورد يبل غليلنا وقد قطع الأعناق منا لظى الحر
فما هو إلا أن تبدى لناظري سنا بارق يبدو كخيط من الفجر
فقلت لصحبي هل ترون الذي أرى فقالوا اتئد ذاك السراب الذي يجري
فخلفتهم خلفي وأقبلت نحوه فأوردني عين الحياة لدى البحر
فناديت أصحابي فما سمعوا الندا ولو سمعوه ما استجابوا إلى الحشر
فهذا اعتراف هؤلاء الفضلاء في آخر سيرهم بما أفادتهم الأدلة العقلية من ضد اليقين ومن الحيرة والشك فمن الذي شكا من القرآن والسنة والأدلة اللفظية هذه الشكاية ومن الذي ذكر أنها حيرته ولم تهده أو ليس بها هدى الله أنبياءه ورسله وخير خلقه قال تعالى لأكمل خلقه وأوفرهم عقلا: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ50]
(25/39)
ص -670- فهذا أكمل الخلق عقلا يخبر أن اهتداءه بالأدلة اللفظية التي أوحاها الله إليه وهؤلاء المتهوكون المتحيرون يقولون أنها لا تفيد يقينا ولا علما ولا هدى وهذا موضع المثل المشهور رمتني بدائها وانسلت.
الوجه السادس والعشرون: أن ألفاظ القرآن والسنة ثلاثة أقسام نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدا وظواهر تحتمل غير معناها احتمالا بعيدا مرجوحا وألفاظ تحتاج إلى بيان فهي بدون البيان عرضة الاحتمال.
فأما القسم الأول فهو يفيد اليقين بمدلوله قطعا كقوله تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت14] فلفظ الألف لا يحتمل غير مسماه وكذلك لفظ الخمسين وكذلك لفظ نوح ولفظ قومه وكقوله {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف142].
(25/40)
ص -671- وقوله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة4] وقوله {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة196] وقوله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة234] وعامة ألفاظ القرآن من هذا الضرب هذا شأن مفرداته وأما تركيبه فجاء على أصح وجوه التركيب وأبعدها من اللبس وأشدها مطابقة للمعنى فمفرداته نصوص أو كالنصوص في مسماها وتراكيبه صريحة في المعنى الذي قصد بها والمخاطبون به تلك اللغة سجيتهم وطبيعتهم غير متكلفة لهم فهم يعلمون بالاضطرار مراده منها.
والقسم الثاني: ظواهر قد تحتمل غير معانيها الظاهرة منها ولكن قد اطردت في موارد استعمالها على معنى واحد فجرت مجرى النصوص التي لا تحتمل غير مسماها والقسمان يفيدان اليقين والقطع بمراد المتكلم.
وأما القسم الثالث: إذا أحسن رده إلى القسمين قبله
(25/41)
ص -672- عرف مراد المتكلم منه فالأول يفيد اليقين بنفسه والثاني يفيده باطراده في موارد استعماله والثالث يفيده إحسان رده إلى القسمين قبله وهذا ظاهر جدا لمن له عناية بالقرآن وألفاظه ومعانيه واقتباس المعارف واليقين منه فاستفادته اليقين من أدلته أعظم من استفادة كل طالب علم اليقين من مواد علمه وبراهينه.
الوجه السابع والعشرون: إن الذي حال بين هؤلاء وبين استفادتهم اليقين من كلام الله ورسوله أن كثيرا من ألفاظ القرآن والسنة قد صار لها معان اصطلح عليها النظار والمتكلمون وغيرهم وألف ذلك الاصطلاح وجرى عليه النشء وصار هو المقصود بالتخاطب وإليه التحاكم فصار كثير من الناس لا يعرف سواه فلما أرادوا أن يطابقوا بين معاني ألفاظ القرآن وبين تلك المعاني التي اصطلحوا عليها أعجزهم ذلك فمرة قالوا ألفاظ القرآن مجاز ومرة طلبوا لها وجوه التأويل ومرة قالوا لا تفيد اليقين ومرة جعلوها وقفا تتلى في الصلاة ويتبرك بقراءتها ولا يتحاكم إليها مثال ذلك لفظ الجسم في القرآن هو البدن كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون4] وهم اصطلحوا على تسمية كل قائم بنفسه جسما مرئيا
(25/42)
ص -673- كان أو غير مرئي وسموا الموصوف بالصفات جسما وسموا من له وجه ويدان جسما ثم نفوا الجسم عن الصانع وأوهموا أنهم ينفون معناه لغة وقصدهم نفي معناه اصطلاحا فسموه بخلاف اسمه في اللغة ونفوا به ما أثبته الرب لنفسه من صفات الكمال وكذلك سموا صفاته أعراضا ثم نفوا عنه الأعراض بالمعنى الذي اصطلحوا عليه لا بالمعنى الذي وضعت له ألفاظ الأعراض في اللغة وكذلك سموا أفعاله حوادث ثم نفوها عنه بالمعنى الذي اصطلحوا عليه لا بمعناه في اللغة فإن النبي قال لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا وقال إياكم والحدث في الإسلام وقال:
(25/43)
ص -674- لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأفإذا قالوا لا تحله الحوادث أوهموا الناس هذه الحوادث ومرادهم أنه لا يتكلم ولا يكلم ولا يرى ولا يسمع ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويا ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا ينادي عباده يوم القيامة ولا يشاء مشيئة إلى أمثال ذلك.
وكذلك لفظ ا لاستواء حقيقة في العلو ثم حدث له معنى الاستيلاء في قول الشاعر إن كان قاله:
قد استوى بشر على العراق
(25/44)
ص -675- فهذا شعر مولد حدث بعد كتاب الله ولم يكن معروفا قبل نزول القرآن ولا في عصر من أنزل عليه القرآن فحملوا لفظ القرآن على الشعر المولد الحادث بعد نزوله ولم يكن من لغة من نزل القرآن عليه.
وكذلك لفظ المحلل والمحلل له فإنه في لغة من تكلم به ولغة أصحابه هو محلل النكاح الذي يريد أن يتزوج المرأة ليحلها لمطلقها وفي اصطلاح بعض الفقهاء هو الذي يحلل موليته لغيره بلا مهر والذي يشترط التحليل لفظا في صلب العقد.
وكذلك لفظ الخمر في لغة من تكلم به وصرح بتحريمه كل مسكر فاصطلح بعض الفقهاء على تخصيص بعض أنواع الأشربة المسكرة باسم الخمر ثم حملوا النصوص على تلك المعاني التي اصطلحوا عليها.
وكذلك لفظ الجار في لغته هو الجار المعروف فإذا اصطلح على تسمية الشريك جارا قياسا على تسمية الزوجة جارا في قول الشاعر:
(25/45)
ص -676- أجارتنا بيني فإنك طالقة
ثم حمل لفظ الشارع على المعنى الاصطلاحي لم يجز ذلك ومن هذا لفظ التركيب فإنه في لغة القرآن تركيب الشيء في غيره كقوله {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار8] ثم اصطلح عليه بعض الناس وجعل كل ما تميز منه شيء عن شيء مركبا وإن كان حقيقته واحدة فالعرب إنما تطلق لفظ التركيب والمركب في نحو تركيب الدواء وتركيب الخشبة على الجدار وتركيب المادة في صورة من الصور ولا يسمى الهواء مركبا ولا النار ولا الماء ولا التراب وإنما المركب عندهم ما ركب فيه شيء على شيء.
خالف المتأخرون الاصطلاح الحادث ثم نفوا
(25/46)
ص -677- مسماه الاصطلاحي عن الرب سبحانه ورأوا الأدلة اللفظية من القرآن والسنة لا تساعدهم على ذلك فقالوا لا تفيد اليقين.
الوجه الثامن والعشرون: إن هؤلاء القائلين إن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم ولا يقين إما أن يريد به نفي اليقين في باب الأسماء والصفات فقط دون باب المعاد والأمر والنهي أو في باب الصفات وباب المعاد فقط دون الأمر أوفي الجميع فإن أراد الأول وهو مراد الجهمية قيل له فما جوابك للفلاسفة المنكرين لمعاد الأبدان حيث احتججت عليهم بأنا نعلم بالضرورة أن الرسل جاءوا به فرده عليهم تكذيب لهم فقالوا الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فإن قلت الفرق بيننا وبينهم أن آيات الصفات وأخبارها قد عارضتها قواطع عقلية تنفيها بخلاف نصوص المعاد قيل أما أهل القرآن والسنة فيجيبونك بأن تلك المعارضات هذيانات لا حقيقة لها وشبهات خيالية: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور39] وأما أشباهك من الفلاسفة فيقولون ونصوص
(25/47)
ص -678- المعاد قد عارضها قواطع عقلية تنفيها فإن قلت بل هذه شبهات باطلة ومقدمات كاذبة قيل صدقت والشبهات التي تعارض نصوص الصفات أبطل والمقدمات التي تخالفها أكذب بكثير فإن الشبهات العقلية المعارضة لنصوص الأنبياء ليس لها حد تقف عليه بل قد عارض أرباب المعقول الفاسد جميع ما جاءوا به من أوله إلى آخره بعقولهم ومعارضة المشركين لما دعت إليه الرسل من التوحيد بشبهاتهم من جنس معارضة الدهرية لما أخبروا به من المعاد بشبهاتهم فهلموا نضع الشبهات جميعها في الميزان ونحكها على المحك يتبين أنها زغل وزيف كلها وإن زعمت أنها لا تفيد اليقين لا في باب الخبر عن الله وصفاته ولا في باب المعاد واليوم الآخر ولا في باب الأمر والنهي فقد انسلخت من العقل والإيمان انسلاخ الحية من قشرها وجاهرت بالقدح في النبوات والشرائع وكنت في العقل الصحيح أشد قدحا فإنه ليس في المعقول شيء أصح مما جاءت به الرسل عن الله وقد تقدم تقرير هذا والمؤمنون يعرفونه جملة والراسخون في العلم يعرفونه تفصيلا.
(25/48)
ص -679- الوجه التاسع والعشرون: إن دعوى المدعي أن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه يقين ولا علم إما أن يدعيه حيث لا يعارض العقل السمع بل يوافقه أو حيث يعارضه في زعمه أو حيث لا يعارضه ولا يوافقه فإن ما جاء به الشرع عند هؤلاء ثلاثة أقسام:
أحدها ما يخالف ظاهره صريح العقل
والثاني ما يوافق العقل
والثالث مالا يحيله العقل ولا يقتضيه فقول القائل إن كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين يقال له لا يفيد في شيء من هذه الأقسام الثلاثة عندك أو في الأول منها خاصة أو فيه وفي الثالث فإن كان مراده النفي في جميع الأقسام كان ذلك عنادا ظاهرا وإلحادا في كلام الله ورسوله وإن كان مراده أنه لا يفيده فيما يخالف صريح العقل وهو الذي يريده هؤلاء قيل له هذا الفرض وإن اعتقدته واقعا فهو محال فلا يعارض السمع الصحيح الصريح إلا معقول فاسد تنتهي مقدماته إلى المكابرة أو التقليد أو التلبيس والإجمال وقد تدبر أنصار الله ورسوله وسنته هذا فما وجدوا بحمد الله العقل الصريح يفارق النقل الصحيح أصلا بل هو خادمه وصاحبه والشاهد له وما وجدوا العقل المعارض له إلا من أفسد العقول وأسخفها وأشدها منافاة لصريح العقل وصحيحه ولولاالإطالة لذكرنا ذلك
(25/49)
ص -680- على التفصيل وقد تقدمت الإشارة إلى اليسير منه ويجب على المسلم الذي لله ولكتابه وقار وعظمة في قلبه ان يعتقد هذا وإن لم يظهر له تفصيله فإذا ظهر له تفصيله كان نورا على نور فإن الله سبحانه أقام الحجة على الخلق بكتابه ورسوله فلا يمكن أن يكون فيهما ما يظهر منه خلاف الحق ولا ما يخالف العقل ولا يمكن أن يحيل الرسول الناس في الهدى والعلم وصفاته وأفعاله على ما يناقض كلامه من عقلياتهم وهذا واضح ولله الحمد
الوجه الثلاثون: إن قول القائل الأدلة اللفظية موقوفة على هذه المقدمات أتريد به أن كل دليل منها يقف على مجموع الأمور العشرة أم تريد به أن جنسها يقف على جنس هذه العشرة فإن أردت الأول فهو مكابرة ظاهرة يردها الواقع فإن جمهور الناس يعلم مدلول الكلام من غير أن تخطر هذه العشرة أو شيء منها بباله وإن أردت الثاني فالأدلة العقلية تتوقف على ما به مقدمة أو أكثر بهذا الاعتبار فإنه ما من مسألة عقلية إلا وهي متوقفة على مقدمات غير المقدمات التي يتوقف عليها مسألة أخرى فما يتوقف عليه دلالة الدليل لا ضابط له وإنما هو أمر نسبي إضافي.
الوجه الحادي والثلاثون: إن حكمك بتوقف دلالة الدليل على معرفة الإعراب والتصريف خطأ ظاهر فإن من عرف أن لله الأسماء الحسنى
(25/50)
ص -681- كالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن وأن الاسم يدل على المسمى في لغة العرب لم يتوقف في العلم بدلالة هذه الأسماء على الرب سبحانه على معرفته بأن الاسم مشتق من السمو أو من السمة والاختلاف بين البصريين والكوفيين في ذلك ومعرفةأرجح القولين فإن جماهير أهل الأرض يعرفون أن الله اسم لذات الخالق فاطر السموات والأرض ولا يعرفون تصريف الاسم واشتقاقه وأما الإعراب فهؤلاء العامة يجزمون ويتيقنون مراد مكلمهم بكلامه ولا يتوقف ذلك على معرفتهم بوجوه الإعراب.
فإن قلت إنما كلامنا في كلام العرب الفصحاء الذين يتوقف فهم معاني كلامهم على الإعراب قيل ما يتوقف عليه فهم كلامهم من الإعراب سجية وطبيعة لهم وأما من بعدهم فقد نقل إلينا ذلك نقلا متواترا عنهم كما نقل إلينا معاني مفردات ألفاظهم.
الوجه الثاني والثلاثون: قولك إن ذلك يتوقف على نفي التخصيص والإضمار فهذا لا يحتاج إليه في فهم معاني الألفاظ المفردة فإنها تدل على مسماها دلالة سائر الألفاظ على معانيها كدلالة الأعلام ولفظ العدد وأسماء الأزمنة والأمكنة والأجناس على موضوعاتها.
واحتمال كون اللفظ العام خاصا كاحتمال كون اللفظ الذي له حقيقة مستعملا في غير حقيقته وهذا منفي بالأصل ولا يحتاج في فهم ما هو جار على أصله إلى أن يعلم
(25/51)
ص -682- انتفاء الدليل الذي يخرجه عن أصله وإلا لم يفهم مدلول لفظ أبدا لجواز أن يكون خرج عن أصل موضوعه بنقل أو مجاز أو غير ذلك ولو ساغ ذلك لم يكن أحد يحتج بدليل شرعي لجواز أن يكون منسوخا وهو لا يعلم ناسخه ولم يشهد أحد لأحد بملك لجواز أن يكون خرج عن ملكه ببيع أو تبرع ولم يشهد أحد لأحد بزوجية امرأة ولا رق عبد لجواز أن يكون طلق وأعتق وفتح باب التجويزات لا آخر له ولا ثقة معه البتة.
وهذا الباب قد دخل منه على الإسلام مدخل عظيم وخطب جسيم وأهل الباطل على اختلاف أصنافهم لا يزالون يتعلقون به ولا تزال تعمد كل طائفة منهم إلى آية من كتاب الله فيقودها إلى مذهبه الذي يدعو إليه ويدعي أن لها دلالة خاصة عليه وكذلك يفعل في كثير من الأخبار التي يجرها إلى معتقده.
وليست المحنة التي عرضت في هذا الباب مقصورة على أهل الإسلام فقط بل هي مشتركة بين جميع أهل الأديان والملل ومن أعطى التأمل حقه وجد أكثر ما ادعاه أهل التأويلات المستشنعة وأهل الباطل من جهة إخراج الألفاظ عن حقائقها وفتح أبواب الاحتمالات والتجويزات عليها وتغليب الخصوص على العموم وادعائهم أن الأغلب في ألفاظ العموم إنما هو الخصوص دون العموم ذهابا منهم في ذلك إلى أن البيان الشافي إنما هو في المعنى الخاص دون
(25/52)
ص -683- العام وأنه المتيقن من اللفظ فإن طفر به وإلا قال المراد خاص مجمل فتعطل دلالة اللفظ العام الكلي بهذه الطريق كما تعطل دلالة اللفظ على حقيقته باحتمال إرادة المجاز والاستعارة ودلالة أوامر الله ورسوله على وجوب الإمتثال باحتمال إرادة الاستحباب ومطلق الرجحان ودلالة نواهيه على التحريم باحتمال دلالتها على مجرد الكراهة وترك الأولى ودلالة النص الصريح الذي لا يحتمل غير معناه باحتمال كونه منسوخا فقد أعد لكل دليل قانونا يدفع به دلالته فإن كان خبر واحد قال يحتمل أن يكون راويه كذب أو أخطأ فإن أعجزه القدح في راويه لشهرته بالصدق والعدالة قال لعله رواه بالمعنى الذي فهمه وهو غير فقيه فإذا عارضه القياس كان المصير إليه أولى كما قال هؤلاء إذا عارض النص العقل كان المصير إليه أولى فإن غلب وأمكنه ادعاء انعقاد الإجماع على خلافه عارضه بالإجماع فإن غلب عن ذلك عارضه باحتمال النسخ فإن غلب عارض دلالته بالاحتمالات وأنواع التأويلات فلله ما لقيت النصوص من هذه الفرق وأرباب التأويلات والمتعصبين لمذاهبهم وإلى منزلها الشكاية وبه المستعان وعليه التكلان.
الوجه الثالث والثلاثون: إن القدح في دلالة العام باحتمال الخصوص وفي الحقيقة باحتمال المجاز والنقل والاشتراك وسائر ما ذكر يبطل حجج الله على خلقه بآياته ويبطل أوامره ونواهيه وفائدة أخباره ونحن نبين ذلك بحمد الله بيانا شافيا ونقدم
(25/53)
ص -684- قبل بيانه مقدمة بين يديه وهي ذكر الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن وهي عشرة أقسام
القسم الأول: تعريفه سبحانه نفسه لعباده بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأنه واحد لا شريك له وما يتبع ذلك.
القسم الثاني: ما استشهد به على ذلك من آيات قدرته وآثار حكمته فيما خلق وذرأ في العالم الأعلى والأسفل من أنواع بريته وأصناف خليقته محتجا به على من ألحد في أسمائه وتوحيده وعطله عن صفات كماله وعن أفعاله وكذلك البراهين العقلية التي أقامها على ذلك والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية التي تقدمت الإشارة إلى الشيء اليسير منها.
القسم الثالث: ما اشتمل عليه بدء الخلق وإنشاؤه ومادته وابتداعه له وسبق بعضه على بعض وعدد أيام التخليق وخلق آدم وإسجاد الملائكة وشأن إبليس وتمرده وعصيانه وما يتبع ذلك
القسم الرابع: ذكر المعاد والنشأة الأخرى وكيفيته وصورته وإحالة الخلق فيه من حال إلى حال وإعادتهم خلقا جديدا.
القسم الخامس: ذكر أحوالهم في معادهم وانقسامهم
(25/54)
ص -685- إلى شقي وسعيد ومسرور بمنقلبه ومثبور به وما يتبع ذلك. القسم السادس ذكر القرون الماضية والأمم الخالية وما جرى عليهم وذكر أحوالهم مع أنبيائهم وما نزل بأهل العناد والتكذيب منهم من المثلات وما حل بهم من العقوبات ليكون ما جرت عليه أحوال الماضين عبرة للمعاندين فيحذروا سلوك سبيلهم في التكذيب والعصيان.
القسم السابع: الأمثال التي ضربها لهم والمواعظ التي وعظهم بها ينبههم بها على قدر الدنيا وقصر مدتها وآفاقها ليزهدوا فيها ويتركوا الإخلاد إليها ويرغبوا فيما أعد لهم في الآخرة من نعيمها المقيم وخيرها الدائم.
القسم الثامن: ما تضمنه من الأمر والنهي والتحليل والتحريم وبيان ما فيه طاعته ومعصيته وما يحبه من الأعمال والأقوال والأخلاق وما يكرهه ويبغضه منها وما يقرب إليه ويدني من ثوابه وما يبعد منه ويدني من عقابه وقسم هذا القسم إلى فروض فرضها وحدود حدها وزواجر زجر عنها وأخلاق وشيم رغب فيها.
القسم التاسع: ما عرفهم إياه من شأن عدوهم ومداخله عليهم ومكايده لهم وما يريده بهم وعرفهم إياه من طريق التحصن منه والاحتراز من بلوغ كيده منهم وما يتداركون به ما أصيبوا به في معركة الحرب بينهم وبينه وما يتبع ذلك.
(25/55)
ص -686- القسم العاشر: ما يختص بالسفير بينه وبين عباده عن أوامره ونواهيه وما اختصه به من الإباحة والتحريم وذكر حقوقه على أمته وما يتعلق بذلك فهذه عشرة أقسام عليها مدار القرآن وإذا تأملت الألفاظ المتضمنة لها وجدتها ثلاثة أنواع.
أحدها: ألفاظ في غاية العموم فدعوى التخصيص فيها يبطل مقصودها وفائدة الخطاب بها. الثاني: ألفاظ في غاية الخصوص فدعوى العموم فيها لا سبيل إليه.
الثالث: ألفاظ متوسطة بين العموم والخصوص فالنوع الأول كقوله {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة282] و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة109] و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام102] وقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر15} و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة21] و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء1] وأمثال ذلك والنوع الثاني كقوله
(25/56)
ص -687- {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة67] وقوله {قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب37] وقوله {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب50] والنوع الثالث كقوله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج39] وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة104] و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران64] و {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر53] ونحو ذلك مما يخص طائفة من الناس دون طائفة وهذا النوع وإن كان متوسطا بين الأول والثاني فهو عام فيما قصد به ودل عليه.
وغالب هذا النوع أو جميعه قد علقت الأحكام فيه بالصفات المقتضية لتلك الأحكام فصار عمومه لما تحته من جهتين من جهة اللفظ والمعنى فتخصيصه ببعض نوعه إبطال لما قصد به وإبطال دلالته إذ الوقف فيها لاحتمال
(25/57)
ص -688- إرادة الخصوص به أشد إبطالها وعودا على مقصود المتكلم به بالإبطال فادعى قوم من أهل التأويل في كثير من عمومات هذا النوع التخصيص وذلك في باب الوعد والوعيد وفي باب القضاء والقدر أما باب الوعيد فإنه لما احتج عليهم الوعيديه بقوله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}[النساء93] وبقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء10] وأمثال ذلك لجأوا إلى دعوى الخصوص وقالوا هذا في طائفة معينة ولجأوا إلى هذا القانون وقالوا الدليل اللفظي العام مبني على مقدمات منها عدم التخصيص وانتفاؤه غير معلوم وأما باب القدر فإن أهل الإثبات لما احتجوا على القدرية بقوله {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد16] وقوله {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة120] ونحوه ادعوا تخصيصه وأكثر طوائف أهل الباطل ادعاء لتخصيص العمومات هم الرافضة فقل أن تجد في
(25/58)
ص -689- القرآن والسنة لفظا عاما في الثناء على الصحابة إلا قالوا هذا في علي وأهل البيت وهكذا تجد كل أصحاب مذهب من المذاهب إذا ورد عليهم عام يخالف مذهبهم ادعوا تخصيصه وقالوا أكثر عمومات القرآن مخصوصة وليس ذلك بصحيح بل أكثرها محفوظة باقية على عمومها.
فعليك بحفظ العموم فإنه يخلصك من أقوال كثيرة باطلة وقد وقع فيها مدعو الخصوص بغير برهان من الله وأخطأوا من جهة اللفظ والمعنى أما من جهة اللفظ فلأنك تجد النصوص التي اشتملت على لا وعيد أهل الكبائر مثلا في جيمع آيات القرآن خارجة بألفاظها مخرج العموم المؤكد المقصود عمومه كقوله {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان19] وقوله {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ} [الأنفال16] وقوله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء93] و {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة8 , 7]
(25/59)
ص -690- وقد سمى النبي هذه الآية جامعة فاذة أي عامة فذة في بابها وقوله {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه74 , 75] وقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} وقوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان68]
وأضعاف أضعاف ذلك من عمومات القرآن المقصود عمومها التي إذا أبطل عمومها بطل مقصود عامة القرآن ولهذا قال شمس الأئمة السرخسي إنكار العموم بدعة حدثت في الإسلام بعد القرون الثلاثة.
وأما خطؤهم من جهة المعنى فلأن الله سبحانه إنما
(25/60)
ص -691- علق الثواب والعقاب على الأفعال المقتضية له اقتضاء السبب لمسببه وجعلها عللا لأحكامها والاشتراك في الموجب يقتضي الاشتراك في موجبه والعلة إذا تخلف عنها معلولها من غير انتفاء شرط أو وجود مانع فسدت بل يستحيل تخلف المعلول عن علته التامة وإلا لم تكن تامة ولكن غلط ها هنا طائفتان من أهل التأويل الوعيدية حيث حجرت على الرب تعالى بعقولها الفاسدة أن يترك حقه ويعفو عن من يشاء من أهل التوحيد وأوجبوا عليه أن يعذب العصاة ولا بد وقالوا إن العفو عنهم وترك تعذيبهم إخلال بحكمته وطعن في خبره وقابلتهم الطائفة الآخرى فقالوا لا نجزم بثبوت الوعيد لأحد فيجوز أن يعذب الله الجميع وأن يعفو عن الجميع وأن ينفذ الوعيد في شخص واحد يكون هو المراد من ذلك اللفظ ولا نعلم هل هذه الألفاظ للعموم أو للخصوص وهذا غلو في التعطيل والأول غلو في التقييد والصواب غير المذهبين وأن هذه الأفعال سبب لما علق عليها من الوعيد والسبب قد يتخلف عن مسببه لفوات شرط أو وجود مانع والموانع متعددة منها ما هو متفق عليه بين الأمة كالتوبة النصوح ومنها الحسنات الماحية والمصائب المكفرة وما يلحق العبد بعد موته من ثواب تسبب إلى تحصيله أو دعاء أو استغفار له أو صدقة عنه ومنها شفاعة بإذن الله فيها لمن أراد أن يشفع فيه ومنها رحمة تدركه من أرحم الراحمين يترك بها حقه قبله ويعفو عنه وهذا لا يخرج العموم عن مقتضاه وعمومه ولا يحجر على الرب تعالى حجر الوعيدية والقدرية وللرد على الطائفتين
(25/61)
ص -692- موضع غير هذا والمقصود أن الأقسام الثلاثة التي تضمنها القرآن وهي الأعم والعام والأخص كل منها يفيد العلم بمدلوله ولا يتوقف فهم المراد منه على العلم بانتفاء المخصص والإضمار والحذف والمجاز فإن ذلك يبطل أحكام تلك الأقسام العشرة التي اشتمل عليها القرآن وتحول بين الإنسان وبين فائدتها مع كونها أهم الأمور والعناية الإلهية بها أشد وبيانها واقع موقع الضرورة فلو صح قول القائل إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لم يحصل لنا اليقين من القرآن في شيء من تلك الأقسام العشرة البتة وهذا من أبطل الباطل وأبين الكذب.
(25/62)
ص -693- الوجه الرابع والثلاثون: إنك تجد عند كثير من المعروفين بالتفسير من رد كثير من ألفاظ القرآن عن العموم إلى الخصوص نظير ما تجده من ذلك عند أرباب التأويلات المستنكرة ومتى تأملت الحال فيما سوغوه من ذلك وجدتها عائدة من الضرر على الدين بأعظم مما عاد من ضرر كثير من التأويلات وذلك لأنهم بالقصد إلى ذلك فتحوا لأرباب التأويلات الباطلة السبيل إلى التهافت فيها فعظمت بذلك الجناية من هؤلاء وهؤلاء على الدين وأهله.
وتجد الأسباب الداعية للطائفتين قصد الإغراب على الناس في وجوه التفسير والتأويل وادعاؤهم أن عندهم منها نوادر لا توجد عند عامة الناس لعلمهم أن الأمر الظاهر المعلوم يشترك الناس في معرفته فلا مزية فيه والشيء النادر المستظرف يحل محل الإعجاب وتتحرك الهمم لسماعه واستفادته لما جبل الناس عليه من إيثار المستظرفات والغرائب وهذا من أكثر أسباب الأكاذيب في المنقولات والتحريف لمعانيها ونحلتها معاني غريبة غير مألوفة وإلا فلو اقتصروا على ما يعرف من الآثار وعلى ما يفهمه
(25/63)
ص -694- العامة من معانيها لسلم علم القرآن والسنة من التأويلات الباطلة والتحريفات وهذا أمر موجود في غيرهم كما تجد المتعنتين بوجه القرآن يأتون من القراءات البديعة المستشنعة في ألفاظها ومعانيها الخارجة عن قراءة العامة وما ألفوه ما يغربون به على العامة وأنهم قد أوتوا من علم القرآن ما لم يؤته سواهم وكذلك أصحاب الإعراب يذكرون من الوجوه المستكرهة البعيدة المتعقدة ما يغربون به على الناس وكذلك كثير من المفسرين يأتون بالعجائب التي تنفر عنها النفوس ويأباها القرآن أشد الإباء كقول بعضهم طه لفظة نبطية معناها يا رجل ويا إنسان وقال بعضهم هي من أسماء النبي مع يس وعدوا في أسمائه طه ويس وقال بعضهم في نون والقلم إنها الدواة كأنه لما رأى هذا الحرف قد اقترن بالقلم جعله الدواة وقال بعضهم في صاد إنها فعل ماض مثل رام وقاض وكما قال بعضهم في قوله {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان8] هو الذي له سحر أي رئة افترى أراد بقوله لموسى {إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء101] هذا المعنى وأراد الكفار بقولهم
(25/64)
ص -695- {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر15] هذا المعنى وكما قال آخرون في قوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الحج15] أن المعنى يرزقه واستشهدوا بقولهم أرض منصورة أي ممطورة ولو تأمل هذا القائل سياق الآية وآخرها لعلم أن تفسير النصر بالرزق يزيل معنى الآيات عن وجهه الذي قصد به وقال آخرون في قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس92] أي بدرعك وننجيك نلقيك على نجوة من الأرض وقال آخرون في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر2] إن المراد به ضع يدك على نحرك وتكايس غيره وقال المعنى استقبل القبلة بنحرك فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاةوالنسك وقال آخرون في قوله: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد20] إنهم الزراع وهل أطلق سبحانه الكفار في موضع واحد على غير الكافرين به وكما قيل في قوله: {نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور35]
(25/65)
ص -696- إن المشكاة هذا الموضع الذي يشكو المتعبد فيه إلى الله وأضعاف أضعاف ذلك من التفاسير المستنكرة المستكرهة التي قصد بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يتعارفه الناس كحقائق السلمي وغيره مما لو تتبع وبين بطلانه لجاء عدة أسفار كبار ولولا قصد الإغراب والإتيان بما لم يسبق إليه غيره لما أقدم على ذلك كما قال بعض الرافضة في قوله {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن19] هما علي وفاطمة.
{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن 20] هو النبي صلى الله عليه وسلم.
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن 22] هما الحسن والحسين.
وجناية هؤلاء على القرآن جناية عظيمة. وبسبب
(25/66)
ص -697- ما اعتمدوه قال القائل كلام الله لا يستفاد منه يقين لاحتمال اللفظة منه عدة وجوه وقد فسرت بذلك كله ولو شرح كتاب من كتب العلوم هذا الشرح لأفسده الشارح على صاحبه ومسخ مقاصده وأزالها عن مواضعها والمقصود أن حمل عمومات القرآن على الخصوص تعطيل لدلالتها وإخراج لها عما قصد بها وهضم لمعناها وإزالة لفائدتها كقول بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة55] إن المراد به علي بن أبي طالب
وهذا كذب قطعا على الله أنه أراد عليا وحده بهذا اللفظ العام الشامل لكل من اتصف بهذه الصفة وقول هذا القائل أو غيره في قوله تعالى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر33 , 34} إنه علي بن أبي طالب.
وفي قوله {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف157] إنه علي بن أبي طالب.
(25/67)
ص -698- وقول الآخر في قوله {مُحَمَّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر بن الخطاب
{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أبو بكر
{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} عثمان {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح 29] علي.
وقول الآخر في قوله {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر34] هم الخبز
وفي قوله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء 105] إنهاأرض فلسطين والأردن وفي قوله {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص20] هو أما بعد
فهضموا هذا المعنى العظيم لإعطائه الحق في أتم بيان.
وفي قوله {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف31] المراد به المشط ومن هذا يضع الرافضة المشط بين أيديهم في الصلاة.
(25/68)
ص -699- فصل
وقد يقع في كلام السلف تفسير اللفظ العام بصورة خاصة على وجه التمثيل لا على تفسير معنى اللفظة في اللغة بذلك فيغير به المعنى فيجعله معنى اللفظة في اللغة كما قال بعضهم في قوله {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر8] إنه الماء البارد في الصيف فلم يرد به أن النعيم المسؤول عنه هو هذا وحده.
وكما قيل في قوله {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون7] إنه القدر والفأس والقصعة فالماعون اسم جامع لجميع ما ينتفع به فذكر بعض السلف هذا للسائل تمثيلا وتنبيها بالأدنى على الأعلى فإذا كان الويل لمن منع هذا فكيف بمن منع ما الحاجة إليه أعظم وإذا كان العبد يسأل عن شكر الماء البارد فكيف بما هو أعظم نعيما منه.
وفي قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر34] هم الغداء والعشاء وفي قله {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة201]
(25/69)
ص -700- إنها المرأة الموافقة فهذا كله من التمثيل للمعنى العام ببعض أنواعه فإن أراد القائل أن الأدلة اللفظية موقوفة على عدم التخصيص أنها موقوفة على عدم قصرها على هذا وأشباهه فنعم هي غير مقصورة عليه ولا مختصة به ولا يقال لفهم هذه الأنواع منها تخصيصا.
ونظير هذا ما يذكره كثير من المفسرين في آيات عامة أنها في قوم مخصوصين من المؤمنين والكفار والمنافقين وهذا تقصير ظاهر منهم وهضم لتلك العمومات المقصود عمومها وكأن الغلط في ذلك إنما عرض من جهة أن أقواما في عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه قالوا أقوالا وفعلوا أفعالا في الخير والشر فنزلت بسبب الفريقين آيات حمد الله فيها المحسنين وأثنى عليهم ووعدهم جزيل ثوابه وذم المسيئين ووعدهم وبيل عقابه فعمد كثير من المفسرين إلى تلك العمومات فنسبوها إلى أولئك الأشخاص وقالوا إنهم المعنيون بها.
وكذالك الحال في أحكام وقعت في القرآن كان بدو افتراضها أفعال ظهرت من أقوام فأنزل الله بسببها أحكاما صارت شرائع عامة إلى يوم القيامة فلم يكن من الصواب أضافتها إليهم وأنهم هم المرادون بها إلا على وجه ذكر سبب النزول فقط وأن تناولها لهم ولغيرهم تناول واحد فمن التقصير القبيح أن يقال في قوله تعالى {أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة 21]
(25/70)
ص -701- إن المراد بالناس أهل مكة فيأتي إلى لفظ من أشمل ألفاظ العموم أريد به الناس كلهم عربهم وعجمهم قرنا بعد قرن إلى أن يطوي الله الدنيا فيقول المراد به أهل مكة نعم هم أسبق وأول من أريد به إذ كانوا هم المواجهين بالخطاب أولا وهذا كثير في كلامهم كقولهم المراد بقوله كذا وكذا أبو جهل أو أبي بن خلف أو الوليد بن المغيرة أو عبدالله بن أبي
(25/71)
ص -702- أو عبدالله بن سلام من سادة المؤمنين كما يقولون في كل موضع ذكر فيه {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد43] إنه عبدالله بن سلام وهذا باطل قطعا فإن هذا مذكور في سورة مكية كسورة الرعد حيث لم يكن عبدالله بن سلام قد أسلم ولا كان هناك. وكذلك يقولون في قوله {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون] إن المراد به عبدالله بن أبي وكان من أحسن الناس جسما والصواب أن اللفظ عام في من اتصف بهذه الصفات وهي صحة الجسم وتمامه وحسن الكلام وخلوه من روح الإيمان ومحبة الهدى وإيثاره كخلو الخشب المقطوعة التي قد تساند بعضها إلى بعض من روح الحياة التي يعطيها النمو أو الزيادة والثمرة واتصافهم بالجبن والخور الذي يحسب صاحبه أن كل صيحة عليه فمن
(25/72)
ص -703- التقصير الزائد أن يقال إن المراد بهذا اللفظ هو عبدالله بن أبي ومن هذا قولهم في قوله تعالى {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان43 , 44] إنه أبو جهل ابن هشام
وكذلك في قوله {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة31 , 32] إنه أبو جهل ابن هشام
وكذلك قوله {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} إلى آخرها [المطففين29] وكذلك قوله {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} إلى آخرها [القلم10 , 11} إنه الوليد بن المغيرة
وكذلك قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان6]
(25/73)
ص -704- إنه النضر بن الحارث وفي قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة8]
إنها في أناس معينين وأضعاف ذلك مما إذا طرق سمع كثير من الناس ظن أن هذا شيء أريد به هؤلاء ومضى حكمه وبقي لفظه وتلاوته حتى قال بعض من قدم العقل على النقل وقد احتج عليه بشيء من القرآن دعني من كلام قيل في أناس مضوا وانقرضوا.
ومن تأمل خطاب القرآن وألفاظه وجلالة المتكلم به وعظمة ملكه وما أراد به من الهداية العامة لجيمع الأمم قرنا بعد قرن إلى آخر الدهر وأنه جعله إنذارا لكل من بلغه من الكلفين لم يخف عليه أن خطابه العام إنما جعل بإزاء أفعال حسنة محمودة وأخرى قبيحة مذمومة وأنه ليس منها فعل إلا والشركة فيه موجودة أو ممكنة وإذا كانت الأفعال مشتركة كان الوعد والوعيد المعلق بها مشتركا ألا ترى أن الأفعال التي حكيت عن أبي جهل بن هشام والوليد بن
(25/74)
ص -705- المغيرة والعاص بن وائل وأضرابهم وعن عبدالله بن أبي وأضرابه كان لهم فيها شركاء كثيرون حكمهم فيها حكمهم.
ولهذا عدل الله سبحانه عن ذكرهم بأسمائهم وأعيانهم إلى ذكر أوصافهم وأفعالهم وأقوالبهم لئلا يتوهم متوهم اختصاص الوعيد بهم وقصره عليهم وأنه لا يجاوزهم فعلق سبحانه الوعيد وقصره عليهم وأنه لا يجاوزهم فعلق سبحانه الوعيد على الموصوفين بتلك الصفات دون أسماء من قامت به إرادة لتعميم الحكم وتناوله لهم ولأمثالهم ممن هو على مثل حالهم.
وهكذا الحكم فيمن أثنى عليه ومدحه بما صدر منه من قول أو فعل عدل سبحانه عن ذكره باسمه وعينه إلى ذكره بوصفه وفعله ليتناول المدح لمن شركه في ذلك من سائر الناس فإذا حمل السامع قوله {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر33]
(25/75)
ص -706- وقوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد19] ونظائرها على أبي بكر الصديق أو علي بن أبي طالب فقد ظلم اللفظ والمعنى وقصر به غاية التقصير وإن كان الصديق أول وأولى من دخل في هذا اللفظ العام وأريد به ونظير ذلك ما ذكره بعضهم في قوله {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} إلى قوله {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان 5 - 8] إن المراد بذلك علي بن أبي طالب فجمع إلى حمل هذا اللفظ العام المجاهرة بالكذب والبهت في دعواه نزولها في علي فإن السورة مكية وعلي كان بمكة فقيرا قد رباه النبي في حجره فإن أبا طالب لما مات اقتسم بنو عبدالمطلب أولاده لأنه لم يكن له مال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ورباه عنده وضمه إلى عياله فكان فيهم.
ومن تأمل هذه السورةعلم يقينا أنه لا يجوز أن يكون المراد بألفاظها العامة إنسانا واحدا فإنها سورة عجيبة التبيان افتتحت بذكر خلق الإنسان ومبدئه وجميع أحواله من بدايته إلى نهايته وذكره أقسام الخلق في أعمالهم واعتقاداتهم ومنازلهم من السعادة والشقاوة فتخصيص العام فيها
(25/76)
ص -707- بشخص واحد ظلم وهضم ظاهر للفظها ومعناها وشبيه بهذا ما ذكره بعضهم في قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف15] إنها نزلت في أبي بكر الصديق وابنه عبدالرحمن ونظيره ما تقدم من تفسير قوله {مُحَمَّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم} [الفتح29] إلى آخر الآية وقسمة جملها بين العشرة من الصحابة ومن تأمل ذلك علم أن هذا تفسير مختل مخل بمقصود الآية معدول به عن سنن الصواب وهذا باب يطول تتبعه جدا ولو أن الذين ارتكبوا ما ذكرنا من التفاسير المستكرهة المستغربة وحملوا العموم على الخصوص وأزالوا لفظ الآية عن موضوعه علموا ما في ذلك من تصغير شأن القرآن وهضم معانيه من النفوس وتعريضه لجهل كثير من الناس بما عظم الله قدره وأعلى خطره لأقلوا مما استكثروا منه ولزهدوا فيما أظهروا الرغبة فيه وكان ذلك من فعلهم أحسن وأجمل وأولى بأن يوفى معه القرآن بعض حقه من الإجلال والتعظيم والتفخيم ولو لم يكن في حمل تفسير القرآن على الخصوص دون العمومم إلا ما يتصوره التالي له في نفسه من أن تلك الآيات إنما قصد بها أقوام من الماضين
(25/77)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق