الخميس، 8 مايو 2025

ج1 وج2. كتاب : التبصرة في أصول الفقه المؤلف : إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي

 

ج1 وح2. كتاب : التبصرة في أصول الفقه

المؤلف : إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي

 
 مسألة 1 الأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه

وقالت المعتزلة هو إرادة الفعل بالقول ممن هو دونه
لنا هو أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه إسمعيل ولهذا قال في الحكاية عن إسمعيل يا أبت افعل ما تؤمر ولم يرد منه ذلك لأنه لو أراد منه ذلك لوقع منه على أصلهم لأنه لا يجوز أن يريد أمرا ولا يوجد ولما جاز أن ينهاه على أصلهم لأن الأمر بالشيء يدل على حسن المأمور به ولا يجوز أن ينهاه عن الحسن
فإن قيل الذي أمر به مقدمات الذبح من الاضجاع وتله للجبين وقد فعل ذلك
قلنا هذا خلاف الظاهر الذي في القرآن إني أرى في المنام أني أذبحك
ولأنه لو كان المأمور به هو المقدمات لم يكن في ذلك بلاء مبين ولا احتاج

فيه إلى صبر وقد قال عز و جل إن هذا لهو البلاء المبين وقال ستجدني إن شاء الله من الصابرين فدل على أن الأمر تناول جميع ذلك
ولأنه لو كان المأمور به مقدمات الذبح لما احتاج فيه إلى الفداء لأنه قد فعل ذلك وقد قال الله تعالى وفديناه بذبح عظيم فبطل ما قالوه
فإن قيل فقد فعل الذبح ولكن كلما قطع جزءا التحم
قلنا لو كان هذا صحيحا لكان قد ذكره الله سبحانه وأخبر عنه لأن ذلك من المعجزات والآيات الباهرة الظاهرة
ولأنه لو كان كما ذكروه لكان لا يفتقر إلى الفداء لأنه قد امتثل الأمر
وأيضا فإن السيد من العرب إذا قال لعبده افعل كذا سموا ذلك أمرا وإن لم يعلم مراده ولو كان شرط الأمر الإرادة لما أطلقوا عليه هذا الاسم قبل أن تعلم إرادته
وأيضا أنه لو كان الأمر يقتضي الإرادة لما حسن أن يقول الرجل لعبده أمرتك بكذا ولم أرده كما لا يجوز أن يقول أردت منك كذا ولم أرده ولما جاز أن يقول أمرتك بكذا ولم أرده ولم يعد متناقضا دل على أن الأمر لا يقتضي الإرادة
ولأنه لو كان الأمر يقتضي الإرادة لوجب أن لا يكون أمرا لا مريدا ولما رأينا من يأمر وليس بمريد وهو المكره دل على أنه لا يقتضي الإرادة
واحتجوا بأن هذه الصفة ترد والمراد بها الأمر كقوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة

وترد والمراد بها التهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم
وترد والمراد بها التكوين كقوله تعالى كونوا قردة خاسئين
وترد والمراد بها التعجيز كقوله تعالى فأتوا بسورة من مثله
وإنما ينفصل الأمر بها عما ليس بأمر بالإرادة فدل على أن الإرادة شرط في كون الصيغة أمرا
الجواب أنا لا نسلم أن الأمر يميز عما ليس بأمر بالإرادة وإنما يتميز بالاستدعاء فقوله تعالى وأقيموا الصلاة استدعاء فكان أمرا وسائر الصيغ الأخر لم تكن استدعاء فلم تكن أمرا وإذا جاز أن يكون الأمر يتميز بما ذكرناه بطل احتجاجهم
قالوا لو لم يكن من شرطه الإرادة لوجب أن يصح الأمر من البهيمة ولما لم يصح منها دل على أنه إنما لم يصح لعدم الإرادة
قلنا لا نسلم هذا بل أيضا إنما لم يصح لعدم القول ومن شرط الأمر

الاستدعاء بالقول ممن هو دونه ولهذا نقول إن المجنون إذا قال لمن هو دونه افعل كذا كان ذلك أمرا وإن لم تكن له إرادة
قالوا ولأن العرب لا تفرق بين قولهم أريد منك كذا وبين قولهم افعل كذا
قلنا لا نسلم هذا أيضا بل قوله أريد إخبار عن مراده من غير استدعاء وقوله افعل كذا استدعاء ألا ترى أنه يدخله الصدق والكذب في قوله أريد ولا يدخل ذلك في قوله افعل
ولأنه لا يصح أن يقول أريد منك كذا وليس أريده ويصح أن يقول افعل كذا وليس أريده فدل على أن مقتضى أحدهما غير مقتضى الآخر
واحتجوا بأن النهي إنما كان نهيا لكراهية المنهي عنه فكذلك يجب أن يكون الأمر أمرا لإرادة المأمور به
قلنا لا نسلم بل النهي إنما كان نهيا لاستدعاء الترك بالقول ممن هو دونه لا فرق بينه وبين الأمر
مسألة 2 للأمر صيغة موضوعة في اللغة وهو قول الرجل لمن هو دونه افعل
وقالت الأشعرية ليس للأمر صيغة وقوله افعل لا يدل على الأمر إلا بقرينة
لنا هو أن السيد من العرب إذا قال لعبده اسقني ماء فلم يسقه عاقبه على ذلك ووبخه عليه واستحسن عقلاء العرب توبيخه وعقوبته ولو لم تكن هذه الصيغة موضوعة للاستدعاء لما حسن عقوبة هذا العبد على تركه الإسقاء

فإن قيل إنما استحق العبد العقوبة لأن المراد بقرينة اقترنت باللفظ من شاهد الحال دلت على مراد المولى
قلنا لم توجد هناك قرينة ولا شيء سوى هذه الصيغة فدل على أن العقوبة تعلقت بمخالفتها
ويدل عليه أيضا هو أن أهل العلم باللسان قسموا الكلام أقساما فقالوا أمر ونهي وخبر واستخبار فالأمر قولهم افعل والنهي قولهم لا تفعل والخبر زيد في الدار والاستخبار أزيد في الدار ولم يشرطوا في إثبات الأمر قرينة تدل على كونه أراد فدل على أن الصيغة بمجردها أمر
فإن قيل فلم يشرطوا أيضا أن تكون هذه الصيغة من الأعلى للأدنى ولا خلاف أن ذلك شرط في كونه أمرا
قلنا قد بينوا ذلك فإنهم سموا هذا الخطاب من الأدني للأعلى مسألة وطلبا وذكروا ذلك في أقسام الكلام أيضا فعلمنا أن الرتبة شرط وأما القرينة في كون الصيغة موضوعة للاستدعاء فما ذكرها أحد فبطل اعتبارها

ولأن قوله افعل متصرف من قوله فعلت والمتصرف من كل فعل لا يدل إلا على ما يدل عليه الفعل ثم ثبت أن قوله فعلت يقتضي وجود الفعل فوجب أن يكون قوله افعل يقتضي إيجاد الفعل
احتجوا بأن هذه الصيغة ترد والمراد بها الأمر كما قلتم وترد والمراد بها التهديد وترد والمراد بها التعجيز وترد والمراد بها التكوين على ما مضى في المسألة قبلها وليس حمله على بعض هذه الأحوال بأولى من بعض فوجب التوقف فيها كما يتوقف في الأسماء المشتركة مثل اللون والعين وغيرها
والجواب أن هذه الصيغة بمجردها موضوعة للاستدعاء وإنما تحمل على ما عداها بقرينة من شاهد الحال وغيره وتفارق اللون والعين فإن تلك الأشياء لم توضع لشيء معين ولهذا لو أمر عبده أن يصبغ له الثوب بلون لم يستحق الذم بأي صبغ صبغه ولو قال لعبده اسقني ماء استحق الذم بترك الإسقاء ولو كان قوله اسقني مشتركا بين الفعل والترك كاشتراك اللون بين السواد والبياض لما استحق الذم والتوبيخ بتركه
ولأن أهل اللغة لم يجعلوا اللون لشيء بعينه بل جعلوا ذلك اسما للون غير معين وعولوا في التعيين على الوصف فقالوا لون أحمر ولون أصفر ولون أسود
وليس كذلك ههنا
فإن أهل اللغة والنحو جعلوا قوله افعل للاستدعاء ووضعوا للترك لفظا آخر فافترقا
قالوا إثبات الصيغة للأمر لا يخلو إما أن يكون بالعقل ولا مجال له فيه

أو بالنقل ولا يخلو
إما أن يكون آحادا فلا يقبل في أصل من الأصول
أو متواترا ولا أصل له لأنه لو كان لعلمناه كما علمتم ولما لم يعلم دل على أنه لا أصل له فلا معنى لإثبات الصيغة
قلنا هذا يقلب عليكم في إثبات الاشتراك في قوله افعل فإنه لا يخلو إما أن يكون بالعقل ولا مجال له فيه أو بالنقل ولا يجوز أن يكون أحادا لأن ذلك إثبات أصل فلا يجوز بخبر الواحد أو بالتواتر ولا أصل له فلا معنى لدعوى الاشتراك
وعلى أنا نقلنا ذلك من طريقين
أحدهما إجماع عقلاء العرب وأهل اللسان على ذم العبد بمخالفة هذه الصيغة
والثاني اتفاق أهل اللغة والنحو على التمييز بين الأمر والنهي في أقسام الكلام وهم الواسطة بيننا وبين العرب فبطل ما قالوا
مسألة 3 إذا تجردت صيغة الأمر اقتضت الوجوب

وقالت الأشعرية إذا ثبت كون الصيغة للاستدعاء وجب التوقف فيها ولا تحمل على الوجوب ولا على غيره إلا بدليل
وقالت المعتزلة يقتضي الأمر الندب ولا يحمل على الوجوب إلا بدليل وهو قول بعض أصحابنا
لنا قوله عز و جل ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك فوبخ الله تعالى إبليس على ترك السجود ومخالفة الأمر فدل على أنه يقتضي الوجوب
فإن قيل يجوز أن يكون الأمر الذي وبخه على مخالفته قارنته قرينة تقتضي الوجوب فخالف ذلك فلهذا استحق الذم والتوبيخ
والجواب أن الظاهر يقتضي تعلق التوبيخ بمجرد الأمر من غير قرينة ألا تراه قال إذ أمرتك ولم يذكر قرينة فمن ادعى انضمام قرينة إلى الأمر فقد خالف الظاهر

وجواب آخر وهو أن الله سبحانه ذكر الأمر في موضع آخر فقال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس وليس معه قرينة فالظاهر أنه وبخه على مخالفته هذا الأمر
ويدل عليه قوله عز و جل فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فتواعد على مخالفة أمر النبي صلى الله عليه و سلم فدل على أن أوامره كلها تقتضي الوجوب
وأيضا قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة فهذا نص في إيجاب الأمر ونفي التخيير بين الفعل والترك
فإن قيل هذا يدل على وجوب أوامر الله تعالى وأوامر الرسول عليه السلام وكلامنا في مقتضى اللفظ في اللغة
قلنا القصد بهذه المسألة أوامر الله تعالى وأوامر رسوله عليه السلام وإذا ثبت الوجوب في أمرهما حصل المقصود
ويدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا رجلا فلم يجبه وهو في الصلاة فقال له ما منعك أن تجيبني قال كنت في الصلاة فقال له ألم تسمع الله

يقول يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم فوبخه على مخالفة الأمر فدل على أن الأمر يقتضي الوجوب
فإن قيل نحن لا نمنع أن يكون في الشرع أمر مخصوص يقتضي الوجوب ويستحق التوبيخ على مخالفته وإنما الخلاف في مقتضى اللفظ في الجملة فلا يجوز الاحتجاج عليه بأوامر مخصوصة
والجواب أنه ليس عندهم أمر يستحق التوبيخ على مخالفته لكونه أمرا والخبر يقتضي تعلق التوبيخ بترك الأمر فحسب
ويدل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لبريرة كنت لو راجعته فإنه أبو ولدك فقالت بأمرك يا رسول الله فقال لا إنما أنا شفيع فقالت لا حاجة لي فيه فمعلوم أن إجابة النبي صلى الله عليه و سلم فيما يشفع فيه مستحقة فلما فرق بين الأمر والشفاعة دل على أنه لو أمر لاقتضى الوجوب
وأيضا قوله عليه السلام لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة فدل على أنه لو أمر به لوجب وأن شق

ويدل عليه أن السيد من العرب إذا قال لعبده اسقني ماء فلم يسقه استحق التوبيخ واللوم بإجماع عقلاء أهل اللسان ولو لم يقتض الأمر الإيجاب لما حسن لومه وتوبيخه
فإن قيل إنما استحق اللوم لأنه قد اقترن بالأمر ما اقتضى الإيجاب من شاهد الحال
قلنا لم يوجد أكثر من مجرد الصيغة فدل على أن اللوم تعلق بمخالفتها
وأيضا فإن أهل اللسان فرقوا بين السؤال والأمر فقالوا إذا قال لمن هو دونه افعل أن هذا أمر وإذا قال لمن هو فوقه افعل قالوا هذا سؤال ولو كان الأمر لا يقتضي الوجوب لم يكن لهذا الفرق معنى
والذي يدل على إبطال قول المعتزلة خاصة أن المنهي يقتضي ترك المنهي عنه على سبيل الوجوب فكذلك الأمر يجب أن يقتضي فعل المأمور به على سبيل الوجوب لأن كل واحد منهما أمر إلا أن أحدهما أمر بالفعل والآخر أمر أمر بالترك
فإن قيل النهي عندنا لا يقتضي وجوب ترك المنهي عنه بنفسه وإنما يقتضي كراهية المنهي عنه كما أن الأمر يقتضي إرادة المأمور به غير أن الكراهية من الحكيم تقتضي قبح المنهي عنه فوجب تركه والإرادة تقتضي حسن المأمور به من الحكيم والحسن قد يكون واجبا وقد يكون نفلا فلم يجب فعله
والجواب أن الحكيم قد يكره الشيء كراهة تنزيه وهو أن يكون تركه أولى من فعله ولا يكون قبيحا كنهيه عن الالتفات في الصلاة وغير ذلك مما يكره

كراهية التنزيه وقد ينهى عما هو قبيح كنهيه عن الزنا والسرقة وغير ذلك فلم يكن حمله على التحريم بأولى من حمله على التنزيه ولما حملوه على التحريم دل على أن مقتضى الأمر الإيجاب
وجواب آخر وهو أنه إن كان النهي يقتضي الوجوب لما ذكروه وجب أن يقتضي الأمر الوجوب لأنه ما من أمر إلا وهو يتضمن النهي عن ضده والنهي عن ضده يقتضي قبحه لأن الحكيم لا ينهى إلا عن قبيح ولا يمكن تركه إلا بفعل المأمور به فوجب أن يكون مقتضى الأمر الإيجاب
ولأن الأمر موضوع لاقتضاء الفعل فوجب أن يحمل على وجه يحصل معه الفعل ومتى حملناه على الندب جوزنا له تركه ولا يمكن إلا بفعل ذلك يوجب الإخلال بموضوع اللفظ
احتج من قال بالوقف بأن هذه الصيغة ترد والمراد بها الإيجاب وترد والمراد بها الاستحباب وترد والمراد بها الإباحة وليس حملها على أحد هذه الوجوه بأولى من حملها على الوجه الآخر فوجب التوقف فيها كاللون والعين
والجواب أن هذا يبطل بقوله أوجبت وفرضت فإنه قد يستعمل في غير الوجوب وهو قوله عليه السلام غسل الجمعة واجب على كل محتلم

وقوله عليه السلام المضمضة والاستنشاق فريضتان في الجنابة ثلاثا ثم إطلاقه يحمل على الوجوب وعلى أن هذا اللفظ بمجرده موضوع للإيجاب ويرد والمراد به الندب بقرينة تقترن به كالحمار موضوع بمجرده موضوع للبهيمة ويستعمل في الرجل البليد بقرينة والأسد موضوع للبهيمة المفترسة ويستعمل في الرجل الشجاع بقرينة فكذلك ههنا ويفارق ما ذكروه من اللون والعين وغيرهما من الأسماء المشتركة فإن ذلك غير موضوع بمجرده لشيء بعينه وقد بينا أن هذا اللفظ بمجرده موضوع في اللغة للإيجاب فإذا حمل على الندب كان بقرينة تقترن به ودلالة تدل عليه
فإن قيل ما الفرق بينك وبين المعتزلة أن لفظ الأمر بمجرده موضوع للندب ثم نحمله على الوجوب بدليل القرينة
قلنا القرآن فصل بينهما وهو قوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك وقول السيد من العرب لعبده اسقني ماء وهذان الدليلان فصل بينهما
واحتجوا بأن دعوى الإيجاب في هذه الصيغة لا يخلو إما أن تكون بالعقل أو بالنقل
والعقل لا يوجب ذلك
والنقل لا يخلو إما أن يكون متواترا أو أحادا
وليس يقبل فيه الآحاد لأنه من مسائل الأصول

وليس فيه تواتر لأنه لو كان لأوجب العلم ضرورة لنا ولكم ولما لم يقع العلم دل على أنه ليس فيها تواتر فلا معنى لحملها على الإيجاب
والجواب أن هذا ينقلب عليهم في دعواهم أن هذا اللفظ مشترك بين الوجوب والاستحباب والإباحة فإنهم أثبتوا هذا الاشتراك وليس معهم في ذلك واحد من الطريقين على ما ساقوه
وجواب آخر وهو أنا قد بينا ذلك بالاستدلال من أفعالهم على مقاصدهم وعلمنا بضربهم العبيد على المخالفة أنهم وضعوا هذه الصيغة للإيجاب
ولأنهم إن كلمونا في أوامر صاحب الشرع فقد بينا من القرآن والسنة المتلقاة بالقبول ما يدل على الوجوب فوجب حملها على ذلك
واحتجوا بأن استعمال هذا اللفظ في الندب والإباحة أكثر من استعماله في الوجوب ولا يجوز أن يكون موضوعا للوجوب ثم يستعمل في غير موضعه أكثر
قلنا لا نمنع أن يكون موضوعا للوجوب ثم يستعمل في غيره أكثر ألا ترى أن الوطء اسم للدوس في اللغة حقيقة ثم صار استعماله في الجماع أكثر فكذلك ههنا لا يمتنع أن يكون مثله
واحتج المعتزلة بأن الأمر من الحكيم يقتضي حسن المأمور به إذ لا يجوز أن يريد الإباحة في دار التكليف وحسنه لا يقتضي أكثر من الندب وأما الزيادة على ذلك فلا تقتضيه فحملناه على أدنى ما يقتضيه اللفظ

والجواب أن هذه ددعوى وشرح لمذهبهم وأنه لا يقتضي أكثر من ذلك
وليس قولهم في هذا هذا إلا كقول من يقول في قوله أوجبت عليك أنه لا يقتضي أكثر من ذلك فلا يحمله على الإيجاب
ثم هذا يبطل بالنهي فإنه يدل من الحكيم على كراهية المنهي عنه وكراهيته لا تقتضي التحريم لأنه قد يكره كراهية تنزيه ثم لم يحمل على أدنى ما تتناوله الكراهة فبطل ما قالوه
وجواب آخر وهو أنه إن كان الأمر يقتضي حسن المأمور به فهو يقتضي قبح ضده ولا يمكنه ترك ضده إلا بفعل المأمور به فوجب أن يكون واجبا
واحتج بأنه لو كان ذلك يقتضي الوجوب لما حسن من الولد مع والده والعبد مع سيده وقد رأينا الجميع يتخاطبون بينهم بذلك فدل على أنه لا يقتضي الوجوب ألا ترى أن قوله فرضت وألزمت لما اقتضى الوجوب لم يتخاطب به العبيد والسادة
قلنا هذا يبطل بلفظ النهي فإن الجميع يتخاطبون به فيما بينهم ثم ظاهره الوجوب
ولأن استعمال اللفظ في بعض المواضع التي لا تحتمل الوجوب لا يدل على أنه غير موضوع للوجوب
ألا ترى أن الحمار يستعمل في موضع لا يحتمل البهيمة كقولهم في البليد هذا حمار ثم لا يدل على أنه غير موضوع للبهيمة المخصوصة وكذلك ها هنا مثله

قالوا ولأن قوله افعل لمن هو فوقه يقتضي الإرادة دون الوجوب فكذلك لمن هو دونه وجب أن يقتضي الإرادة دون الوجوب
قلنا يبطل بالنهي ثم هذا اللفظ لمن هو فوقه يسمى سؤالا وطلبا ولمن هو دونه يسمى أمرا فدل على الفرق بينهما
واحتجوا بأن قوله افعل وقوله أريد منك أن تفعل واحد لأن كل واحد منهما يقتضي إرادة المأمور به فإذا لم يقتض أحدهما الإيجاب لم يقتضي الآخر
قلنا لا نسلم هذا بل معنى قوله افعل استدعاء الفعل ومعنى قوله أريد منك أن تفعل إخباره عما يريده ولهذا يدخل الصدق والكذب في أحدهما دون الآخر ولأن قوله أريد يسمى مسألة وطلبا وقوله افعل يسمى أمرا فافترقا
مسألة 4 المندوب إليه غير مأمور به في أحد الوجهين ومأمور به في الوجه الثاني
فوجه الأول ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لبريرة كنت لو راجعته فإنه أبو ولدك قالت يأمرك يا رسول الله فقال لا إنما أنا شفيع وإجابة النبي صلى الله عليه و سلم فيما يشفع فيه مندوب إليه فلو كان المندوب مأمورا به لما امتنع من كونه أمرا
وأيضا فإنه لو كان المندوب إليه مأمورا به لحسن أن يقال لكل من ترك مستحبا من إماطة الأذى عن الطريق وصلاة التطوع وصوم التطوع عصيت الله

تعالى وخالفت أمره كما يحسن أن يقال ذلك لكل من ترك الواجب
ولما لم يجز أن يقال هذا دل على أنه غير مأمور به
واحتج من قال بالوجه الثاني بأنه طاعة فكان مأمورا به كالواجب
والجواب أن الواجب لم يكن مأمورا به لكونه طاعة وإنما صار مأمورا به لأنه يجب فعله ويعصى بتركه وفي مسألتنا لا يجب فعله ولا يعصى بتركه فافترقا
قالوا ولأن الواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والندب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه فإذا حمل على الندب فقد حمل على بعض ما يشتمل عليه الواجب فكان حقيقة فيه كما لو حملوا العموم على بعض ما يتناوله
قلنا لا نسلم أن معنى الواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه وإنما الواجب ما يعاقب على تركه ويدخل الثواب على فعله على وجه التبع وهو أنه لما امتثل الأمر صار مثابا عليه ويخالف العموم فإن لفظه يتناول الجنس كله فإذا خرج بعضه بالدليل بقي اللفظ متناولا للباقي فكان حقيقة فيه
مسألة 5 إذا ورد الأمر بعد الحظر متجردا على القرائن اقتضى الوجوب
ومن أصحابنا من قال يقتضي الإباحة وهو ظاهر قول الشافعي
لنا قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره ولم يفصل بين أن يتقدمه حظر أو لا يتقدمه حظر
ويدل عليه هو أن الأمر ورد متجردا عن القرائن فاقتضى الوجوب كما لو لم يتقدمه حظر
فإن قيل لا نسلم أنه ورد متجردا عن القرائن بل تقدم الحظر عليه قرينة تصرف اللفظ عن ظاهره وذلك أن الظاهر أنه يرفع ما تقدم من الحظر

والجواب أن القرينة ما يبين معنى اللفظ ويفسره وذلك إنما يكون بما يوافق اللفظ ويماثله فأما ما يخالفه ويضاده فلا يجوز أن يكون بيانا له فلا يجوز أن يجعل قرينة
وأيضا أنه لا خلاف أن النهي بعد الأمر يقتضي الحظر فكذلك الأمر بعد النهي وجب أن يقتضي الوجوب
ولأن كل واحد من اللفظين مستقل بنفسه فلا يتغير معه مقتضى الثاني بتقدم الأول كما لو قال حرمت عليك كذا ثم قال أوجبت عليك كذا ولا يلزم قولهم فلان بحر حيث حملنا البحر على وصف الرجل دون الماء الكثير لأن البحر غير مستقل بنفسه فاعتبر حكمه بنفسه ألا ترى أنه لو لم يصله بما قبله لم يفد فجعل وصفا لما قبله وههنا الكلام مستقل بنفسه فاعتبر حكمه بنفسه
واحتجوا بأن الظاهر من هذا الأمر أنه قصد به رفع الجناح فيما حظر عليه
يدل عليه أن السيد إذا منع عبده من فعل شيء ثم قال له افعله كان المعقول من هذا الخطاب إسقاط التحريم دون غيره فكذلك ههنا
الجواب أنا لا نسلم ما ذكروه بل الظاهر أنه قصد الإيجاب لأن اللفظ موضوع للإيجاب والمقاصد تعلم بالألفاظ
ولأن هذا نسخ للحظر والحظر قد ينسخ بإباحة وقد ينسخ بالإيجاب وليس حمله على الإباحة بأولى من حمله على الإيجاب فتعارض الاحتمالان في ذلك وبقي اللفظ على مقتضاه في الإيجاب
ولأنه لو جاز أن يقال هذا في الأمر بعد الحظر إن القصد به رفع الجناح فلم يقتض الجواب لجاز أن يقال في النهي بعد الأمر إن القصد منه إسقاط الوجوب وإباحة الترك فلا يقتضي الحظر
واحتجوا بأن كل أمر ورد في الشرع بعد الحظر فالمراد به الإباحة كقوله

عز و جل وإذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله فدل على أن هذا مقتضاه
فالجواب أنه قد ورد أيضا والمراد به الوجوب وهو قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين
وعلى أنا إنما حملنا هذه الأوامر على الإباحة بدلالات دلت عليها وهذا لا يدل على أن ذلك مقتضاها ألا ترى أن أكثر ألفاظ العموم في الشرع محمولة على الخصوص ثم لا يدل على أن مقتضاها الخصوص فكذلك ههنا
واحتجوا بأن الأشياء في الأصل على الإباحة فإذا ورد بعد الحظر ارتفع الحظر وعاد إلى الأصل وهو الإباحة
والجواب أنا لا نسلم أن الأشياء في الأصل على الإباحة بل هي على الوقف في أصح الوجوه
وعلى أن هذا يبطل به إذا قال بعد الحظر أوجبت فإنه يحمل على الوجوب ولا يقال إن الأشياء في الأصل على الإباحة فيرتفع الحظر بهذا اللفظ ويعود إلى الأصل وهو الإباحة
ولأنه لو جاز أن يقال هذا في الأمر بعد الحظر لجاز أن يقال في النهي بعد الأمر إنه لا يقتضي التحريم لأن الأشياء في الأصل على الإباحة فإذا ورد النهي بعد الأمر ارتفع الوجوب وعاد إلى أصله وهو الإباحة ولما لم يصح هذا في النهي بعد الأمر لم يصح في الأمر بعد النهي
مسألة 6 الأمر المجرد لا يقتضي التكرار في قول أكثر أصحابنا ومنهم من قال إنه يقتضي التكرار

لنا أن قوله صل أمر كما أن قوله صلى خبر عنه ثم ثبت أن قوله صلى لا يقتضي التكرار فكذالك قوله صل
وأيضا أن قوله صل وصم لا يقتضي أكثر من إيجاد ما يسمى صلاة وصوما
يدل عليه أنه إذا فعل صوما وصلاة حسن أن يقول صمت وصليت فإذا فعل ما يقتضيه اللفظ لم تلزمه زيادة إلا بدليل
ويدل عليه أنه لو حلف ليفعلن كذا بر بفعل مرة واحدة ولو كان اللفظ يقتضي التكرار لما بر بفعل مرة واحدة كما لو حلف ليفعلن كذا على الدوام
وأيضا أنه لو قال لوكيله طلق امرأتي لم يجز أن يطلق أكثر من طلقة فلو كان الأمر يقتضي التكرار لملك الوكيل إيقاع ثلاث تطليقات كما لو قال طلق ما شئت أو كل ما أملكه
فإن قيل مقتضى اللفظ في اللغة في ما ذكرتم من اليمين والتوكيل التكرار وإنما تركنا مقتضى اللفظ بالشرع ويجوز أن يكون اللفظ في اللغة يقتضي أمرا ثم يقرر الشرع فيه على غير مقتضاه في اللغة فيحمل على ذلك ولا يدل على أن ما في لم يقرر الشرع فيه شيئا لا يحمل على مقتضاه في اللغة كما لو حلف لا يأكل الرؤوس فإنا نحمل ذلك بالشرع على رؤوس النعم خاصة ثم لا يدل على أن الرؤوس في اللغة لا يقتضي سائر الرؤوس
والجواب عنه أن الأمر في اليمين والوكالة محمول على موجب اللغة والشرع ورد فيهما بمراعاة موجب اللغة ولهذا لو قيد كل واحد منهما بما يقتضي التكرار لحمل على التكرار وهو أن يقول والله لأفعلن كذا أبدا أو يقول لوكيله طلق امرأتي كل ما أملكه من الطلاق فلو لم يكن مقتضى اللفظ في اللغة ما ذكرناه لم يحمل عليه

وأما إذا حلف على أكل الرؤوس فإنما حملناه على رؤوس النعم لأن في عرف أهل اللغة لا يطلق اسم الرؤوس إلا على هذه الرؤوس فراعينا في ذلك أيضا موجب اللغة وعرف أهل اللسان فيجب أن يكون هاهنا أيضا يراعى موجب اللغة وعرف اللسان
واحتجوا بما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في شارب الخمر اضربوه فكرروا عليه الضرب ولو لم يكن مقتضى الأمر التكرار لما كرروا عليه الضرب
والجواب أنهم إنما حملوا اللفظ على التكرار لقرينة اقترنت باللفظ وهو شاهد الحال وذلك أنهم علموا أن قصده الردع والزجر وأن ذلك لا يحصل إلا بتكرار الضرب وخلافنا في الأمر المتجرد عن القرائن
وأيضا ما روي عن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى الله عليه و سلم أحجنا هذا في كل سنة أم في العمر مرة واحدة
فلو كان الأمر يقتضي مرة واحدة لم يكن لهذا السؤال معنى
قلنا هذا مشترك الدليل فإنه لو كان مقتضاه التكرار لم يكن لهذا السؤال معنى
فكل جواب لهم عن سؤاله عن التكرار واللفظ موضوع له فهو جوابنا عن سؤاله مرة واحدة واللفظ موضوع له

ولأنه إنما حسن السؤال لأن اللفظ يحتمل التكرار ومع الاحتمال يحسن السؤال فبطل تعلقهم به
واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
والجواب أنه إنما أمر بأن يؤتى من الأمر ما استطاع منه وعندنا الدفعة الثانية ليست من الأمر وإنما الأمر من الدفعة الأولى فيجب أن نأتي منها بما نستطيع
واحتجوا بأن أكثر أوامر الشرع على التكرار فدل على أن ذلك مقتضى الأمر
قلنا هذا يبطل بألفاظ العموم فإن أكثرها على التخصيص ولا يدل على أن ذلك مقتضاها
وعلى أنا إنما حملنا تلك الأوامر على التكرار لقيام الدلالة عليها وخلافنا في الأمر المتجرد عن الدليل
وعلى أن ما ذكروه دليل لنا فإن الأوامر التي ذكروها لم نحملها على التكرار على الدوام وإنما حملناها على التكرار في أوقات مخصوصة وعندهم أن الأمر يقتضي التكرار على الدوام فبطل ما قالوه
قالوا لا خلاف أن النهي يقتضي التكرار فكذلك الأمر
قلنا فرق بين اللفظ الموضوع للنفي وبين اللفظ الموضوع للإثبات
ألا ترى أنه لو قال والله لا فعلت كذا لم يبر إلا بالتكرار والدوام ولو قال والله لأفعلن كذا بر بمرة واحدة فدل على الفرق بينهما

ويدل عليه أنه لو كان النفي في الخبر بأن قال ما فعلت كذا اقتضى التكرار ولو كان للإثبات في الخبر بأن قال فعلت كذا اقتضى ما يقع عليه الاسم
ولأن النهي لو قيده بمرة واحدة اقتضى التكرار ولو قيد الأمر بمرة واحدة لم يقتض التكرار فدل على الفرق بينهما
واحتجوا بأن قوله صل يحتمل صلاة وأكثر من صلاة على طريق الحقيقة ألا ترى أنه يجوز أن يفسر بالجميع فوجب أن يحمل اللفظ على الكل
والجواب أنه يبطل بقوله صليت لأنه يحتمل صلاة وأكثر على ما ذكروه ثم لا يحمل إطلاقه إلا على أدنى ما يتناوله الاسم
واحتجوا بأنه لو قال احفظ هذا فحفظه ساعة ثم ترك حفظه استحق التوبيخ والعقوبة ولو لم يقتض الدوام لما حسن توبيخه وعقوبته
والجواب أن معنى الحفظ أن لا يضيع فإذا حفظه ساعة ثم تركه صار مضيعا فلم يجعل ممتثلا للأمر فلهذا أوجب عليه على الدوام وليس كذلك إذا قال صل فإن ذلك يقتضي تحصيل ما يسمى صلاة وذلك يحصل بفعل صلاة واحدة فافترقا
ويدل عليه أنه لو حفظ ساعة ثم خلاه لم يحسن منه أن يقول حفظت ولو صلى صلاة واحدة حسن أن يقول صليت فافترقا
ولأن البر في اليمين على الحفظ لا يحصل إلا بالمداومة والبر في اليمين على الصلاة وسائر الأفعال يحصل بأدنى ما يتناوله الاسم فدل على الفرق بينهما
واحتجوا بأن الأمر يقتضي وجوب الفعل ووجوب الاعتقاد ثم اعتقاد الفعل يجب تكراره فكذلك الفعل
قلنا لا يمنع أن يجب تكرار الاعتقاد دون الفعل كما لو قال صل مرة فإن الاعتقاد يتكرر وجوبه والفعل لا يتكرر وجوبه

ولأن الاعتقاد ليس يجب بالأمر وإنما يجب بمعنى آخر وهو أن الأمر يتضمن الخبر بوجوبه فإذا ذكر المكلف الأمر ولم يعتقد وجوبه صار مكذبا له في خبره فيصير كافرا بذلك فوجب عليه اعتقاد الوجوب كلما ذكر الأمر وليس كذلك الفعل فإنه يجب بالأمر وقد بينا أن اللفظ لا يقتضي إلا أدنى ما يتناوله الاسم فافترقا
قالوا الأمر بالصلاة عام في جميع الزمان كما أن لفظ العموم عام في الأعيان
والذي يدل عليه أنه يصح استثناء ما شاء من الأوقات كما يصح في العموم استثناء ما شاء من الأعيان ثم ثبت أن العموم في الأعيان يقتضي استغراق جميعهم فكذلك الأمر في الأزمان وجب أن يقتضي استغراق جميعها وفي إثبات هذا إثبات التكرار
والجواب أن لفظ الأمر لا يتناول الزمان وإنما يتناول الفعل غير أن الفعل لا يقع إلا في زمان فلم يجب حمله على العموم فيما لم يتناوله ويخالف في هذا العموم في الأعيان بأن اللفظ يتناول الأعيان فحمل على عمومه
يدل عليه أنه لو قال والله لأقتلن المشركين حمل ذلك على عامتهم ولو قال والله لأقتلن لم يحمل ذلك على جميع الأعيان بل إذا قتل واحدا بر فافترقا
مسألة 7 إذا علق الأمر بشرط وقلنا إن مطلق الأمر لا يقتضي التكرار ففي المعلق بشرط وجهان
أصحهما لا يقتضي التكرار
ومن أصحابنا من قال يقتضيه

لنا هو أن كل أمر اقتضى مرة واحدة إذا كان مطلقا اقتضى مرة واحدة وإن كان معلقا هو شرط كما لو قال صل وصم
ولأنه إذا كان المطلق لا يقتضي التكرار فالمعلق بشرط مثله لأن الشرط إنما يفيد تعلق المطلق عليه فقط فإذا لم يقتض المطلق التكرار وجب أن لا يقتضي المعلق بشرط
ولأن أهل اللسان فرقوا بين قولهم افعل كذا إذا طلعت الشمس وبين قولهم افعل كذا كلما طلعت الشمس ولهذا قال الفقهاء فيمن قال لزوجته أنت طالق إذا طلعت الشمس فإنه يقع الطلاق عليه مرة واحدة ولا يعود ولو قال أنت طالق كلما طلعت الشمس تكرر وقوع الطلاق لتكرر الشرط ولم يفرقوا بين اللفظين إلا لاختلافهما في موجب اللغة
وأيضا فإن تعليق الأمر بالشرط يقتضي تخصيصه فإذا كان مطلقه في الأحوال كلها لا يقتضي التكرار فالمخصوص ببعض الأحوال أولى بذلك
واحتج القائل الآخر بأن تعلق الحكم بالشرط كتعلقه بالعلة إذ كل واحد منهما سبب فيه فإذا كان تكرار العلة يوجب تكرار الحكم فكذلك تكرار الشرط
قيل لا نسلم هذا بل بينهما فرق ظاهر وهو أن العلة دلالة تقتضي الحكم فتكرر الحكم بتكررها والشرط ليس بدلالة على الحكم ألا ترى أنه لا يقتضيه وإنما هو مصحح له فدل على الفرق بينهما

واحتج بأن أوامر الله تعالى المعلقة بالشروط كلها على التكرار كقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا وكقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ونحو ذلك فدل على أن ذلك مقتضاه
والجواب أن في أوامره المعلقة على الشرط ما لا يقتضي التكرار كالأمر بالحج
ولأن أوامر الشرع اقترنت بها أدلة تقتضي التكرار من الإجماع والقياس وغيرهما وليس فيما اختلفا فيه دلالة تقتضي التكرار فبقي على ظاهره
واحتج أيضا بأن النهي المعلق بالشرط يقتضي التكرار فكذلك الأمر
والجواب هو أن من أصحابنا من سوى بين الأمر والنهي إذا تعلق بالشرط
وإن سلمنا فإن الأمر مخالف للنهي ألا ترى أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار والنهي المطلق يقتضيه
ولأنا بينا الفرق بينهما فيما مضى بما يغني عن الإعادة
مسألة 8 تكرار الأمر بالشيء يقتضي تكرار المأمور به

وقال الصيرفي لا يقتضي التكرار
لنا أن كل واحد من اللفظين يقتضي إيجاد الفعل عند الانفراد فإذا اجتمعا وجب أن يقتضيا التكرار كما لو كانا بفعلين مختلفين
وأيضا أن المقتضي للفعل هو الأمر والثاني كالأول في الإفادة فوجب أن يكون كالأول في الإيجاب
واحتج بأن أوامر الله تعالى في القرآن قد تكررت ولم تقتض تكرار الفعل
والجواب أنا تركنا الظاهر في تلك الأوامر للدلالة
قالوا ولأن الأمر الثاني يحتمل الاستئناف ويحتمل التأكيد فلا نوجب فعلا مستأنفا بالشك
والجواب أنا لا نسلم أن ذلك شك بل هو ظاهر فإن الظاهر أنه ما كرر إلا للاستئناف فيجب أن يحمل عليه
واحتج أيضا بأن السيد إذا قال لعبده اسقني ماء ثم كرر ذلك لم يقتض التكرار فكذلك ههنا
قلنا لا نسلم هذا إلا أن يكون في الحال ما يدل على أنه قصد التأكيد فيحمل عليه لدلالة الحال
وإن سلمنا فلأن الأمر منا لا غرض له في تفريق الأمر فلو كان أراد شيئين لجعلهما في لفظ واحد وصاحب الشرع قد يرى المصلحة في تفريق الأمر فحمل ذلك على شيئين مختلفين
مسألة 9 الأمر المطلق لا يقتضي الفعل على الفور في قول أكثر أصحابنا
وقال أبو بكر الصيرفي والقاضي أبو حامد

إنه يقتضي الفور وهو قول أكثر أصحاب أبي حنيفة
وقال بعض المتكلمين يتوقف فيه إلى أن يقوم الدليل على ما أريد به من الفور أو التراخي
لنا أن الأمر يقتضي استدعاء الفعل وليس للزمان فيه ذكر ففي أي وقت فعله وجب أن يصير ممتثلا
يدل عليه أنه لما اقتضى الفعل ولم يكن لحال الدخول فيه ذكر جاز فعله في كل حال من أحواله فيصير ممتثلا كذلك في الزمان مثله
ويدل عليه أن الأمر لا يقتضي زمانا ولا مكانا وإنما يحتاج إلى زمان ومكان لأن أفعال المخلوقين لا تقع إلا في زمان ومكان ثم ثبت أنه في أي مكان فعل صار ممتثلا وكذلك في أي زمان فعل وجب أن يصير ممتثلا
ويدل عليه أن الامتثال في الأمر كالبر في اليمين ثم لو قال والله

لأفعلن كذا صار بارا في اليمين وإن أخر الفعل عن حال اليمين فكذلك يجب أن يصير ممتثلا في الأمر وإن أخره عن حال الأمر
ويدل عليه أن قوله اقتل مطلق في الأزمان كما أنه مطلق في الأعيان ثم إنه لا خلاف أنه يصير ممتثلا بقتل من شاء فوجب أن يصير متمثلا بالقتل في أي وقت شاء ولهذا قال عمر بن الخطاب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقد صدوا عن البيت يوم الحديبية أليس قد وعدنا الله بالدخول فكيف صدونا فقال له أبو بكر الصديق إن الله تعالى وعد بذلك ولكن لم يقل في أي وقت فدل على أن اللفظ لا يقتضي الوقت الأول
واحتجوا بقوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وفي فعل الطاعة مغفرة فوجبت المسارعة إليها
الجواب أن المراد بالآية التوبة من الذنوب والإنابة إلى الله تعالى
والذي يدل عليه هو أن التوبة هي التي تتعلق بها المغفرة في الحقيقة فوجب حمل الآية عليها
واحتجوا بأنه أحد نوعي خطاب التكليف فكان على الفور كالنهي
قلنا النهي يتناول الانتهاء في جميع الأوقات على الدوام والاتصال فيعلق

بالوقت الأول كما يعلق بجميع الأوقات وليس كذلك الأمر فإنه لا يقتضي أكثر من وقت واحد وليس الوقت الأول بأولى من الوقت الثاني فكان جميع الأوقات فيه واحدا
واحتجوا أيضا بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ولا يصير منتهيا عن ضده إلا بفعل المأمور به على الفور
والجواب أنه يبطل به إذا قال له افعل في أي وقت شئت فإنه يجوز له التأخير وإن أدى إلى ما ذكروه
وجواب آخر وهو أنه لو كان هذا صحيحا لوجب أن يحمل الأمر على التكرار لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فيجب أن يداوم على الفعل ليصير منتهيا على الدوام
وجواب آخر وهو أن الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده من طريق اللفظ فيراعى فيه موجب لفظ النهي وإنما هو نهي من طريق المعنى فإنه لا يجوز أن يكون مأمورا بالشيء إلا وضده محرم عليه فلم يتعلق ذلك إلا بما يفوت به المأمور فإذا كان الأمر بفعل واحد اقتضى ذلك تحريم ما يفوت به الفعل وذلك لا يقتضي المسارعة إلى المأمور به
واحتجوا بأن الأمر يقتضي ثلاثة أشياء الفعل والعزم عليه واعتقاد الوجوب ثم العزم والاعتقاد على الفور فكذلك الفعل
والجواب عن الاعتقاد ما قضي في مسألة الأمر هل يقتضي التكرار وأما العزم فلم يكن على الفور بموجب اللفظ بل كان على الفور لأن المكلف لا ينفك من العزم على الفعل والترك فالعزم على الترك معصية وعناد لصاحب

الشرع فتعين العزم على الفعل وأما الفعل فهو موجب اللفظ وليس في اللفظ ما يوجب التعجيل فافترقا
ولأنه لو قيد الأمر بالتراخي لوجب العزم على الفور والفعل على التراخي فدل على الفرق بينهما
واحتجوا بأن قوله افعل يقتضي إيجاد الفعل فلو قلنا أنه على التراخي لأثبتنا تخييرا لا يدل عليه اللفظ
والجواب أنه يبطل به إذا قال اقتل فإنه ليس في اللفظ تخيير ثم يتخير في أعيان المقتولين
ولأن هذا يعارضه أن اللفظ يقتضي إيجاد الفعل فمن جعله على الفور فقد زاد في اللفظ زيادة وأثبت تخصيصا لا يدل عليه اللفظ وهذا لا يجوز
واحتجوا بأن السيد إذا قال لعبده اسقني ماء فلم يسقه على الفور استحق التوبيخ فدل على أن مقتضاه الفور
والجواب أنه إن لم تكن هناك قرينة تقتضي الفور لم يستحق التوبيخ وإنما يستحق ذلك إذا اقترن بالأمر قرينة يعلم بها الفور فيستحق التوبيخ على ذلك لمكان الدلالة
واحتجوا بأنا أجمعنا على كون الفعل قربة في أول الوقت فمن أثبت القربة في الوقت الثاني احتاج إلى دليل
والجواب أن الذي اقتضى كون الفعل قربة في الوقت الأول تناول الأمر وقد بينا أن تناوله للوقت الثاني والأول واحد فوجب أن يكون قربة في الجميع

واحتجوا بأنه لو قال له افعل وعجل صح وكان ذلك حقيقة فيه ولو لم يكن ذلك حقيقة في الأمر لوجب أن يكون مجازا
والجواب أن هذا حجة عليهم فإنه لو كان الأمر يفوت بترك التعجيل لما حسن أن يقول له افعل وعجل ألا ترى أن الصوم لما فات بفوات الوقت لم يحسن أن يقول صم وعجل ولما حسن أن يقول له افعل كذا وعجل دل على أنه لا يفوت بالتأخير
ثم هذا يبطل به إذا قال اقتل زيدا فإنه يصح ويكون حقيقة ثم لا يقال إن مقتضى اللفظ المطلق منه قتل زيد خاصة لأنه لو لم يكن ذلك مقتضاه لوجب أن يصير مجازا
وعلى أن اللفظ إنما يصير مجازا إذا وضع لشيء بعينه ثم استعمل في غيره كالحمار موضوع للبهيمة المخصوصة فإذا استعمل في الرجل البليد كان مجازا
وأما لفظ الأمر فإنه غير موضوع لزمان ولا متناولا له من حيث اللفظ وإنما يتناول الفعل فحسب والزمان إنما يحتاج إليه لضرورة فعل المكلف ففي أي وقت استعمل لم يصر مجازا
قالوا ولأنه استدعاء فعل بقول مطلق فاقتضى التعجيل كالإيجاب في البيع
قلنا الإيجاب لم يقتض القبول على الفور من جهة اللغة وإنما اقتضى ذلك من جهة الشرع ولهذا لو رضي البائع أن يقبل على التراخي لم يجز وكلامنا في مقتضى اللفظ في اللغة فلا يجوز أن يستدل عليه بالشرعيات
واحتجوا بأنه إذا لم يفعل المأمور به حتى مات لم يخل إما أن لا يعصي بذلك فيخرج الفعل عن أن يكون واجبا ويلحق بالنوافل أو يعصي فلا يخلو إما أن يعصي بعد الموت وهذا لا يجوز لأنه لا طريق له إلى فعل

المأمور به بعد الموت فلا يجوز أن يلحقه العصيان أو يعصي إذا غلب على ظنه أنه إذا أخره فاته الأمر وهذا لا يجوز لأنه قد يموت بغتة ويخترم فجأة ولا يجوز أن يكون عاصيا فثبت أنه عصى من أول حال الإمكان وهذا يدل على أنه وجب على الفور
والجواب أن هذا يبطل بقضاء رمضان والكفارات وما أخبرنا خبره من العبادات فإن هذا التقسيم موجود فيه ثم وجوبها على التراخي
وجواب آخر وهو أن أبا علي بن أبي هريرة قال لا يعصي إذا مات ولا يلحق بالنوافل لأنا نوجب عليه العزم على الفعل في الفرائض وفي النوافل لا يجب ذلك
ومن أصحابنا من قال إنه يعصي إذا غلب على ظنه فواته فإن اخترم بغتة لم يعص وهذا لا يمنع ألا ترى أن الوصية كانت واجبة قبل النسخ وكان وجوبها متعلقا بهذا المعنى فلو اخترم فجأة لم يعص بتركها ولم يدل ذلك أنها غير واجبة
واحتجوا بأنه لو لم يتعلق الأمر بالوقت الأول لتعلق بوقت مجهول وذلك لا يجوز كما لا يجوز تعليقه بوقت معين مجهول
والجواب هو أن فيما ذكروه لا يمكن امتثال الأمر فلم يجز وههنا يمكن امتثال الأمر لأنه مخير في الأوقات كلها فجاز
يدل عليه هو أنه لا يجوز أن يعلق الأمر على قتل رجل بعينه غير معلوم وإن علقه على رجل من المشركين غير معين جاز فافترقا

ومن قال بالوقف استدل بأنه يحتمل أن يجوز أراد به الإيجاب في الوقت الأول ويحتمل الوقت الآخر ويحتمل ما بينهما ولا مزية لبعضهما على بعض فوجب الوقف كما وجب في ألفاظ العموم
والجواب هو أن الوقف لا ذكر له في اللفظ وما ليس له ذكر وجب إسقاطه ولا يجوز الوقف بسببه ألا ترى أنه إذا قال صل لم يجز أن يقف على معرفة أحوال المكلف من كونه صائما أو مفطرا حاضرا أو مسافرا وإن لم يكن لبعض هذه الأحوال مزية على بعض واحتمل الأمر الجميع احتمالا واحدا
وأما العموم فعندنا لا يتوقف فيه ثم الوقف في العموم أقرب من الوقف في الأمر وذلك أن هنالك لفظ يحتمل العموم والخصوص فجاز أن يتوقف فيه إلى أن نعلم المراد وليس للزمان لفظ يقتضيه والأصل عدمه فسقط الوقف لأجله كما سقط الوقف لأجل المكان
مسألة 10 إذا أمر بعبادة في وقت أوسع من قدر العبادة كالصلاة تعلق الوجوب بأول الوقت

وقال أكثر أصحاب أبي حنيفة يتعلق بآخر الوقت
وقال أبو الحسين الكرخي يتعلق بوقت غير معين ويتعين بالفعل
لنا هو أن المقتضي للوجوب الأمر وهو قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس وهذا تناول أول الوقت فاقتضى الوجوب فيه
وأيضا فإن تناول الأمر لأول الوقت كتناوله لآخره ولهذا يجوز فعل العبادة فيهما بحكم الأمر فإذا اقتضى الوجوب في آخره وجب أن يقتضي الوجوب في أوله
فإن قيل لا يمنع أن يتناول الأمر الوقتين ثم يختلف حكمهما في الوجوب

ألا ترى أن الأمر قد تناولهما ثم اختلفا فتعلق الإثم بالتأخير عن آخر الوقت ولم يتعلق بأوله
قيل تساويهما في الأمر يقتضي التسوية بينهما في الإيجاب لأن مقتضى الأمر الوجوب فأما جواز التأخير وعدم جوازه فمن صفات الوجوب ويجوز أن تختلف صفة الوجوب فتكون في أحدهما على الفور وفي الآخر على التراخي ويستويان في الوجوب كما أن الأمر بالصوم والأمر بالحج يستويان في الإيجاب وإن كان في أحد الوصفين على التراخي وفي الآخر على الفور
واحتجوا بأنه لو كان واجبا في أول الوقت لأثم بتأخيره ألا ترى أن في آخر الوقت لما كان واجبا أثم بالتأخير ولما لم يأثم بالتأخير دل على أنه غير واجب كالنفل
والجواب أن هذا يبطل بقضاء رمضان والكفارة لأنه لا يأثم بتأخيرهما ثم هما واجبان
وعلى أن جواز التأخير إنما يدل على نفي الوجوب إذا لم يكن عذر وأما إذا جوزنا تركه بعذر لم يدل على أنه غير واجب ألا ترى أن ترك غسل الرجل إلى مسح الخف لما كان لعذر لم يدل على أنه غير واجب وفي مسألتنا إنما يترك الصلاة في أول الوقت لعذر ظاهر وهو أنا لو ألزمناه فعلها في أول الوقت على الفور لكان في ذلك مشقة شديدة لأنه يلزم لناس أن ينقطعوا عن أشغالهم بمراعاة أول الوقت ليصادفوه بالعبادة وفي ذلك ضرر فسمح لهم بالتأخير لذلك وهذا المعنى لا يوجد في آخر الوقت ولهذا يخالف النفل فإنه يجوز تركه من غير عذر فلم يكن واجبا
ولأن جواز التأخير إنما يدل على نفي الوجوب إذا لم يجب العزم عليه فأما مع وجوب العزم فلا يدل وههنا يجوز له التأخير بشرط أن يعزم على فعله في

الثاني فلم يدل على نفي الوجوب ولهذا يخالف النفل فإنه يجوز تركه من غير عذر ومن غير عزم على فعله فلم يكن واجبا
ولأن جواز التأخير إنما يدل على نفي الوجوب إذا كان ذلك عن جميع الوقت كالنفل الذي ذكروه فأما إذا جوزنا التأخير عن بعض الوقت دون بعض فلا وههنا يجوز له التأخير عن بعض الوقت فلم يدل على نفي الوجوب
واحتج من قال إنه يتعلق بوقت غير معين بأنه مخير في الأوقات كلها فتعلق الوجوب فيها بغير معين كما نقول في كفارة اليمين
والجواب أن كفارة اليمين حجة عليهم فإن الكفارة واجبة عليه عند الحنث وإن خيرناه في أعيانها فيجب أن تكون الصلاة واجبة عند دخول الوقت وإن خيرناه في أوقاتها
مسألة 11 إذا فات وقت العبادة سقطت ولا يجب قضاؤها إلا بأمر ثان
ومن أصحابنا من قال لا تسقط
لنا هو أن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر فلم يجب فيه الفعل كما قبل الوقت
ولأن تخصيص الأمر بالوقت كتخصيصه بالشرط ولو علق الأمر بالشرط لم يجب مع عدمه كذلك إذا علق بوقت

وأيضا هو أن النهي المؤقت يسقط بفوات الوقت وإذا ترك الانتهاء في الوقت لم يجب قضاؤه في وقت آخر فكذلك الأمر
ولأنه لو علق الأمر بمكان بعينه لم يجب فعله بمكان آخر فكذلك إذا علقه بزمان بعينه
فإن قيل المكان لا يفوت فأمكن اتخاذ الفعل فيه فلا يجب في غيره والزمان يفوت فوجب القضاء في غيره
قلنا المكان أيضا ربما تعذر إيقاع الفعل فيه كما يتعذر بالزمان بأن يسبع أو يعلوه الماء ثم إذا تعذر في المكان المعين لم يجب الفعل في غيره فكذلك إذا تعذر في الزمان
واحتجوا بقوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وهذه الهاء كناية عن الصلاة المنسية فدل على أنه يجب قضاؤها
قلنا هو حجة لنا لأنه لو وجب القضاء بذلك الأمر لما احتاج إلى الأمر بقضائها
واحتجوا بأن أوامر الشرع كلها يجب قضاؤها فدل على أن ذلك بمقتضى الأمر
والجواب هو أن كثيرا منها لا يدخلها القضاء فليس تعلقهم بما يقضى بأولى من تعلقنا بما لا يقضى
وعلى أن القضاء فيما يجب قضاؤه إنما يجب بالأدلة التي هي قامت عليه لا بموجب الأمر

قالوا ولأن الأمر موضوع لإيجاب الفعل وإسقاط القضاء يسقط إيجاب الفعل
والجواب هو أن الأمر يقتضي إيجاب الفعل في وقت مخصوص لا في جميع الأوقات
ولأن هذا يبطل به إذا علقه على الشرط فإنه لا يجب فعله مع عدم الشرط وإن كان مقتضى الأمر الإيجاب
واحتجوا بأن المأمور به هو الفعل وأما الوقت فإنما يراد لإيقاع الفعل فلم يسقط بفواته
والجواب هو أن المأمور به هو الفعل في وقت مخصوص لا فعلا على الإطلاق ألا ترى أن لفظه لا يتناول ما بعد الوقت فمن ادعى الوجوب فيه احتاج إلى دليل
واحتجوا بأنه لا خلاف أن ذلك يسمى قضاء ولو كان ذلك فرضا آخر يجب بأمر ثان لما سمي قضاء لما تركه
قلنا إنما سمي قضاء لما تركه لأنه قام مقام المتروك لا أنه يجب بأمره
مسألة 12 الصوم واجب على المريض والمسافر والحائض في حال المرض والسفر والحيض وما يأتون به عند زوال العذر فهو قضاء لما وجب عليهم في حال العذر
وقال أهل العراق لا يجب على الحائض والمريض ويجب على المسافر
وقالت الأشعرية لا يجب على المريض والحائض وأما المسافر فعليه صوم أحد الشهرين إما شهر الأداء وإما شهر القضاء وأيهما صام كان أصلا كالأنواع الثلاثة في كفارة اليمين

لنا قوله تعالى من كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ومعناه فأفطر فعدة من أيام أخر فدل على أن الفطر أوجب عليه ذلك
ولأنه لو لم يجب عليه ذلك لما وجبت عليه إلا إذا تكرر وقت مثله كالصلاة في حال الحيض ولما ثبت أنها تخاطب بالقضاء عند زوال العذر دل على أن الوجوب ثابت في حال الفطر
وأيضا هو أن ما يأتي به يسمى قضاء وهذا يدل على أنه بدل عنه
وأيضا فإنه ينوي في القضاء أنه يقضي صوم رمضان فدل على أنه قضاء لما فاته
ولأنه مقدر بما تركه لا يزيد عليه ولا ينقص منه ولو لم يكن قضاء لما تركه لما تقدر به كما أن الأنواع الثلاثة في كفارة اليمين لما لم يكن كل واحد

منها قضاء لما تركه لم يقدر به ولما نقدرها ها هنا بالمتروك دل على أنه قضاء له ويدل عنه كغرامات المتلفات
واحتجوا بأنه لو كان واجبا لما جاز تركه كالصوم في حق غير المعذور ولما ثبت جواز تركه دل على أنه غير واجب كصوم النفل
قلنا قد بينا الجواب في إيجاب الصلاة في أول الوقت
قالوا الحائض لا يصح منها فعل الصوم ولا التوصل إلى فعله فلم يجز أن تكون من أهل الوجوب
قلنا ينكسر بالمحدث فإنه لا يمكنه فعل الصلاة قبل الطهارة ثم هو من أهل وجوبها فبطل ما قالوه
مسألة 13 إذا أمر بشيئين أو بثلاثة أشياء وخير فيها كان الواجب منها واحدا غير معين
وقالت المعتزلة الجميع واجب

لنا أنه لو ترك الجميع لم يعاقب إلا على واحد منها ولو كان الجميع واجبا لعوقب على الكل ألا ترى أن الصلوات الخمس لما كانت واجبة عوقب على ترك الجميع
فإن قيل إنما عوقب على الجميع فيما ذكرتم لأن الجميع واجب على طريق الجمع وليس كذلك هاهنا فإن الجميع واجب على طريق التخيير فلم يستحق العقوبة على الجميع
قلنا لو كان الجميع واجبا لاستحق العقوبة على الجميع وإن لم يكن على سبيل الجمع
ألا ترى أن فرض الكفاية لما كان واجبا على الكافة استحق الكل العقوبة على تركه وإن لم يلزمهم ذلك على سبيل الجمع
وأيضا فإن التخيير ثبت بمرة بعموم اللفظ ومرة بخصوصه والنص عليه ثم ثبت أن الثابت بالعموم لا يوجب جميع ما هو مخير فيه وهو إذا قال اقتل رجلا من المشركين وأعتق رقبة وهو يقدر على رجال كثير ورقاب كثيرة كذلك الثابت بالصريح والنص لا يوجب ما هو مخير فيه
واحتجوا بأنه لا مزية لبعضها على بعض فوجب أن يستوي الجميع في الوجوب كما لو أمر بفعل الجميع من غير تخيير
والجواب هو أن استواء الجميع لا يوجب استواء الوجوب ألا ترى أنه لم يوجب استواءه في العقاب فكذلك لا يوجب استواءه في الوجوب
ويخالف هذا ما أمر بفعله من غير تخيير فإن هناك لما وجب الجميع عوقب على ترك الجميع
وفي مسألتنا لما لم يعاقب على ترك الجميع لم يجب الجميع
ولأن استواء الجميع على وجه التخيير مخالف لاستوائه على وجه الجمع
ألا ترى أنه ما وجب الجمع فيه بلفظ العموم يجب الجمع وهو إذا قال

اقتلوا المشركين وما يجب على وجه التخيير فيه بلفظ العموم لا يجب الجمع وهو إذا قال اقتل رجلا من المشركين فدل على الفرق بينهما
واحتجوا أيضا بأنه لو كان الواجب واحد منها لعين وبين ولنصب عليه دليلا وجعل إليه سبيلا وميزه من بين الجميع فلم يجعل ذلك إلى اختيار المكلف إذ المكلف لا يعرف ما فيه المصلحة مما فيه المفسدة
والجواب أن هذا يبطل بما خيره فيه بلفظ العموم فإنه لم ينصب عليه دليلا ولم يميزه بل جعله إلى اختيار المكلف ثم لم يكن الجميع واجبا
ثم هذا يبطل بالعقاب فإنه لا يستحق إلا على واحد غير معين ولم يميزه ولم يجعل إليه سبيلا وما استحق عليه العقوبة يجب أن يكون معلوما معينا
ولأنه إنما يجب البيان إذا كان الوجوب متعلقا بمعين غير مبين
وأما إذا كان متعلقا بغير معين لم يجب البيان لأن المصلحة في الجميع موجودة فترك البيان فيه لا يؤدي إلى أن يتخطى المصلحة ويتعداها
واحتجوا أيضا بأن فروض الكفايات تجب على الكافة ثم بفعل بعضهم تسقط عن الباقين فكذلك الكفارات الثلاث يجب الجميع وبفعل بعضها يسقط الجميع
والجواب أن فرض الكفايات حجة عليهم فإنه لما وجب على الكافة خوطب الجميع بفعلها وعوقب الجميع على تركها فلو كان في مسألتنا يجب الجميع لخوطب بفعل الجميع وعوقب على ترك الجميع
وجواب آخر وهو أنه إنما وجب فرض الكفايات على الجميع لأنه لو لم يجب عليهم لعول بعضهم على بعض فكان يؤدي إلى ترك الفعل وفي مسألتنا إيجاب واحد منها لا يؤدي إلى ترك الواجب لأنه يعلم أن فرضه لا يسقط بفعل غيره فلا معنى لإيجاب الجميع
مسألة 14 لا يدخل الآمر في الأمر
ومن أصحابنا من قال يدخل النبي صلى الله عليه و سلم فيما أمر به أمته
لنا أنه استدعاء للفعل فلا يدخل المستدعي فيه كالسؤال والطلب ولأن الأمر في اللغة استدعاء للفعل بالقول ممن هو دونه وهذه الحقيقة لا توجد في حق الآمر لأنه لا يجوز أن يكون دون نفسه
وأيضا فإنا لا نعلم خلافا بين علماء أهل اللسان أن السيد إذا أمر عبده فقال اسقني ماء لا يدخل هو في هذا الأمر فكذلك النبي صلى الله عليه و سلم مثله

ولأنه لو جاز دخوله مع غيره لجاز أن يدخل في أمره لنفسه وحده وهو أن يقول افعل كذا ولما ثبت أنه لا يجوز أن يخص نفسه بالأمر فيكون أمرا ومأمورا كذلك لا يجوز أن يدخل في عموم الأمر
ولأن المأمور لا يجوز أن يكون آمرا فكذلك الآمر لا يجوز أن يكون مأمورا
واحتجوا بأن أمر النبي صلى الله عليه و سلم يتضمن الإخبار عن وجوبه في الشرع فصار بمنزلة ما لو قال هذه العبادة واجبة
والجواب أنه يتضمن الإخبار عن وجوبه على غيره وأما الوجوب على الإطلاق فلا وأما الأصل فلا يسلم وإن سلمنا كان المعنى فيه أن قوله هذه العبادة واجبة إيجابا مطلقا فاقتضى العموم وفي مسألتنا إيجاب خاص للمخاطبين فوزانه من مسألتنا أن يقول فرضت عليكم وأوجبت عليكم فلا يدخل هو فيه
وجواب آخر وهو أن نقول إن الإخبار عن نفسه وحده يجوز كما لو قال كتب علي ولم يكتب عليكم وفي مسألتنا لا يجوز أن يأمر نفسه وحدها كذلك لا يجوز أن يأمرها مع غيرها
ولأن في الخبر لا تعتبر الرتبة وفي الأمر تعتبر الرتبة وذلك لا يوجب في نفسه
مسألة 15 يدخل العبيد في مطلق أمر صاحب الشرع
وقال بعض أصحابنا لا يدخلون فيه إلا بدليل
لنا صلاح الخطاب لهم كصلاحيته للأحرار فإذا دخل الأحرار فيه دخل العبيد فيه
ولأنه مكلف فجاز أن يدخل في الأمر المطلق كالحر
ولأنه يدخل في الخطاب الخاص له فدخل في الأمر العام كالحر
واحتجوا بأنهم لا يدخلون في أكثر الأوامر في الشرع كالجمعة والحج والجهاد فدل على أن إطلاق الخطاب لا يتناولهم
والجواب أن ما دخلوا فيه من الخطاب أكثر

ألا ترى أنهم دخلوا في الأمر بسائر الصلوات ودخلوا في الأمر بالصوم وغير ذلك
ولأن ما لم يدخلوا فيه إنما لم يدخلوا فيه لأدلة دلت على تخصيصهم وكلامنا في الأمر المجرد
واحتجوا بأن منافعهم مستحقة للموالي فلا يجوز أن يكونوا داخلين في الأمر
والجواب أنه يبطل به إذا خصهم بالأمر فإنهم يدخلون فيه مع وجود هذا المعنى فبطل ما قالوه
ولأن أوقات العبادات تقع مستثناة فلا تكون منافعهم فيها مستحقة
مسألة 16 لا يدخل النساء في خطاب الرجال
وقال ابن داود يدخلن في جمع الرجال وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة
لنا ما روي عن أم سلمة أن النساء قلن يا رسول الله ما نرى الله تعالى يذكر إلا الرجال فأنزل الله تعالى إن المسلمين والمسلمات الآية

وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون فقالت عائشة رضي الله عنها هذا للرجال أرأيت النساء وهذا يدل على أن إطلاق خطاب الرجال لا يدخل فيه النساء
فإن قيل المراد به أنه لم يذكر النساء بلفظ يخصهن
قلنا هذا خلاف الظاهر فإن الخبر يقتضي أنهن لم يذكرن لا بلفظ الخصوص ولا بلفظ العموم
ولأنه لو كان المراد به ما ذكره لم يختص النساء بذلك فإن الرجال ما ذكروا بلفظ الخصوص فإن لفظ الذكور مشترك عندهم بين الرجال والنساء
ولأن حديث عائشة رضي الله عنها لا يحتمل ما ذكروه فإنه لو كان النساء يدخلن في خطاب الرجال على سبيل العموم لما استفهمت منه حكم النساء بعد ذلك
وأيضا هو أنه موضوع للذكور فلا يدخل فيه الإناث كلفظ الواحد
ولأن أهل اللسان فرقوا بينهما في اسم الجمع كما فرقوا بينهما في اسم الواحد وإذا لم يدخلن في اسم الواحد لم يدخلن في اسم الجمع
ولأن الرجال لا يدخلون في جمع النساء وكذلك النساء يجب أن لا يدخلن في جمع الرجال
واحتجوا بأنهن يدخلن في أوامر الشرع كلها فدل على أن إطلاق الخطاب يتناولهن
والجواب هو أنا لا نقول إنهن يدخلن في لفظ الأمر وإنما نقول شاركن الرجال في الحكم بدليل قام عليه

قالوا وأيضا هو أن من أراد الجمع بين الرجال والنساء عبر عنهن بعبارة الرجال فدل على أن لفظ الجمع موضوع للجميع
قلنا نحن إنما نحمل اللفظ على النساء إذا علم من قصد المتكلم أنه أراد الجنسين وأما إذا لم يعلم هذا من قصده حملنا اللفظ على الرجال كما تقول في الحمار إنه يحمل على الرجل البليد إذا علم هذا المراد من قصد المتكلم فأما إذا لم يعلم من قصده حملنا اللفظ على البهيمة المخصوصة
فإن قيل لو لم يكن هذا اللفظ متناولا للجنسين لكان لا يجوز تغليب الذكور عند إرادة الجنسين
قلنا هذا يبطل بما ذكرناه من قولهم في البليد حمار فإنه يعبر به عن البليد مع القصد ثم إطلاق اللفظ لا يقتضيه
مسألة 17 الكفار مخاطبون بالشرعيات في قول أكثر أصحابنا
وقال بعضهم لا يدخلون في الخطاب بالشرعيات وهو اختيار الشيخ أبي حامد رحمه الله

وقال بعض الناس هم مخاطبون بالمنهيات دون المأمورات
لنا قوله تعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وهذا يدل على أنهم مخاطبون بالصلاة والزكاة إذ لو لم يكونوا مخاطبين بها لما حسن عقوبتهم على ذلك
فإن قيل المراد بذلك لم نكن من معتقدي الصلاة والزكاة
قيل هذا خلاف الظاهر فإن اللفظ حقيقة في فعل الصلاة وفعل الإطعام ولا يحمل على الاعتقاد من غير دليل
ولأن العقوبة على ترك الاعتقاد قد علم من قوله وكنا نكذب بيوم الدين فيجب أن يحمل الأول على غيره
فإن قيل الظاهر يقتضي استحقاق العقوبة بمجموع هذه الأشياء وهي ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بيوم الدين
قلنا لو لم يكن كل واحد منها يستحق العقوبة على تركها لما جمع بينهم في استحقاق العقوبة
ولأن بالتكذيب بيوم الدين يستحق العقوبة من غير أن يضم إليه معنى آخر

وكذلك بترك الصلاة والزكاة يجب أن يستحق العقوبة من غير أن ينضم إليه معنى آخر
ويدل عليه أنه لفظ مطلق فدخل الكفار فيه كالأمر بالإيمان
ولأن من تناوله الأمر بالإيمان تناوله الأمر بالعبادات كالمسلم ويدل عليه هو أن المسلم إنما دخل في الأمر لصلاح اللفظ له في اللغة وهذا المعنى موجود في الكافر فيجب أن يكون داخلا في الأمر ويدل عليه أنه ليس فيه أكثر من الكفر وهو يقدر على إزالته ومن قدر على شرط الفرض كان مخاطبا بالفرض كالمحدث إذا دخل عليه وقت الصلاة
فإن قيل الحدث لا ينافي صحة الصلاة ألا ترى صح أن المتيمم يصلي وهو محدث وليس كذلك الكفر فإنه ينافي صحة الصلاة ألا ترى أنها لا تصح مع الكفر بحال
قلنا الحدث أيضا ينافي صحة الصلاة مع القدرة على الماء ثم هذا المعنى لا يمنع من توجه الخطاب بفرض الصلاة فبطل ما قالوه
وأما ما يدل على فساد قول الطائفة الأخرى فنقول
النهي أمر بالترك والأمر أمر بالفعل فإذا دخل الكافر في أحد الأمرين دخل في الأمر الآخر
فإن قيل الأمر بالترك لما دخل فيه تعلق عليه أحكامه من الحدود وغيرها ولما لم يتعلق عليه أحكام الأمر بالفرض من صحة الفعل ووجوب القتل على تركها والقضاء بفواتها دل على أنه لم يدخل في الأمر
قيل العقوبة على المخالفة ووجوب القضاء بالفوات ليس يتعلق بالأمر

بل يفتقر إلى أمر ثان وذلك لم يوجد فسقط وهذا لا ينفي الوجوب في الابتداء كقضاء صلاة الجمعة يسقط عن المسافر لعدم الدليل على وجوبه ثم لم يدل على أن الأمر بها لم يتوجه في الابتداء
فإن قيل النهي يصح منه امتثاله وهو الترك فدخل فيه الأمر والأمر لا يصح منه امتثاله فلم يدخل في خطابه
قيل هذا يبطل بالأمر بالصلاة في حق المحدث فإنه لا يصح منه امتثاله ثم هو داخل فيه
واحتجوا بأنه لو كان الكافر مخاطبا بالشرعيات لوجب أن يصح ذلك منه في حال الكفر ولوجب عليه القضاء في حال الإسلام ولما لم يصح في الحال ولم يجب القضاء في ثاني الحال دل على أنه غير مخاطب بها كالحائض في الصلاة
والجواب أنه إنما لم يصح منه لعدم الشرط وهو الإسلام وهذا لا ينفي توجه الخطاب كالمحدث لا يصح منه فعل الصلاة ولا يدل على أنه غير مخاطب بها وأما القضاء فإنما يجب بدليل غير الأمر وذلك لم يوجد فسقط وهذا لا ينفي الخطاب في الابتداء كما قلنا في قضاء الجمعة تسقط عن المسافر لعدم الدليل ثم لا يدل على أن الأمر بها لم يتوجه عليه
وأما الحائض فالمعنى فيها أنها لا تقدر على إزالة المانع وتحصيل الشرط وليس كذلك الكافر فإنه يقدر على إزالة الكفر فهو كالمحدث في الصلاة
واحتجوا أيضا بأن خطابه بالعبادات خطاب بما لا منفعة له فيه والتكليف لا يتوجه بما لا ينتفع به المكلف

والجواب هو أنا نخاطبه على وجه ينتفع به وهو أن يقدم الإيمان ومتى دخل على هذا الوجه انتفع به فوجب أن يتوجه إليه الخطاب
قالوا ولأنه لو كان مخاطبا بفعل الصلاة معاقبا على تركها لعوقب على تركها بالدنيا في القتل والضرب كسائر المسلمين
قلنا إنما لم يقتل ولم يضرب لأنه مجتهد في وجوب ذلك عليه ومع الاجتهاد لا تجب العقوبة وليس كذلك المسلم فإن وجوب ذلك عليه غير مجتهد فيه فاستحق العقوبة على الترك في الدارين
ثم هذا يبطل بأهل الذمة فإنهم مخاطبون بالإيمان معاقبون على تركه في الآخرة ثم لا يعاقبون عليه في الدنيا
ويبطل بشربه الخمر فإن الذمي لا ينهى عنه ثم لا يحد
مسألة 18 الأمر بالشيء يدل على إجزاء المأمور به
وقال بعض المعتزلة لا يدل بل يفتقر إجزاؤه إلى دليل آخر

لنا هو أن الفعل إنما لزمه بالأمر فإذا فعل ذلك على حسب ما يتناوله الأمر زال الأمر وعاد كما كان قبل الأمر ويدل عليه أنه لو نهي عن فعل شيء فتركه ولم يتعرض له عاد كما كان قبل النهي فكذلك إذا أمر بفعل شيء ففعله
واحتجوا بأن كثيرا من العبادات أمر الإنسان بفعلها ثم لم تجزئه كالمضي في الحج الفاسد والإمساك في يوم ظن أنه في يوم من شعبان فبان أنه من رمضان والصلاة بغير طهارة عند عدم الماء والتراب فدل على أن الإجزاء يقف على دليل آخر
والجواب هو أن الذي أتى به المفسد للحج والممسك في رمضان والعادم للماء والتراب بالأمر يجزئه عن ذلك الأمر وإنما لزمه القضاء بأمر ثان إذ لا يجوز أن يؤمر بفعل شيء على صفة ثم لا يجزئه
وجواب آخر وهو أنه في تلك المواضع لم يأت بالمأمور على حسب ما تناوله الأمر فبقي الفرض عليه وفي مسألتنا أتى بالمأمور على حسب ما اقتضاه الأمر وتناوله فعاد كما كان قبل الأمر
قالوا وأيضا هو أن الأمر لا يدل على أكثر من الإيجاب وإرادة المأمور به وأما الإجزاء وسقوط الفرض فلا يدل عليه اللفظ فافتقر ذلك إلى دليل آخر
والجواب هو أن الأمر لا يدل على ما ذكروه ولكنه يدل على أنه أراد فعل المأمور به على الوجه الذي أمر به فدل على أن الأمر قد زال عنه وزوال الأمر يوجب سقوط الفرض وأنه لا يجب عليه غيره إلا بدليل
مسألة 19 إذا فعل زيادة على ما تناوله الاسم من الفعل المأمور به مثل أن يزيد على ما يقع عليه اسم الركوع أو يزيد على ما يقع عليه اسم القراءة فالواجب منه ما يتناوله الاسم وما زاد عليه فهو نفل
وقال بعض الناس كل ذلك واجب وحكى ذلك عن أبي الحسن الكرخي
لنا أن لفظ الأمر بالركوع لا يقتضي أكثر مما يسمى ركوعا فإذا فعل ذلك فقد فعل ما اقتضاه الأمر فوجب أن تكون الزيادة نفلا يدلك عليه هو أنه لما لم يقتض أكثر من مرة واحدة كان ما زاد على ذلك نفلا فكذلك ما زاد على قدر الفرض
ولأنه إذا فعل من ذلك ما يقع عليه الاسم حسن أن يخبر عن نفسه فيقول فعل كذا وكذا ولو كان اللفظ يقتضي أكثر من ذلك لما حسن الإخبار عن نفسه بالفعل كما لا يحسن إذا فعل ما لا يقع عليه الاسم
ولأن الزيادة على ما يقع عليه الاسم يجوز للمكلف تركها من غير بدل ومن غير أن يفعل مثها في وقت آخر وما هذا سبيله لم يكن واجبا كسائر النوافل

واحتجوا بأن الاسم يتناول أواخر الفعل كما يتناول أوائله فإذا كانت الأوائل واجبة كانت الأواخر مثلها
قلنا لو كانت الأواخر كالأوائل لأثم بتركها كما أثم بترك الأوائل
قالوا ولأنه لو قال لوكيله تصدق من مالي جاز له أن يتصدق بالقليل منه والكثير فدل على أن الأمر قد تعلق بالجميع
قلنا لا نسلم هذا بل لا يجوز أن يتصدق إلا بأدنى ما يتناوله الاسم وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الأمر منا إذا أراد التصدق بقدر معلوم بين ذلك وقدره فلما لم يبين علمنا أنه أراد ما شاء المأمور وليس كذلك أوامر صاحب الشرع لأنه لا عادة في أوامر الشرع فيراعى حكمها فلم تقتض إلا ما يقع عليه الاسم
مسألة 20 الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى

وقالت المعتزلة ليس هو بنهي عن ضده وهو قول بعض أصحابنا
لنا هو أنه لا يمكنه فعل المأمور به إلا بترك الضد فوجب أن يكون الأمر يتضمن النهي عن ضده
ألا ترى أنه لما لم يمكنه فعل الصلاة إلا بما يتوصل به إليها كالطهارة واستقبال القبلة واستقاء الماء وغير ذلك كان الأمر بالصلاة متضمنا للأمر بكل ما يتوصل به إليها كذلك ههنا ويدل عليه هو أن الأمر بالشيء عندهم يقتضي إرادة المأمور به وحسنه وإرادة الشيء وحسنه يقتضي كراهية ضده وقبحه وذلك يقتضي تحريمه فيجب أن يكون الأمر بالشيء تحريما لضده
فإن قيل يبطل بالنوافل فإن الأمر بها يقتضي إرادتها وحسنها ثم لا يقتضي ذلك كراهية الضد وقبحه

والجواب هو أنا ألزمناهم على أصلهم فلا يلزمنا ما توجه عليهم وأما على مذهبنا فإن الأمر بالنوافل يقتضي استدعاء المأمور به وحسنه على سبيل الاستحباب وهو يقتضي النهي عن ضدها على سبيل الاستحباب أيضا
ولأن السيد إذا قال لعبده قم فقعد حسن توبيخه ولومه ولو لم يكم الأمر بالقيام اقتضى النهي عن ضده لما جاز توبيخه على القعود
واحتجوا بأن صيغة الأمر خلاف صيغة النهي فلا يجوز أن يكون لفظ أحدهما مقتضيا للآخر
والجواب هو أن هذا إنما يمتنع لو قلنا إن الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللفظ وأما إذا قلنا إنه نهي من طريق المعنى لم يمتنع
ألا ترى أن لفظ الأمر بالصلاة خلاف لفظ الأمر بالطهارة من طريق اللفظ ثم الأمر بالصلاة يتضمن الأمر بالطهارة من طريق المعنى كذلك ههنا
قالوا الأمر والنهي متضادان كتضاد العلم والجهل ثم العلم بالشيء لا يكون جهلا بضده كذلك الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن ضده
قلنا العلم بالشيء لا ينافي العلم بضده والأمر بالشيء ينافي الأمر بضده
ألا ترى أنه يجوز أن يكون عالما بكل واحد منهما وليس كذلك الأمر فإنه ينافي فعل ضده ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون فاعلا للمأمور به إلا بترك ضده فدل على الفرق بينهما
واحتجوا بأن النهي عن الشيء ليس بأمر بضده وكذلك الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده

والجواب أنا لا نسلم هذا بل هو أمر بضده فإن كان له ضد واحد فهو أمر به وإن كان له أضداد فهو أمر بضد من أضداده فلا فرق بينهما
مسألة 21 الأمر بفعل العبادة لا يقتضي فعلها على وجه مكروه ولا يدخل فيه كالطواف بغير طهارة لا يدخل في قوله وليطوفوا بالبيت العتيق
وقال أصحاب أبي حنيفة يدخل فيه
لنا أن الأمر يقتضي الإيجاب والاستحباب والمكروه لا يجب ولا يستحب فمن المحال أن يكون داخلا في الأمر ويدل عليه أن المكروه منهي عن فعله فلا يدخل في لفظ الأمر كالمحرم
احتجوا بأن الأمر بالطواف لا يتناول أكثر من الجولان حول البيت فأما الطهارة فليس في اللفظ ما يقتضيها فإذا طاف بلا طهارة فقد فعل ما يقتضيه اللفظ فوجب أن يكون ممتثلا للأمر
قلنا اللفظ لا يتقضي الطهارة إلا أنهم أجمعوا على أن المراد به طواف بطهارة فإذا طاف بغير طهارة لم يفعل المأمور به فوجب أن لا يكون ممتثلا للأمر
مسألة 22 الفرض والواجب واحد وهو ما يعاقب على تركه
وقال أصحاب أبي حنيفة الفرض أعلى رتبة من الواجب فالفرض ما ثبت وجوبه بطريق مقطوع به بكتاب أو سنة متواترة أو إجماع والواجب ما ثبت وجوبه بغير ذلك من الأدلة
لنا قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج وأراد به أوجب الحج
ولأنه لو كان الفرض ما ثبت بطريق مقطوع به لوجب أن تكون النوافل تسمى فرائضا لأنها تثبت أيضا بطريق مقطوع به
ولأن تخصيص الفرض بما ثبت بطريق مقطوع به دعوى لا دليل عليها من جهة الشرع ولا من جهة اللغة فكان باطلا

ولأن لفظ الوجوب في الإيجاب أكثر من لفظ الفرض لأن الفرض يحتمل من المعاني ما لا يحتمله الواجب ألا ترى أن الفرض مستعمل في التقدير ولهذا يقال فرض الحاكم نفقة المرأة إذا قدرها ويستعمل في الإنزال قال الله تعالى إن الذي فرض عليك القرآن أي أنزل ويستعمل في البيان كقوله تعالى سورة أنزلناها وفرضناها أي بيناها ويستعمل في فرض القوس وهو إذا حز طرفيه والواجب لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو سقوطه عليه من قولهم وجب الحائط ووجبت الشمس فإذا قيل هذا واجب كان معناه أنه سقط عليه سقوطا لا بد من فعله وكان ما قالوه بالعكس أولى
مسألة 23 إذا دل الدليل على أنه لم يرد بالأمر الوجوب لم يجز أن يحتج به على الجواز في أحد الوجهين
ومن أصحابنا من قال يجوز الاحتجاج به على ذلك
لنا هو أن اللفظ غير موضوع للجواز وإنما هو موضوع للوجوب والجواز تابع له يعلم من ضمنه من جهة الاستدلال وهو أنه لا يجوز أن يكون واجبا ولا يجوز فعله وإذا سقط الوجوب سقط ما في ضمنه من الجواز
واحتج من قال بالوجه الآخر بأن اللفظ يدل على الوجوب والجواز فإذا دل الدليل على سقوط أحدهما بقي الآخر كما تقول في العموم إذا خص منه بعض ما تناوله
قلنا العموم يتناول كل واحد من الجنس بلفظ فإذا خرج بعضه بدليل بقي الباقي وليس كذلك ههنا فإن اللفظ

الكف عن الفعل وترد والمراد بها التهديد على الترك والحث على الفعل فوجب أن يتوقف فيها حتى يقوم الدليل على ما يراد به كما نقول في الأسماء المشتركة كاللون والعين
قلنا اللفظ بإطلاقه موضوع للكف والإحجام وإنما يحمل على ما سواه من الفعل والإقدام بضرب من الدليل من شاهد حال أو غيره كالبحر موضوع للماء المجتمع وإن كان يستعمل في الرجل العالم والرجل السخي والفرس والجواد ويخالف ما ذكروه من الأسماء المشتركة فإن تلك الأسماء لم توضع لشيء بعينه وهذا اللفظ موضوع للكف
والذي يدل عليه هو أن أهل اللسان عولوا في الأسماء المشتركة على ما يقرن بها من البيان من الوصف والإضافة وغيرهما وعولوا في النهي على مجرد الصيغة ولهذا عاقب السيد عبده على التوقف ولا يعاقب فيما أتى به من الأسماء المشتركة فدل على الفرق بينهما
مسألة 3 النهي يقتضي التحريم
وقالت الأشعرية لا يقتضي التحريم ويتوقف فيه إلى أن يرد الدليل
لنا هو أن الصحابة رضي الله عنهم رجعت في التحريم إلى مجرد النهي
روي عن ابن عمر أنه قال كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المخابرة فتركناها لقول رافع
ولأن السيد من العرب إذا قال لعبده لا تفعل كذا فخالفه استحق التوبيخ والعقوبة فدل على أن إطلاقه يقتضي التحريم
واحتجوا بأن هذه الصيغة توجد ويراد بها التحريم وتوجد والمراد بها الكراهة فلا تحمل على واحد منهما إلا بدليل
والجواب أن هذا يبطل باسم البحر فإنه يرد والمراد به الماء الكثير المجتمع ويرد والمراد به الرجل السخي أو العالم ثم إطلاقه يحمل على الماء الكثير المجتمع فبطل ما قالوه
مسألة 4 النهي يقتضي فساد المنهي عنه في قول عامة أصحابنا
وقال أبو بكر القفال لا يقتضي الفساد وهو قول أبي الحسن

الكرخي من أصحاب أبي حنيفة ومذهب عامة المتكلمين
لنا قوله عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وروي من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد والمنهي عنه ليس عليه أمره فيجب أن يكون ردا
فإن قيل هذا من أخبار الآحاد فلا يجوز أن يستدل به على مسائل الأصول
قيل هو وإن كان من أخبار الآحاد إلا أنه متلقى بالقبول فهو كالمتواتر
ولأن هذا وإن كان من مسائل الأصول إلا أنها من مسائل الاجتهاد فهي بمنزلة سائر الفروع
فإن قيل الرد ضد القبول وهو ما لا يثاب عليه ولهذا يقال هذا عمل مقبول وهذا عمل مردود ولهذا يقال في دعاء شهر رمضان ليت شعري من المقبول منا فنهنيه ومن المردود فنعزيه وكأنه قال من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو غير مقبول ونحن نقول إن ذلك غير مقبول على معنى أنه لا يثاب عليه
قلنا الرد يستعمل في ضد القبول كما ذكروه ويستعمل في معنى الإبطال والإفساد
ألا ترى أنك تقول رددت على فلان كذا إذا أفسدته وأبطلته ويقال في

بعض الكتب على المخالفين الرد على فلان وإذا كان اللفظ مستعملا في الأمرين وجب أن يحمل اللفظ على الجميع
فإن قيل الذي ليس من ديننا هو الشيء المنهي عنه من الالتفات في الصلاة والغيبة في الصوم وذلك عندنا مردود باطل والخلاف فيما يقع فيه المنهي عنه كالصوم والصلاة وذلك من ديننا فلم يكن ردا
قلنا فعل العبادة على وجه النهي أيضا ليس من الدين ولهذا لا يثاب عليه ولا يجوز فعلها فوجب أن يكون مردودا ويدل عليه هو أن الصحابة رضي الله عنهم احتجوا في الإبطال بالنهي روي عن ابن عمر أنه قال نكاح المشركات باطل لقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن
وأيضا هو أن الأمر اقتضى اشتغال الذمة بعبادة متجردة عن النهي إذ لا يجوز أن يكون المنهي عنه هو الذي ورد الأمر به فإذا فعل على الوجه المنهي عنه لم يأت بالمأمور به وإنما أتى بغيره فبقي الفرض في ذمته كما كان وصار بمنزلة ما لو أمر بفعل الصلاة فأتى بالصوم
ولأن الحكم بصحة العبادة وإجزائها للأمر المنهي عنه لم يتعلق به الأمر فلم يجز أن يحكم له بالصحة
واحتجوا بأن النهي يقتضي قبح المنهي عنه وقبحه لا يدل على بطلانه كالطلاق في حال الحيض والوضوء بالماء المغصوب
والجواب هو أن النهي يقتضي معنى يدل على القبح وهو أن ما يفعله غير ما ورد به الشرع وذلك يوجب بطلانه على ما بيناه
وأما الطلاق في حال الحيض والوضوء بالماء المغصوب فإنما حكمنا بصحتها

لقيام الدلالة عليه وليس إذا ترك ظاهر اللفظ في بعض المواضع لقيام الدليل دل على بطلان مقتضاه ويجب أن يترك في كل موضع
ألا ترى أن النهي قد يرد في بعض المواضع ولا يراد به التحريم ثم لا يدل ذلك على أن إطلاقه لا يقتضي التحريم
قالوا لو كان النهي يقتضي فساد المنهي عنه لوجب إذا تناول ما ليس بفاسد أن يكون مجازا ولما وجدنا النهي على سبيل الحقيقة في كثير من المواضع ولا يقتضي الفساد دل على أنه لا يقتضي ذلك
والجواب أنا لا نقول إنه مجاز لأن المجاز ما نقل عن جميع موجبه وهو ها هنا لم ينقل عن جميع موجبه بل حمل على بعض موجبه وذلك أن النهي يقتضي التحريم وفساد المنهي عنه فإذا دل الدليل على أنه غير فاسد بقي حقيقة في الباقي كالعموم إذا خص بعضه
قالوا ولأنه ليس في اللفظ ما يوجب إعادة الفعل فمن ادعى وجوب الإعادة احتاج إلى دليل
والجواب أن الذي دل على وجوب الإعادة هو الأمر بالفعل وذلك أن الأمر يتناول عبادة لا يتعلق بها نهي وهو لم يفعل ذلك فكان الأمر بإيجاب الفعل باقيا كما كان
قالوا ولأنه ليس في فعله على وجه النهي أكثر من فعله منهيا عنه وقولكم إنه فاسد زيادة صفة يحتاج في إثباته إلى دليل
قلنا معنى قولنا فاسد أنه لا يعتد به عما تعلق الأمر عليه وليس يحتاج في ذلك إلى دليل أكثر مما يتناوله وهو أنه لم يفعل المأمور به فيجب أن يكون المأمور به باقيا في الذمة
مسألة 5 وإذا نهى عن أحد شيئين كان ذلك نهيا عن الجمع بينهما ويجوز فعل أحدهما
وقالت المعتزلة يكون نهيا عنهما فلا يجوز فعل واحد منهما
لنا أنه أمر بترك أحدهما فلا يجب تركهما كما لو أمر بفعل أحدهما لم يجب فعلهما
واحتجوا بأن ما كان منهيا عنه مع غيره كان منهيا عنه بانفراده كسائر المحظورات
قلنا هذا يبطل بنكاح إحدى الأختين فإنه منهي عنه مع نكاح أختها وليس بمنهي عنه عند الانفراد
قالوا ولأن أو فى النهي يقتضي الجمع والدليل عليه قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا والمراد به وكفورا
قلنا لا نسلم ما ذكروه من الآية وإنما حملنا على ما ذكروه بدليل
مسائل العموم والخصوص
مسألة 1 للعموم صيغة بمجردها تدل على استغراق الجنس والطبقة
وقالت الأشعرية ليس للعموم صيغة وما يرد من ألفاظ الجمع فلا يحمل على العموم ولا على الخصوص إلا بدليل
ومن الناس من قال إن كان ذلك في الأخبار فلا صيغة له وإن كان ذلك في الأمر والنهي فله صيغة تحمل على الجنس

وقال بعض المتكلمين تحمل ألفاظ الجمع على أقل الجمع ويتوقف فيما زاد وهو قول أبي هاشم ومحمد بن شجاع الثلجي
لنا قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق فحكى الله تعالى عن نوح أنه تعلق بعموم اللفظ ولم يعقب ذلك بنكير بل ذكر أنه أجاب بأنه ليس من أهله فقال إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فدل على أن مقتضى اللفظ العموم
وأيضا ما روى أنه لما نزل قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال عبد الله بن الزبعرى لأخصمن محمدا فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قد عبدت الملائكة وعبد المسيح أفيدخلون النار فأنزل الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فاحتج على النبي صلى الله عليه و سلم بعموم اللفظ ولو لم يقتض اللفظ العموم لما احتج به ولأنكر النبي عليه احتجاجه

فإن قيل إنما تعلق باللفظ فيما ذكرتم لأن اللفظ يصلح للعموم
قلنا لو كان لصلاح اللفظ لكان لا يقطع بأنه يخصم محمدا عليه السلام لأنه بالصلاح لا يمكنه أن يخصم
وأيضا إجماع الصحابة رضي الله عنهم روى أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في مانعي الزكاة كيف تقاتلهم وقد قال النبي عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاحتج بعموم اللفظ ولم ينكر عليه أبو بكر ولا أحد من الصحابة بل عدل أبو بكر في الجواب إلى الاستثناء المذكور في الخبر وهو قوله إلا بحقها وإن الزكاة من حقها
وروى ابن عمر وعليا عليهما السلام قالا في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى فحملا اللفظين على العموم ثم رجحا لفظ التحريم
وروى أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنشد ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل ...
فقال كذب فإن نعيم أهل الجنة لا يزول ولو لم يكن قول الشاعر اقتضى العموم لما جاز تكذيبه

فإن قيل هذه أخبار الآحاد فلا يحتج بها في مسائل الأصول
قلنا وإن كانت من أخبار الآحاد إلا أن الأمة أجمعت على قبولها وإن اختلفت في العمل بها فصارت مقطوعا بصحتها
ويدل عليه هو أن العرب وضعت للواحد صيغة وللاثنين صيغة وللثلاثة صيغة فقالوا رجل ورجلان ورجال وفرقت بينها كما فرقت بين الأعيان في الاسم فقالوا فرس وحمار وبغل فلو كان احتمال لفظ للاثنين كاحتماله لما زاد لم يكن لهذا التفريق في الوضع معنى
وأيضا هو أنه يصح أن يستثنى من ألفاظ الجمع كل واحد من الجنس فتقول رأيت الناس إلا زيدا وإلا عمرا ولو لم يقتض اللفظ جميع الجنس لم يصح الاستثناء لأن الاستثناء يخرج من اللفظ ما لولاه لدخل فيه ولهذا لا يصح أن تستثنى البهائم من الناس حين لم يدخل في اللفظ
فإن قيل إنما حسن الاستثناء لصلاح اللفظ لكل واحد من الجنس
قيل هذا لا يصح لأن الاستثناء لا يخرج إلا ما اقتضاه اللفظ فإنه مأخوذ من قولهم ثنيت عنان الدابة إذ صرفته وقيل إنه يسمى بذلك لأنه تثنية الخبر بعد الخبر وأيهما كان اقتضى دخول المستثنى في اللفظ حين نصرفه عنه في قول بعضهم وثنى الخبر بعد الخبر في قول البعض
ولأنه لو كان حسن الاستثناء لجواز أن يكون دخلا في اللفظ لوجب أن يصح من النكرات كما يصح من المعارف المقتضية للجنس فلما لم يحسن ذلك في النكرات دل على بطلان ما ذكروه
وأيضا هو أنه إذا قال لرجل من عندك حسن أن يجيب بكل واحد من

جنس العقلاء ولو لم يكن اللفظ عاما في الجنس لما صار مجيبا بكل واحد من الجنس لجواز أن يكون المسؤول عنه غير الذي أجاب به
فإن قيل إنما حسن أن يجيب بكل واحد من الجنس لأن اللفظ يصلح لكل واحد منهم
قيل اللفظ يصلح لمن أجاب به ولغيره فيجب أن لا يصح الجواب حتى يعلم مراد السائل ويدل عليه أنه لو قال من دخل الدار فله درهم أو من رد عبدي الآبق فله درهم استحق كل من وجد ذلك منه العطاء فدل على أن اللفظ يقتضي الكل
وأيضا هو أن العموم مما تدعو الحاجة إلى العبارة عنه وتعم البلوى به في مصالح الدين والدنيا فيجب أن يكون وضع له لفظ يدل عليه كما وضعوا لسائر ما دعت الحاجة إلى العبارة عنه من الأعيان وغيرها
فإن قيل فقد وضع له ما يدل عليه وهو التأكيد
قيل إذا سلمتم أن ألفاظ التأكيد تدل على العموم فقد سلمتم المسألة لأن التأكيد لا يدل إلا على ما يدل عليه المؤكد ولا يفيد إلا ما أفاده فإذا كان لفظ التأكيد يقتضي العموم دل على أن المؤكد اقتضاه
فإن قيل نعلم العموم بالأحوال والعادات فيستغني بها عن لفظ يوضع له
قيل هذا لا يصح لأن هذا يختص بمن بيننا وبينه عادة في الخطاب فأما من جهة الله تعالى فلا يمكن معرفة العموم إذ لا عادة بيننا وبينه وكذلك لا يمكن معرفة ذلك فيما ينقل إلينا من الأخبار لأنها لا تنقل مع أحوالها ولا عادة بيننا وبين المتكلم فيما ينقل إلينا
فإن قيل هذا يبطل بالطعوم والروائح فإن الحاجة ماسة إلى تمييزها والعبارة عنها ثم لم يضعوا لكل واحد منها عبارة تدل عليه
قيل قد وضعوا لذلك ما يدل عليه وهو الإضافة فقالوا طعم الشهد

وطعم السفرجل وطعم الخبز وطعم الماء وحلاوة السكر وحلاوة العسل ورائحة المسك ورائحة الكافور وغير ذلك
فأما من فرق بين الأخبار وبين الأمر والنهي فلا وجه لقوله لأن ما وضع للعموم في اللفظ لم يختلف فيه الخبر والأمر والنهي
ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول من دخل الدار فأكرمه وبين أن يقول من دخل الدار أكرمته وإن كان أحدهما أمرا والآخر خبرا فدل على فساد ما قالوه
واحتجوا بأنه لا يخلو إثبات صيغة العموم من أن يكون بالعقل أو بالنقل
ولا يجوز إثباتها بالعقل لأنه لا مجال له في إثبات اللغات
ولا يجوز أن يكون بالنقل لأن النقل تواتر وآحاد ولا تواتر فيه لأنه لو كان لعلمناه كما علمتم والآحاد لا يقبل في مسائل الأصول فبطل إثباتها
قلنا هذا ينقلب عليكم في إثبات الاشتراك بين الخصوص والعموم في هذه الألفاظ فإنه لا يخلو من أن يكون بالعقل ولا مجال له فيه أو بالنقل والنقل تواتر وآحاد ولا تواتر فيه لأنه لو كان لعلمناه كما علمتم والآحاد لا يقبل في إثبات اللغة
وعلى أنا قد بينا ذلك بطرق من جهة النقل تجري مجرى التواتر وقد بيناها فأغنى عن الإعادة
قالوا ولأن هذه الألفاظ ترد والمراد بها البعض وترد والمراد بها الكل فلم يكن حملها على أحدهما بأولى من الآخر فوجب التوقف فيها كما تقول في الأسماء المشتركة من اللون والعين وغيرها
قلنا لا يمنع أن يستعمل اللفظ فيهما ثم هو حقيقة في أحدهما دون الآخر

كالحمار يستعمل في الرجل البليد ويستعمل في البهيمة المعروفة ثم هو حقيقة في البهيمة وكذلك البحر يستعمل في الرجل الجواد وفي الماء المجتمع الكثير ثم هو حقيقة في الماء المجتمع
قالوا ولأن هذه الألفاظ لا تستعمل في أكثر المواضع إلا في البعض دون الكل
ألا ترى أنه يقال أغلق الناس وفتح الناس وافتقر الناس وجمع السلطان التجار والمراد في ذلك كله البعض ولو كان اللفظ حقيقة في العموم لكان أكثر كلام الناس مجازا
قلنا يجوز أن يكون اللفظ حقيقة في معنى ثم يستعمل في غيره
ألا ترى أن الغائط حقيقة في الموضع المطمئن من الأرض ثم يستعمل أكثر في الخارج من الإنسان وكذلك الشجاع حقيقة في الحية ثم أكثر ما يستعمل في الرجل البطل فبطل ما قالوه
قالوا ولأنه لو كان اللفظ حقيقة في الجنس لما حسن فيه الاستفهام فتقول أردت به الكل كما لا يحسن في الأعداد كالعشرة وغيرها
قلنا حسن الاستفهام لا يدل على أن اللفظ ليس بحقيقة في شيء بعينه
ألا ترى أنه إذا قال رأيت بحرا حسن فيه الاستفهام بأن تقول رأيت ماء كثيرا أو رجلا جوادا ثم هو حقيقة في الماء الكثير وكذلك إذا قال أعط فلانا مائة ألف حسن أن يستفهم فيقول مائة ألف درهم ولا يدل على أن ذلك ليس بحقيقة فيه
ولأنه إنما حسن الاستفهام لأن اللفظ يحتمل العموم وغيره فجاز أن يستفهم ليزول الاحتمال
قالوا ولأنه لو كانت هذه الألفاظ حقيقة في الجنس لوجب إذا دل الدليل على أنه أراد به البعض أن يصير مجازا لأنه يستعمل في غير ما وضع له

قلنا المجاز ما تجوز به عما وضع له كالحمار حقيقة في البهيمة ثم يتجوز به في الرجل البليد فيكون مجازا فيه وأما لفظ العموم فما تجوز به عما وضع له وإنما حمل على بعض ما يقتضيه فلم يصر مجازا فيما تبقى كما لو قال علي عشرة إلا خمسة
قالوا ولأنه لو كان اللفظ يقتضي استغراق الجنس لوجب أن يكون تخصيص بعضه يوجب كذب المتكلم به كما إذا قال رأيت عشرة ثم بان أنه رأى خمسة عد كاذبا
قلنا هذا يبطل به إذا قال أقبل عشرة أنفس ثم خص بعضهم فإن اللفظ تناول العشرة ثم تخصيصه لا يوجب الكذب
ولأن على قول من قال من أصحابنا تأخير البيان عن وقت الخطاب لا يجوز له لأنه يؤدي إلى الكذب لأنه يكون مقارنا للفظ فيصير كالاستثناء مع المستثنى منه وعلى قول من أجاز تأخير البيان لا يلزم لأن الصدق والكذب إنما هو في الأخبار وعلى قول أصحابنا لا يجوز تخصيص الأخبار وإنما يجوز تخصيص الأمر والنهي والصدق والكذب لا يدخلان في ذلك فإذا خص شيء منه كان نسخا له ومن أصحابنا من أجاز تخصيص الأخبار فعلى هذا أيضا لا يؤدي إلى الكذب لأم كلام صاحب الشرع وإن تأخر بعضه عن بعض كالاستثناء مع المستثنى منه فلا يؤدي إلى ما ذكروه ولهذا يطلق الأمر في الشرع ثم يرد ما يسقطه وهو النسخ ولا يعد ذلك بداء ولو كان في غير ألفاظ صاحب الشرع أو ورد مثل هذا عد بداء
قالوا ولأنه لو كان هذا اللفظ موضوعا للعموم لما جاز تخصيصه من الكتاب بالسنة والقياس لأنه إسقاط ما ثبت بالقرآن وذلك لا يجوز بالسنة والقياس كما لا يجوز النسخ بهما

قلنا النسخ إسقاط اللفظ فلم يجز إلا بمثله أو بما هو أقوى منه والتخصيص بيان حكم اللفظ فجاز بما دونه
قالوا ولأنه لو كان اللفظ يقتضي الجنس لكان لا يوجد إلا وهو يقتضيه كما أن العلة لما كانت مقتضية للحكم لم يجز وجودها إلا وهي مقتضية له
قلنا هذا الدليل إنما يصح لو لم يجز استعمال اللفظ في غير ما وضع له فأما إذا جاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له لم يكن وجود الصيغة غير مقتضية للعموم دليلا على أن الصيغة غير موضوعة للعموم
ولأنه لو جاز أن يقال هذا لوجب أن يقال إن الحمار ليس بموضوع للبهيمة المخصوصة لأنه قد يستعمل في غير البهيمة وهو الرجل البليد وفي إجماعنا على فساد هذا دليل على بطلان ما ذكروه على أن اللفظ المقتضي للاستغراق هو الصيغة المجردة عن القرينة وذلك لا يجوز أن يوجد إلا وهي تقتضي الجنس كما لا يجوز أن توجد العلة ألا وهي تقتضي الحكم فأما ما اقترن به قرينة التخصيص فغير مقتضية للجنس فهي بمنزلة وجود العلة يجوز وجوده غير مقتض للحكم
واحتج من حمل اللفظ على الثلاثة ووقف فيما زاد بأن الثلاثة أقل الجمع فحملنا اللفظ عليه وما زاد مشكوك فيه فلا يحمل اللفظ عليه من غير دليل
الجواب أن قولهم إن الثلاثة أقل الجمع مسلم وأن ما زاد عليه مشكوك فيه دعوى تحتاج إلى دليل على أن الذي اقتضى حمل اللفظ على الثلاثة يقتضي حمله على ما زاد وذلك أن اللفظ موضوع للثلاثة ولما زاد عليه لا يختص ببعض الأعداد دون بعض فوجب حمله على الجميع
ولأنه لو جاز أن يقتصر على ثلاثة لأنه متيقن لوجب أن يقال في أسماء الأعداد كالعشرات والمائين إنها تحمل على ثلاثة لأنها متيقنة ويتوقف في الزيادة وهذا لا يقوله أحد فبطل ما قالوه

قالوا ولأنه لو كان لفظ الجمع يقتضي العموم لوجب إذا قال لفلان علي دراهم أن لا يقبل منه ثلاثة
الجواب أن قوله لفلان علي دراهم نكرة ومثل هذا لا يقتضي عندنا الجنس وإنما الذي يقتضي الجنس إذا تعرف بالألف واللام
على أنا لم نحمل ذلك على الجنس في الإقرار بدليل دل عليه وهو أنه يعلم بطريق العرف والعادة أنه لا يجوز أن يكون مراده جنس الدراهم إذ لا يجوز أن يكون قد أتلف عليه كل درهم في الأرض واستقرض ذلك منه فلم يحمل على العموم لدلالة العرف وليس إذا لم يحمل اللفظ على مقتضاه لدلالة اقترنت به لم يحمل على مقتضاه فيما لم تقترن به دلالة وقد قيل إن الإقرار إنما لم يحمل على الجنس لأنه قام عليه دليل أنه لم يرد به الجنس وهو التمييز فوزانه في مسألتنا أن يرد له لفظ العموم ثم نقول الدلالة على الخصوص فيحمل عليه وهاهنا تجرد اللفظ عن الدلالة فهو كما لو أقر بالدراهم ولم يحلف فيحمل اللفظ على ما يدعيه المدعي من قليل وكثير
مسألة 2 الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام فهو للجنس والطبقة
ومن أصحابنا من قال هو للعهد وهو قول أبي يحيى الحباني

لنا أن الألف واللام لا يدخل على الاسم إلا للجنس ولهذا قال الله تعالى قتل الإنسان ما أكفره وقال خلق الإنسان ضعيفا وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا وقال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى وأراد في هذا كله الجنس ويقال أهلك الناس الدينار والدرهم وملك الشاء والبعير ويراد به الجنس فدل على أنه موضوع له
ولأنه يحسن فيه الاستثناء بلفظ الجمع كما قال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فاقتضى الجنس كأسماء الجموع
ولأنه لو دخل الألف واللام على أسماء الجموع كالمسلمين والمشركين اقتضى الجنس فكذلك إذا دخل على الاسم المفرد
ولأنه لو كان يقتضي العهد لوجب أن لا يصح الابتداء به حتى يتقدم بين المخاطب والمخاطب معهود يرجع اللفظ إليه ولما رأينا ذلك مستعملا في خطاب الله تعالى وليس بيننا وبينه عهد متقدم يرجع اللفظ إليه دل على أنه لا يقتضي المعهود

ولأن الألف واللام يدخلان للتعريف وليس هاهنا معرفة يحمل اللفظ عليه غير الجنس فوجب أن يحمل عليه
واحتجوا بأن الألف واللام لا يدخلان إلا للعهد ولهذا قال الله عز و جل كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول وأراد به العهد وقال عز و جل فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا وأراد به العهد ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه ولن يغلب عسر واحد يسرين أبدا وتقول دخلت السوق فرأيت رجلا ثم عدت إلى السوق فرأيت الرجل وتريد به العهد فدل على أن مقتضاه العهد
قلنا إنما حملناه فيما ذكروه على العهد لأنه قد تقدمه نكرة فرجع التعريف إليها وليس كذلك هاهنا فإنه لم تتقدمه نكرة فحمل على تعريف الجنس لأن الألف واللام يدخلان للتعريف وليس هاهنا معرفة يحمل اللفظ عليها غير الجنس فوجب أن يحمل عليه
قالوا ولأن الألف واللام لا تفيد أكثر من تعريف النكرة فإذا كانت النكرة من الاسم المفرد لا تقتضي إلا واحدا من الجنس فإذا دخلت عليه الألف واللام وجب أن لا تقتضي إلا واحدا من الجنس
قلنا هذا يبطل به إذا دخلت على اسم الجمع فإنها لا تفيد أكثر من تعريف النكرة ثم إذا دخلت على اسم الجمع اقتضت الجنس وعلى أنه إنما يقتضي تعريف النكرة إذا تقدمه نكرة فأما إذا لم يتقدمه نكرة اقتضى تعريف الجنس وهاهنا لم يتقدمه نكرة فوجب أن يكون تعريفا للجنس
مسألة 3 أسماء الجموع إذا تجردت عن الألف واللام لم تقض العموم
ومن أصحابنا من قال تقتضي العموم وهو قول الجبائي
لنا أنه نكرة في الإثبات فلم يقتض العموم كالاسم المفرد
ولأنه لو كان مقتضيا للجنس كله لما كان يسمى نكرة لأن الجنس كله معروف ولهذا لا يسمى نكرة إذا دخله الألف واللام
وأيضا هو أنه يصح تأكيد ب ما فتقول أعط رجالا ما فلو كان موضوعا للجنس لما صح فيه التأكيد ب ما كما لا يجوز في العرف بالألف واللام
واحتجوا بأنه يصح استثناء كل واحد من الجنسين من هذا اللفظ فدل على أنه يقتضي الجنس
والجواب هو أنا لا نسلم فإن الاستثناء لا يصح من أسماء الجموع إذا تجردت عن الألف واللام فإذا قال كلم رجالا إلا زيدا فهو مجاز
مسألة 4 إذا ورد لفظ من ألفاظ العموم لم يجز اعتقاد عمومه حتى ينظر في الأصول فإن لم يجد ما يخصه اعتقد عمومه في قول أبي العباس

وقال أبو بكر الصيرفي يعتقد في الحال عمومه
لنا هو أن الذي يقتضي اعتقاد العموم تجرد هذه الصيغة عما يخصها لأنها إذا وردت ولم تتجرد عن دليل التخصيص لم تقتض العموم ولا نعلم تجردها عما يخصها إلا بالنظر والبحث فلم يجز اعتقاد عمومها قبل النظر والبحث يدل عليه أن الشهادة لما كانت بينة عند التجرد عن الفسق لم يحكم بكونها بينة قبل البحث عن حالها فكذلك هاهنا
احتجوا بأن اللفظ موضوع للجنس والطبقة فوجب اعتقاد موجبه قبل النظر كأسماء الحقائق لما كانت موضوعة لما وضعت له من الأعيان وجب اعتقاد موجبها في الحال كذلك هاهنا
قلنا اللفظ موضوع للجنس إذا تجرد عما يخصه وهذا غير معلوم قبل البحث فلا يصح هذا الإطلاق وأما أسماء الحقائق فيحتمل أن يقال إنها لا تحمل على مسمياتها قبل البحث وإن سلمنا فالفرق بينهما هو أن الحقائق إذا استعملت في غيرها صارت مجازا فلم يجز ترك الحقيقة إلى المجاز من غير دليل وليس كذلك لفظ العموم فإنه إذا حمل على الخصوص لم يصر مجازا فوجب التوقف فيه

قالوا ولأن هذا القول يؤدي إلى التوقف أبدا لأنه إذا نظر فخفى عليه دليل التخصيص جوز أن يلحق في النظر الثاني ما خفى عليه في الأول ويلحق في النظر الثالث ما خفى عليه في الثاني فيجب التوقف فيه أبدا وهذا لا يجوز
قلنا هذا يبطل بطلب النص في الحادثة فإنه يجب وإن جوزنا أن يلحق بالنظر الثاني ما خفى عليه في الأول ويلحق بالثالث ما خفي عليه في الثاني ويبطل أيضا بالسؤال عن حال الشهود فإنه يجب عليه وإن كان يجوز أن يظهر له في السؤال الثاني ما خفي عليه في الأول وفي السؤال الثالث ما خفي عليه في الثاني
قالوا ولأنه في حال سماع اللفظ لا يخلو من اعتقاده ولا يمكنه أن يعتقد الخصوص فوجب أن يعتقد العموم
قلنا يعتقد أنه عام إذا تجرد عما يخصه ولا يقطع فيه بالعموم ولا بالخصوص
قالوا ولأن اللفظ مخصوص في الأعيان والأزمان ثم يجب حمله على العموم في جميع الأزمان وإن جاز أن يكون منسوخا في بعض الأزمان فكذلك يجب حمله على العموم في الأعيان وإن جاز أن يكون مخصوصا في بعض الأعيان
قلنا النسخ إنما يرد بعد اللفظ فلا يجب التوقف لأجله كما إذا عرف عدالة الشهود لم يجب التوقف لما يرد عليهم من الفسق وليس كذلك في التخصيص فإنه قد يكون مقارنا للعموم وقد يكون متقدما عليه فوجب التوقف لأجله كما يجب في حال الشهود قبل الكشف عن حالهم
قالوا ولأن هذا يؤدي إلى الوقف في العموم وقد أنكرتم ذلك على أهل التوقف
قلنا هذا مخالف لوقف أهل الوقف وذلك أنا إذا لم نجد في الأصول ما يوجب التخصيص حملناه على العموم وأهل الوقف إذا لم يجدوا ما يوجب التخصيص وقفوا أبدا حتى يجدوا دليلا على المراد فبان الفرق بين القولين
مسألة 5 العموم إذا خص لم يصر مجازا فيما بقي
وقالت المعتزلة يصير مجازا سواء خص بلفظ متصل أو بلفظ منفصل وهو قول عيسى بن أبان
وقال أبو الحسن الكرخي إن خص بلفظ متصل لم يصر مجازا

وإن خص بلفظ منفصل صار مجازا
لنا هو أن الأصل في الاستعمال الحقيقة وقد وجد الاستثناء والشرط والغاية في الاستعمال أكثر من أن يعد ويحصى فدل على أن ذلك حقيقة
ولأن فوائد اللفظ تختلف بما يدخل عليها من الزيادة والنقصان ألا ترى أنك تقول زيد في الدار فيكون خبرا ثم تزيد فيه ألف الاستفهام فتقول أزيد في الدار فيصير استخبارا فلو قلنا إن ما اتصل باللفظ من الشروط والاستثناء يجعل الكلام مجازا فيما بقي لوجب أن يكون قوله أزيد في الدار حجازا في الاستفهام لأنه لو سقط منه ألف الاستفهام لكان حقيقة في الخبر وفي ركوب هذا إبطال لفوائد الألفاظ
ولأن الكلام إنما يكون مجازا إذا عرف أنه حقيقة في شيء ثم استعمل في غيره كالحمار حقيقة في البهيمة المعروفة ثم يستعمل في الرجل البليد فيكون مجازا والعموم مع الاستثناء ما استعمل في غير هذا الوضع على سبيل الحقيقة فلا يجوز أن يجعل مجازا في هذا الوضع

والدليل على من فرق بين اللفظ المتصل والمنفصل هو أن للمتصل لفظا يقتضي تخصيص العموم فلم يصيره مجازا في الباقي دليله الشرط والاستثناء
ويدل عليه هو أن اللفظ اقتضى استغراق الجنس أجمع فإذا دل الدليل على أن بعض الجنس غير مراد بقي الباقي على مقتضى اللفظ فوجب أن يكون حقيقة فيه
واحتجوا بأن اللفظ موضوع لاستغراق الجنس فإذا خص صار مستعملا في غير ما وضع له فصار مجازا كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع والحمار في الرجل البليد
قلنا هذا يبطل به إذا قيده بالشرط والغاية أو خصه بالاستثناء على قول من سلم ذلك فإنه موضوع للجنس وقد استعمل الاستثناء في غير ما وضع له ثم لم يصر مجازا
فإن قيل هو مع الاستثناء موضوع للخصوص لا للعموم فما استعمل إلا فيما وضع له
قيل وكذلك عندنا لفظ العموم مع دلالة التخصيص موضوع للخصوص فما استعمل إلا فيما وضع له
ويخالف هذا ما ذكروه من استعمال الأسد في الرجل الشجاع والحمار في الرجل البليد فإن الأسد لم يوضع للرجل الشجاع ولا الحمار للرجل البليد في اللغة فإذا استعمل في ذلك علمنا أنه مجاز وليس كذلك لفظ العموم فإنه متناول لكل واحد من الجنس فإذا استعمل في الخصوص فقد استعمل فيما يقتضيه اللفظ يدل عليه أن القرينة فيما ذكروه تبين ما أريد باللفظ والقرينة فيما اختلفنا فيه تبين ما لا يراد باللفظ فبقي الباقي على مقتضى اللفظ
مسألة 6 يجوز تخصيص أسماء الجموع إلى أن يبقى واحد من قول أكثر أصحابنا
وقال أبو بكر القفال يجوز تخصيصها إلى أن يبقى ثلاثة ولا يجوز أكثر من ذلك

لنا أنه لفظ من ألفاظ العموم فجاز تخصيصه إلى أن يبقى أقل من ثلاثة
دليله من وما ولأن ما جاز تخصيص العموم به إلى الثلاثة جاز التخصيص به إلى الواحد دليله الاستثناء
واحتجوا بأن اسم الجمع لا يستعمل فيما دون الثلاثة فالحمل عليه إسقاط له فلم يصح إلا بما يصح به الشرط
قلنا لا نسلم فإنه يجوز أن يستعمل لفظ الجمع فيما دون الثلاثة ولهذا قال الله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم وأراد به نعيما وقال تعالى أولئك مبرؤون مما يقولون وأراد به عائشة رضي الله عنها وحدها
وعلى أن هذا يفسد به إذا خصه بالاستثناء فإنه يجوز وإن كان اللفظ لا يستعمل إلا فيما دونه
مسألة 7 أقل الجمع ثلاثة
ومن أصحابنا من قال اثنان وهو مذهب ابن داود

ونفطويه والقاضي أبي بكر الأشعري
لنا ما روى أن ابن عباس احتج على عثمان رضي الله عنهما في أن الأخوين لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس بقوله تعالى وإن كان له إخوة فلأمه السدس قال وليس الأخوان إخوة في لسان قومك فقال له عثمان رضي الله عنه لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار
فلو لم يكن ذلك مقتضى اللفظ لما صح احتجاجه ولما أقره عليه عثمان وهما من فصحاء العرب وأرباب اللسان
فإن قيل فقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال الأخوان أخوة فصار مخالفا له

قلنا المراد بتلك أنهما كالأخوة في الحجب والذي يدل عليه أن أحدا لا يقول إن لفظ التثنية يتناول الجمع حقيقة وإنما اختلفوا في لفظ الجمع هل يتناول الاثنين حقيقة
وأيضا هو أن أهل اللغة فرقوا بين الواحد والاثنين والجمع فقالوا رجل ورجلان ورجال ولو كان الاثنان جمعا لكان لفظ التثنية مساويا لما زاد عليه كما كان لفظ الثلاثة مساويا لما زاد عليه
فإن قيل لا يمتنع أن يكون للتثنية أسماء تخصها ويكون اسم الجمع أيضا متناولا لها كالأسد له اسم يخصه ومع ذلك اسم السبع حقيقة فيه
قيل السبع والأسد لم يوضع للتمييز بين شيئين وإنما جعل أحدهما اسما للجنس والآخر اسما للنوع وليس كذلك لفظ التثنية والجمع فإنهما وضعا لنوعين مختلفين من العدد على وجه التمييز بينهما فدل على أن كل واحد منهما يختص بما يميز به كالأسد والحمار لما وضع لجنسين من الحيوان كان كل واحد منهما اسما لما وضع له خاصة
ولأنه لو كان اسم الجمع حقيقة في الاثنين لكان لا يصح نفيه لأن الحقائق لا يصح نفيها عن مسمياتها ولما جاز أن يقول ما رأيت رجالا وإنما رأيت رجلين دل على أن حقيقته ما ذكرناه
ولأنه لا خلاف بين أصحابنا أنه إذا قال لفلان علي دراهم لزمه ثلاثة ولو كان أقل الجمع اثنين لما لزمه أكثر من اثنين
واحتجوا بقوله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين فرد الكناية إلى الاثنين بلفظ الجمع وبقوله تعالى إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاستعمل في الاثنين لفظ الجمع

قلنا أما الآية الأولى فقد قيل إن المراد بها حكم الأنبياء عليهم السلام وهو جماعة كثيرة وقيل المراد بها داود وسليمان والمحكوم له لأن ذكر الحاكم يقتضي ذكر المحكوم له فلهذا رد الكناية إليهم بلفظ الجمع
وأما الآية الثانية فلا حجة فيها لأن الخصم يقع على الواحد والجماعة ولهذا قال الله تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم فجعل أحدهم المؤمنين والآخر الكفار
ولأنه يجوز أن يكون مع جبريل عليه السلام وميكال عليه السلام جماعة من الملائكة عليهم السلام
واحتجوا بقول النبي عليه السلام الاثنان فما فوقهم جماعة
والجواب أن هذا دليل لنا فإنه لو كان الاثنان جمعا حقيقة لما احتاج إلى البيان لأنهم يعرفون من اللغة ما يعرفه وإن كان النبي صلى الله عليه و سلم أفصح العرب ولما بين دل على أن الاثنين ليس بجمع في اللغة فيجب أن يحمل الخبر على أنه قصد بيان حكم شرعي وأن الاثنين في حكم الجماعة في الصلاة
قالوا ولأن الجمع إنما سمي جمعا لما فيه من جمع الآحاد وذلك يوجد في الاثنين فوجب أن يكون جمعا
قلنا ويجوز أن يكون اشتقاقه من ذلك ثم لا يسمى به كل ما وجد فيه هذا المعنى بل يختص بشيء مخصوص كالقارورة سميت بذلك لأنها يستقر فيها الشيء ثم يختص ذلك بظرف مخصوص وإن كان هذا المعنى يوجد في غيره وكذلك سميت الدابة لأنها تدب على وجه الأرض ثم يختص ذلك ببهيمة مخصوصة وإن كان المعنى يوجد في غيرها فكذلك هاهنا

قالوا ولأن الاثنين يخبران عن أنفسهما فيقولان فعلنا كما يخبر الثلاثة فيقولون فعلنا فدل على أن الجمع فيهما واحد
قلنا هذا يعارضه أنهم فرقوا بينهما في فعل الغائب والمواجهة فقالوا في الغائب ضربا في الاثنين وضربوا في الثلاثة وفي المواجهة ضربتما في الاثنين وضربتم للجماعة وليس لهم أن يتعلقوا بما ذكروه إلا ولنا أن نتعلق بما ذكرناه
ولأنه لا يمتنع أن يكون لفظهما في الإخبار عن أنفسهما واحدا يكون لفظهما في الجمع يختلف ألا ترى أن المذكر والمؤنث في الإخبار عن أنفسهما سواء ثم لفظهما في الجمع يختلف فكذلك ههنا
مسألة 8 يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد
وقال بعض المتكلمين لا يجوز
وقال عيسى ابن أبان ما خص بدليل جاز تخصيصه بأخبار

الآحاد وإن لم يخص لم يجز تخصيصه بأخبار الآحاد
لنا هو أن المسلمين أجمعوا على تخصيص آية المواريث بقوله عليه السلام لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وعلى تخصيص قوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء بقوله صلى الله عليه و سلم لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها
واحتج أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها بقوله صلى الله عليه و سلم إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وهذا تخصيص لعموم من القرآن بجبر الواحد فدل على جواز ذلك
فإن قيل فقد رد عمر رضي الله عنه حديث فاطمة بنت قيس أن

النبي صلى الله عليه و سلم لم يجعل لها نفقة ولا سكنى لما خالف قوله الله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم وقال لا ندع قول كتاب الله بقول امرأة
قيل إنما رد خبرها لأنها اتهمها ولهذا قال امرأة لا ندري صدقت أم كذبت وكلامنا فيما صح من الأخبار وسكنت نفس المجتهد إليه
ولأنهما دليلان أحدهما أخص من الآخر فقدم الخاص منهما على العام كما لو كانا من الكتاب والسنة
ولأن في هذا جمعا بين دليلين فكان أولى من إسقاط أحدهما كما لو كانا من الكتاب أو السنة
ولأن خصوص القرآن أو السنة إنما قدم على عمومهما لأنه يتناول الحكم بخصوصه على وجه لا يحتمل غير ما تناوله وعمومهما يتناول الحكم بعمومه على وجه يحتمل أن يكون المراد به غير ما تناوله الخصوص وهذا المعنى موجود في خصوص السنة وعموم القرآن فوجب أن يقدم عليه
واحتجوا بأن الكتاب مقطوع به وخبر الواحد غير مقطوع به فلا يجوز ترك المقطوع به بغيره كالإجماع لا يترك بخبر الواحد

قلنا خبر الواحد وإن كان من طريق الظن إلا أن وجوب العمل به معلوم بدليل مقطوع به فكان حكمه وحكم ما قطع بصحته واحد
ولأن الكتاب إنما يقطع بورود لفظه عاما فأما مقتضاه من العموم فغير مقطوع به لأنه يحتمل أن يراد به غير ما تناوله خصوص السنة والخاص لا يحتمل غير ما تناوله فوجب أن يقدم عليه يبين صحة هذا هو أنه لو قطع بعمومه لقطع على كذب الخبر وهذا لا يقوله أحد ويخالف ما ذكروه من الإجماع إذا عارضه خبر الواحد فإن الإجماع لا إجمال فيما تناوله وخبر الواحد يحتمل أن يكون منسوخا فقدمنا الإجماع عليه وهاهنا عموم القرآن محتمل لما يقتضيه وخصوص السنة غير محتمل فقدم خصوص السنة
قالوا ولأنه إسقاط بعض ما يقتضيه عموم القرآن بالسنة فلم يجز كالنسخ
قلنا النسخ إسقاط لموجب اللفظ فلم يجز إلا بمثله أو بما هو أقوى منه والتخصيص بيان ما أريد باللفظ فجاز بما دونه
واحتج عيسى بن أبان بأنه إذا دخله التخصيص صار مجازا فقيل خبر الواحد في تخصيصه كما قبل في بيان المجمل وإذا لم يدخله التخصيص بقي على حقيقته فلم يخص خبر الواحد
والجواب هو أن المجمل مالا يعقل المراد منه بنفسه والعموم وإن خص فمعناه معقول وامتثاله ممكن واللفظ متناول لما يبقى بعد التخصيص فكان حكمه وحكم مالم يخص واحد
مسألة 9 يجوز تخصيص عموم السنة بالكتاب
ومن الناس من قال لا يجوز
لنا قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ولم يفصل
ولأنه لفظ خاص عارض لفظا عاما فخصه دليله إذا كانا من الكتاب أو كانا من السنة
ولأن الكتاب مقطوع بطريقه والسنة غير مقطوع بها فإذا جاز تخصيص الكتاب بالسنة فتخصيص السنة بالكتاب أولى
واحتجوا بقوله لتبين للناس ما نزل إليهم فجعل السنة بيانا للقرآن
قلنا هذا محمول على ما يفتقر إلى البيان أو نحمله على أن المراد به الإظهار يدلك عليه أنه علقه على جميع القرآن فالذي يفتقر إليه جميع القرآن هو الإظهار فأما التخصيص فلا يحتاج إليه جميعه
مسألة 10 يجوز تخصيص العموم بالقياس الخفي

ومن أصحابنا من قال لا يجوز ذلك وهو قول أبي علي الجبائي
وقال أصحاب أبي حنيفة إن خص بغيره جاز التخصيص به

وإن لم يخص بغيره لم يجز
لنا هو أنه دليل ينافي بعض ما شمله العموم بصريحه فوجب أن يخص به كاللفظ الخاص ويدل عليه هو أن العلة معنى النطق فإذا كان النطق الخاص يخص به العموم فكذلك معناه
ولأن ما ذكرناه جمعا بين دليلين فكان أولى من إسقاط أحدهما كاللفظ الخاص مع النطق العام
ولأن القياس الخفي دليل فكان حكمه حكم الجلي من جنسه في تخصيص العموم كخبر الواحد لما كان دليلا كان حكمه حكم الجلي من جنسه وهو المتواتر
والدليل على أصحاب أبي حنيفة هو أن ما جاز أن يراد به في التخصيص جاز أن يبتدأ به التخصيص كالنطق
ولأن التخصيص إنما جاز بالقياس لأنه يتناول الحكم بخصوصه فقدم على العام وهذا موجود في الابتداء فوجب أن يقدم عليه
واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لمعاذ رضي الله عنه فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أجتهد رأيي ولو آلو فدل على أن القياس لا يعمل به مع السنة
قلنا القدر الذي يخرجه القياس من العموم ليس من السنة عندنا ولأنه

كما رتب القياس على السنة فقد رتب السنة على الكتاب ثم لا خلاف أن تخصيص الكتاب بالسنة جائز فكذلك تخصيص السنة بالقياس
قالوا ولأنه إسقاط لما تناوله العموم فلا يجوز بالقياس كالنسخ وربما قالوا تخصيص الأعيان أحد نوعي تخصيص العموم فلا يجوز بالقياس كتخصيص الزمان
قلنا لا يمتنع أن لا يجوز به النسخ ويجوز به التخصيص ألا ترى أن نسخ القرآن لا يجوز بخبر الواحد وتخصيصه جائز ولأن النسخ إسقاط موجب اللفظ والتخصيص جمع بينه وبين غيره فافترقا
قالوا ولأنه تخصيص عموم بالقياس فلم يجز كما لو كان القياس بعلة مستنبطة من العموم
قلنا هذا يبطل بالتخصيص بالقياس الجلي ثم لا يمتنع أن لا يجوز بما انتزع منه ويجوز بما انتزع من غيره كما لا يجوز التخصيص بنفسه ويجوز التخصيص بغيره من الألفاظ
ولأنه المطلوب هناك علة الحكم الذي اقتضاه العموم فإن اقتضت العلة التخصيص لم يكن ذلك علة الحكم لأنه مسقط له وليس كذلك هاهنا لأن المطلوب علة حكم مخالف له فجاز أن يخص به
قالوا ولأن القياس فرع النطق فلا يجوز أن يسقط الفرع أصله
قلنا نحن إنما نخص به عموما ليس بأصله فلا يكون ذلك إسقاط أصل بفرع
قالوا ولأن ما قدم عليه القياس الجلي في الحكم لا يخص به العموم كاستصحاب الحال

قلنا استصحاب الحال ليس بدليل وإنما هو بقاء على حكم الأصل إلى أن يرد الدليل عليه فلا يترك له ما هو دليل وليس كذلك القياس فإنه دليل من جهة الشرع يستدعي الحكم بصريحه فقدم على ما يقتضي الحكم بعمومه كخبر الواحد
قالوا ولأن قياس الشبه مختلف فيه بين القائلين بالقياس فلا يخص به العموم كالخبر المرسل لما كان مختلفا فيه بين القائلين بخبر الواحد لم يخص به العموم
قلنا نحن إنما نتكلم مع من قال بقياس الشبه ومن قال به وجعله دليلا لزمه التخصيص به وإن كان في الناس من لا يقول به ألا ترى أن القياس الجلي لما كان حجة عند القائلين بالقياس وجب تخصيص العموم به وإن كان مختلفا فيه ويخالف الخبر المرسل فإن ذلك ليس بحجة عندنا فلا يجوز تخصيص العموم به وقياس الشبه حجة على المذهبين فجاز تخصيص العموم به كالقياس الجلي
قالوا ولأن القياس يقتضي الظن وعموم الكتاب يوجب العلم فلا يجوز أن يعترض به عليه
قلنا يبطل بالقياس إذا ورد على براءة الذمة بالعقل فإنه يوجب الظن ثم يعترض به عليه وإن كان ما يوجبه العقل من براءة الذمة مقطوع به
فإن قيل العقل يقتضي براءة الذمة بشرط وهو أن لا يرد سمع والعموم يقتضي الحكم على إطلاقه
قيل وكذا اللفظ العام يقتضي العموم ما لم يرد ما هو أقوى منه والقياس الخاص أقوى منه في تناول الحكم فقضى به عليه
ولأن القياس وإن كان طريقه الظن والاجتهاد إلا أن الدليل على وجوب العمل

به مقطوع بصحته فقد صار كالعموم في هذا الباب وزاد عليه بأنه يكشف عن المراد بالعموم ويتناول الحكم بخصوصه فكان أولى منه
واحتج أصحاب أبي حنيفة بأنه إسقاط دلالة اللفظ فلم يجز بالقياس كالنسخ ولا تلزم الزيادة بالتخصيص لأنها ليست بإسقاط لدلالة اللفظ لأن الدلالة قد سقطت بغيره
قلنا لا يمتنع أن لا يجوز النسخ ويجوز التخصيص ألا ترى أن نسخ الكتاب لا يجوز بخبر الواحد ويجوز التخصيص به ولأن النسخ إسقاط اللفظ وهذا جمع بينه وبين غيره فافترقا
مسألة 11 يجوز تخصيص الخبر كما يجوز تخصيص الأمر والنهي
ومن أصحابنا من قال تخصيص الخبر لا يجوز
لنا هو أنه يجوز أن يكون المراد بعض ما تناوله العموم كما يجوز ذلك في الأمر والنهي فإذا جاز التخصيص هناك جاز ههنا
واحتجوا بأنه أحد نوعي التخصيص فلم يجز في الخبر كالنسخ
قلنا النسخ يسقط جميع مقتضى اللفظ فلو دخل في الخبر صار كذبا والتخصيص لا يسقط جميع ما اقتضاه وإنما يبين ما يراد به فافترقا
مسألة 12 إذا ورد العام على سبب خاص واللفظ مستقل بنفسه حمل

على عمومه ولم يقتصر على سببه
وقال مالك يقتصر على السبب وهو قول المزني وأبي ثور وأبي بكر القفال والدقاق
لنا هو أن الدليل قول صاحب الشريعة فاعتبر عمومه كما لو تجرد عن السبب

ولأن كل لفظ لو تجرد عن سؤال خاص حمل على عمومه فكذلك إذا تقدمه سؤال خاص
الدليل عليه إذا قالت المرأة لزوجها طلقني فقال كل امرأة لي طالق ويدل عليه هو أن الحكم يتعلق بجواب النبي عليه السلام كما أن الطلاق يتعلق بقول الزوج ثم الاعتبار بعموم كلام الزوج دون خصوص السؤال فكذلك يجب أن يكون الاعتبار بعموم كلام النبي صلى الله عليه و سلم لا بخصوص السؤال
ولأنه لو كان السؤال عاما والجواب خاصا اعتبر خصوص الجواب دون عموم السؤال فكذلك إذا كان السؤال خاصا والجواب عاما وجب أن يعتبر عموم الجواب
ولأنه لو وقع السؤال عن جواز شيء فخرج الجواب بإيجابه اعتبر الجواب فكذلك إذا كان السؤال خاصا والجواب عاما وجب أن يعتبر عموم الجواب
ولأن قول السائل ليس بحجة فلا يجوز أن يخص به عموم السنة كقول غيره
ولأنه لو كان الاعتبار بخصوص السؤال لوجب أن يختص السائل بالجواب حتى لا يدخل غيره فيه وقد أجمع المسلمون على عموم آية القذف وإن كانت نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها خاصة وعموم آية اللعان وإن كانت نزلت في شان هلال بن أمية وامرأته وعموم آية الظهار وإن كانت نزلت في شأن رجل بعينه فدل على أنه لا اعتبار بالسبب
واحتجوا بأن السؤال مع الجواب كالجملة الواحدة بدليل أن السؤال هو المقتضي للجواب وبدليل أن الجواب إذا كان مبهما أحيل في بيانه على السؤال فإذا ثبت أنهما كالجملة الواحدة وجب أن يصير السؤال مقدرا في الجواب فيخص الحكم

قلنا لا نسلم أنهما كالجملة الواحدة بل هما جملتان متفرقتان واستدلالهم عليه بأن الجواب مقتضى السؤال لا يسلم فكيف يكون الجواب مقتضى السؤال وهو أعم منه
وإن سلمنا لهم فالجواب عنه وإن كان مقتضاه فإنه يجوز أن يكون زائدا عليه فيجيب بما هو أعم منه وربما اشتمل الجواب عما لم يقع السؤال عنه كما قال الله تعالى وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى فأجاب عما سئل وزاد كما قال عليه السلام وقد سئل عن ماء فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته
وقولهم إنه يجوز أن يكون الجواب محالا على السبب في البيان يبطل بالكتاب مع السنة فإنه يجوز أن يحال بأحدهما على الآخر في البيان ثم هما جملتان مختلفتان وعلى أن خلافنا في جواب مستقل بنفسه غير مفتقر إلى السؤال في البيان فلا يجوز أن يجعل ذلك مع السؤال جملة واحدة ثم هذا يبطل بما ذكرناه من مسألة الطلاق فإن السؤال هو المقتضي للطلاق ويجوز أن يكون الجواب محالا على السؤال في البيان ثم لا يجعل السؤال مع الجواب كالجملة الواحدة
قالوا ولأنه جواب خرج على سؤال خاص فكان مقصورا عليه كما لو لم يستقل إلا بالسبب
قلنا المعنى هناك أن اللفظ لم يتناول غير ما وقع عنه السؤال وليس كذلك هاهنا فإن اللفظ عام مما وقع عنه السؤال وغيره فحمل على عمومه
قالوا ولما ورد الخطاب فيه على السبب دل على انه بيان لحكمه خاصا إذ لو كان بيانا لغيره لبينه قبل السؤال

قلنا يجوز أن يرد السؤال عليه ويبين حكمه وحكم غيره كما سئل عن ماء البحر خاصة فبين حكمه وحكم ميتته ثم هذا يعارضه أنه لو كان بيانا لحكم السبب خاصة لخصه بالجواب ولما أطلق وعم دل على أنه قصد بيانه وبيان غيره
قالوا السبب هو الذي أثار الحكم فيعلق به كالعلة
قلنا العلة مقتضية للحكم فوزانها من السبب أن يكون مقتضيا للحكم فيتعلق به الحكم وليس كذلك هاهنا لأن السبب غير مقتض له لأنه لا يجوز أن يكون مقتضيا له وهو أعم منه فلم يجز تعليقه عليه
مسألة 13 تخصيص العموم بقول الراوي ومذهبه لا يجوز ولا يجوز أيضا ترك شيء من الظواهر بقوله
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة يجوز
لنا هو أن الراوي محجوج بالخبر فلا يجوز التخصيص بقوله كغيره
ولأن تخصيصه الخبر يجوز أن يكون بخبر آخر ويحتمل أن يكون بضرب من الرأي اعتقد صحته وهو فاسد فلا يجوز ترك الظاهر بالشك
ولأن هذا يؤدي إلى أن يصير قول الراوي حجة ويخرج قول النبي صلى الله عليه و سلم أن يكون حجة وذلك محال
واحتجوا بأن الظاهر أن الراوي لا يترك ما رواه إلا وقد عرف من جهة الرسول عليه السلام ما يوجب التخصيص
قلنا الظاهر أنه لم يخصصه من جهة النقل والرواية لأنه لو كان معه نقل

لذكره في وقت من الأوقات وعلى أنه يحتمل ما ذكروه ويحتمل أن يكون قد ذهب إلى رأي باطل واستدلال فاسد فلا يجوز ترك الظاهر
قالوا ولأنه لا يخلو إما أن يكون خصه بخبر أو قياس وبأيهما كان وجب المصير إليه
قلنا إنما يجب ذلك إذا عرفنا المخصص فأما إذا لم نعلمه لم يجز لأنه يجوز أن يكون قد خصه بقياس فاسد وطريق باطل فلا يجوز ترك الخبر
قالوا إذا قبلتم قوله أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أو نهانا وغير ذلك من الألفاظ وجب أن تقبلوا قوله فيما يوجب التخصيص
قلنا هذه الألفاظ رواية عن النبي صلى الله عليه و سلم ونقل عنه فوزانه من مسألتنا أن ينقل إلينا عن النبي صلى الله عليه و سلم ما يوجب تخصيصه فافترقنا
مسألة 14 إذا تعارض لفظان خاص وعام بنى العام على الخاص
وقال بعض المتكلمين لا يقضى على العام بالخاص بل يتعارض الخاص وما قابله من العام وهو اختيار أبي بكر الأشعري وأبي بكر الدقاق
لنا هو أنه دليل عام قابله دليل خاص وليس في تخصيصه إبطال له فوجب تخصيصه به كخبر الواحد إذا ورد مخالفا لدليل العقل فإنه يخص بدليل العقل
ولأن الخاص أقوى من العام لأن الخاص يتناول الحكم بخصوصه على وجه لا احتمال فيه والعام يتناول الحكم على وجه محتمل لأنه يجوز أن يكون المراد به غير ما تناوله الخاص بخصوصه فوجب أن يقدم الخاص عليه
ولأن الأدلة إنما وردت للاستعمال فكان الجمع بينهما أولى من إسقاط بعضها والتوقف فيها

ولأن ما تفرق من ألفاظ صاحب الشرع بمنزلة المجموع موضعا واحدا ولو جمع النبي عليه السلام بين اللفظين لجمع بينهما ورتب أحدهما على الآخر فكذلك إذا تفرق
واحتجوا بأنه ليس الخاص فيما تناوله بأولى مما عارضه من العام فوجب التوقف فيه
قلنا قد بينا بأن الخاص فيما تناوله أولى من العام لأن الخاص يقتضي الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه والعام يتناوله بظاهره وعمومه على وجه يحتمل أن يكون المراد به غير ظاهره فوجب تقديم الأقوى منهما كما قدمنا دليل العقل على عموم خبر الواحد
ولأن فيما قلناه استعمال دليلين وفيما قلتم إسقاط أحدهما فكان ما قلناه أولى
مسألة 15 إذا تعارض عام وخاص بني العام على الخاص وإن كان الخاص متقدما على العام
وقال بعض المعتزلة وبعض أصحاب أبي حنيفة متى تقدم الخاص نسخه العام ولم يبن أحدهما على الآخر وإن تقدم تاريخهما بني العام على الخاص في قول بعضهم
وقال عيسى بن أبان والكرخي والبصري إذا عدم تاريخهما رجع بالأخذ بأحدهما إلى دليل كالعمومين إذا تعارضا بأحدهما
لنا بأنه تعارض دليلان عام وخاص فبني العام على الخاص كما لو لم يتقدم الخاص ولأنه يمكن الجمع بين الدليلين فلم يجز إسقاط أحدهما بالآخر كما لو لم يتقدم الخاص
ولأنه إذا لم يتقدم الخاص قضي به على العام لأنه يتناول الحكم بصريحه من غير احتمال والعموم يتناوله مع الاحتمال وهذا المعنى موجود فيه وإن تقدم الخاص فوجب أن يقضي به

ولأن ما أوجب تخصيص العموم لا فرق بين أن يتأخر أو يتقدم كالقياس لا فرق بين أن يكون مستنبطا من أصل متقدم أو أصل متأخر فكذلك هاهنا
ولأن الخبر الخاص أقوى من القياس فإذا جاز تخصيص العموم بقياس مستنبط من أصل متقدم وروده على العموم فلأن يجوز بالخبر الخاص أولى
ولأنه لا خلاف أن تخصيص العموم بأدلة العقل جائز وإن كانت متقدمة عليه فكذلك هاهنا
فإن قيل أدلة العقل لا يمكن نسخها فقضي بها على العموم والخاص يصح نسخه فنسخ به
والجواب أنه إن كان لا ينسخ دليل العقل فلا ينسخ الخاص أيضا إلا بمثله والعام ليس مثل الخاص في القوة فلا يجب أن ينسخ به
ولأن الخاص المتقدم متيقن ونسخه بما ورد من اللفظ العام غير متيقن فلا يجوز نسخ المتيقن بغير متيقن
ولأنه لا فرق في اللغة بين قوله لا تعط فلانا حقه وأعط الناس حقوقهم وبين قوله أعط الناس حقوقهم ولا تعط فلانا حقه
فإنه يعقل من الكلامين تخصيص العام منهما وبنى أحد اللفظين على الآخر فوجب أن يكونا فيما اختلفا فيه مثله
واحتجوا فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كنا نأخذ من أوامر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأحدث فالأحدث
والجواب هو أنا نأخذ بالأحدث فالأحدث على حسب ما يقتضيه والذي يقتضيه هو القدر الذي يبقى معه التخصيص على أنه يعارضه قوله عز و جل ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض فذم من عمل بالبعض دون البعض وهم

يأخذون بالمتأخير ويتركون المتقدم ثم يحمل ما رواه على لفظين لا يمكن استعمالهما فيؤخذ بالأحدث منهما
قالوا ولأنهما لفظان متعارضان فنسخ الأول منهما بالثاني كالنصين
قلنا المعنى في النصين أنه لا يمكن الجمع بينهما فنسخ الأول منهما بالثاني وفي مسألتنا يمكن الجمع بينهما فلا يجوز إسقاط أحدهما بالآخر
قالوا ولأن العام إذا تناول الجنس لعمومه كان كعدة ألفاظ يتناول كل واحد منهما واحدا من الجنس ثم ثبت أن ما ورد اللفظ به خاصا في كل واحد منهما إذا تقدم ثم ورد ما يخالفه بألفاظ خاصة نسخه كذلك إذا ورد اللفظ الخاص ثم ورد عام يخالفه وجب أن ينسخه
قلنا لو كان جمع الجنس بلفظ واحد كإفراد كل واحد منه بلفظ يخصه كان جمعه بلفظ كإفراد كل واحد منهما بلفظ في المنع من التخصيص بالقياس ولما بطل هذا بإجماع بطل ما قالوه
ولأنه لو كان جمع الجنس بلفظ عام كإفراد كل واحد منه بلفظ خاص لكان لا يجوز ورود لفظ عام مخالفا لدليل العقل كما لا يجوز أن يرد لفظ خاص يخالف دليل العقل
ولأنه إذا وردت به ألفاظ مفردة لم يكن الجمع بينها وبين ما يعارضها فوجب نسخ المتقدم بالمتأخر وليس كذلك هاهنا فإنه إذا ورد اللفظ عاما أمكن الجمع بينه وبين ما يعارضه فبني أحدهما على الآخر
قالوا ولأنه الخاص إذا تقدم على العام كان ذلك بيانا للعام بعده على قولكم والبيان لا يجوز أن يتقدم على المبين كما لا يجوز أن يتقدم التفسير على المفسر والاستثناء على الجملة
قلنا لا يمتنع أن يكون بيانا ويتقدم على المبين كما نقول في أدلة العقل يخص بها العموم ويبين بها وإن كانت متقدمة عليه
على أنه يجوز أن يجعل الشيء بيانا لما يرد بعده من الألفاظ ألا ترى أنه

يجوز أن يقول الرجل لغيره إذا قلت لك أعط فلانا عشرة دنانير فأعطه عشرة دراهم فيجعل هذا دلالة وبيانا لما يرد بعده من الكلام
قالوا ولأن الخاص والعام متضادان كتضاد الحركة والسكون والعلم والجهل وسائر المعاني ثم كل واحد من هذه المعاني يبطل ما ورد بعده من أضداده فكذلك الخصوص يبطل بما يوجد بعده من العموم
قلنا لو كان هذا صحيحا لوجب أن يكون ما يرد من العموم يوجب إبطال ما يقتضيه التخصيص من أدلة العقل اعتبارا بما ذكرتم على أن الحركة والسكون والعلم والجهل معان متضادة فنافى كل واحد منها ضده فأبطله وليس كذلك هاهنا فإنها ألفاظ عامة وأدلة خاصة وليس من الألفاظ العامة والأدلة الخاصة تناف ولهذا يصح وجودهما في النقل والرواية فلم يجز إبطال الأول منهما بالثاني كالعموم مع أدلة العقل
مسألة 16 يجب بناء العام على الخاص وإن كان العام متفقا على استعماله والخاص مختلفا فيه
وقال أصحاب أبي حنيفة العام المتفق على استعماله يقدم على الخاص المختلف فيه
لنا هو أنه تعارض دليلان عام وخاص فبني العام على الخاص دليله إذا اتفق على استعمالهما
ولأن فيما ذكرناه جمعا بين دليلين فكان أولى من إسقاط أحدهما كما لو كانا متفقا عليهما
ولأن الخاص يتناول الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه والعام يتناوله بعمومه لا يجوز أن يكون المراد به غير ما تناوله الخاص فوجب أن يقضى بما لا يحتمل على المحتمل
واحتجوا بأن العام المتفق على استعماله أقوى من الخاص المختلف فيه فوجب تقديمه عليه
قلنا لا نسلم أنه متفق على استعماله في القدر الذي تناوله الخاص منه وإنما هو متفق على استعماله فيما لا يتناوله الخاص بخصوصه وهذا لا يمنع من جواز تخصيصه ألا ترى أن استصحاب الحال في براءة الذمة متفق عليه في الجملة

فيما يتناوله دليل شرعي ثم إذا ورد دليل شرعي نقل عنه وإن كان الدليل مختلفا فيه
ولأنهم ناقضوا في هذا فإنهم قضوا بالنهي في أكل السمك الطافي وإن كان مختلفا فيه على قوله صلى الله عليه و سلم أحلت لنا ميتتان ودمان وإن كان مجمعا عليه
مسألة 17 إذا تعارض خبران وأمكن استعمالهما بني أحدهما على الآخر
وقال أهل الظاهر إذا تعارض خبران سقطا
لنا هو أنهما لفظان عام وخاص يمكن استعمالهما فوجب استعمالهما وبناء أحدهما على الآخر
دليله الآيتان وذلك مثل قوله تعالى فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان وقوله تعالى فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فقال ابن عباس رضي الله عنه يسألون في موضع ولا يسألون في موضع آخر
ولأنهما دليلان يمكن بناء أحدهما على الآخر فوجب استعمالهما ولا يجوز إسقاطهما
دليله عموم خبر الواحد إذا ورد مخالفا لدليل العقل
فإن قيل أدلة العقل لا تحتمل التأويل والظاهر يحتمل التأويل فرتب وفي مسألتنا تأويل كل واحد من اللفظين كتأويل الآخر فلم يكن أحدهما بأولى من الآخر

قلنا هذا يبطل بالآيتين فإنهما مستعملتان وإن كان تأويل أحدهما كتأويل الأخرى ويدل عليه أن ما زاد من العموم على الخصوص لا يعارضه مثله ولا ما هو أقوى منه فوجب أن لا يتوقف فيه كما لو روي في أحد الخبرين ما في الآخر وزيادة حكم
واحتجوا بقوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وهذا التعارض اختلاف فدل على أنه ليس من عند الله
قلنا لا نسلم أن بينهما اختلافا بل هما متفقان عند البناء والترتيب
وعلى أنه لو كان هذا الاختلاف يوجب أن لا يكون ذلك من عند الله لوجب أن يقال مثل ذلك في الآيات إذا تعارضت ولما أجمعنا على أن ذلك لا يعد اختلافا في الآيات لإمكان البناء كذلك في الإخبار
قالوا ولأنه إذا تعارض لفظان وأمكن فيه وجهان من الاستعمال كنهيه عن الصلاة في أوقات النهي وأمره في القضاء لمن نام عن صلاة أو نسيها لم يكن أحد الوجهين في الاستعمال بأولى من الآخر فوجب إسقاط الجميع
قلنا نحن إنما نستعملهما إذا أمكن وجها واحدا في الاستعمال فأما إذا أمكن وجهان لم يقدم أحد الوجهين على الآخر إلا بضرب من الترجيح
قالوا لأن البناء والجمع إنما يكون بنفس اللفظ واللفظ لا يدل عليه أو بدليل آخر وليس معكم في الجمع دليل فوجب التوقف فيه
قلنا هذا يبطل ببناء أحد الآيتين على الآخر فإنه يجوز وإن لم يدل عليه اللفظ ولا دليل آخر يقتضي الجمع بينهما

وعلى أن الدليل اقتضى الجمع بينهما قد دل على وجوب العمل بكل واحد من الدليلين وكلام صاحب الشرع لا يتناقض فلم يبق إلا الجمع والترتيب
قالوا ولأنه يحتمل أن يكون أحدهما منسوخا بالآخر ويحتمل أن يكون مرتبا عليه فلا يجوز تقديم أحدهما على الآخر كما لو احتمل وجهين من الترتيب لا مزية لأحدهما على الآخر
قلنا هذا يبطل بالآيتين فإنه يحتمل أن تكون إحداهما منسوخة بالأخرى ويحتمل أن تكون مرتبة عليها ثم قدمنا الاستعمال والبناء على النسخ ولم يجعل ذلك بمنزلة آيتين تعارض فيهما ترتيبان مختلفان
ولأنه وإن احتمل النسخ إلا أن الترتيب والبناء أظهر لأن فيه استعمال دليل والنسخ إسقاط دليل والاستعمال أولى لأن الخبر إنما ورد للاستعمال والظاهر بقاء حكمه
قالوا ولأن أدلة الشرع فروع لأدلة العقل ثم التعارض في أدلة العقل لا يقتضي الترتيب فكذلك التعارض في أدلة الشرع
قلنا الترتيب في أدلة العقل لا يمكن لأنها لا تحتمل التأويل فهي بمنزلة نصين تعارضا وفي مسألتنا يحتمل أحد اللفظين التأويل وأن يكون المراد به بعض ما تناوله الآخر فجاز فيه البناء والترتيب ولهذا المعنى جوزنا الترتيب في الآيتين ولم يجز ذلك في أدلة العقل
قالوا ولأن الشهادتين إذا تعارضتا سقطتا فكذلك الخبران
قلنا إن أمكن استعمال الشهادتين استعملناهما وهي إذا شهد شاهدان بمائة وشهد آخران بقضاء خمسين منها فيجمع بينهما كما يجمع بين الخبرين وإن لم يمكن سقطتا كالخبرين إذ لم يمكن استعمالهما
مسائل الاستثناء
مسألة 1 لا يصح الاستثناء إلا إذا اتصل الكلام
وروي عن ابن عباس أنه قال يصح الاستثناء إلى سنة

وروي عن الحسن وعطاء أنه يصح ما دام المجلس
لنا هو أن أهل اللسان لا يسمون ما انفصل عن الكلام وتراخى عنه استثناء في عرفهم وعادتهم
ألا ترى أنه لو قال رأيت الناس ثم قال بعد شهر إلا زيدا لكان ذلك لغوا فدل على أن ذلك لا يجوز
ولأنه لو جاز هذا لم يوثق بأحد في وعد ولا وعيد لجواز أن يستثنى بعد زمان ما يسقط حكم الكلام وفي اتفاق أهل اللسان على خلاف هذا دليل على بطلان هذا القول
ولأن من جوز الاستثناء إلى سنة لم ينفصل عن من جوزه إلى سنتين وثلاث فوجب أن يكون الجميع باطلا

واحتجوا بأنه تخصيص عموم فجاز أن يتأخر عن العموم كالتخصيص بغير الاستثناء
قلنا لا نسلم الأصل على قول من لم يجوز من أصحابنا تأخير البيان عن وقت الخطاب
فإن سلمنا ذلك فإنا نقلب عليهم فنقول تخصيص عموم فاستوى فيه السنة وما زاد دليله التخصيص بغير الاستثناء
مسألة 2 الاستثناء من غير جنس المستثنى منه لا يكون استثناء حقيقة
وقال بعض أصحابنا يكون حقيقة وهو قول بعض المتكلمين
لنا هو أنه أحد ما يختص به اللفظ العام فلم يصح فيما لم يدخل في العموم كالتخصيص بغير الاستثناء
ولأنه قيل إن الاستثناء مأخوذ من قولهم ثنيت فلانا عن رأيه وثنيت عنان الدابة إذا صرفتها
وقيل إنه مأخوذ من تثنية الخبر بعد الخبر وهذا لا يوجد إلا فيما دخل في الكلام حتى يثنيه على القول الأول ويثني فيه الخبر على القول الثاني

ولأن ألفاظ الاستثناء كقوله إلا وغير وسوى لا تستقل بأنفسها ولا يصح الابتداء بها فدل على أنه يتعلق بالمستثنى منه وليس لتعلقه به وجه أكثر من أنها تخرج بعض ما اقتضاه
ولأنه يقبح في الكلام أن يقال خرج الناس إلا الحمير ورأيت الناس إلا الكلاب فدل على أنه ليس بحقيقة
واحتجوا بأن الاستثناء من غير جنسه لغة العرب والدليل عليه قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس وقال تعالى فإنهم عدو لي إلا رب العالمين وهذا كله استثناء من غير الجنس
وقال الشاعر ... وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس ...
فاستثنى اليعافير والعيس من الأنيس
وقال الآخر ... ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

والفلول من قراع الكتائب ليس بعيب وقد استثناه من العيب
والجواب هو أنه قوله سبحانه فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استثناء من جنسه لأن إبليس من جنس الملائكة
فإن قيل فكيف يكون من جملتهم وقد قال إنه من الجن
قيل روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال هو من جملة الملائكة
وقيل إنه كان من خزان الجنة وكان رئيسهم وإنما سمي بذلك اشتقاقا من الجنة فبطل ما قالوه
وأما قوله إلا رب العالمين فالمراد به لكن رب العالمين
وأما قول الشاعر ... إلا اليعافير ولا العيس ...

فهو استثناء من جنسه لأن ذلك كله مما يستأنس به وأما قوله ولا عيب فيهم فهو أيضا استثناء من جنسه لأن الفلول عيب في نفسه وإن كان قد جعل ذلك نسيبا يمدح به قراع الكتائب
مسألة 3 يصح الاستثناء الأكبر من الجملة
وقال أحمد لا يصح استثناء النصف فما زاد عليه وبه قال ابن درستويه
لنا قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من

الغاوين ثم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فاستثنى الغاوين من العباد والعباد من الغاوين وأيهما كان أكثر فقد استثناه من الآخر فدل على جوازه
ولأنه معنى يخرج من العموم ما لولاه لدخل فجاز في الأكثر كالتخصيص ولأنه استثناء بعض ما اقتضاه العموم فصح كالأقل
واحتجوا بأن طريق الاستثناء اللغة ولم يسمع ذلك في الأكثر فوجب أن لا يجوز
قلنا لا نسلم بل قد سمع ذلك في اللغة قال الشاعر ... أدوا التي نقضت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا ...
وهذا في معنى الاستثناء لأنه تقديره مائة إلا تسعين
ولأنه وإن لم يسمع من أهل اللغة إلا أن القرآن قد نزل به على ما بيناه والقرآن أقوى ما رجع إليه في معرفة اللغة
ولأنه لو لم يسمع لكان ذلك في معنى المسموع لأن القصد من الاستثناء الاستدراك على نفسه فيما أورده من القول وذلك موجود في القليل والكثير فكان حكم أحدهما كحكم الآخر يبين صحة هذا هو أنا لم نسمع منهم الاستثناء في كل جنس وفي كل عدد لكن لما عرفنا غرضهم فيما سمعناه من كلامهم حملنا عليه كل عدد وكل جنس فكذلك هاهنا
قالوا ولأن كلام العرب موضوع على الاختصار وليس من الاختصار أن يقول له علي عشرة إلا تسعة ونصفا ويمكنه أن يقول علي نصف درهم
قلنا هم يبسطون الكلام تارة ويختصرونه أخرى ولهم بالجميع عادة فلا يجوز إسقاط إحدى العادتين بالأخرى

ولأنه لو كان في هذا دليل على أنه لا يجوز استثناء الأكثر لم يجز أن يجعل دليلا على أنه يجوز استثناء الأقل لأنه ليس من الاختصار أنه يجمع بين النفي والإثبات ويذكر عددين فيقول علي عشرة إلا أربعة ويمكنه أن يقتصر على الإثبات فيقول له علي ستة ولما أجمعنا على جواز ذلك دل على بطلان ما قالوه
قالوا ولأن عادة العرب في الكلام إذا ضموا مجهولا إلى معلوم أن يبنوا الأمر على التقريب فإذا كان المجهول قريبا من العقد ذكروا العقد واستثنوا المجهول وإن كان بعيدا منه ضموه إلى ما قبله من العدد ولم يستثنوه فيقولون فيما قرب من العقد كران إلا شيئا وفيما بعد من العقد كر حنطة وشيء ولهذا حمل الشافعي رحمه الله قول ابن جريج في تقدير القلة بالقربتين وشيء الشيء على دون النصف ثم بلغ به النصف احتياطا للماء فدل على أنه لا يستثني إلا الأقل
قلنا هذا هو الدليل عليكم لأنهم إذا ضموا مجهولا إلى عقد ثم فسر ذلك بما يقارب العقد الثاني جاز وهو أن يقول له علي كر وشيء ثم يفسر الشيء بأكثر من النصف
وإن كانت العادة أن لا يضم المجهول إلى العقد الأول إلا إذا كان أقل من

النصف فكذلك يجوز استثناء المجهول من العقد الثاني ثم يفسر ذلك بما زاد على النصف وإن كانت العادة فيه خلاف ذلك
ولأنه لو كان جواز الاستثناء يعتبر بما يعتادونه من كلامهم من ضم المجهول إلى الجملة واستثنائه منها لوجب أن لا يجوز استثناء الشيء اليسير من الجملة فإنهم لا يقولون في العادة علي عشرة إلا شيئا ويريدون به استثناء أربعة منها ولما أجمعنا على جواز استثناء أربعة من العشرة دل على بطلان ما ذكروه
مسألة 4 إذا تعقب الاستثناء جملا عطف بعضها على بعض رجع الاستثناء إلى الجميع

وقال أصحاب أبي حنيفة يرجع إلى أقرب المذكور فقط
وقال الأشعرية هو موقوف على الدليل
لنا هو أن الاستثناء معنى يقتضي التخصيص لا يستقل بنفسه فإذا تعقب جملا رجع إلى الجميع كالشرط وهو إذا قال امرأتي طالق وعبدي حر ومالي صدقة إن شاء الله كان هذا الشرط يرجع إلى الجميع فكذلك الاستثناء
ولأن ما جاز أن يرجع إلى كل واحدة من الجمل إذا انفردت عاد إلى جميعها إذا عطف بعضها على بعض كالشرط الذي ذكرناه ويبين صحة هذا هو أن الاستثناء في معنى الشرط ألا ترى أنه لا فرق بين قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وبين قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إن لم يتوبوا وإنما اختلف لفظهما فإذا رجع الشرط إلى الجميع وجب أن يرجع الاستثناء إلى الجميع

ولأنه يصلح عوده إلى كل واحدة من الجمل وليس بعضها بأولى من البعض فوجب أن يرجع إلى الجميع كالعموم لما صلح لفظه لكل واحد من الجنسين ولم يكن بعضهما بأولى من البعض حمل على الكل كذلك هاهنا
ولأن المعطوف بالواو كالمذكور جملة واحدة يدلك عليه هو أنه لا فرق بين أن يقول اقتلوا اليهود والنصارى والمجوس وبين أن يقول اقتلوا المشركين
ثم ثبت أن الاستثناء إذا تعقب المذكور جملة عامة رجع إلى الجميع مثل أن يقول اقتلوا المشركين إلا من أدى الجزية فكذلك إذا أفرد بعضها عن بعض وعطف بالواو
فإن قيل فرق بين المذكور جملة واحدة وبين المعطوف بالواو ألا ترى لو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا طلقة يصح استثناؤه ولو قال أنت طالق وطالق وطالق إلا تطليقة لم يصح
قلنا هذه المسألة فيها وجهان فلا نسلم على أحدهما
وإن سلمنا فلأن هناك لا يجوز أن ترد إلى كل واحد من الجملة عند الانفراد فكذلك لا يجوز عند الاجتماع وفي مسألتنا بخلافه
فإن قيل إذا ذكر جملة عامة ثم استثناء لم يفصل بين الاستثناء والمستثنى منه بما يمنع الرجوع وإذا عطف بعضها على بعض فقد فصل بين الاستثناء والجملة الأولى بما يمنع الرجوع وهو الجملة المعطوفة
قيل الواو تقتضي الجمع والتشريك والمذكور بالعطف كالمجموع بلفظ عام فإذا رجع الاستثناء في أحدهما إلى الجميع فكذلك في الآخر

واحتجوا بأنه فصل بالجملة الثانية بين الجملة الأولى وبين الاستثناء فلم يرجع الاستثناء إليهما كما لو فصل بينهما بقطع الكلام وإطالة السكوت
قلنا الفصل بين الجملة والاستثناء بالكلام لا يمنع من عود الاستثناء وإن كان الفصل بالإطالة والسكوت يمنع ألا ترى أنه لو فصل بين الجملة والاستثناء بالخبر بأن يقول أعط بني تميم وبني طيء كل واحد دينارا إلا الكفار لم يمنع ذلك من رجوع الاستثناء إلى الجميع ولم يجعل ذلك بمنزلة ما لو فصل بينهما بالسكوت
قالوا ولأنه استثناء تعقب جملتين فلم يرجع بظاهره إليهما كما لو قال أنت طالق ثلاثا ثلاثا إلا أربعا
قلنا إنما يرجع فيما ذكروه إلى الجميع لأن الاستثناء يرفع المستثنى منه وهاهنا لا يرفع المستثنى منه يدلك عليه أن فيما ذكروه لو انفردت كل واحدة من هذه الجمل وتعقبها الاستثناء لم يرجع إليها وهاهنا لو انفردت كل واحدة من هذه الجمل وتعقبها الاستثناء رجع إليها فدل على الفرق بينهما
قالوا ولأن العموم قد ثبت في كل واحدة من هذه الجمل وتعقبها الاستثناء وتخصيص جميعها بالاستثناء مشكوك فيه فلا يجوز تخصيص العموم بالشك
قلنا لا نسلم ثبوت العموم مع اتصال الاستثناء بالكلام ثم هذا يبطل بالجملة الواحدة إذا تناولت أشياء ثم تعقبها استثناء بأن العموم قد ثبت لكل واحدة من الجمل على زعمهم ثم الاستثناء يعود إلى الجميع
وعلى أنا نعارضهم بمثله فنقول القدر الذي حصل عليه الوفاق أصل داخل في عموم الجملتين بيقين وهو لم يتناوله الاستثناء بالإجماع وما زاد عليه مشكوك فيه فلا يحمل اللفظ عليه بالشك

قالوا ولأن الاستثناء إنما رد إلى ما تقدم لأنه لا يستقل بنفسه فإذا رد إلى ما يليه استقل فلم تجز الزيادة عليه إلا بدليل
قلنا هذا باطل بالشرط فإنه إنما علق على ما يتصل به من الكلام لأنه لا يستقل بنفسه وإذا رد إلى ما يليه استقل ثم لا يقتصر عليه
قالوا لأنه لو قال امرأتي طالق وأعط فلانا عشرة دراهم إن دخل الدار لم يرجع إلى الطلاق فكذلك هاهنا
قلنا فيما ذكرتم عدل عن لفظ الخبر إلى الأمر وقطع حكم الكلام الأول فروعي حكم الشرط فيما استأنف وليس كذلك في مسألتنا فإنه لم يقطع ما تقدم بغيره فوزانه من الشرط أن يقول امرأتي طالق ولفلان على عشر دراهم إن دخلا الدار فيرجع الشرط إلى الجميع
واحتج من ذهب إلى الوقف بأنه يجوز أن يكون عائدا إلى البعض ويجوز أن يكون عائدا إلى الجميع فوجب التوقف فيه
قلنا هو وإن احتمل أن يكون عائدا إلى البعض إلا أن عوده إلى الكل هو الظاهر وقد دللنا عليه فوجب حمل الكلام عليه وإن احتمل غيره
مسائل المجمل والمفصل
مسألة 1 في القرآن مجاز
وقال بعض أهل الظاهر ليس في القرآن مجاز

لنا هو أن المجاز ما تجوز عن موضوعه إما بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو استعارة وقد وجد جميع ذلك في القرآن
فالزيادة كقوله تعالى ليس كمثله شيء والمراد ليس مثله شيء
والنقصان كقوله واسأل القرية والمراد به أهل القرية
والتقديم والتأخير كقوله والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى والمراد به أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء
والاستعارة كقوله تعالى يوم يكشف عن ساق فعبر عن شدة الحال بكشف الساق لأن عند الشدائد يكشف عن الساق
وأمثال ذلك في القرآن أكثر من أن يحصى
وقد ألزم أبو العباس بن سريج ابن داود في المناظرة له في قوله تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد فعبر عن الصلوات بالمساجد لأن الصلوات لا يتأتى هدمها

وألزمه قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض والإرادة لا تصح من الجدار فلم يجد عن ذلك محيصا
واحتجوا بأن استعمال المجاز لموضع الضرورة وتعالى الله بأن يوصف بالاضطرار
والجواب أنا لا نسلم أن استعمال المجاز لموضع الضرورة بل ذلك عادة العرب في الكلام وهو عندهم مستحسن ولهذا تراهم يستعملون ذلك في كلامهم مع القدرة على الحقيقة والقرآن نزل بلغتهم فجرى الأمر فيه على عادتهم
قالوا القرآن كله حق ولا يجوز أن يكون حقا ولا يكون حقيقة
والجواب أنه ليس الحق من الحقيقة بسبيل بل الحق في الكلام أن يكون صدقا وأن يجب العمل به والحقيقة أن يستعمل اللفظ فيما وضع له سواء كان ذلك صدقا أو كذبا ويدل عليه أن قول النصارى الله ثالث ثلاثة وهو حقيقة فيما أرادوه وقوله عليه السلام لرجاله يا أنجشة ارفق بالقوارير وليس بحقيقة فيما استعمل فيه وهو صدق وحق فدل على أن أحدهما غير الآخر
مسألة 2 ليس في القرآن شيء غير العربية
وقال بعض المتكلمين في القرآن كلمات بغير العربية كالمشكاة

والقسطاس والسجيل والإستبرق وغير ذلك
لنا قوله تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا وقوله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي وهذا نص في أنه ليس فيه غير العربي
ولأن الله تعالى جعل القرآن معجزة نبيه صلى الله عليه و سلم ودلالة صدقه ليتحداهم به فلو كان فيه غير العربي لما صح التحدي به لأن الكفار يجدون إلى رده طريقا بأن يقولوا أن فيما أتيت به غير العربي ونحن لا نقدر على كلام بعضه عربي وبعضه عجمي وإنما نقدر على معارضة العربي المحض
واحتجوا بأنا وجدنا في كتب الله تعالى ألفاظا بغير العربية كالمشكاة كوة بالهندبة والإستبرق والسجيل بالفارسية وربما قالوا إن فيه ما لا يعرفه العرب وهو الأب في قوله تعالى وفاكهة وأبا فدل على أن فيه غير العربي

والجواب أنا لا نسلم فيه كلمات بغير العربية بل كل ذلك بلغة العرب وإنما وافقتها الفرس والهند في النطق بها كما وافقوا في كثير من كلامهم فيقولون حراج مكان السراج والشراويل مكان السراويل والفرس يقولون في السماء اسمان وفي الجبال أوجبا وغير ذلك من الأسماء
والذي يدل عليه هو أن الله تعالى أضاف ذلك إليهم فدل على أنهم سبقوا إلى ذلك وتبعهم الفرس والهند
وقولهم إن فيه ما لا تعرفه العرب وهو الأب غلط فإن الأب الحشيش فليس إذا لم يعرفه بعضهم خرج أن يكون ذلك لغة العرب
لأن لغة العرب أوسع اللغات فيجوز أن يخفى بعضها على بعض لكثرتها ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لم أعلم أن معنى قوله سبحانه فاطر السموات والأرض حتى سمعت امرأة تقول أنا فطرته فعلمت أنه أراد به منشىء السموات والأرض
قالوا وأيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم مبعوث إلى الكافة فيجب أن يكون في الكتاب من كل لغة
قلنا فهذا يقتضي أن يكون فيه من جميع اللغات من الزنجية والتركية والرومية وفي إجماعنا على خلاف هذا دليل على بطلان ما قالوه
ولأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يكون فيه من هذه اللغات قدرا يعلم به المراد ويقع به التبليغ فأما هذه الكلمات الشاذة فلم يعلم بها شيء ولا يقع بها بيان
ولأنه وإن كان مبعوثا إلى الكافة إلا أن القصد إعجاز العرب فإنهم أهل

اللسان والفصاحة والبيان فإذا ظهر عجزهم عن الإتيان بمثله دل على أن غيرهم عن ذلك أعجز وثبت صدقه في حق الجميع وعلى هذا الترتيب أجرى الله تعالى أمر معجزات الأنبياء فبعث موسى إلى أحذق الناس بالسحر في زمان كانوا يدعون السحر فجعل معجزته من جنس يدعونه حتى إذا عجزوا عن مثله دل على أن غيرهم أعجز
وبعث عيسى صلى الله عليه و سلم في زمن الأطباء وجعل معجزته من جنس ما يتعاطونه حتى إذا اعترفوا بالعجز عن مثله دل على أن غيرهم عن ذلك أعجز
فكذلك هاهنا لما أن كانت العرب في ذلك الزمان أفصح الناس لسانا وأحسنهم بيانا جعل المعجزة من جنس ما كانوا يدعونه ليكون ذلك أظهر في الإعجاز وأبين في الدليل
مسألة 3 يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان كالأقراء يراد به الحيض والطهر واللمس يراد به الجماع واللمس باليد وبه قال أبو علي الجبائي
وقال أصحاب أبو حنيفة لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان وهو قول أبي هاشم

لنا أن كل معنيين جاز إرادتهما بلفظين جاز إرادتهما بلفظ يصلح لهما كالمعنيين المتفقين وذلك أن تقول إذا أحدثت فتوضأ تريد به البول والغائط
ولأن المنع من ذلك لا يخلو إما أن يكون لاستحالة اجتماعهما في الإرادة كاستحالة العموم والخصوص والإيجاب والإسقاط أو لأن اللفظ لا يصلح لهما ولا يجوز أن يكون للوجه الأول لأنه لا يستحيل أن يريد بقوله أو لامستم النساء الملامستين ولا أن يريد بقوله ثلاثة أقراء كلا القرأين ولهذا يصح أن يصرح بهما فيقول إذا لمست باليد وجامعت فتطهر وإذا طلقت فاعتدي بثلاثة أقراء من الحيض والطهر
ولا يجوز أن يكون لأن اللفظ لا يصلح لهما لأن اللفظ يصلح لهما إما على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز فلم يكن للمنع منه وجه
واحتجوا بأن العبارة الواحدة لا يجوز أن يراد بها ما وضعت له حقيقة وما لم توضع له حقيقة ولهذا لا يجوز أن يراد بلفظ الأمر الإيجاب والتهديد فكذلك هاهنا
قلنا هذا يبطل بالماء المذكور في آية التيمم فإن المخالف لنا في هذا حمله على الماء والنبيذ وهو حقيقة في أحدهما دون الآخر
فأما الإيجاب والتهديد فلا يجوز اجتماعهما في الإرادة في شيء واحد في حالة واحدة بل عليه أنه لا يصلح أن يصرح بهما جميعا وليس كذلك هاهنا فإنه يصلح اجتماعهما في الإرادة على ما بيناه واللفظ يصلح لهما فصح إرادتهما كالمعنيين المتفقين
قالوا ولأنه لو جاز أن يراد بلفظ واحد معنيان مختلفان لجاز أن يراد باللفظ الواحد تعظيم الرجل والاستخفاف به ولما لم يجز ذلك لم يجز هذا
قلنا التعظيم والاستخفاف معنيان متضادان ولا تصح إرادتهما باللفظ

الواحد ولهذا لو صرح بما يقتضي الاستخفاف والتعظيم في حالة واحدة لما صح وليس كذلك هاهنا فإنهما لا يتضادان في الإرادة ألا ترى أنه لو صرح بهما في لفظين جاز ذلك فبان الفرق بينهما
قالوا ولأن طريق هذا اللغة ولم نر أهل اللغة استعملوا اللفظ الواحد في معنيين مختلفين في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا وفي أحدهما صريحا وفي الآخركناية فدل على أن ذلك لا يجوز
قلنا لا نسلم فإن ذلك في الاستعمال ظاهر ألا ترى أنه يصح أن يقول من لم يلمس امرأته فلا طهر عليه ويريد به نفي جنس اللمس في الجماع وما دونه وإذا صح ذلك في النفي صح في الإثبات إذ لا فرق بينهما
ويدل عليه أنه يجوز أن يقول نهيتك عن مسيس النساء ويريد به اللمس باليد والجماع وإن كان لمعنيين مختلفين فدل أن ذلك جائز
مسألة 4 العموم إذا دخله التخصيص لم يصر مجملا ويصح الاحتجاج به فيما بقي من اللفظ وبه قال بعض أصحاب أبي حنيفة وهو قول المعتزلة
وقال عيسى بن أبان إذا دخله التخصيص صار مجملا فلا يجوز التعلق بظاهره وحكى ذلك عن أبي ثور
وقال أبو الحسن الكرخي إذا خص بالاستثناء أو بكلام متصل

صح التعلق به وإن خص بدليل منفصل لم يصح التعلق به وقال أبو عبد الله البصري إن كان الحكم الذي يتناوله العموم يحتاج إلى شرائط وأوصاف لا ينبىء اللفظ عنها كقوله تعالى والسارق والسارقة صار مجملا وجرى في الحاجة إلى البيان مجرى قوله تعالى وأقيموا الصلاة فلا يحتج به إلا بدليل
لنا أن فاطمة رضي الله عنها احتجت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ولم ينكر أبو بكر ولا أحد من الصحابة احتجاجها بالآية وإن كان قد دخلها التخصيص في الرقيق والكافر والقاتل
ولأنه لو كان دخول التخصيص في اللفظ يمنع الاحتجاج به لوجب التوقف في

كل ما يرد من ألفاظ العموم لأنه ما من خطاب إلا وقد اعتبر في إثبات حكمه صفات في المخاطب من تكليف وإيمان وغير ذلك فيؤدي ذلك إلى قول أهل الوقف وقد أجمعنا على بطلان قول أهل الوقف
فإن قيل أنتم أيضا توقفتم في العموم على تعرف ما يوجب تخصيصه ولم يصر ذلك في معنى قول أهل الوقف
قلنا نحن نتوقف في الخطاب إلى غاية وهو إلى أن ينظر في الأصول فإذا لم نجد ما يخصصه حملناه على العموم وأنتم تتوقفون في كل ما يرد من العموم فلا تعملون به إلا بأدلة فصار ذلك كقول أهل الوقف
وأما الدليل على البصري فهو أن المجمل ما لا يعقل المراد من لفظه وما يراد بآية السرقة معقول من ظاهر اللفظ فصار بمنزلة قوله اقتلوا المشركين
ولأن هذا الخطاب لو حملناه على ظاهره لم نخطىء إلا في ضم ما لم يرد على ما أريد فإذا بين ما لم يرد بقي على ظاهره في الباقي فوجب المصير إليه والعمل به كما تقول في سائر العمومات
واحتجوا بأن هذا مبني على أصلنا وهو أن العموم إذا خص صار مجازا وقد دللنا عليه في موضعه فإذا ثبت هذا لم يكن حمله على بعض الوجوه بأولى من البعض فوجب أن يفتقر إلى البيان

والجواب أنا لا نسلم هذا الأصل وقد بينا الكلام عليه في موضعه فأغنى عن الإعادة
قالوا ولأنه إذا دخله التخصيص لم يوجب حكمه فبطل الاحتجاج به كما قلتم في العلل
والجواب هو أنه لو كان هذا دليلا علينا فهو دليل عليكم فإن تخصيص العلل لا يمنع الاحتجاج بها عندهم فيجب أن يكون تخصيص العموم لا يمنع من الاحتجاج به
وعلى أن عندنا إنما لم يجز الاحتجاج بما خص من العلل لأنها تظهر من جهة المستدل ولا يعلم صحتها إلا بدليل ولا شيء يدل عليه إلا السلامة والجريان وليس كذلك العموم فإنه يظهر من جهة صاحب الشرع فلا يحتاج في صحته إلى دليل فافترقا
قالوا ولأنه إذا دخل التخصيص صار كأنه أورد لفظ العموم ثم قال أردت به بعض ما يتناوله وما هذا سبيله لا يحتج به فيما أريد به كما تقول في قوله تعالى إن بعض الظن إثم فإنه لا يعلم من لفظه ما فيه إثم إلا بدليل
قلنا إنما لم يعلم المراد من الآية التي ذكروها لأنه علق ذلك على بعض مجهول فاحتيج في معرفته إلى دليل آخر وفي مسألتنا علق الحكم على لفظ يعلم منه الجنس فإذا تبين ما ليس بمراد بقي الباقي على ظاهره
واحتج البصري بأن آية السرقة لا يمكن العمل بها حتى تنضم إليها شرائط لا ينبىء اللفظ عنها والحاجة إلى بيان الشرائط التي يتم بها الحكم كالحاجة إلى بيان الحكم وقد ثبت أن ما يفتقر إلى بيان الحكم مجمل كقوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فكذلك ما يفتقر إلى شرائط الحكم

والجواب أن هذا يبطل بقوله فاقتلوا المشركين فإنه لا يمكن العمل بها حتى ينضم إليها شرائط لا ينبىء اللفظ عنها كالعقل والبلوغ وغير ذلك ثم لا يجعل الحاجة إلى ذلك كالحاجة إلى بيان المراد في الإجمال
فإن قيل تلك الآية إنما تفتقر إلى بيان من لا يراد بها من الصبيان والمجانين فحملت في الباقي على ظاهرها وهاهنا تفتقر إلى بيان ما أريد بالآية من شرائط القطع ولهذا اشتغل الفقهاء بذكر شرائط القطع دون ما يسقط القطع فافترقا
قيل لا فرق بين الموضعين فإن آية السرقة أيضا تفتقر إلى بيان ما لا يراد وهو من سرق دون النصاب أو سرق من غير حرز أو كان والدا أو ولدا
وأما ما ذكر الفقهاء فيه شرائط القطع فلا اعتبار به فإنهم يسلكون في ذلك طريق الاختصار فيذكرون الشرائط التي يتعلق بها القطع لتعرف بذلك من لا يجب عليه القطع وإنما الاعتبار بما يقتضيه اللفظ وما أخرج منه ومعلوم أن الظاهر يقتضي وجوب القطع على كل من سرق ودل الدليل إنما دل على إخراج من ليس بمراد من صبي أو مجنون ووالد وولد وغير ذلك فصار ذلك بمنزلة ما ذكرناه من آية القتل التي تقتضي بظاهرها إيجاب القتل على كل مشرك ثم دل على الدليل على من ليس بمراد منها
وأما قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ففيه وجهان من أصحابنا من قال هي عامة فتحمل على كل دعاء إلا ما أخرجه الدليل ومنهم من قال إنها مجملة وتفتقر إلى بيان فعلى هذا الفرق بينهما أن المراد بالصلاة لا يصلح له اللفظ ولا يدل عليه وما يراد بالسارق يصلح له اللفظ في اللغة ويعقل منه
ألا ترى أنه إذا أخرج من آية السرقة من لا يراد قطعه أمكن قطع من أريد

قطعه بظاهر الآية وإذا أخرج من آية الصلاة من ليس بمراد لم يمكن أن يحمل على المراد بالآية فافترقا
وربما احتج بأن القطع يحتاج إلى أوصاف سوى السرقة من النصاب والحرز وغير ذلك فصار بمنزلة ما لو احتاج إلى فعل غير السرقة ولو افتقر إيجاب القطع إلى فعل غير السرقة لم يمكن التعلق بظاهره فكذلك إذا افتقر إلى أوصاف سوى السرقة
والجواب هو أن هذا يبطل بآية القتل فإنها تفتقر إلى أوصاف غير الشرك كالبلوغ والعقل وغير ذلك ثم لا يضر ذلك بمنزلة ما لو احتاج القتل إلى فعل آخر في إجمال الآية والمنع من التعلق بها ويخالف هذا إذا افتقر الحكم إلى فعل آخر فإن هناك لو خلينا وظاهر الآية لم يمكن لنفيد شيئا من الأحكام فافتقر أصلها إلى البيان وهاهنا لو خلينا والظاهر لم نخطىء إلا في ضم ما لم يرد إلى ما أريد باللفظ فعلمنا أنه ظاهر في الباقي
مسألة 5 يصح الاحتجاج بعموم اللفظ وإن اقترن بذكر المدح أو الذم كقوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون وقوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
وقال بعض أصحابنا إذا قرن بذكر المدح أو الذم صار مجملا فلا يحتج بعمومه
لنا هو أن صيغة العموم قد وجدت متجردة عن دلالة التخصيص فأشبه إذا تجردت عن ذكر المدح أو الذم
ولأن اقتران المدح به لا ينافي القصد إلى بيان الحكم فلم يمنع التعلق بعمومه كاقتران حكم آخر به

ولأن اقتران المدح به يؤكد حكم الإباحة واقتران الذم يؤكد حكم التحريم فهو بجواز الاحتجاج به أولى
ولأنه لو كان اقتران ذكر المدح به يمنع من حملها على العموم لكان اقتران ذكر العقاب به يمنع من ذلك وهذا يؤدي إلى إبطال التعلق بآية السرقة والربا وغيرهما من العمومات
واحتجوا بأن القصد من هذه الآيات المدح والذم على الفعل دون بيان ما يتعلق به الحكم من الشرائط والأوصاف فلا يجوز التعلق بعمومها فيما يستباح وفيما تجب فيه الزكاة كما قلنا في قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده لما كان القصد بهذا بيان إيجاب حق من الزرع لم يجز الاحتجاج بعمومه بالمقدار والجنس
والجواب هو أن لا نسلم أن القصد بها هو المدح دون الحكم بل القصد بها بيان الجميع لأن المقاصد إنما تعلم بالألفاظ وقد وجدنا اللفظ فيهما والظاهر أنه قصدهما
ولأنه لو جاز أن يقال أن ذكر المدح يمنع من كون الحكم مقصودا جاز أن يقلب ذلك عليهم فيقال أن ذكر الحكم يمنع كون المدح مقصودا وهذا باطل بالإجماع فبطل ما قالوه
مسألة 6 الوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج أسماء منقولة من اللغة إلى معان وأحكام شرعية إذا أطلقت حملت على تلك الأحكام والمعاني
ومن أصحابنا من قال إنه لم ينقل شيء من ذلك عما وضع له اللفظ في اللغة وإنما ورد الشرع بشرائط وأحكام مضافة إلى ما وضع له اللفظ في اللغة وهو قول الأشعرية

لنا هو أن هذه الأسماء إذا أطلقت لم يعقل منها إلا هذه العبادات في الشرع ولهذا يقال أحرم فلان بالصلاة إذا كبر وأحرم بالحج إذا نوى الحج وإن لم يأت بشيء مما وضع له الاسم في اللغة
ويدل عليه هو أنه لو كانت الصلاة عبارة عما وضع له اللفظ في اللغة من الدعاء لوجب إذا عرى عن ذلك أن لا تسمى صلاة ولما أجمعنا على تسمية صلاة الأخرس صلاة وإن لم يأت فيها بشيء من الدعاء دل على أنه اسم منقول
ويدل عليه هو أن الزكاة في اللغة هي الزيادة والنماء ولهذا يقول العرب إذا كثرت المؤتفكات زكى الزرع أي إذا كثرت الرياح زاد الزرع ثم جعل في الشرع اسما لإخراج جزء من المال وذلك في الحقيقة نقصان وليس بزيادة فدل على أنه منقول
وأيضا هو أنه لما حدث في الشرع عبادات وهيئات وأفعال ولم يكن لها اسم في اللغة دعت الحاجة إلى أن يوضع لها اسم في الشرع يعرف بها كما وضع أهل الصنائع لكل ما استحدثوه من الأدوات اسما يعرفونها به عند الحاجة إلى ذكرها
واحتجوا بقوله تعالى إنا جعلناه قرآنا عربيا وبقوله سبحانه ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه والصلاة بلسان العرب هي الدعاء والصوم هو الإمساك والحج هو القصد فإذا ورد الشرع وجب أن تحمل على ما يقتضيه لسان العرب
والجواب هو أن هذه الآيات تقتضي أنه خاطبها بلسان العرب ونحن نقول بذلك لأن هذه الأسماء كلها عربية والخطاب بها خطاب بلغة العرب وليس إذا استعمل ذلك في غير ما وضعته العرب يخرج عن أن يكون خطابا بلسان العرب ألا ترى أن الحمار قد استعمل في غير ما وضعه العرب وهو الرجل البليد والبحر في

غير ما وضعته العرب وهو الرجل الجواد ولا يخرج الخطاب بذلك عن أن يكون خطابا بلسان العرب فكذلك هاهنا
قالوا ولأنه لو كان في الأسماء شيء منقول لبينه النبي صلى الله عليه و سلم بيانا يقع به العلم ولو فعل ذلك لعلمناه كما علمتم ولما لم يعلم ذلك دل على أنه لم ينقل
قلنا قد بين النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بيانا تاما ألا ترى أن كل موضع ذكر الصلاة لم يرد به إلا هذه الأفعال ولكن ليس من شرط البيان أن يقع به العلم لكل أحد ألا ترى أنه بين الحج بيانا تاما ثم لم يقع العلم به لكل أحد حتى اختلف العلماء في إحرامه فقال بعضهم كان مفردا وقال بعضهم كان قارنا فكذلك هاهنا
مسألة 7 قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة آية مجملة وكذلك قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
ومن أصحابنا من قال هي عامة فتحمل الصلاة على كل دعاء والحج على كل قصد إلا ما أخرجه الدليل
لنا هو أن المجمل مالا يعقل معناه من لفظه وهذه الآيات لا يعقل معناها من لفظها لأن الصلاة في اللغة هي الدعاء والزكاة هي الزيادة والحج هو القصد والمراد بذلك هي أفعال مخصوصة لا ينبىء اللفظ عنها فكان مجملا كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده

واحتجوا بأن الصلاة هي الدعاء في اللغة والزكاة هي الزيادة والحج هو القصد فوجب أن تحمل الصلاة على كل دعاء والزكاة على كل زيادة والحج على كل قصد إلا ما خصه الدليل كسائر العمومات
والجواب أنا قد ذكرنا فيما تقدم أنه ليس المراد بالصلاة الدعاء ولا بالزكاة الزيادة ولا بالحج القصد وإنما المراد بها معان أخر لا ينبىء اللفظ عنها فلا يصح حملها على العموم فيما ليس بمراد
مسألة 8 قوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا آية عامة يصح الاحتجاج بظاهرها
ومن أصحابنا من قال هي مجملة
لنا أن البيع معقول في اللغة وما كان معقول المراد من لفظه في اللغة لم يكن مجملا كقوله تعالى اقتلوا المشركين
واحتج المخالف بأن الله تعالى حكاه عن العرب وهم أهل اللسان بأن البيع مثل الربا ثم أحل الله البيع وحرم الربا فصار الحلال مشتبها بالحرام فافتقر إلى البيان
والجواب أنهم وإن شبهوا البيع بالربا إلا أن البيع متميز عن الربا فإن الربا هو الزيادة وذلك لا يوجد في كل بيع فوجب أن يحمل قوله تعالى وأحل الله البيع على كل بيع إلا ما أخرجه الدليل
قالوا ولأن قوله تعالى وأحل الله البيع يقضي إحلال البيع والبيع يجوز في أشياء مع التفاضل وقوله وحرم الربا يقتضي تحريم التفاضل فأجملت إحدى اللفظتين بالأخرى
والجواب هو أن هذا بيان تخصيص دخل في الآية ومتى كان اللفظ معقول المراد في اللغة لم يجز أن يصير مجملا بدخول التخصيص فيه فكذلك هاهنا ألا ترى أن قوله تعالى فاقتلوا المشركين لما كان معقول المراد في اللغة لم يصر مجملا بدخول التخصيص فيه فكذلك هاهنا
مسألة 9 الألفاظ التي علق التحليل والتحريم فيها على الأعيان كقوله تعالى حرمت عليكم الميتة و حرمت عليكم أمهاتكم ظاهرة في تحريم التصرف وليست بمجملة
ومن أصحابنا من قال هي مجملة فلا يجوز الاحتجاج بها وهو قول أبي عبدالله البصري من أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أن التحريم إذا أطلق في مثل هذا فهم منه تحريم الأفعال في اللغة والدليل عليه هو أنه لما بلغ الصحابة رضي الله عنهم تحريم الخمر أراقوها وكسروا ظروفها ولما أباح النبي صلى الله عليه و سلم الانتفاع بإهاب الميتة قيل له إنها ميتة فقال إنما حرم من الميتة أكلها فدل على أنهم فهموا من تحريم الميتة تحريم الانتفاع بها

ويدل عليه هو أن رجلا لو قال لغيره أبحت لك طعامي أو حرمت عليك طعامي فهم المخاطب منه تحريم الانتفاع به والتصرف فيه وما فهم المراد من لفظه في اللغة لم يكن مجملا كسائر الظواهر
وأيضا هو أنه لا خلاف لو علق حكما على ما ملكه الإنسان من الأعيان كقوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم لم يكن مجملا وإن كان لا يملك إلا الأفعال في الأعيان والتصرف فيها بالمنافع ودفع المضار ولكن لما تعورف استعمال هذه الألفاظ في التصرف المعروف في المال حمل إطلاقه عليه فكذلك هاهنا
واحتجوا بأن الأعيان لا تدخل في المقدور لأنها موجودة كائنة وما لا يدخل في المقدور لا يجوز أن يقع التعبد به فوجب أن يكون التحريم فيها راجعا إلى الأفعال التي تدخل تحت المقدور وذلك غير مذكور فجرى مجرى قوله واسأل القرية
والجواب هو أن هذا يبطل بملك الأعيان فإن الأعيان لا تدخل في ملك المقدور على ما ذكروه وما لا يدخل في المقدور لا يجوز أن يملكه الإنسان ثم إذا أطلق لفظ الملك حمل على ما يتعارف من التصرف ويخالف هذا قوله وسأل القرية لأن القرية لا يعبر بها عن أهلها في العرف والعادة وليس كذلك الأعيان فإنها تستعمل في موضع الأفعال في عرف أهل اللسان فصار كسائر الحقائق
قالوا ولأن أنواع التصرف في العين كثيرة والحمل على الجميع لا يجوز لأنها دعوى فيما لا ذكر له والعموم من صفات اللفظ والحمل على البعض لا يجوز لأنه ليس بعضها بأولى من بعض فوجب التوقف فيه حتى يرد البيان
والجواب أن هذا يبطل بما ذكرناه من ملك العين فإن ما يملك من العين كثير والحمل على الجميع دعوى فيما لا ذكر له ثم كان اللفظ ظاهرا في بيانه
مسألة 10 إذا علق النفي في شيء على صفة كقوله صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقوله لا نكاح إلا بولي و إنما الأعمال بالنيات وغير ذلك من الألفاظ التي تستعمل في نفي وإثبات أو رفع وإسقاط حمل ذلك على نفي الشيء ومنع الاعتداد به في الشرع
ومن أصحابنا من قال إن ذلك مجمل فلا يحمل على شيء إلا بدليل وهو قول البصري من أصحاب أبي حنيفة

لنا هو أن هذا اللفظ عند أهل اللسان موضوع للتأكيد في نفي الصفات ورفع الأحكام
ألا ترى أنه يقال ليس في البلد سلطان وليس في الناس ناظر وليس لهم مدبر والمراد في ذلك كله نفي الصفات التي تقع بها الكفاية ومنع الاعتداد به فيما لهم من الأمور
وإذا كان هذا مقتضاه وجب إذا استعمل ذلك في عبادة أو غيرها أن يحمل على نفي الكفاية ومنع الاعتداد بها
وأيضا هو أن النبي عليه السلام لا يقصد بهذه الألفاظ النفي من طريق اللغة والمشاهدة وإنما يقصد ببيان الشرع لأنه بعث مبينا للشرع فيجب أن يحمل على نفي كل ما يحمله الشرع من كامل أو جائز كما إذا قال لا رجل في الدار لما كان القصد نفي ما يسمى رجلا في اللغة حمل على كل ما يحتمله الرجل من طويل أو قصير فكذلك هاهنا
ولأن قوله لا صلاة نفي لنفس الصلاة في الشرع فمتى صححنا الصلاة فقد أثبتنا ما نفاه وذلك خلاف الظاهر
واحتجوا بأن النفي في هذه الألفاظ لا يجوز أن يكون راجعا إلى المذكور من النكاح والعمل فإن ذلك كله موجود فوجب أن يكون راجعا إلى غيره وذلك الغير يحتمل الجواز والفضيلة وليس أحدهما بأولى من الآخر والحمل عليهما لا يجوز لأنه دعوى عموم في المضمر والعموم من أحكام اللفظ وصفاته
ولأن الحمل عليهما لا يجوز لأنه يؤدي إلى التناقض لأن حمله على نفي الفضيلة والكمال يقتضي صحة الفعل وجوازه وحمله على نفي الجواز يمنع صحة الفعل

ولأن الفضيلة والجواز معنيان مختلفان فلا يجوز حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين فوجب التوقف فيه حتى يرد البيان
والجواب أن من أصحابنا من قال النفي راجع إلى نفس المذكور وهو النكاح الشرعي والعمل الشرعي ونحن ننفي ذلك على سبيل الحقيقة فنقول إن النكاح الشرعي ما وجد والعمل الشرعي ما وجد ومتى سلكنا هذا الطريق استغنينا عن ادعاء العموم في المضمر وحمل الكلام على التناقض وعلى معنيين مختلفين
ومن أصحابنا من قال إن النفي يرجع إلى أحكام المذكور وصفاته وهي وإن لم تكن مذكورة إلا أنها معقولة منه من ظواهر اللفظ
ألا ترى أنه إذا قال الرجل لغيره رفعت عنك جنايتك عقل من ذلك أحكام الجناية وما يتعلق بها وما كان معقولا من اللفظ كان بمنزلة المنطوق به
ألا ترى أن فحوى الخطاب لما كان معقولا من ظاهر اللفظ حمل الكلام عليه وإن لم يكن مذكورا
وقولهم إن الحمل على الجميع دعوى عموم في المضمر وذلك لا يجوز غير مسلم لأن المضمر كالمظهر ويجوز دعوى العموم فيه كما يجوز في المظهر
وقوله إن الحمل عليها يؤدي إلى التناقض غلط لأنه لو كان متناقضا لما صح الجمع بينهما بصريح النطق كما لا يجوز في سائر المعاني المتناقضة ولما صح أن يقول لا نكاح كامل ولا جائز إلا بولي دل على أنه غير متناقض
وقولهم إنهما معنيان مختلفان فلا يحمل اللفظ عليهما لا يسلم أيضا فإن عندنا يجوز حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين وقد بينا ذلك فيما تقدم فأغنى عن الإعادة

قالوا أحكام العين غير معقولة عند العرب ومالا يعقل في اللغة من ظاهر اللفظ لم يجز حمل الكلام عليه من غير دليل كسائر المجملات
قلنا لا نسلم أن الأحكام لا تعقل بل ذلك معقول عندهم
ألا ترى أنه إذا قال لعبده رفعت عنك جريرتك وأسقطت عنك جنايتك عقل من ذلك أحكام الفعل فبطل ما قالوه
مسألة 11 يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة في قول المزني وأبي العباس وعامة أصحابنا
وقال بعضهم لا يجوز ذلك وهو قول المعتزلة
وقال بعض شيوخنا يجوز تأخير بيان المجمل ولا يجوز تأخير بيان العموم

وقال بعضهم يجوز تأخير بيان العموم ولا يجوز تأخير بيان المجمل
ومن الناس من قال يجوز ذلك في الأخبار دون الأمر والنهي
ومنهم من عكس ذلك فأجاز في الأمر والنهي دون الأخبار
لنا قوله تعالى آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت وقوله فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وثم تقتضي المهلة والتراخي فدل على أن التفصيل والبيان يجوز أن يتأخر عن الخطاب
وأيضا هو أن الله تعالى أوجب الصلوات الخمس ولم يبين أوقاتها ولا أفعالها حتى نزل جبريل عليه السلام فبين للنبي صلى الله عليه و سلم كل صلاة في وقتها وبين النبي صلى الله عليه و سلم أفعالها للناس في أوقاتها وقال صلوا كما رأيتموني أصلي وكذلك أمر بالحج وأخر النبي صلى الله عليه و سلم بيانه إلى أن حج ثم قال خذوا عني مناسككم ولو لم يجز التأخير لما أخر عن وقت الخطاب
ويدل عليه هو أن البيان إنما يحتاج إليه الفعل المأمور به كما يحتاج إلى

القدرة لفعل المأمور به ثم يجوز تأخير الاقتدار عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فكذلك تأخير البيان
وأيضا هو أن النسخ تخصيص الأزمان كما أن التخصيص تخصيص الأعيان ثم تأخير بيان النسخ يجوز عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة وكذلك تأخير بيان التخصيص
فإن قيل لا نسلم النسخ فإنه لا يجوز تأخير بيانه حتى يشعر عند الخطاب بنسخه
قيل إن أردتم بذلك أنه لا يجوز حتى يشعر بوقت النسخ فهذا لا يقوله أحد ومتى قرن بالخطاب بيان الوقت لم يعد ذلك نسخا ولهذا لم يقل أحد إن قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل يصير منسوخا بدخول الليل
وإن أردتم به أنه لا بد من أن يشعر بالنسخ في الجملة فخطأ لأن الله تعالى أمر بأشياء ثم نسخها كالتوجه إلى بيت المقدس وغيرها ولم يقرن بشيء منها الأشعار بأنه ينسخه فيما بعد فدل على أن ذلك لا يجب
وعلى أن وقت النسخ لا يجب بيانه عند الخطاب فيجب أن يكون المخصوص من العموم لا يجب بيانه عند الخطاب
فإن قيل تأخير بيان النسخ لا يخل بصحة الأداء فيما مضى من الزمان وتأخير بيان التخصيص يخل بصحة الأداء
قلنا لا يخل بصحة الأداء لأنه بينه عند الحاجة إلى الفعل فيتأدى الفعل على حسب المراد
واحتجوا بأن المراد يخص مرة بالاستثناء ومرة بالدليل ثم التخصيص بالاستثناء لا يجوز أن يتأخر عن العموم وكذلك التخصيص بالدليل

قلنا الاستثناء لا يستقل بنفسه ولا يفيد معنى فلم يجز تأخيره والتخصيص بالدليل يستقل بنفسه مفيدا فجاز تأخيره
ويدلك عليه أن الاستثناء لو تقدم على الخطاب لم يجز ولو تقدم الدليل الموجب للتخصيص جاز فافترقا
قالوا ولأن البيان مع المبين بمنزلة الجملة الواحدة ألا ترى أنهما لمجموعهما يدلان على المقصود فهما كالمبتدأ والخبر ولا خلاف أنه لا يحسن تأخير الخبر عن المبتدأ بأن يقول زيد ثم يقول بعد حين قائم فكذلك تأخير البيان
قلنا فيما ذكرتم إنما لم يصح لأن التفريق بينهما ليس من أقسام الخطاب وأنواع كلامهم وليس كذلك إطلاق العموم والمجمل فإنه من أقسام خطابهم وأنواع جوابهم لأنهم يتكملون بالعموم والمجمل وإن افتقر إلى البيان فافترقا
قالوا ولأنه إذا ورد اللفظ العام وتأخر بيانه اعتقد السامع عمومه وذلك اعتقاد جهل فيجب أن لا يجوز
قلنا يبطل به إذا أخر بيان النسخ فإن السامع يعتقد عمومه وهو اعتقاد جهل وقد جوزناه على أن عندنا يعتقد عمومه بشرط أن لا يكون هناك ما يخصه وإذا ورد التخصيص علمنا أن المخصوص لم يدخل في العموم
قالوا ولأنه إذا خوطب بلفظ والمراد به غير ظاهره فقد خاطب بغير ما يقتضيه اللفظ وذلك لا يجوز كما لو قال اقتلوا المسلمين والمراد به المشركين أو قال قوموا والمراد اقعدوا
قلنا هذا يبطل بتأخير بيان النسخ فإنه خاطب بغير ما يقتضيه اللفظ لأن اللفظ يقتضي التأبيد ثم يجوز

وأما إذا قال اقتلوا المسلمين والمراد به المشركين وقوموا والمراد به اقعدوا فإنما لم يجز لأن أحد هذين اللفظين لا يستعمل في موضع الآخر بوجه من وجوه الاستعمال لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز والخطاب بأحدهما في موضع الآخر خارج عن أقسام كلامهم وليس كذلك العام المخصوص والمجمل المفتقر إلى البيان فإنه معتاد في كلامهم جار في خطابهم فافترقا
قالوا ولأنه إذا أخر البيان لم يدل الكلام على المقصود ولا يجوز أن يخاطب بشيء ولا يدل على المقصود به كما لو خاطب العربي بالعجمية والفارسي بالتركية
قلنا هذا يبطل به إذا أطلق الخطاب ولم يبين وقت النسخ فإنه لم يدل على المقصود ومع ذلك فإنه يجوز
وأما خطاب العربي بالعجمية والفارسي بالتركية فهو حجة عليهم لأن الله تعالى خاطب العجم بالعربية وإن لم يدلهم على المقصود حال الخطاب فيجب أن يجوز بالعام والمجمل وإن لم يدل فيهما على المقصود
قالوا ولأن المجمل إذا تأخر بيانه لم يفد شيئا فصار كالخطاب بلفظ مهمل
قلنا لا نسلم أنه لا يفيد شيئا بل يفيد فائدة صحيحة
ألا ترى أن العربي إذا سمع قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده عقل من ذلك تعلق حق بالزرع في يوم الحصاد وإن لم يعرف جنسه وقدره ويخالف اللفظ المهمل فإنه لا يفيد معنى أصلا فلم يجز الخطاب به
قالوا لو جاز تأخير البيان لجاز للرسول عليه السلام تأخير البلاغ عن الله تعالى وقد أمره الله بالتبليغ فقال بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
والجواب أن عندنا تأخير البلاغ جائز والأمر الوارد في ذلك لا يقتضي الفور بإطلاقه
مسائل المطلق والمقيد
مسألة 1 لا يحمل المطلق على المقيد في حكمين مختلفين كآية الظهار والقتل من غير دليل
ومن أصحابنا من قال يحمل المطلق على المقيد بنفس اللفظ
لنا هو أن اللفظ المقيد لا يتناول المطلق فلا يجوز أن يحكم فيه بحكمه من غير علة
ألا ترى أن البر لما لم يتناول الأرز لم يجز أن يحكم فيه بحكمه من غير علة فكذلك هاهنا
ولأن اللفظ المطلق لا يتناول المقيد فلو جاز أن يجعل المطلق مقيدا لتقييد

غيره لجاز أن يجعل القيد مطلقا لإطلاق غيره ولما لم يجز أحدهما لم يجز الآخر
وأيضا هو أنه لو جاز أن يجعل ما أطلق مقيدا لتقييد غيره لجاز أن يجعل العام خاصا لتخصيص غيره ولوجب أن يجعل المطلق مشروطا لدخول الشرط في غيره وهذا يمنع التقييد بالكلام ويبطل الفرق بين العام والخاص وهذا لا يجوز
واحتجوا بأن حمل المطلق على المقيد من جهة اللفظ لغة العرب
ألا ترى أن الله تعالى قال ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وأراد نقص من الأنفس ونقص من الثمرات ولكنه لما قيده بالأنفس اكتفى به في الباقي وقال الله تعالى والذاكرون الله كثيرا والذاكرات فقيافي أحد الجنسين واكتفى به في الجنس الآخر وقال الشاعر ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني ... هو الخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ...
فاكتفى بأحدهما عن الآخر وقال الآخر

أنا الرجل الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ...
فاكتفى بأحدهما عن الآخر
والجواب أن فيما ذكروه إنما يحمل المطلق على المقيد لأنه لو لم يحمل الثاني على الأول لالتبس الكلام ولم يفد فحمل أحدهما على الآخر لموضع الضرورة وليس هاهنا ضرورة تقتضي الحمل ولفظ أحدهما لا يتناول الآخر فحمل كل واحد منهما على ظاهره
واحتجوا بأن القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالكلمة الواحدة فوجب ضم بعضه إلى بعض
قلنا هذا دعوى فكيف يكون كذلك وهو يشتمل على معان مختلفة وأصناف شتى من القصص والأمثال والأحكام وغير ذلك
ثم لو كان هذا يوجب حمل بعضه على بعض لوجب أن يخص كل عام فيه لأن فيه ما هو مخصوص ويجعل كل أمر فيه ندبا لأن فيه ما هو مندوب وللزم أن يجعل ما قيده فيه مطلقا ولم يكن حمل المطلق على المقيد بأولى من حمل المقيد على المطلق ولما بطل هذا بطل ما قالوه
مسألة 2 يجوز حمل المطلق في أحد الحكمين على المقيد في الحكم الآخر

من جهة القياس كالرقبة المطلقة في كفارة الظهار على الرقبة المقيدة في كفارة القتل بالإيمان
وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز
لنا هو أن هذا تخصيص عموم لأن قوله تعالى فتحرير رقبة عام في الرقبة المؤمنة والكافرة فإذا قلنا إن الكافرة لا تجوز خصصنا الكافرة من العموم بالقياس وتخصيص العموم بالقياس جائز كسائر العمومات
واحتجوا بأن هذه زيادة في النص والزيادة في النص نسخ عندنا والنسخ بالقياس لا يجوز
والجواب أن هذا ليس بزيادة وإنما هو نقصان بالحقيقة لأن اللفظ المطلق يقتضي جواز كل رقبة مؤمنة كانت أو كافرة فإذا منعنا الكافرة فقد أخرجنا بعض ما يقتضيه الظاهر وذلك نقصان وتخصيص فأما أن يكون زيادة فلا
فإن قيل التخصيص هو أن يخرج من اللفظ بعض ما تناوله وقوله تعالى فتحرير رقبة لا يتناول الإيمان فمن اعتبر ذلك فقد زاد شرطا لا يقتضيه اللفظ فدل على أنه زيادة
قلنا اللفظ وإن لم يتناول الإيمان فقد تناول الكافرة فإذا قلنا إن الكافرة لا تجزي فقد أخرجنا من اللفظ بعض ما تناوله بعمومه فكان ذلك تخصيصا
وعلى أن الزيادة عندنا ليست بنسخ فلا يصح ما بنوا عليه من الدليل

قالوا ولأن الرقبة في الظهار منصوص عليها وفي القتل منصوص عليها وقياس المنصوص على المنصوص لا يجوز ولهذا لم يجز قياس صوم التمتع على صوم الظهار في إيجاب التتابع ولا صوم الظهار على صوم التمتع في إيجاب التفريق
ولهذا لم يجز قياس حد السرقة على حد قاطع الطريق في إيجاب قطع الرجل
ولهذا لم يجز قياس التيمم على الوضوء في إيجاب مسح الرأس والرجل
والجواب أن في صوم التمتع وصوم الظهار نص على حكمين متضادين فحمل أحدهما على الآخر إبطال للنص وليس كذلك هاهنا فإن اللفظ في الظهار مطلق وفي القتل مقيد وفي أحدهما عام مطلق وفي الآخر خاص مبين فيحمل أحدهما على الآخر
وأما حد السرقة فإنما لم يحمل على قطاع الطريق ولا آية التيمم على آية الوضوء في مسح الرأس والرجل لأن الإجماع منع منه ومن شرط القياس أن لا يعارضه إجماع وهاهنا لم يعارضه إجماع ولا غيره فجاز قياس أحدهما على الآخر كقياس التيمم على الوضوء في إيجاب المرفقين لما لم يعارضه إجماع ولا غيره أجزناه
مسائل دليل الخطاب
مسألة 1 إذا علق الحكم في الشيء على صفة من صفاته دل على أن ما عداها يخالفه
وقال أبو العباس بن سريج وأبو بكر القفال والقاضي أبو حامد رحمهم الله وقوم من المتكلمين لا يدل على المخالفة وهو قول أصحاب أبي حنيفة

وحكي عن بعضهم أنه فرق بين المعلق على غاية والمعلق على غير غاية
وحكي عن بعضهم أنه فرق بين أن يكون بلفظ الشرط وبين أن لا يكون بلفظ الشرط
لنا ما روي أن يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ما بالنا نقصر وقد أمنا وقد قال الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال عمر عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وهذا دليل على أن تعليق القصر بالخوف اقتضى أن حال الأمن لا يجوز حتى عجب منه عمر ويعلى وأقرهم النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك
وروي أن ابن عباس خالف الصحابة في توريث الأخت مع البنت واحتج بقوله تعالى إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهذا تعلق بدليل الخطاب وأنه لما ثبت ميراث الأخت عند عدم الولد دل على أن عند وجوده لا تستحقه وهو من فصحاء الصحابة وعلمائهم ولم ينكر أحد استدلاله فدل على أن ذلك مقتضى اللغة

وأيضا هو من الأنصار قالوا لا غسل من التقاء الختانين واحتجوا بقوله عليه السلام الماء من الماء وهذا استدلال بدليل الخطاب
ومن قال منهم أنه يجب الغسل أجاب بأن الماء من الماء منسوخ وهذا اتفاق منهم على دليل الخطاب
فإن قيل لا نسلم أنهم رجعوا في هذه المواضع إلى دليل الخطاب وإنما رجعوا إلى الأصل وذلك أنهم أثبتوا القصر والميراث والغسل في المواضع التي تناولها الخطاب بالنطق ورجعوا فيما لا خطاب فيه إلى الأصل وهو أنه لا قصر ولا ميراث ولا غسل
قلنا لم يرجعوا في هذه المواضع إلا إلى موجب النطق ودليل الخطاب
ألا ترى أن يعلى بن أمية قال لعمر ما بالنا نقصر وقد أمنا وقد قال الله تعلى إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فتعلق بموجب النطق ولم يقل والأصل هو الإتمام
وقالت الصحابة رضي الله عنهم قوله الماء من الماء كان رخصة وقد نسخ وأرادوا دليل الخطاب ولو رجعوا في ذلك إلى الأصل لما وصفوه بالنسخ لأن النسخ رفع ما ثبت بالشرع فأما ما كانوا عليه في الأصل ونقل إلى غيره فلا يقال إنه منسوخ فدل على أن المحتج منهم إنما احتج بدليل الخطاب
وأيضا هو أن ضم الصفة إلى الاسم يقتضي المخالفة والتمييز في كلام العرب
ألا ترى أنهم لا يقولون أعط زيدا الطويل وعمرا القصير والطويل والقصير عندهم واحد فدل على أن موضوع اللفظ المخالفة والتمييز

ولأن تقييد الاسم العام بالصفة يقتضي التخصيص ألا تراه لو لم يقيد الغنم بالسوم اقتضى السائمة والمعلوفة فإذا قيدها بالسوم منع هذا التقييد دخول المعلوفة واقتضى اختصاص الزكاة بالسائمة وكل ما اقتضى تخصيص الاسم العام وجب أن يقتضي المخالفة والدليل عليه سائر الألفاظ التي يخص بها العموم
ولأنه قيد الحكم بما لو انتزع منه لعم فوجب أن يتضمن النفي والإثبات كالاستثناء والغاية
وأيضا فإنه إذا قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا إحداهن بالتراب أفاد تعليق الطهارة بالسبع فمتى طهرناه بما دون السبع خرج السبع عن أن يكون مطهرا لأن الغسلة السابعة ترد والمحل محكوم بطهارته وهكذا إذا قال في سائمة الغنم زكاة
أفاد تعلق الوجوب بالسائمة فمتى أوجبنا الزكاة في المعلوفة أخرجنا السائمة عن أن يتعلق بها الوجوب
واحتجوا بأن إثبات الحكم بدليل الخطاب إما أن يكون بالعقل ولا مجال له فيه أو بالنقل ولا يخلو إما أن يكون ذلك تواترا أو آحادا ولا يجوز أن يكون تواترا لأنه لو كان فيه تواتر لعلمناه كما علمتم ولا يجوز أن يكون آحادا لأنه من مسائل الأصول ولا يكفي في إثباتها خبر الواحد
قلنا قد أثبتناها بالنقل وهو ما رويناه عن الصحابة رضي الله عنهم

فإن قيل إلا أنه من طريق الآحاد فلا تثبت به مسائل الأصول
قيل هو وإن كان من أخبار الآحاد إلا أنه يجري مجرى التواتر لأن الأمة تلقته بالقبول فاتفقت على صحته وإن اختلفت في العمل به
قالوا وأيضا هو أن الصفات وضعت للتمييز بين الأنواع كما وضعت الأسماء للتمييز بين الأجناس ثم تعليق الحكم على الاسم لا يقتضي نفيه عما عداه فكذلك تعليقه على الصفة
والجواب أن من أصحابنا من قال أن تعليق الحكم على الاسم يقتضي نفيه عما عداه وهو قول أبي بكر الدقاق فعلى هذا لا نسلم
وإن سلمنا ذلك على ظاهر المذهب فالفرق بينهما من وجوه
أحدها هو أن العرب قد تجمع بين الأجناس المختلفة في الحكم وتنص على اسم كل واحد منها ألا تراها تقول اشتر لحما وتمرا وخبزا ولا تقيد الحكم بالصفة والموصوف بتلك الصفة وضدها واحد ألا تراها لا تقول اشتر لحما مشويا والمشوي والنيء عندها سواء ولا اشتر تمرا برنيا والبرني وغيره عندهم سواء
والثاني أن تعليق الحكم على بعض الأسماء لا يمنع تعليقه بغيرها من الأسماء
ألا ترى أنه إذا أجب الزكاة في الغنم ثم أوجبها في البقر لم يمنع تعلقها بالبقر من تعلقها بالغنم وتعليق الحكم على أحد صفتي الشيء يمنع تعلقه بضدها ألا ترى أنه إذا علق الزكاة على سائمة الغنم ثم أوجبها في المعلوفة خرج عن أن يكون الوجوب متعلقا بالسائمة وبقيت الزكاة معلقة على الاسم فقط

والثالث هو أن تعليق الحكم بالاسم لا يقتضي تخصيص اسم عام فلم يقتض المخالفة وتعليقه بالصفة يقتضي تخصيص اسم عام والتخصيص لا يكون إلا بما يقتضي المخالفة كالاستثناء والغاية
ولأن الاسم لا يجوز أن يكون علة في الحكم فتعليق الحكم عليه لا يقتضي المخالفة والصفة يجوز أن تكون علة في الحكم فتعليق الحكم عليه يقتضي المخالفة
قالوا لو كان إيجاب الزكاة في السائمة يوجب نفي الزكاة عن المعلوفة لكان التسوية بينهما في إيجاب الزكاة مناقضة ولما جاز أن يقول في سائمة الغنم زكاة وفي معلوفتها الزكاة دل على أن الإيجاب في أحد النوعين لا يقتضي النفي عن النوع الآخر
قلنا يبطل بالغاية فإنها تقتضي المخالفة على قول كثير منهم وإن جاز أن يصرح فيما بعدها بحكم ما قبلها وعلى أن اللفظ يجوز أن يدل بظاهره على معنى ثم يترك ظاهره بما هو أقوى منه كالأمر يدل ظاهره على الإيجاب ثم يدل الدليل على أن المراد به الاستحباب فيترك ظاهره ولا يدل على أن في الأصل لا يقتضي الوجوب فكذلك هاهنا اللفظ بظاهره يدل على النفي والإثبات ثم إذا صرح في الوجهين بالتسوية ترك الظاهر وحمل على ما اقتضاه التصريح
قالوا ولأنه ليس في كلام العرب كلمة تدل على شيئين متضادين وعندكم أن هذا اللفظ يدل على إثبات الحكم ونفيه وهذا خلاف اللغة
قلنا هذا يبطل بلفظ الغاية وأنه قد دل على إثبات الحكم فيما قبل الغاية ونفيه عما بعدها وهما متضادان فكذلك الأمر بالشيء يدل على وجوب المأمور والانتهاء عن ضده وهما متضادان
قالوا ولأن دليل الخطاب مفهوم الخطاب ومفهوم الخطاب ما وافقه كالتنبيه والقياس ودليل الخطاب ضد الخطاب فلا يجوز أن يكون مفهوما منه

قلنا هذا يبطل بالأمر بالشيء فإنه يفهم منه النهي عن ضده وإن كان ضد اللفظ
وأما القياس والتنبيه فإنهما وافقا الخطاب لأنهما مفهومان من معناه والدليل مفهوم من جهة التخصيص فكان مخالفا له كحكم ما بعد الغاية
قالوا ولأنه لو كان للنطق دليل لكان معه بمنزلة الخطابين ولو كان كذلك لما جاز تركه بالقياس كما لا يجوز ترك الخطاب ولوجب إذا نسخ الخطاب أن يبقى الدليل كما إذا نسخ أحد الخطابين بقي الخطاب الآخر
قلنا لا نقول إن الدليل مع الخطاب بمنزلة الخطابين بل هو بعض مقتضاه وإذا كان ذلك بعض مقتضاه جاز تركه بالقياس كما يجوز ترك بعض ما اقتضاه العموم بالقياس
وأما إذا نسخ الخطاب فمن أصحابنا من قال يبقى حكم الدليل والصحيح أنه يسقط الدليل لأن الدليل مقتضى الخطاب ومفهومه فإذا بطل الخطاب بطل المفهوم كما تقول الأمر بالشيء لما كان النهي عن ضده مقتضاه ومفهومه فمتى سقط الأمر سقط النهي كذلك هاهنا ويخالف النطقين إذا نسخ أحدهما لأن أحدهما غير متعلق بالآخر فنسخ أحدهما لا يوجب نسخ الآخر وهاهنا الدليل تابع للنطق ومستفاد منه فإذا سقط الأصل سقط تابعه كما قلنا في النهي المستفاد من الأمر
قالوا لو كان دليل الخطاب يقتضي الحكم لكان ذلك مستنبطا من اللفظ وما استنبط من اللفظ لا يجوز تخصيصه كالعلة
قلنا لا نقول أن الدليل مستنبط من اللفظ بل اللفظ يدل عليه بنفسه في

اللغة وما يدل عليه اللفظ في اللغة جاز تخصيصه كسائر الألفاظ
قالوا لو كان تعليق الحكم على صفة الشيء يدل على نفيه عما عداها لوجب أن لا يحسن فيه الاستفهام كما لا يحسن في نفس النطق
قلنا إنما حسن فيه الاستفهام لأنه يجوز أن يكون قد علق الحكم على أحد صفتيه ليدل على المخالفة ويجوز أن يكون قد خص أحد وصفيه بالحكم للشرف والفضيلة فحسن الاستفهام ليزول هذا الاحتمال ويخالف هذا النطق لأنه لا احتمال فيه فلم يحسن فيه الاستفهام
مسألة 2 إذا علق الحكم على صفة في جنس كقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة دل على نفيه عما عداها في ذلك الجنس ولا يدل على النفي عما عداها في سائر الأجناس
ومن أصحابنا من قال يدل على نفيه عما عداها في الأجناس كلها
لنا هو أن الدليل يقتضي النطق فإذا تناول النطق في سائمة الغنم وجب أن يكون دليله يتناول معلوفة الغنم فقط
واحتجوا بأن السوم يجري مجرى العلة في تعليق الحكم عليها والعلة حيث وجدت تعلق الحكم بها فكذلك هذا
قلنا لا نسلم أن السوم بمنزلة العلة ألا ترى أنه علق الحكم على مجموعها ومتى تعلق الحكم بوصفين كان كل واحد منهما بعض العلة فلا يجوز تعلق الحكم على أحدهما على الانفراد
مسألة 3 قوله تعالى ولا تقل لهما أف يدل على المنع من الضرب من ناحية المعنى
وكذلك قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة يدل على ما زاد عليه من ناحية المعنى
وقال بعض أصحابنا يدل على ذلك من ناحية اللغة وهو قول عامة المتكملين وبعض أهل الظاهر
لنا هو أن التأفيف في اللغة غير موضوع للضرب والذرة غير موضوعة لما زاد عليها فوجب أن يكون المنع مما زاد مفهوما من طريق المعنى
واحتجوا بأن أهل اللسان يفهمون من هذا الكلام المنع مما زاد عليه ولهذا

إذا قال لعبده إياك أن تقول لفلان عقل منه المنع عما زاد عليه
والجواب أنا لا نسلم أنهم يفهمون ذلك من اللفظ وكيف يفهم ذلك من اللفظ واللفظ غير موضوع له وإنما يفهم ذلك من طريق المعنى لكن المعنى إذا كان جليا اشترك الخاص والعام في إدراكه
وحكى أن ابن داود قال لأبي العباس بن سريج أن ذرتين فصاعدا ذرة وذرة فكل ذرة منهما داخلة تحت الاسم فيكون اللفظ دالا على ما زاد فألزمه أبو العباس نصف ذرة وقال لا يسمى نصف ذرة ذرة على أن المعنى دل عليه
مسألة 4 الاستدلال بالقران لا يجوز
ومن أصحابنا من قال يجوز وهو قول المزنى
لنا هو أن كل واحد من اللفظين المقترنين يقتضي غير ما يقتضيه الآخر فلا يحمل أحدهما على ما يحمل عليه الآخر من جهة اللفظ كما لو وردا غير مقترنين ويدل عليه هو أنه إذا جمعت بين شيئين علة في حكم لم يجب أن يستويا في جميع الأحكام فكذلك إذا جمعهما لفظ صاحب الشرع لم يجب أن يستويا في جميع الأحكام
واحتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم لا يفرق بين مجتمعين ولم يفرق
والجواب هو أن هذا وارد في باب الزكاة وأن النصاب المجتمع في ملك رجلين لا يفرق بينهما
واحتجوا بما روي عن أبي الصديق رضي الله عنه أنه قال في قتال

مانعي الزكاة لا أفرق بين ما جمع الله قال الله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
وبما روي عن ابن عباس في العمرة إنها لقرينة الحج في كتاب الله تعالى قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله
والجواب هو أن أبا أنا بكر رضي الله عنه أراد لا أفرق بين ما جمع الله في الإيجاب بالأمر وكذلك ابن عباس إنها لقرينة الحج في الأمر والأمر يقتضي الوجوب فكان الاحتجاج في الحقيقة بظاهر الأمر لا بالاقتران
مسألة 5 الواو تقتضي الترتيب في قول بعض أصحابنا وهو مذهب ثعلب وأبي عمر الزاهد غلام ثعلب

ومن أصحابنا من قال لا تقتضي الترتيب وهو قول أصحاب أبي حنيفة
لنا ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له عليه السلام بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله فلو كانت الواو تفيد الجمع دون الترتيب لكان قد نهاه عن شيء وأمره بمثله وذلك لا يجوز
وأيضا ما روي أن عبد بني الحسحاس أنشد عمر رضي الله عنه قوله ... عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال عمر رضي الله عنه لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك فدل على أن الواو اقتضت الترتيب
وأيضا ما روي أن رجلا قال لابن عباس رضي الله عنه كيف تقدم العمرة على الحج وقد قدم الله الحج على العمرة فقال ابن عباس كما تقدم الدين على الوصية فدل على أنهم فهموا من التقديم في اللفظ التقديم في الحكم
وأيضا هو أن رجلا لو كتب كتابا في معنى رجلين وقال أنفذت إليك فلانا وفلانا سبق إلى فهم كل أحد من أهل اللغة أن المقدم في الذكر هو المقدم في الرتبة فدل على أن الواو اقتضت الترتيب
ولأن المعنى نتيجة اللفظ واللفظ في أحدهما سابق فكان المعنى سابقا
ولأنه لو قال لامرأته التي لم يدخل بها أنت طالق وطالق وقعت الأولى دون الثانية فلو كانت الواو للجمع دون الترتيب لوقعت الطلقتان كما لو قال أنت طالق تطليقتين ولما وقعت الأولى دون الثانية دل على أن الأولى سبقت في الوقوع ثم جاءت الثانية فصادفتها وهي بائن فلم تقع

واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول ما شاء الله وشئت فقال أمثلان أنتما قل ما شاء الله ثم شئت ولو كانت الواو تقتضي الترتيب لما نقله عن الواو إلى ثم لأنهما في الترتيب سواء
والجواب هو إنما نقله عن الواو إلى ثم لأن الواو وإن اقتضت الترتيب فإنها لا تقتضي المهلة وثم تقتضي المهلة فنقله عما لا يقتضي المهلة إلى ما يقتضي المهلة في الاسمين المتفقين
قالوا ولأن الواو تدخل في الاسمين المختلفين بدلا من التثنية في الاسمين المتفقين فإذا كان لفظ في الاسمين المتفقين لا يقتضي الترتيب وجب أن تكون الواو في الاسمين المختلفين لا تقتضي الترتيب
والجواب أن هذه دعوى لا دليل عليها ثم هو باطل بتكرير الطلاق على من لم يدخل بها
قالوا ولأنه لو كانت الواو تقتضي الترتيب لجاز أن تجعل في جواب الشرط كالفاء ولما لم يجز أن تجعل جوابا للشرط دل على أنها لا تقتضي الترتيب
قلنا يبطل بثم فإنها لا تستعمل في جواب الشرط ثم تقتضي الترتيب
فإن قيل إنما لم يجعل ثم جوابا للشرط لأنها تقتضي المهلة ومن حكم

الجواب أن لا يتأخر عن الشرط والواو لا تقتضي ذلك ولو اقتضت الترتيب لجاز أن تجعل جوابا للشرط
قيل إن كانت ثم تقتضي المهلة فلم تجعل جوابا للشرط حتى لا يتأخر الجزاء عن الشرط فكذلك الواو ولم تجعل جوابا للشرط لأنها تحتمل التراخي ومن حكم الجزاء أن لا يتأخر عن الشرط فلم يجز أن تجعل جوابا للشرط لذلك
قالوا ولأنا رأينا الواو تستعمل في مواضع تحتمل الترتيب كقوله تعالى ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا فلو رتبت الواو لم يجز أن يقدم في أحد الموضعين ما أخره في الموضع الآخر وكقول الشاعر ... ومنهل فيه الغراب ميت ... كأنه من الأجون زيت ... سقيت منه القوم واستقيت ...
ومعلوم أنه استقى أولا ثم سقى فدل على أنه لا يقتضي الترتيب
قلنا ليس إذا استعملت في مواضع لا تحتمل الترتيب دل على أنها غير موضوعة للترتيب ألا ترى أن ثم استعملت في مواضع لا تحتمل الترتيب كقوله تعالى فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون والمراد به والله شهيد
وقول الشاعر

كهز الرديني تحت العجاج ... جرى في الأنابيب ثم اضطرب ...
ومعلوم أن الاهتزاز والاضطراب لا يفترقان ولا يدل على أن ثم غير موضوعة للترتيب والتفريق
وعلى أن البيت الذي ذكره لا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون ذلك إخبارا عن أفعال متفرقة لا يتعلق بعضها ببعض فتكون على الترتيب
قالوا لو كانت الواو ترتب لما حسن استعمال لفظ المقارنة فيه بأن تقول جاء زيد وعمرو معا كما لا يجوز جاء زيد ثم عمر معا
قلنا يجوز أن يكون اللفظ يقتضي معنى ثم يتغير ذلك بما يدخل عليه من الحروف والألفاظ
ألا ترى أن قوله زيد في الدار يقتضي الإخبار ثم تدخل عليه الألف فنقول أزيد في الدار فيصير استفهاما فكذلك هاهنا
مسألة 6 الباء إذا دخلت على فعل يتعدى من غير باء اقتضت التبعيض في قول بعض أصحابنا وذلك مثل قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم
وقال أصحاب أبي حنيفة لا تقتضي التبعيض
لنا أن أهل اللسان فرقوا بين قولهم أخذت قميص فلان وبين قولهم أخذت بقميص فلان فيحملون الأول على أخذ جميعه والثاني على التعلق ببعضه
ويدل عليه هو أنه إذا قال مسحت يدي بالمنديل ومسحت يدي بالحائط عقل من ذلك كله التبعيض فدل على أن ذلك مقتضاه

واحتجوا بأن الباء موضوعة لإلصاق الفعل بالمفعول يدلك عليه أنك تقول مررت بزيد وكتبت بالقلم وطفت بالبيت فتفيد الباء إلحاق الفعل بالمفعول
والجواب عن ذلك كله هو أن في المرور والكتابة إنما حملا على الإلصاق لأن الفعل لا يتعدى بغير الباء ألا ترى أنه لو قال مررت زيدا وكتبت القلم لم يكن ذلك كلاما صحيحا فكان دخولها للإلصاق وهاهنا الفعل يتعدى إلى المفعول ويلحق به من غير الباء فكان دخولها للتبعيض
وأما قولهم طفت بالبيت فإنا لا نحمله على التبعيض لأن الطواف عبارة عن الجولان حول جميع البيت ألا ترى أنه إذا فاتته طائفة من البيت لم يسم طائفا فروعي مقتضى اللفظ فجعلت الباء مزيدة في الكلام وليس كذلك قوله مسحت بالرأس لأن الفعل يستعمل في البعض والكل فإذا دخلت الباء وجب أن يحمل على البعض كما قلنا في قوله أخذت بقميصه
مسألة 7 إنما تدخل في الكلام لإثبات الحكم في المذكور وحده ونفيه عما عداه وبه قال القاضي أبو حامد مع نفيه لدليل الخطاب
وقال كثير من المتكلمين لا يقتضي نفي الحكم عما عداه
لنا هو أن هذا اللفظ لا يستعمل في عرف أهل اللسان إلا فيما ذكرناه يدلك عليه هو أن رجلا لو قال لغيره هل في الدار غير زيد فقال له إنما في الدار زيد كان ذلك بمنزلة قوله ليس في الدار غير زيد ولو لم يقتض إثبات الحكم في المذكور والنفي عما عداه لما صار بذلك مجيبا ويدلك عليه قوله تعالى إنما الله إله واحد والمراد به لا إله إلا واحد وقول الشاعر ... أنا الرجل الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ...
والمراد به ما ذكرناه
واحتجوا بأن هذه الكلمة تدخل في الكلام لتأكيد المذكور أما في نفي أو إثبات وقد بينا أن النفي لا يدل على الإثبات والإثبات لا يدل على النفي
والجواب أنا قد بينا أنه يدخل لإثبات الحكم المذكور بعده ونفي ما عداه فسقط ما قالوه
مسائل الأفعال
مسألة 1 ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم وعلم أنه فعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة شاركته الأمة فيه
وكذلك ما أمر به شاركته الأمة فيه ما لم يدل الدليل على تخصيصه
وقالت الأشعرية لا تشاركه فيه الأمة إلا بدليل

لنا قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقوله تعالى فاتبعوه وقوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا فأخبر أنه زوجه بامرأة زيد ليدل على أنه يجوز لكل أحد أن يتزوج امرأة من تبناه
وأيضا ما روي أن رجلا سأل أم سلمة رضي الله عنها عمن قبل امرأته وهو صائم فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم ألا أخبرته أني أفعل ذلك
فدل على أن ما كان مباحا له فهو مباح لأمته
وأيضا هو أن الصحابة رضي الله عنهم كانت ترجع في الاستدلال على الأشياء إلى أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فدل على ما ذكرناه
واحتجوا بأن ما فعله أو أمر به يجوز أن يكون مصلحة له خاصة لا مصلحة لغيره فيه فجيب أن لا يتعدى إلى غيره إلا بدليل
والجواب هو أنه لا يجوز ذلك لأن الشرع ورد باتباعه فيه والاقتداء به فوجب أن يتبع
قالوا ما وجد فيه من الفعل لا يتعداه وما أمر به لا يتناول غيره فوجب أن لا يشاركه فيه غيره إلا بدليل
والجواب هو أنا قد دللنا على وجوب اتباعه والتسوية بينه وبين غيره في الأحكام فبطل ما قالوه
مسألة 2 ما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يعلم على وجه فعله وجب التوقف فيه حتى يقوم الدليل عليه في قول أكثر أصحابنا وحكى ذلك عن أبي بكر الدقاق وهو قول أكثر المتكلمين
ومن أصحابنا من قال يقتضي الندب حكى ذلك عن أبي بكر الصيرفي والقفال والقاضي أبي حامد
وقال بعضهم يحمل ذلك على الوجوب حكي ذلك عن أبي

العباس وأبي سعيد وابن خيران وهو مذهب مالك
لنا أن فعله يحتمل الوجوب والاستحباب والإباحة
والدليل عليه هو أن صورة الفعل في الجميع واحدة وإذا احتمل هذه الوجوه لم يكن حمله على بعضها بأولى من الحمل على الباقي فوجب التوقف
ولأن القطع فيه بالوجوب أو الندب لا يخلو إما أن يكون من غير اعتبار الوجه الذي وقع عليه الفعل فيجب أن يقطع بذلك وإن علم أنه فعله على غير ذلك الوجه وهذا لا يقوله أحد وإما أن يكون القطع مع اعتبار الوجه الذي وقع عليه الفعل فيجب أن لا يقطع ما لم يعلم الوجه الذي وقع عليه الفعل
واحتج من قال بالندب بقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وحسن التأسي يقتضي الندب والاستحباب

قلنا هذا دليل لنا لأن التأسي هو أن تفعل كفعله وهذا لا يعلم من صورة الفعل فيجب التوقف فيه حتى يرد الدليل
قالوا الندب متيقن لأنه أقل أحوال القرب فوجب أن يحمل اللفظ عليه
قلنا هذا يعارضه بأن في الإيجاب احتياط فوجب أن يحمل اللفظ عليه لأنه ربما كان واجبا فلا يخرج منه إلا الفعل وإذا بطل هذا في الإيجاب بطل ما قالوه في الندب
واحتج من ذهب إلى الوجوب بقوله عز و جل فاتبعوه
قلنا الاتباع أن يفعل كفعله
يدلك عليه هو أنه لو فعله على وجه الوجوب وفعلناه على وجه الندب لم نكن متبعين له وإذا ثبت هذا فإن ما يمكن فيه الاتباع إذا علم وجه الفعل الذي وقع عليه الفعل فنتبعه فيه فأما ما لم يعلم فيه وجه الفعل فلا يمكن فيه الاتباع
فإن قيل الخبر يقتضي وجوب المتابعة في الفعل وذلك يمكن وإن لم يعلم حال الفعل كما تقول في الصلاة فإن تصح المتابعة فيها وإن لم تعلم نية الإمام
قلنا هذا مخالف للمتابعة في الصلاة لأن هناك المتابعة تقع في الأفعال الظاهرة وذلك يمكن وإن لم تعلم نية الإمام وهاهنا تقع في الفعل على جهته ألا ترى أنه لو فعله واجبا لم يجز فعله ندبا ولو صلى الإمام صلاة فرض جاز أن نتبعه في النفل فافترقا
واحتجوا بقول الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره والأمر يقع على القول وعلى الفعل والدليل عليه قوله تعالى وأمرهم شورى بينهم وقوله تعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض والمراد بذلك كله الفعل

والجواب هو أن إطلاق الأمر يتناول القول خاصة ولا يحمل على الفعل من غير دليل
وعلى أن قوله عن أمره كناية والكناية ترجع إلى أقرب مذكور وأقرب مذكور هو الله تعالى لأنه قال قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره والظاهر أن الكناية عائدة إليه وأمر الله تعالى هو الذي يستدعي به الفعل وذلك واجب
ولأن هذا يقتضي أمرا تصح فيه الموافقة وترك المخالفة وهو الذي علم صفته فيوافقه فيه وهذا إنما يكون فيما علم منه وجه الفعل
واحتجوا بقوله تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول التغابن 6412 ولم يفرق
قلنا الطاعة موافقة الأمر والعصيان مخالفته وهذا إنما يكون فيما علم وجه الفعل فيه ونحن لا نعلم حال هذا الفعل فلا يدخل في الآية
واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم خلع نعله في الصلاة فخلع الناس نعالهم ثم قالوا رأيناك خلعت نعلك فخلعنا نعالنا فدل على أن متابعته فيما يفعل واجبة
قلنا هذا خبر الواحد فلا يجوز أن يستدل به على إثبات أصل من الأصول
وعلى أنهم إنما تبعوه في خلع النعل لأنه كان قد أمرهم باتباعه في الصلاة ألا تراه قال صلوا كما رأيتموني أصلي فلما خلع نعله ظنوا أن ذلك مما شرع في الصلاة فتبعوه امتثالا لقوله عليه السلام
قالوا روي أن أم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه و سلم عام الحديبية انحر هديك حيث وجدته واحلق فإنهم يحلقون فتبعوه فدل على أن فعله يقتضي الوجوب

قلنا إنما تبعوه في الحلق والذبح لأنه اقترن به دليل من جهة القول وهو قوله عليه السلام اذبحوا واحلقوا وكلامنا في الفعل المجرد هل يقتضي الوجوب
قالوا أيضا إن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في التقاء الختانين هل يوجب الغسل فرجعوا إلى فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث روت عائشة رضي الله عنها فعلته أنا ورسول الله عليه السلام فاغتسلنا
والجواب هو روي أنها روت إذا التقى الختانان وجب الغسل فصاروا في الإيجاب إلى القول
قالوا ولأنا لا نأمن من أن يكون واجبا فنتركه وذلك لا يجوز فيجب إيجابه احتياطا
قلنا ولأنا لا نأمن أن لا يكون واجبا فيعتقد وجوبه وذلك لا يجوز
قالوا ولأن البيان تارة يقع بالقول وتارة بالفعل ثم ثبت أن القول يقتضي الوجوب فكذلك الفعل
قلنا القول له صيغة تدل على الاستدعاء فحمل عليه والفعل ليس له صيغة تدل على الاستدعاء فوزانه من الأقوال ما لا يدل على الإيجاب كالخبر عن غيره فلا يحمل على الإيجاب علينا
قالوا ولأنه عليه السلام لا يفعل إلا حقا وصوابا فوجب أن يتبع فيه
قلنا الاتباع إنما يكون بأن تفعل على حسب فعله حتى يكون ذلك حقا وصوابا وهذا لا يمكن فيما لا نعلم فيه حال الفعل فوجب التوقف
مسألة 3 البيان يصح بالفعل وهو أن يفعل بعض ما دخل تحريمه في العموم ويدل ذلك على تخيص العموم
ومن أصحابنا من قال لا يجوز البيان بالفعل ولا يخص به العموم وحكي ذلك عن أبي إسحق وهو قول أبي الحسن الكرخي
لنا قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولم يفصل وقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم ولم يفرق بين القول والفعل
ويدل عليه هو أنه لما ذكر له أن قوما يكرهون استقبال القبلة فقصد بفروجهم أمر بأن تحول مقعدته إلى القبلة إلى بيان تخصيص العموم الوارد في التحريم بفعله فدل على أن التخصيص يقع به
ويدل عليه هو أن ما خرج منه ابتداء فهو شرع له ولغيره فكذلك ما خرج بعد العموم
واحتجوا بأن تخصيص العموم أحد نوعي البيان فلا يجوز بفعله كالنسخ

والجواب أن من أصحابنا من أجاز النسخ بفعله وإن سلمنا لم يمتنع لأن لا يجوز النسخ ويجوز التخصيص ألا ترى أن نسخ الكتاب بالسنة لا يجوز ويجوز تخصيصه بها فدل على أن الفرق بينهما
قالوا ولأن ما فعله يحتمل أن يكون تخصيصا له ويحتمل أن يكون هو وغيره فيه سواء فلا يترك العموم المتيقن بأمر محتمل
قلنا هو وإن احتمل الوجهين إلا أن الظاهر أنه هو وغيره فيه سواء فوجب أن يحمل الأمر على الظاهر
مسألة 4 إذا تعارض القول والفعل في البيان فالقول أولى من الفعل
ومن أصحابنا من قال الفعل أولى
وذهب بعض المتكلمين إلى أنهما سواء
لنا هو أن القول يدل على الحكم بنفسه والفعل لا يدل بنفسه وإنما يستدل به على الحكم بواسطة وهو أن يقال لو لم يجز ذلك لما فعل لأنه صلى الله عليه و سلم لا يجوز أن يفعل مالا يجوز فكان ما دل على الحكم بنفسه أولى مما دل عليه بواسطة
وأيضا فإن القوى يتعدى والفعل مختلف فيه فمن الناس من قال لا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل فكان ما يتعدى بنفسه بإجماع أولى
ولأن البيان بالقول يستغني بنفسه عن الفعل والبيان بالفعل لا يستغني عن البيان بالقول ألا ترى أنه عليه السلام لما حج وبين المناسك للناس قال لهم خذوا عني مناسككم ولما صلى وبين أفعال الصلاة قال صلوا كما رأيتموني أصلي ولما صلى جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه و سلم وبين له المواقيت قال

الوقت ما بين هذين فلم يكتف في هذه المواضع بالفعل حتى ضم إليه القول فكان تقديم القول أولى
واحتج من قال إن البيان بالفعل أولى بأن النبي عليه السلام سئل عن مواقيت الصلاة فلم يبين قولا بل قال للسائل اجعل صلاتك معنا وبين له ذلك بالفعل وكذلك بين المناسك والصلاة بالفعل فدل على أن الفعل آكد
والجواب هو أن هذا يدل على جواز البيان بالفعل ونحن نقول بذلك وإنما الكلام في تقديم أقوى البيانين وليس في هذا ما يدل على أن الفعل أقوى
قالوا ولأن مشاهدة الفعل آكد في البيان من القول لأن في الفعل من الهيئات مالا يمكن الخبر عنها بالقول ولا يوقف منه على الغرض إلا بالمشاهدة والوصف فدل على أن الفعل آكد وأبلغ في البيان
قلنا هذا لا يصح لأنه ما من فعل إلا ويمكن العبارة عن وصفه بالقول حتى يصير كالمشاهد ولهذا علم النبي صلى الله عليه و سلم المسيء صلاته بالقول وعبر عما يحتاج إليه من الأفعال
وأما من قال إنهما سواء فاحتج بأن كل واحد منهما يقع به البيان كما يقع بالآخر وقد بين النبي عليه السلام مرة بالقول ومرة بالفعل فدل على أنهما سواء
والجواب هو أنهما وإن استويا في البيان إلا أن القول هو الأصل في البيان والفعل إنما يصير بيانا بغيره والقول مجمع على وقوع البيان به والفعل مختلف فيه فكان القول أولى بالتقديم
مسائل النسخ
مسألة 1 النسخ جائز ولا يمنع منه عقل ولا شرع
وقال أبو مسلم عمرو بن يحيى الأصبهاني النسخ لا يجوز

وهو قول بعض اليهود
لنا قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وقوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية وهذا دليل على جواز النسخ
ولأن نكاح الأخوات كان جائزا في شرع آدم صلوات الله عليه ثم حرم ذلك في شرع غيره فدل على جواز النسخ
ولأن التكليف وإن كان على وجه المصلحة كما قال بعض الناس فيجب أن يجوز النسخ لأنه يجوز أن تكون المصلحة للعباد في فعل الشيء إلى وقت ثم المصلحة لهم في تركه في وقت آخر
وإن كان التكليف غير مشروط في المصلحة كما قاله آخرون وإنما يكلف الله عباده ما شاء وجب أن يجوز النسخ أيضا لأنه يجوز أن يكلفهم في وقت شيئا وفي وقت آخر غيره
ولأنه إذا جاز أن يخلق الله تعالى خلقه على صفة ثم ينقلهم إلى صفة أخرى ولم يمنع ذلك من العقل جاز أن يكلفهم فعل العبادة في وقت ثم يسقط ذلك عنهم في وقت آخر

ولأنه إذا جاز أن يطلق الأمر والمراد به أن يعجز عنه بمرض أو غيره جاز أن يطلق والمراد به إلى أن ينسخه عنه
ولأنه إذا جاز أن لا يجب الشيء برهة من الزمان لم يرد الشرع بإيجابه جاز أن يجب برهة من الزمان لم يرد الشرع برفعه وإسقاطه
واحتجوا بأن جواز النسخ يؤدي إلى البداء على الله تعالى وهنا لا يجوز
والجواب هو أن البداء أن يظهر له ما كان خفيا ونحن لا نقول فيما ينسخ إنه ظهر له ما كان خافيا عليه بل تقول إنه أمر به وهو عالم أنه يرفعه في وقت النسخ وإن لم يطلعنا عليه فلا يكون ذلك بداء
على أنه لو جاز أن يقال إن ذلك بداء لجاز أن يقال إنه إذا خلق الخلق على صفة من الطفولية والصغر ثم نقلهم إلى غير ذلك من الأحوال إن ذلك بداء ولما بطل هذا فيما ذكرناه بطل فيما اختلفنا فيه
قالوا إذا أمر الله تعالى بشيء دل على حسنه وإذا نهى عنه دل ذلك على قبحه ولا يجوز أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا
قلنا إنما يصح هذا إذا قلنا إن النهي تعلق بما تعلق الأمر به فأما إذا قلنا إن النهي تعلق بما لم يتعلق الأمر لم يؤد إلى ما ذكروه ومتى أمر بشيء ثم نسخه علمنا بأن الأمر كان إلى ذلك الوقت فلا يكون النهي مما تعلق به الأمر
ولأنه لو كان هذا دليلا على إبطال النسخ لوجب أن يجعل دليلا على إبطال التخصيص فيقال إنه إذا أمر بقتل المشركين لا يجوز أن ينهى عن قتل أهل الذمة لأن الأمر بالقتل يدل على حسنه والنهي عنه يدل على قبحه ولا يجوز أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا ولما لم يصلح أن يقال هذا في إبطال التخصيص لم يصلح أن يقال مثله في إبطال النسخ
قالوا القول بالنسخ يؤدي إلى اعتقاد الجهل لأنه يعتقد وجوب الأمر على التأبيد وهو على خلاف ما يعتقد

قلنا لا يعتقد الوجوب على التأبيد بل يعتقد وجوبه مالم ينسخ عنه فلا يؤدي إلى ما ذكروه
واحتج قوم من اليهود بأن موسى عليه السلام قال لهم شريعتي مؤبدة وهذا يمنع من النسخ
والجواب أن هذا كذب منهم فإن موسى عليه السلام ما قال لهم هذا وإنما لقنهم ذلك ابن الراوندي
والدليل عليه أنه لو كان هذا أصلا لكان قد احتج به أحبار اليهود على النبي صلى الله عليه و سلم ولما لم يقل هذا أحد من قدمائهم أنه ذكره دل على كذب ابتدعوه
مسألة 2 يجوز النسخ وإن اقترن بالمنسوخ ذكر التأبيد
وقال بعض المتكلمين لا يجوز النسخ إلا في خطاب مطلق فأما إذا قيد بالتأبيد فلا يجوز نسخه
لنا هو أنه إذا جاز نسخ اللفظ المطلق وإن كان ظاهره التأبيد جاز نسخ ما اقترن به ذكر التأبيد لأن التأبيد يستعمل فيما لا يراد به التأبيد ألا ترى أنك تقول لازم غريمك أبدا وتريد إلى وقت وكذلك هاهنا يجوز أن يقيد بالتأبيد والمراد به إلى وقت النسخ
ولأنه لو كان ذكر التأبيد في الزمان يمنع النسخ لكان ذكر الكل في الأعيا يمنع التخصيص ولما جاز أن يقول اقتلوا المشركين كلهم ثم يخص بعده من المشركين جاز أن يقول افعلوا هذا أبدا ثم ينسخ
ولأنه إذا جاز أن يقيد الخطاب بالتأييد ثم يرد بعده الشرط والاستثناء جاز أن يرد بعده النسخ
ولأنه إذا جاز أن يقيد الخطاب بالتأبيد ويكون معناه ما لم يعجزوا عنه بمرض وغيره جاز أن يقيده بالتأبيد ويكون معناه افعلوا أبدا مالم ينسخ عنكم

واحتجوا بأنه لو جاز النسخ مع ذكر التأييد لم يكن إلى معرفة مالم ينسخ من الخطاب سبيل ومتى جوزتم ذلك لزمكم أن تقولوا أنه لا يعلم ختم النبوة برسول الله
والجواب هو أنه يمكن معرفة ذلك بأن نقول المصلحة في هذا الحكم لا تتغير ما دمتم مكلفين فنعلم بذلك أنه لا يرد عليه النسخ وبمثل هذا يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين وأن شرعه مؤبد
مسألة 3 يجوز النسخ وإن لم يشعر عند التكليف بالنسخ
وقال بعض الناس لا يجوز إلا أن يقترن بالخطاب ما يدل على النسخ في الجملة
لنا هو أنه لو كان يجب الإشعار بما يزيل الأمر من النسخ لوجب الإشعار بما يحدث من الأمراض المسقطة للأمر ولما لم يجب بيان ذلك لم يجب بيان النسخ
ولأنه لو وجب الإشعار بالنسخ لوجب بيان وقته ولما لم يجب بيان وقته لم يجب بيانه في الجملة
ولأن البيان إنما يجب للحاجة ولا حاجة إلى ذلك عند التكليف فلم يجب
واحتجوا بأن تجويز هذا الأمر يؤدي إلى اعتقاد الجهل فإنه يعتقد وجوب الأمر على الدوام وهو على خلاف ما يعتقد
والجواب هو أنه لا يعتقد وجوب ذلك على الدوام بل يعتقد وجوبه بشرط أن لا يرد عليه ما ينسخه فلا يؤدي إلى اعتقاد الجهل
مسألة 4 يجوز نسخ الشيء إلى مثله وإلى أخف منه وإلى أغلظ منه
ومن أصحابنا من قال لا يجوز النسخ إلى الأغلظ وهو قول أهل الظاهر
لنا هو أن الله تعالى خير الناس في ابتداء الإسلام بين الصوم وبين الفطر ثم نسخ ذلك بالانحتام وكذلك أمر بحبس الزاني في البيوت ثم نسخه بالجلد والرجم وذلك أغلظ من المنسوخ
ولأن التكليف إن كان على وجه المصلحة فيجوز أن تكون المصلحة في النقل إلى الأغلظ

وإن لم يكن على وجه المصلحة بل يكلف عباده ما شاء فيجوز أن يسقط عنهم شيئا ويكلفهم ما هو أغلظ منه
ولأنه إذا جاز أن يبتدىء إيجاب تغليظ بعد أن لم يكن واجبا جاز أن يسقط واجبا ويوجب ما هو أغلظ منه
واحتجوا بأن الله تعالى نسخ آية المصابرة بالتخفيف فقال الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ونسخ قيام الليل بالتخفيف فقال فاقرؤوا ما تيسر منه
والجواب هو أن هذا يدل على جواز النسخ إلى الأخف ونحن نجيز ذلك وكلامنا في النسخ إلى الأغلظ وليس فيه ما يمنع منه
مسألة 5 يجوز نسخ الشيء قبل وقت فعله
وقال الصيرفي لا يجوز وهو قول المعتزلة
لنا هو أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ثم نسخ ذلك قبل أن يفعله فدل على جوازه
فإن قيل إنما أمره بمقدمات الذبح وهو الإضجاع وتله للجبين وقد فعل ذلك ولهذا قال الله تعالى قد صدقت الرؤيا فدل على أنه فعل المأمور
قيل المأمور به هو الذبح والدليل عليه قوله تعالى إني أرى في المنام أني أذبحك
ولأنه لو كان المأمور به هو المقدمات لما أظهر إبراهيم عليه السلام الجزع وقد

أظهر الجزع من ذلك فقال إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى
ولأن إسماعيل عليه السلام أظهر التجلد والصبر فقال ستجدني إن شاء الله من الصابرين والمقدمات لا يحتاج فيها إلى الصبر والتجلد
ولأنه قال إن هذا لهو البلاء المبين وليس في المقدمات بلاء
ولأنه لو كان المأمور به قد فعل لما احتاج إلى الفداء وقد قال الله تعالى وفديناه بذبح عظيم وأما قوله قد صدقت الرؤيا فالمراد به أنك قد آمنت بذلك وعزمت على فعله فدل عليه التصديق إنما يكون بالقلب
فإن قيل قد فعل المأمور به وهو الذبح ولكن كلما قطع جزءا التحم
قيل ولو كان هذا صحيحا لكان قد ذكره الله تعالى فإن ذلك من الآيات العظيمة
ولأنه لو كان كذلك لما احتاج إلى الفداء ويدل عليه هو أنه إذا جاز أن يأمر بأفعال متكررة في الأزمان لم ينسخ ذلك في بعض الأزمان وإن لم يمض وقت جميع ما تناوله الأمر جاز أن يأمر بفعل واحد ثم ينسخ ذلك قبل دخول وقته
ولأنه إن كان التكليف على حسب المصلحة كما قال بعضهم جاز أن تكون المصلحة في إيجاب الاعتقاد وإظهار الطاعة في الالتزام والعزم على الفعل
وإن كان على حسب ما يشاء من غير اعتبار المصلحة كما قال آخرون فيجوز أن يكون قد شاء أن يكلفهم ما ذكرناه ولا يشاء الفعل ولهذا أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ولم يرد الفعل وإنما أراد منه ما ذكرناه
ولأنه إذا جاز أن يأمر الإنسان بفعل العبادة مع علمه بأنه يموت أو يعجز عنه

قبل أن يدخل وقتها ولم يقبح جاز أن يأمر بفعلها ثم يسقط ذلك عنه قبل فعلها
واحتجوا بأن الأمر من الله سبحانه يدل على أن المأمور به صلاح للمأمور وما كان صلاحا لهم لا يجوز للحكيم أن ينهاهم عنه ويمنعهم منه
والجواب هو أن الأمر يدل على الصلاح ما دام الأمر قائما فإذا نهى عنه علمنا أنه كان الصلاح إلى غاية
ولأنه لو كان هذا دليلا على المنع من النسخ قبل الفعل لوجب أن يجعل دليلا على إبطال النسخ أصلا فيقال إن الأمر من الحكيم يدل على كونه صلاحا للعبيد وما كان صلاحا للعبيد لم يجز للحكيم أن ينهاهم عنه وإذا بطل هذا في إبطال النسخ بطل فيما ذكروه
وربما قالوا إن الأمر بالشيء يقتضي حسن المأمور به والنهي عنه يقتضي قبحه ولا يجوز أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا
والجواب نحو ما تقدم
قالوا لأن هذا يؤدي إلى البداء على الله تعالى وذلك لا يجوز
فالجواب هو أن البداء أن يظهر ما كان خافيا عليه والله تعالى لما أمر كان عالما بالوقت الذي ينسخه عنهم فلا يؤدي إلى ما ذكروه
قالوا ولأنه لو جاز أن ينسخ الشيء قبل وقت الفعل لجاز أن يرد الأمر مع النهي موضعا واحد فيقول افعلوا كذا وكذا ولا تفعلوه ولما لم يجز هذا لم يجز ما نحن فيه
قلنا إذا ورد الأمر مقرونا بالنهي لم يفد شيئا وليس كذلك هاهنا فإنه إذا تراخى النهي كان الأمر مفيدا لأنه يتضمن وجوب الاعتقاد والعزم على الفعل فافترقا

قالوا مقتضى الأمر الفعل فإذا لم يرد مقتضاه كان لغوا فلم يصلح الخطاب كما لو قال اقتلوا وأراد به لا تقتلوا
قلنا هذا يبطل بالأمر المطلق في الأزمان فإن مقتضاه الفعل على الدوام فإذا نسخ بعد الفعل لم يرد مقتضاه ثم لا يصير لغوا
وعلى أنا لا نسلم أن مقتضى هذا الأمر الفعل فإن أوامر صاحب الشرع مشروطة بما يقوم عليه الدليل من نسخ وعجز وغير ذلك فمتى قام الدليل على النسخ علمنا أن مقتضى الأمر مالم يرد النهي عنه فإذا نهى عنه فقد أراد باللفظ ما اقتضاه فلا يكون هذا لغوا ويخالف هذا إذا قال اقتلوا وأراد به لا تقتلوا لأن هذا المراد لا يصح شرطه في الكلام ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول اقتلوا لا تقتلوا وليس كذلك هاهنا فإنه يصح أن يشترط في الأمر ما يرد بعده من النهي بأن يقول افعلوا إلى أن أنهاكم عنه فدل على الفرق بينهما
مسألة 6 لا يجوز نسخ القرآن بالسنة آحادا كانت أو متواترة
وقال أبو العباس بن سريج يجوز بالسنة المتواترة ولكنه لم يوجد في الشرع

وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى جواز ذلك بالأخبار المتواترة
وذهب بعض الناس إلى جواز ذلك بالمتواترة والآحاد وهو مذهب بعض أهل الظاهر
لنا قوله تعالى ما ننسخ من آية أو نفسها نأت بخير منها أو مثلها فأخبر أنه لا ينسخ آية إلا بمثلها أو بخير منها والسنة ليست مثل القرآن ولا هي خير منه فوجب أن لا يجوز النسخ بها
فإن قيل المراد نأت بخير منها أو مثلها في الثواب وقد يكون في السنة ما هو خير من المنسوخ في الثواب
قيل هذا لا يصلح لوجوه
منها أنه قال نأت بخير منها وهذا يقتضي أن يكون هو الذي يأتي به والسنة إنما يأتي بها النبي عليه السلام
ولأنه قال في سياق الآية ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير والذي يختص الله بالقدرة عليه هو القرآن

ولأن المثل يقتضي أن يكون المثل من جنس المنسوخ كما إذا قال لا آخذ منك ثوبا إلا أعطيتك خيرا منه اقتضى خيرا منه من جنسه
ولأنه قال نأت بخير منها أو مثلها وهذا يقتضي أن يكون المثل من جنس المنسوخ كما إذا قال لا أخذ منك ثوبا إلا أعطيتك خيرا منه اقتضى خيرا منه من جنسه
ولأن المثل يقتضي أن يكون مثله من كل وجه والسنة قط لا تماثل القرآن في الثواب في تلاوته ولا في الدلالة على صدق النبي عليه السلام بنظمه
فإذا قيل لو كانت السنة لا تماثل القرآن فالقرآن أيضا لا يكون بعضه خيرا من بعض فيجب أن يكون المراد به الأحكام
قيل قد يكون بعض القرآن خيرا من بعض في الثواب ألا ترى أن سورة الإخلاص ويس وغيرهما أفضل من غيرهما من القرآن في الثواب وقد يكون بعضها أظهر في الإعجاز من بعض ألا ترى أن قوله عز و جل وقيل يا أرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي أبلغ في الإعجاز من غيره
فإن قيل قوله نأت بخير منها ليس فيه أن ما يأتي به هو الناسخ ويجوز أن يكون الناسخ غيره
قلنا قوله تعالى ما ننسخ من آية شرط وقوله نأت بخير منها جزاء ولهذا جزم قوله ما ننسخ وإذا كان كذلك وجب أن يكون ما يأتي به لأجله وبدلا عنه كما إذا قال ما تصنع اصنع وما آخذه أعط مثله اقتضى أن يكون الجزاء لأجل الشرط وبدلا عنه فدل على أنه هو الناسخ

فإن قيل النسخ إنما يقع في الحكم لا في التلاوة ولا مفاضلة بين حكم الكتاب وحكم السنة وإنما المفاضلة بين لفظيهما والنسخ لا يقع إلا في اللفظ
قيل الخلاف في نسخ التلاوة والحكم واحد فإن عندهم لو تواترت السنة بنسخ التلاوة وجب النسخ بها ولا مماثلة بينهما وعلى أن نسخ الحكم أيضا يقتضي نسخ الآية ألا ترى أنه إذا نسخ حكم الآية قيل هذه آية منسوخة فيجب أن لا يكون ذلك إلا بمثلها أو بخير منها
ويدل عليه هو أن السنة فرع للقرآن ألا ترى أنه لولا القرآن لما ثبتت السنة فلو جوزنا نسخ القرآن بها لرفعنا الأصل بفرعه وهذا لا يجوز ولأن السنة دون القرآن في الرتبة ألا ترى أنها لا تساويه في الإعجاز في لفظه ولا في الثواب في تلاوته فلم يجز نسخ بها ويدلك عليه أن القياس لما كان دون الخبر في الرتبة لم يجز نسخه به فكذلك هاهنا
واحتجوا بقوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم والنسخ بيان للمنزل فيجب أن يكون ذلك بيانا له
والجواب هو أن البيان يراد به الإظهار والتبليغ ألا ترى أنه علقه على جميع القرآن والنسخ لا يجوز أن يتعلق بجميع القرآن فدل على أن المراد به ما ذكرناه
ولأن النسخ ليس بيانا للمنسوخ وإنما هو إسقاط ورفع فلا يدخل في الآية
قالوا ولأنه دليل مقطوع بصحته فجاز نسخ القرآن به كالقرآن

قلنا هذا يبطل بالإجماع فإنه مقطوع بصحته ثم لا يجوز النسخ به
وعلى أنه لا يمتنع أن يتساوى القرآن والسنة في القطع ثم يجوز النسخ بأحدهما دون الآخر ألا ترى أن الخبر والقياس يتساويان في أن كل واحد منهما مظنون ثم يصح النسخ بأحدهما دون الآخر
ثم المعنى في القرآن أنه يماثل المنسوخ في التلاوة والإيجاز فجاز نسخه به وليس كذلك هاهنا فإن السنة دون القرآن في الثواب والإعجاز فلم يجز نسخه بها
قالوا ولأن النسخ إنما يتناول الحكم والكتاب والسنة المتواترة في إثبات الحكم واحد وإن اختلفا في الإعجاز فيجب أن يتساويا في النسخ
قلنا هما وإن تساويا في إثبات الحكم إلا أن أحدهما أعلى رتبة من الآخر فجاز أن يختلفا في النسخ ألا ترى أن الخبر والقياس يتساويان في إثبات الحكم ثم يجوز نسخ السنة بأحدهما دون الآخر لما اختلفا في الرتبة فكذلك هاهنا
قالوا ولأن المانع من ذلك لا يخلو إما أن يكون فضله على السنة في الثواب أو فضله عليها في الإعجاز ولا يجوز أن يكون المانع بفضل الثواب لأنه يجوز نسخ أكثر الآيتين ثوابا بأقلهما ولا يجوز أن يكون المانع فضل الإعجاز لأنه يجوز نسخ الآية المعجزة بالآية التي لا إعجاز فيها وإذا بطل هذان الوجهان لم يبق ما يتعلق به المنع فوجب أن يجوز

قلنا المانع عندنا معنى آخر وهو رفع كلام الله تعالى بغير كلامه وهذا لم يدلوا على إبطاله
أو المانع من ذلك رفع الأصل بفرعه وهذا أيضا لم يدلوا عليه
ولأنا لو جعلنا المانع ما ذكروه من فضل القرآن على السنة بالإعجاز لصح وما ذكروه من نسخ الآية المعجزة بغير المعجزة لا يصح لأن الناسخ كالمنسوخ في الإعجاز ألا ترى أن كل واحد منهما إذا طال وكثر كان معجزا وإذا لم يطل لم يكن معجزا
واحتج من أجاز النسخ بأخبار الآحاد خاصة أن ما جاز نسخ السنة به جاز نسخ القرآن به كالقرآن
والجواب هو أنه ليس إذا أجاز أن يسقط به مثله جاز أن يسقط به ما هو أقوى منه ألا ترى أن القياس يجوز أن يعارض مثله ولا يجوز أن يعارض الخبر
قالوا ولأن النسخ إسقاط لبعض ما يقتضيه ظاهر القرآن فجاز بالسنة كالتخصيص
والجواب هو أنه لا يمتنع أن يجوز التخصيص به ولا يجوز النسخ به ألا ترى أن تخصيص الخبر بالقياس جائز ونسخه به لا يجوز
ولأن التخصيص إسقاط بعض ما اشتمل عليه اللفظ بعمومه فجاز تركه بخبر الواحد وليس كذلك النسخ فإنه إسقاط اللفظ بالكلية فلم يجز بما دونه
قالوا ولأنه إذا جاز النسخ إلى غير بدل فجوازه إلى بدل ثبت بلفظ دونه أولى
قلنا لو كان هذا صحيحا لوجب أن يجوز بالقياس فيقال إنه إذا جاز رفعه إلى غير بدل فلأن يجوز إلى بدل يثبت بالقياس أولى
ولأن النسخ إلى غير بدل لا يؤدي إلى إسقاط القرآن بما دونه لأنه يجوز أن

يكون قد نسخ بمثله أو بما هو أقوى منه والنسخ بالسنة يؤدي إلى إسقاط القرآن ورفعه بما هو دونه وهذا لا يجوز
قالوا ولأنه قد وجد في القرآن آيات منسوخة بأخبار الآحاد ووجود ذلك يدل على جوازه فمن ذلك
الوصية للوالدين والأقربين نسخه قوله عليه السلام لا وصية لوارث
ونسخ الحبس في حق الزاني بقوله عليه السلام والبكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مئة والرجم
ونسخ قوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام بقوله عليه السلام اقتلوا ابن خطل وإن كان متعلقا بأستار الكعبة
ونسخ قوله قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة بما روي أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور

ونسخ قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله عليه السلام لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها
والجواب هو أن الوصية نسخت بآية المواريث ولهذا قال عليه السلام إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث
وآية الحبس نسخت في البكر بقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وفي الثيب بآية الرجم التي كانت في الكتاب ونسخ رسمها وهي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله
وقوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام نسخ بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
وقوله قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما فالمراد به ما هو مستطاب عندهم وليس ذلك من الخبائث فهو عموم دخله التخصيص
وقوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم فهو عموم دخل التخصيص بالخبر وإذا أمكن البناء والجمع لم يصح حمله على النسخ فسقط ما قالوه
مسألة 7 يجوز نسخ السنة بالقرآن في أحد القولين وفيه قول آخر أنه لا يجوز
لنا هو أنه قد وجد ذلك في الشرع فإن النبي عليه السلام صالح قريشا على رد من جاءه من المسلمين فرد جماعة ثم جاءته امرأة فمنعه الله تعالى من ردها ونسخ ذلك بقوله تعالى فلا ترجعوهن إلى الكفار وكذلك كانت

الصلوات تؤخر عن أوقاتها في حال الخوف ثم نسخ ذلك بقوله تعالى فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فدل على جوازه
ولأن القرآن أقوى من السنة فإذا جاز نسخ السنة بالسنة فبالقرآن أولى
واحتجوا بأن الله تعالى جعل السنة مبينة للكتاب فقال لتبين للناس ما نزل إليهم فلا يجوز أن يجعل الكتاب مبينا للسنة
قلنا يجوز أن تكون السنة مبينة للكتاب ثم تبين السنة بالكتاب كما أن السنة تخص الكتاب ثم تخص السنة بالكتاب
قالوا ولأنه نسخ شيء بغير جنسه فلا يجوز كنسخ الكتاب بالسنة
قلنا إنما لم يجز نسخ الكتاب بالسنة لأن الكتاب أعلى رتبة من السنة لا لأنه من غير جنسه يدلك عليه أن نسخ المتواتر بخبر الواحد لا يجوز حين اختلفا في الرتبة وإن كانا من جنس واحد فدل على أن العلة فيه ما ذكرنا
مسألة 8 لا يجوز النسخ بالقياس
وقال أبو القاسم الأنماطي يجوز بالقياس الجلي
لنا هو أنه قياس فلا ينسخ به كالقياس الخفي ولأن النص يسقط القياس إذا عارضه وما أسقط غيره لم يجز نسخه به كنص القرآن لما أسقط نص السنة لم يجز نسخه بالسنة كذلك ههنا
واحتجوا بأن القياس الجلي في معنى النص بدليل أنه ينقض به حكم الحاكم فإذا جاز النسخ بالنص جاز به
قلنا النص لا يسقط النص إذا عارضه فجاز النسخ به وليس كذلك القياس فإنه لو عارضه أسقطه فلم يجز نسخه به
مسألة 9 إذا ثبت الحكم في عين لعلة وقيس عليها غيرها ثم نسخ الحكم في تلك العين بطل الحكم في فروعه
ومن أصحابنا من قال لا يبطل الحكم في فروعه وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة
لنا أن الحكم في الفرع إنما ثبت لثبوته في الأصل فإذا بطل الحكم في الأصل وجب أن يبطل في الفرع
ألا ترى أن الحكم إذا ثبت بالنص لما كان ثبوته لأجله إذا نسخ النص سقط الحكم به كذلك هاهنا
ولأن الحكم في الفرع يفتقر إلى أصل وإلى علة ثم ثبت أن زوال العلة يوجب زوال الحكم فكذلك زوال الأصل يجب أن يوجب زوال الحكم
واحتجوا بأن هذا إثبات نسخ في الفرع بالقياس على الأصل والنسخ بالقياس لا يجوز
والجواب أنا لا نقول أن ذلك نسخ بالقياس وإنما هو إزالة حكم لزوال موجبه ولو كان ذلك نسخا بالقياس لوجب إذا زالت العلة وزال حكمها أن يقال إن ذلك نسخ من غير ناسخ وهذا لا يجوز ولما لم يصح أن يقال هذا في العلة إذا زالت لم يصح أن يقال ذلك في الأصل إذا زال
قالوا ولأن الفرع لما ثبت فيه الحكم صار أصلا فيجب أن لا يزول الحكم فيه بزواله في غيره
قلنا لا نسلم أنه صار أصلا بذلك وإنما هو تابع لغيره ثبت الحكم فيه لأجله فإذا سقط حكم المتبوع سقط حكم التابع
مسألة 10 الزيادة في النص ليست بنسخ
وقال أصحاب أبي حنيفة إن كانت الزيادة توجب تغيير الحكم المزيد عليه في المستقبل كان نسخا وإن لم تقتض ذلك لم يكن نسخا ومنعوا بذلك زيادة التغريب في آية الجلد وزيادة الغرم في آية السرقة وزيادة النية والترتيب في آية الوضوء بأخبار الآحاد والقياس
وقال بعض المتكلمين إن كانت الزيادة شرطا في المزيد حتى لا يجزىء ما كان مجزئا إلا بالزيادة وإذا لم تنضم إليه وجب

الاستئناف كزيادة ركعتين على ركعتين كان نسخا وإن لم تكن الزيادة شرطا في المز لم تكن نسخا
لنا هو أن النسخ في اللغة هو الرفع والإزالة ثم خص في الشرع ببعض ما تناوله الاسم فقيل هو رفع الحكم الثابت بالنص وهذه الحقيقة لا توجد فيما زيد فيه لأن الحكم الثابت بالنص باق كما كان لم يزل ولم يرتفع وإنما لزمه زيادة فلم يكن ذلك نسخا يدلك عليه أنه لو كان في الكيس مئة درهم فزيد عليه شيء آخر لم يكن ذلك رفعا لما في الكيس كذلك هاهنا
وأيضا هو أنه لو كانت الزيادة في الحكم نسخا لحكم المزيد عليه لوجب إذا أوجب الله تعالى الخمس صلوات ثم أوجب صوم شهر رمضان أن يكون ذلك نسخا للصلوات ولما لم يكن ذلك نسخا بالإجماع وجب أن لا تكون هذه الزيادة نسخا لأن النسخ ما لم يمكن الجمع بينه وبين المنسوخ في اللفظ كما لو قال صل إلى بيت المقدس ولا تصل لم يكن كلاما وهنا لو جمع بين الزيادة والمزيد عليه صح ووجب الجمع بينهما فدل على أن ذلك ليس بنسخ
ولأن النسخ أن يتناول الناسخ ما تناوله المنسوخ وإيجاب الزكاة لا يتناول حكم المنسوخ فلا يجوز أن يكون ذلك نسخا له
ولأن الغرض في هذه المسألة إثبات الزيادة في القرآن بخبر الواحد والقياس

والدليل على جواز ذلك هو أن ما جاز تخصيص القرآن به جازت الزيادة به فيه كالقرآن والخبر المتواتر
ولأنه إذا جاز التخصيص به وهو إسقاط بعض ما تناوله فالزيادة بذلك أولى
ولأن الزيادة على النص لا يتناولها لفظ النص فكان حكمها حكم ما قبل ورود النص فجاز إثباته بخبر الواحد والقياس
واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن النسخ تغيير الحكم عما كان عليه وقد وجد التغيير بالزيادة لأنه إذا زاد في حد القذف عشرين فقد صار الثمانون بعض الواجب وكان يتعلق به رد الشهادة وصار لا يتعلق به رد الشهادة فصار كسائر أنواع النسخ
والجواب هو أنا لا نسلم أن النسخ هو التغيير بل النسخ هو الإزالة والرفع من قولهم نسخت الشمس الظل إذا أزالته ونسخت الرياح الآثار إذا ذهبت بها وهذا لا يوجد إلا في إسقاط ما كان بتاتا
ولو سلمنا أن النسخ هو التغيير لم نسلم أن الواجب تغير عما كان عليه بل هو على ما كان عليه
وأما قوله إذا صار الواجب بعض الواجب وكان ترد به الشهادة وصار لا ترد به الشهادة يبطل به إذا أمر بالصلاة ثم أمر بالصوم لأن الأول كان جميع الواجب وصار بعض الواجب وكان تقبل الشهادة بفعلها فصار لا تقبل الشهادة إلا بفعلها مع غيرها ثم لا يكون ذلك نسخا

ويبطل به إذا سقط بعض الثمانين من الحد فإنه قد صار الباقي كل الواجب وكان بعض الواجب فترد به الشهادة وقد كان لا ترد به ثم لا يكون ذلك نسخا للباقي
قالوا إذا ثبتت الزيادة صار جزءا من المزيد عليه وحكمه حكمه فيجب أن لا يثبت إلا بما ثبت به المزيد عليه
قلنا لعمري إنه يصير جزاء منه على معنى أنه يجب ضمه إليه ولكن لا يجب أن يثبت بالطريق الذي ثبت به المزيد عليه
يدلك عليه أن كونه جزءا منه ليس بأكثر من إثبات صفة المزيد عليه ويجوز أن تكون الصفة تخالف الموصوف في طريقه فيثبت الشيء بطريق مقطوع به وصفته من الإيجاب وغيره يثبت بطريق غير مقطوع به
قالوا ولأن التقدير بالعدد موضوع للمنع من الزيادة فإذا وردت الزيادة أفادت إيجاب ما كان ممنوعا منه وهذا حقيقة النسخ وهو أن يجعل ما كان محظورا مباحا أو واجبا
قلنا هذا على أصلكم لا يصح لأن التقدير بالعدد لا يقتضي المنع من الزيادة وإنما يصح هذا على أصلنا فلا جرم إذا ورد على ذلك زيادة جعلنا ذلك نسخا للمنع من الزيادة ونحن لا ننكر نسخ الزيادة فيما أفاد الخطاب حكما في الزيادة وإنما ننكر أن نجعل الزيادة ناسخة للمزيد عليه وهذا لا سبيل إليه
قالوا لا خلاف أن النقصان من النصوص عليه يوجب النسخ فكذلك الزيادة
قلنا قد جعل النقصان حجة لنا لأنه لا يوجب حكم الباقي من الحد

فيجب أن تكون الزيادة مثله وإنما جعلنا النقصان نسخا لما نقص لأنه إسقاط حكم ثابت باللفظ وهاهنا زيادة على الحكم الثابت فلم يكن نسخا
يدلك عليه هو أنه لو أوجب الصلاة ثم رفعها كان ذلك نسخا لها ولو زاد على الصلاة الصوم لم يكن ذلك نسخا للصلاة
واحتجت الطائفة الأخرى أنه إذا كانت الزيادة شرطا كانت مغيرة لحكم المزيد ألا ترى أنه إذا زاد في الصلاة ركعتين ثم صلى بعد الزيادة ركعتين لم يجزه وقد كان يجزي ولا يجوز أن يسلم من ركعتين وقد كان يجوز ذلك وهذا حقيقة النسخ
والجواب أن المزيد عليه باق كما كان لم يتغير وما تعلق بالزيادة من الإجزاء وعدم الإجزاء والصحة وعدم الصحة لا يوجب النسخ مع بقاء المزيد عليه ألا ترى أنه إذا زيد في عدد الحد فقد تغير بهذه الزيادة حكم وهو أنه ما كان مطهرا صار غير مطهر وما كان مكفر صار غير مكفر ثم لا يوجب ذلك نسخ المزيد عليه
وكذلك إذا زيد في العدة صار ما كان مبيحا غير مبيح ثم لا يعد ذلك نسخا فبطل ما قالوه
وعلى أنه يبطل بزيادة شرط في الصلاة منفصل عنها أو نقصان شرط كالطهارة في الصلاة فإنه سلم هذا القائل أنه ليس نسخ للصلاة ومعلوم أنه قد صار ما كان مجزئا غير مجزىء وما كان صحيحا غير صحيح فسقط ما قالوه
مسألة 11 إذا نسخ بعض العبادة لم يكن ذلك نسخا للباقي وبه قال الكرخي والبصري
وذهب بعضهم إلى أن النقصان من العبادة نسخ للباقي
وقال بعض المتكلمين إن كان ذلك نسخ شرط منفصل عن الجملة لم يكن نسخا للجملة
وإن كان نسخ بعض الجملة كالقبلة والركوع والسجود من الصلاة كان نسخا للعبادة
لنا ما بيناه في المسألة قبلها وأن الباقي من الجملة على ما كان الحكم عليه لم يزل فلم يجز أن يكون الجميع منسوخا كما لو أمر بصلاة وصوم ثم نسخ أحدهما
ولأنه لو كان نسخ بعضها نسخا للجميع لكان تخصيص بعضها تخصيصا للجميع ولما بطل أن يقال هذا في التخصيص بطل أن يقال مثله في النسخ
واحتج المخالفون في هذه المسألة بما بيناه في المسألة قبلها وقد مضى الجواب عنه فأغنى عن الإعادة
مسألة 12 إذا نزل النسخ على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثبت النسخ في حق النبي عليه السلام وفي حق الأمة في قول بعض أصحابنا
ومن أصحابنا من قال لا يثبت في حق الأمة قبل أن يتصل ذلك بهم وهو قول أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أنه إسقاط حق لا يعتبر فيه رضاء من يسقط عنه فلا يعتبر فيه علمه كالطلاق والعتاق والإبراء
ولأنه إباحة لمحظور عليه فجاز أن يثبت حكمه قبل العلم كما إذا قال لزوجته إن خرجت بغير إذني فأنت طالق وأذن لها وهي لا تعلم ثم خرجت فإنه يثبت حكم الإباحة ولا يقع الطلاق فكذلك هاهنا

ولأن الإباحة تارة تكون من الله تعالى وتارة تكون من جهة الآدمي ثم الإباحة من جهة الآدمي يثبت حكمها قبل العلم وهو إذا قال أبحت ثمرة بستاني لكل أحد فكذلك الإباحة من جهة الله تعالى
واحتجوا بأن أهل منى بلغهم القبلة وقد صلوا ركعة فاستداروا في صلاتهم ولم يؤمروا بالإعادة ولو كان قد ثبت حكمه في حقهم قبل أن يتصل بهم لبطلت صلاتهم ولأمروا بالإعادة
والجواب هو أن القبلة يجوز تركها بالأعذار ألا ترى أنه يجوز تركها مع العلم بها في النوفل في السفر ولهذا لم يؤمروا فيها بالإعادة وليس كذلك غيرها من الأحكام فإنه لا يجوز تركها مع العلم بها فلم يجز أن يسقط حكمها بالجهل بها
قالوا ولأن من لا علم له بالخطاب لا يثبت الخطاب في حقه كالنائم والمجنون
والجواب هو أن النائم والمجنون حجة لنا فإن الخطاب قد ثبت في حقهما وإن لم يعلما بالخطاب ألا ترى أن كثيرا من العبادات يثبت وجوبها في حقهما ويجب عليهما فعلها بعد الانتباه والإفاقة ولو لم يثبت الخطاب في حقهما لما وجبت تلك العبادات عليهما بعد الانتباه والإفاقة
قالوا ولأنه لو جاز ثبوت الخطاب قبل العلم به لثبت ذلك قبل نزول الوحي به ولما لم يثبت ذلك قبل نزول الوحي لم يثبت قبل العلم

قلنا قبل نزول الوحي لم يثبت له أحكام الدنيا وليس كذلك بعد نزول الوحي به فإنه قد ثبت كونه شرعا فثبت في حق كل أحد
قالوا ولأنه لو ثبت حكم الخطاب قبل العلم به لتعلق المأثم بمخالفته كما تعلق به بعد العلم ولما لم يتعلق المأثم بمخالفته دل على أنه لا يثبت حكمه
قلنا لا يمتنع أن لا يثبت المأثم ويثبت حكم الخطاب ألا ترى أنه إذا علم بالخطاب ثم نسيه أو نام عنه لم يلحقه المأثم ثم حكم الخطاب يثبت في حقه
قالوا ولأنه مخاطب بالمنسوخ وإذا تركه صار عاصيا فلا يجوز أن يكون حكم الناسخ ثابتا في حقه
والجواب هو أنه ليس إذا كان مخاطبا بالأمر الأول وتعلق العصيان بمخالفته دل على أن الخطاب الثاني غير ثابت في الحكم في حقه
ألا ترى أن المرأة بعد الطلاق وقبل أن يتصل ذلك بها مخاطبة بأحكام الزوجية وعاصية بالمخالفة ثم حكم الطلاق ثابت في حقها فكذلك هاهنا يجوز أن يكون مخاطبا بالأمر الأول عاصيا بمخالفته ثم حكم الخطاب الثاني قائم في حقه
مسألة 13 شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما ثبت نسخه
وقال بعض أصحابنا شرع من قبلنا ليس بشرع لنا
ومنهم من قال شرع إبراهيم خاصة شرع لنا وما سواه ليس بشرع لنا

لنا قوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
فإن قيل المراد به التوحيد والدليل عليه هو أنه أضافه إلى الجميع والذي يشترك الجميع فيه هو التوحيد فأما الأحكام فإن الشرائع فيها مختلفة فلا يمكن اتباع الجميع فيه
قيل اللفظ عام في التوحيد وفي الأحكام فيجب أن يحمل على الجميع إلا ما خصه الدليل
ولأن مجيء رسول الله صلى الله عليه و سلم غير مناف لما تقدم من الشرائع وكل شرع لم يرد عليه ما ينافيه وجب البقاء عليه والدليل عليه شريعة الرسول عليه السلام
ولأنه يمكن الجمع بين ما جاء به الرسول عليه السلام وبين ما قبله وكل حكمين أمكن الجمع بينهما لم يصح إسقاط أحدهما بالآخر كإيجاب الصوم والصلاة في شريعتنا
ولأن الله تعالى حكى شرع من قبلنا ولو لم يقصد التسوية بيننا وبينهم لم يكن لذكرها فائدة
واحتجوا بقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فدل على أن كل واحد منهم ينفرد بشرع لا يشاركه فيه غيره
والجواب هو أن مشاركتهم في بعض الأحكام لا يمنع من أن يكون لكل واحد منهم شرع يخالف شرع الآخر كما أن مشاركتهم في التوحيد لا تمنع انفراد كل واحد منهم بشريعة تخالف شريعة غيره
واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى عمرا رضي الله عنه ومعه شيء

من التوراة ينظر فيه فقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي فدل على نسخ ما تقدم
والجواب هو أنه إنما نهاه عن النظر في التوراة لأنه مبدل مغير وكلامنا فيما حكى الله عن دينهم في الكتاب أو ثبت عنهم بخبر الرسول عليه السلام
قالوا ولأن الشرائع إنما شرعت لمصلحة المكلفين وربما كانت المصلحة لمن قبلنا في شيء والمصلحة لنا في غيره فلا يجوز إجراء حكمهم علينا
قلنا فيجب أن تقولوا يقتضي هذا الدليل أن ما شرع للصحابة لا يكون شرعا للتابعين لأنه يجوز أن تكون المصلحة للصحابة في ذلك دون التابعين ولما بطل هذا بالإجماع بطل ما ذكروه
وعلى أن الظاهر أن المصلحة لنا فيما شرع لهم إذ لو كانت المصلحة لنا في غيره لنسخ ذلك ولما لم ينسخ ذلك دل على أننا وهم في المصلحة سواء
قالوا لو كان شرعا لنا لوجب اتباع أدلتهم وتتبع كتبهم كما يجب ذلك في شرعنا ولما لم يجب ذلك دل على أن شرعهم لا يلزمنا
قلنا نحن إنما نجعل شرعهم شرعا لنا فيما ثبت بخبر الله تعالى وخبر رسوله عليه السلام واتباع ذلك واجب وتتبع ما يوصل إلى معرفته واجب فأما مالم يثبت فليس شرعا لنا فلا يلزمنا اتباعه والكشف عنه
وربما قالوا لو كان شرعهم شرعا لوجب أن يعرف شرعهم أو معاني كلامهم لجواز أن يكون هنالك ما هو منسوخ أو مخصوص

والجواب عنه أنه إنما يجب من شرعهم ما أخبر الله تعالى عنه وما أخبر الله تعالى عنه لفظه معروف والظاهر أنه غير منسوخ ولا مخصوص فوجب العمل به
قالو العبادات في شريعتهم مختلفة فلا يمكن اتباع الجميع فيها فسقطت
قلنا إنما يجب المصير عندنا إلى مالم يثبت فيه اختلاف وأما ما اختلف في ذلك عمل بالمتأخر منهما كما يفعل ذلك في شرعنا
قالوا ولأن كل شريعة من الشرائع مضافة إلى قوم وهذه الإضافة تمنع أن يكون غيرهم مشاركا لهم فيها
قلنا ما أنكرتم أن يكون أضيف كل شرع من ذلك إلى قوم لأنهم أول من خوطبوا به فعرف الشرع بهم وأسند إليهم ويحتمل أن يكون أضيف كل شرع إلى قوم لأنهم متعبدون بجميعه وغيرهم يشاركهم في بعض الأحكام فلم يضف إليهم وإذا احتمل أن تكون الإضافة لما ذكرنا سقط التعليق به
قالوا ولأنه لو كان النبي عليه السلام متعبدا بشريعة من قبلنا لوجب أن لا يقف الظهار والميراث لانتظار الوحي لأن هذه الحوادث أحكامها في التوراة ظاهرة
قلنا إنما توقف لأن التوراة مغيرة مبدلة فلم يمكن الرجوع إلى ما فيها فانتظر الحكم من جهة الوحي
وعلى أنه إن كان في بعض الأحكام توقف ففي بعضها عمل بما ثبت من شرع من قبله ألا ترى أنه صلى إلى بيت المقدس بشرع من قبله فسقط ما قالوا
مسائل الأخبار
مسألة 1 للخبر صيغة تدل عليه بنفسه في اللغة
وقالت الأشعرية ليس للخبر صيغة تدل عليه بنفسه
وقالت المعتزلة الخبر إنما يصير خبرا بشرط أن ينضم إلى اللفظ قصد المخبر إلى الإخبار به كما قالوا في الأمر والنهي
لنا هو أن أهل اللسان قسموا الكلام فقالوا أمر ونهي وخبر واستخبار
فالأمر قولك افعل
والنهي قولك لا تفعل
والخبر قولك زيد في الدار
والاستخبار قولك أزيد في الدار
وهذا يدل على أن اللفظ موضوع للخبر يدل عليه بنفسه
واحتجوا بأن هذه الصيغة ترد ويراد بها الخبر كما قلتم وترد والمراد بها غير الخبر كقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فإذا ورد

مطلقا وجب التوقف فيه حتى يدل الدليل عليه كما قلنا في الأسماء المشتركة كاللون والعين وغيرهما
والجواب هو أن هذا موضوع بإطلاقه للخبر ويستعمل في غيره بدليل كما قلنا في البحر إنه موضوع بإطلاقه للماء الكثير المجتمع ويستعمل في الرجل الجواد بدليل كذلك هاهنا
مسألة 2 يقع العلم بالأخبار المتواترة
وقالت البراهمة لا يقع العلم بالأخبار المتواترة
لنا هو أن الإنسان يجد نفسه عالمة بما يسمع من أخبار البلدان النائية والأمم السالفة كما يجدها عالمة بما يحس بها من المحسوسات ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر المشاهدات
واحتجوا أن كل واحد من العدد المتواتر يجوز عليه الصدق والكذب فإذا انضم بعضهم إلى بعض لم يتغير حاله في خبره فوجب أن لا يقع العلم بخبرهم
قلنا ليس إذا جاز ذلك على كل واحد منهم إذا انفرد جاز عليهم الاجتماع ألا ترى أن كل واحد من الجماعة إذا انفرد يجوز أن يعجز عن حمل الشيء الثقيل ثم لا يجوز أن يعجزوا عن ذلك عند الاجتماع
ولأنه عند الانفراد يجوز أن يدعو كل واحد منهم إلى الكذب فيكذب وعند الاجتماع لا يجوز أن تتفق دواعيهم على الكذب

قالوا ولأن كل واحد منهم عند الاجتماع يقدر على الكذب كما يقدر عند الانفراد فإذا لم يقع العلم بخبرهم حال الانفراد لم يقع على الاجتماع
قلنا وإن كانوا قادرين على الكذب إلا أنه مع كثرتهم واختلاف هممهم لا يتفقون على فعله كما أن كل واحد منهم يقدر على السرقة والزنا والقتل ولا يتفقون على فعلها
قالوا ولأنه إذا جاز اتفاق الجماعة الكثيرة على الخطأ من حيث الاجتهاد وهم أصحاب الطبائع والفلاسفة جاز اتفاقهم على الخطأ في خبرهم
قلنا ذاك يدرك بالاجتهاد فجاز أن يغلطوا فيه والخبر طريقه السماع والمشاهدة فلا يجوز أن يتفق الخلق العظيم على الخطأ فيه
قالوا ولأنه لو كان العلم يقع بالأخبار لوجب أن يقع العلم بخبر اليهود عن موسى عليه السلام والنصارى عن عيسى والمجوس عن إدريس والروافض عن أئمتها
قلنا من شرط التواتر أن يكون النقلة عددا لا يصح التواطؤ منهم على الكذب وأن يستوي طرفاه ووسطه وهذه الشروط لم تتكامل فيما يروونه هؤلاء لأن روايتهم ترجع إلى عدد يسير فلهذا لم يقع العلم بخبرهم
قالوا لو كان العلم يقع بالخبر المتواتر لوجب إذا تعارض خبران على التواتر أن يقع به علمان متضادان وهذا محال
قلنا لا يتصور أن يتفق خبران في شيء واحد متضادان فسقط ما قالوه
مسألة 3 العلم الذي يقع بالخبر المتواتر ضرورة
وقال البلخي من المعتزلة العلم الذي يقع به اكتساب وهو قول الدقاق
لنا هو أن ما يعلم الإنسان بذلك من أخبار البلاد النائية والأمم السالفة يعلمه علما لا يمكنه نفيه بالشك والشبهة فصار بمنزلة العلم الواقع بالحواس
ولأنه لو كان العلم يقع بها من جهة الاستدلال لوجب أن لا يقع بها

للصبيان لأنه لا يصح منهم النظر والاستدلال ولما وقع لهم العلم بذلك دل على أن العلم بها يصح ضرورة
واحتجوا بأنه لو كان يقع العلم به ضرورة لاشترك الناس كلهم في إدراكه ولما رأينا العقلاء ينكرون العلم به دل على أن العلم من جهته عن استدلال
قلنا نحن لا نعتد بخلاف من خالف في ذلك كما لا نعتد بخلاف من خالف في المحسوسات من السوفسطائية
ثم لو جاز أن يجعل ذلك دليلا على نفي العلم به ضرورة لجاز أن يجعل خلاف من خالف في المحسوسات دليلا على أن العلم لا يقع من جهة الحواس ضرورة ولما بطل هذا بالإجماع بطل ما قالوه أيضا
قالوا ولأن الإنسان يسمع الشيء من الواحد والاثنين ولا يقع به العلم إلى أن يتكاثروا فيبلغوا التواتر فيقع له حينئذ العلم فكان ذلك استدلالا كالعلم الواقع بالنظر في العالم والاستدلال على حدثه
قلنا ليس إذا لم يقع العلم في ابتداء السماع لم يكن العلم الحاصل له عند الانتهاء ضرورة ألا ترى أن الإنسان يرى الشيء من بعيد فلا يقع له العلم به على التفصيل ثم يقرب منه فيعلم حقيقته على التفصيل ثم لا يقال إن ذلك العلم استدلال
قالوا ولأن العلم لا يقع بأخبارهم إلا على صفات تصحبهم يستدل بها على صدقهم فصار كالعلم بحدث العالم لما وقع عن الصفات التي تصحب العالم من الاجتماع والافتراق كان اكتسابا فكذلك هاهنا
والجواب هو أن الأخبار وإن اعتبر فيها صفات إلا أن العلم بصدقهم لا يفتقر إلى اعتبار الصفات ألا ترى أنه يجوز أن يقع العلم لمن لا ينظر في الصفات ويخالف هذا العلم الواقع عن العالم فإن بذلك لا يقع إلا بعد النظر في المعاني التي تصحب العالم والاستدلال بها فلذلك كان اكتسابا وفي الأخبار يقع العلم من غير نظر واعتبار فافترقا
مسألة 4 ليس في التواتر عدد محصور
وقال بعض الناس هم خمسة فصاعدا ليزيدوا على عدد الشهود وهو قول الجبائي
وقال بعضهم اثنا عشر بعدد النقباء
وقال بعضهم سبعون بعدد أصحاب موسى
وقال بعضهم ثلاثمائة وكسر بعدد أصحاب رسول الله يوم بدر
لنا هو أن التواتر ما وقع العلم الضروري بخبره وهذا لا يختص بعدد وإنما يوجد ذلك في جماعة لا يصح منها التواطؤ على الكذب فوجب أن يكون الاعتبار بذلك

ولأنه لو كان ذلك يقتضي عددا محصورا لاقتضى اعتبار صفتهم كما قلنا في الشهادة ولما لم تعتبر صفات الرواة ولم تختلف باختلاف حالهم من الكفر والإسلام والعدالة والفسوق دل على أنه لا اعتبار فيه بعدد محصور
وأما المخالفون فليس لهم شبهة يرجعون إليها إلا هذه الأعداد التي وردت في المواضع التي ذكروها وهذا لا يصح لأنه لا ليس معهم أن هذه الأعداد اعتبرت في المواضع التي ذكروها للتمييز بين ما يوجب العلم وبين مالا يوجب وإذا لم يثبت هذا لم يتم الدليل
مسألة 5 لا يعتبر الإسلام في رواة التواتر ويقع العلم بتواتر الكفار
ومن أصحابنا من قال لا يقع العلم بتواتر الكفار
ومنهم من قال إن لم يطل الزمان وقع وإن طال الزمان وأمكن وقوع المراسلة والتواطؤ لم يقع
لنا أن العلم يقع للسامع بأخبارهم إذا وجدت على الشروط المعتبرة كما يقع بأخبار المسلمين فدل على أنه لا اعتبار بالإسلام
واحتجوا بأنه لما اختص المسلمون بالإجماع وجب أن يختصوا بالتواتر أيضا
والجواب هو أن هذا جمع من غير علة فلا يلزم على أن الإجماع إنما صار حجة بالشرع والشرع ورد في المسلمين دون الكفار وليس كذلك الأخبار فإنها توجب العلم من طريق العادة وما طريقه العادة لا يختلف فيه المسلمون والكفار
قالوا ولأنه لو كان يقع العلم بتواترهم لوقع لنا العلم بما أخبرت به النصارى من صلب عيسى عليه السلام ولما لم يقع لنا العلم بذلك دل على أن خبرهم لا يوجب العلم
قلنا إنما لم يقع هناك العلم لأن شرائط التواتر فيه لم تتكامل وهو استواء طرفي العدد ووسطه فإن النقل في الأصل يرجع إلى عدد يسير فلم يقع العلم بخبرهم وفي مسألتنا تكاملت شرائط الخبر من استواء طرفي العدد والوسط فوقع به العلم
مسألة 6 أخبار الآحاد لا توجب العلم
وقال بعض أهل الظاهر توجب العلم
وقال بعض أصحاب الحديث فيها ما يوجب العلم كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر وما أشبهه
وقال النظام فيها ما يوجب العلم وهو ما قارنه سبب

لنا هو أنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لأوجب خبر كل واحد ولو كان كذلك لوجب أن يقع العلم بخبر من يدعي النبوة ومن يدعي مالا على غيره ولما لم يقل هذا أحد دل على أنه ليس فيه ما يوجب العلم
ولأنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما اعتبر فيه صفات المخبر من العدالة والإسلام والبلوغ وغير ذلك كما لم يعتبر ذلك في أخبار التواتر
ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب أن يقع التبري بين العلماء فيما فيه خبر واحد كما يقع التبري فيما فيه خبر متواتر
ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب إذا عارضه خبر متواتر أن يتعارضا ولما ثبت أنه يقدم عليه المتواتر دل على أنه غير موجب للعلم
وأيضا هو أنه يجوز السهو والخطأ والكذب على الواحد فيما نقله فلا يجوز أن يقع العلم بخبرهم
واحتج أهل الظاهر بأنه لو لم يوجب العلم لما وجب العمل به إذ لا يجوز العمل بما لا يعلمه ولهذا قال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم
والجواب هو أنه لا يمتنع أن يجب العمل بما لا يوجب العلم كما يقولون في شهادة الشهود وخبر المفتى وترتيب الأدلة بعضها على بعض فإنه يجب العمل بذلك كله وإن لم يوجب العلم

وأما قوله عز و جل ولا تقف ما ليس لك به علم فالجواب أن المراد به ما ليس لك به علم من طريق القطع ولا من طريق الظاهر وما يخبر به الواحد وإن لم يقطع به فهو معلوم من طريق الظاهر والعمل به عمل بالعلم
واحتج أصحاب الحديث بأن أصحاب هذه الأخبار على كثرتها لا يجوز أن تكون كلها كذبا وإذا وجب أن يكون فيها صحيح وجب أن يكون ذلك ما اشتهر طريقه وعرفت عدالة رواته
قلنا يبطل به إذا اختلف علماء العصر في حادثة على أقوال لا يحتمل غيرها فإنا نعلم أنه لا يجوز أن تكون كلها باطلا ثم لا يمكن أن نقطع بصحة واحد منها بعينه فبطل ما قالوه
واحتج النظام بأن خبر الواحد يوجب العلم وهو إذا أقر على نفسه بما يوجب القتل والقطع فيقع العلم به لكل من سمع منه وكذلك إذا خرج الرجل من داره مخرق الثياب وذكر أن أباه مات وقع العلم لكل من سمع ذلك منه فدل على أن فيه ما يوجب العلم
والجواب هو أن لا نسلم أن العلم يقع بسماعه لأنه يجوز أن يظهر ذلك لغرض وجهل يحمل عليه وقد شوهد من قتل نفسه بيده وصلب نفسه وأخبر بموت أبيه لغرض يصل إليه وأمر يلتمسه فإذا احتمل ما ذكرناه لم يجز أن يقع العلم به
مسألة 7 يجوز التعبد بأخبار الآحاد
وقال بعض أهل البدع لا يجوز ذلك من جهة العقل
لنا هو أنه إذا جاز في العقل أن يعلق وجوب العبادات على شرائط إذا وجدت تعلق بها الوجوب جاز أن يعلق وجوب العبادة على ما يخبر به العدل ولا فرق بينهما
ولأنه إذا جاز أن يكون فرض الإنسان ما يخبر به المفتي ويشهد به الشاهد وان جاز عليهم السهو والخطأ ولم يقبح ذلك في العقل جاز أن يرد التعبد بالرجوع الى قوله في احكام الشرع
ولأن ما يفتى به المفتي اخبار عن دليل من أدلة الشرع وربما كان ذلك نصا وربما كان استنباطا فإذا جاز الرجوع إلى خبره مع الاحتمال الذي ذكرناه فلأن يجوز الرجوع إلى خبر من روى قول النبي عليه السلام أولى
ولأن الشرع قد ورد بالتعبد به ونحن ندل عليه ولو لم يجز ورود التعبد به لما ورد
واحتجوا بأن التكليف لا يجوز أن يتعلق إلا بما فيه المصلحة للمكلف

والمصلحة لا يعلمها إلا الله ورسوله صلى الله عليه و سلم وإذا كان المخبر عنهما واحدا لم نعلم المصلحة لأنه يجوز عليه السهو والخطأ فوجب أن لا يقبل
قلنا المصلحة تتعلق بما علق التكليف عليه وهو خبر العدل وإذا وجدنا ذلك علمنا ما تعلق به المصلحة وإن لم نعلم حقيقة الحال فيما أخبر به وهذا كما تقول في الحاكم إذا شهد عنده شاهدان بحق ثبت عنده عدالتهما جاز له أن يحكم به وكان ذلك الحكم الذي أوجب الله تعالى وإن لم يعلم حال المشهود به في الباطن
وجواب آخر وهو أنه لو كان هذا طريقا في رد الخبر لوجب أن يجعل ذلك طريقا في رد الفتوى فيقال إن التعبد لا يتعلق إلا بما فيه مصلحة المكلف وذلك لا يعلم بقول الواحد فيجب أن لا يقبل ولما لم يصح أن يقال هذا في الفتوى لم يصح أن يقال ذلك في الأخبار
ولأنه لو كان خبر الواحد لا يجوز أن يتعلق به التكليف لجواز السهو والخطأ على المخبر لوجب أن لا يجوز التعبد بطريق الاجتهاد وبناء دليل على دليل وترتيب لفظ على لفظ لأن السهو والخطأ في ذلك كله يجوز وهذا لا يقوله أحد فبطل ما قالوه
قالوا لو جاز التعبد بما يخبر به الواحد وإن لم يقع العلم بخبره لجاز أن يقبل خبر الفاسق والمجنون
قلنا لو ورد التعبد بقبوله لقبلناه
ثم ليس إذا لم يقبل من الفاسق والمجنون لم يقبل ممن لا يقع العلم بخبره كما تقول في الشهادة والفتوى لا تقبل من الفاسق والمجنون ثم تقبل ممن لا يقع العلم بخبره
ولأن العقلاء يرجعون إلى من يوثق بخبره في أمورهم ولا يرجعون إلى من لا يوثق به من المجانين والفساق فدل على الفرق بينهما
مسألة 8 يجب العمل بخبر الواحد من جهة الشرع
ومن أصحابنا من قال يجب العمل به من جهة العقل والشرع
وقال القاساني لا يجب العمل به وهو قول ابن داود والرافضة

لنا قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فأوجب الحذر مما تنذر به الطائفة
فإن قيل وجوب الإنذار لا يدل على وجوب الرجوع إلى قول المنذر وحده بل يجوز أن يفتقر الرجوع إلى آخر كما يجب على الشاهد أن يشهد بما عنده ثم لا يجب العمل بقوله حتى يشهد معه غيره
قيل قد أوجب الإنذار وأوجب الحذر من المخالفة وهذا يقتضي وجوب الحذر بمجرد الإنذار
فإن قيل الحذر هو أن ينظر ويعمل بما يقتضيه الدليل لا أن يعمل بما أخبر به
قيل إذا تعلق الوعيد بترك أمر فالحذر عن مخالفته هو أن يفعل ذلك الشيء فأما إذا لم يفعل فلم يحذر فلم يكن ممتثلا لما اقتضاه الظاهر
وأيضا قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فدل على أنه إذا جاءه عدل لم يتبين في خبره
وأيضا فإن النبي عليه السلام كان بعث أصحابه إلى البلدان أمراء وعمالا وقضاة واحدا واحدا ولو لم يجز العمل بخبر كل واحد منهم لما بعثهم آحادا
فإن قيل يجوز أن يكون قد بعثهم إلى قوم في أحكام علموها بالتواتر قبل بعثة الرسول كما علموا في قولكم وجوب العمل بخبر الواحد قبل بعث الرسل
قيل لو كان نقل إليهم في ذلك تواتر لنقل إلينا وعلمناه كما علمنا كل ما تواتر به الخبر وأما وجوب العمل بخبر الواحد فقد علموه بما تواتر به الخبر من بعثة الرسل إلى كل جهة

فإن قيل فقد كان أيضا يبعث ويدعو إلى الإيمان وإن لم يكن معلوما من جهة الرسل فكذلك في الأحكام
قيل عندنا لم يعلم وجوب الإيمان إلا من جهة الشرع وعندهم يعلم ذلك بالعقل فبعث من ينبههم على أعمال الفكر والنظر في الدليل ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم عملوا بأخبار الواحد في مسائل مختلفة وأحكام شتى
روى أن أبا بكر رضي الله عنه عمل بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة
وعمل عمر رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن في أخذ الجزية من المجوس وبخبر حمل بن مالك في دية الجنين وقالوا لولا هذا لقضينا بغيره

وبحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها
وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فريعة بنت مالك في سكنى المتوفى عنها زوجها
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال كان إذا حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء أحلفته فإن حلف صدقته إلا أن أبا بكر رضي الله عنه فإنه حدثني وصدق أبو بكر
وعمل ابن عمر في ترك المخابرة بحديث رافع بن خديج
وعمل ابن عباس رضي الله عنه بحديث أبي سعيد الخدري في الربا في النقد
وعمل زيد بن ثابت رضي الله عنه بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بغير وداع

وعلموا كلهم بحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه إن الأئمة من قريش وبحديث عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين فدل على وجوب العمل به
فإن قيل هذه أخبار آحاد فلا يحتج بها في إثبات خبر الواحد
قيل هذا تواتر من طريق المعنى فإنها وإن وردت في قصص مختلفة فهي متفقة على إثبات خبر الواحد فصار ذلك كالأخبار المتواترة في سخاء حاتم وشجاعة علي كرم الله وجهه
فإن قيل يجوز أن يكون قد علموا بذلك لأسباب اقترنت بها
قيل لم ينقل غير الأخبار والرجوع إليها فمن ادعى زيادة على ذلك احتاج إلى دليل
ولأنه لو كان هناك سبب آخر يوجب العمل به لنقل ولم يخل به
فإن قيل إنما رجعوا إلى تلك الأخبار لأنها نقلت بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر على رواتها فصار ذلك إجماعا منهم على قبولها فوجب المصير إليها لأجل الإجماع
قيل لو كانت تلك الأخبار عند جماعتهم لما أشكلت عليهم الأحكام قبل روايتها
فإن قيل إن كان قد نقل عنهم العمل بخبر الواحد فقد نقل عنهم أيضا الرد لخبر الواحد

ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقبل خبر المغيرة حتى شهد معه محمد بن مسلمة
ورد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد معه أبو سعيد الخدري
ورد علي عليه السلام حديث أبي سنان في المفوضة
قيل قبولهم على ما بيناه دليل على وجوب العمل به وردهم لا يدل على أنه لا يجوز العمل به لأنه يجوز الرد إذا وجد علة تقتضي الرد
ألا ترى أن الخبر المتواتر يجب العمل به بالإجماع ثم رددنا تواتر النصارى أن المسيح صلب ولا يمنع ذلك العمل بالمتواتر لا سيما وقد روى في بعض المواضع التي ذكروها العلة التي اقتضت الرد والتوقف فروي عن عمر أنه قال في الاستئذان لأبي موسى فعلت ذلك لكي لا يجترأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال علي عليه السلام في خبر أبي سنان أعرابي بوال على عقبيه أي لا يعرف الأحكام فلا يعول على روايته

ويدل عليه هو أنه إخبار عن حكم شرعي فوجب قبول خبر الواحد فيه كالفتوى
ولأنه لو لم يجب العمل بخبر الواحد لوجب أن يكون ما بين النبي عليه السلام طول عمره يختص به من سمع ذلك منه لا يلزم غيره اعتقاده والعمل به لأنه لم ينقل إلى غيره نقل تواتر وهذا لا يقوله أحد
واحتجوا بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وما أخبر به الواحد لا علم له به فيجب أن لا يقفو
قلنا إن كان العمل بخبر الواحد عملا بما لا علم له به فرده أيضا عمل بما لا علم له به فيجب أن لا يرد وعلى أن العمل بخبر الواحد عندنا عمل لما يعلمه لأن الذي دل على وجوب العمل به موجب للعلم قاطع للعذر وإن كان ما يخبر به يجوز فيه الصدق والكذب وهذا كما تقول في الرجوع إلى قول الشاهد وقول المفتي إنه رجوع إلى العلم والعمل به وإن كان ما يشهد به الشاهد ويفتى به المفتي يجوز أن يكون صحيحا ويجوز أن يكون باطلا
قالوا ولأنه لو جاز أن يقبل من غير دليل لوجب أن يقبل قول من ادعى النبوة من غير دليل
قلنا نعارضكم بمثله فنقول ولو جاز رد خبر الواحد من غير دليل لجاز رد قول النبي عليه السلام من غير دليل
ولأنه إذا جاز أن يقبل قول المفتي وخبر الشاهد من غير حجة وإن لم تقبل دعوى النبوة من غير حجة جاز أيضا أن يقبل خبر الواحد وإن لم تقبل دعوى النبوة من غير حجة
وعلى أن خبر الواحد لا يقبل إلا بدليل وهو ما دللنا به على وجوب العمل به من الكتاب والسنة والإجماع ويخالف دعوى النبوة فإن هناك لو نعلم نبوته إلا من جهته ولم يقم دليل على صحته فلم يثبت وهاهنا الشرع قد ثبت قبله وعلم من جهته قبوله فوجب المصير إليه

قالوا ولأنه لو جاز قبول خبر الواحد في فروع الدين لجاز قبوله في الأصول من التوحيد وإثبات الصفات
قلنا في مسائل الأصول أدلة توجب القطع من طريق العقل فلا يعدل عنها إلى خبر الواحد كما أن من عاين القبلة لا يرجع إلى الاجتهاد في طلبها وليس كذلك الفروع فإنه ليس فيها طريق يوجب القطع فجاز الرجوع فيها إلى الظن كما نقول في الغائب عن القبلة
قالوا ولأن براءة الذمة متيقنة وخبر الواحد موضع شك فلا يجوز إزالة اليقين بالشك
قلنا نحن لا نزيل اليقين إلا بيقين مثله ووجوب العمل بخبر الواحد يقين وإن كان ما تضمنه غير متيقن
ولأنه لو كان هذا صحيحا في رد الخبر لوجب أن يجعل طريقا في إبطال الشهادة والفتاوى فيقال براءة الذمة متيقنة والشهادة والفتوى موضع شك وشبهة فلا يترك اليقين بالشك
وعلى أن حكم الأصل غير متيقن بعد ورود الخبر بل هو حال شك وشبهة لأنا نجوز أن يكون الأمر قد تغير عما كان عليه في الأصل فلا يكون العمل بالخبر إزالة يقين بالشك
قالوا ولأن المخبر كالمفتي ثم ثبت أن ما يفتي به المفتي لا يلزم العالم العمل به حتى يعلم صحته فكذلك ما يخبر المخبر يجب أن لا يلزم العمل به حتى تعلم صحته
قلنا إن كان لا يجوز للعالم أن يعمل بفتواه قبل العلم بصحته فيجوز للعامي أن يعمل به قبل العلم بصحته فليس لهم أن يتعلقوا بأحد الفريقين إلا ولنا أن نتعلق بالفريق الآخر
ولأن العالم لا مشقة عليه في معرفة ما أفتى به لأن له اجتهادا يرجع إليه

وليس كذلك هاهنا فإنا لو ألزمنا الناس أن يعرفوا ما سمعوه من الأخبار من طريق التواتر لشق على الناس فصار بمنزلتهم في ذلك من الفتوى منزلة العامي لما شق عليهم الانقطاع إلى الفقه جوز لهم التقليد في الفتوى وإن لم يعلموا صحة ما أفتوا به
قالوا ولأنه لو كان العمل بخبر الواحد واجبا لوجب التوقف عنه وعن سائر أدلة الشرع لأنه إذا أراد العمل بخبر الواحد جوز أن يكون هناك ما هو أولى من أخبار الآحاد فيحتاج أن يتوقف عن العمل به حتى يحيط علمه بجميع ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم وهذا لا سبيل إليه فوجب أن يكون العمل به باطلا
قلنا لو كان تجويز ما هو أولى منه من الأدلة يجوز أن يمنع العمل بما وقع إليه منها لوجب أن لا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهد ولا للعامي أن يعمل بفتوى فقيه لجواز أن يكون هناك ما هو أولى منه ولما بطل هذا بطل ما ذكروه
ولأنه لو جاز أن يكون هذا طريقا للمنع من الأخبار لوجب أن يجعل طريقا إلى المنع من العمل بالاجتهاد لأنه متى رتب دليلا على دليل باجتهاده جوز أن يكون هناك ما هو أولى منه فيؤدي إلى إبطاله ولما لم يجز أن يقال هذا في إبطال الاجتهاد لم يجز أن يقال في إبطال الأخبار
مسألة 9 يجب العمل بخبر الواحد وإن انفرد الواحد بروايته
وقال أبو علي الجبائي لا يجوز حتى يرويه اثنان عن اثنين إلى النبي صلى الله عليه و سلم
وقال بعض الناس لا يقبل أقل من أربعة
لنا قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فدل على أنهم إذا جاءهم عدل لم يتبينوا
وأيضا هو أن النبي عليه السلام كان يبعث عماله وقضاته إلى البلاد آحادا فبعث معاذا إلى اليمن وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة وبعث مصعب بن عمير إلى المدينة وبعث عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة على الصدقات واحدا واحدا

وأيضا فإن الصحابة رجعت في التقاء الختانين إلى حديث عائشة رضي الله عنها وحدها
ولأنه خبر عن حكم شرعي فلم يعتبر فيه العدد كالفتوى ولأن مالا يشترط في الفتوى لا يشترط في قبول الخبر كالحرية والذكورة
ولأنه خبر لا تشترط فيه الحرية فلا يعتبر فيه لاعدد كالخبر في الأذن في دخول الدار وقبول الهدية
ولأنه طريق لإثبات الحكم فلا يشترط فيه العدد دليله الأصول التي يقاس عليها
ولأنا لو اعتبرنا رواية اثنين عن اثنين إلى أن يتصل بالنبي صلى الله عليه و سلم لشق ذلك فوجب أني سقط اعتباره
واحتجوا بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يعمل بخبر المغيرة في ميراث الجدة حتى شهد عنده محمد بن مسلمة وعمر لم يعمل بخبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد معه أبو سعيد الخدري فدل على أنه لا بد من العدد
والجواب هو أنه يجوز أن يكونا طلبا الزيادة احتياطا ولهذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي موسى الأشعري لا أتهمك ولكني أردت أن لا يجترىء أحد على رسول الله صلى الله عليه و سلم
والذي يدل عليه أنا روينا عن عمر رضي الله عنه الرجوع إلى خبر الواحد فدل على أن التوقف كان لما ذكرناه
قالوا ولأنه خبر شرط فيه العدالة فاعتبر فيه العدد أصله الشهادات
قلنا هذا يبطل بالفتوى فإنه يعتبر فيه العدالة ولا يعتبر فيه العدد
على أنه لو كان بمنزلة الشهادات لوجب أن لا يقبل من العبيد والنساء في الحدود ولوجب أن يختلف عدده باختلاف الأحكام كما اختلفت الشهادات باختلاف الحقوق ولما قبل ذلك من العبيد والنساء ولم يختلف باختلاف الأحكام دل على أنه بمنزلة الفتوى
مسألة 10 يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى
وقال أصحاب أبي حنيفة لا يقبل
لنا هو أن الصحابة رضي الله عنهم رجعت إلى حديث عائشة في التقاء الختانين وهو مما تعم به البلوى
وقال ابن عمر كنا نخاير أربعين سنة ولا نرى بذلك بأسا حتى أتانا رافع ابن خديج فأخبر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ذلك فتركناه لقول رافع
ولأنه حكم شرعي يسوغ فيه الاجتهاد فجاز إثباته بخبر الواحد
دليله ما لا تعم به البلوى
ولأنه كل دليل ثبت به ما لا تعم به البلوى ثبت به ما تعم به البلوى كالسنة المتواترة
ولأن كل حكم ثبت بالقياس ثبت بخبر الواحد
دليله ما لا تعم به البلوى

ولأن القياس فرع مستنبط من خبر الواحد فإذا جاز إثبات ما تعم به البلوى بالقياس فلأن يجوز بخبر الواحد الذي هو أصله أولى
ولأن وجوب العمل بخبر الواحد ثبت بدليل قاطع وهو إجماع الصحابة فصار كالقرآن المقطوع بصحته فإذا جاز إثبات ما تعم به البلوى بالقرآن جاز إثباته أيضا خبر الواحد
واحتجوا بأن ما تعم به البلوى يكثر السؤال عنه وإذا كثر السؤال عنه كثر الجواب وإذا كثر الجواب كثر النقل فلما رأينا النقل قد قل دل على أنه لا أصل له ولهذا المعنى رددنا حديث الرافضة في النص على إمامة علي عليه السلام وقلنا أنه لو كان صحيحا لكثر النقل فيه
والجواب هو أنا لا نسلم أنه إذا كثر الجواب كثر النقل بل يجوز أن يكثر الجواب ولا يكثر النقل وذلك أن نقل الأخبار على حسب الدواعي ولهذا حج النبي عليه السلام في الجم الغفير والعدد الكثير وبين المناسك بيانا عاما ثم لم يروه إلا نفر منهم ولهذا كان كثير من الصحابة لا يؤثرون رواية الأخبار فإذا كان كذلك جاز أن يكثر الجواب ولا يكثر النقل
ويخالف هذا ما ذكروه من جهة الإمامة فإن ذلك عندهم يجب على كل أحد أن يعلمه ويقطع به فلا يجوز أن يثبت بنقل خاص وليس كذلك هاهنا فإنه من مسائل الاجتهاد ويجوز أن ينفرد به البعض بعلمه ويكون فرض الباقين الاجتهاد أو التقليد فافترقا
مسألة 11 يقبل خبر الواحد وإن كان مخالفا للقياس ويقدم عليه
وقال أصحاب مالك إذا كان مخالفا للقياس لم يقدم
وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان مخالفا لقياس الأصول لم يقبل

لنا ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ بم تحكم قال بكتاب الله تعالى قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولا آلو فقال النبي عليه السلام الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم لما يحبه ويرضاه رسول الله فرتب العمل بالقياس على السنة فدل على أن السنة مقدمة
ويدل عليه أن عمر رضي الله عنه ترك القياس في الجنين لحديث حمل بن مالك بن النابغة وقال لولا هذا لقضينا بغيره
وروي أنه كان يقسم ديات الأصابع على قدر منافعها ثم ترك ذلك بقوله عليه

السلام في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل ولم ينكر عليه أحد
ولأن القياس يدل على قصد صاحب الشرع من طريق الظن والخبر يدل على قصده من طريق الصريح فكان الرجوع إلى الصريح أولى
ولأن الاجتهاد في الخبر في عدالة الراوي فقط وفي القياس علة الأصل ثم في إلحاق الفرع به لأن من الناس من منع إلحاق الفرع به إلا بدليل آخر فكان المصير في ما قل فيه من جهة الاجتهاد أولى لأنه أسلم من الغرر
وأيضا هو أنه لو سمع القياس والنص المخالف له من رسول الله صلى الله عليه و سلم لقدم النص فيما يتناوله على القياس فلأن يقدم على قياس لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى
ولأن النص ينقض به حكم الحاكم فيما فيه خلاف والقياس لا ينقض به فدل على أن النص أقوى فلا يجوز تركه لما هو دونه
وأما أصحاب أبي حنيفة فيقال لهم ما الذي تريدون بمخالفة الأصول فإن قالوا نريد به معاني الأصول فهو كقول أصحاب مالك وقد بينا فساده
ولأنهم ناقضوا في هذا فإنهم يتركون القياس بخبر الواحد ويسمونه موضع الاستحسان ولهذا قال أبو حنيفة القياس أن من أكل ناسيا بطل صومه إلا أني أتركه لحديث أبي هريرة
وقالوا القياس أنه لا يجوز التوضؤ بنبيذ التمر ولكنا تركناه لحديث ابن مسعود وأمثال ذلك على أصلهم كثير

وإن أرادوا بالأصول الكتاب والسنة والإجماع وافقناهم عليه إلا أنهم يذكرون ذلك في مواضع لا كتاب فيها ولا سنة ولا إجماع وهو في خبر المصراة والتفليس والقرعة فبطل ما قالوه 1 واحتج أصحاب مالك بأن القياس يتعلق باستدلاله والخبر رجوع إلى قول الغير وهذا بفعله أوثق منه بفعل غيره فكان الرجوع إليه أولى ولهذا قدمنا اجتهاده على اجتهاد غيره من العلماء
قلنا لا فرق بينهما لأنه يرجع في عدالة الراوي ومعرفة صدقه إلى أفعاله التي قد شاهدها منه كما يرجع إلى المعنى الذي أودعه صاحب الشريعة في الأصل فيحكم به في الفرع بل طريق معرفة العدالة أظهر لأنه رجوع إلى العيان والمشاهدة وطريق معرفة العلة الفكر والنظر فكان الرجوع إلى الخبر أولى
قالوا ولأن الأصول وإن اتفقت على إيجاب حكم لم تحتمل إلا وجها واحدا وخبر الواحد يحتمل السهو على رواته فلا يجوز ترك مالا يحتمل بما هو محتمل كنص القرآن بالسنة إذا تعارضا
قلنا إنما يجوز ترجيح أحد الأمرين على الآخر بنفي الاحتمال إذا ثبت أنهما دليلان وفي مسألتنا القياس ليس بدليل إذا عارضه النص فلا يجوز أن يرجع على النص بنفي الاحتمال
على أن هذا يبطل بنص السنة إذا عارضه مقتضى العقل في براءة الذمة فإن براءة الذمة في العقل لا تحتمل إلا وجها واحدا ونص السنة يحتمل السهو على رواته ثم يقدم على مقتضى العقل الذي لا احتمال فيه
قالوا إذا اتفقت الأصول على شيء واحد دلت على صحة العلة قطعا ويقينا فلو قبلنا خبر الواحد في مخالفته لنقضنا العلة وصاحب الشرع لا يتناقض في علله فيجب أن يحمل الخبر على أن الراوي سها فيه ولهذا رددنا ما خالف أدلة العقول من الأخبار المروية في السنة لما أوجب نقض أدلة قاطعة

قلنا لا نسلم أنه إذا خالف النص كان ذلك علة لصاحب الشرع حتى لا يجوز أن يتناقض فيه فيجب أن يثبتوا علة حتى يصح هذا الدليل
ثم يبطل به إذا عارضه نص كتاب أو خبر متواتر فإنه يؤدي إلى نقض علة صاحب الشرع على زعمهم ثم يقبل ويقدم على القياس
وعلى أنه متى خالف النص زدنا فيه وصفا آخر فمنع من دخول النقض ويخالف هذا إذا ورد النص مخالفا لأدلة العقل فإنه لا يمكن الزيادة في أدلة العقل وهاهنا يمكن فافترقا
ولأن الشرع لا يجوز أن يرد بما يخالف أدلة العقول فعلمنا أنه خطأ من الراوي وليس كذلك هاهنا فإنه يجوز أن يرد النص بما يخالف القياس فافترقا

إذا روى الخبر اثنان وتفرد أحدهما بزيادة قبلت الزيادة

وقال بعض أصحاب الحديث لا تقبل الزيادة أصلا
لنا هو أن هذه الزيادة لا تنافي المزيد عليه فهو كما لو انفرد أحدهما بزيادة حديث لا يرويه الآخر
ولأنه يجوز أن يكون أحدهما سمع الحديث من أوله إلى آخره والآخر سمع بعضه أو أحدهما ذكر الحديث كله والآخر نسي بعضه فلا يجوز رد الزيادة بالشك
ولأن الخبر كالشهادة ثم في الشهادة لو شهد شاهدان على رجل أنه أقر بألف وشهد آخران أنه أقر بألف وخمسمائة فإنه تثبت الزيادة فكذلك في الخبر
ولأنه لو كان ما انفرد به أحدهما مما لا يقبل لوجب أن لا يقبل ما انفرد به أبي وابن مسعود في القراءات لأنها روايات انفردوا بها عن الصحابة
واحتجوا بأنهما مشتركان في السماع فلو كانت الزيادة صحيحة لاشتركا فيها
قلنا تبطل بما ذكرناه من الشهود على أنا بينا أنه يجوز سماع البعض دون البعض ويجوز أن يشتركا في الجميع وينسى أحدهما بعضه وإذا احتمل هذا لم يجز رد الزيادة
قالوا ولأن في التقويم يقدم قول من قوم بالنقصان فكذلك في الخبر
قلنا هذا مخالف للتقويم فإن شهادة المقوم معارضة في الزيادة ألا ترى أن من قوم بالنقصان يذكر أنه عرف السلعة وسعر السوق ولا تساوي إلا

كذا ومن قوم بالزيادة يذكر أنه عرف السلعة وسعر السوق وهو يساوي كذا وليس كذلك في الخبر فإن من روى الخبر ناقصا لا يمنع الزيادة فلا يقدح في صحتها فوجب الأخذ بها
قالوا ما اتفقنا عليه من الخبر يقين والزيادة مشكوك فيها فلا يترك اليقين بالشك
قلنا فيجب إذا انفرد أحدهما بخبر لم يروه الآخر أن لا يقبل فيقال أحد الخبرين يقين والآخر مشكوك فيه فلا يترك اليقين بالشك
على أنا لا نقول إن الزيادة مشكوك فيها بل هي ثابتة على مقتضى الظاهر لأنه ثقة فلو لم يسمع لما ذكر والأخذ بالظاهر من الأخبار واجب
قالوا إذا انفرد واحد من الجماعة بزيادة فقد خالف إجماع أهل العصر فهو كالواحد إذا خالف الإجماع
قلنا المعنى هناك أن أهل الاجتهاد أجمعوا على خطئه فوزانه من مسألتنا أن يجمع أهل الاجتهاد على إبطال الزيادة فتسقط وأما هاهنا فإنهم لم يقطعوا بإبطال الزيادة فوجب الأخذ بها
قالوا لو كان لهذه الزيادة أصل لما خص رسول الله صلى الله عليه و سلم بعضهم بها لأن في ذلك ترعيضا للباقين للخطأ
قلنا لا نقول إنه خص بعضهم بالزيادة بل حدث الجميع بالحديث كله ولكن نسي بعضهم بعض الحديث أولم يحضر بعضهم من أول الحديث إلى آخره
وعلى أنه يجوز أن لا يحدث بعضهم بجميع الحديث على التفصيل إذا لم تدع الحاجة إلى البيان وإنما لا يجوز ذلك عند الحاجة فسقط ما قالوه
قالوا ولأنه قد جرت عادة الرواة بتفسير الأحاديث وإدراج ذلك في جملة الخبر فلا يؤمن أن تكون هذه الزيادة من هذا الجنس فيجب أن لا تقبل

===============================ج2.============== ===========


كتاب : التبصرة في أصول الفقه

المؤلف : إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي

قلنا إذا أسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم فالظاهر أن الجميع من قوله صلى الله عليه و سلم
على أنه لو كان هذا دليلا في إبطال الزيادة لوجب أن يجعل ذلك طريقا في رد الأخبار أصلا فيقال إن الرواة يغلطون فيروون عن النبي صلى الله عليه و سلم ما ليس عنه فلا يؤمن أن تكون هذه الأخبار من ذلك الجنس فلما بطل هذا في رد الخبر أصلا بطل في رد الزيادة
مسألة 13 إذا روى الثقة حديثا مسندا وأرسله غيره لم يقدح ذلك في الرواية وكذلك إذا رفعه أحدهما ووقه الآخر على الصحابي
وقال بعض أصحاب الحديث إن ذلك يقدح في رواية من وصله وأسنده
لنا هو أنه من أرسل ذلك منهما يجوز أن يكون قد أغفل من سمع منه واختار إرساله لغرض
والذي وقفه يجوز أن يكون قد سمع فتوى الصحابي عن نفسه فإن من عنده حديث يجوز أن يرويه مرة ويفتي به أخرى فلا يجوز رد ما أسنده الثقة
واحتجوا بأنه لو كان أحدهما مسندا أو مرفوعا لشاركه الآخر في إسناده ورفعه كما شاركه في سماعه
والجواب هو أنه يجوز أن يكون قد أرسله ووقفه لما بيناه فلا يجوز أن يجعل ذلك قدحا في روايته
مسألة 14 مراسيل غير الصحابة ليست بحجة
وقال مالك وأبو حنيفة هو حجة وهو قول المعتزلة
وقال عيسى بن أبان تقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابع التابعين ولا تقبل مراسيل من بعدهم إلا أن يكون إماما
لنا ما استدل به الشافعي رضي الله عنه وهو أن الخبر كالشهادة والدليل عليه أن العدالة معتبرة في كل واحد منهما ثم ثبت أن الإرسال في الشهادة يمنع صحتها فكذلك هاهنا في الخبر

فإن قيل الشهادة آكد من الخبر ألا ترى أن الشهادة لا تقبل من العبد ولا من شهود الفرع مع حضور شهود الأصل والأخبار تقبل من العبد وتقبل من الراوي مع حضور المروي عنه فدل على الفرق بينهما
قيل هما وإن افترقا فيما ذكرتم إلا أنهما يتساويان في اعتبار العدالة والإرسال يمنع ثبوت العدالة فيهما فيجب أن يمنع صحتهما
وأيضا هو أن من شرط الخبر عدالة الراوي فإذا روى مرسلا جهلت عدالة الراوي فيجب أن لا يقبل
فإن قيل الظاهر أنه لم يرو إلا عن عدل
قيل ليس الظاهر ما ذكرتم بل يجوز أن يروى عن عدل وغير عدل وقد جرت عادة أصحاب الحديث بالرواية عن كل أحد ولهذا قال ابن سيرين لا تأخذوا بمراسيل الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان ممن أخذا وعلى أن عندهم لو أرسل عمن لا يعرفه ولا يعرف عدالته لجاز العمل به فسقط ما قالوه
واحتجوا بأن الراوي لا يرسل الحديث إلا ممن يقطع بصحته وثبوت طريقه ولهذا روي عن إبراهيم أنه قال إذا رويت عن عبد الله وأسندت فقد حدثني واحد وإذا أرسلت فقد حدثني جماعة

وقال الحسن وقد أرسل حديثا فسئل عنه فقال حدثني به سبعون بدريا فدل على أن المرسل كالمسند وأقوى منه
قلنا يجوز أن يكون قد أرسل لما ذكرتم ويجوز أن يكون قد أرسل لأنه نسي المروي عنه وهذا هو الأكثر لأنه جرت العادة أنهم يقولون عند النسيان قال النبي عليه السلام وعند الذكر والحفظ يذكرون الإسناد ويجوز أن يكون قد أرسل لأنه لم يرض الرواية عنه أو يستنكف عن الرواية عنه وإذا احتمل هذا سقط ما ذكروه
وعلى أن أكثر ما في هذا أن يكون المروي عنه عنده ثقة فأرسل عنه وبهذا القدر لا يلزمنا العمل به حتى يبينه لنا فننظر في عدالته
قالوا ولأن الظاهر أنه لا يرسل إلا عند صحة الحديث لأنه متى شك بين إسناده حتى تلزمه عهدته فلما رأيناه أرسل دل على صحة الحديث
والجواب أنا قد بينا أنه يحتمل إرساله لما ذكروه ويحتمل ما بيناه والجميع معتاد متعارف فلا يصح حمل الأمر على أحد الوجهين دون الآخر
وعلى أن هذا كله يبطل بالشهادة على الشهادة فإنه إذا لم يسم شاهد الفرع شاهد الأصل لم يصح وإن كان الظاهر أنه ما ترك تسميته إلا لصحة الأمر عنده
قالوا ولأن المروي عنه لا يخلو إما أن يكون على صفة يقبل خبره أو لا يقبل خبره ولا يجوز أن يكون على صفة لا يقبل خبره لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون الإرسال عنه يقدح في دين الراوي عنه حتى لا يقبل مسنده ولما ثبت أن مسنده يقبل دل على أن المروي عنه على صفة يقبل خبره فوجب قبول المرسل عنه
قلنا يجوز أن يكون على صفة لا يقبل خبره ولكن لا يقدح ذلك في سند الراوي عنه لأنه يجوز أن لا يعرفه وهو ممن يعتقد جواز الرواية عن المجاهيل ويجوز أن يكون قد نسي اسمه فلا يجب أن القدح في عدالته

وعلى أن أكثر ما فيه أن يكون المروي عنه عدلا عنده فأرسله لذلك وعدالته عنده لا تكفي في وجوب العمل حتى ينظر في حاله
وعلى أنه لو كان هذا دليلا في إرسال الخبر لوجب أن يجعل دليلا في إرسال الشهادة فيقال المشهود على شهادته لا يخلو من أن يكون مردود الشهادة فيجب أن يوجب ذلك قدحا في عدالة هذا الشاهد فلا تقبل شهادته في شيء أو مقبول الشهادة فيجب قبول الشهادة عليه مع الإرسال ولما بطل هذا في الشهادة بطل في الأخبار
قالوا من قبل مسنده قبل مرسله كالصحابة
والجواب أن أبا إسحق الإسفراييني لم يسلم هذا لا تقبل مراسيل الصحابة كما لا تقبل مراسيل التابعين والمذهب أنه تقبل مراسيلهم لأنهم لا يرسلون إلا عن الصحابة وقد ثبتت عدالتهم فلا يحتاج إلى النظر في أحوالهم والتابعون يروي بعضهم عن بعض وعدالتهم غير ثابتة فوجب الكشف عن حالهم
قالوا ولأنه إرسال فأشبه إرسال ابن المسيب
قلنا من أصحابنا من قال مراسيله ومراسيل غيره سواء والشافعي رضي الله عنه استحسن مراسيله في الترجيح بها ومنهم من سلم لأنها تتبعت فوجدت مسانيدا عن الصحابة وهذا المعنى لم يثبت في مراسيل غيره فافترقا
قالوا لو لم يكن المرسل حجة لما اشتغل الناس بروايته وكتبه

قلنا يجوز أن يكون قد اشتغلوا بروايته وكتبه للترجيح به أو ليعرف كما كتب أخبار الفساق ومن لا يثبت بروايته حديث ولهذا قال الشعبي حدثني الحارث الأعور وكان والله كذابا
ولأنا نشتغل برواية النسوخ من الأحكام وإن لم يتعلق بها حكم
مسألة 15 إذا قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو من السنة كذا فهو كالمسند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال أبو بكر الصيرفي لا حجة في ذلك وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أن إطلاق الأمر والنهي والسنة يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
والدليل عليه أن أنس بن مالك كان يقول أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولم يقل له أحد من الآمر بذلك فدل على أن إطلاق الأمر يقتضي ما ذكرناه
ولأنه لا خلاف أنه لو قال أرخص لنا في كذا لرجع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكذلك إذا قال أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا ولا فرق بينهما
واحتجوا بأن السنة قد تطلق والمراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وتطلق والمراد بها سنة غيره والدليل عليه قول علي عليه السلام في الخمر جلد النبي صلى الله عليه و سلم في الخمر أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين وجلد عمر

ثمانين وكل سنة فأطلق السنة على ما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى ما فعله أبو بكر وعلى ما فعله عمر رضي الله عنهما
وقال عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدين أبي بكر وعمر
والجواب أن عليا عليه السلام أراد بالسنة سنة النبي صلى الله عليه و سلم لأن الزيادة على الأربعين كانت تعزيرا والضرب بالتعزير ثبت بالسنة
وأما قوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي فهي سنة مقيدة منسوبة إلى أبي بكر وعمر وكلامنا في السنة المطلقة وحكم المطلق مخالف لحكم المقيد
قالوا ولأن الصحابي قد يجتهد في الحادثة فيؤديه اجتهاده إلى حكم ويضيف ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه يقيس على ما سمع منه ويستنبط مما أخذ عنه وإذا احتمل هذا لم يجز أن يجعل ذلك سنة مسندة كما لو قال هذا حكم الله تعالى لم يجز أن يصير ذلك كآية من القرآن
والجواب هو أنه وإن جاز أن يسمى ما عرف بالقياس سنة إلا أن الظاهر من السنة ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم واللفظ يجب أن يحمل على الظاهر فبطل ما قالوه والله أعلم
مسألة 16 إذا قال الصحابي كنا نفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا وكذا فهو كالمسند إلى رسول الله
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة ليس كالمسند
لنا أن الظاهر من حال الصحابة أن لا يقدموا على أمر من أمور الدين والنبي صلى الله عليه و سلم بين أظهرهم إلا عن أمره فصار ذلك كالمسند إليه
ولأنه إنما يضاف ذلك إلى عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم لفائدة وهو أن يبين أن النبي صلى الله عليه و سلم علم بذلك ولم ينكره فوجب أن يصير كالمسند
واحتجوا بأنهم كانوا يفعلون في عهد النبي عليه السلام مالا يكون مسندا ألا ترى أنهم لما اختلفوا في التقاء الختانين قال بعضهم كنا نجامع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ونكسل فلا نغتسل فقال له عمر أو علم النبي صلى الله عليه و سلم ذلك فأقركم عليه فقال لا فقال فمه
وقال جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم

قلنا أما التقاء الختانين فما كان يجب به الغسل في ابتداء الإسلام وكانوا يجامعون ولا يغتسلون ثم نسخ ذلك فكان ذلك مفعولا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم فلما نسخ لم يعلم بعضهم بالنسخ واستمر على ذلك وحال الاستدامة والاستمرار يجوز أن يخفى أمره
فأما الإقدام على ابتداء الشيء فلا يفعل إلا عن إذن النبي عليه السلام
وأما حديث جابر فالمراد به أمهات الأولاد في غير ملك اليمين وهو أن يتزوج جارية لهم وذلك جائز
مسألة 17 إذا قال الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كالمسند إليه سماعا منه
وذهب بعض الناس إلى أنه ليس كالمسند إليه سماعا وهو قول الأشعرية
لنا هو أن الظاهر أنه ما قطع بأنه قال النبي عليه السلام إلا وقد سمع منه فوجب أن يحمل الأمر على السماع
واحتجوا بأنه يجوز أن تكون بينهما واسطة فيضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم من جهتهم ولهذا قال أنس ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقيل إنه ليس مما يرويه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا أربعة أحاديث
والجواب أنه يحتمل ما ذكرتم ولكن الظاهر ما ذكرناه
والدليل عليه أن أنسا قال ليس كل ما نحدثكم به سمعناه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا يدل على أن ظاهر الرواية يقتضي السماع ولولا ذلك ما احتاج إلى هذا البيان فإذا كان هذا هو الظاهر وجب أن يحمل الخبر عليه
مسألة 18 إذا قال حدثني فلان عن فلان فالظاهر أنه متصل
ومن الناس من قال حكمه حكم المرسل
لنا هو أن الظاهر أنه سمع كل واحد منهم ممن يروى عنه لأنه لو كان بينهما واسطة لبين ذلك
واحتجوا أن الرواية عنه لا تقتضي السماع منه ألا ترى أنه يقال روى فلان عن فلان وإن كان بينهما واسطة كما يقال روى عنه وإن لم يكن بينهما واسطة وإذا كان اللفظ يطلق على الأمرين لم يكن حمله على الاتصال بأولى من حمله على الإرسال
قلنا اللفظ وإن كان يستعمل في في الأمرين جميعا إلا أن الظاهر منه السماع والاتصال لأن الأصل عدم الوسائط فوجب أن يحمل الأمر عليه
مسألة 19 لا يقبل الخبر إلا ممن تعرف عدالته
وقال أبو حنيفة إذا عرف إسلامه جاز قبول روايته
لنا هو أن كل خبر لا يقبل من الفاسق لم يقبل من مجهول الحال كالشهادة
ولأنا لو جوزنا قبول الأخبار ممن جهلت عدالته لم يبق أحد من أهل البدع إلا روى ما يوافق بدعته فتتسع البدع ويكثر الفساد وهذا لا يجوز
واحتجوا بأن النبي عليه السلام قال للأعرابي الذي شهد عنده بالهلال أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال نعم وأمر بالصوم ولم يسأل عن العدالة
والجواب هو أنه يحتمل أن يكون قد عرف عدالته فلم يسأل عنها
قالوا ولأن الأصل في المسلم العدالة فوجب أن يحمل الأمر عليه

قلنا لا نسلم بل الأصل في الصبيان عدم العدالة لعله التحصيل والعقل وبعد البلوغ يحتمل أن يكون عدلا ويحتمل أن يكون فاسقا فوجب التوقف فيه حتى نعلم باطن الحال
ولأن هذا يبطل بالشهادة فإنها لا تقبل من المجهول وإن كان الأصل في الناس العدالة فسقط ما قالوه
مسألة 20 إذا روى الثقة عن المجهول لم يدل ذلك على عدالته
ومن أصحابنا من قال يدل على عدالته
لنا هو أن شهادة الفرع لا تدل على شهادة الأصل فكذلك رواية العدل لا تدل على عدالة المروي عنه
ولأن العدل قد يروي عن الثقة وعن غير الثقة ولهذا قال الشعبي حدثني الحارث الأعور وكان والله كذابا فلم يجز أن يستدل بالرواية على العدالة
واحتجوا لو كان هذا المجهول غير ثقة لبين العدل ذلك في روايته حتى لا يغتر بروايته كما بين الشعبي ولما لم يبين ذلك دل على عدالته
والجواب هو أنه يجوز أن يترك البيان ثقة بعدالته ويحتمل أنه تركه لأنه لا يعرفه وهو ممن يرى الناس أنه على العدالة ويحتمل أن يترك البيان ليجتهد الفقيه الذي يعمل بحديثه في حاله فإذا احتمل أنه ترك البيان من هذه الوجوه لم يدل ذلك على العدالة
وجواب آخر وهو أن أكثر ما في ذلك أن يدل على عدالته عنده وهذا لا يكفي في ثبوت العدالة حتى ننظر في حاله كما نظر ونعرفه كما عرف
ولأن هذا يبطل بشاهد الفرع إذا شهد على شهادة مجهول فإنه لا يدل على عدالته ولا يقال أنه لو كان غير ثقة لبين ذلك حتى لا تعتبر شهادته فسقط ما قالوه
مسألة 21 إذا روى الصحابي لغيره شيئا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم رأى المروي له رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يلزمه أن يسأله عما حدث عنه
وقال بعض الناس يلزمه أن يسأل عن ذلك
لنا هو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث السعاة والقضاة إلى أهل البلاد لتبليغ الشرع وبيان الأحكام ثم يقدمون أولئك على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يسألونه عما حدثوا عنه فدل على أنه لا يجب
واحتجوا بأنه إذا لقى النبي عليه السلام أمكنه معرفة الحكم من جهة القطع فلا يجوز أن يعول على الظن كما أن المكي إذا أمكنه التوجه إلى القبلة لم يجز أن يجتهد
قلنا فيجب على هذا إذا كان على بحر أن لا يجوز له الوضوء بما معه من الماء لأنه يقدر على ما يقطع بطهارته وهو ماء البحر ولما أجمعوا على جواز ذلك دل على بطلان ما قالوه
وأما القبلة فهو حجة لنا عليهم لأن الغائب عنها إذا علم الجهة بدليل فصلى إليها لم يلزمه إذا قدم مكة اعتبار الجهات المتيقنة وكذلك هاهنا إذا علم بقول العدل ثم لقي النبي عليه السلام يجب أن لا يلزمه سؤاله
مسألة 22 إذا نسي المروي عنه الحديث والراوي عنه ثقة لم يسقط الحديث
وقال أصحاب أبي حنيفة يسقط الحديث
لنا أن سهيل بن أبي صالح روى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حديث الشاهد واليمين ثم نسيه فكان يقول حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة ولم ينكر عليه أحد من التابعين
وصنف أبو الحسن الدارقطني جزءا فيمن نسي ثم روى عمن روى عنه وهذا يدل على أنه إجماع على جواز ذلك

ولأن المروي عنه لا يعلم بطلان الحديث والراوي عنه ثقة فوجب العمل به كما لو لم ينس
ولأنه موته أعظم من نسيانه فإذا كان موته لا يبطل رواية الثقة عنه فنسيانه أولى
واحتجوا بأن الخبر كالشهادة ثم إنكار شهود الأصل الشهادة يبطل الشهادة فكذلك إنكار المروي عنه الخبر يجب أن يبطل الخبر
والجواب هو أن باب الشهادة آكد من باب الخبر ألا ترى أن شهادة العبيد لا تقبل وأخبارهم تقبل فدل على الفرق بينهما
مسألة 23 إذا ترك الراوي العمل بالحديث وأفتى بغيره لم يسقط الحديث
وقال أصحاب أبي حنيفة يسقط الحديث
لنا هو أن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة وقول الراوي ليس بحجة فلا تعارض الحجة بما ليس بحجة
واحتجوا بأن الصحابي مع فضله ودينه لا يجوز أن يترك الحديث ويعمل بخلافه إلا وقد علم نسخ الخبر فوجب أن يسقط الاحتجاج به
والجواب أنه يحتمل أن يكون علم نسخه ويحتمل أنه نسيه أو تأوله فلا تترك سنة ثابتة بتجويز النسخ
ولأن الظاهر أنه ليس معه ما ينسخه لأنه لو كان معه ناسخ لرواه في وقت من الأوقات ولما لم يظهر ذلك دل على أنه نسيه
مسألة 24 إذا وجد سماعه على كتاب ولم يذكر أنه سمعه جاز له أن يرويه
وقال بعض أصحابنا لا يجوز حتى يذكره وهو قول أبي حنيفة
لنا هو أن الأخبار تحمل على الظاهر وحسن الظن ولهذا قبلناها من العبيد والنساء ومن لا نعرف عدالته في الباطن فالظاهر من هذا السماع الصحة فوجب أن تجوز له الرواية
واحتجوا بأنه لا يجوز الرجوع إلى الخط في الشهادة فكذلك في الخبر
والجواب أن باب الشهادة آكد من باب الأخبار وقد بينا هذا بما يغني عن الإعادة
مسألة 25 إذا كتب إليه رجل بحديث جاز أن يرويه عنه فيقول أخبرني فلان بهذا مكاتبة
ومن الناس من قال لا تجوز له الرواية عنه
لنا هو أن أمر الأخبار مبني على الظاهر وحسن الظن والظاهر صحة ما كتب إليه فجاز أن يعول عليه في الرواية
فإن احتجوا بأنه لو كتب إليه بشهادة لم يجز أن يشهد عليه فكذلك إذا كتب إليه بخبر
والجواب أن باب الشهادة آكد من باب الأخبار وقد بينا ذلك في غير موضع فأغنى عن الإعادة
مسألة 26 تجوز رواية الحديث على المعنى إذا كان عالما بمعنى الحديث
وقال بعض أصحابنا لا يجوز ذلك
لنا أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال إذا أصيب المعنى
ولأن القصد هو المعنى دون اللفظ وقد أتى بالمقصود فوجب أن يجوز كما نقول في نقل الشهادة والأقارير

واحتجوا بقوله عليه السلام رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وأدى كما سمع فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وهذا يقتضي حفظ الألفاظ
والجواب هو أن هذا يدل على الفضيلة والاستحباب ألا ترى أنه رغب فيه بالدعاء ولم يتواعد على تركه
قالوا ولأنا لا نأمن أن يكون قد قصد النبي عليه السلام معنى فاستعمل فيه لفظا على سبيل المجاز فينقل الراوي ذلك إلى لفظ لا يؤدي معنى الأول فيغير المقصود
والجواب هو أنا إنما نجيز ذلك لمن علم معنى الحديث وأحاط به علمه فلا يغير المقصود
قالوا ولأن القرآن لا يجوز أن يقرأ على المعنى فكذلك السنة
قلنا لأن اللفظ مقصود في القرآن ألا ترى أنه يثاب على تلاوته وليس كذلك هاهنا فإن القصد هو المعنى دون اللفظ فشابه ما ذكرنا من الشهادة والإقرار
مسألة 27 يرجح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواة في أحد المذهبين ولا يرجح في المذهب الآخر وهو مذهب بعض الناس
لنا هو أن رواية الاثنين أقرب إلى الصحة وأبعد من السهو والغلط فإن الشيء عند الجماعة أحفظ منه عند الواحد ولهذا قال الله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى وقال عليه السلام الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد فوجب أن يرجح ما كثر رواته
وأيضا فإن ما كثر رواته أقرب إلى التواتر فوجب أن يكون أولى من غيره
واحتجوا بأن في الشهادات لا يرجح بكثرة العدد فكذلك في الأخبار
والجواب هو أن الشهادات مقدرة في الشرع فلم يرجح بكثرة العدد والأخبار غير مقدرة فرجع فيها إلى الأقوى في الظن يدلك عليه أن الشهادات لا ترجح بالسن ولا بالقرب ولا بالعلم والأخبار ترجح بذلك كله فدل على الفرق بينهما
مسائل الإجماع
مسألة 1 إجماع العلماء على حكم الحادثة حجة مقطوع بها
وقال النظام والإمامية ليس بحجة غير أن الإمامية قالت إن المسلمين إذا أجمعوا على حكم وجب المصير إليه لأن فيهم من قوله حجة وهو الإمام والإجماع عندهم ليس بحجة ولكن فيه حجة
لنا ما احتج به الشافعي رحمه الله وهو قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا فتواعد على مخالفة سبيل المؤمنين فدل على أن اتباعهم واجب ومخالفتهم حرام وأن ما عداه باطل

فإن قيل إنما علق الوعيد على مخالفة النبي عليه السلام وترك سبيل المؤمنين ونحن نقول إن الوعيد يتعلق بذلك
قيل لو لم يحرم كل واحد منهما على الانفراد لما علق الوعيد عليهما على الاجتماع فلما علق الوعيد عليهما دل على تحريم كل واحد منهما على الانفراد
ألا ترى أنه لما قال ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما رجع هذا الوعيد إلى الأمرين جميعا القتل والزنا وكل واحد منهما منفرد عن الآخر فكذلك هاهنا
ولأنه لا خلاف أن الوعيد يتعلق بمشاقة الرسول على الانفراد وإن لم يكن هناك مؤمن فدل على أن الوعيد معلق بترك سبيل المؤمنين على الانفراد
فإن قيل المراد به ترك اتباع المؤمنين في مشاقة الرسول فيكون الوعيد على مشاقة الرسول عليه السلام فقط
قيل هذا تخصيص من غير دليل فإنه لم يقل ويتبع غير سبيل المؤمنين في أمر دون أمر فوجب أن يحمل على العموم
ولأن هذا يؤدي إلى حمل اللفظ على التكرار وذلك أن استحقاق الوعيد بمشاقة الرسول قد عرف من قوله ومن يشاقق الرسول فيجب أن يكون الوعيد في ترك اتباع المؤمنين يتعلق بمعنى آخر
فإن قيل الوعيد إنما لحقه بترك سبيل المؤمنين بعدما علموا الدليل
ألا ترى أنه قال من بعد ما تبين له الهدى وبعد قيام الدليل وبيان الهدى يستحق الوعيد على ترك سبيلهم
والجواب أنه لا يجوز أن يكون المراد ترك سبيلهم فيما أقاموا عليه الدليل لأنه إذا قام الدليل على الحكم ثبت الوعيد بمخالفته وإن لم يكن ترك سبيل المؤمنين

وقولهم إنه شرط فيه تبين الهدى غلط لأن ذلك إنما شرط في مشاقة النبي عليه السلام واستحقاق الوعيد بمشاقته موقوف على تبين الهدى وقيام الدليل على ثبوته وأما في ترك سبيل المؤمنين فقد أطلق الوعيد فوجب أن يتعلق ذلك بمخالفتهم بكل حال
قالوا ولأن هذا استدلال بدليل الخطاب وذلك أنه لما علق الوعيد على اتباع غير سبيلهم وحرمه استدللتم من ذلك على أن اتباعهم واجب ومثل هذه المسألة لا يجوز إثباتها بدليل الخطاب وهي من مسائل الاجتهاد
والجواب هو أنا نتعلق من الآية بالنطق لا بالدليل وذلك أنه ألحق الوعيد بمن يتبع غير سبيلهم وعند المخالف أنه لا يلحق الوعيد باتباع غير سبيلهم فكان مذهبهم مخالفا لنطق الآية
وجواب آخر وهو أنا استدللنا من الآية بتقسيم عقلي لا محيد عنه ولا محيص منه وذلك أنه ليس هاهنا أكثر من سبيل المؤمنين وغير سبيلهم فلما تواعد على اتباع غير سبيلهم تعين وجوب اتباع سبيلهم
والذي يدل عليه هو أنه لو نص على حكم واحد في القسمين لم يجز فإنه لا يجوز أن يقال ومن ترك سبيل المؤمنين وغير سبيلهم فهو في النار إذ ليس ها هنا إلا سبيلهم وغير سبيلهم ولو نص على دليل الخطاب في الشيء وضده على حكم واحد بأن قال في سائمة الغنم ومعلوفتها الزكاة جاز فدل على ما قلناه
فإن قيل المراد بالآية ترك سبيل المؤمنين في ما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان يدل عليه أنه لو قال للقائل اتبع سبيل أهل الخير والدين كان معناه اتباعهم فيما صاروا به من أهل الخير والدين فصار تقدير الآية ويتبع سبيل الكفار وهذا مستحق الوعيد عليه
قيل هذا لا يصح بل هي عامة في كل ما هو سبيل لهم
ألا ترى أنه لو قال افعل أفعال العلماء اقتضى ذلك اتباعهم في جميع أفعالهم مما صاروا به علماء ومما لم يصيروا به من أفعالهم وعاداتهم

ولأن تحريم الكفر وترك اتباع المؤمنين فيه قد علم من مشاقة الرسول فإن من شاقه كان كافرا مستحقا للعقوبة فيجب أن يكون محمولا على ترك اتباعهم في غير الإيمان
فإن قيل الآية تقتضي سبيلا واحدا وفي سبيل المؤمنين ما يحرم تركه
قلنا هذا جهل من قائله فإن السبيل معرف بالإضافة فاقتضى جميع سبيلهم وإنما الذي يقتضي واحدا هو السبيل المنكر فأما إذا عرفه بالإضافة كان بمنزلة المعرف بالألف واللام
فإن قيل السبيل حقيقة في الطريق فأما في الأقوال فمجاز فلا يصح الاحتجاج به في أحكام الحوادث
قيل السبيل حقيقة فيهما
ألا ترى أن الله تعالى قال قل هذه سبيلي والمراد به القرآن وقال ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والمراد به الدين
ولأنه لو كان مجازا لكان في معنى الحقيقة لكثرة الاستعمال فيه وكثرة الاستعمال تجعل اللفظ كالحقيقة في الاستعمال وربما صار المجاز أحق به كالغائط اسم للمكان المنخفض ثم لكثرة الاستعمال في النجو صار كالحقيقة حتى إذا ورد اللفظ به حمل على النجو دون المكان
قالوا إنما علق الوعيد على ترك سبيل المؤمنين ونحن لا نعلم أن أهل الإجماع مؤمنون فلا يلزمنا حكم الوعيد على مخالفتهم
قلنا المؤمن في حكم الشرع هو الذي التزم أحكام الشرع وآمن بها وهذا معروف معلوم فوجب أن يلحق الوعيد بترك اتباعه

وجواب آخر وهو أنه إذا اجتمع أهل القبلة من أهل العصر على حكم قطعنا بأن فيهم مؤمن فيجب أن يلحق الوعيد بمخالفتهم لأنه ترك سبيل المؤمنين قطعا ويقينا
فإن قيل عندنا إذا ترك سبيل المؤمنين قطعا ألحقنا به الوعيد فإن في جملتهم الإمام المعصوم فيلحق الوعيد بمخالفته
قلنا الظاهر يقتضي استحقاق الوعيد بمخالفة المؤمنين وذلك يقتضي الجماعة وعندهم إذا خالف أهل القبلة كلهم استحق الوعيد على ترك سبيل مؤمن واحد دون الباقين
قالوا هذا يقتضي أن يترك سبيل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة فيستحق الوعيد وهذا لا يعتبر في الإجماع
والجواب أن المراد بالآية بعض المؤمنين يدل عليه هو أنه يقتضي تابعا ومتبوعا ولو كان المراد به جميع المؤمنين لم يكن في المؤمنين تابع
ولأنه لو كان المراد به جميع المؤمنين لتأخر التكليف إلى يوم القيامة فيجب أن يكون المراد به بعض المؤمنين
ولأن الآية تقتضي ترك اتباع من هو مؤمن في الحقيقة والذي هو مؤمن في الحقيقة هم أهل العصر فأما من مات منهم أو لم يخلق منهم فلا يطلق عليه اسم المؤمنين فدل على أن المراد به البعض
فإن قيل لو كان المراد به من هو مؤمن في الحقيقة وجب أن يعتبر اتفاق العلماء والعامة
قلنا قد بينا أنه جعل البعض تابعا والبعض متبوعا فيجب أن يكون المراد به علماء العصر
ومما يدل على أن الإجماع حجة قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فيجب أن يكون ما يأمرون به معروفا

وما ينهون عنه منكرا وعند المخالفين أنهم يأمرون بما ليس بمعروف وينهون عما ليس بمنكر
وأيضا قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس والوسط العدل قال الشاعر ... هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم ...

فعدلهم وجعلهم شهداء فدل على أن قبول قولهم واجب إذ لا يجوز أن يعدلهم ويجعلهم شهداء على الناس ثم لا يكون قولهم حجة عليهم
فإن قيل إثبات العدالة لهم لا يدل على أنه لا يجوز عليهم الخطأ كما لا يدل على انه لا يجوز عليهم الصغائر
قلنا لم عد لهم وجعلهم شهداء دل على انى قولهم مقبول عليهم كما أنه لما عدل الشاهد في الحقوق وجعله شاهدا على المدعى عليه كان قوله حجة عليهم وإن لم يقتض تعديله رفع الصغائر عنه
فإن قيل المراد بها شهادة هذه الأمة على سائر الأمم يوم القيامة
قيل هذه عامة في الجميع فنحملها عليه
ويدل عليه من السنة ما روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تجتمع أمتي على ضلالة
وروى لا تجتمع أمتي على الخطأ
وقال لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ

وقال ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح
وقال من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية
وقال من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
وروى أنه عليه السلام نهى عن الشذوذ وقال من شذ شذ في النار
وقال عليكم بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية من الغنم
وقال عليكم بالسواد الأعظم
وقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي
وهذا كله يدل على صحة الإجماع ونفي الخطأ عنه
فإن قيل هذه أحاديث آحاد فلا يصح إثبات الإجماع بها وهو من مسائل الأصول
قيل هذا تواتر من طريق المعنى فإن ألفاظها وإن اختلفت فقد

اتفق الجميع على إيجاب المصير إلى الإجماع وعصمة الأمة من الخطأ وصار ذلك موجبا للعلم وبهذا الطريق علمنا شجاعة علي عليه السلام وسخاء حاتم وفصاحة الجاحظ فإن الأخبار قد كثرت عنهم في الدلالة على هذه المعاني فأوجب لنا العلم بتلك كذلك هاهنا
ولأنه لا يجوز أن تكون هذه الأخبار على كثرتها كلها كذبا كما أن الخلق العظيم إذا أخبروا عن اعتقاد الإسلام لم يجز أن يكونوا كلهم كفارا قد أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام بل يجب أن يكون فيهم من يصدق في خبره وكذلك هاهنا يجب أن يكون في جماعة هذه الأخبار الكثيرة خبر واحد صحيح وإذا ثبت صحة خبر منها وجب المصير إليه والعمل به
واحتجوا بقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ولم يأمر بالرد إلى الإجماع وعندكم يرد إلى إجماع من تقدم
قلنا الآية دلالة لنا لأنه شرط في الرد إلى الكتاب والسنة وجود الشارع فدل على أن دليل الحكم عند عدم الشارع هو الإجماع إذ لا بد للحكم من دلالة
ولأن الرجوع إلى الإجماع رد إلى الكتاب والسنة وقد بيناه
واحتجوا بما روي أن النبي عليه السلام لما بعث معاذا إلى اليمن قال له بم تقضي قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولم يذكر الإجماع
والجواب هو أن هذا كان في زمان النبي عليه السلام ولا إجماع في زمانه فلهذا لم يذكره

واحتجوا بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وهذا يدل على جواز الضلال عليهم
والجواب أنا لا نعرف هذا الخبر فيجب أن يثبتوه ليعمل به
ولأنه يحتمل أن يكون خطابا لقوم بأعيانهم ويجوز الخطأ والضلالة عليهم
واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه و سلم لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة
والجواب أنا نحمله على ما ذكرناه
واحتجوا بأنه اتفاق أمة فلم يكن حجة دليله اتفاق الأمم السابقة
والجواب أن من أصحابنا من لم يسلم هذا الأصل وقال إجماع الأمة وسائر الأمم السالفة سواء وهو اختيار أبي إسحق الإسفراييني رحمه الله
وإن سلمنا على قول غيره فالفرق بينهما هو أن عصمة الأمم طريقها الشرع والشرع لم يرد بعصمة سائر الأمم وورد الشرع بعصمة هذه الأمة ونفي الخطأ عنها على ما بيناه
ولأن النسخ في سائر الأديان يجوز فلم يحتج فيها إلى عصمة ولا يجوز ذلك في شريعتنا فإنها مؤبدة فعصمت أمتها ليرجع إليها عند الخطأ والنسيان وليحفظ به الشرع
قالوا ولأن الإجماع لا يتصور انعقاده لأنه لا يمكن ضبط أقاويل العلماء على تباعد البلاد وكثرة العلماء فإذا لم يتصور لم يجز الرجوع إليه

قلنا يمكن تصور ذلك بسماع أقاويل الحاضرين والنقل عن الغائبين كما يعرف اتفاق المسلمين على الصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك في سائر البلاد على كثرة المسلمين وتباعد البلاد
ولأن الاعتبار في الإجماع بعلماء العصر وأهل الاجتهاد وهم كالأعلام في الاشتهار فيمكن معرفة أقاويلهم
ولأن عندهم إجماع الصحابة ليس بحجة وقد كان عددهم محصورا ومواضعهم معروفة وضبط أقاويلهم ممكن فدل على بطلان ما قالوه
قالوا ولأن ما وجب الحكم فيه بالدليل لم يجز الرجوع فيه إلى مجرد قول أهل العصر كالتوحيد
قلنا التوحيد لم يثبت عن أصل قبله والإجماع عرف ثبوته بأصل قبله فشابه النبي عليه السلام
مسألة 2 إجماع أهل كل عصر حجة
وقال داود إجماع غير الصحابة ليس بحجة
لنا قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ولم يفصل
وأيضا قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الضلالة ولم يفصل
ولأنه اتفاق علماء العصر على حكم النازلة فكان حجة قياسا على اتفاق الصحابة
ولأنه لما كان العصر الأول والثاني فيما ينقل من الأخبار سواء وجب أن يكونوا فيما يتفقون عليه من الأحكام سواء

واحتج المخالف بقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فخص الصحابة بذلك
والجواب أنا لا نسلم أن ذلك خطاب لهم خاصة بل هو خطاب لسائر المؤمنين كما كان قوله عز و جل وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وسائر ما ورد به الشرع من هذا الجنس خطابا لجميع المؤمنين
ويدل عليه هو أنه لا خلاف أن من لم يكن بلغ من الصحابة عند هذا الخطاب إذا بلغ تناوله الخطاب وإن لم يكن موجودا عند وروده
واحتج أيضا بأن عصمة الأمة طريقها الشرع لأن العقل يجوز الخطأ عليهم وقد ورد الشرع بعصمة الصحابة فبقى من عداها على الأصل
والجواب هو أن الدليل الذي اقتضى عصمة الصحابة اقتضى عصمة علماء سائر الأعصار وقد بيناه
واحتج أيضا بأن إجماع غير الصحابة لا يتصور لكثرة العلماء وتباعد هم وتعذر ضبط أقاويل الجميع فيجب أن لا يكون ذلك حجة
والجواب ما بيناه في المسألة قبلها
مسألة 3 إذا قالت الصحابة قولا وخالفهم واحد أو اثنان لم يكن ذلك إجماعا
وقال محمد بن جرير هو إجماع

لنا قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وقد تنازعوا هاهنا فيجب الرد إلى الكتاب والسنة
ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خالف سائر الصحابة في قتال المرتدين فأقروه على ذلك ولم يقولوا أن قولنا حجة عليك بل ناظروه واستدلوا عليه بالسنة
وعبد الله بن العباس خالف الصحابة في خمس مسائل من الفرائض تفرد بها
وكذلك عبد الله بن مسعود ولم ينكر عليه بقية الصحابة فدل على ما قلناه
ولأنه لم يحصل اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة فلم يكن إجماعا دليله إذا خالف جماعة كبيرة
ولأن الإجماع طريقه الشرع والشرع ورد بعصمة جميع الأمة دون معظمها فوجب أن يجوز الخطأ عليهم
ولأن من قال إن خلاف الواحد والاثنين لا يعتد به لا ينفصل عمن قال خلاف الخمسة والعشرة لا يعتد به حتى يبلغ حد المساواة وإذا لم ينفصل بعضها عن بعض بطل الجميع
فإن قيل فيجب على مقتضى هذا الدليل أن لا يقدم الخبر المتواتر على خبر الواحد ويقال إن خبر الواحد والاثنين وما زاد إلى أن يبلغ حد التواتر كلها واحد لا ينفصل بعضها عن بعض ولما أجمعنا على فساد هذا دل على بطلان ما ذكروه
قيل فيما ألزمتم معنى يوجب الفصل بين العددين وهو أن ما بلغ حد التواتر يقع العلم عند سماعه ضرورة وأما دونه لا يقع العلم عند سماعه ضرورة وليس كذلك فيما اختلفنا فيه لأن جواز الخطأ على كل واحد من هذه الأعداد سواء فكان حكم الجميع واحدا

واحتجوا بقوله عليه السلام الاثنان فما فوقهما جماعة وبقوله عليه السلام الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد
والجواب أن الخبر الأول إنما ورد في جماعة الصلاة ويدل عليه أن أحدا لا يقول إن إجماع الاثنين حجة
والخبر الثاني ورد في الأسفار بدليل أن أحدا كان لا يقول إن إجماع الاثنين حجة فدل على أن المراد به ما قلناه
واحتج أيضا بقوله عليه السلام عليكم بالجماعة وعليكم بالسواد الأعظم
والجواب هو أن المراد بذلك الأمة كلها فنحمله عليه بدليل ما ذكرناه
واحتجوا أيضا بأن الناس عولوا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الإجماع وقد خالفوه في ذلك علي وسعد ولم يلتفت إلى خلافهما
والجواب أنا لا نسلم أن عليا خالف في ذلك وأنكر ما قيل عنه إنه لم يحضر في الابتداء وليس من شرط الإجماع الحضور بل يكفي أن يسكت فيدل على الرضا
وأما سعد فإنه ما خالف ولكنه كان ظن أنه يعقد له الأمر فلما روى أبو

بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الأئمة من قريش سكت فأما أن يكون قد خالف في ذلك فلا
واحتج بأن خبر الجماعة مقدم على خبر الواحد فكذلك قول الجماعة مقدم على قول الواحد
والجواب أنه إن أردتم في ذلك الخبر المتواتر فذلك يوجب العلم ضرورة فكان مقدما على خبر الواحد وهاهنا الخطأ يجوز على كلا الفرقين على وجه واحد فلا يجوز تقديم أحدهما على الآخر
وإن أرادوا به أنه تعارض خبران من أخبار الآحاد فمن أصحابنا من لم يرجح لكثرة العدد وإن سلمنا لم يمنع أن يرجح الخبر بما لا ترجح به أقاويل المجتهدين
ألا ترى أن رواية الاثنين والأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يقدم وقول الاثنين والأقرب لا يقدم في الاجتهاد
ولأن الأخبار طريقها الظن فما كان أقوى في الظن كان أولى وليس كذلك هاهنا فإن طريق الإجماع عصمة الأمة عن الخطأ والخطأ يجوز على الفريقين فاستويا يدلك عليه إن رواية الخمسة ورواية العشرة إذا تعارضتا قدمت رواية العشرة على الخمسة وفي الإجماع لا يقدم قول العشرة على الخمسة فافترقا
مسألة 4 إجماع أهل المدينة ليس بحجة
وروى عن مالك رحمه الله أنه قال إجماعهم حجة
لنا جميع ما ذكرناه في المسألة قبلها
ولأن الاعتبار بالعلم ومعرفة الأصول وقد استوى فيه أهل المدينة وغيرهم
ولأنه أحد الحرمين فلم يقدم إجماع أهله كإجماع أهل مكة

وأيضا هو أن هذا يؤدي إلى أمر محال وهو أن يكون قولهم حجة ما داموا بالمدينة فإذا خرجوا منها لم يكن حجة وهذا محال لأن من كان قوله حجة في مكان كان في سائر الأمكنة حجة كالنبي صلى الله عليه و سلم
واحتجوا بقوله عليه السلام المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والخطأ من الخبث فكان منفيا عن أهل المدينة
وقوله عليه السلام إن الإسلام يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها
وقوله عليه السلام لا يكايد أحد أهل المدينة إلا أنماع كما ينماع الملح في الماء
والجواب أن هذه الأخبار آحاد فلا يثبت بها أصل من أصول الدين
على أن قوله المدينة تنفي خبثها عام في الخطأ وغيره ونحمله على غير الخطأ
على أن قوله عليه السلام إن الإسلام يأرز إلى المدينة يقتضي جميع الإسلام وإذا حصل فيها جميع الإسلام صار إجماع أهلها حجة
وقوله عليه السلام لا يكايد أحد أهل المدينة الخبر فلا حجة فيه لأن المكايدة والمغايرة لا تستعمل في الإجماع والاختلاف فلا يدخل في الخبر ما نحن فيه
واحتجوا بأن المدينة مهاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم وموضع القبر والوحي ومستقر الإسلام ومجمع الصحابة رضي الله عنهم فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها

والجواب هو أن هذه دعوى لأنه يجوز مع وجود هذه المعاني أن يخرج الحق من أهلها
وعلى أن هذا يبطل بمكة فإنها موضع المناسك ومولد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومبعثه ومولد إسماعيل ومنزل إبراهيم عليه السلام ولا يدل ذلك على أن قول أهلها حجة
واحتجوا بأن رواية أهل المدينة تقدم على رواية غيرهم فكذلك قولهم يقدم على قول غيرهم
قلنا هذا أيضا دعوى لا دليل عليها ولا علة تجمع بينهما
ثم الترجيح في الأخبار لا يوجب الترجيح في أقوال المجتهدين
ألا ترى أن رواية الجماعة تقدم على رواية الواحد والجميع في الاجتهاد سواء
ولأن الأخبار تدرك بحاسة السمع فمن قرب منهم وشاهده كان أضبط وأهل المدينة أقرب منهم لما سمعوه وشاهدوه وأضبط والاجتهاد نظر القلب فلا يقدم فيه الأقرب ولهذا قال عليه السلام فرب حامل فقه الى من هو أفقه منه فلا يقدم فيه قول الأقرب
مسألة 5 اتفاق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس بحجة
وقالت الرافضة هو حجة
لنا قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين فعلق الوعيد على ترك سبيل المؤمنين فدل على أنه لا يتعلق ذلك بترك سبيل بعضهم
وأيضا قوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وهذا يدل على أنه إذا ترك عليا عليه السلام وقلد غيره يكون مهتديا
فإن قيل هذا خبر واحد ونحن لا نقول به
قلنا نحن نبني على أصلنا فإن خبر الواحد حجة وإذا ثبت ذلك صح استدلالنا به
ويدل عليه هو أن عليا خالفته الصحابة في مسائل مشهورة لا تحصى كثيرة ولم يقل لأحد منهم إن قولي عليكم حجة فدل على ما ذكرناه

واحتجوا بقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والخطأ من الرجس فيجب أن يكونوا مطهرين منه
والجواب وهو أن أهل البيت يتناولون كل من في البيت من الأزواج ولا يقول أحد أن اتفاق الأزواج حجة فثبت أنه أراد نفي العار والقباحة عنهم دون الخطأ في الاجتهاد
فإن قيل المراد بأهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين
والدليل عليه ما روى أنه لما نزلت هذه الآية أدار النبي صلى الله عليه و سلم كساء على هؤلاء وقال هؤلاء أهل بيتي
والجواب هو أن هذا من أخبار الآحاد وعندهم لا يقبل كيف وهو مخالف لظاهر القرآن وذلك أن الله تعالى قال في أول الآية يا نساء النبي ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والظاهر أن المراد به من تقدم ذكره من الأزواج
ولأنه لو صح ما ذكروه لكان تأويل الآية ما قدمناه من نفي القبح عنهم
واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لم تضلوا كتاب الله وعترتي

والجواب ما بيناه أن هذا من أخبار الآحاد فلا يحتج به في مسائل الأصول
واحتجوا أيضا بأن أهل البيت اختصهم بأنهم من أهل بيت الرسالة ومعدن النبوة فاختصوا بالعصمة
قلنا ليس فيما ذكرتم ما يوجب لهم العصمة فبكم حاجة إلى إقامة الدليل على ذلك
ثم يبطل هذا بأزواج النبي صلى الله عليه و سلم فإنهن اختصصن بما ذكروه واختصصن بتضعيف الثواب على الطاعة وتضعيف العقوبة على المعاصي وسمعن من العلم ما لم يسمع غيرهن ولا يوجب ذلك عصمتهن في الأحكام فبطل ما قالوه
مسألة 6 لا يعتبر في صحة الإجماع اتفاق العامة
وقال بعض المتكلمين اتفاق العامة مع العلماء شرط في صحة الإجماع وهو قول أبي بكر الأشعري
وقال بعضهم يعتبر اتفاق الأصوليين
لنا هو أنه ليس من أهل الاجتهاد فلا يعتبر رضاه في صحة الإجماع كالصبي والمجنون
ولأنه لا يجوز تقليده في الحوادث فلا يعتد بخلافه دليله الصبي والمجنون
ومن قال إنه يعتبر اتفاق الأصوليين فالدليل عليه هو أن الأصوليين ليس هم من أهل الاجتهاد لأنهم لا يعرفون أحكام الفقه ومعانيها فهم كالعامة
واحتجوا بقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على خطأ عن جميع الأمة والعامة من الأئمة
والجواب هو أنه عام فنخصه بما خصصنا به الصبي والمجنون
مسألة 7 يصح انعقاد الإجماع عن القياس
وقال ابن جرير وداود لا يجوز
فأما داود فقد بنى ذلك على أصله وأن القياس ليس بدليل والكلام معه يجيء إن شاء الله تعالى
وأما ابن جرير فالدليل على فساد قوله هو أن القياس علم على الأحكام فجاز أن ينعقد الإجماع من جهته كالكتاب والسنة
فإن قيل الكتاب والسنة طريقهما السمع فجاز اتفاق الجميع عليه والقياس طريقه الرأي ورأي الجماعة لا يتفق على معنى واحد فلم ينعقد الإجماع من جهته
قيل القياس وإن كان طريقه الرأي إلا أن على معانيه أمارات تدل عليه وما كان عليه أمارات يجوز اتفاق الكل عليه وإن كان طريقه الرأي
ألا ترى أن طلب القبلة طريقه الرأي والاجتهاد ثم يجوز اتفاق الجميع عليها لما كانت عليها أمارات تدل عليها كذلك هاهنا

ويدل عليه أن الناس اجمعوا على مسائل من جهة القياس فيمن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قتال مانعي الزكاة قياسا على الصلاة ومثلا أن أبا بكر رضي الله عنه قال والله لا فرقت بين ما جمع الله قال تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
وأجمعوا على إمامة أبي بكر قياسا على تقديم النبي عليه السلام إياه في الصلاة ألا ترى أن عمر قال إن النبي صلى الله عليه و سلم قدمه في الصلاة التي هي عماد الدين فارضوه لدنياكم ما رضيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لدينكم
وأجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه
وأجمعوا على تقويم الأمة في العتق قياسا على العبد
وأجمعوا أيضا على إراقة الشيرج إذا وقعت فيه الفأرة وكان مائعا وإلقائها وما حولها إذا كان جامدا قياسا على السمن وغير ذلك مما لا تحصى كثرته
فإن قيل يجوز أن يكونوا وجدوا فيه نصا
قلنا فيما رويناه عن الصحابة لم يحيلوا بالحكم إلا على القياس وقد بيناه ولو كان فيه نص لظهر وعرف ولما لم يظهر دل على أنه لا نص فيه
واحتجوا بأنه ما من عصر إلا وفيه قوم من نفاة القياس فلا يتصور إجماعهم من جهة القياس
قلنا نحن لا نسلم ذلك فإنه لم يكن في عصر الصحابة من ينفي القياس وإنما حدث هذا الخلاف بعد ذلك
ولأن هذا يبطل بأخبار الآحاد فإن الخلاف في ردها ظاهر والمخالف فيها يرجع إلى شبهة يرويها عن السلف ثم ينعقد الإجماع من جهتها
واحتجوا بأن ما طريقه الظن لا يجوز أن تتفق الخواطر المختلفة والآراء المشتبهة عليه كما لا يجوز أن يتفق الجميع على شهوة واحدة وغرض واحد

والجواب هو أن هذا يبطل بخبر الواحد فإن تعديل الراوي وتزكيته طريقه الظن ثم يجوز اتفاق الجميع عليه
ولأنه إذا جاز اتفاق الجم الغفير والعدد الكثير من جهة شبهة وهم اليهود والنصارى على كثرتهم على دين استحسنوه فلأن يجوز اتفاق الجماعة من جهة الأمارة أولى
ويفارق هذا ما قالوه من الأغراض والشهوة لأنه ليس هناك ما يجمعهم على واحد لأن طباع الناس مختلفة وليس كذلك هاهنا فإن على الحكم أمارة تجمعهم عليه ودلالة تدلهم إليه فهو بمنزلة جواز اتفاقهم على حضور الأعياد والجمع وتجهيز الجيوش في وقت بعينه إلى جهة بعينها
قالوا القياس تغمض طريقه وتدق فلا يجوز أن يتفق الكل على إدراكه
قيل إدراك الحكم من جهة القياس أسهل من إدراكه من جهة النص لأن المعول فيه على ما يقتضيه الفهم أقرب إلى الإدراك مما يقتضيه النص
ثم هذا يبطل بالأخبار واستعمالها وترتيب بعضها على بعض فإنها تغمض وتدق ثم يجوز اتفاق الإجماع من جهتها والله الموفق للصواب
مسألة 8 انقراض العصر ليس بشرط في صحة الإجماع في أصح الوجوه
ومن اصحابنا من قال هو شرط
ومن أصحابنا من قال إن كان قولا من الجميع لم يشترط فيه انقراض العصر وإن كان قولا من بعضهم وسكوتا من الباقين اشترط فيه انقراض العصر
فوجه الأول قوله تعالى ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم ولم يفرق بين أن ينقرض العصر عليه وبين أن لا ينقرض

وأيضا قوله عليه السلام أمتي لا تجتمع على الخطأ ولم يفصل
ولأنه حصل اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة وكان ذلك جهة دليله إذا انقرض العصر عليه
ويدل عليه هو أن اعتبار انقراض العصر عليه يؤدي إلى إبطال الإجماع لأن العصر الأول لا ينقرض حتى يلحق به قوم من أهل العصر الثاني وهم من أهل الاجتهاد فيعتبر رضاهم فيما أجمعوا عليه ثم لا ينقرض هؤلاء حتى يلحق بهم آخرون من العصر الثالث وعلى هذا أبدا يتسلسل ولا يستقر الإجماع في مسألتنا
ولأن كل من جعل قوله حجة لم يشترط موته في كونه حجة دليله النبي عليه السلام
واحتج من قال بالوجه الثاني بقوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس فلو لم يشترط فيه انقراض العصر لكانوا شهداء على أنفسهم وهذا خلاف الظاهر
والجواب أن هذا يقتضي أن يكونوا شهداء على أنفسهم وعلى غيرهم لأنهم من الناس كما أن غيرهم من الناس
ولأنه قد قيل إن المراد بهذه الآية شهادة هذه الأمة على سائر الأمم يوم القيامة فلا تكون فيها حجة
واحتج أيضا بما روي عن النبي عليه السلام قال لا يخلو عصر من قائم لله بحجة فدل على أن بعض العصر يخلو عن ذلك
والجواب هو أن لا نعرف هذا الحديث فيجب أن يثبتوه ليعمل به
وجواب آخر وهو أنا نقول بنطقه وأن العصر لا يخلو من قائم لله تعالى بحجة ويترك دليله ببعض ما ذكرناه فإنه أقوى منه

واحتج أيضا بأن الصحابة رضي الله عنهم رجعت عن أقاويلها بعد اتفاقهم
ألا ترى أن عليا عليه السلام قال اجتمع رأبي ورأيي الجماعة أن أمهات الأولاد لا يبعن ثم إني رأيت أن يبعن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك
والجواب أن الصحيح من هذا الخبر أنه قال كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما أن لا يبعن أمهات الأولاد وهذا ليس بإجماع
قالوا ولأن من جعل في قوله حجة لم يستقر إلا بموته كالنبي عليه السلام
قلنا جعلنا قول النبي عليه السلام حجة لنا على ما بيناه وإنما لم يستقر إلا بموته لأنه إذا نسخ ما قاله لم يؤد إلى الخطأ فيما قاله وليس كذلك هاهنا فإن رجوع المجمعين عما قالوه يؤدي إلى الخطأ فيما أجمعوا عليه وذلك لا يجوز
ومن قال بالوجه الثالث احتج بأن المجتهد قد سكت لأنه في رواية النظر والفكر وإذا أظهر الخلاف علمنا أنه لم يكن إجماعا وإذا مات قبل إظهار الخلاف علمنا أنه راض بقولهم فانعقد الإجماع
قلنا فيجب على هذا إذا مات في الحال أن يجوز لغيره الرجوع عما أفتى به مع الجهالة لأنا لا نعلم حصول الإجماع ولما ثبت أنه لا يجوز لأحد الرجوع عما أفتى به مع الجماعة دل على أن الإجماع قد حصل بسكوته فصار بمنزلة ما لو أفتى معه
مسألة 9 إذا اختلفت الصحابة في الحادثة على قولين ثم أجمع التابعون على أحدهما لم تصر المسألة إجماعا في قول عامة أصحابنا
وقال أبو علي بن خيران وأبو بكر القفال يصير إجماعا ويسقط القول الآخر وهو قول المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة
لنا قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله ولم يفرق بين أن يجمع التابعون بعد ذلك أو لم يجمعوا
وقوله صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولم يفرق

ولأن اختلاف الصحابة في المسألة على قولين إجماع منهم على تسويغ الاجتهاد وجواز تقليد كل واحد من الفريقين وإقراره عليه فلم يجز للتابعين إبطال هذا الإجماع كما لو أجمعوا في الحادثة على قول واحد ولا يلزم على هذا إذا اختلف الصحابة في الحادثة على قولين ثم أجمعوا على أحد القولين
فأما إذا قلنا إن انقراض العصر شرط في صحة الإجماع لم نسلم أن هناك إجماعا
وإن قلنا انقراض العصر ليس بشرط لم نسلم جواز الاتفاق على أحد القولين بعد الاختلاف
فإن قيل لا يمتنع أن يتفقوا على تسويغ الاجتهاد بشرط أن لا يظهر إجماع فإذا ظهر إجماع سقط ذلك الاتفاق كما أنهم اتفقوا على أن فرض العادم للماء التيمم ما لم يجد الماء فإذا وجد الماء زال ذلك الاتفاق
قلنا هذا لا يشبه ما ذكرناه وذلك أن إجماعهم فيما ذكروه مشروط بعدم الماء فلهذا زال بوجوده وليس كذلك هاهنا فإنهم أجمعوا على تسويغ النظر على الإطلاق من غير شرط فهو بمنزلة إجماعهم على قول واحد فلا يجوز أن يزول ذلك بإجماعهم بعده ولا بخلاف بعده
ولأن زوال الإجماع برؤية الماء لا يوجب بطلان ما أجمعوا عليه والخطأ فيما اتفقوا عليه وفي مسألتنا إجماعهم على أحد القولين يوجب بطلان ما أجمعوا عليه والخطأ على أهل الإجماع لا يجوز فافترقا
وأيضا هو أنه لا خلاف أن الإجماع إذا حصل واستقر لم يتغير باختلاف كذلك إذا حصل الخلاف واستقر وجب أن لا يتغير بالإجماع
فإن قيل إنما لم يجز أن يتغير الإجماع باختلاف لأنه يؤدي إلى إبطال الإجماع

قلنا وفي مسألتنا متى جوزنا أن يتغير ما اختلفوا فيه بالإجماع أدى إلى إبطال الإجماع فإنهم أجمعوا على تسويغ الاجتهاد وجواز تقليد الفريقين وهذا الإجماع يبطل ما أجمعوا عليه وذلك لا يجوز
ولأن كل واحد من الفريقين كالأحياء الباقين في كل عصر ولهذا تحفظ أقوالهم وتنقل ويحتج لهم وعليهم فإذا كانوا بمنزلة الأحياء وجب أن لا ينعقد الإجماع مع اختلافهم
فإن قيل لو كانوا كالأحياء لوجب أن لا ينعقد الإجماع بعد موتهم في شيء من الحوادث لأنه لا تعرف فيه أقوالهم ولوجب أن يجوز تقليدهم كما يجوز تقليد الأحياء
قيل هم كالأحياء فيما أفتوا به فأما فيما لم يفتوا به وحدث بعدهم فلا وهذا كما نقول أنهم أجمعوا على قول واحد ثم ماتوا عمل بأقوالهم بعد الموت ووجب المصير إليه كما لو كانوا أحياء فأفتوا بذلك لم يجعلوا كالأحياء فيما يحدث بعدهم من الحوادث فكذلك فيما اختلفوا فيه مثله
ولأن هذا الحكم كان يسوغ فيه الاجتهاد ولا يجوز نقض الحكم على من حكم به من العصر الأول فإذا صح الإجماع بعد ذلك صار مما لا يسوغ فيه الاجتهاد ووجب نقض الحكم على من حكم به بخلاف الإجماع وهذا نقض بعد انقطاع الوحي فذلك لا يجوز
ولأنه اختلاف حصل من الصحابة رضي الله عنهم فلا يزول ذلك بإجماع التابعين كما لو اختلفت الصحابة على قولين وأجمع التابعون على قول ثالث
ولأنه لو كان إجماع التابعين على أحد القولين يسقط ما تقدم من الخلاف

لوجب أن ينتقض كل حكم حكم به في عهد الصحابة رضي الله عنهم بخلافه لأنهم مقطوع ببطلانه فإن ارتكبوا هذا وقالوا إنه ينتقض فقد أبطلوا وذلك أن الصحابة أجمعت على صحة ذلك ونفوذه وكل حكم أجمعت الصحابة عليه لم يجز للتابعين الإجماع على خلافه كسائر الأحكام التي أجمعوا عليها
وأيضا فإن هذا يؤدي إلى أن يكون قد ذهب أهل العصر الأول إلى ما نوجب في هذا الحكم من القطع وهذا لا يجوز
واحتجوا بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ولم يفصل بين أن يتقدم إجماعهم خلاف أو لا يتقدم
والجواب هو أن هذا مشترك الدلالة وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على جواز الاجتهاد في الحادثة وجواز تقليد كل واحد من الفريقين فمن قطع الاجتهاد فيه فقد ترك سبيل المؤمنين وكان الوعيد لاحقا به
ثم هي عامة فنخصها بما ذكرناه
واحتجوا بقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الضلالة
والجواب عنه ما مضى على الآية
قالوا ولأنه اتفاق من علماء العصر على حكم الحادثة فوجب أن يكون حجة مقطوعا بها
دليله إذا لم يتقدم خلاف
قلنا لا نجوز اعتبار ما يتقدمه الخلاف بما لا يتقدمه الخلاف
ألا ترى أن الاختلاف فيما لم يتقدمه إجماع جائز ولا يجوز ذلك فيما يتقدمه

إجماع فكذلك لا يمتنع أن يجوز الإجماع فيما لم يتقدمه خلاف ولا يجوز ذلك فيما تقدمه خلاف
ولأن المعنى في الإجماع الذي لم يتقدمه خلاف أنه اتفاق لا يؤدي إلى إبطال إجماع قبله وفي مسألتنا اتفاق العصر الثاني يؤدي إلى إبطال الإجماع قبله فصار كما لو أجمع الصحابة على قول ثم أجمع التابعون على غيره
قالوا ولأنه إجماع تعقب خلافا فأسقط حكم الخلاف كما لو اختلفت الصحابة ثم أجمعوا وذلك مثل اختلافهم في قتال مانعي الزكاة ثم إجماعهم عليه
والجواب أن على قول من لم يعتبر انقراض العصر في صحة الإجماع لا نسلم الأصل فإنهم إذا اختلفوا لم يجز أن يجمعوا على أحد القولين
وأما قصة مانعي الزكاة فلم يحصل فيه اختلاف في الحقيقة وإنما كانوا في طلب الدليل ومهلة النظر ولم ينقل بينهم فيه خلاف
ومن قال إن انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع أسقط الاختلاف بالإجماع وفرق بين الموضعين فإنهم إذا أجمعوا بعد الخلاف صارت المسألة على قول واحد فيسقط القول الآخر لأن القائل به قد رجع عنه وأقر ببطلانه وليس كذلك هاهنا لأنهم إذا ماتوا على اختلاف كان قول المخالف منهم باقيا وهو كالحي القائم فلم يجز إسقاطه بالإجماع بعده
ولأن الصحابة لو أجمعت على أمر جاز أن يختلفوا فيه كما قال علي عليه السلام كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر ورأي الجماعة أن لا تباع أمهات الأولاد وأرى الآن أن يبعن ولو أجمعت الصحابة على قول ثم أراد التابعون الاتفاق على خلافه لم يجز فافترقا
قالوا ولأن الإجماع حجة والاختلاف ليس بحجة فلم يترك ماهو حجة بما ليس بحجة كالكتاب والسنة

قلنا لا نسلم أن الإجماع بعد الخلاف حجة وإنما يكون حجة إذا لم يتقدم خلاف وهذا كما نقول في القياس أنه حجة إذا لم يعارضه نص فأما إذا عارضه نص لم يكن حجة كذلك هاهنا
على أنه إن كان ما حصل من الإجماع حجة فما تقدم من الاختلاف حجة في جواز الاجتهاد والأخذ بكل واحد من القولين وليس لهم مراعاة أحد الإجماعين إلا ولنا مراعاة الآخر وما قلنا أولى لأن إجماع العصر الأول حجة على العصر الثاني والثاني لا يكون حجة على العصر الأول
قالوا ولأن كل حكم لا يجوز لعامة عصر التابعين العمل به لم يجز لمن بعدهم العمل به كالمنسوخ من أحكام الشرع
قلنا لا نسلم الوصف فإن من استفتى منهم الصحابة يجوز له العمل به في عصر التابعين ثم نعارضهم بمثله فنقول كل حكم جاز لعامة عصر الصحابة العمل به جاز لعامة عصر التابعين العمل به دليله إذا لم يجمع التابعون على أحد القولين
قالوا ولأنه إذا تعارض خبران ثم اتفق أهل عصر على ترك أحدهما والقول بالآخر سقط المتروك منهما وكذلك هاهنا إذا اتفق أهل العصر الثاني على ترك أحد القولين والعمل بالآخر وجب أن يسقط المتروك منهما
قلنا إنما يسقط المتروك من الخبرين لأنه لم يذهب إليه أحد من أهل العصر قبله وليس كذلك المتروك من القولين فإنه قد صار إليه أحد فريقي الصحابة فجاز الأخذ به فوزانه من الخبر أن يذهب إلى كل واحد منهما فريق من الناس فلا يجوز إسقاطه بالإجماع بعده
ولأن الخبرين وردا ممن يصح منه نسخ أحدهما بالآخر فإذا اجتمع الناس على ترك أحدهما علمنا بأنهم علموا نسخه من جهته وليس كذلك القولان لأنهما وردا من طائفتين لا يصح نسخ قول أحدهما بالآخر فلا يصح إسقاط أحدهما بالآخر وبالله التوفيق
مسألة 10 إذا أدرك التابعي عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد اعتبر رضاه في صحة الإجماع
ومن أصحابنا من قال لا اعتبار به ولا يعتد بخلافه معهم
لنا قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ولم يأمرنا بالرجوع إلى أقاويل الصحابة
ولأنه من أهل الاجتهاد وقت الحادثة فاعتبر رضاه في صحة الإجماع كأصاغر الصحابة رضي الله عنهم
ولأن الاعتبار بالعلم لا بالصحبة بدليل أن من ليس من أهل العلم لم يعتبر قوله في صحة الإجماع ولهذا قال عليه السلام نضر الله أمرا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه

منه وإن كان الاعتبار بالعلم وجب أن يعتد بخلاف التابعي ووفاته لأنه عالم
واحتجوا بأن عليا عليه السلام نقض الحكم على شريح حين قضى بين ابني عم أحدهما أخ لأم وجعل المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم
ولأن عائشة رضي الله عنها أنكرت على أبي سلمة حين خالف ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وقالت مثلك مثل الفروج يسمع الديكة تصيح فصاح لصياحها
والجواب أن حديث علي عليه السلام حجة عليهم فإنه ولاه القضاء ورضي به في الاجتهاد فدل على أنه من أهله
وأما نقض الحكم عليه فيجوز أن يكون لأنه انعقد عليه إجماع قبل أن يصير شريح من أهل الاجتهاد فلا يعتد بقوله فيه ولهذا لا يخرج عن كونه مساويا لهم في الاجتهاد فيما يحدث من الحوادث

وأما عائشة فقد خالفها أبو هريرة فإنه روي أنه قال في هذه القضية قولي فيها مثل قول ابن أخي ابي سلمة فأقره على الخلاف
وعلى أنه ليس في قولها ما يدل على أنه لا يعتد بخلافه ويجوز أن يكون قد رفع صوته على ابن عباس وادعى منزلته وطلب مساواته فأنكرت عائشة عليه ذلك
واحتجوا أيضا بأن الصحابة أعلم بالأحكام من التابعين فإنهم شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا المقاصد والأغراض فكانوا مع التابعين بمنزلة العلماء مع العامة
والجواب هو أنا لا نسلم أنهم أعلم بالأحكام والدليل عليه أن أنسا كان يحيل بالمسائل على الحسن البصري
وابن عمر كان يحيل بالمسائل على ابن المسيب
وروي عن ابن عمر أنه قال في سعيد هو والله أحد المفتين
ولهذا قال النبي عليه السلام رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع فرب حامل فقه غير فقيه الخبر
وما ذكروه من الترجيح لا يمنع من مساواة التابعين لهم في الاجتهاد
ألا ترى أن من طالت صحبته من أكابر الصحابة وعلمائها لهم من المزية بطول الصحبة وقوة الآنسة بكرم النبي عليه السلام ما ليس لصغارها ومتأخريها ثم الجميع في الاجتهاد واحد فبطل ما قالوه
ولأن هذا الترجيح إنما كان يصح أن لو كانت الأحكام كلها مأخوذة من المسموع من رسول الله عليه السلام فأما إذا كان فيها ما يؤخذ من الكتاب وما يؤخذ من الأصول وما يؤخذ من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن لمن شهد النبي صلى الله عليه و سلم مزية على غيره
مسألة 11 إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز للتابعين إحداث قول ثالث
وقال بعض المتكلمين وبعض أصحاب أبي حنيفة يجوز ذلك
لنا هو أن اختلافهم على قولين إجماع على أن كل قول سواهما باطل لأنه لا يجوز أن يفوتهم الحق فلو جوزنا إحداث قول ثالث لجوزنا الخطأ عليهم في القولين وهذا لا يجوز

وأيضا فإن التابعين أجمعوا على حصر الأقاويل وضبط المذاهب ولو جاز إحداث مذهب آخر لم يكن لضبط الأقاويل ولا حصر المذاهب معنى
واحتجوا بأن اختلافهم فيها على قولين يوجب جواز الاجتهاد فجاز إحداث قول ثالث كما لو لم يستقر الخلاف
والجواب هو أن اختلافهم في ذلك يوجب جواز الاجتهاد في طلب الحق من القولين فأما إحداث قول ثالث فلا وهذا كما لو أجمعوا في حادثة على إبطال حكم فيها فينقطع الاجتهاد في ذلك الحكم ثم لا يمنع ذلك من الاجتهاد فيها على غير ما أجمعوا على بطلانه كذلك هاهنا
ويخالف هذا إذا لم يستقر الخلاف لأن الإجماع قبل الاستقرار لا يمنع من الخلاف وبعد الاستقرار يمنع فكذلك الاختلاف مثله
واحتجوا أيضا بأنه يجوز إحداث دليل آخر لم يذكره الصحابة فكذلك يجوز إحداث قول آخر لم يقله الصحابة
قلنا ليس إذا جاز إحداث دليل آخر جاز إحداث قول آخر
ألا ترى أنهم لو أجمعوا على دليل واحد جاز إحداث دليل ثان ولا يجوز إحداث قول ثان
ولأن إحداث دليل ثالث يؤيد ما استدل به الصحابة وإحداث قول ثالث يخالف ما أجمعوا عليه فافترقا
واحتجوا بأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في زوج وأبوين وامرأة وأبوين على قولين فجاء ابن سيرين فأحدث قولا ثالثا فقال في امرأة وأبوين يقول ابن عباس وفي زوج وأبوين بقول سائر الصحابة وأقره الناس على هذا الخلاف

والجواب هو أنا لا نقره على ذلك بل نجعله محجوجا بإجماع الصحابة فلا يقبل منه هذا القول
وجواب آخر وهو أن ابن سيرين عاصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد وخلاف التابعين في قول بعض أصحابنا يعتد به مع الصحابة إذا عاصرهم وهو من أهل الاجتهاد وعلى الوجه الذي يعتبر انقراض العصر في صحة الإجماع
مسألة 12 إذا اختلفت الصحابة في مسألتين على قولين فذهبت طائفة منهما إلى حكم واحد وصرحت بالتسوية بينهما وذهبت الطائفة الأخرى إلى حكم آخر وصرحت بالتسوية بينهما فهل يجوز لمن بعدهما أن يأخذ بقول أحدهما في مسألة وبقول الآخر في المسألة الأخرى فيه وجهان
أحدهما لا يجوز
والثاني يجوز
ووجه الأول هو أن هذا إحداث قول ثالث لأن الجميع أجمعوا على التسوية بينهما وهذا التفصيل يمنع من التسوية فكان ذلك بمنزلة ما لو أجمعوا على قول واحد فلا يجوز إحداث قول ثان
ووجه الآخر أنهم لم يجمعوا على التسوية بين المسألتين في حكم واحد وإنما سووا بينهما في حكمين مختلفين فجاز لمن بعدهما الأخذ بالتفصيل
والجواب هو أنه وإن كان ذلك في حكمين إلا أن الإجماع قد حصل على التسوية بينهما فكان التفريق بينهما مخالفا للإجماع
مسألة 13 إذا قال الصحابي قولا وظهر ذلك في علماء الصحابة وانتشر ولم يعرف له مخالف كان ذلك إجماعا مقطوعا به

ومن أصحابنا من قال هو حجة وليس بإجماع
وقال أبو علي بن أبي هريرة إن كان ذلك حكما من حاكم منهم ولم يكن ذلك إجماعا
وقال القاضي أبو بكر الأشعري ليس بحجة أصلا وهو مذهب داود
لنا هو أن سكوتهم دليل على الرضا بما قاله والدليل عليه هو أن العادة أن النازلة إذا نزلت فزع أهل العلم إلى الاجتهاد وطلب الحكم وإظهار ما عندهم فيها فلما لم يظهر خلاف ذلك مع طول الزمان وارتفاع الموانع دل على أنهم راضون بذلك فصار بمنزلة ما لو أظهروا الرضا بالقول والفعل

وأما الدليل على بطلان قول من قال إنه حجة وليس بإجماع فهو أن سكوتهم لا يخلو إما أن يكون دليلا على الرضا فيجب أن يصير إجماعا أو لا يكون ذلك دليلا على الرضا فيجب أن لا يكون حجة وإما أن يكون حجة ولا يكون إجماعا فلا معنى له
واحتجوا بأن سكوتهم لا يدل على الرضا لأنه يجوز أن يكونوا لم يجتهدوا أو اجتهدوا ولم ينته نظرهم أو لم يظهر الخلاف لهيبة القائل كما قال ابن عباس في خلاف عمر في العول هبته وكان أمرا مهيبا أو لاعتقادهم بأن كل مجتهد مصيب وإذا احتمل هذه الوجوه لم يجز أن يحمل سكوتهم على الرضا والموافقة
والجواب هو أنه لا يجوز ترك الاجتهاد لأن العادة نظر الناس في الحادثة عند حدوثها إذ لا مانع لهم من ذلك فلا يجوز دعوى خلاف العادة ولا ترك الاجتهاد لأنه يؤدي إلى محال وذلك أنه إذا أخطأ المجتهد منهم وترك الباقون الاجتهاد فقد أخطأ الجميع وخلا العصر عن الحق وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يخلو عصر من الأعصار من قائم لله تعالى بحق
ولا يجوز أن لا يظهروا الخلاف لأن ذلك أيضا خلاف العادة
ولا يجوز أن يكونوا في مهلة النظر لأن ذلك لا يمتد إلى أن ينقرض العصر
ولا يجوز أن لا يظهروا الخلاف للهيبة لأن الهيبة لا تمنع إظهار الخلاف في الأحكام ولهذا ردت امرأة على عمر رضي الله عنه في المغالاة في الصداق فقالت أيعطينا الله وتمنعنا يا ابن الخطاب وروي انها قالت يا عمر قال الله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال عمر رضي الله عنه امرأة خاصمت عمر فخصمته

وقال عبيدة السلماني لعلي عليه السلام رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك وغير ذلك من المواضع التي أظهروا فيها الخلاف ولم يحتشموا القائل
وأما ابن عباس فقد أغلظ في الإنكار وشدد في القول فروي أنه قال أول من أعال الفرائص عمر رضي الله عنه وأيم الله لو قدم من قدمه الله وأخر من أخره الله لما عالت فريضة قط قال له زفر بن قيس ما منعك أن تشير بهذا على عمر فقال هبته وكان أمرا مهيبا ومثل هذا الإنكار إنما هابه أن يواجهه به لا سيما وابن عباس كان صغير السن وهو أيضا من أصحابه
ولأنه لو كان لا يظهره للهيبة لأظهره بعد ذلك كما أظهر ابن عباس رضي الله عنه
ولا يجوز أن يكون لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب لأنه لم يكن في الصحابة من يذهب إلى هذا بل كان مذهبهم أن الحق في واحد ولهذا خطأ بعضهم بعضا
ولأن العادة مع هذا الاعتقاد إظهار الخلاف فدل على بطلان ما قالوه
واحتج أبو علي بن أبي هريرة بأنه إذا كان ذلك قضاء من حاكم لم يدل السكوت على الرضا لأن في الإنكار افتياتا عليه
ولأنا نحضر مجالس الحكام فنراهم يقضون بخلاف مذاهبنا فلا ننكره ولا يدل ذلك على الرضا
والجواب هو أن العادة قد جرت عند الحكام إظهار الخلاف والذي يدل عليه أن الصحابة قد كان يحضر بعضهم بعضا عند الحكم فينكر ما يحكم إذا كان مخالفا لما يعتقده
وأما سكوتنا عن إظهار الخلاف عند الحاكم فلأن الخلاف قد ظهر وعرف فلا يعاد اكتفاء بما تقدم ولهذا نحضر مجالس الفقهاء أيضا فنراهم يفتون بمذاهبهم فلا ننكر ولا يدل ذلك على أن السكوت عند الفتيا يدل على الرضا ولكنا نسكت عن الخلاف اكتفاء بما عرف من الخلاف المتقدم وأما عند نزول النوازل فلا بد من إظهار الخلاف من طريق العادة فبطل ما قالوه
مسألة 14 إذا قال الصحابي قولا ولم ينتشر لم يكن ذلك حجة ويقدم القياس عليه في قوله الجديد
وقال في القديم هو حجة يقدم على القياس ويخص العموم به وهو قول مالك وأحمد وإسحق وهو مذهب أبي علي الجبائي
لنا أنه قول ممن يقر على الخطأ فلا يجوز ترك القياس له
دليله قوله التابعي
ولأن التابعي والصحابي متساويان في آلة الاجتهاد وجواز الخطأ على كل واحد منهما فلا يجوز لأحدهما ترك اجتهاده لقول الآخر كالصحابيين والتابعيين

ولأن القياس دليل على الحكم من جهة الشرع فكان مقدما على قول الصحابي دليله الكتاب والسنة
ولأن ما قضى به على عموم القرآن كان مقدما على قول الصحابي
دليله خبر الواحد
ولأنه قياس فقدم على قول الصحابي كالقياس الجلي
ولأنه لو كان قوله يقدم على القياس لوجب إذا عارضه خبر أن يتعارضا أو ينسخ أحدهما بالآخر كما يفعل في نصين متعارضين
واحتجوا بقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فإذا كان ما يأمرون به معروفا وجب المصير إليه
قلنا هذا أخبار عن جماعتهم وما تأمر به الجماعة عندنا يجب قبوله وإنما الخلاف فيما انفرد به الواحد منهم
واحتجوا بقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر
والجواب أنا نشاركهم في الاستدلال بهذا لأن الاقتداء بهم أن نعمل بمقتضى الاجتهاد ونفزع في الحوادث إلى القياس كما فعلوا وهذا يمنع من التقليد
ولأن هذا خطاب للعامة لأن العلماء في زمن النبي عليه السلام أصحابه ولا يجوز أن يأمر أصحابه بتقليد غيرهم فيجب أن يكون ذلك أمرا للعامة بتقليدهم
واحتجوا أيضا بأن الصحابي إن كان قد أفتى عن توقيف كان حجة

وإن كان عن اجتهاد فاجتهاده أولى لأنه شاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمع كلامه فكان أعرف بمعانيه وما قصده فكان بمنزلة العالم مع العامي
قلنا أما دعوى التوقيف فلا تجوز من غير دليل بل الظاهر أنه أفتى من غير توقيف لأنه لو كان عن توقيف لرواه في هذه الحالة أو في غيرها من الأحوال
وأما دعوى قوة الاجتهاد فلا تصح لأنه يجوز أن يسمع من النبي عليه السلام ويكون غيره أعلم بمعانيه وقصده ولهذا قال عليه السلام نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمع فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
ولأنه يحتمل أن يكون أخذ حكم الحادثة من القرآن أو سمعه من غير رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكون هو والتابعي فيه واحد فلا يكون من هو أقوى فيه من غيره
ولأنه لو كان صحيحا لوجب أن يجب على من لم تطل صحبته أن يقلد من طالت صحبته لقوة الأنس بكلام النبي عليه السلام ومعرفة قصده ولما لم يجب ذلك دل على بطلان ما اعتمدوه
واحتجوا بأنه صحابي فجاز تقليده دليله إذا كان مع قوله قياس ضعيف
والجواب هو أنا لا نسلم هذا الأصل فإن القياس مقدم عليه وإن عاضد قوله قياس ضعيف
قالوا ولأن قوله لو انتشر لوجب العمل به فقدم على القياس كخبر الواحد
قلنا هذا يبطل بقول التابعي فإنه لو انتشر لوجب العمل به ثم لا يقدم من غير انتشار على القياس
وعلى أنه لو كان هذا بمنزلة الخبر لوجب إذا عارضه خبر أن يتعارضا أو ينسخ أحدهما بالآخر كالخبر إذا عارضه خبر

ولأن الخبر إذا قابله القياس الجلي قدم الخبر عليه ولو قابل قول الصحابي قياس جلي قدم القياس عليه فدل على الفرق بينهما
قالوا ولأن قول الصحابي والقياس جنسان يترك أقواهما لأقوى الآخر فيترك أضعفهما لأضعف الآخر كالسنة والقياس
قلنا يبطل هذا بقول التابعي مع القياس فإن أقواهما يترك لأقوى الآخر وأضعفهما لا يترك لأضعف الآخر
ثم الخبر لو عارضه أقوى القياسين لأسقطه ولو عارض قول الصحابي أقوى القياسين قدم القياس عليه فإذا عارضه أضعفهما قدم عليه
مسألة 15 إذا قال واحد من الصحابة قولا يخالف القياس لم يجعل ذلك توقيفا ويقدم القياس عليه
وقال أصحاب أبي حنيفة هو حجة يصير كالسنة المستندة إلى النبي عليه السلام ويقدم على القياس
لنا هو أن الصحابي غير معصوم فيجوز أن يكون قد قاله عن توقيف ويجوز أن يكون قد ذهب فيه إلى اجتهاد بعيد فلا يجوز إثبات السنة بالشك
ولأنه لو ثبت بقوله سنة لثبت ذلك بقول التابعي ولما لم يثبت بقول التابعي لم يثبت أيضا بقول الصحابي
ولأن الظاهر أنه لم يقل ذلك عن سنة لأنه لو كان قد قاله عن سنة لأظهر ذلك عند الفتيا أو في وقت من الأوقات ولو فعل ذلك لعرف ولما لم يعرف ذلك بحال دل على أنه ليس عنده فيه سنة
ولأنه لو كان عن سنة لوجب إذا عارضه خبر أن يتعارضا ويصير كالخبرين المتعارضين ولما قدم الخبر عليه دل على بطلان ما ذكروه
واحتجوا بأن الظاهر أنه لم يعدل عن القياس مع الثقة به في معرفة القياس وطرقه إلا إلى سنة فوجب أن يجعل ذلك توقيفا عن النبي عليه السلام

قلنا إنما يصح هذا لو كان لا يجوز عليه الخطأ فأما إذا جاز عليه الخطأ احتمل أن يكون قد ذهب إلى سنة لا تدل على الحكم أو أخطأ فيه فلا يجوز أن يجعل قوله حجة
ولأنه لو جاز هذا في حق الصحابي لجاز في حق التابعين وسائر الفقهاء إذا رأينا الواحد منهم قد ذهب إلى خلاف القياس لجاز أن يحمل أمره في ذلك على أنه ذهب إلى سنة عن النبي عليه السلام صحت عنده
ولأنه يبطل به إذا عارضه نص فإن قوله يسقط وإن كان الظاهر ما ذكروه والله أعلم
مسائل التقليد
مسألة 1 التقليد في أصول الديانات لا يجوز
وقال بعض الناس يجوز ذلك وحكي ذلك عن عبد الله بن الحسن العنبري
لنا قوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون فذم قوما قلدوا آباءهم في أديانهم فدل على أن ذلك لا يجوز
ولأن طريق معرفة الأصول العقل والعقلاء كلهم يشتركون في العقل فلا يجوز لبعضهم تقليد البعض
ولأنه فرض على كل أحد أن يعلم هذه الأصول ويقطع بها والعلم والقطع لا يحصل بقول المقلد فوجب أن لا يجوز فيه التقليد

واحتجوا بأنه إذا جاز التقليد في الفروع جاز في الأصول
وربما قالوا إن التقليد إنما جاز في الفروع لأن في معرفة أدلتها وطرقها مشقة وهذا المعنى موجود في معرفة أدلة الأصول ولعل في أدلة الأصول ما هو أغمض وأخفى من أدلة الفروع فيجب أن يجوز فيها التقليد
والجواب هو أن ما يتوصل به إلى معرفة الفروع هو العلم بطرق المسائل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس فلو ألزمنا الناس معرفة ذلك لأدى إلى الانقطاع عن المعاش وإلى أن ينقطع الحرث والنسل فجوز فيها التقليد وما يتوصل به إلى معرفة الأصول هو العقل والناس كلهم يشتركون في ذلك فلم يجز لهم التقليد فيه
ولأن الفروع طريقها الظن والظن يحصل بقول من يقلده والأصول طريقها العلم والقطع وذلك لا يحصل له بقول من يقلده فافترقا
مسألة 2 لا يجوز للعالم تقليد العالم
ومن الناس من قال يجوز ذلك وهو قول أحمد وإسحق
وقال محمد بن الحسن يجوز له تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله

لنا قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول والرد إليهما لا يمكن فثبت أنه أراد به حكم الله ورسوله
فإن قيل تقليد العالم حكم الله لأنه أعلم بطريق الظن
قلنا إذا ترك ما يقتضيه ظاهر الكتاب وظاهر السنة وقلد غيره فقد ترك حكم الله تعالى ولم يعمل به فيجب أن لا يجوز
وأيضا قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ولا علم للمقلد بما أفتى به العالم فيجب أن لا يقفه
وأيضا قوله عليه السلام اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له ولم يفصل
ولأن معه آلة يتوصل بها إلى حكم الحادثة فلا يجوز له التقليد فيه
دليله العقليات
ولا يلزم قبول قول النبي عليه السلام لأن ذلك ليس بتقليد لأن التقليد

قبول قول الغير حجة وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة
ولا يلزم عليه إذا حكم عليه الحاكم بشيء فإن ذلك أيضا ليس بتقليد لأنه لا يلزم أن يقبله ويعتقده وإنما يلزمه طاعته فيما لزمه وليس ذلك بتقليد
فإن قيل لا يمتنع أن يكون معه ما يتوصل به إلى المطلوب ثم يجوز له تركه إلى غيره
ألا ترى أن من قدر على سماع الحكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم يجوز له تركه والسماع ممن يخبره عنه
قلنا ليس هذا تركا لقول رسول صلى الله عليه و سلم وإنما ترك طريقا إلى غيره فهو بمنزلة المجتهد يلوح له دليل في المسألة يقتضي حكما شرعيا فيتركه إلى دليل آخر يقتضي ذلك الحكم فيجوز وفي مسألتنا يترك اجتهاده المقتضي لحكم إلى اجتهاد يقتضي حكما غيره فوزانه مما ذكروه أن يقدر على نص عن النبي عليه السلام فيتركه إلى حكم يخالفه فلا يجوز ذلك
ولأن الحكم بالتقليد يؤدي إلى إبطاله لأنه ينبغي أن يقلد من يمنع من ذلك ويحكم بإبطاله وما أدى إثباته إلى نفيه كان باطلا
وأما الدليل على أصحاب أبي حنيفة خاصة وأن ما لا يجوز له أن يقلد فيه مثله لم يجز له أن يقلد فيه من هو أعلم منه كالعقليات
ولا يلزم عليه العامي حيث لم يقلد مثله وقلد من هو أعلم منه لأن قولنا

من هو أعلم منه يقتضي أن يكون هو عالما وهذا لا يوجد في حق العامي
فإن قيل لو كان هذا كالعقليات لما جاز تقليد العامي فيها كما لا يجوز في العقليات
قلنا إنما استوى العامي والعالم في العقليات لأنهما متساويان في آلة الاجتهاد فيها وطلب الدليل عليها وفي الشرعيات العالم معه آلة الاجتهاد والعامي ليس معه ذلك فافترقا
فإن قيل طريق العقليات القطع واليقين فلا يجوز الرجوع فيها إلى اجتهاد الغير وليس كذلك هاهنا فإن الشرعيات طريقها الظن وظن الأعلم أقوى فجاز الرجوع إليه يدلك عليه أنه يجوز أن يقلد في الشرعيات ما يقتضي الظن من خبر الواحد والقياس ولا يجوز مثل ذلك في العقليات
قلنا لا نسلم أن ظن الأعلم أقوى بل ظن نفسه أقوى لأنه على علم وإحاطة من ظنه وليس على إحاطة من ظن الأعلم فلا يجوز أن يكون ما لم يحط به علمه أقوى مما أحاط به علمه ووقف عليه
ولأنه لا خلاف أنه يجوز له ترك قول الأعلم باجتهاده ومن جاز له ترك قوله باجتهاده لم يجز له ترك اجتهاده لقوله كالمجتهد في القبلة وعكسه قول الله تعالى وقول الرسول
واحتجوا بقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا قبل أن يجتهد لا يعلم حكم الحادثة فجاز له أن يسأل
قلنا المراد بالآية العامة يدل عليه أنه أوجب السؤال والذي يجب عليه السؤال هو العامي وأما العالم فلا يجب عليه بالإجماع أن يسأل لأن له أن يجتهد لنفسه فيعمل باجتهاده ولا يسأل أهل الذكر
ولأنه أمر بسؤال أهل الذكر وهذا يقتضي أن يكون المخاطب بالسؤال غير أهل الذكر فيجب أن تكون الآية خاصة في العامة فلم يكن فيها حجة

ولأنا نشاركهم في الاستدلال بها لأنها تقتضي أنه إذا أفتاه العالم وهو لا يعلم ما اقتضى ذلك الحكم أن يسأله عن دليله في الخطاب وفي إيجاب ذلك إبطال التقليد
فإن قيل لا خلاف أن العامة داخلة في هذا الخطاب ولا يجب عليهم السؤال عن الدليل
قيل الظاهر يقتضي وجوب السؤال في حق الجميع لكنا تركنا وجوب السؤال في حق العامة للإجماع وبقي العالم على ظاهرها
واحتجوا بقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ولم يفصل
قلنا المراد بالآية الطاعة في أمور الدنيا والتجهيز والغزوات والسرايات وغير ذلك والدليل أنه خص به أولي الأمر والذي يختص به أولو الأمر ما ذكرناه من تجهيز الجيوش وتدبير الأمور
واحتجوا بقوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ولم يفصل
الجواب أن المراد بذلك قبول الأخبار وما سمعوه من النبي صلى الله عليه و سلم فنحملها عليه أو نحملها على العامة بدليل ما ذكرناه
واحتجوا بأن الصحابة رضي الله عنهم رجعت إلى التقليد ألا ترى أن عبد الرحمن لما بايع عثمان قال له عثمان أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله عليه السلام وسيرة الشيخين فقال له نعم فبايعه فدل على جوازه
وروي عن عثمان عليه السلام أنه قال رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فدل على جواز التقليد

قلنا المراد به سيرة الشيخين من حراسة الإسلام والذب عنه والاجتهاد فيه والذي يدل عليه هو أن سيرة الشيخين في أحكام الحوادث مختلفة فلا يمكن اتباعها فيه فدل على أن المراد به ما ذكرناه
ولأنه يحتمل أن يكون أن المراد به العمل بسيرتهما في الاجتهاد والبحث عن الدليل والحكم بما يقتضيه الاجتهاد على حسب ما فعلاه لا أنه يقلدهما في أعيان المسائل وتفاصيل الحوادث وحمله على هذا الاحتمال يبطل التقليد ويمنع منه فليس لهم أن يحملوا على أتباعهما في أعيان المسائل فيدل على جواز التقليد إلا ولنا أن نحمله على أتباعهما في البحث والاجتهاد فيدل على إبطال التقليد
وأما قول عمر رضي الله عنه في الجد اتبعوني فإنما أراد به اتباعه في الدليل كما يدعو بعضنا بعضا إلى ما يعتقده من المذاهب بالدليل دون التقليد
ولأن عليا عليه السلام خالفهم في ذلك لأنه قال لعبد الرحمن لما دعا إلى اتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لا إلا على جهدي وطاقتي
قالوا ولأنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد في الجملة فجاز فيه التقليد كما نقول في العامي
قلنا العامي لا طريق له إلى إدراك حكم الحادثة لأنه ليس معه آلة يتوصل بها إليه فلو ألزمناه معرفة ذلك لانقطع عن المعاش فكان فرضه التقليد وليس كذلك العالم لأن له طريقا يتوصل به إلى حكم الحادثة من جهة الاجتهاد فلا يجوز له التقليد كالعامي في العقليات

ولأن العامي لما جاز له التقليد وجب ذلك عليه ولو كان هذا العالم مثله للزمه التقليد
قالوا ولأن النبي عليه السلام يفتي بما أنزل عليه من القرآن وبما يدل عليه الاجتهاد وللعالم طريق إلى معرفة ذلك من طريق الاجتهاد ثم يجوز له ترك الاجتهاد والعمل بما سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم كذلك هاهنا مثله
قلنا لو كان بمنزلة ما سمعه من النبي عليه السلام لوجب أن لا يجوز له تركه بالاجتهاد كما لا يجوز له ترك قول النبي عليه السلام
ولأن قول النبي عليه السلام حجة مقطوع بصحتها لأنه إن كان عن وحي فهو مقطوع بصحته وإن كان عن اجتهاد فهو مقطوع بصحته أيضا لأنه لا يخطىء في قول بعض أصحابنا وفي قول البعض يجوز أن يخطىء ولكن لا يقر عليه فإذا أقر على قضية علمنا أنه حق وصواب فوجب المصيرإليها والعمل بها وليس كذلك ما يقضي به العالم لأنه لا يقطع بصحته فلم يجز للعالم ترك الاجتهاد له
قالوا إذا جاز تقليد الأمة فيما أفتوا به وإن لم يعلموا الطريق الذي أفتوا به فكذلك تقليد آحادها
قلنا إذا أجمعوا على شيء كان قولهم حجة لأن الدليل قد دل على نفي الخطأ عنهم فصار قولهم في ذلك كالكتاب والسنة وليس كذلك آحادهم لأن الخطأ عليهم جائز فلم يجز للعالم قبوله
قالوا ولأنه لو كان التقليد لا يجوز لجواز الخطأ على من يقلده لوجب أن لا يقبل خبر الواحد لجواز الخطأ على ناقله
قلنا خبر الواحد ظهر من غير نكير فهو بمنزلة قول واحد من الصحابة إذا انتشر من غير خلاف وفي مسألتنا اختلف الناس في المسألة وتعارضت فيها الأقوال

فوزانه مما ذكروه أن يروى خبران متعارضان فلا جرم أنه لا يجوز المصير إلى واحد منهما قبل النظر والاجتهاد
ولأنا لو أوجبنا عليه البحث عن الرواية وجهة سماعه حتى يساوي الراوي في طريقه لأدى إلى المشقة العظيمة وربما تعذر ذلك عليه بتعذر الطريق بينه وبين المروي عنه أو موته فسقط عنه ذلك كما سقط عن العامي الاجتهاد وليس كذلك هاهنا فإن العالم لا مشقة عليه في إدراك الحادثة باجتهاده والنظر فيها كما نظر المقلد فلزمه الاجتهاد والنظر
قالوا ولأن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات كالجهاد ثم يجوز في الجهاد أن يتكل البعض على البعض إذا حصلت الكفاية فكذلك في الاجتهاد
قلنا لا نسلم أن مع الاختلاف كفاية وإنما الكفاية عند الاتفاق فيجوز فيه الاتكال وأما حال الاختلاف فلا كفاية فوزانه من الجهاد أن يضعف القيم منهم بأمر الحرب فلا يجوز للباقين الاتكال عليه بل يلزمهم قصد الجهاد
واحتج أصحاب أبي حنيفة بقصة أهل الشورى وأن عبد الرحمن دعا عليا عليهما السلام إلى تقليد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجب لأنه اعتقد أنه لا ينقص عنهما في العلم ودعا عثمان رضي الله عنه إلى ذلك فأجاب لأنه اعتقد أنه دونهما في العلم
والجواب عندنا ما مضى
قالوا اجتهاد الأعلم له مزية لكثرة علمه وحسن معرفته بطريق الاجتهاد واجتهاد من دونه له مرتبة من وجه آخر وهو أنه على ثقة وإحاطة من جهل الدليل وما يقتضي الحكم وليس على ثقة من اجتهاد الأعلم فإذا اجتمعا تساويا فيخير بينهما
قلنا هذا يبطل باجتهاد من طالت صحبته للنبي عليه السلام مع اجتهاد من لم تطل صحبته فإن من طالت صحبته له مزية بطول الصحبة وكثرة السماع

وطول الأنس بكلام النبي عليه السلام ثم لا يجوز لمن لم تطل صحبته أن يقلده إذا تساويا في العلم
ويبطل أيضا باجتهاد الصحابي والتابعي فإن للصحابي مزية بالصحبة ومشاهدة التنزيل ولا يجوز للتابعي تقليده إذا تساويا في الاجتهاد وكان أعلم منه
ولأنه إذا نظر في الدليل فأداه إلى حكم كان عالما بما يعمل به فإذا قلده كان جاهلا بما يعمل به فلا يجوز التسوية بينهما
مسألة 3 إذا نزلت بالعالم نازلة وخاف فوت وقتها لم يجز له تقليد غيره
وقال أبو العباس بن سريج يجوز
لنا هو أنه معه آلة الاجتهاد فلا يجوز له التقليد كما لو لم يخف الفوت
ولأن من لا يجوز له التقليد إذا لم يخف الفوت لم يجز له وإن خاف الفوت
دليله العقليات فإنه لو خشي أن أشتغل بالنظر أن يموت لم يجز له التقليد
ولأن اجتهاده شرط في صحة العبادة فلا يسقط بخوف فواتها كالطهارة للصلاة
واحتج المخالف بقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا غير عالم فجاز له أن يقلد العالم
قلنا هذا خطاب للعامة ألا ترى أنه قال إن كنتم لا تعلمون والمراد به لا تعلمون طرق الاجتهاد لأنه ذكر البينات والزبر التي هي طرق الأحكام وهذا العالم يعلم البينات والزبر فلا يجوز له التقليد

واحتجوا بأنه لا يتوصل إلى معرفة النازلة من طريق الاجتهاد فهو كالعامي
قلنا لا نسلم أنه لا يتوصل لأنه إذا نظر وتأمل توصل إلى معرفة الحكم ويفارق العامي فإن العامي لا طريق له إلى ذلك
ألا ترى أنه لو كرر النظر ألف مرة لم يعرف الحكم من طريقه ولهذا نجوز له التقليد مع اتساع الوقت بخلاف العالم
واحتج بأنه مضطر إلى التقليد فإذا اجتهد فاتته العبادة وتأخرت وذلك لا يجوز
والجواب هو أنه إن كان ذلك مما يجوز تأخيره لعذر صار إشكال الحادثة عليه عذرا له في التأخير
وإن كان مما لا يجوز تأخيره كالصلاة أداها على حسب حاله ثم يعيد فلا ضرورة إلى التقليد
مسألة 4 يجوز للعامي تقليد العالم
وقال أبو علي الجبائي إن كان ذلك في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد جاز له وإن كان مما لا يسوغ فيها الاجتهاد لم يجز
وقال بعض المتكلمين لا يجوز حتى يعرف علة الحكم
لنا قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
ولأنه ليس معه آلة الاجتهاد فجاز له التقليد قياسا على ما يسوغ فيه الاجتهاد
ولأنا لو ألزمناه معرفة الدليل لشق ذلك على الناس وانقطعوا عن المعاش وانقطع الحرث والنسل فوجب أن لا يلزمهم ذلك
واحتجوا بأن أكثر ما في هذا أن الأدلة تغمض عليه وتدق وهذا لا يبيح التقليد كما نقول في العقليات
والجواب أن في العقليات معه الآلة التي يتوصل بها إلى الأحكام وهي العقل وفي الشرعيات ليس معه آلة يتوصل بها إلى الأحكام فلو ألزمناه تعرف ذلك لأدى إلى المشقة فافترقا
واحتج أبو علي بأن ما كان فيه طريق مقطوع به لم يجز للعامي التقليد فيه كالعقليات
والجواب عنه ما قلناه
مسألة 5 يجوز للعامي تقليد من شاء من العلماء
وقال أبو العباس والقفال يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ولا يقلد إلا الأعلم الأدين
لنا قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ولم يفصل
ولأن من جاز تقليده إذا كان منفردا جاز تقليده وإن اجتمع مع غيره كما لو كانا متساويين
ولأنا إنما جوزنا للعامي أن يقلد لأن في إيجاب معرفة العلم مشقة وإضرار وهذا المعنى موجود في إيجاب معرفة الأعلم
ولأن الناس يتفاوتون في الاجتهاد مع التساوي في الحفظ وقد يكون أحدهما أحفظ والآخر أعلم بالاجتهاد وفي معرفة ذلك مشقة فيجب أن لا يلزمهم
واحتجوا بأن هذا طريقه الظن والظن في تقليد الأعلم أقوى فوجب المصير إليه
والجواب أن هذا يوجب أن يتعلم الفقه ويعلم به لأن رجوعه إلى الاجتهاد أقوى ولما أجمعنا على أنه لا يجب ذلك دل على بطلان ما ذكروه
مسائل القياس
مسألة 1 القياس والاستدلال طريق لإثبات الأحكام في العقليات
وذهب بعض الناس إلى إبطال ذلك
لنا أنا نرى في مسائل الأصول مذاهب مختلفة وأقاويل متكافئة لا طريق إلى معرفة الصحيح منها من الفاسد إلا بالنظر والاستدلال فدل على أن ذلك واجب

فإن قيل يقلد فيها ولا يحتاج إلى النظر
قيل ليس تقليد أحد الخصمين بأولى من الآخر فوجب الرجوع فيه إلى النظر لأن المقلد فيه يجوز أن يكون صادقا ويجوز أن يكون كاذبا فلا يمكن إدراك الحق من جهته ويدل عليه هو أنه لو لم يصح النظر والاستدلال لما علم النبوات لأن من جاء يدعي النبوة يحتمل أن يكون صادقا ويحتمل أن يكون كاذبا وليس لأحد الاحتمالين على الآخر مزية فلا بد من الرجوع إلى ما يدل على صدقه ولا يعلم ما يدل على صدقه إلا بالنظر فدل على صحته
ولأن من ينفي ذلك لا يخلو إما أن ينفيه بالنظر فقد اعترف بصحة ما أبطله أو بالتقليد فيجب أن يقلدنا في جواز النظر
ولأن نفيه للنظر لا يخلو إما أن يكون بالضرورة أو بالنظر والاستدلال ولا يجوز أن يكون نفيه بالضرورة لأنه لو كان قد علم ذلك ضرورة لعلمناه كما علم وإن كان ينفيه بالنظر والاستدلال فقد اعترف بصحة ما أنكره
واحتجوا بأنه لو كان النظر طريقا لمعرفة الأحكام لوجب أن يتقدم عند النظر والاستدلال قول نعمل عليه ومذهب نرجع إليه
ألا ترى أن المقابلة في الأوزان والأعداد لما كان طريقا لمعرفة المقادير تقدر به عند الاعتبار أمر يزول معه الخطأ
قلنا لا نسلم فإن بالنظر يتقرر الحق ويبطل الباطل ولهذا نرى كثيرا ممن ينظر ويستدل يرجع عند النظر والاستدلال عما كان عليه من قبل وأما من لا يرجع فلأنه لم يستوف النظر ولو استوفى ذلك لبان له ورجع
واحتجوا بأنه لو كان النظر طريقا للمعرفة لوجب إذا وقع له شيء من ذلك عن دليل أن لا ينتقل عنه إلى غيره وقد رأينا من يكون على مذهب يعتقد صحته ثم ينتقل إلى غيره ويعتقد بطلان ما كان عليه وهذا يدل على أن النظر ليس بطريق للإدراك
قلنا الانتقال عن الشيء إلى غيره لا يدل على أن النظر ليس بطريق لتميز

الحق عن الباطل كما أن الإنسان يتخايل له السراب فيظن أنه ماء ثم يتبين أنه ليس بماء ولا يدل ذلك على أن نظر العين ليس بطريق لإدراك المرئيات كذلك هاهنا
قالوا ولأن النظر هو رد الفرع إلى الأصل والاستدلال بالشاهد على الغائب وجعل الضروري أصلا للعقلي وذلك لا يجوز
قلنا ولم لا يجوز أن يجعل الشاهد أصلا للغائب والضروري أصلا للعقلي وهل هذا إلا دعوى مجردة
وعلى أنه يلزمه أن لا تصح المقابلة في الحساب فإنه حمل خفي على جلي ورد غامض إلى ظاهر ولما صح ذلك بطل ما قالوه
وعلى أن جميع ما ذكروه نظر واستدلال على إبطال النظر والاستدلال وهذا متناقض
مسألة 2 يجوز ورود التعبد بالقياس في الشرعيات
وقال النظام لا يجوز ورود التعبد به وهو مذهب قوم من المعتزلة البغداديين وهو قول الإمامية والمغربي والقاساني
لنا هو أنه إذا جاز في العقليات أن يثبت الحكم في الشيء لعلة ويعرف ذلك العلة بالدليل وهو التقسيم والمقابلة ثم يقاس عليه غيره جاز أن يثبت الحكم في الشرعيات في عين من الأعيان لعلة وينصب على تلك العلة دليل يدل عليها ثم يقاس غيره عليه

وأيضا هو أنه لا خلاف أنه يجوز أن يقول صاحب الشرع حرمت عليكم الخمر لأنه شراب فيه شدة مطربة فقيسوا عليه كل ما كان فيه هذا المعنى فكذلك يجوز أن يحرم الخمر لهذه العلة وينصب عليها دلالة ويأمرنا بالقياس عليها
يدل عليه أنه لما جاز أن يأمرنا بالتوجه إلى الجهة التي فيها الكعبة لمن عاينها لأن فيها الكعبة جاز أن ينصب عليها دلالة لمن غاب عنها ويتعبد بالتوجه إليها بالاستدلال عليها
واحتجوا بأنه لو جاز التعبد بالقياس في الفروع لجاز التعبد به في الأصول حتى يعرف جميع الأحكام بالقياس
قلنا يجوز التعبد بالقياس في الأصول إذا كان هناك أصل يستدل به عليه فأما إذا لم يكن هناك أصل آخر فلا يجوز لأنه تعبد بما لم يجعل إلى معرفته طريقا ولم ينصب عليه دليلا وهذا كما تقول في البصير أنه يجوز أن يتعبد بالاجتهاد في طلب القبلة حيث جعل له إلى معرفتها طريق ولا يجوز أن يتعبد به الأعمى حيث لم يجعل له ذلك طريق كذلك هاهنا
قالوا ولأن التكليف إنما جعل لمصلحة المكلف والمصالح لا تعلم إلا بالنص فأما القياس فلا تعلم لأن القياس ربما أخطأ المصلحة
قلنا المصالح لا تعرف بالقياس ولكن ما عرف بالقياس فهو معلوم بالنص لأن النص هو الذي دل على القياس فما أدى إليه مأخوذ من النص وإن كان قد يتوصل إلى ذلك بضرب من الاستدلال
على أنه لو كان هذا دليلا على منع التعبد بالقياس لوجب أن يجعل ذلك دليلا على إبطال التعبد بالاجتهاد في الظواهر وترتيب الأدلة بعضها على بعض ولوجب أن يبطل أيضا الاجتهاد في القبلة فيقال إن طريق التكليف المصلحة وربما أخطأ المصلحة في هذا كله فيجب أن لا يجوز الاجتهاد ولما جاز ذلك بالإجماع دل على بطلان ما قالوه
قالوا لو كان في الشرع علة تقتضي الحكم لتعلق الحكم بما قبل الشرع

وبعده كما نقول في العقليات ولما وجدنا هذه المعاني موجودة قبل الشرع ولا توجب الحكم دل على أنه لا توجب بعده
قلنا هذا يبطل به إذا نص عليها وأمرنا بالقياس فإنها لا تقتضي الحكم قبل الشرع وتقتضيه بعد الشرع
قالوا ولأنه لو كان في الشرع علل توجب الحكم لوجب أن يوجد الحكم بوجودها ويزول بزوالها كما نقول في العلل العقلية ولما ثبت أنه يجوز أن ترتفع العلة ويبقى الحكم دل على أنها لا توجب
قلنا علل العقل موجبة للأحكام لأنفسها فلا يجوز أن ترتفع وحكمها باق وعلل الشرع إنما صارت عللا بالوضع فوزانها من العقليات ما كانت عللا بالوضع مثل أن تقول اضرب من كان خارج الدار فيجوز أن ترتفع هذه العلة ويبقى حكمها
ولأن علل العقل موجبة للأحكام بالكون فلا يجوز أن تفارق معلولاتها كالحياة في إيجاب كون الشخص حيا وعلل الشرع أمارات على الأحكام فجاز أن تفارق أحكامها كالنطق في الدلالة على كون الشخص حيا فإنه لو كان أمارة جاز أن يزول ذلك وتبقى الحياة
قالوا لو جاز أن تعلم الأحكام بالقياس لجاز أن يعلم ما يكون بالقياس فلما لم يجز هذا لم يجز ذلك
قلنا لو نصب على ذلك دليل لجاز أن يعلم ولهذا جوزنا العلم باقتراب الساعة بما نصب عليها من الأمارات والدلائل وإن كان ذلك على ما يكون في المستقبل فسقط ما قالوه
قالوا القياس فعل القائس ومصالح العباد لا يجوز أن تتعلق بفعل القائس
قلنا لو كان هذا دليلا في إبطال القياس في الشرع لوجب أن يجعل دليلا في إبطال القياس في العقل فيقال إن القياس فعل الإنسان وحقائق الأمور لا يجوز أن تتعلق بفعل الإنسان فيجب أن يبطل ذلك ولما صح ذلك بطل ما قالوه

ولأنه لو كان هذا صحيحا لوجب أن لا يجوز الاجتهاد في الظواهر ولا في طلب القبلة لأن ذلك فعل المجتهد فلا يجوز أن تتعلق به مصالح المكلفين
قالوا ولأن أحكام الشرع وأدلتها تتعلق بقصد المتعبد ويجوز أن يخالف المتعبد بين الأحكام مع الاتفاق في المعاني ويوافق بينها مع الاختلاف في المعاني فإذا جاز هذا لم يجز أن يوافق بين الأحكام لاتفاق المعاني إلا بأن ينص له على ذلك ومتى ورد النص استغنى عن القياس
قلنا الأحكام تتعلق بقصد المتعبد كما قلتم ولكن قصده يعلم مرة بالأسامي ومرة بالمعاني والظاهر أنه إذا اتفقت المعاني أن تتفق الأحكام كما إذا اتفقت الأسامي اتفقت الأحكام فلو كان جواز اختلافها مانعا من الجمع لمنع ذلك من التسوية بين الأسماء المتفقة بجواز اختلافها في الحكم ولما بطل أن يقال هذا في الأسماء بطل ذلك فى المعاني
قالوا ولأن العلم بالقياس يؤدي إلى مناقضة الأحكام فإن الفرع إذا تجاذبه أصلان وأخذ شبها من كل واحد منهما وجب إلحاقه بكل واحد منهما بحق الشبه وذلك متناقض
قلنا فيجب أن لا يجوز القياس في العقليات لأن في أحكام العقل ما يتجاذبه أصلان فيؤدي القياس إلى التناقض لأنه إذا تجاذبه أصلان ألحقناه بأشبههما وأقربهما إليه فلا يؤدي إلى التناقض
قالوا القياس أدنى البيانين فلا يجوز مع إمكان أظهرهما أن يقتصر على الأدنى
قلنا يجوز أن يفعل ذلك ليتوفر الأجر في الاجتهاد ويكثر الثواب في الطلب
ثم هذا يقتضي أن لا يكون في الشرع مجمل ولا متشابه فإن المفصل المحكم أظهر في البيان وفي علمنا بجواز ذلك دليل على بطلان ما ذكروه

واحتج النظام بأن الشرع ورد على وجوه لا يجوز القياس معها وذلك أنه ورد بالتفرقة بين المتساويين والتسوية بين المتفرقين
ألا ترى أنه أباح النظر إلى وجه المرأة وحرم النظر إلى صدرها مع تساويهما
وأسقط الصلاة عن الحائض وأوجب عليها قضاء الصوم مع اتقاقهما
وأجب الغسل من المني وهو طاهر وأسقطه في البول وهو نجس
وهذا كله مخالف لموجب القياس
فالجواب هو أن هذا لو كان يوجب إبطال القياس في الشرعيات لوجب أن يوجب بطلان القياس في العقليات فيقال إن ذلك يؤدي إلى الجمع بين المتفرقين والتفرقة بين المتساويين ثم لم يمنع ذلك صحة القياس فيها
على أنا لا نسلم ما ذكروه فإنه ما افترق حكم متشابهين إلا لافتراقهما في معنى يوجب الفرق بينهما ولا استوى حكم مفترقين إلا لتساويهما في معنى يوجب التسوية بينهما
فأما إباحة النظر إلى وجه المرأة فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك في المعاملات والشهادات وغير ذلك وهذه الحاجة لا توجد في الصدر وغيره
وأما إسقاط الصلاة عن الحائض فإنما تسقط لأن الصلوات تكثر فلو أوجبنا عليها القضاء إذا طهرت أدى إلى المشقة والصوم في السنة مرة فلا يشق إيجاب قضائه
وأما إيجاب الغسل من المني فلأنه يلتذ به جميع البدن وهذا المعنى لا يوجد في البول وغيره
وعلى هذا المثال يجري حال كل متشابهين فرق بينهما الشرع وكل متفرقين سوى بينهما فسقط ما قالوه
مسألة 3 القياس طريق الأحكام الشرعية
وذهب داود وأهل الظاهر إلى أن القياس لا يجوز في الشرع وهو قول النظام والإمامية

لنا ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد في سنة رسول الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فقال صلى الله عليه و سلم الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فدل على جواز الاجتهاد وصحة الرأي
فإن قيل هذا من أخبار الآحاد فلا يجوز أن يثبت به أصل من الأصول
قيل هو وإن كان من أخبار الآحاد إلا أن الأمة تلقته بالقبول فبعضهم يعمل به وبعضهم يتأوله فهو كالخبر المتواتر
ولأنه إذا جاز إثبات أحكام الشرع كلها من تحليل وتحريم وإيجاب وإسقاط وتصحيح وإبطال وإقامة الحدود وضرب الرقاب بخبر الواحد فلأن يثبت به القياس والمقصود به إثبات هذه الأحكام أولى
وأيضا إجماع الصحابة رضي الله عنهم
فروي عن ميمون بن مهران أنه قال كان أبو بكر الصديق رضي الله

عنه إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى فيه بقضاء وربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا فإن لم يجد سنة من النبي عليه السلام جمع رؤساء الناس وعلماءهم واستشارهم فإذا أجمع رأيهم على شيء قضى به قال وكان عمر يفعل ذلك
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال والأشباه ثم اعمد فيها إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق وهذا الكتاب تلقته الأمة بالقبول
وروي أنه قال لعثمان رضي الله عنه إني رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال له عثمان أن نتبعك فرأيك سديد وإن نتبع رأي من كان قبلك فنعم ذو الرأي الذي كان
وروى زاذان عن عليه عليه السلام أنه قال سألني أمير المؤمنين عمر عن المخيرة فقلت إن اختارت زوجها فهي واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة فقال ليس كذلك ولكن إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها فبايعته على ذلك فلما خلص الأمر إلي وعرفت أني

أسأل عن الفروج عدت إلى ما كنت أرى فقلت والله لأمر جامعت عليه أمير المؤمنين وتركت رأيك له أحب إلينا من رأي انفردت به فضحك وقال أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت وخالفني وإياه وقال إن اختارت زوجها فهي واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي ثلاث
وقد روي عنه أنه قال كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر أن لا يباع أمهات الأولاد ثم رأيت بعد بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع أمير المؤمنين أحب إلينا من رأيك وحدك
وروي عن ابن مسعود أنه قال في قصة بروع بنت وأشق الأشجعية أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان
وروي عن ابن عباس أنه قال في ديات الأسنان لما قسمها عمر رضي الله عنه على المنافع فقال هلا اعتبرتها بالأصابع عقلها سواء وإن اختلفت منافعها
وروي عنه أنه قال ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا
وهذا كله يدل على صحة القياس
فإن قيل يحتمل أن يكونوا أرادوا بالرأي الاجتهاد والنظر في موجب الكتاب والسنة

قيل هذا لا يصح لأنا قد روينا أنهم كانوا يجتهدون إذا لم يجدوا ذلك في الكتاب والسنة
ولأن عمر رضي الله عنه صرح بالقياس في كتاب أبي موسى الأشعري
وابن عباس وابن مسعود صرحا بما لا يحتمل غير القياس والاستدلال
وطريقة أخرى جهة الإجماع وهو أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة كالجد والأخوة والخرقاء والمشتركة والحرام والخيار وكثرت أقاويلهم فيها وسلكوا كلهم فيها طريق القياس والاجتهاد حتى إن بعضهم في مسألة الجد شبه بغصن شجرة وبعضهم شبه بالساقية وهذا يدل على ما ذكرناه من صحة القياس
فإن قيل يجوز أن يكونوا قد حكموا فيها بنصوص وقعت إليهم واستصحبوا فيها موجب العقل قبل ورود الشرع
قيل لا يجوز أن يكون معهم نصوص لأنه لو كان معهم في ذلك نص لأظهروه عند الخلاف
وأيضا فإنا روينا أنهم سلكوا فيها طرق الاجتهاد والقياس ولا يجوز أن يكونوا قضوا فيها بموجب العقل لأن ما قضوا فيه ليس بموجب العقل قبل ورود الشرع

ولأنا بينا أنهم تعلقوا فيه بالقياس والرجوع إلى النظائر
فإن قيل إن كان قد نقل عنهم العمل بالقياس فقد نقل عنهم رد القياس والرأي
روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي
وقال عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
وقال علي عليه السلام لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره
وقال ابن سيرين أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس
وقال مسروق إني لا أقيس شيئا بشيء إني أخاف أن نزل قدمي
وقال أبو وائل لا تجالسوا أهل الرأي فليس لكم أن تتعلقوا بما رويتم إلا ولنا أن نتعلق بما روينا
قلنا إنما ذموا الرأي المخالف للسنة ويجب عندنا أن ذلك مذموم يدل

عليه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال إذا قلت في كتاب الله وهذا يدل على أن في كتاب الله تعالى حكم المسألة
وقال عمر رضي الله عنه أعيتهم الأحاديث أن يعوها فدل على أنهم عملوا بالقياس مع وجود الأحاديث
وقال علي عليه السلام لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يمسح ظاهره
وابن سيرين ذم قياس إبليس وكان قياسه مع وجود النص فسقط ما قالوه
واحتجوا بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقوله تعالى وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
والجواب أن العمل بالقياس عمل بما علمناه لأن الدليل قد دل على صحته وصار كالعمل بشهادة الشاهدين وخبر الواحد وتقويم المقوم فإن ذلك كله لما دل الدليل عليه كان حكما لما علم فكذلك هاهنا
وعلى أن هذا نجعله حجة عليهم في رد القياس فإنهم ردوا ذلك فأبطلوه من غير علم فوجب أن لا يجوز
واحتجوا بقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا والقياس ظن

والجواب أن المراد بذلك الظن الذي لا يستند إلى أمارة وهو الحدس والتخمين والذي يدل عليه أنا حكمنا بالظن في الشهادة والتقويم وغير ذلك فدل على أن المراد ما قلناه
واحتجوا بقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وبقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وهذا يدل على أن الأحكام كلها مبينة في الكتاب وليس فيها ما يحتاج فيه إلى القياس
والجواب هو أنا نقول بموجب الآية وأنه أكمل الدين ولم يفرط في الكتاب من شيء ولكن القياس دل عليه الكتاب وأكمل به الدين كما أن ما بين بالأخبار والإجماع مما دل عليه الكتاب وأكمل به الدين
واحتجوا بقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وبقوله لا تقدموا بين يدي الله ورسوله
والجواب أن الرجوع إلى القياس رد إلى الله وإلى الرسول فإن الكتاب والسنة دلا على وجوب العمل به
واستدلوا بما روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا وهذا نص في إبطال الرأي
والجواب أن المراد به الرأي المخالف للنص وذلك عندنا ضلالة

واحتجوا أيضا بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال ستفترق أمتي فرقا أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور بالرأي
والجواب عنه ما بيناه من الرأي المخالف لنص الكتاب والسنة
قالوا ولأن إثبات القياس لا يخلو إما أن يكون بالعقل أو بالنقل ولا يجوز أن يكون بالعقل لأنه لا مجال له فيه ولا يجوز أن يكون بالنقل لأن النقل لا يخلو من أن يكون تواترا أو آحادا ولا يجوز أن يكون تواترا لأنه لو كان فيه تواتر لعلمناه كما علمتم ولا يجوز أن يكون آحادا لأنه من مسائل الأصول ولا يجوز إثباته بخبر الواحد كإثبات الصفات وغيرها
قلنا نقلب عليهم هذا في إبطال القياس فنقول لا يخلو إبطاله إما أن يكون بالعقل أو بالنقل وكل جواب لهم عن ذلك فهو جوابنا عما ألزمونا
ولأنا لا نسلم أن ذلك لا يثبت بخبر الواحد بل يجوز إثبات جميع الأحكام المقصودة بالقياس بخبر الواحد وخالف ما ذكروه من الصفات لأن هناك أدلة تقطعه فلم نعمل فيها بخبر الواحد وليس في هذه المسألة إلا مثل ما في سائر المسائل من الطرق فافترقا
وعلى أنا روينا في ذلك أخبارا متلقاة بالقبول والأخبار المتلقاة بالقبول بمنزلة التواتر
قالوا ولأن القياس إنما يصح إذا ثبتت علة الأصل وأنتم تقيسون الفرع على الأصل من غير أن تثبت لكم علة الأصل وهذا لا يجوز
قلنا نحن لا نقيس حتى تثبت علة الأصل ويقوم الدليل على صحتها
قالوا القياس عندكم حمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه وما من شيئين يتفقان في وجه من الشبه إلا ويفترقان في غيره فإن وجب إلحاق أحدهما بالآخر لما بينهما من الشبه وجب الفرق بينهما لما بينهما من الفرق وليس أحد الأمرين بأولى من الآخر فوجب التوقف عن القياس

والجواب أنا نحمل الفرع على الأصل إذا اتفقا على علة الحكم ومتى حصل الاتفاق في العلة لم يؤثر افتراقهما في غيرها كما إذا اتفق شيئان في العقليات في علة الحكم وجب الجمع بينهما وإن افترقا في كثير من الأشياء
قالوا ولأن أكثر ما تدعون أن تثبت لكم العلة التي تعلق بها الحكم في المنصوص وثبوت ذلك لا يوجب قياس غيره عليه حتى يرد الدليل بالقياس
ألا ترى أن رجلا لو قال أعتقت فلانا لأنه أسود لم يجب عتق كل عبد له أسود
قلنا إذا ثبت وجوب القياس في الجملة وعرف علة الحكم لم يفتقر في كل مسألة إلى دليل يدل على القياس كما إذا ثبت وجود العمل بخبر الواحد لم يفتقر في كل مسألة إلى دليل يدل على وجوب العمل به
ويخالف هذا ما ذكروه من قول الرجل أعتقت فلانا لأنه أسود لأنه تجوز عليه المناقضة فجاز أن يناقض في علته وصاحب الشرع لا تجوز عليه المناقضة فإذا وجدت علته وجب أن تطرد
قالوا ولأن الأحكام مأخوذة من صاحب الشرع وهو إنما خاطبنا بلغة العرب والعرب لا تعقل من الخطاب إلا ما دل عليه اللفظ فأما المعاني والعلل فلا تعقلها فيجب أن يكون الحكم مقصورا على ما يقتضيه الخطاب
قلنا لعمري إن الأحكام مأخوذة من صاحب الشرع وأنه خاطبنا بلغة العرب غير أنا لا نسلم أن العرب لا تعرف من اللفظ إلا ما دل عليه صريحه بل تعرف ما يدل عليه اللفظ مرة بالصريح ومرة بالتنبيه وكل ذلك تعرفه ولهذا إذا قال لغيره إياك أن تكلم فلانا عقل منه المنع من ضربه
قالوا القياس إنما يراد عندكم ليعلم به حكم ما لا يعلم بغيره وليس عندنا مسألة إلا وحكمها معلوم من جهة النص فلا يحتاج إلى القياس

قلنا هذا غلط فإن هاهنا مسائل لا نص فيها ولا نعرف حكمها إلا من جهة القياس من ذلك
أن قتل الزنبور يجوز في الحل والحرم وليس فيه نص وإنما عرف بالقياس على العقرب
ومن ترك الصلاة عامدا وجب عليه القضاء وليس فيها نص وإنما عرف ذلك بالقياس على الناسي والنائم
وإذا ماتت الفأرة في غير السمن أو مات السنور ألقي وما حولها إن كان جامدا وأريق إن كان مائعا وليس في ذلك نص وإنما قيس على الفأرة تقع في السمن
وأمثال ذلك لا يحصى كثرة
فإن قيل إنما حرمنا ذلك بالإجماع
قيل الإجماع لا يجوز أن ينعقد من غير دليل وليس في هذه المسائل دليل غير القياس فدل على أن الإجماع انعقد فيها على القياس
قالوا لو كان القياس دليلا لوجب أن لا يترك لخبر الواحد لأنهما في إيجاب الظن واحتمال الشبه سواء
قلنا هما وإن استويا فيما ذكرتم إلا أن القياس أدنى رتبة منه من وجهين
أحدهما أنه مأخوذ من وجه فيه من الشبه مثل ما في الذي عارضه
والثاني أن القياس فرع للمنصوص في الجملة ولإثبات الفروع مع وجود الأصول كما لإثبات النظر العقلي مع الضروري
قالوا ولأن القول بالقياس يؤدي إلى نفيه وذلك أنه إذا قال لم يثبت

الحكم في الأصل وجب أن يكون الفرع مثله اعتبارا بالأصل لم ينفصل عمن قال له لما لم يثبت الحكم في الأصل إلا من جهة النص وجب أن يكون في الفرع مثله اعتبارا بالأصل فتكافأ القولان في ذلك فوجب أن يبطل الجميع
والجواب هو أنه لو كان هذا طريقا في إبطال إثبات القياس في الشرعيات لوجب أن يكون طريقا في إبطال القياس في العقليات فيقال لمن استدل به إذا كان العقلي كالضروري ثم كان الحكم في الضروري مستفادا بالحس وجب أن يكون في موضع الخلاف مستفادا بالحس وذلك يوجب بطلان القياس ولما بطل هذا في القياس في العقليات بطل ذلك في القياس في الشرعيات
مسألة 4 إذا حكم صاحب الشرع بحكم في عين ونص على علته وجب إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة وهو قول النظام والقاشاني والنهرواني وغيره من نفاة القياس وهو مذهب الكرخي

ومن أصحابنا من قال لا يجوز إجراء العلة في كل موضع وجدت حتى يدل الدليل على ذلك وهو قول البصري من أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أنه إذا قال لا تأكل السكر لأنه حلو عقل منه تحريم كل ما هو حلو وإذا قال لا تأكل العسل لأنه حار عقل منه تحريم كل ما كان حارا ولهذا إذا سمع الناس ذلك من رجل ثم لم يطردوه أسرعوا إلى مناقضته فدل على أن مقتضاه الطرد والجريان
ولأنه لو لم يقصد إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة لم يفد ذكر التعديل شيئا وصار لغوا
واحتجوا بأن الأحكام إنما شرعت لمصلحة المكلفين فيجوز أن تكون حلاوة السكر تدعو الإنسان إلى تناوله وحلاوة غيره لا تدعو إلى تناوله لأن الداعي إذا دعا إلى شيء لا يجب أن يدعو إلى كل ما شاركه في ذلك المعنى ولهذا يجوز أن تدعوه الشهوة إلى أكل السكر ولا تدعوه إلى أكل العسل وإن اشتركا في الحلاوة فإذا كان ذلك كذلك جاز أن يعلل تحريم السكر في الحلاوة لما في تحريمه من

المصلحة إلا أنه جعله أمارة على التحريم حيث وجدت فلا يجوز قياس غيره عليه إلا بدليل
قلنا لو كان القصد به ما ذكرتم لاقتصر على بيان الحكم ولما ذكر الحكم وعلته دل على أنه قصد إجراءها حيث وجدت
قالوا لو كان ذكر التعليل في شيء يقتضي الطرد والجريان لوجب إذا قال الرجل أعتقت عبدي فلانا لأنه أسود أن يعتق عليه كل عبد أسود ولما بطل أن يقال هذا دل على أن ذكر العلة لا يقتضي الطرد والجريان
ولأنه لو لم يقصد إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة لم يفد ذكر التعديل شيئا وصار لغوا
قلنا إنما لم يلزم من ذلك في حق الواحد منا لأنه تجوز عليه المناقضة في أقواله وأفعاله فأما صاحب الشرع فلأنه لا تجوز عليه المناقضة في أقواله وأفعاله فإذا علل بعلة وجب طردها
قالوا ولكن ما جعل علة في الحكم غير موجب للحكم بنفسه لأنه قد كان موجودا قبل ذلك ولم يوجد الحكم
وأيضا صار موجبا بجعل جاعل فيجب أن لا يكون علة إلا حيث جعلها علة
قلنا لو كان هذا صحيحا لوجب أن لا يكون علة إلا في الزمان الذي جعله فيه علة لأنه صار علة بجعله فيجب أن يكون مقصورا على الزمان الذي جعله فيه علة ولما لم يصح أن يقال هذا في الزمان لم يصح أن يقال ذلك في الأعيان
قالوا لو كان ذكر العلة في عين يوجب ثبوت الحكم في كل عين لوجب إذا قال حرمت السكر لحلاوته وأحللت العسل أن يكون ذلك مناقضة فلما جاز أن يقول ذلك ولم يقبح دل على أن العلة لا تقتضي الطرد

قلنا إذا قال حرمت السكر لأنه حلو فالظاهر أن ذلك جميع العلة فإذا قال بعد ذلك وأحللت العسل علمنا أنه ذكر بعض العلة وأنه أراد الحلاوة مع الجنس وليس إذا حمل اللفظ على غير الظاهر بدلالة اقترنت به دل على بطلان ظاهره إذا تجرد
مسألة 5 يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات بالقياس
وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز
لنا ما روي عن معاذ أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم حين بعثه إلى اليمن أجتهد رأيي فصوبه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك ولم يفرق بين هذه الأحكام وبين غيرها

ولأنه حكم ليس فيه دليل قاطع فجاز إثباته بالقياس أصله سائر الأحكام
ولأن كل دليل ثبت فيه غير هذه الأحكام ثبت فيه هذه الأحكام كخبر الواحد
ويدل عليه هو أن القياس في معنى خبر الواحد ألا ترى أن كل واحد منهما يقتضي الحكم من طريق الظن ويجوز السهو والخطأ في كل واحد منهما وإذا جاز إثبات هذه الأحكام بخبر الواحد جاز إثباتها بالقياس
ولأنهم أوجبوا الكفارة على الأكل في رمضان قياسا على المجامع
وأوجبوا الحد في المحاربة قياسا على الردء في استحقاق الغنيمة فدل على جواز ذلك
فإن قيل الكفارة في رمضان واجبة بالإجماع وكذلك الحد في المحاربة وإنما أثبتنا موضعها بالقياس وذلك جائز وإنما الذي لا يجوز إيجاب ذلك في غير الباب الذي ثبت فيه كإيجاب القطع على المختلس والحد على اللائط
قيل هو وإن كان إيجابا في الباب الذي وجب فيه إلا أن المانع عندهم من إيجاب ذلك بالقياس هو أن مقدار المأثم وما يفتقر إلى الحد في الردع لا يدرك بالقياس ولا يعلمه إلا الله تعالى وهذا موجود فيما ألزمناهم فيجب أن لا يقاس فيه
فإن قيل نحن لم نوجب ذلك بالقياس وإنما أوجبناه بالتنبيه والاستدلال بالأولى فإن مأثم الأكل أكثر من مأثم الجماع فإذا وجبت الكفارة في الجماع ففي الأكل أولى

قيل الاستدلال بالأولى لا يوجد في إيجاب الحد على الردء لأن الردء ليس بأكثر إثما من المباشرة وقد أوجبتموه
وعلى أن مثل هذا موجود في اللواط فإن إثمه أعظم من مأثم الزنا لأنه لا يستباح بحال وقد منعتم من إيجاب الحد فيه بالقياس على الزنا
واحتجوا بأن الحد شرع للزجر والردع عن المعاصي والكفارة وضعت لتكفير المأثم وما يقع به الردع والزجر من المعاصي ويتعلق به التكفير عن المأثم لا يعلمه إلا الله تعالى فكذلك اختصاص الحكم بقدر دون قدر لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يجوز إثبات شيء من ذلك بالقياس
الجواب هو أن هذا لو كان طريقا في نفي القياس في هذه الأحكام لوجب أن يجعل مثل ذلك طريقا في نفي القياس في سائر الأحكام كما فعله نفاة القياس فقالوا إن الأحكام شرعت لمصلحة المكلفين والمصلحة لا يعلمها إلا الله تعالى فيجب أن لا يعمل فيها بالقياس ولما بطل هذا في نفي القياس في سائر الأحكام بطل في نفي القياس في هذه الأحكام
على أنا إنما نقيس إذا علمنا معنى الأصل بدليل وإذا ثبت ذلك بالدليل صار بمنزلة التوقيف
واحتجوا بأن القياس موضع شبهة لأنه إلحاق فرع بأشبه الأصلين فيكون الأصل الآخر شبهة فلا يجوز إيجاب الحد مع الشبهات
والجواب هو أن هذا يبطل بخبر الواحد وشهادة الشهود فإنها لموضع شبهة لأنه يجوز الخطأ والسهو فيها ثم يجوز إثبات الحدود بهما
وعلى أنا إنما نوجب إذا ترجح أحد الأصلين فيبطل الأصل الآخر ويصير وجوده كعدمه
ثم هذا يبطل بإيجاب ذلك في الباب الذي وضع فيه فإنهم جوزوه بالقياس وإن كان موضع شبهة
مسألة 6 يجوز ابتداء الأحكام بالقياس وإن لم يكن عليها نقل في الجملة
وقال أبو هاشم لا يجوز أن يثبت بالقياس إلا ما نص عليه بالجملة ثم يثبت تفصيله بالقياس
لنا قول معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه و سلم أجتهد رأيي ولم يفصل بين إثبات الجملة وبين إثبات التفصيل
ولأن الصحابة رضي الله عنهم ابتدؤوا الحكم في قولهم أنت حرام بالقياس وإن لم يكن منصوصا عليه في الجملة ولأن كل حكم جاز إثباته بخبر الواحد جاز إثباته بالقياس كالحكم في التفصيل
واحتجوا بأنه لو كان إثبات الجمل بالقياس لجاز إثبات صلاة سادسة بالقياس فلما لم يجز ذلك بالإجماع دل على أنه لا يجوز إثبات الجمل بالقياس
والجواب أن القياس فيما ذكروه إنما لم يصح لأنه يخالف النص والإجماع وليس إذا لم يصح القياس عند مخالفة النص والإجماع لم يصح مع عدم مخالفتهما
ألا ترى أن القياس في أحكام التفصيل إذا خالف النص والإجماع لم يصح ثم لا يدل على أنه لا يصح مع عدم المخالفة فكذلك هاهنا
مسألة 7 يجوز إثبات الأسامي بالقياس في قول كثير من أصحابنا
ومنهم من قال لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة وكثير من المتكلمين
لنا أنا رأينا العرب قد سموا أعيانا بأسامي كالإنسان والفرس والحمار وغير ذلك ثم انقرضوا وانقرضت تلك الأعيان واتفقت الناس على تسمية أمثالها بتلك الأسماء فدل على أنهم قاسوا على المسموع

فإن قيل ليس هذا من جهة القياس وإنما هو من جهة الوضع فإنهم وضعوا هذه الأسماء لهذه الأجناس
قلنا لم يحفظ عنهم أنهم قالوا إن هذه الأسماء لهذه الأجناس ولا سبيل لأحد إلى نقل ذلك عنهم فسقط ما قالوه
وأيضا هو أن أهل النحو أجمعوا على أن كل فاعل مرفوع وكل مفعول به منصوب ولم يسمع ذلك من العرب وإنما عرف ذلك بالقياس والاستدلال وذلك أنهم لما استمروا في كل فاعل ذكروه على الرفع وفي كل مفعول على النصب علم أنهم إنما رفعوا في موضع الرفع لكونه فاعلا ونصبوا في موضع النصب لكونه مفعولا فحملوا عليه كل فاعل وكل مفعول قياسا فهكذا فعلوا في جميع وجوه الإعراب فدل على ما ذكرناه
ولأن الطريق الذي يعلم به الحكم من جهة القياس هو أن ينظر القائس فيما تعلق به الحكم من النصوص ويستدل عليه بالسلب والوجود ثم يجد ذلك في غيره فيحمل عليه وهذا موجود في الاسم فإنا إذا رأينا عصير العنب قبل الشدة لا نسميه خمرا ثم تحدث الشدة فيسمى خمرا ثم تزول الشدة فلا يسمى خمرا علمنا أن الموجب لهذه التسمية وجود الشدة المطربة وهذا المعنى موجود في النبيذ فيجب أن يسمى خمرا
واحتجوا بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها وقيل في الخبر أنه علمه حتى القصعة والقصيعة فدل على أن الرجوع في الأسماء إلى التوقيف
قلنا ليس فيه أنه علمه كلها بالنص ويجوز أن يكون قد علمه البعض بالنص والبعض بالتنبيه والقياس
وعلى أن هذا خاص لآدم عليه السلام ويجوز أن يكون قد علمه ذلك كله نصا ونحن نعرفه قياسا
قالوا ولأنه ما من شيء إلا وله اسم في اللغة فلا يجوز أن يثبت له اسم آخر

بالقياس كما إذا ثبت للشيء حكم بالنص لا يجوز أن يثبت له حكم آخر بالقياس
قلنا الأحكام تتنافى فإذا ثبت للشيء حكم لم يجز أن يثبت له حكم آخر يخالفه والأسماء لا تتنافى فيكون للشيء اسم ويجعل له اسم آخر يدلك عليه أنه يجوز أن يكون للشيء الواحد اسمان وثلاثة وأكثر من طريق التوقيف ولا يجوز أن يكون للشيء الواحد حكمان متضادان من طريق النص فافترقا
قالوا القياس إنما يصح في اللغة إذا ثبت أنهم وضعوا ذلك على المعنى ثم أذنوا في القياس عليه وهذا لا سبيل إلى إثباته فيجب أن لا يصح القياس فيها
قلنا نحن إنما نقيس فيما وضعوا على المعنى وذلك يعلم باستقراء كلامهم واستمرارهم في الشيء على طريقة واحدة فيعلم بذلك قصدهم كما يعلم قصد صاحب الشرع
وأما الإذن فلا يحتاج إليه مع العلم بالمعنى إذ لا فرق بين أن يقول سميتها خمرا للشدة المطربة وبين أن يقول كل شديد مطرب فهو خمر
قالوا ولأن الاسم لم يوضع على القياس ألا ترى أنهم خالفوا بين المتشاكلين في الاسم فسموا الفرس الأسود أدهم ولم يسموا الحمار الأسود أدهم ويسمون الفرس الأبيض أشهب ولم يسموا الحمار الأبيض أشهب فدل على أنه لا مجال للقياس فيه
قلنا لو كان هذا طريقا في إبطال القياس في الأسامي في اللغة لكان طريقا في إبطال القياس في الشرعيات فيقال إنها وضعت على غير القياس ألا ترى أنه فرق بين المتشاكلين وهو المذي والمني فأوجب الغسل بأحدهما دون الآخر فيجب أن يبطل القياس ولما بطل هذا في الشرعيات بطل ما قالوه في الأسماء واللغات
قالوا لو جاز إثبات الأسماء المشتبهة بالقياس لجاز إثبات الألقاب ولما لم يجز ذلك لم يجز هذا
قلنا الألقاب لم توضع على المعنى ولا يمكن قياس غيرها عليها والمشتقة وضعت على المعنى فأمكن قياس غيرها عليها فافترقا
مسألة 8 يجوز إثبات القياس على ما ثبت بالإجماع
وقال بعض أصحابنا لا يجوز إلا على ما ثبت بالكتاب والسنة
لنا هو أن الإجماع أصل في إثبات الأحكام فجاز القياس على ما ثبت به كالنص
ولأنه إذا جاز القياس على ما ثبت بخبر الواحد وهو مظنون فلأن يجوز على ما ثبت بالإجماع وهو مقطوع بصحته أولى
واحتجوا بأن الأمة لا تشرع وإنما تجمع عن دليل فيجب طلب ذلك الدليل فإنه ربما يكون لفظا يتناول الفرع فيغني عن القياس وربما كان معنى لا يتعدى موضع الإجماع فيمنع القياس
قلنا لا حاجة بنا إلى النظر في الدليل لأنه إن كان الدليل نطقا بينا بتناول الفرع لم يمنع ذلك من القياس لأن أكثر ما فيه أن يكون قد استدل في المسألة بالقياس مع إمكان الاستدلال بالنص وذلك جائز وإن كان الدليل معنى لا يتعدى موضع الإجماع لم يمنع أيضا القياس لأن الإجماع عن معنى لا يتعدى لا يمنع أن يكون هناك معنى آخر يتعدى إلى الفرع فيقاس عليه وإذا لم يكن في واحد من الحالين ما يمنع القياس لم يجب طلب الدليل
مسألة 9 يجوز القياس على ما ورد به الخبر مخالفا للقياس وهو الذي يسميه أصحاب أبي حنيفة موضع الاستحسان
وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز إلا أن يرد الخبر معللا أو مجمعا على تعليله أو هناك أصل آخر يوافقه فيجوز القياس
لنا هو ما ورد به الخبر أصل يجوز العمل به فجاز أن يستنبط منه معنى ويقاس
الدليل عليه إذا لم يكن مخالفا للقياس
ولأنه لا خلاف أن المخصوص من العموم يجوز القياس عليه ولا يمنع منه العموم فكذلك المخصوص من الأصول يجب أن يجوز القياس عليه ولا تمنع منه الأصول

ولأن ما ورد به الخبر لو نص على تعليله جاز القياس عليه فإذا ثبت تعليله بدليل من جهة الاستنباط وجب أن يجوز القياس عليه لأن ما ثبت بالدليل بمنزلة المنصوص عليه
وأيضا فإن ما ورد به الخبر أصل كما أن ما ثبت بالقياس أصل وليس رد هذا الأصل لمخالفته ذلك الأصل بأولى من رد ذلك الأصل لمخالفته هذا الأصل فوجب إجراء كل واحد منهما في القياس عليه على ما يقتضيه
واحتجوا بأن ما ثبت بقياس الأصول مقطوع به وما يقتضيه هذا القياس مظنون فلا يجوز إبطال المقطوع به بأمر مظنون
قلنا هذا يبطل المخصوص من عموم القرآن بخبر الواحد فإنه يجوز القياس عليه وإن كان فيه إبطال مقطوع به بأمر مظنون ويبطل أيضا بالخبر إذا ورد مخالفا للأصول وهو معلل فإنه يثبت من طريق الظن ثم يقاس غيره عليه ويترك له قياس الأصول الذي طريقه القطع
مسألة 10 إذا ثبت الحكم في الفرع بالقياس على أصل جاز أن يجعل هذا الفرع أصلا لفرع آخر يقاس عليه بعلة أخرى في أحد الوجهين وهو قول أبي عبد الله البصري من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله
ومن أصحابنا من قال لا يجوز وهو قول أبي الحسن الكرخي
لنا هو أن الفرع لما ثبت الحكم به بالقياس صار أصلا بنفسه فجاز أن يستنبط منه معنى ويقاس عليه غيره كالأصل الثابت بالنص

واحتجوا بأن العلة التي ثبت بها الحكم في الفرع هو المعنى الذي انتزع من الأصل وقيس عليه الفرع وهذا المعنى غير موجود في الفرع الثاني فلا يجوز إثبات الحكم فيه بالقياس
قلنا ليس إذا لم يوجد في الفرع الثاني ما ثبت به الحكم في الفرع الأول لم يجز قياسه عليه ألا ترى أن ما ثبت به الحكم في الأصل من النص غير موجود فيما يقاس عليه ولا يمنع ذلك صحة القياس عليه فكذلك هاهنا يجوز أن لا يوجد في الفرع الثاني معنى الفرع الأول ثم يصح القياس عليه
قالوا ولأنكم إذا عللتم السكر بأنه مطعوم فيحرم فيه الربا كالبر ثم عللتم السكر بأنه موزون وقستم عليه الرصاص خرجتم عن أن تكون العلة في السكر أنه مطعوم
قلنا لا يخرج عن أن يكون الطعم علة فيه بل الطعم علة فيه والوزن علة ويجوز أن يثبت الحكم في العين الواحدة بعلتين
مسألة 11 العلة الواقفة صحيحة
وقال أصحاب أبي حنيفة هي باطلة وهو قول بعض أصحابنا
لنا هو أن القياس أمارة شرعية فجاز أن تكون خاصة وعامة
دليله النص
ولأن كل علة جاز أن تكون متعدية جاز أن تكون واقفة كما لو نص عليها صاحب الشرع
ولأن العلل العقلية آكد من العلل الشرعية بدليل أن العلل العقلية يعتبر فيها الطرد والعكس ولا تعتبر في الشرعية فإذا جاز أن تكون العقلية واقفة فالشرعية بذلك أولى

واحتجوا بأن الواقفة لا تفيد شيئا لأن حكمها ثابت بالنص وما لا فائدة فيه لم يكن لانتزاعه معنى
قلنا يبطل بالواقفة إذا نص عليها فإنها لا تفيد شيئا ومع ذلك فإنها تصح
وعلى أنها وإن لم تفد في فرع يلحق بأصل أفادت بيان علة الأصل ووجه الحكمة والمعنى الذي تتعلق به المصلحة
وأيضا ربما حدث فرع يوجد فيه ذلك المعنى فيلحق به
ولأنه إذا عرف أن العلة واقفة على الأصل منع من قياس غيره عليه كما إذا عرف أنها متعدية استفيد به قياس غيره وهذه فائدة صحيحة
مسألة 12 يجوز أن يجعل الاسم علة للحكم
ومن أصحابنا من قال لا يجوز
ومنهم من قال يجوز أن يجعل الاسم المشتق علة ولا يجوز أن يجعل الاسم اللقب علة
لنا هو أنه إن ما جاز أن يعلق الحكم عليه نطقا جاز أن يستنبط ويعلق الحكم عليه كالصفات والمعاني
ولأن بالاستنباط يتوصل إلى معرفة قصد صاحب الشريعة وإذا جاز أن ينص صاحب الشريعة على تعليق الحكم بالاسم جاز أن يستنبط ذلك بالدليل ويعلق عليه الحكم
واحتجوا بأن الاسم لا يحتاج إلى الاستنباط فلا يجوز أن يجعل علة الحكم

والجواب أن هذا خطأ لأن تعليق الحكم على الاسم وجعلة علة للحكم يفتقر إلى الاستنباط كما تفتقر سائر الصفات فسقط ما قالوه
وربما قالوا إن الحكم إنما يتعلق بالمعاني والأسماء ليست بمعان
والجواب أن هذه دعوى لا برهان عليها
قالوا ولأن العلل لا تكون إلا حقيقة والأسماء تدخلها الحقيقة والمجاز فلا يجوز أن تجعل علة
قلنا هذا يبطل به إذا نص عليه صاحب الشرع فإنه يجعل علة ويعلق الحكم عليه وإن دخله الحقيقة والمجاز فسقط ما قالوه
مسألة 13 يجوز أن يجعل نفي صفة علة الحكم
ومن أصحابنا من قال لا يجوز وحكى ذلك عن القاضي أبي حامد رحمه الله
لنا هو أن ما جاز أن ينص عليه في التعليل جاز أن يستنبط بالدليل ويعلق الحكم عليه كالإثبات
ولأنه إذا جاز أن يكون الحكم مرة إثباتا ومرة نفيا جاز أن تكون العلة مرة إثباتا ومرة نفيا
واحتجوا بأن الذي يوجب الحكم وجود معنى فأما إذا عدم المعنى فلا يجوز أن يوجب الحكم والنفي عدم معنى فلا يجوز أن يوجب الحكم

والجواب هو أن هذا مجرد الدعوى فلا يقبل من غير دليل
قالوا ولأن من شرط العلة أن يشترك فيها الأصل والفرع والاشتراك في النفي لا يصح
قلنا لا نسلم فإن الاشتراك يصح في النفي كما يصح في الإثبات على أن النفي يتضمن الإثبات والاشتراك فيه فصح
مسألة 14 لا يصح رد الفرع إلا الأصل إلى بعلة مقتضية للحكم أو شبه يدل عليه
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة يصح رد الفرع إلى الأصل بضرب من الشبه
لنا هو أنه إثبات حكم من جهة القياس فاعتبر فيه معنى مخصوصا كالقياس في العقليات
ولأنه لو جاز رد الفرع إلى الأصل من غير علة مخصوصة لما احتيج إلى النظر والفكر ولو كان كذلك لاشترك العلماء والعامة في القياس وهذا لا يقوله أحد فدل على أنه لا بد من شبه مخصوص للحكم به يعلق
ولأنه لو جاز رد الفرع إلى الأصل بمجرد الشبه لم يكن حمل الفرع على بعض الأصول بأولى من حمله على البعض لأنه ما من فرع تردد بين أصلين إلا وفيه شبه من كل واحد من الأصلين

واحتجوا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم يعتبروا فيما نقل عنهم من القياس أكثر من مجرد الشبه فدل على أن هذا القدر يكفي
والجواب أن هذا غير مسلم بل اعتبروا المعاني والعلل ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر عليهما السلام رضيك رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا
وقال علي في شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى أن يحد حد المفتري فدل على أنهم اعتبروا المعنى المقتضي للحكم والشبه المؤثر فيه
مسألة 15 الطرد والجريان شرط في صحة العلة وليس بدليل على صحتها
ومن أصحابنا من قال طردها وجريانها يدل على صحتها وهو قول أبي بكر الصيرفي

وقال بعض أصحابنا إذا لم يردها نص ولا أصل دل على صحتها
لنا هو أن العلة هو المعنى المقتضى للحكم في الشرع مأخوذ من قولهم في المرض إنه علة لأنها تقتضي تغير حال المريض ولا نعلم كونها مقتضية للحكم بمجرد الطرد لأنه قد يطرد مع الحكم ويجري معه ما ليس بعلة فلم يكن ذلك دليلا على كونه علة
ولأن الطرد فعل القائس لأنه يزعم أنه يطرد ذلك حيث وجد ولا يتناقض وفعله لا يدل على أحكام الشرع
ولأن الجريان فرع العلة وموجبها فلا يجوز أن يجعل دليلا على صحتها لأن الدليل يجب أن يتقدم المدلول عليه
ويعبر عن هذا بعبارة أخرى وهو أن الجريان في الفروع إنما ثبت بالعلة إذا صح أنها علة في الأصل ولهذا إذا قيل له لم جعلت ذلك علة في هذا الفرع قال لأنه تعلق الحكم بها في الأصل فثبت كونها علة في الفرع بثبوته في الأصل وإذا كان كذلك لم يجزه أن يجعل الدليل على صحتها في الأصل ثبوتها في الفرع فيكون الدليل على صحتها في الفرع ثبوتها في الأصل والدليل على صحتها في الأصل ثبوتها في الفرع والدليل على صحتها في الأصل ثبوتها في الفرع كما أن شهادة الشاهدين لما ثبتت بتزكية المزكين لم يجز إذا جهل الحاكم حال المزكين أن يثبت عدالتهما بتزكية الشاهدين ويثبت عدالة الشاهدين بالمزكين وعدالة المزكين بالشاهدين فكذلك هاهنا
ولأن الطرد زيادة في الدعوى لأنه ادعى العلة في الأصل فلما طولب بصحتها دل عليها بأنها علة في الأصل وحيث وجدت فلم ترد إلا دعوى على دعوى

ولأنه لو كان الطرد دليلا على صحة العلة لتكافأت الأدلة لأنه ما من أحد يذكر علة مطردة إلا ويمكن مقابلته بمثلها فلا يكون ما ذكروه أولى مما قابله به الخصم
ولأن أدنى أحوال الدليل أن يوجب الظن وقد رأينا الطرد في علل لا يغلب على الظن تعلق الحكم بها واتباعه لها كقول من قال في إزالة النجاسة إنه مائع لا تبنى عليه القناطر ولا يصاد فيه السمك فأشبه الدهن والمرقة
وكقول من قال من أصحاب أبي حنيفة في مس الذكر إنه طويل مشقوق فاشبه البوق أو معلق منكوس فأشبه الدبوس وغير ذلك مما لا يحسن الاشتغال بذكره فدل على أن الطرد ليس بدليل على الصحة
واحتج المخالف بقوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فدل على أن ما ليس فيه اختلاف فهو من عند الله والعلة إذا اطردت فهي متفقة لا اختلاف فيها فوجب أن تكون من عند الله
قلنا إن الآية تدل على أن ما فيه اختلاف فليس من عند الله ونحن نقول به فإن الاختلاف في العلل هو الناقض وذلك يدل على أنه ليس من عند الله وليس فيه أن ما ليس فيه اختلاف فهو من عند الله فلا حجة فيها
قالوا عدم الطرد يدل على فسادها وهو النقض فوجب أن يكون وجود الطرد يدل على صحتها
قلنا عدمه إنما يدل على فساد العلة لأن وجوده شرط في صحتها وهذا لا يدل على أن وجوده يدل على الصحة ألا ترى أن الطهارة لما كانت شرطا في صحة الصلاة دل عدمها على فساد الصلاة ثم لا يدل وجودها على صحة الصلاة حتى ينضم إليها غيرها فكذلك هاهنا
ولأن الشيء يجوز أن يثبت بمعنى ولا يثبت ضده بعدم ذلك المعنى

ألا ترى أن الحكم تثبت صحته بالإجماع ثم لا يثبت فساده بعدمه فكذلك يجوز أن يثبت فساد العلة لعدم الطرد ولا تثبت صحتها لوجوده
قالوا ولأن الطرد والجريان هو الاستمرار على الأصول من غير أن يرده أصل وهذا شهادة من الأصول لها بالصحة فوجب أن يدل على صحتها
قلنا بهذا القدر لا يعلم كونه علة لأنه قد يجري ويستمر مع الحكم ما ليس بعلة
ألا ترى أن العلم يكون المتحرك متحركا يجري مع التحرك ويستمر معه ثم لا يدل على أن ذلك علة في كونه متحركا
قالوا ولأنها إذا اطردت فقد عدم ما يفسدها وإذا علم ما يوجب فسادها وجب أن يحكم بصحتها لأنه ليس بين الصحيح والفاسد قسم آخر
قلنا لا نسلم أنه عدم ما يفسدها فإن عدم ما يصححها أحد ما يفسدها ثم نقلب عليهم ذلك فنقول إذا لم يدل على صحتها فقد عدم ما يوجب صحتها وإذا عدم ما يوجب صحتها دل على فسادها لأنه ليس بين الصحيح وبين الفاسد قسم
وعلى أنه لو كان هذا دليلا على صحة العلة لوجب إذا ادعى رجل النبوة من غير دليل أن يحكم بصحة نبوته فيقال أنه عدم ما يفسد دعواه فوجب أن يحكم بصحتها لأنه ليس بين الصحيح وبين الفاسد قسم آخر ولما بطل هذا بالإجماع بطل ما قالوه أيضا
مسألة 16 إذا أثرت العلة في موضع من الأصول دل على صحتها وإن لم يكن ذلك أصل العلة

ومن أصحابنا من قال يعتبر تأثيرها في الأصل
لنا هو أن العلة هي المعنى المقتضي للحكم ففي أي موضع من الأصول أثرت علم أنها مقتضية للحكم
ولأنه إذا علم تأثيرها في موضع من الأصول علمنا أنها مؤثرة في الأصل حيث وجدت لأنه يجوز أن تكون علة في موضع ولا تكون علة في موضع آخر
واحتج المخالف بأنه إذا لم تؤثر في الأصل لم يكن ذلك علة في الأصل ورد الفرع إلى الأصل بغير علة الأصل لا يجوز
قلنا لا نسلم أنها إذا لم تؤثر في الأصل لم يكن ذلك علة في الأصل بل إذا أثرت في موضع من الأصول دل على أنها علة في الأصل وفي كل موضع وجدت ولكن ربما لم يظهر تأثيرها في الأصل لاجتماعها مع علة أخرى وهذا لا يدل على أنه ليس بعلة
ألا ترى أن الحيض إذا صادف الإحرام أو الردة أو العدة ولم يظهر تأثيره في إثبات التحريم لا يدل على أنه ليس بعلة
قالوا ولأنه إذا ذكر وصفين لم يؤثر أحدهما في الأصل صار ذلك حشوا في الأصل وزيادة في علته فيجب إسقاطه وإذا سقط انتقضت العلة
قلنا إذا أثر في موضع من الأصول ودل الدليل على تأثيره بان بأنه ليس بحشو في الأصل وحيث وجد فلا يجب إسقاطه من العلة يدلك عليه أن الحيض لما ثبت تأثيره في تحريم الوطء كان علة في تحريمه حيث وجد فلا يجب أن يظهر ذلك في بعض المواضع كذلك هاهنا إذا ثبت الوصف في الحكم وجب أن يكون مؤثرا حيث وجد وإن لم يظهر الأصل
مسألة 17 لا يجوز تخصيص العلة المستنبطة وتخصيصها نقض لها
وقال أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك يجوز وتخصيصها ليس بنقض لها وهو قول أكثر المتكلمين

لنا قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فجعل وجود الاختلاف دليلا على أنه ليس من عند الله وإذا وجدت العلة من غير حكم فقد وجد الاختلاف فدل على أنه ليس من عند الله
ولأنه علة مستنبطة فكان تخصيصها نقضا لها كالعلل العقليات
فإن قيل العلل العقلية توجب الحكم بنفسها فلم يجز وجودها غير موجبة للحكم وعلل الشرع غير موجبة للحكم بنفسها ألا ترى أنها موجودة قبل الشرع غير موجبة للحكم وإنما صارت بالشرع عللا فجاز أن توجب في موضع دون موضع
قلنا هي وإن صارت عللا بالشرع إلا أنها قد صارت عللا بمنزلة العقلية في إيجاب الحكم بوجودها فوجب أن تكون بمنزلتها في ان تخصيصها يوجب فسادها
ولأنه لو جاز وجود العلة من غير حكم لكان تعلق الحكم في العلة في الأصل لا يوجب تعلقه بها في الفرع إلا بدليل مستأنف يدل على تعلقه بها لأنه ما من فرع نريد أن نثبت فيه حكم العلة إلا ويجوز أن يكون مخصوصا وإذا افتقر ذلك إلى دليل خرج عن أن يكون علة
ولأن وجود التخصيص في العلة يدل على أن المستدل لما لم يذكر الدلالة على الصفة تعلق الحكم بها في الشرع ومتى لم يذكر الدلالة على الوجه الذي علق الحكم

عليه في الشرع لم يجب العمل به لأنه لم يذكر دليل الحكم فلا يجوز أن يثبت المدلول
ولأن القول بتخصيص العلة يؤدي إلى تكافؤ الأدلة وأن يتعلق بالعلة الواحدة حكمان متضادان وذلك أنه إذا وجدت العلة في أصلين واقتضت التحليل في أحدهما دون الآخر لم ينفصل من علق عليها التحليل في الفرع اعتبارا بأحد الأصلين ممن علق عليها التحريم في ذلك الفرع اعتبارا بالأصل الآخر فيتكافأ الدليلان ويستوي القولان وهذا لا يجوز
واحتج المخالف بأن هذه أمارة شرعية فجاز تخصيصها كالعموم
قلنا العموم لا تسقط دلالته بالتخصيص لأنه إنما كان دليلا لأنه قول صاحب الشرع فإذا خص بعضه بقي الباقي على ظاهره وليس كذلك العلة فإن تخصيصها يسقط دلالتها لأنها تعرف من جهة المستدل فإذا وجدت مع عدم الحكم علمنا أنه لم يستوف الأمارة التي يتعلق الحكم بها في الشرع فسقط الاحتجاج بها
ولأن صاحب الشرع لا يطلق اللفظ العام إلا وقد دل على ما يوجب التخصيص والبيان فأمكن التعلق بظاهره وليس كذلك المجتهد فإنه قد يطلق لفظ العلة وقد أخل بما يقف ثبوت الحكم عليه ولعل ذلك يمنع دخول الفرع فيما أطلق من العلة فلم يصح التعلق به
قالوا ولأنه علة شرعية فجاز تخصيصها كالعلة المنصوص عليها
قلنا من أصحابنا من قال لا يجوز تخصيص العلة المنصوص عليها ومتى وجدناها مع عدم الحكم علمنا أنه بعض العلة غير أن إطلاقها يجوز لأن صاحب الشرع قد ثبتت حكمته أنه لا يتناقض بإطلاقه فإذا أطلق وصفا علمنا أنه أراد ما يقتضي التخصيص والمعلل متى لم تثبت حكمته ويجوز أن يتناقض فإذا أطلق وصفا ودخله التخصيص علمنا أنه لم يستوف دلالة الحكم
ومن أصحابنا من أجاز تخصيص العلل المنصوصة وفرق بينها وبين العلل المستنبطة بما ذكرناه في العموم فلا حاجة إلى إعادته

قالوا العلل الشرعية غير موجبة للحكم بأنفسها وإنما صارت أمارات على الأحكام بجعل جاعل وقصد قاصد فجاز أن يجعلها أمارة للحكم في عين دون عين كما جاز أن يجعلها أمارة للحكم في وقت دون وقت
قلنا هذا هو الحجة عليكم وذلك أنه إذا صارت أمارة بقصد قاصد لم يجز التعلق بها إلا على الوجه الذي جعله أمارة ومتى أخل ببعض الأوصاف لم يأت بما جعله أمارة عن الحكم فيجب أن لا يصح
وعلى أنه إذا تعلق الحكم بالعلل بقصد القاصد وهو يخص مرة ويعم أخرى لم يأمن أن يكون موضع الخلاف مخصوصا من العلة فلا يجوز أن يتعلق الحكم بها على الإطلاق
قالوا إذا جاز أن يصل بالمعنى ما يمنع البعض جاز أيضا أن يؤخره عنه كبيان المدة التي تتعلق بها العبادة
قلنا بيان المدة إنما يراد لإسقاط الحكم فلا حاجة إلى بيانه عند الإيجاب وليس كذلك الوصف المضموم إلى الوصف لأن كل واحد منهما شرط لإيجاب الحكم فلا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر
قالوا لما جاز تأخير الحكم من غير علة جاز وجود العلة أيضا من غير حكم
ألا ترى أن العلل العقلية لما لم يجز وجود العلة من غير حكم لم يجز وجود الحكم من غير علة ولما جاز هاهنا أحدهما وجب أن يجوز الآخر
قلنا وجود الحكم من غير علة لا يمنع كون العلة علة في الموضع الذي جعله علة ووجود العلة من غير حكم يمنع أن يكون ما ذكره علة حتى يضاف إليه وصف آخر لأن وجود الحكم من غير علة يدل على أن للحكم علة أخرى وثبوت علة لا يمنع ثبوت علة أخرى لأن العلة تخلف العلة في إثبات الحكم ووجودها من غير الحكم يدل على أنه ذكر بعض العلة وبعض العلة لا يخلف جميعها في إثبات الحكم فافترقا
مسألة 18 التسوية بين الأصل والفرع في مسألة النقض لا يدفع النقض
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة يدفع النقض
ومن أصحابنا من قال إن كان قد صرح بالحكم لم يدفع النقض وإن كان جعل حكم العلة التشبيه دفعت من النقض
لنا هو أن النقض وجود العلة ولا حكم وهذا العنى يوجد وإن استوى الفرع والأصل فيه فوجب أن تنتقض العلة
ولأن ما أفسد العلة إذا لم يستو فيه الأصل والفرع أفسدها وإن استويا فيه الأصل والفرع كالممانعة وعدم التأثير
ولأن التسوية بين الأصل والفرع زيادة نقض على نقض وهذا يقتضي تأكيد الفساد
واحتج أصحاب أبي حنيفة إن من أصلنا أن تخصيص العلة جائز وأن وجود العلة ولا حكم لا يفسدها إلا في القدر الذي التزمنا فيه الاحتراز وما لم نلتزمه يجب أن يبقى على الأصل في جواز التخصيص

قلنا أما هذا الأصل فقد دللنا على بطلانه فلا وجه لإعادته
وعلى أنكم قد تركتم هذه الطريقة ودخلتم معنا في اعتبار الطرد والاحتراز من النقض ولهذا احترزتم من كثير من النقوض فلا يجوز الرجوع إلى التخصيص بعد القول بالطرد والجريان
قالوا ولأن قصد المعلل هو التسوية بين الفرع والأصل وإجراء أحدهما مجرى الآخر وقد سوى بين الفرع والأصل فيما التزم فلا يلزمه شيء
قلنا الذي نقصد إيجاب الحكم بوجود العلة دون التسوية بين الأصل والفرع وقد وجدت العلة ولم يوجد الحكم فبطل ما قالوه
ولأنه إذا كان قصده التسوية بين الأصل والفرع افتقر إلى أصل آخر يستوي فيه حكم الموضعين
واحتج القائل الآخر بأن النقض وجود العلة ولا حكم وإذا كان حكم العلة الشبه بالأصل فقد وجدت العلة مع الحكم في مسألة النقض فإن الفرع قد شابهه الأصل في ذلك ولم توجد حقيقة النقض
قلنا إن كان حكم العلة تشبيه الفرع بالأصل فقد صار الأصل عن تمام الحكم ونقيض العلة من غير أصل وهذا لا يجوز
مسألة 19 لا يجوز للمستدل أن ينقض علة السائل بأصل نفسه
ومن أصحابنا من أجاز ذلك وهو قول الجرجاني من أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أن العلة حجة على المستدل في الموضع الذي ينقض به العلة فلا يجوز نقض الحجة بالدعوى
ولأنه لو جاز نقض العلة بمذهبه لجاز أن ينقضها بموضع الخلاف ولما لم يجز هذا لم يجز ذلك
ولأن قوله إن هذه العلة تنتقض بأصلي معناه إني لا أقول بهذه العلة في هذا الموضع وفي موضع آخر وهذا لا يسقط الدليل كما لو استدل عليه بخبر فقال أنا لا أقول بهذا الخبر في هذا الموضع ولا في موضع آخر
واحتج المخالف بأنه لو جاز للمسؤول في الابتداء أن يبني على أصله فيقول إن سلمت هذا الأصل ثبتت علته وإلا دللت عليه جاز أن ينقض على أصله فيقول إن سلمت هذا انتقضت به العلة وإن لم تسلم دللت عليه
قلنا في الابتداء يجوز ذلك لأنه لا يلزم الكلام في موضع بعينه وليس كذلك هاهنا لأنه قد التزم الكلام في موضع بعينه وتعين عليه نصرته فلا يجوز أن ينتقل عنه إلى غيره يدلك عليه أن في الابتداء يجوز له أن يستدل بما شاء

ولو استدل بشيء بعينه ثم أراد أن ينتقل بعد ذلك إلى دليل آخر لم يجز فدل على الفرق بينهما
قالوا ولأنه لما جاز أن ينقض على أصل السائل وحده جاز أن ينقض على أصل المسؤول وحده
قلنا إذا نقض على أصل السائل بأن فساد الدليل على أصله فلا يجوز أن يحتج بما يعتقد فساده وهاهنا لم يبن فساد الدليل على أصله فلزم العمل به يدلك عليه أن السائل لو عارضه بخبر لا يقول به لم تصح معارضته ولو عارضه بخبر لا يقول به المسؤول لم يمنع ذلك معارضته فافترقا
مسألة 20 لا يجوز للسائل أن يعارض المسؤول بعلة منتقضة على أصله
ومن أصحابنا من قال يجوز ذلك
لنا هو أنه إذا انتقضت العلة على قوله فقد اعتقد بطلانها ومن اعتقد بطلان دليل لم يجز أن يطالب الخصم بالعمل به كالمسؤول إذا ذكر علة منتقضة على أصله
واحتج المخالف بأنه لما جاز أن تنتقض علته بما لا يقول به جاز أن يعارضه بما لا يقول به
قلنا الناقض غير محتج بالنقض ولا يثبت الحكم من جهته وإنما يبين فساد دليل على أصل من احتج به وليس كذلك هاهنا فإنه يحتج بالقياس فيثبت الحكم من جهته فلا يجوز أن يثبت من جهة يعتقد بطلانه
قالوا السائل لا مذهب له وإنما هو مسترشد فلا يعتبر فساده عنده
قلنا هذا هو الحجة عليكم فإنه إذا كان مسترشدا يجب أن لا يسأل إلا عما أشبه عليه وهو يعلم فساد هذا الدليل فلا يجوز أن يلتزمه
ولأنه قد جاوز رتبة المسترشد بالاستدلال والمعارضة وحصل في رتبة المستدل فلا يجوز أن يستدل بما يعتقد فساده
مسألة 21 القلب معارضة صحيحة
ومن أصحابنا من قال لا يصح
لنا هو أن المستدل لا يمكنه الجمع بين حكمته وحكم القلب فصار كما لو عارضه من أصل آخر
ولأنه إذا جاز أن يستدل بلفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم يشاركه السائل في الاحتجاج به جاز أن يستدل بعلة ثم يشاركه السائل في الاستدلال بها
واحتج المخالف بأن القلب لا يمكن إلا بفرض مسألة على المستدل وليس للسائل فرض مسألة على المسؤول لأنه تابع له
قلنا هذا يبطل بالمشاركة في الخبر فإنه يجوز وإن لم يمكن ذلك إلا بفرض مسألة على المستدل
قال ولأن هذا وإن كان في حكم آخر إلا أنه في معنى الحكم الذي فرض فيه

الدلالة ألا ترى أنه لا يمكن الجمع بينه وبين حكمه كما لا يمكن الجمع بينه وبين ضده
ولأن أوصاف علة المستدل لا تصلح لحكم القلب ولا تؤثر فيه فيجب أن لا يصح القلب
قلنا إنما يصح القلب إذا كان صلاح الوصف لأحد الحكمين كصلاحه الآخر وتأثيره في أحدهما كتأثيره في الآخر وأما إذا لم يصلح الوصف لحكم القالب ولم يؤثر فيه حكمنا ببطلانه
مسألة 22 قلب التسوية صحيح وذلك مثل أن يقول المخالف في مسألة النية في الوضوء إنها طهارة بمائع فلم تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فيقول الشافعي رضي الله عنه أقلب علته فأقول طهارة بمائع فاستوى حكمها وحكم الجامد في النية كإزالة النجاسة
ومن أصحابنا من قال لا يصح
لنا هو أن المستدل بالعلة منهما لايمكنه الجمع بين حكمه وحكم القالب كما لو كان مصرحا به ويدل عليه هو أن الأصل والفرع في الحكم المعلق على العلة سواء وهو التسوية وإنما يختلفان في التفصيل ومتى اتفق الأصل والفرع في حكم العلة صح الجمع وإن اختلفا في التفصيل يدل عليه أنه لو صرح بالحكم لصح القياس وإن كان حكم الأصل مخالفا لحكم الفرع في التفصيل فكذلك هاهنا
واحتج المخالف بأن حكم الفرع في مثل هذا مخالف لحكم الأصل

ألا ترى أن فيما ذكرنا من المثال نريد التسوية بين الجامد والمائع في الأصل في إسقاط النية وفي الفرع في إيجابها ومن حكم القياس أن يتعدى حكم الأصل إلى الفرع
قلنا إن حكم الأصل هو التسوية وقد تعدى ذلك إلى الفرع وإنما يختلفان في كيفية التسوية وكيفية التسوية حكم غير التسوية
يدلك عليه هو أنه يجوز أن يرد الشرع بوجوب التسوية ين الجامد والمائع في باب النية فينقطع فيه حكم الاجتهاد ثم يبقى النظر والاجتهاد في كيفية التسوية بين الإيجاب والإسقاط وإذا ثبت أن كيفية التسوية غير التسوية لم يلزم استواء الأصل والفرع فيهما
قالوا ولأن القصد من هذا القلب معارضة المستدل ومساواته في الدليل وقلب التسوية لا يساوي عليه المستدل لأن حكم المستدل مصرح به وحكم القالب مبهم يحتاج إلى البيان والمصرح أبدا يقدم على المبهم كما فعلنا في ألفاظ صاحب الشرع
قلنا التصريح إنما يعتبر في حكم المطلوب بالدلالة لا في حكم آخر وهاهنا الدلالة هو التسوية وقد صرح بها في حكم العلة كما صرح المعلل بحكمه
وعلى أن المصرح إنما يقدم على المبهم إذا احتمل المبهم الأمرين والمصرح به أمر واحد فيقضى بما لا يحتمل على ما يحتمل كما ذكروه في ألفاظ صاحب الشرع وأما في مسألتنا فإن قلب التسوية لا يحتمل إلا إبطال مذهب المعلل كما لا يحتمل حكم المعلل إلا إبطال مذهب القالب فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية كاللفظين الصريحين إذا تعارضا
مسألة 23 جعل المعلول علة والعلة معلولا لا يمنع من صحة العلة وذلك مثل أن يقول الشافعي رضي الله عنه في ظهار الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فيقول الحنفي المسلم لم يصح ظهاره لأنه يصح طلاقه بل صح طلاقه لأنه يصح ظهاره
وقال أصحاب أبي حنيفة يمنع هذا صحة العلة وهو مذهب القاضي أبي بكر
لنا أن علل الشرع أمارات على الأحكام بجعل جاعل ونصب ناصب وهو صاحب الشرع وإذا كان كذلك لم يمنع أن يجعل صاحب الشرع كل واحد من الحكمين أمارة للحكم الآخر فيقول متى رأيتم من صح منه الطلاق فاحكموا له بصحة الظهار وإذا رأيتم من صح ظهاره فاحكموا له بصحة طلاقه فأيهما رأينا صحيحا استدللنا به على صحة الآخر ويدل عليه هو أن الشرع قد ورد بمثل هذا ألا ترى أن النبي عليه السلام أمر من أعطى أحد ولديه شيئا أن يعطي الآخر مثله فجعل عطية كل واحد منهما دلالة وأمارة لعطية الآخر فأيهما بدأ بعطيته اقتضى ذلك عطية الآخر فكذلك هاهنا يجوز أن يجعل صحة كل واحد من الحكمين دليلا على صحة الآخر فأيهما رأيناه صحيحا دلنا على صحة الآخر
واحتج المخالف بأنه إذا جعل كل واحد منهما علة للآخر وقف ثبوت كل

واحد منهما على ثبوت الآخر فلا يثبت واحد منهما كما لو قال لا يدخل زيد الدار حتى يدخل عمرو ولا يدخل عمرو حتى يدخل زيد فلا يمكن دخول واحد منهما كذلك هاهنا
قلن إنما يقف ثبوت كل واحد منهما على ثبوت الآخر في العقليات لأن الحكم الواحد منهما لا يجوز أن يثبت بأكثر من علة واحدة فإذا جعل كل واحد منهما علة للآخر وقف كل واحد منهما على الآخر فاستحال ثبوتهما وأما في أحكام الشرع فإنه يجوز أن يثبت الحكم الواحد منهما بعلل فإذا جعل كل واحد منهما علة للآخر لم يقف ثبوت كل واحد منهما على ثبوت الآخر لجواز أن يثبت أحدهما بطريق مستدل به على الحكم الآخر ويخالف هذا ما ذكروه من الدخول فإن هناك منع أن يكون لكل واحد منهما طريق غير دخول الآخر فوقف أحدهما على الآخر وفي مسألتنا يجوز أن يكون لكل واحد من الحكمين أمارة غير الآخر يثبت بها ثم يستدل به على ثبوت الحكم الآخر فوزانه أن نقول إن دخل زيد الدار فليدخل عمرو وإن دخل عمرو فليدخل زيد ثم دخل أحدهما بسبب من الأسباب فيصير دلالة على دخول الآخر فكذلك هاهنا
قالوا إذا جعلتم كل واحد منهما علة للآخر جعلتم الموجب موجبا وذلك لا يجوز
قلنا إنما لا يجوز إذا جعلنا كل واحد منهما علة موجبة للآخر فيصير كل واحد منهما موجبا ونحن لا نفعل ذلك وإنما جعلنا صحة كل واحد من الحكمين أمارة ودلالة على صحة الآخر وفي الدلائل يجوز أن يجعل كل واحد من الأمرين دليلا على الآخر إذا كان طريق ثبوتهما واحدا
ألا ترى أنه إذا كان للرجل ولدان جاز أن يستدل بإرث كل واحد منهما على إرث الآخر فيكون كل واحد منهما دليلا على الآخر حين كان طريقهما في الاستحقاق واحدا فكذلك إذا عرف من عادة الإنسان أنه إذا وهب لأحد بنيه شيئا وهب للآخر مثل ذلك جاز أن يستدل بعطية كل واحد منهما على عطية الآخر فكذلك هاهنا لما كان ثبوت طريق الطلاق والظهار النكاح جاز أن يجعل صحة كل واحد منهما دليلا على صحة الآخر
مسألة 24 إذا تعارضت في الأصل علتان إحداهما تقتضي حمل الفرع عليه والأخرى لا تقتضي حمل الفرع عليه جاز القول بهما إذا لم يتنافيا
ومن أصحابنا من قال لا يجوز
لنا هو أن العلل أمارات وعلامات وأدلة فجاز أن يتفق إثبات عام وخاص على إثبات حكم واحد في عين واحدة كالكتاب والسنة
ولأن الطري التي تدل على صحة العلة من النص والإجماع والتأثير قد وجد في العلتين جميعا فدل على صحتهما
ولأنه إن كانت العلة هي المعنى التي تعلق بها الصلاح في الحكم كما قال بعض الناس فيجوز أن يتعلق العلة بكل واحد من العلتين وإن كانت أمارة على

الحكم كما قال آخرون فيجوز أيضا أن تجتمع أمارات في إثبات الحكم فوجب أن يجوز القول بالعلتين
واحتج المخالف بأنهما يتنافيان في المعنى لأن إحداهما تقتضي حمل الفرع على الأصل والأخرى تمنع من ذلك فصارتا كالعلتين المتنافيتين في الحكم
قلنا لا نسلم أن بينهما تنافيا
وقولهم إن إحداهما تمنع حمل الفرع على الأصل غير حصحي لأن كل واحد منهما يمنع حمل الفرع على الأصل وإنما لا يتعدى إحداهما فأما أن يكون هناك علة أخرى تقتضي حمل الفرع على الأصل فلا يجوز
قالوا ولأن القول بهما يؤدي إلى تنافي الحكم في العلة لأنك إذا عكست إحدى العلتين في الفرع أوجبت ضد حكم المعلل فصار كالعلتين المتنافيتين
قلنا إن العلل الشرعية إنما تقتضي وجود الحكم لوجودها ولا تقتضي انتفاءه بانتفائها فلا يؤدي إلى التنافي في الحكم في العلتين
مسألة 25 إذا تعارضت علتان إحداهما ناقلة والأخرى مبقية على الأصل فالناقلة أولى
ومن أصحابنا من قال هما سواء
لنا هو أن الناقلة تفيد حكما شرعيا والأخرى لا تفيد إلا ما كان قبل ذلك فكان ما تفيد حكما شرعيا أولى لأنهما دليلان تعارضا فقدم الناقل منهما على المبقي كالخبرين
واحتج المخالف بأن الناقلة تفيد تعلق الحكم بمعنى لم يكن متعلقا به قبل ذلك فتعلق الحكم بمعنى مخالف لبقائه بحكم الأصل واستصحاب الحال
ألا ترى أن بقاءه بحكم الأصل لا يقع به تخصيص ولا ترك دليل ونقله بالتعليل يوجب تخصيص ما عارضه من العموم وتأويل ما عارضه من الظواهر
قلنا يبطل بالخبرين إذا تعارضا وأحدهما ناقل والآخر مبق على الأصل فإن المبقي منهما يفيد بقاء الحكم بدليل لا يوجب التخصيص والتأويل ثم يقدم الناقل عليه
ولأن الناقلة ساوتها في جميع ما ذكروه وانفردت بأنها تفيد حكما شرعيا لم يكن قبل ذلك فوجب أن تقدم
مسألة 26 إذا كانت إحدى العلتين تقتضي الحظر والأخرى تقتضي الإباحة فالتي تقتضي الحظر أولى في قول بعض أصحابنا وهو قول أبي الحسن الكرخي
ومن أصحابنا من قال هما سواء
لنا هو أن التعارض إذا حصل اشتبه الحكم عنده ومتى اشتبه المباح بالمحظور غلب الحظر كذكاة المجوسي والمسلم والأخت والأجنبية ويدل عليه هو أن الحظر والإباحة إذا اجتمعا غلب الحظر على الإباحة كالجارية المشتركة بين الرجلين لا يحل لواحد منهما وطؤها كذلك هاهنا
ولأن الحظر أحوظ لأن في الإقدام على المحظور إثما وليس في ترك المباح إثم
واحتج المخالف بأن تحريم المباح كإباحة المحظور فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية
قلنا هما وإن استويا فيما ذكروه إلا أن للمحظور مزية وهو أنه يأثم بفعله ولا يأثم بترك المباح فكان الحظر أولى
مسألة 27 إذا كانت إحدى العلتين توجب الحد والأخرى تسقطه فهما سواء
ومن أصحابنا من قال المسقط للحد أولى
لنا هو أن الشهبة لا تؤثر في إثبات الحد في الشرع والدليل عليه أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس مع وجود الشبهة فإذا تعارض فيه علتان وجب أن يكونا سواء كما تقول في سائر الأحكام
واحتج المخالف بقوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات وادرؤوا الحد ما استطعتم ولأن يخطىء الإمام في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة
قلنا إن هذا إنما ورد عند القضاء والاستفتاء ولهذا قال فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة

قالوا ولأنه لو تعارض بينتان في ذلك سقطتا فكذلك إذا تعارض دليلان
قلنا إحدى البيئتين توجب الاستيفاء والأخرى توجب الإسقاط فجعل ذلك شبهة فأسقطتا وهاهنا إحدى الدليلين دل على أنه شرع والآخر دل على أنه ليس بشرع والشبهة لا تؤثر في ذلك فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية بذلك عليه إذ في الاتسيفاء لا تقبل شهادة واحد وفي إثبات الحدود يقبل خبر الواحد والقياس فافترقا
مسألة 28 إذا كانت إحدى العلتين تقتضي العتق والأخرى لا تقتضيه فهما سواء
وقال بعض المتكلمين التي تقتضي العتق أولى
لنا هو أنه لا مزية للعتق على الرق في كونه شرعا فكان التعارض بينهما كالتعارض في غيرهما
واحتج المخالف بأن العتق مبناه على القوة ألا ترى أنه يسري إلى غيره وإذا وقع لم يلحقه الفسخ فوجب أن يقدم ما يقتضي العتق على ما يقتضي الرق
قلنا قوة العتق على الرق في الوقوع فأما في كونه شرعا في إثبات حكم الشرع فالعتق والرق واحد فلا يقدم أحدهما على الآخر
مسألة 29 إذا كانت إحدى العلتين أكثر فروعا من الأخرى كانت أكثرهما فروعا أولى
ومن أصحابنا من قال هما سواء وهو قول أصحاب أبي حنيفة
لنا هو أن أكثرهما فروعا تفيد من الأحكام مالا تفيد الأخرى فكانت أولى
ولأن كثرة الفروع تجري مجرى شهادة الأصول فيجب أن تكون أولى
واحتج المخالف بأنه لو تعارض لفظان يدخل في أحدهما من المسميات أكثر مما يدخل في الآخر لم يقع بذلك ترجيح فكذلك العلتان
قلنا لو كانتا كاللفظين لوجب أن يكون ما قل فروعه أولى كما كان الأخص من اللفظين أولى من الأعم منهما
ولأن اللفظ الخاص والعام إذا تعارضا أمكن بناء أحدهما على الآخر ولا يمكن ذلك في العلتين فقدم أكثرهما فائدة
مسألة 30 إذا كانت إحدى العلتين أقل أوصافا من الأخرى فالقليلة الأوصاف أولى
ومن أصحابنا من قال هما سواء
لنا هو ما قلت أوصافها أجرى على الأصول وأسلم من الفساد فكانت أولى
ولأن ما قلت أوصافها تشابه العقليات فكانت أولى
واحتج المخالف بأن ذات الأوصاف وذات الوصف الواحد سواء في إثبات الحكم فكانتا سواء عند التعارض
قلنا ينكسر بالخبر والقياس فإنهما يتساويان في إثبات الحكم ثم يقدم الخبر على القياس عند التعارض
مسألة 31 إذا كانت إحدى العلتين منتزعة من أصلين والأخرى من أصل واحد قدمت من أصلين في قول بعض أصحابنا
ومنهم من قال هما سواء
لنا هو أنه إذا كثرت الأصول كثرت شواهد الصحة فيجب أن يكون أولى كما لو عاضد إحداهما ظاهر ولم يعاضد الأخرى
واحتج المخالف بأنه إذا كانت العلة واحدة فكثرة الأصول لا تؤثر ألا ترى أن العلة إذا فسدت فسدت في الأصول كلها ولم تنفع كثرة الأصول
قلنا هذا يبطل به إذا عاضد إحدى العلتين عموم فإنها إذا فسدت لم تنفع معاضدة العموم لها ثم تقدم على الأخرى
مسألة 32 إذا كانت إحدى العلتين صفة ذاتية والأخرى حكمية فالحكمية أولى ومن أصحابنا من قال الذاتية أولى
لنا هو أن المطلوب هو الحكم والحكم أخص بالحكم من الصفة الذاتية فكانت الحكمية أولى
ولأن الصفة الذاتية قد توجد ولا يتعلق بها الحكم وذلك قبل الشرع ولا توجد الحكمية إلا والحكم متعلق بها فكانت الحكمية أولى
واحتج المخالف بأن الصفات معان لا يفتقر وجودها إلى ما تفتقر إليه الأحكام في الشرع فكان تعليق الحكم على الصفات أولى
قلنا الأحكام وإن افتقر ثبوتها إلى الشرع إلا أنها إذا ثبتت كانت كالصفات في الثبوت ولا مزية للصفات عليها من هذا الوجه وقد بينا ترجيح الحكم على الصفة فوجب أن يكون أولى
قالوا ولأن الصفات تشابه العقليات فكانت أقوى
قلنا في العقليات المقصود طلب أحكام العقل والصفات أخص بها وهاهنا المقصود طلب حكم الشرع فكان الحكم أخص به
مسألة 33 القول بالاستحسان باطل وهو ترك القياس لما يستحسن الإنسان من غير دليل
وحكى الشافعي رضي الله عنه وبشر المريسي القول عن أبي حنيفة بالاستحسان وهو ترك القياس لما استحسنه الإنسان من غير دليل

وأنكر المتأخرون ذلك من مذهبه
فقال أبو الحسن الكرخي الاستحسان العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها بدليل يخصها

وقال بعضهم هو القول بأقوى الدليلين
وقال بعضهم هو تخصيص العلة
فإن كان المذهب ما حكاه الشافعي وبشر المريسي فدليلنا قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وما يستحسن من غير دليل لا علم له به
ولأن القياس دليل من أدلة الشرع فلا يجوز تركه لما يستحسنه الإنسان من غير دليل كالكتاب والسنة
ولو جاز الرجوع إلى ما يستحسنه الإنسان من غير دليل لوجب أن يستوي العلماء والعامة في ذلك لأنهم يستحسنون كما يستحسن العلماء
وإن كان الأمر على ما فسره أصحابه فإنه لا مخالفة في معناه فإن ترك أضعف الدليلين لأقواهما واجب وترك القياس بدليل أقوى منه واجب ولكنهم لم يجروا على هذا الطريق فإنهم تركوا القياس في مواضع ليس معهم فيها دليل أقوى مما تركوه وسموها مواضع الاستحسان فمن ذلك إيجاب الحد بشهود الزوايا فإنه ترك اختلاف الشهادات وألفاظها برأيه من غير دليل وأوجب فيها الحد فدل على بطلان ما قاله المتأخرون
واحتجوا بقوله تعالى الله نزل أحسن الحديث
وقوله تعالى اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم

قلنا هذا أمر بالاتباع لما أنزل وكلامنا فيما يستحسنه الإنسان من تلقاء نفسه من غير دليل
فإن قيل روى عن ابن عباس أنه قال ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
قلنا المراد به ما أجمع الناس عليه ألا ترى أنه علق ذلك على استحسان جميع المسلمين وعندما استحسنه أهل الإجماع فهو حسن عند الله تعالى فيجب المصير إليه والعمل به
مسائل الاجتهاد
مسألة 1 الحق من قول المختلفين في أصول الديانات واحد وما عداه باطل
وحكي عن عبد الله بن الحسن العنبري أنه قال كل مجتهد مصيب
وحكي عن بعضهم أنه قال ذلك فيما يجري مجرى القول في القدر والإرجاء والآثار

لنا هو أن مسائل الأصول عليها أدلة قاطعة على أن الأمر فيها على صفة واحدة فمن اعتقد فيها خلاف ما هي عليه كان اعتقاده جهلا والخبر عنه كذبا والجهل والكذب قبيحان فلا يجوز أن يكون صوابا
ويدل عليه هو أن كل قولين لا يجوز ورود الشرع بصحة واحدة منهما لم يجز أن يكون القول بهما صوابا كقول المسلمين إن الله تعالى واحد لا شريك له وفي قول النصارى إنه ثالث ثلاثة
واحتج بأنه إذا جاز أن يكون كل مجتهد في الفروع مصيبا جاز مثله في الأصول
قلنا لا نسلم فإن الحق عندنا من قول المجتهدين في واحد وما عداه باطل
وإن سلمنا ذلك فالفرق بينهما ظاهر وذلك أن الفروع ليس عليها أدلة قاطعة وليس كذلك هاهنا فإن على الأصول أدلة قاطعة فلم يجز أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا ولأن في الفروع يجوز أن يرد الشرع بحكمين متضادين فجاز أن يجعل واحد من المجتهدين مصيبا بخلاف الأصول فإنه لا يجوز أن يرد الشرع به بحكمين متضادين فلا يجوز أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا
مسألة 2 الحق من قول المجتهدين في الفروع واحد وعلى ذلك دليل يجب طلبه وإصابته وما سواه باطل وهو قول أبي إسحاق الإسفراييني
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الحق في واحد ولم يكلف إصابته وإنما كلفنا الاجتهاد في طلبه
وذهب كثير من الأشعرية إلى أن كل مجتهد مصيب وهو قول أكثر المعتزلة وهو مذهب أبي حنيفة غير أنهم اختلفوا في ذلك

فذكر الكرخي أن هناك أشبه مطلوب في الحقيقة ولم يكلف المجتهد إصابته وإنما كلف حكم اجتهاده وذكر أنه مذهب أبي حنيفة وأصحابه
وقال أبو هاشم ليس هناك أشبه مطلوب أكثر من أن الحكم بما هو أولى عنده أن يحكم به وهي إحدى الروايتين عن أبي علي
لنا قوله عليه السلام إذا اجتهد الحاكم وأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد فدل على أنه يصيب مرة ويخطىء أخرى
فإن قيل المراد به إصابة النص والإجماع والخطأ بهما

قيل اللفظ عام فوجب أن يحمل على عمومه ولأن استحقاق الأجرين لا يختص بإصابة النص والإجماع فإن ما فيه نص وإجماع ومالا نص فيه ولا إجماع في الأجر سواء فدل على أنه عام في الجميع
ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال له رجل حضره هذا والله الحق ثم حكم بحكم آخر فقال له الرجل هذا والله هو الحق فقال له عمر رضي الله عنه إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألو جهدا
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان خطأ فمنه وإن كان صوابا فمن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال في المرأة التي أجهضت ذا بطنها إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ
وروي أنه قال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان

وروي أن عليا رضي الله عنه وابن مسعود وزيدا خطؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس من شاء باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا قد ذهب النصفان بالمال فأين موضع الثلث
وروي عن ابن عباس أنه قال ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا
وهذا إجماع ظاهر على تخطئة بعضهم بعضا في مسائل الاجتهاد فدل على أن الحق من هذه الأقوال في واحد وما سواه باطل
ويدل عليه إجماع الأمة على وجوب النظر والاستدلال في ترتيب الأدلة وبناء بعضها على بعض ولو كان الجميع حقا وصوابا لم يكن للنظر والاجتهاد معنى
وربما عبر عن هذا بأن الناس قد اتفقوا على حسن النظر وعقد المجالس به ولو كان الجميع حقا وصوابا لم يكن للنظر معنى ولا لعقد المجالس بسببه وجه إذ لا يجوز أن يناظر بعضهم بعضا على أمر هو حق وصواب كما لا يجوز أن يناظر بعضهم بعضا على ترك ما أجمعوا عليه من الأحكام
فإن قيل لا نسلم أن النظر والاجتهاد يجب في مسائل الاجتهاد بل الإنسان عندنا بالخيار بين الأقاويل فيأخذ بما شاء منها كما تقول في الكفارات
قلنا هذا خلاف الكتاب فإن الله عز و جل قال فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله وأمر بالرجوع إلى الدليل

ولأن هذا خلاف الإجماع فإن أحدا لم يقل بالتخيير فالقول مخالف للإجماع
ولأنه لو كان الأمر على ما قال هذا القائل لاشتراك العامي والعالم في جواز الفتوى والحكم وهذا لا يقوله أحد فسقط
فإن قيل إنما يتناظرون ويجتهدون في ذلك لمعرفة النص والإجماع حتى لا يقدموا على مخالفتهما
قلنا هذا خطأ لأنهم يجتهدون فيما لا نص فيه ولا إجماع فدل على أن ذلك كما ذكرناه
فإن قيل يحتمل أن يكون نظرهم في ذلك واجتهادهم لطلب الأحصلح دون معرفة الفاسد والصحيح
قلنا لا يصح لأن الأصلح في المنفعة لا يتعلق بأدلة الشرع والنظر في ترجيح الأصول فبطل أن يكون لما ذكروه
فإن قيل نظرهم لطلب الأشبه
قلنا إن كان الأشبه ما قاله الكرخي من أشبه مطلوب عند الله في الحادثة فقد سلمتم المسألة لأنه إذا كان هاهنا أشبه مطلوب دل على أن الحق واحد وما سواء ليس بحق وإن كان الأشبه ما قاله أبو هاشم وهو أن الحكم بما هو أولى عنده فهذا مالا فائدة فيه في النظر لأجله لأنه إذا كان الجميع حقا وصوابا لم يكن للنظر بحكم دون حكم معنى أكثر من إتعاب الفكر والنفس وتقطيع الزمان من غير فائدة
ويدل عليه أن القولين المتضادين في مسائل الاجتهاد كالتحليل والتحريم والإيجاب والإسقاط والتصحيح والإفساد لا يخلو إما أن يكونا صحيحين أو فاسدين أو أحدهما صحيحا والآخر فاسدا ولا يجوز أن يكونا صحيحين لأن ذلك يوجب أن يكون الشيء الواحد حلالا وحراما صحيحا فاسدا حسنا قبيحا وذلك مستحيل ولا يجوز أن يكونا فاسدين لأن ذلك يؤدي إلى إجماع الأمة على الخطأ فثبت أن أحدهما صحيح والآخر باطل

فإن قيل إنما لا يجوز أن يكونا صحيحين في حق كل واحد وأما في حق اثنين فلا يمتنع
ألا ترى أنه يحل أكل الميتة للمضطر ويحرم على المختار ويحل الفطر للمسافر ويحرم على الحاظر فكذلك هاهنا يجوز أن يكون الشيء الواحد حلالا في حق من أداه الاجتهاد إلى تحليله حراما في حق من أداه الاجتهاد إلى تحريمه
قلنا هذا يجوز فيما ورد النص فيه على سبيل التفصيل والمخالفة كما ذكروه في الميتة في حق المضطر والمختار والفطر في حق الحائض والمسافر وأما فيما ورد الدليل فيه على سبيل الإطلاق والعموم فلا يجوز
ومعلوم أن ما ورد من الدليل في هذه المسائل عام في حق جميع الناس فلا يجوز أن يقتضي الحكم على سبيل التخصيص والتفصيل
فإن قيل الدليل الذي يدل على الحكم بظن المجتهد فأما الأمارات فإنها تقع متكافئة وظن كل مجتهد يخصه لا يتناول غيره
قلنا هذا خطأ بل الدليل الكتاب والسنة والقياس قال الله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فرد إلى الكتاب والسنة والقياس وقال صلى الله عليه و سلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن بم تقضي فذكر الكتاب والسنة والقياس ولم يذكر الظن
ولأن أهل العلم عند حدوث الحادثة لا يفزعون إلا إلى الكتاب والسنة والقياس فدل على أنها هي الأدلة دون الظن
ولأنه لو كان هذا الدليل هو الظن لما صح احتجاج أحد على أحد بالكتاب والسنة والقياس لأن ذلك كله غير الدليل الذي يلزمه حكمه

ولأنه لو كان الديل هو الظن لاستوى العلماء والعامة في الحكم لأنهم في الظن واحد
فإن قيل لو كان الدليل ما ذكرتم لوجب إذا نظر الحنفي فيما نظر فيه الشافعي من الدليل أن يقع له ما وقع للشافعي
قلنا هذا يبطل بمسائل الأصول فإن كل واحد من الخصمين ينظر فيما ينظر فيه الآخر فلا يقع له ما وقع لخصمه ثم لا يدل على أنه ليس هناك دليل غير النظر
ويرد هذا الدليل على وجه آخر وهو أن تحليل الشيء وتحريمه وإفساده وتصحيحه لا يجوز ورود الشرع به ولو جاز ذلك لورد النص به فيقول النبيذ حلال حرام والنكاح بلا ولي باطل صحيح على هذه الصفة ومالا يجوز ورود الشرع به لم يجز أن يرد عليه النظر والاجتهاد بين صحة هذا أن النظر والاجتهاد نتيجة النص والإجماع فإذا استحال أن يدل النص والإجماع على تحليل الشيء وتحريمه على الإطلاق استحال أن يدل عليهما النظر والاجتهاد إذ لا يجوز أن تدل نتيجة الشيء على مالا يدل عليه أصله
فإن قيل إنما تسحيل ورود الشرع من جهة النص بالتحريم والتحليل والإفساد والتصحيح في حق واحد ومثله يستحيل من جهة النظر والاجتهاد فأما في حق اثنين فلا يستحيل ألا ترى أن النص قد ورد بتحليل الميتة للمضطر وتحريمها على المختار وإحلال الفطر للمسافر وتحريمه على الحاضر فكذلك هاهنا يجوز أن يحل الشيء في حق مجتهد ويحرم في حق غيره ويفسد العقد في حق مجتهد ويصح في حق غيره
قلنا نحن لا ننكر ورود الشيء بتحريم الشيء على شخص وتحليله لغيره

فيقضي فيه بحسب ما تقتضيه الدلالة من التفصيل والتخصيص وإنما ننكر ورود الشرع بتحليل الشيء وتحريمه وإفساد عقد وتصحيحه على سبيل الإطلاق والعموم وذلك لا يجوز من جهة النص والإجماع فكذلك لا يجوز من جهة النظر والاجتهاد
واحتج المخالف بأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفت في مسائل كثيرة وحوادث شتى وأقر بعضهم بعضا على الخلاف ولم يظهر منهم في ذلك تبري ولا تغليظ في القول ولو كان الحق في واحد لما أقر بعضهم بعضا على ذلك كما لم يقروا من أباح الخمر منهم على قوله وأظهروا التغليظ وتبرأ بعضهم من بعض كما فعلوا ذلك في مانعي الزكاة ولما لم ينقل عنهم في الفروع شيء من ذلك دل على أن كل مجتهد مصيب
قلنا إجماع الصحابة حجة عليكم فإنهم صرحوا على أن الحق في واحد وما سواه خطأ وقد بينا ذلك فأغنى عن الإعادة
وأما ترك التبري والتغليظ في القول حسب ما فعلوا في ترك الصلاة فلا يدل على أن الجميع حق كما أن ترك التبري والتغليظ بالقول على من فعل الصغائر من الذنوب والمخالفة بينه وبين من ارتكب الكبائر معهم في ذلك لا يدل على أن ذلك حق وصواب
وعلى أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفت في مسائل أجمعوا فيها بعد الخلاف أن الحق في واحد وما عداه باطل كاختلافهم في معانعي الزكاة ولم يظهروا التبري في حال الاختلاف ولا التغليظ في القول على من خالف منهم ثم لا يدل على أن الجميع حق وصواب
ولأنه إنما يجب التبري والتغليظ فيما يعلم بطريق مقطوع به وصرح بدليله وانقطع عذر من خالف فيه فيجب التغليظ عليه والتبري منه كالأحكام التي ذكروها فأما فيما يعلم بطريق لا يقطع به وكثرت فيه وجوه الشبه وتزاحمت فيه صروف التأويل والترجيح فلا يجب ذلك فيه وما اختلفت فيه الصحابة رضي الله عنهم من هذا القبيل فلهذا تركوا فيه التبري والتغليظ

قالوا ولأنه لو كان الحق في واحد لكان الله تعالى قد نصب عليه دليلا ولو كان فعل ذلك لسقط عذر المخالف فيه ولوجب أن يجعل كل من خالف ذلك آثما فاسقا كما نقول في العقليات
قلنا كذا نقول إن الله تعالى قد نصب على الحق دليلا وأبان به خطأ المخالف ولكنه لا يأثم ولا يفسق لأن طريق المأثم والفسق الشرع وقد ورد الشرع بإسقاط الإثم عن المجتهد وترك تفسيقه
وعلى أنه يحتمل أن يكون قد أسقط عنه المأثم والفسق لخفاء الأدلة بكثرة وجود الشبه فأكمل الله تعالى التفضل على المجتهد بأن أسقط عنه الإثم وأثابه على قصده واجتهاده
قالوا لو كان الحق في واحد لكان ينقض به كل حكم يخالفه كما قال الأصم وبشر المريسي ولما قلتم إنه لا ينقض الحكم بخلافه دل على أن الجميع حق وصواب
والجواب أنه ليس إذا لم ينقض الحكم الواقع بأحد القولين دل على أنه حق وصواب
ألا ترى أن من باع في حال النداء لم ينقض بيعه ولا يدل أن ذلك حق وصواب
ولأنه إذا لم ينقض الحكم لجواز أن يكون هناك آخر لم يؤده اجتهاده إليه فلا يجوز الإقدام على بعضه
وعلى أنه إن كان المنع من نقض الحكم دليلا على أن الكل حق فوجوب

الانتقال إلى غيره عند تغير الاجتهاد دليل على أن الحق واحد فليس لهم أن يتعلقوا بترك النقض إلا ولنا أن نتعلق بوجوب الانتقال عند تغير الاجتهاد
وعلى أنه إنم لم تنقض الأحكام لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يستقر لأحد مالك في الشرع ولا يثبت به حق لأنه متى حكم له حاكم بملك أو حق جاء غيره فنقض ذلك ويجيء آخر فينقض على الثاني وعلى هذا أبدا فلا يستقر لأحد ملك على شيء وهذا فيه فساد عظيم
قالوا لو كان الحق في واحد لما سوغ للعامي تقليد من شاء من العلماء
قلنا نحن لا نسوغ له تقليد من خالف الحق بل نقول له قلد عالما بشرط أن يكون مصيبا كما نقول له قلد عالما بشرط أن يخالف النص
على أنا لو منعنا العامي أن يقلد إلا من معه الصواب لم يجد إلى معرفة ذلك سبيلا إلا بأن يتعلم الفقه وفي إيجاب ذلك على كل أحد مشقة وفساد فسمح له بتقليد الأوثق في نفسه
قالوا لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لما جاز استخلاف المخالفين في القضايا والأحكام مع العلم بأنهم يحكمون بخلاف ما يعتقده المستخلف
قلنا نحن لا نستخلف من يعتقد في قضاياه مذهب نفسه فيحكم به وإنما نستخلف من هو من أهل الاجتهاد يجدد اجتهاده في كل قضية فيحكم بما يقتضيه الدليل
قالوا لا خلاف أن المجتهد إذا بذل وسعه في الاجتهاد وطلب الحكم وجب عليه اعتقاد ما أداه الاجتهاد إليه ومتى ترك ذلك استحق الذم فلو لم يكن المأمور به ما أداه اجتهاده إليه لما استحق الذم على تركه وإذا ثبت أن ذلك هو المأمور به وجب أن يكون حقا وصوابا
قلنا لا نسلم أنه يجب عليه بالإجماع وكيف يدعى الإجماع في هذا مع إنكار مخالفته عليهم ومنعهم منه وإظهار الاحتجاج على فساده

ولو سلمنا ذلك تسليم نظر لم يتم الدليل لأنا إنما نوجب ذلك بشرط الصحة والسلامة فإذا أدى إلى خلاف ذلك الحق نسبناه إلى الخطأ كما يجوز الرمي إلى الهدف بشرط السلامة فإذا أدى إلى الهلاك نسبناه إلى التفريط وعلمنا خطأه فيه
ثم هذا يبطل به إذا أداه الاجتهاد إلى خلاف النص مع الجهل به فإنه مأمور بما أدى الاجتهاد إليه ثم لا نقول بأن ذلك حق وصواب
وعلى أن هذا حجة عليهم لأنه متى أداه الاجتهاد إلى شيء وقام الدليل عليه لم يجز له اعتقاد غيره ولو كان الجميع حقا وصوابا لجاز تركه إلى غيره كما يجوز ترك العتق في كفارة اليمين إلى الإطعام والكسوة حيث كان الجميع مأمورا به ولما لم يجز ذلك دل على أن الحق في واحد وما عداه باطل
قالوا ولأنه لا خلاف أن ترجيح الظواهر المتقابلة يجوز لما لا يجوز أن يثبت الحكم بنفسه وهذا يدل على أن دليل الحكم هو الذي وقع له المقابلة وأنه إذا تعارض ظاهران فقد قام دليل كل واحد من الخصمين على الحكم فدل على أن الجميع حق
قلنا لا نسلم فإنه لا يرجح عندنا أحد الدليلين على الآخر إلا بما يجوز أن يجعل دليلا عند الكشف والتقرير
وعلى أن هذا هو الحجة عليهم فإنه لو كان الجميع صوابا لما طلب تقديم أحد اللفظين على الآخر بصروف من الترجيح ولما عدلوا عند التقابل إلى الترجيح دل على أنه لا يجوز أن يكون ما اقتضاه الظاهر أن الجميع حق
قالوا ولأن أدلة الأحكام في مسائل الخلاف تقع متكافئة ليس فيها ما يقتضي القطع
ألا ترى أن كل واحد من الخصمين يمكنه أن يتأول دليل خصمه بضرب من الدليل ويصرف عن ظاهره بوجه من الدليل بحيث لا يكون لأحد منهما على الآخر مزية في البناء والتأويل فوجب أن يكون الجميع حقا وصوابا

قلنا لا نسلم أنهما يتساويان في البناء والتأويل بل لا بد أن يكون لأحدهما على الآخر مزية في البناء والترتيب والاستعمال والترجيح ولهذا إذا تناظر الخصمان بأن لمن يحضر ممن يعتقد أن كل مجتهد مصيب أن أحد الكلامين أظهر من الآخر
وعلى أن هذا لو كان دليلا على أن كل مجتهد مصيب في الفروع لوجب أن يجعل دليلا على أن كل مجتهد مصيب في الأصول فإن الأشعرية والمعتزلة إذا تكلموا في مسألة تخليد الفساق استدل كل واحد منهم بظاهر القرآن ويتأول ظاهر خصمه بضرب من الدليل وكذلك في مسألة إثبات الرؤية وخلق الأفعال وكثير من مسائلهم ثم لا يقال إن الحق في جميع ذلك فإن الظواهر فيها متعارضة والتأويلات فيها متقابلة فكذلك في مسألتنا
قالوا ولأن حمل الناس على مذهب واحد يؤدي إلى التضييق فوجب أن يجعل الجميع حقا ليتوسع الناس فيها
قلنا لو كان هذا دليلا على أن الجميع حق لوجب على أن لا يلزم العمل بما ورد به النص والإجماع من الأحكام المغلقة لأن في ذلك تغليظا وتشديدا ولما بطل هذا بالإجماع بطل ما ذكروه أيضا
ولأن المصلحة في الشرع لا تتعلق بما يميل إليه الطبع حتى يبني الأمر فيه على ما يميل الطبع إليه بل المصلحة متعلقة بما حكم الله عز و جل به فيجب أن يطلب ذلك بالدليل
وعلى أنا نقلب هذا عليهم فنقول حمل الناس على قول واحد نفع لهم وأصلح فإنهم يتوافرون على طلبه وتمييزه من غيره فيتوفر أجرهم ويعظم ثوابهم فيجب أن يجعل الحق في واحد
مسألة 3 لا يجوز أن يتكافأ دليلان في الحادثة بل لا بد أن يكون لأحدهما مزية على الآخر وترجيح
وقال أبو علي وأبو هاشم يجوز أن يتكافأ دليلان في الحادثة فيتخير المجتهد عند ذلك فيعمل بما شاء
لنا أن المسألة مبنية على أن الحق في قول المجتهدين في واحد وما عداه باطل وقد دللنا على ذلك وإذا ثبت هذا لم يجز أن تتكافأ فيه الأدلة كالعقليات
واحتج المخالف بأن الحادثة قد تأخذ شبها من أصلين فيكون شبهها بكل واحد منهما كشبهها بالآخر من غير أن يكون لأحد الشبهين مزية فدل على جواز ذلك
قلنا لا نسلم بل لا بد من ضرب من الترجيح يقترن بأحدهما ودليل يدل على تقديم أحدهما على الآخر فلا يصح ما ادعوه
مسألة 4 تخريج الشافعي رضي الله عنه المسألة على قولين جائز
وذهب من لا يعتد بخلافه أن ذلك لا يجوز
وربما قالوا إن ذلك لا يجوز من جهة أنه لا يجوز أن يعتقد المجتهد في الحادثة قولين متضادين ولا سيما على قوله إن الحق من قول المجتهدين في واحد وما عداه باطل
وربما قالوا إن تخريج المسألة على قولين يدل على نقصان الآلة وقلة العلم حتى لم يعلم الحق من القولين ويحتاج أن يخرج المسألة على قولين
وهذا خطأ

لأن ما ذكر عن الشافعي رحمه الله فيه قولان على وجوه ليس في شيء منها ما يتوجه عليه اعتراض
فمنها أن يذكر قولا في القديم ثم يذكر قولا آخر في الجديد فيكون مذهبه الثاني منهما والأول مرجوع عنه ويكون القولان له رحمه الله كالروايتين عن الإمامين أبي حنيفة ومالك وسائر الفقهاء رحمهم الله
ومنها أن يذكر قولين ثم يدل على تصحيح مذهبه منهما بأن يقول هذا أشبه بالحق وأقرب إلى الصواب أو يفسد الآخر ويقول هو مدخول فيه أو منكسر فيبين أن مذهبه هو الآخر أو يفرع على أحدهما ويترك الآخر فيعلم أنه هو المذهب فما كان منه على هذا الوجوه لا اعتراض عليه فيه لأنه لم يجمع بين القولين في الاختيار فينسب إلى أنه اعتقد قولين متضادين في مسألة واحدة ولا توقف عن القطع بأحدهما فيقال إنه قصر عن إدراك الحق
فإن قيل إذا كان مذهبه أحد القولين على ما ذكرتم فما الفائدة في ذكر القولين
قلنا إنما ذكر ذلك ليعلم أصحابه طرق العلل واستخراجها والتمييز بين الصحيح من الفاسد من الأقاويل وهذه فائدة كبيرة وغرض صحيح وقد يكون من ذلك ما ينص فيه على قولين ولا يبين مذهبه منهما قال القاضي أبو حامد ولا نعرف له ما هذا سبيله إلا في ست عشرة مسألة أو سبع عشرة مسألة فهذا أيضا لا اعتراض عليه فيه لأنه لم يذكرهما على أنه معتقد لهما وكيف يقال هذا وهما

قولان منصوصان وإنما ذكرهما لأن الحادثة تحتمل عنده هذين القولين ولم يرجح بعد إحداهما على الآخر فذكرهما ليطلب منهما الصواب فأدركه الموت قبل البيان وليس في ذلك نقض على المجتهد بل يدلك ذلك على غزارة علمه وكمال فضله حين تزاحمت عنده الأصول وترادفت الشبه حتى احتاج إلى التوقيف إلى أن ينكشف له وجه الصواب منهما فيحكم به
فإن قيل إذا لم يبن له الحق من القولين ولم يكن مذهبه القولين فما الفائدة في ذكر القولين
قلنا فائدته أن الحق في واحد من هذين القولين غير خارج منهما وأن ما عداهما من الأقاويل باطل وفي ذلك فائدة كثيرة وغرض صحيح ولهذا جعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة ولم ينص على واحد بعينه ليبين أن الإمامة لا تخرج منهم ولا تطلب من غيرهم فكذلك هاهنا
مسألة 5 إذا ذكر في القديم قولا ثم ذكر في الجديد غيره فمذهبه هو الثاني والأول مرجوع عنه
ومن أصحابنا من قال لا يكون رجوعا عن الأول ما لم يصرح بالرجوع
لنا أنهما قولان متضادان فالثاني منهما ترك الأول كما تقول في النصين المتضادين عن النبي صلى الله عليه و سلم
ولأنه إذا أفتى في القديم بإحلال شيء ثم أفتى في الجديد بتحريمه فقد أفتى ببطلان الأول فلا يجوز أن يكون ذلك قولا له كما لو صرح بالرجوع عنه
واحتج المخالف بأنه يجوز أن يجمع بين القولين في حالة واحدة ويكونا قولين له فكذلك يجوز أن يذكر القولين في وقتين ويكون ذلك قولين له
قلنا إذا ذكر في موضع واحد قولين لم يمكن أن يجعل أحدهما رجوعا عن الآخر فيحمل ذلك على أنه ذكرهما لينظر بهما وفي مسألتنا ذكر أحدهما بعد الآخر فجعل الثاني رجوعا عن الأول يدل عليه أن صاحب الشرع لو ذكر قولين متضادين في وقت واحد لم يجعل أحدهما ناسخا للآخر بل يجمع بينهما ويرتب أحدهما على الآخر ولو أنه ذكر ذلك في وقتين مختلفين جعل الثاني ناسخا للأول كذلك في مسألتنا
مسألة 6 إذا نص الشافعي رحمه الله في مسألة على قولين ثم أعاد المسألة وذكر فيها أحد القولين أو فرع على أحد القولين كان ذلك اختيارا للقول المعاد والقول المفرع عليه في قول المزني رحمه الله
ومن أصحابنا من قال ليس في ذلك دليل على الاختيار
لنا أن الظاهر أن مذهبه هو الذي أعاده أو فرع عليه لأنه لو كان مقيما على القولين لأعادهما وفرع عليهما ولما أفرد أحدهما بالإعادة والتفريع دل على أنه هو الذي يذهب إليه ويختاره من القولين
واحتج المخالف بأنه يجوز أن لا يعيد أحد القولين اكتفاء بما عرف له من القولين ويجوز أن يفرع على أحدهما على معنى أن هذا القول أوضح فلا يكون ذلك اختيارا له قطعا
قلنا يحتمل ما ذكروه ولكن الظاهر ما قلناه ولأن الإنسان لا يفتي إلا بما ذهب إليه ولا يفرع إلا على مذهبه
مسألة 7 إذا نص رحمه الله في مسألة على حكم ونص في غيرها على حكم آخر وأمكن الفصل بين المسألتين لم ينقل جواب إحداهما إلى الأخرى بل تحمل كل واحدة منهما على ظاهرها
ومن أصحابنا من قال ينقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى فيخرج المسألتين على قولين
لنا أن القول إنما يجوز أن يضاف إلى الإنسان إذا قاله أو دل عليه بما يجري مجرى القول فأما ما لم يقله ولم يدل عليه فلا يحل أن ينسب إليه
ولأن الظاهر أن مذهبه في إحدى المسألتين خلاف مذهبه في الأخرى لأنه نص فيهما على المخالفة فلا يجوز الجمع بين ما خالف
واحتج المخالف بأنه لما نص في إحدى المسألتين على قول وفي نظائرها على غيره وجب أن تحمل إحداهما على الأخرى
ألا ترى أن الله تعالى لما نص في كفارة القتل على الإيمان وأطلق في كفارة الظهار قسنا إحداهما على الأخرى واعتبرنا الإيمان فيهما كذلك هاهنا
قلنا نص على الإيمان في إحدى الكفارتين وأطلق في الأخرى فقسنا ما أطلق على ما قيد وفي مسألتنا صرح في كل واحدة من المسألتين بخلاف الأخرى فلا يجوز حمل إحداهما على الأخرى كما تقول في صيام الظهار والتمتع لما نص على التتابع في إحداهما وعلى التفريق في الأخرى لم يجعل حمل إحداهما على الآخر
مسألة 8 لا يجوز أن ينسب إلى الشافعي رضي الله عنه ما يخرج على قوله فيجعل قولا له
ومن أصحابنا من قال يجوز
لنا هو أن قول الإنسان ما نص عليه أو دل عليه بما يجري مجرى النص وما لم يقله ولم يدل عليه فلا يحل أن يضاف إليه ولهذا قال الشافعي رحمه الله ولا ينسب إلى ساكت قول
واحتج المخالف بأن ما اقتضاه قياس قوله جاز أن ينسب إليه كما ينسب إلى الله عز و جل وإلى رسوله ما دل عليه قياس قولهما
قلنا ما دل عليه القياس في الشرع لا يجوز أن يقال إنه قول الله عز و جل ولا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما يقال إن هذا دين الله ودين رسوله عليه السلام بمعنى أنهما دلا عليه ومثل هذه الإضافة لا تصح في قول إلى الشافعي فسقط ما قالوه
قالوا لا خلاف أنه لو قال فيمن باع شقصا مشاعا من دار أن للشفيع فيه الشفعة كان ذلك قوله في الأرض والبستان والحانوت وإن لم يذكرهما فكذلك هاهنا
قلنا إنما جعلنا قوله في الدار قوله في سائر ما ذكرتم من العقار لأن طريق الجمع متساوية والفرق بين الدار وغيرها لا يمكن فجوابه في بعضها جوابه في الجميع وكلامنا في مسألتين يمكن الفرق بينهما فأجاب في إحداهما بجواب فلا يجوز أن يجعل ذلك قوله في الأخرى
مسألة 9 إذا قال الشافعي رحمه الله في مسألة بقول ثم قال ولو قال قائل بكذا كان مذهبا لم يجز أن يجعل ذلك قولا له
ومن أصحابنا من جعل ذلك قولا له
لنا أن قوله ولو قال قائل بكذلك كان مذهبا ليس فيه دليل على أنه مذهبه وإنما هو إخبار عن بيان احتمال المسألة لما فيها من وجوه الاجتهاد فلا يجوز أن يجعل له هذا القول قولا
واحتجوا بأن قوله ولو قال قائل بكذا كان مذهبا ظاهر أنه يحتمل هذا القول ويحتمل ما ذكروه فصار كما لو قال هذه المسألة تحتمل قولين
والجواب أن أكثر ما فيه أنه دل على ذلك فيحتمل في الاجتهاد وهذا لا يدل على أنه مذهب له
ألا ترى أنا نقول أبدا في مسائل الخلاف هذه مسألة يسوغ فيها الاجتهاد ثم لا يقتضي ذلك أن تكون تلك المذهب أقوالا له
مسألة 10 110 يجوز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم
ومن أصحابنا من قال لا يجوز وقول قول بين المتكلمين
ومن الناس من قال يجوز بالإذن ولا يجوز لغير الإذن
لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة باجتهاده وهو حاضر
وروي أنه أمر عمرو بن العاص أن يحكم بين نفسين على أنه من أصاب فله عشر حسنات فقال يا رسول الله أجتهد وأنت حاضر فقال نعم فدل على جواز ذلك
ولأن ما جاز الحكم فيه في غيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم جاز الحكم به في حضرته كالكتاب والسنة

ولأنه إذا جاز الاجتهاد في غيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم وخطؤه لا يستدرك فبحضرته أولى لأنه إذا أخطأ استدرك خطأه فيحضر وينبه عليه
احتجوا بأن الحكم بالاجتهاد يعلم بغالب الظن فلا يجوز مع إمكان الرجوع إلى العلم والقطع
والجواب أنه لا يمتنع أن يحكم الحاكم بغلبة الظن وإن أمكن الرجوع إلى العلم
ألا ترى أنه يجوز العمل بخبر الواحد وإن أمكنه الرجوع إلى خبر جماعة يقع العلم بخبرهم فكذلك يجوز أن يحكم بما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قديما وإن أمكنه الرجوع إلى قوله فيقطع بصحته
وعلى أن الحكم بحضرته بالاجتهاد حكم بالعلم لأنه إن أخطأ منعه فيجب أن يجوز ذلك
مسألة 11 كان للنبي صلى الله عليه و سلم أن يجتهد في الحوادث ويحكم فيها بالاجتهاد وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام
ومن أصحابنا من قال ما كان له ذلك وبه قال بعض المعتزلة
لنا قوله عز و جل لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يفرق بين ما أراه بالنص أو بالاجتهاد
ولأن داود وسليمان عليهما السلام حكما باجتهادهما ولم ينكر الله عز و جل عليهما فدل على جوازه
ولأن القياس دليل عن الله عز و جل في الأحكام فجاز لرسوله صلى الله عليه و سلم أن يستفيد الحكم من جهته كالكتاب

ولأن القياس استنباط معنى الأصل ورد الفرع إليه والنبي عليه السلام أعلم بذلك من غيره فهو أولى
ولأن النبي صلى الله عليه و سلم إذا قرأ الآية وعرف منها الحكم وعلة الحكم لم يخل أما إنه يعتقد ما تقتضيه العلة أو لا يعتقد ذلك
فإن اعتقد ذلك فهو عمل بالاجتهاد وصار إلى ما قلناه
وإن لم يعتقد صار مخطئا وذلك منفي عنه
ولأن الاجتهاد موضع لرفع المنازل والزيادة في الدرجات وأحق الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجب أن يكون له مدخل فيه
واحتجوا بقوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فدل على أنه لا يحكم إلا عن وحي
والجواب أن الحكم بالاجتهاد حكم عن وحي وليس عن الهوى لأن الهوى ما تهواه النفس وتشتهيه من غير دليل فقد قلنا بموجب الآية
قالوا الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على إظهار الحكم على جهة العلم والوحي فلا يجوز أن يصير إلى الظن ولهذا لا يجوز في طلب القبلة لمن عاينها حيث قدر على الإدراك من جهة العلم
قلنا إنما يحكم عند انقطاع الوحي والوحي متعذر في حالة الحكم فيجب أن يجوز له الاجتهاد
وعلى أن اجتهاده عليه السلام مقطوع بصحته لأنه معصوم من الخطأ في الأحكام فلا يكون حكمه بالاجتهاد غلبة ظن بل هو حكم عن علم وقطع
قالوا ولأن من خالف رسول الله صلى الله عليه و سلم في حكمه صار كافرا فلو جوزنا له أن يحكم بالاجتهاد لم يمكن تكفير من خالفه فيه لأن الاجتهاد طريقه الظن فلا يجوز أن يكفر من خالفه فيه ولهذا لما نزل باجتهاده في بعض المنازل خالفه بعض

أصحابه فقيل له في ذلك فرحل عنه وقد أجمعت الأمة على تكفير من خالفه في الحكم فدل على أنه لا يجوز له أن يحكم من طريق الاجتهاد
الجواب أنا نكفر من خالفه في الأحكام
وقولهم إنه لا يمكن تكفيره فيما طريقه الظن غير صحيح لأن ما يحكم به النبي صلى الله عليه و سلم مقطوع بصحته وإن كان عن اجتهاده لأنه معصوم فيه عن الخطأ محروس عن الزلل ويخالف هذا ما ذكروه في أمر المنزل لأن ذلك من أمور الدنيا وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم
قالوا ولأن النبي عليه السلام كان يسأل عن أشياء فيتوقف فيها إلى أن يرد الوحي كالظهار واللعان ولو جاز الاجتهاد لما توقف
والجواب أنه إنما يجوز له أن يجتهد فيما له أصل من الكتاب فيحمل غيره عليه من طريق الاجتهاد وأما فيما لا أصل له فلا سبيل إلى الاجتهاد وأما الظهار واللعان فلم يكن لهما أصل في القرآن فيجتهد في حكمهما فلذلك انتظر النص
وعلى أنه إن كان قد توقف فيما ذكروه فقد اجتهد في مواضع
ألا ترى أنه قضى في أسارى بدر بالفداء من جهة الاجتهاد وقضى في بني قريظة بالاجتهاد فقتل من أنبت منهم واسترق من لم ينبت فليس لهم أن يتعلقوا بما ذكروه إلا ولنا أن نتعلق بما ذكرناه
قالوا ولأن الاجتهاد رد الشيء إلى نظيره وللنبي عليه السلام أن يخالف بين المتفقين في الحكم ويترك موجب القياس وإذا كان كذلك لم يكن للقياس في حقه معنى
والجواب أن تقدير هذا الدليل حجة عليهم لأنه إذا جاز أن يخالف بين متفقين ويحكم بما خالف القياس فلأن يجوز له أن يحكم بما يقتضيه القياس أولى
على أنا لا نسلم هذا الأصل فإنه عليه السلام لا يجمع بين مختلفين ولا يفرق بين متفقين إلا عن نص أو معنى مستنبط من النص وإذا ثبت هذا سقط ما قالوه
مسألة 12 يجوز الخطأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم في اجتهاده إلا أنه لا يقرأ عليه بل ينبه عليه
ومن أصحابنا من قال لا يجوز عليه الخطأ
لنا قوله عز و جل عفا الله عنك لم أذنت لهم وهذا يدل على أنه كان قد أخطأ في الأذن لهم
وأيضا قوله في أهل بدر لما فاداهم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فقال عليه السلام لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا ابن الخطاب فدل على أنه كان أخطأ بالفداء
ولأه يجوز عليهم السهو والنسيان في أفعاله فجاز الخطأ عليه في اجتهاده كآحاد الأمة

واحتجوا بأن تجويز الخطأ عليه يوجب التوقف في قوله والشك عند سماعه وذلك فسق ولهذا قال الله تعالى ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
والجواب أن تجويز الخطأ لا يوجب التوقف في قوله
ألا ترى أن المفتي منا يجوز عليه الخطأ في اجتهاده ثم لا يجوز التوقف في قوله ولا الشك عند سماعه
وليس لقائل أن يقول إن تجويز الخطأ عليه يوجب التوقف في قوله ولا الشك عند سماعه فيجب أن يكون منزها عن الخطأ فكذلك هاهنا
قالوا إذا كانت الأمة معصومة من الخطأ فلأن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم معصوما منه أولى
قلنا هذه دعوى لا دليل عليها لأنه ليس إذا كانت الأمة معصومة عن الخطأ وجب أن يكون النبي عليه السلام بذلك أولى وما الذي يدل على ذلك
ثم نقول لهم ما أنكرتم على من يقول إن الأمة إنما عصمت لانقطاع الوحي عنها فلو جوزنا عليها الخطأ في اجتهادها استمر ذلك ولم يكن للناس من يبين لهم الخطأ فيحكمون في دين الله بغير حكمه وهذا لا يجوز وليس كذلك الرسول عليه السلام فإن الوحي غير منقطع عنه فإذا أخطأ في اجتهاده عرف ذلك ونبه فلا يؤدي إلى أن يحكم في دين الله تعالى بغير حكمه فافترقا
مسألة استصحاب حكم الإجماع في موضع الخلاف ليس بدليل
وقال المزني وأبو ثور وداود والصيرفي هو دليل
لنا أن موضع الخلاف غير موضع الإجماع فلا يجوز الاحتجاج بالإجماع من غير علة كما لو وقع الخلاف في مسألة لا يجوز الاحتجاج فيها بالإجماع في مسألة أخرى

ولأن الإجماع غير موجود في موضع الخلاف وما كان حجة لا يصح الاحتجاج به في الموضع الذي لا يوجد فيه كألفاظ صاحب الشرع إذا تناولت موضعا خاصا لم يجز الاحتجاج بها في الموضع الذي تتناوله فكذلك هاهنا
ولأن المستصحب للحال ليس معه في موضع الخلاف دليل من جهة العقل ولا من جهة الشرع ولا يجوز له إثبات الحكم كما لو لم يتقدم موضع الخلاف إجماع
ولأن الاحتجاج لاستصحاب الحال يؤدي إلى التكافؤ والتعارض وذلك أن ما من أحد يستصحب حال الإجماع في موضع الخلاف في صحة فعل وسقوط فرض إلا ولخصمه أن يسصحب حال الإجماع في اشتغال ذمته بالشرع وبقاء العبادة فيتساويان في استصحاب حال الإجماع فيتكافآن وبيان ذلك
أنه من قال في المتيمم إذا رأى الماء في صلاته إن صلاته لا تبطل لأنا أجمعنا على صحة صلاته في انعقاد إحرامه ولا يجوز إبطال ما أجمعوا عليه إلا بدليل قيل قد أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض الصلاة فلا يجوز إسقاط ما أجمعوا عليه إلا بدليل ولا يكون التعلق بأحد الإجماعين بأولى من التعلق بالإجماع الآخر وما أدى إلى مثل هذا كان باطلا
واحتجوا بقوله تعالى ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا فدل على أن ما ثبت لا يجوز نقضه
والجواب أن الآية تقتضي المنع من نقض ما هو ثابت وما أجمعوا عليه في موضع الخلاف غير ثابت فلا يدخل في الآية
قالوا ولأن الإجماع يقين والخلاف شك فلا يجوز أن يزال اليقين بالشك
ألا ترى أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث لم يزل اليقين بالشك ولهذا

قال عليه السلام إن الشيطان ليأتي أحدكم ينفسخ بين ألييه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فأمر بالبقاء على الأصل والبناء على اليقين فكذلك هاهنا
الجواب أنا لا نسلم أن اليقين لا يزال بالشك غير أنه ليس معنا في موضع الخلاف يقين قد زال بوقوع الخلاف
ويخالف هذا ما ذكروه من يقين الطهارة فإنا قد تيقنا الطهارة ولم نتيقن زوالها والظاهر بقاءها وليس كذلك في مسألتنا لأن ما تيقناه من الإجماع قد تيقنا زواله فوزانه مما قالوه أن نتيقن زوال الطهارة بالحدث فلا يستصحب حكم الطهارة
قالوا ولأن ما أجمعوا عليه من الحكم لا يجوز عليه الغلط والخلاف يجوز عليه الغلط فلا يجوز ترك ما لا يجوز عليه الغلط بما يجوز عليه الغلط كما نقول في ترك الإجماع بالقياس
قلنا فيجب على مقتضى هذا الدليل أن لا يستدل بالقياس أصلا في المواضع التي نقدمها فيقال أن ما أجمعوا عليه لا يجوز عليه الغلط فلا يجوز تركه بالقياس الذي يجوز عليه الغلط ولما جاز هذا بالإجماع سقط ما قالوه
وجواب آخر وهو أن الإجماع لا يترك بالقياس لأن الإجماع موجود والقياس دونه فلا يجوز ترك أعلى الدليلين بأدونهما وليس كذلك في مسألتنا لأن الإجماع قد زال بوقوع الخلاف فلم يجب البقاء على حكمه من غير دليل
قالوا ولأن قول المجمعين حجة فوجب استصحابه في موضع الخلاف والدليل عليه قول النبي عليه السلام

والجواب أن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم موجود في موضع الخلاف متناول له فوجب العمل به وليس كذلك في مسألتنا لأن الإجماع قد زال في موضع الخلاف فوزانه من قوله عليه السلام أن يرد اللفظ خاصا في موضع ولا يجب استصحابه في الموضع الذي لا يتناوله
قالوا ولأن الإجماع يصدر عن لفظ وإن لم يظهر ذك فالاستدلال به كالاستدلال باللفظ وقد ثبت أن اللفظ يجب العمل به في موضع الخلاف فكذلك الإجماع
والجواب أن الإجماع قد يصدر عن لفظ فيجب البقاء على حكمه وقد يصدر عن معنى فلا يجب البقاء على حكمه وليس لهم أن يحملوا ذلك على أحد الأمرين إلا ولنا أن نحمله على الأمر الآخر
وعلى أنه إن كان ذلك عن لفظ فيجوز أن يكون ذلك عن لفظ مقصور على موضع الإجماع لا يتعداه فلا يجوز إثبات حكمه في موضع الخلاف بالشك
قالوا ولأن ما ثبت بالعقل من براءة الذمة يجب استصحابه في موضع الخلاف فكذلك ما ثبت بالإجماع
قلنا إنما وجب استصحاب براءة الذمة لأن دليل العقل في براءة الذمم قائم في موضع الخلاف فوجب استصحاب حكمه وليس كذلك هاهنا لأن الإجماع الذي أوجب الحكم قد زال في موضع الخلاف فوجب طلب الدليل على إثبات حكمه

مسألة
النافي للحكم عليه الدليل
ومن الناس من قال لا دليل عليه وهو قول بعض أصحابنا
لنا قوله عز و جل بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فذمهم الله تعالى بأن قطعوا بالنفي من غير دليل
ولأن القطع بالنفي لا يكون إلا عن طريق كما أن القطع في الإثبات لا يكون إلا عن طريق فلما وجب على المثبت إظهار ما اقتضاه الإثبات عنده وجب على النافي إظهار ما اقتضاه النفي عنده
واحتجوا بأن من أنكر النبوة لا دليل عليه وإنما يجب الدليل على مدعي النبوة وكذلك من أنكر الحق لا بينة عليه وإنما البينة على مدعي الحق فكذلك هاهنا يجب أن يكون الدليل على من أثبت الحق دون من نفاه

والجواب أن من ينكر النبوة إذا انقطع بالنفي وقال لست بنبي فإنه يجب عليه إقامة الدلالة على نفيه وهو أن يقول لو كنت نبيا مبعوثا لكان معك دليل على صدقك لأن الله تعالى لا يبعث نبيا إلا ومعه ما يدل على صدقه فلما لم أر معك دليلا دل على أنك لست بنبي وإن لم يقطع بالنفي بل قال لا أعلم أنك نبي أو لست بنبي فهذا لا دليل عليه لأنه لم يقطع بالنفي بل هو شاك والشاك لا دليل عليه وفي مسألتنا قطع بالنفي فلا يجوز أن يقطع بذلك إلا عن طريق يقتضيه ودليل يوجبه فوجب إظهاره
وأما منكر الحق فإنه يجب عليه إقامة البينة على إنكاره وهو اليمين فلا نسلم ما ذكروه
وجواب آخر وهو أنه إن كان المدعى عينا فاليد بينة له وإن كان دينا فبراءة الذمة بالعقل بينة له وليس كذلك هاهنا لأن نفيه لم يقم على نفيه ما يدل على صحته فلم يصح نفيه
قالوا ولأنه لو نفى صلاة سادسة لم يكن عليه دليل فكذلك هاهنا
قلنا لا بد في نفيها من دليل وهو أن يقول إن الله تعالى لا يتعبد الخلق بفرض إلا ويجعل إلى معرفته طريقا من جهة الدليل فلما لم نجد ما يدل على الوجوب دلنا ذلك على أنه لا واجب هناك فيستدل بعدم الدليل على نفي الوجوب
مسألة الأعيان المنتفع بها قبل أن يرد الشرع على الوقف في قول كثير من أصحابنا فلا نقول إنها مباحة ولا محظورة وهو قول الصيرفي وأبي علي الطبري ومذهب الأشعري
وقال أبو علي بن أبي هريرة هي على الحظر إلا أن يرد الشرع

بإباحتها وهو مذهب المعتزلة البغداديين
وقال القاضي أبو حامد هي على الإباحة وهو قول المعتزلة البصريين
لنا أن المباح ما أذن فيه صاحب الشرع والمحظور ما حرمه صاحب الشرع فإذا لم يرد الشرع وجب أن لا يكون مباحا ولا محظورا فوجب أن يكون على الوقف
ولأن هذه الأعيان ملك لله تعالى له أن يمنع من الانتفاع بها وله أن ينسخ الانتفاع بها وله أن يوجب الانتفاع بها وقبل أن يرد الشرع لا مزية لأحد هذه الوجود على الباقي فوجب التوقف في الجميع
ولأنه لو كان العقل يوجب حكما معينا في هذه الأعيان من تحليل أو تحريم لما جاز ورود الشرع فيها بخلاف ذلك لأنه لا يجوز أن يرد الشرع بخلاف ما يوجبه العقل ويقتضيه ولما جاز ورود الشرع بالتحليل والتحريم دل على أن العقل لم يوجب فيها حكما معينا
فإن قيل إن كان هذا دليلا على إبطال القول بالحظر والإباحة فيجب أن يكون دليلا على إبطال القول بالوقف لأن الشرع لا يجوز أن يرد بخلاف ما يقتضيه العقل ولما جاز عندكم أن يكون على الوقف لم يرد الشرع بالتحليل والتحريم جاز أن يكون على الحظر ويرد الشرع فيه بالإباحة أو على الإباحة ويرد فيه الشرع بالحظر
قلنا ليس القول بالوقف من القول بالحظر والإباحة بسبيل لأن من قال

بالحظر أو بالإباحة جعل ذلك حكما يوجب بالعقل فيستحيل أن يرد الشرع بما يخالفه وليس كذلك من قال بالوقف بعدم الدليل المقتضي للحظر أو الإباحة والوقف بعدم الدليل يجوز أن يرد عليه ما يزيل الوقف بالكشف عن الدليل
وأيضا إن الشرع ورد أيضا بتحريم أشياء وتحليل أشياء فلو كان الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع الحظر لما ورد الشرع بالإباحة لأن الحظر معلوم بالعقل فلو كانت الأشياء في الأصل على الإباحة لما ورد الاتباع إلا بالحظر لأن الإباحة معلومة بالعقل ولما ورد الشرع بالحظر مرة وبالإباحة أخرى دل على أن العقل ما أوجب حظرا ولا إباحة يدل على ذلك أن من قال الأصل في الأشياء الحظر لا ينفصل عمن قال إن الأصل فيها الإباحة وإذا عارض أحد القولين الآخر بطل الجمع وصح القول بالوقف
واحتج من قال بالحظر أن هذه الأعيان ملك الله تعالى والانتفاع بملك الغير لا يجوز بغير إذنه كما نقول في أملاك الآدميين
والجواب أن أملاك الآدميين إنما لم يجز الانتفاع بها بالشرع وكلامنا فيما لم يرد الشرع به فتكون منزلته من أموال الآدميين قبل أن يرد الشرع فنقول إنها على الوقف
ولأن أملاك الآدميين حجة عليهم فإن ما لا ضرر على المالك فيه لا يمنع من الانتفاع به كالاستظلال بظله والأنس بصحبته والمسير في ضوء سراجه فيجب أن لا يحرم ها هنا الانتفاع بما هو لله عز و جل من الأعيان لأنه لا ضرر عليه في الانتفاع بها وفي هذا إبطال قولهم
ثم نقول إن كان الانتفاع بهذه الأعيان لا يجوز لأنها لله تعالى فلا يجوز الإقدام عليها من غير إذن اعتبارا بأملاك الآدميين والناس عبيد الله تعالى فيجب أن لا يمنعوا من الانتفاع بما يحتاجون إليه لصلاح أبدانهم وأحوالهم اعتبارا بعبيد الآدميين حين لم يمنعوا من الانتفاع بمال الموالي بما يحتاجون إليه لصلاح أبدانهم

وأحوالهم فيلزمهم نقضيه وسبيلهم أن لا يحظروا الانتفاع بهذه الأعيان وفي ذلك إبطال لقولهم وإفساد مذهبهم
قالوا ولأنا إذا أقدمنا على الانتفاع بهذه الأعيان لم نأمن أن يعاقبنا الله تعالى على ذلك فيجب أن نتجنب ذلك خوفا من العقوبة على فعله
قلنا نقلب هذا عليكم فنقول إذا لم نقدم عليه لم نأمن أن يعاقبنا على تركه فإن له أن يعاقب على الترك كما أن له أن يعاقب على الفعل فيجب أن يقدم على الفعل على أن هذا لو كان طريقا صحيحا في إثبات الحظر لوجب أني جعل ذلك دليلا على إيجاب الصوم والحج وسائر العبادات قبل ورود الشرع ويقال إنا لا نأمن من العقاب على تركها فيجب أن يكون ذلك واجبا قبل الشرع ولما لم يصح هذا بالإجماع لم يصح ما ذكروه
واحتج من قال بالإباحة بقوله عز و جل قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق فدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة
والجواب أنا نحمل ذلك على ما ورد الشرع بإباحته من الطيبات بدليل ما ذكرناه
وعلى أنه يعارضه قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام فمنع الله تعالى من الحكم في الشيء بأنه حلال أو حرام فدل على أنه متوقف على ما يرد الشرع
قالوا الانتفاع بملك الغير على وجه لا ضرر عليه فيه جائز كالمشي في ضوئه والاستظلال بظله وهذه الأعيان لا ضرر على الله في الانتفاع بها فوجب أن لا يكون الانتفاع بها جائزا
قلنا لو كان هذا طريقا في إباحة الانتفاع بها قبل ورود الشرع لوجب أن يقال لا يجوز ورود الشرع بتحريم الانتفاع بها لأن ما لا ضرر على المالك فيه

لا يجوز أن يمنع من الانتفاع به كما لا يجوز للواحد منا أن يسمي غيره من المشي في ضوئه والاستظلال بظله ولما أجمعنا على جواز المنع من الانتفاع بها دل على بطلان ما ذكروه
واحتجوا بأن الحكيم لا يخلق شيئا إلا لغرض ووجه من الحكمة يقتضي خلقه وقد خلق هذه الأعيان فلا يخلو إما أن يكون خلقها ليضربها وهذا لا يليق بالحكيم أو لينتفع بها فلو يخلو إما أن يكون قصد نفع نفسه وهذا محال لأنه غير محتاج إلى شيء فثبت أنه إنما خلقها لينتفع بها الناس وإلا خرج عن أن يكون خلقها بحكمة وصار عبثا فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وعلى هذا يدل قوله تعالى الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا فأخبر أنه خلق الجميع لنا فدل على ما قلناه
الجواب أنهم بنوا ذلك على أصلهم في تعليل أفعال الله تعالى ونحن لا نقول بذلك ثم هذا يقتضي أن لا يجوز تحريم الخمر والخنزير ويقال إنه لا يخلو من أن يكون خلقهما ليضربهما وهذا لا يجوز في الحكمة بهما أو لينفع نفسه وهو غير محتاج إلى شيء أو لينفع بهما الناس فقد حرمهما عليهم فيجب أن يكون عبثا ولما بطل هذا بعد التحريم بالشرع بطل قبل التحريم بالشرع
وعلى أنه يجوز أن يكون خلقهما ليمتحنهم بالكف عنها ليثبتهم على ذلك أو خلقها ليستدل بها على أن لها خالقا أو خلقها لقوم آخرين يأتون بعدهم أو خلقها ليوصلهم إلى الانتفاع بها على صفة مخصوصة كما خلق لهم الجنة ليوصلهم إليها على صفة مخصوصة وإذا احتمل هذه الوجوه لم يجز أن يحمل الأمر فيها على الإباحة ولا على الحظر ولا على العبث
وأما الآية فنحن نقول بها لأنه خلق ذلك لنا ولكن ليوصله إلينا على الوجه الذي بيناه فسقط ما قالوه
قالوا ولأن المباح ما لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه

وعندكم أن من فعل شيئا قبل ورود الشرع لم يستحق عليه ثوابا ولا عقابا فهذا اسم له حكم الإباحة
والجواب أن المباح ما أخبر صاحب الشرع بأنه لا ثواب فيه ولا عقاب عليه وهو وإن قلنا إنه لا ثواب عليه فإنا لا نقول إنه مباح لأن الشرع لم يرد فيه بالثواب والعقاب وهذا كما نقول في أفعال البهيمة إنه لا ثواب فها ولا عقاب ثم لا نقول إن ذلك مباح ولا محظور حيث لم يرد الشرع فيها بالثواب والعقاب فكذلك هاهنا
قالوا ولأن القول بالوقف يؤدي إلى ترك الوقف وذلك أن القول به لا يخلو من أن يكون حقا يجب اعتقاده والقول به أو باطلا فلا يجوز اعتقاده
فإن كان حقا يجب اعتقاده بطل القول بالوقف لأنه وجب الاعتقاد
وإن كان باطلا لم يجز القول به
قلنا الوقف هو الحق ومعناه أنه لا عقاب على أحد فيها بفعله ولا ثواب في شيء بفعله ولا وجوب في شيء من الأشياء حتى يرد الشرع به في الوقف الذي قلناه وليس إذا كان ذلك هو الحق وجب فيه الاعتقاد إذا لم يكن على صفة الوجوب فيجب أن يقيم الدليل على ذلك وأنه إذا كان حقا وجب اعتقاده وليس هناك ما يوجب الاعتقاد
وعلى أنه يجوز أن يكون الشيء على صفة من الصفات ثم لا يجب على الإنسان فيه معرفة ولا اعتقاد
ألا ترى أن كثيرا من المخلوقات لها صفات هي عليها في الحقيقة ثم لا يجب البحث عنها والكشف عن حقيقتها وصفتها ثم لا يقال إنه لما لم تجب معرفتها على حقيقتها وصفاتها لم تكن تلك الصفات ثابتة لها في الحقيقة فكذلك هاهنا والله أعلم 
  جميع الحقوق متاحة لجميع المسلمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق