اللهم

اللهم اشفني شفاءا لا يغادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني رحمة واسعة مباركة طيبة واكفني همي كله وفرج كربي كله واكشف البأساء والضراء عني واعتقني من كل سوء في الدارين يا ربي

الاثنين، 2 يوليو 2018

مفهوم التأويل في فهم الحديث النبوي دراسة تأصيلية نقدية تطبيقية د. عمار الحريري



مفهوم التأويل في فهم الحديث النبوي
دراسة تأصيلية نقدية تطبيقية
د. عمار الحريري

بحث أعد للمشاركة في  المؤتمر العلمي الدولي بعنوان

"التعامل مع النصوص الشرعية (القرآن والحديث) عند المعاصرين"

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:  

 إن الغرض من التأويل إدراك الحقيقة وإصابة مراد الشارع ، وهذا يستلزم شروطا ودليلا قويا يصرف اللفظ عن ظاهره ليكون مراد الشارع المعنى المؤول ، لإن حمل اللفظ على ما يطابق الظاهر أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر .
  ولما كان التأويل لنصرة مذهب أو تعصب أبعد من أن يكون تأويلا مقبولا ؛ استبعدناه من هذا البحث ، لنقف عند ما ذكره العلماء من تأويلات قد يكون سببها شبهة كتعارض مثلا ، أو يكون سببها فهما جديدا للنص بسبب معرفة علة الحكم الذي نص عليه ظاهر الحديث .
 وقد بذل العلماء جهدا كبيرا في التوفيق بين الأدلة ، فقد خص ابن قتيبة والطحاوي وابن فورك كتبا خاصة لرفع التعارض بين الحديث ومثله أو غيره من الأدلة ، وكان التأويل من أهم الطرق في التوفيق بين المتعارضات ، حيث أمكن العمل بالدليلين دون العدول أو ردِّ أحدهما .
 وكذلك لم يكتف البخاري بمهمته الحديثية في صحيحه ، فإن نزعته الفقهية وشخصيته العلمية ظهرت من خلال تراجمه لحل التعارض بالتأويل ، وكان لابن حجر فضلا في فتحه لفهم مراد البخاري . 
 ولكن ما طرحه العلماء من تأويلات لا يدخل ضمن المسلمات ، فهذا الجهد البشري يبقى ضمن الاحتمالية والاجتهاد ، وقد يظهر الأمر واضحا في ردود العلماء وتعقيباتهم على بعضهم البعض بالتعسف في التأويل .
 إن التأويل فرض وجوده في سنة نبينا r من خلال أمرين : فهم السنة النبوية من جهة ، وقبول الأحاديث وردها من جهة أخرى ، فالتوفيق بين حديث وآية أو حديث آخر ظاهرهما التعارض متوقف على تأويل أحد الدليلين بحيث يتآلف مع الآخر ، وإلا فالترجيح .
   إن إشكالية البحث تدور حول سؤالين هامين :
الأول : هل وظف التأويل لإدراك الحقيقة ؟ أم كان حتميا لظاهرة غير طبيعية فرضها تعارض الأدلة ؟
الثاني : هل يمكن أن يوظف التأويل في فهم الأحاديث مقاصديا والعدول عنها ، ولو لم يكن هناك تعارض؟ 
   في هذا البحث محاولة للإجابة عن هذين السؤالين ، راجين من الله عز وجل التوفيق ، وهو من وراء القصد. 

خطة البحث

مقدمة
خطة البحث

المبحث الأول : مدخل إلى التأويل
- تعريف التأويل لغة واصطلاحا
- أقسام التأويل
- شروط صحة التأويل
- أهداف التأويل

المبحث الثاني : أثر تعارض الأدلة في مفهوم التأويل
- تأويل الحديث توافقا مع القرآن
- تأويل الحديث توافقا مع حديث آخر
- تأويل الحديث توافقا مع الإجماع
- تأويل الحديث توافقا مع الحس والتاريخ

المبحث الثالث : التأويل في ضوء المقاصد
- التأويل في ضوء تعارض الحديث مع المقاصد
- التأويل المعلل برؤية مقاصدية

خاتمة

المبحث الأول : مدخل إلى التأويـــل
* تعريفه : لغة : أوّل الكلام تأويلا ، دبره وقدره وفسره ، وأوّله إليه : رجعه ، والتأويل: عبارة الرؤيا[1].
 وقال ابن منظور : التأويل من أوّل ، أي رجع وعاد ، ونقل أيضا : إن التأويل والمعنى والتفسير واحد.
وقد عرف التأويل لغة : تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إِلاّ ببيانٍ غير لفظه .
 وعرفه بعضهم : التأويل جمع معاني أَلفاظ أَشكَلَت بلفظ واضح لا إشكال فيه [2]  ومنهم من قال: التأويل المرجع والمصير، وفسروا قوله تعالى] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ[  {الأعراف :53}  قال أَبو إِسحق : معناه هل ينظروه إِلا ما يَؤُول إِليه أَمرُهم من البَعْث ، وقال أيضا : وهذا التأْويل هو قوله تعالى ]وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [ {آل عمران :7} أَي لا يعلم مَتَى يكون أَمْرُ البعث وما يؤول إِليه الأَمرُ عند قيام الساعة إِلا اللهُ والراسخون في العلم يقولون آمنا به أَي آمنا بالبعث والله أَعلم .[3]
 * تعريف التأويل اصطلاحا :
  تقاربت تعاريف العلماء في التأويل اصطلاحا ، مع اختلافهم في بعض الألفاظ ، والتقييد والإطلاق :
عرفه الغزالي : هو عبارة عن احتمال يعضده دليل ، يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر [4].
وعرفه ابن الأثير:" نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل، لولاه ما تُرك ظاهر اللفظ"[5].
وعرفه ابن رشد : " هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية ، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه..."[6] .
 تعقب الآمدي الغزالي في تعريفه بأنه اشترط الاعتضاد بدليل ، وهذا قيد يخرج التأويل المطلق من التعريف لأنه لا يشترط فيه هذا الشرط ، لذا اكتفى في تعريف التأويل : حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه ، مع احتماله له[7] .
 وبمفهوم آخر إن تعريف الآمدي جمع بين التأويل الصحيح وعكسه ، أما تعريف الغزالي اقتصر فيه فقط على التأويل الصحيح ، ويؤكد ذلك الآمدي بتعريفه التأويل المقبول الصحيح  : حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده [8].
   القراءة الأولية والواضحة من التعاريف السابقة ؛ أن التأويل عدول عن ظاهر النص أو دلالة اللفظ إلى معنى آخر يحتمله ، أو هو صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، والاحتمالية عنصر في التعريف على مستوى قبول اللفظ لهذا المعنى ، أو على مستوى الدليل الذي رجح هذا المعنى ، إضافة إلى الاجتهادية التي تختلف من عالم لآخر ، لذلك نبه الغزالي على أمر هام فقال :" ومهما كان الاحتمال قريبا وكان الدليل أيضا قريبا ، وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما يغلب على ظنه ، فليس كل تأويل مقبولا بوسيلة كل دليل  بل ذلك يختلف ولا يدخل تحت ضبط "[9].
* أقسام التأويل :
  _ التأويل الصحيح والباطل : إن تعقيب الآمدي وتقسيمه التأويل إلى صحيح وباطل ، هو جوهر البحث ، والنكتة التي ستكون محل إثارة وجدل فيما قدمه المتقدمون من تأويلات لكثير من ظواهر النصوص[10] ومدى التسليم بها ، وأثرها على الحركة الفكرية والفقهية عند المعاصرين .
وقال ابن القيم :" فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد "[11] .
  _ التأويل القريب والبعيد : إلا أن تقسيم التأويل إلى صحيح وباطل لا يمنع تقسيمه أيضا إلى تأويل قريب وبعيد حسب الاحتمال وهذا ما قرره الغزالي ، فالقريب ما كان الاحتمال فيه قريبا ، وإن لم يكن بالغا بالقوة ، أما البعيد ما افتقر الاحتمال فيه إلى دليل قوي يَجبرُ بُعدَهُ حتى يكون ركوبُ ذلك الاحتمال البعيد أغلبَ على الظن من مخالفة ذلك الدليل [12].
  فحصيلة كلامه أن ليس كل تأويل بعيد هو غير صحيح ، بل يرى أن التأويل البعيد يستوي مع القريب في العقليات ، لأنه يمكن أن يكون مرادا باللفظ بوجه ما ، لذلك نبه إلى أنه لا يجوز التمسك بالعقليات إلا بالنص _ أي مقابل الظاهر _ وهو الذي لا يتطرق إليه احتمال قريب ولا بعيد .[13]
  إذن يبدو واضحا من خلال كلام الغزالي أن مبرر أخذه بالتأويل البعيد عدم مخالفة الدليل، وأوضح ذلك من خلال ذكره مثالا يصب في  جوهر بحثنا ، وغرضه التوفيق بين نصي حديثين متعارضين ، الأول عن ابن عباس"إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ "[14]، أما الثاني" لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ"[15]، فحمل الحديث الأول على أن المراد منه مختلفي الجنس، ثم يقول :"ولا ينقدح هذا التخصيص إلا بتقدير واقعة وسؤال عن مختلفي الجنس  ولكن يجوز تقدير مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنص ، وقوله عليه الصلاة والسلام نص في إثبات ربا الفضل  وقوله حصر للربا في النسيئة ونفي لربا الفضل، فالجمع بالتأويل البعيد الذي ذكرناه أولى من مخالفة النص"[16]
  ويفهم من كلامه أن حديث " إنما الربا في النسيئة " جاء جوابا لسؤال يتعلق بمختلفي الجنس _ مثلا السؤال عن بيع الذهب بالفضة دون تقابض _، والقرينة أو الدليل على هذا التقدير هو النص الواضح في الحديث الثاني الذي يثبت ربا آخر وهو ربا الفضل،وهذا برأيه أولى من مخالفة الحديث الأول أو ترك الحديث الثاني.
  ولكن قد يُستدرك على الغزالي في هذا المثال ما ورد في سياق الحديث ، وأن هذا التأويل البعيد فعلا كان بعيدا جدا عن الصحابة والتابعين ، فالبخاري يروي بسنده عن عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ الزَّيَّاتَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ t يَقُولُ : الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، فَقُلْتُ لَهُ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ t لَا يَقُولُهُ ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ r أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ : كُلَّ ذَلِكَ لَا ، أَقُولُ وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ r مِنِّي ، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ [17].
يظهر من ذلك أن حديث ابن عباس جاء جوابا لرد ربا الفضل ونفيه ، وإلا ما اعترض أبو سعيد عليه ، فلو كان التأويل البعيد الذي ذكره الغزالي معتبرا وراجحا، كان الأولى أن يكون حاضرا عند فقهاء الصحابة، وخصوا حديث ربا النسيئة بحديث ربا الفضل ، بدل أن يضعوا الحديثين محل تعارض واختلاف[18] .
ربما لصعوبة هذا التأويل وبعده ذكر ابن حجر عدة طروحات للتوفيق بين الحديثين ، منها : النسخ وقد استبعده لأنه احتمال وليس له دليل ، ومنها قَوْلهِ " لَا رِبًا " الرِّبَا الْأَغْلَظ الشَّدِيد التَّحْرِيم الْمُتَوَعَّد عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَب لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاء غَيْرَهُ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الْأَكْمَل لَا نَفْيُ الْأَصْلِ ،ومنها :  وَأَيْضًا فَنَفْيُ تَحْرِيم رِبَا الْفَضْل مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيث أَبِي سَعِيد لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمَنْطُوقِ ، وَيُحْمَلُ حَدِيث أُسَامَةَ عَلَى الرِّبَا الْأَكْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّه أَعْلَمُ [19] .
إن طرح الغزالي في قبول التأويل البعيد ، مع هذا المثال الذي قاد إلى هذا التأويل ، وكان منشأه التعارض يشير إلى نقطة هامة والتي أثارت عنوان البحث ، وهي علاقة التأويل بتعارض الأدلة ، وإلى أي مدى أثر التعارض على وظيفة التأويل ، ليشكل ذلك تراكما مهيبا ومسلما به في تراثنا الإسلامي كظاهرة طبيعية .

   * شروط صحة التأويل :
 يحذر ابن القيم من خطورة التأويل إذا استخدم في غير مكانه ومن غير أهله ، كما وقع في الأديان السابقة ، وبعض الفرق الإسلامية ، فيقول :" فَأَصْلُ خَرَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِكَلَامِهِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرَادُهُ ، وَهَلْ اخْتَلَفَتْ الْأُمَمُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ ؟ وَهَلْ وَقَعَتْ فِي الْأُمَّةِ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ ؟ فَمِنْ بَابِهِ دَخَلَ إلَيْهَا ، وَهَلْ أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفِتَنِ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ ؟ وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ ، بَلْ سَائِرُ أَدْيَانِ الرُّسُلِ لَمْ تَزَلْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ حَتَّى دَخَلَهَا التَّأْوِيلُ  فَدَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ .[20]
  وقد بدت بعض شروط التأويل الصحيح واضحة من خلاله تعريفه ، ومع ذلك فقد نص العلماء على شروط التأويل ليكون صالحا ومقبولا ، ليخرج بذلك التأويل المطلق أو الفاسد ، وهي [21]:
- أن يكون الناظر المتأول أهلا لذلك .
_ أن يكون اللفظ مما يقبل التأويل أصلا وداخلا في مجاله .
_ أن يقوم التأويل على دليل صحيح قوي يؤيده ، أو أن يكون الدليل الصارف للفظ عن مدلوله الظاهر راجحا على ظهور اللفظ في مدلوله .
_ أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي آل إليه لغة أو من عرف الاستعمال أو عادة الشرع .
_ ألا يتعارض التأويل مع نصوص قطعية الدلالة في التشريع .
_أن يكون المعنى الذي يؤول إليه النص أرجح من معناه الظاهر الذي صرف عنه وذلك بدليل مرجح .
_ وهناك شرط هام يتعلق بالحديث وهو ثبوت صحة الحديثين المتعارضين في حال تأويلهما [22].
- وذكر الغزالي شرطا هاما وعزاه لبعض الأصوليين وهو أن لا يؤدي التأويل لرفع النص أو شيء منه، فقال : " قال بعض الأصوليين كل تأويل يرفع النص أو شيئا منه فهو باطل" [23].
*  أهداف التأويل: 
- التأويل لإصابة مراد الشارع : هذا هو الأصل في التأويل ، لأن الغرض من التأويل إدراك الحقيقة التي يئول إليها المعنى التي هي أَخِيَّتُهُ وَأَصْلُهُ[24]، لذلك لم يعترض النبيr أو يعنف من خرج عن أمره من الصحابة عندما أمرهم أن لا يصلّوا العصر إلا في بني قريظة ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد لنا ذلك ، فذكر ذلك للنبي r فلم يعنف أحدا منهم " [25].  فبعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته ، ولم يبالوا بخروج الوقت ، ترجيحا للنهي الذي هنا على النهي في تأخير الصلاة عن وقتها ، وأما البعض الآخر فقد حمل النهي على المجازية ، وقالوا : إنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة ، فصلوا قبل أن يصلوا إلى بني قريظة [26].
- التأويل عند التعارض مع دليل آخر أو مذهب :
   إن الأصل عند الجمهور الجمع بين الحديثين ما أمكن ، والتأويل ركن أساسي في ذلك ، فقد اشتهر عن ابن خزيمة مقولته : " لا أعرف حديثين صحيحين متضادين ، فمن كان عنده فليأتي به لأؤلف بينهما "[27]، فهذه القاعدة تظهر أن التأويل ليس مجرد حالة يقتضيها النص بحد ذاته ، بل أصبح ضرورة يلجأ إليه عند تعارض الأدلة وذلك لغرض توفيقي أو حل مشكلة .
 وأشار الشاطبي إلى أهمية التأويل في إبطال دعاوى النسخ فقال :" إن غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ، ومحتملا ، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه ، ..."[28] .
 ويؤكد هذه القاعدة  الكرخي بقاعدة شبيهة تخص أصحابه الحنفية ، وتتمثل بأن كل آية أو حديث يخالف قول أصحابه أي الحنفية ، فهو إما منسوخ ، أو مرجوح ، أو يحمل على التأويل من جهة التوفيق [29].
  -  تطرّقُ التأويل للحديث قد يكون دلالة على قبوله : 
  نص الغزالي في المنخول على قاعدة هامة تتعلق بأحاديث الصفات وهي :" كل خبر مما يشير إلى إثبات صفة للباري تعالى يشعر ظاهره بمستحيل في العقل نظر إن تطرق إليه التأويل قبل وأول وإن لم يندرج فيه احتمال تبين على القطع كذب الناقل " [30].
  وحرر الزركشي  هذه القاعدة على لسان الغزالي بقوله " وَأَمَّا أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ فَكُلُّ مَا صَحَّ تَطَرُّقُ التَّأْوِيلِ إلَيْهِ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ قُبِلَ ، وَمَا لَا يُؤَوَّلُ ، وَأَوْهَمَ فَهُوَ مَرْدُودٌ " [31] .
 وذكر بعض الأصوليين تأويل العلماء للحديث دلالة على صحته، قياسا على الاحتجاج به فالاحتجاج بالحديث يستلزم قبوله ، وكذا تأويله يستلزم ذلك ، وإلا لم يحتج إلى تأويله ، ولكن اعترض عليه أن كثيرا من التأويل قائم على افتراض الصحة،أي لو صح الحديث فتأويله كذا، بخلاف الاحتجاج به،فهو قائم على ظنهم صحته[32].
المبحث الثاني : أثر تعارض الأدلة في مفهوم التأويل

يقول السرخسي :" اعلم بأن الحجج الشرعية من الكتاب والسنة لا يقع بينهما التعارض والتناقض وضعا، لأن ذلك من أمارات العجز والله يتعالى عن أن يوصف به ، وإنما يقع التعارض لجهلنا بالتاريخ فإنه يتعذر به علينا التمييز بين الناسخ والمنسوخ "[33].
إن مفهوم كلامه أن المشرع لا يمكن أن يضع أمامنا نصوصا وأدلة متعارضة ، ثم يترك لنا التوفيق بينها، بل قد يكون سبب ذلك جهلنا بتاريخ الناسخ والمنسوخ ، مما أدى إلى التعارض في ذهننا.
إن أسباب التعارض بين الأدلة كثيرة ، نص عليها العلماء ، منها ما يتعلق بالراوي ، ومنها ما يتعلق بالمروي [34]، وهذا ينفي أن يكون هناك تعارض حقيقي ، وإلا وجب تركهما أو تساقطهما [35].     
  إن مهمة التأويل تقوم على الجمع بين الدليلين المتعارضين ولكن بشرط ذكره ابن حجر، قال : " وإن كانت المعارضة بمثله فلا يخلو إما أن يمكن الجمع بين مدلوليهما بغير تعسف أو لا " [36].
 فلو أمكن التأويل بين أي دليلين من غير تعسف ، انتفى التعارض ، وحمل على أنه تعارض ظاهري ، وهذا يدلل على أهمية التأويل في مثل هذا التعارض ، فهو حافظ على قبول الدليلين من جهة ، ووفق بينهما من جهة أخرى . يقول الآمدي :" ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين على وجه يلزم منه تأويل أحدهما أولى من العمل بأحدهما وإبطال الآخر " [37] .
 إلا أن معيار الحكم على الدليلين بالتعارض الحقيقي أو الظاهري أمر نسبي عند العلماء ، يختلف من مجتهد لآخر ، والكم غير يسير في وقوع الاختلاف في ذلك [38]، وقد يستوجب ذلك الوقوف على ما حكموا عليه تعارضا من خلال تبني بعض الأحاديث وتصحيحها ، وهو أمر اجتهادي أيضا ، إضافة إلى اختلافهم في قبول التأويل أو رده بناء على أنه صحيح أو باطل .
  ويؤكد ذلك الطاهر الجزائري قائلا :" وطرف ممن يدعي إتباع الحديث والعمل به ، كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة ورأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا في مسائل العلم ".[39]
 إن دراسة مفهوم التأويل من خلال التطبيقات لن يقوم على قبول التأويل ورده فقط ، بل يصحبه سبب التأويل وصلاحية النص المؤول ، إلا أن الأمثلة لن تقتصر على مختلف الحديث ، وإنما سنتعرض أيضا لبعض النماذج من تعارض الحديث مع القرآن والإجماع والحس والتاريخ .
 إن الغرض من التطبيقات تسليط الضوء على مفهوم التأويل وشروطه ومدى إصابته لمراد المشرع ، متأملين النظر في أقوال العلماء على أنهم مجتهدون ، اجتهدوا بتأويلاتهم ضمن نطاق مداركهم وعصرهم ، ولا مانع أن يكون هناك فهم جديد أو نقد يوجهه مدارك هذا العصر . 
أولا _ تأويل الحديث توافقا مع القرآن  :
من المتفق عليه عند علماء المسلمين استحالة تعارض الحديث مع القرآن على الحقيقة، لكون كليهما وحيا من عند الله ، وقد يكون التعارض ظاهريا مثل ما أشكل على عائشة معارضة قول النبي r :" من نوقش الحساب عذب" مع قوله تعالى ]فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً[{الانشقاق: 8} ، فجاء البيان النبوي في تفسير الحساب اليسير بالعرض[40].
أما إذا وقع تعارض حقيقي بين الحديث وصريح القرآن ، فهذا دلالة عند المحدثين على عدم صحة الحديث ، ذكر الخطيب البغدادي أن مما يعلم فساده من الأخبار أن يكون مما يدفعه نص القرآن [41].
 وقد ذكر ابن القيم أمارات لمعرفة الأحاديث الموضوعة منها : " مخالفة الحديث صريح القرآن " [42].
إن رد الحديث قائم على إثبات التعارض الحقيقي لا الظاهري ، ويكون رده لعدم اعتباره كخبر ظني أمام قطعية القرآن ، إلا أن الحكم على التعارض حقيقي أو ظاهري يخضع لنظر النقاد واجتهادهم وقناعتهم بالتأويل كرفع لذلك التعارض من جهة ، والتسليم بقبول الحديث من جهة أخرى . 
  ونطرح أنموذج من خلال نص البخاري في صحيحه:"باب قول النبيr"يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه" إذا كان النوح من سنته،لقوله تعالى)قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً({التحريم:6}،وقال النبيr :" كلكم راع ومسؤول عن رعيته" فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة)وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى({الأنعام:164}وهو كقوله ) وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ[{فاطر: 18}.. ثم يتابع البخاري في الترجمة فيقول  "وَمَا يُرَخَّصُ مِنْ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ وَقَالَ النَّبِيُّr لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا"[43]
- تأويل الحديث : إن البخاري في هذا المثال أوقعنا بجدلية قبول الحديث من خلال تأويله أو رده لمعارضته
صريح القرآن ، فقد حاول البخاري أن يؤول الحديث إلى أن المراد بالبكاء هو النوح [44]، ثم قيد الحديث بحمله على أنه إذا كان عادة وسنة القوم النوح على الميت ، وذلك من باب قوله تعالى ) قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارً( ، وباب قولهr " كلكم راع ومسؤول عن رعيته" ، ثم يصرح البخاري بأن التأويل الذي ذكره إذا لم يتحقق فنأخذ بصريح القرآن دون الحديث ، كأنه يقول أن الحديث خاص ومقيد بذلك التأويل فقط .
ومن جانب أخر ساق البخاري أحاديث تحت هذه الترجمة يثبت أن النبي r بكى على بعض الموتى ، وسماها رحمة من الله عز وجل [45]، ولذلك فرق بين النياحة والبكاء ، رغم أن رواياته كلها جاءت بلفظ "بكاء"، ولم يتبنَ الروايات التي جاء فيها بتصريح النياحة ، كحديث ابن عمر عن عمر y عن النبي r " الميت يعذب في قبره بما نيح عليه " ، ورواية أخرى عن حفصة عن أبيها عمرy: "المعول عليه يعذب"، وعن المغيرة بن شعبة عن النبيr "من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة"[46].
  إلا أن جميع هذه الروايات لا تفيد تقييد الحديث بمن كان النوح من سنته ، وهذا اجتهاد من البخاري في التوفيق بين الحديث والقرآن ، ولم يذكر لنا دليلا أو قرينة على هذا التأويل والتخصيص ، بل ذكر ابن حجر من تمسك بظاهر الحديث من الصحابة كعمر وابن عمر وحفصة ، وكانوا ينهون عن البكاء لا النوح ويستشهدون بهذا الحديث .
إن التأويل الذي تبناه البخاري هو واحد من سبعة احتمالات نقلها ابن حجر عن النقاد ، حتى قال الإسماعيلي :" كثر الكلام في هذه المسألة ، وقال كل مجتهد على حسب قدره " ، ومما ذكره ابن حجر : أن الحديث يحمل لمن أوصى بالنياحة ، أو لمن أهمل نهي أهله عن ذلك ، ومنها : قوله " يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله " أي بنظير ما يبكيه أهله به ، ومنها : معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به ، ومنها : معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها ، وختم ابن حجر الاحتمالات بتوجيه الكرماني فقد خص قَوْله تَعَالَى ]وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وِزْر أُخْرَى [ عَلَى يَوْم الْقِيَامَة ، وَهَذَا الْحَدِيث وَمَا أَشْبَهَهُ عَلَى حياة الْبَرْزَخ [47].
وهذه التأويلات في جلها لو تمعنت بها لم تجد لها دليلا أو قرينة تؤيدها ، إلا أن التأويل حتمي لصحة الحديث بنظر من أوله لتعارضه مع القرآن ، ولم تتعرض هذه التأويلات لاستدراك عائشة على الحديث.
- شذوذ ابن قتيبة :  إن شذوذ ابن قتيبة ليس بتأويلاته التي ساقها ، وقد وافقه عليها غيره ، وإنما بأدلته التي ساقها ليدلل على صحة تأويله ، أما تأويله بناه على أمرين ، الأول أن المراد بالميت الكافر ، فلا تعارض عنده لأن الكافر يعذب على كل حال ، والثاني المراد بالميت المسلم العاصي ، ولا إشكال عنده من أن يعذب الله الميت بذنوب غيره ، وهذا الظاهر لا يتعارض مع الآية ، لآن الآية نزلت في أحكام الدنيا ، كان أهل الجاهلية يأخذون بالثأر من لا علاقة له بالقتل ، فأنزل الله ) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( {الأنعام:164} [48]، ثم ساق أدلة يثبت أن الله عذب أقواما بجريرة غيرهم ، وقد انتصر لمذهبه بنص من أهل الكتاب ، وهو موضع الشذوذ ، ولا أدري كيف استجاز أن يضعه في كتابه ويقنع به نفسه كدليل إذ يستحيل على المسلم تبنيه ، _ وأستغفر الله على ذلك _ إذ يقول ابن قتيبة " وأخبرني رجل من الكوفيين ، قرأ في الكتب المتقدمة من كتب الله تعالى ، فوجد في كتاب منها < أن الله الحقود ، آخذ الأبناء بذنوب الآباء > ".
من جانب آخر تجاهل ابن قتيبة في تأويله جواب عائشة ، واعترض عليها أن استدراكها على الصحابة  ظن منها وتأويل ، ولا يجوز رد حديث رسول الله r لظنها [49].
- رد الحديث : ولكن بدا واضحا من السياق أن عائشة اعترضت على هذه الرواية وردتها قرآنيا كما صرح ابن حجر، علما أنها لم ترد الحديث كليا أو تنفيه على الإطلاق بل حملته على خلاف ما نقل لها ، مخطئةً الراوي ، ومصوبة ما سمعته من النبي r ، وقد وقع الصواب في الصحيح بروايتين مختلفتين رواهما البخاري :  الأولى : أن عائشة قالت أن النبيr قال : "إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه " ، ولكن هذه الرواية على ظاهرها تعارض القرآن أيضا، فما الفرق بين الكافر والمؤمن في قوله تعالى )وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( {الأنعام:164} ، ومثل ذلك عند مسلم" كانت عائشة تقول إنما كان أولئك اليهود".
والثانية : " إنما مَرّ رسول الله r على يهودية يبكي عليها أهلها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها " وقريب منه عند مسلم " إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه "[50]. وهذا الجواب لا إشكال فيه قرآنيا ومقاصديا طالما يعذب بخطيئته ، إلا أنه تعارض مع جوابها السابق .
إلا أن هذه الردود عن عائشة وتخطئة الراوي ونسيانه ؛ قد لا تستقيم أمام كثرة رواة الحديث عن النبي r برواية ابن عمر أو قريب منها ، وقال القرطبي :" إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضا ولم يسمع بعضا بعيد لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح "[51] .
مقابل ذلك أيد بعض الصحابة عائشة ، منهم ابن عباس وقد أيد عائشة عندما سمع ردها على حديث ابن عمر ، واستشهد بقوله تعالى) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى( {النجم: 43} [52].
وقد يستوقفنا أيضا ابن عمر الذي وضعنا أمام حيرة ، عندما يروي حديثا خلاف ما رواه سابقا ، دون أن يثير عنده إشكالا أو ينبه على الجمع بينهما ، فيروي أن النبي r بكى عندما دخل على مريض وبكى معه الصحابة ، ثم يقول : أَلَا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ "[53] .
 وممن صرح برد حديث ابن عمر الشافعيُ ، وقد تمسك بما روي عن عائشة ، ثم قال :"وما روت عائشة عن رسول الله r أشبه أن يكون محفوظا عنه بدلالة الكتاب ثم السنة.."[54].
إن ثمرة هذا المثال ليس ترجيح مذهب على مذهب ، أو انتصار لرأي معين ، وإنما الوقوف على هذا التباين والاختلاف بين العلماء والنقاد في تأويل نص أو قبوله ، ولنقرأ من ورائه سبب التأويل والتعسف في استعماله ، ونختم بما قال المباركفوري :" والحق هو ما ذهب إليه الجمهور من تأويل هذه الأحاديث الصحيحة ولا وجه لردها مع إمكان التأويل ، ولهم تأويلات بعضها قريبة وبعضها بعيدة ، فتؤخذ القريبة وتترك البعيدة "[55] ، علما أن الحق قد يكون على خلاف ما رجحه .  
ثانيا _ تأويل الحديث توافقا مع حديث آخر :
    هذا ما يعرف بعلم مختلف الحديث : وهو أن يأتي حديثان متعارضان متساويان يمكن الجمع بين مدلوليهما من غير تعسف [56]، وهذا أيضا يختلف من مجتهد لآخر ، فما يراه أحدهم تعارضا يقتضي التأويل لمساواتهما، يراه الآخر ناسخا ومنسوخا ، وقد يراه مجتهد ثالث أنه من باب راجح ومرجوح لعدم مساواتهما.
 والأمثلة كثيرة على ذلك منها:  ما ذكره ابن قتيبة وغيره مثالا هاما على إمكانية الجمع بين أحاديث متعارضة من خلال التأويل  :
الحديث الأول : حديث أبي هريرة وقد روي عنه من عدة وجوه بين زيادة ونقصان ، فروي بلفظ " لا عدوى ولا طِيّر ولا هامة ولا صفر "، وروي بدون "ولا طير" ، وروي" لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صفر" ، وروي " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد " .
وقد روي نفس الحديث عن ابن عمر بلفظ :" لا عدوى ولا طيرة ، إنما الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار".     وقد روي عن  جابر بلفظ " لا عدوى ولا طيرة ولا غول " .
وأما حديث أنس أن نبي الله r قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة "[57].
 أما الحديث الثاني :  فهو ما رواه أبو هريرة أيضا " لا يوردن ممرض على مصح "[58] .
وأما الحديث الثالث : فقد روى مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال :" كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي r إنا قد بايعناك فارجع "[59].
ومحل الشاهد هنا : أن الحديث الأول ينفي أن يكون هناك عدوى ، بينما يثبت الحديثان الآخران العدوى .
_ تأويل الأحاديث :  
  أولا _ العدوى : حاول ابن قتيبة الجمع بين الأحاديث، فبدأ بتأويل حديث الجذام بأن المراد منه ليس العدوى، وإنما الجذام قد يُمرض من باب المخالطة وطول المجالسة لا من باب العدوى ، وأن الأطباء لا يريدون معنى العدوى عندما يأمرون بعدم مجالسة المسلول والمجذوم ، وإنما يريدون به تغير الرائحة التي قد تسقم من أطال اشتمامها.
 إن ما يفهم من تأويله تحصيل حاصل ، فهو يفرق بين العدوى وعدمها ، بأن الأولى تقع بمجرد الملامسة أو اللقاء ، ولذلك خصها في الطاعون فقط ، أما الجذام قد يكون سببا للمرض لا بالعدوى وإنما بطول المجالسة.
  وهذا التأويل لا يستقيم لا من جهة الطب ولا من جهة النص ، فطبيا هناك أمراض تعدي بالهواء ، وهناك أمراض لا تعدي إلا بالتماس أو المعاشرة أو غيرها،وكلها تدخل تحت الأمراض المعدية أو الوبائية[60]، أما من جهة النص فإن هذا التأويل يتنافى مع قولهr "وفر من المجذوم فرارك من الأسد " فتخيل كم تكون سرعة من يهرب من الأسد ، فلو كان الجذام يمرض بالمخالطة وطول المجالسة لما كان هذا الترهيب بالفرار منه. 
  ثم أوّل ابن قتيبة حديث" لا عدوى"على خلاف الظاهر المتبادر إلى الذهن، وأوّله معنى آخر خارج نطاق الطب ، وفسر الحديث أن لا عدوى على من يعتقد أنه أصابه مكروه من المرأة أو الدار لكونه يعتقد أنها تعدي بالشؤم فيقول "أعدتني بشؤمها" فنفى النبي r هذا المعتقد بأن المرأة أو الدار تعدي بالشؤم _ .
 وكون هذا التأويل يتعارض مع رواية "الشؤم في المرأة والدار والدابة "، قرر أن هناك خطأ في هذه الرواية منتقدا أبا هريرة بالوهم ، وأنه لم يعِ كلام النبيr ، _دون أن يتعرض لرواية ابن عمر _ ، قال ابن قتيبة :  " فإن هذا حديث يتوهم فيه الغلط على أبي هريرة وأنه سمع فيه شيئا من رسول الله r فلم يعه" [61].
  بهذه الكيفية والتحكم حل ابن قتيبة التعارض، مطمئنا له رغم عدم تبني العلماء لهذا التأويل لتعسفه وبعده.  
  لذلك سلك ابن الصلاح مسلكا مغايرا لرفع هذا التعارض والجمع بين حديثي أبي هريرة ، من خلال تأويل الحديث الأول بأن الأمراض لا تعدي بطبعها ولكن الله تعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا للعدوى بمرضه ، ثم قد يتخلف ذلك بسببه كما في سائر الأسباب ، وأن النبي r قصد نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن ذلك يعدي بطبعه، أما في الحديث الثاني فقد أعلم النبيr أن الله جعل ذلك سببا لذلك وحذر من الضرر الذي يغلب وجوده بفعل الله سبحانه وتعالى[62].
  هكذا رأى ابن الصلاح الجمع بين هذين الحديثين ، ولو كان الأمر كما ارتأى ؛ لوجب على النبي r أن يوضح للصحابة أن كل شيء عبارة عن سبب ومسبب ، وليس الأمر خاصا في الطب ، وقد يتخلف السبب عن المسبب إذا شاء الله عز وجل ، فقد جعل الله النار بردا وسلاما على إبراهيم .
  وربما لعدم قناعة ابن حجر بهذا التأويل _وقد عرضه مثالا لمختلف الحديث _ وفقدان الدليل في تخصيص الحديث بتلك الحكمة رأى تأويلا آخر رجحه على سابقه ، فيقول :" والأولى في الجمع أن يقال : إن نفيه r للعدوى باق على عمومه ...، وأما الفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع ..." [63] .
  لقد تمسك ابن حجر بظاهر الحديث ونفى العدوى ، وأيد ذلك بأدلة أخرى ، وأوّل حديث المجذوم أنه من باب سد الذرائع خشية أن يعتقد الشخص إذا أصيب بالجذام بمخالطة المجذوم ، كان سببه العدوى ، فيعتقد صحة العدوى ويقع بالحرج ، لذاك أمره النبي r بالفرار .  
  إن تمسك ابن حجر بحديث نفي العدوى من جهة ، وتأويله الثاني من باب سد الذريعة ، يصعب قبوله وفيه تكلف ، وخصوصا معارضته للحس والواقع والعلم .
   رد الحديث : إن هذا الجهد من العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث ، وما ذكروه من تأويلات ، قد يكون هباء منثورا ، وذلك إذا علمت أن للحديث علة أخرى اعتد بها المحدثون ، وهي جحود الصحابي أبي هريرة لحديثه الأول " لا عدوى ولا طير.." واستنكرها أصلا ، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن وهو راوي الحديث "وأنكر أبو هريرة الحديث الأول قلنا ألم تحدث أنه لا عدوى فرطن بالحبشية قال أبو سلمة فما رأيته نسي حديثا غيره " ، وهذا النص في صحيح البخاري [64] .
  أما عند مسلم : "وقال الحارث بن أبي ذباب وهو ابن عم أبي هريرة قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث_ أي لا يوردن ممرض على مصح _ حديثا آخر قد سكت عنه ، كنت تقول : قال رسول الله r "لا عدوى "، فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك وقال :"لا يورد ممرض على مصح "، فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطن بالحبشية فقال للحارث أتدري ماذا قلت قال لا ، قال أبو هريرة : قلت أبيت. قال أبو سلمة ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله r قال:" لا عدوى "فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر "[65].
  وما يثير الانتباه هو أن أبا هريرة قد ذُكّر مرتين في حديثه لا عدوى ، مرة من أبي سلمة ، ومرة من الحارث ، وقد كان جوابه لهما بأن رطن بالحبشية بالنفي دون الإقرار برواية حديث " لا عدوى" .
   إلا أن اعتذار أبي سلمة لإنكار أبي هريرة للحديث بأنه إما أنه نسي أو نسخ فيه نظر ، أما أنه نسي فهذا لا يصح بحقه عند المحدثين لما ثبت في الصحيح دعاء النبي r له بالحفظ وأن لا ينسى أبدا [66]، وأما النسخ فإنه لا يقبل في مجال الطب والعلم ، ولا يثبت بالاحتمال ، ويشترط به معرفة التاريخ وقد تعذر ذلك .
  ثانيا _ الشؤم :
   إن رواية ابن عمر :" لا عدوى ولا طيرة ، إنما الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار " واضحة في إثبات الشؤم في هذه الثلاث ، علما أن في نفس الحديث تعارضا ، ففي قوله لا طيرة ، نفى الشؤم على الإطلاق ، والطيرة هي الشؤم[67] ، ثم أثبت الشؤم في ثلاث . قال ابن عبد البر:" وهذا محال أن يظن بالنبي r مثل هذا من النفي والإثبات في شيء واحد ووقت واحد " ، لذلك أوّل إنما الطيرة أي إنما إثم الطيرة ..[68] .
   أما حديث جابر فإنه اختلف لفظه ، وتغير ثلاثي الشؤم ، قال النبي r :" إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس"[69] ، فخرجت المرأة ودخل الخادم ، مع ملاحظة أن لفظ الحديث على سبيل الافتراض .  
   - تأويل الحديث : إن الحكم بثبوت هذه الرواية وصحتها يُحتّم تأويلها ، لأنها معارضة لصريح القرآن  كما سيأتي بعد قليل ، وحط لمكانة المرأة التي كرمها الله عز وجل وجعلها قرين الدابة والدار ، ومع ذلك فقد تمسك بعض العلماء بظاهر الحديث وأثبتوا الشؤم في هذه الثلاثة ، والغرابة أن النووي وابن حجر نقلا هذا القول عن ابن قتيبة [70]، وهذا يخالف ما نقلت عنه قبل قليل برده رواية الشؤم .
  ولكن قد يعذر من تمسك بظاهر الحديث لعسر التأويل،وكونه أقرب إلى النص الذي لا يتطرق إليه الاحتمال  فرغم محاولة ابن العربي والمازري في فهم الحديث إلا أنهما لم يأتيا بإضافة سوى حمل الحديث على الاستفهام ، وقد جاء الحديث بلفظ " إن يكن من الشؤم شيء حق ففي الفرس والمرأة والدار"[71].
  قال ابن العربي:" إن كان خلق الله الشؤم في شيء مما جرى من بعض العادة فإنما يخلقه في هذه الأشياء". وقال المازري : "مجمل هذه الرواية إن يكن الشؤم حقا فهذه الثلاث أحق به بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها "[72].
   وقد تمسك بعض العلماء بهذه الرواية للجمع بين الأدلة ، وهو ما رجحه الطحاوي فقال :" فلم يخبر أنها فيهن ، وإنما قال إن تكن في شيء ، ففيهن أي لو كانت تكون في شيء لكانت في هؤلاء فإذا لم تكن في هؤلاء الثلاثة فليست في شيء"[73].
   وبمعنى آخر : أن النبي r يعلم أنه لا شؤم في هذه الثلاثة وإنما ذكره على سبيل الافتراض ، وهذا التأويل يجب أن يصان عنه النبيr لما فيه من نسبة العبث إلى كلامهr وهو مصدر التشريع والوحي ، ويدحض هذا التأويل أيضا الروايات الأخرى الثابتة بصيغة الحصر "إنما الشؤم..." .
  ولكن لما حاول بعضهم التأويل جاء تأويلهم مستبعدا ومردودا ، فمثلا قد تأوله بعضهم على أن ذلك سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك لا أنه إخبار من النبي r بثبوت ذلك " ، فعلق ابن حجر :" وسياق الأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها يبعد هذا التأويل " ، ونقل عن ابن العربي :" هذا جواب ساقط لأنه r لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية والحاصلة وإنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه " [74] .
   لقد ذكر ابن حجر محاولة أخرى مبنية على ثبوت الشؤم في هذه الثلاث ، ولكن تفسير الشؤم بخلاف ما هو مصطلح عليه ، فنقل عن عبد الرزاق عن معمر تفسير الحديث بما يلي :" شؤم المرأة إذا كانت غير ولود وشؤم الفرس إذا لم يغز عليه في سبيل الله وشؤم الدار جار السوء " [75].
   ولكن هذا التأويل مجرد تخمين ، لا يقوم على أي دليل ، بدليل تأويل آخر نقله ابن حجر عن الدمياطي :" إذا كان الفرس ضروبا فهو مشئوم ، وإذا حنت المرأة إلى بعلها الأول فهي مشئومة ،وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع منها الأذان فهي مشئومة .
   إن التأويل الذي رجحه ابن حجر هو ما ذهب إليه ابن العربي في الدفاع عن مالك ، فقد روى في الموطأ تحت باب ما يتقى من الشؤم حديث ابن عمر[76]، فدافع عنه ابن العربي بقوله :" لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار ، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها ، فأشار إلى أنه ينبغي للمرء الخروج عنها صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل "[77]، وقد رجح ابن حجر هذا التأويل قياسا على تأويله حديث لا عدوى وحديث المجذوم .
  وهذا تأويل بعيد وهو مجرد تخمين ليس له دليل إلا الدفاع عن الحديث أو إمامه ، ولعسر قبول الحديث على ظاهره ، وإلا لماذا غاب هذا الفهم عن كبار الصحابة والتابعين واضطروا لرد الحديث .
- رد الحديث : سبق ذكر إنكار ابن قتيبة حديث الشؤم ونسب الوهم لأبي هريرة في روايته،واستدل على ذلك بما رواه بسنده عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله r أنه قال: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فطارت شفقاً ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدث بهذا عن رسول الله r إنما قال رسول اللهr : كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار ثم قرأت : ]مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا[ {الحديد: 22}،علما أن هذا الرد لم يذكره أصحاب الكتب الستة كسابقه ، وإنما الإمام أحمد والطيالسي[78].
   لقد ظهر من جديد الضابط القرآني عند عائشة لرد الحديث حسب ما نقل إليها ، ثم تأتي بالرواية التامة التي حلت الإشكال بوضوح ، وأن النبي r يخبر أن الطيرة كانت من عادات الجاهلية كما ورد عند ابن قتيبة والإمام أحمد ، أما رواية عائشة عند الطيالسي كان ذلك من معتقدات اليهود [79].
   إن ابن حجر ردّ على ابن قتيبة وعائشة بأن وافق أبا هريرة عددٌ من الصحابة [80]، بل اشتهر حديث الشؤم عن ابن عمر ، وقد شاركه به بعض الصحابة مع اختلافهم في المتن ، وقد روى الشيخان وأصحاب السنن حديث الشؤم عن ابن عمر وجابر وسهل بن سعد دون أبي هريرة .
   إن ما يؤكد ضعف نسبة حديث الشؤم عن أبي هريرة ، _علما أن أصحاب الكتب الستة لم يروه عن أبي هريرة _، ما فاجأنا به الإمام أحمد بسنده أنه : سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ : سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r الطِّيَرَةُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَسْكَنِ وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ ؟ ، قَالَ : قُلْتُ : إِذَنْ أَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r مَا لَمْ يَقُلْ ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ أَصْدَقُ الطِّيَرَةِ الْفَأْلُ وَالْعَيْنُ حَقٌّ "[81].
   فهذا النص واضح وصريح في تبرئة نفسه مما نسب إليه ، ولكن أليس الأجدر أن يُسأل هذا السؤال من اشتهر عنه رواية الشؤم كابن عمر ، بينما في هذه الرواية وفي حديث عائشة اشتهر الحديث عن أبي هريرة.   
    وربما حاول بعض الرواة تبييض صورة المرأة وجعلها سببا من أسباب اليمن طبعا مع قرنائها وهما الفرس والدار ، فقد روى الترمذي بصيغة التضعيف فقال :" وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَال سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ :" لَا شُؤْمَ وَقَدْ يَكُونُ الْيُمْنُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ . وعقب ابن حجر عليه بأن إسناده ضعيف ومخالف للأحاديث الصحيحة [82].
   إن هذا المثال يسلط الضوء على المنهج النقدي عند المحدثين في قبول الأخبار ، حتى نغرق بمثل هذه التأويلات والاختلافات التي يأباها سطوع هذا الدين ووضوحه، ولا نعتقد أن لغة النبي r بلغت من التعقيد ما تحتاج إلى هذا الكم من التأويلات لنصل إلى مراد الشارع ، وقد يكون الإسراف في استخدام التأويل لحل التعارض دلالة على مشكلة حقيقية تكمن ما وراء التعارض .
   أختم هنا بما خلص إليه ابن عبد البر ، يقول :" فقوله عليه السلام لا طيرة نفي عن التشاؤم والتطير بشيء من الأشياء ، وهذا القول أشبه بأصول شريعته r من حديث الشؤم .... والذي أقول به في هذا الباب تسليم الأمر لله عز وجل وترك القطع على الله بالشؤم في شيء ، لأن أخبار الآحاد لا يقطع على عينها وإنما توجب العمل فقط .قال الله تبارك اسمه ]قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا...[{ التوبة:51} ...... [83].

ثالثا_ تأويل الحديث توافقا مع الإجماع :
  إن أطراف التعارض في الحديث شملت أيضا تعارض الحديث مع الإجماع ، ووجه ذلك أن مستند الإجماع هو نص سواء عرفناه أو خفي علينا ، لأنه من الاستحالة أن يجمع الناس من غير دليل [84].
  ولكن هل تعارض الحديث مع الإجماع ، وهل يمكن الجمع بينهما ، وهل سيكون للتأويل دور في ذلك ؟ .
إن جواب ذلك سيكون من خلال مثال رواه الشيخان عن ابن عباس tقال :" صلى رسول الله r الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر " [85] .
ومحل الشاهد ما نقله الترمذي من اتفاق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث ، ويريد بذلك الإجماع كما صرح بذلك النووي [86]، والسؤال لماذا انعقد الإجماع على ترك العمل بهذا الحديث وقد رواه الشيخان في صحيحيهما ؟ ، وما هو الجواب في حل هذا التعارض .
   إن ظاهر حديث ابن عباس وقد تفرد به عن باقي الصحابة يفيد بأن النبيr جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بدون عذر، وهذا المعنى يخالف ظاهر القرآن]إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا[ {النساء:103}، وحديث المواقيت[87]، ويخالف أيضا ما تواتر من فعل النبيr والصحابة في عدم الجمع لغير عذر، وهذه النقطة قد تكون موطن اتفاق لدى الجميع ، وهذا ما قصده الترمذي في نقل الإجماع على ترك العمل به .
 ونقل ابن حجر أن بعض الأئمة تمسك بظاهر الحديث ، وجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة [88]، وأرى أن اشتراط الحاجة للجمع في الحضر ليس تمسكا بظاهر الحديث   .
- تأويل الحديث : عقب البخاري بعد رواية الحديث بقول أيوب السختياني (أبو الشعثاء ) :" لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ قَالَ:عَسَى". وهذا التأويل من الراوي لم يتجاوز التخمين بقوله" لعل"، ومع ذلك تمسك به الإمام مالك[89]، وأجاز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء في حال المطر ، دون الظهر والعصر.
فاعترض عليه ابن رشد ، إذ اعتبره أنه أخذ ببعض الحديث وتأوله ، وترك بعضه الآخر لكونه عارض عمل أهل المدينة عنده . قال ابن رشد :" فلم يأخذ بعموم الحديث ولا بتأويله: أعني تخصيصه ، بل رد بعضه، وتأول بعضه ، وذلك شيء لا يجوز بإجماع "[90] .
  لذلك انتقد النووي الترمذي في نقله الإجماع على ذلك ، لأنه تأوله بعض العلماء وأخذوا به في حال المطر والمرض[91].  لكن انتقاده غير سليم ، لأن هذا التأويل ضُعف لتعارضه مع رواية مسلم الصريحة " من غير خوف ولا مطر" وقد ذكر ذلك ابن حجر[92]، ويرد عليه أيضا أن المطر والمرض تصب في الأعذار ، وقد سماه النووي عذرا ، ودقة الإجماع عند الترمذي تقوم على أنه من غير عذر مطلق .
ثم ذكر النووي عدة تأويلات وانتقدها ، منها : أن يكون الجمع المذكور بعذر المرض ، ونحوه ، ورده ابن حجر : لأنه لو كان جمعه r بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من به نحو ذلك العذر والظاهر أنه r جمع بأصحابه وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته .
ومنها: من تأوله على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وهذا أيضا باطل لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر لا احتمال فيه في المغرب والعشاء .
 ومنها : من تأوله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاها فصارت صلاته صورة جمع ، وهذا أيضا ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل[93] .
   تعقب ابن حجر النووي في تضعيف هذا التأويل لكونه أخذ به جمع من العلماء كالقرطبي وغيره ، وقواه ابن سيد الناس لأنه مذهب راوي الحديث  ، ويرجح ابن حجر هذا التأويل بقرينة أخرى أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع ، ويؤكد حتمية التأويل بقوله :" فإما أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر ، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ، ويجمع بها بين مفترق الأحاديث ، والجمع الصوري أولى " [94].
وربما انتصر ابن حجر لهذا التأويل لأنه ظاهر مذهب البخاري إذ ترجم للحديث " باب تأخير الظهر إلى العصر" ، رغم أن نص الحديث عنده في نفسه يرفض هذا التأويل ، إذ يشكل على الراوي ويسأل " لعله في ليلة مطيرة ، قال عسى" ولو كانت المسألة تأخير وقت الصلاة ، لما أشكل عليه .   
واعتبر الشوكاني أن الجمع في المطر وغيره عمل بفحوى الحديث فيقول :" قلت وهذا يدل بفحواه على الجمع للمطر والخوف وللمرض ،  وإنما خولف ظاهر منطوقه في الجمع لغير عذر للإجماع ولأخبار المواقيت فتبقى فحواه على مقتضاه"[95]. 
 الخلاصة : إن دقة إجماع الترمذي صحيحة ، فقد ترك جميع الفقهاء العمل بظاهر الحديث ، ومن أوّله بمطر أو مرض أو حاجة، أو بجمع صوري خرج عن ظاهر الحديث، ويبقى في دائرة التخمين المفتقر لدليل.
لذلك ذكر الترمذي في العلل أن هذا الحديث معلول ، وأحال إلى الجامع في بيان تلك العلة ، وبالرجوع إلى الأخير لم نجد ذكر أي علة ، إلا مخالفته للإجماع ومخالفته لما رواه ابن عباس نفسه عَنْ النَّبِيِّ r  قَالَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ "[96].     
رابعا_ تأويل الحديث توافقا مع الحس والتاريخ :
الأصل في الخبر أن يتوافق مع موجبات الحس والعقل والتاريخ ، وهذا باتفاق العلماء ، والتعارض مرفوض ، وقد اشتهرت مقولة ابن الجوزي :" ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات ، فأخبروا أن الجمل قد دخل في سم الخياط ، لما نفعنا ثقتهم ولا أثرت في خبرهم لأنهم أخبروا بمستحيل ، فكل حديث رأيته يخالف المعقول ، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع ، فلا تتكلف اعتباره "[97].
وقريب من هذا ما نص عليه الشافعي أن الأصل في صدق الخبر وكذبه ، هو صدق المخبر وكذبه ، ومن ثم يستثني من تلك القاعدة ما يلي :" إلا في الخاص القليل من الحديث ، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه "[98].   
إن هذه المقدمة ضرورية لربط التعارض بالتأويل ، ومن ثم فإن توظيف التأويل في غير مكانه سيظهر الخلل الذي وقع به بعض النقاد نتيجة عدم تطبيق القاعدة والضابط الذي نص عليه الشافعي وابن الجوزي ، وذكره ابن القيم بوضوح في بيان أمارات الوضع في الحديث ، فيقول:" أن يكون الحديث باطلا في نفسه فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول r "[99] ، ويقول أيضا :" منها أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله : إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت ، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت "[100] .
إن الأمثلة كثيرة التي تعرض ضمن هذه الفقرة ، ولكن نكتفي بهذا المثال الهام الذي رواه الشيخان عن عبد الله t قال :" صلى بنا رسول الله r ليلة صلاة العشاء وهي التي يدعو الناس العتمة ثم انصرف فأقبل علينا فقال : أرأيتم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد " [101].
وروى الشيخان زيادة في إحدى الروايات  :" ...قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله r تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة وإنما قال رسول الله r لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن " .
وروى عن جابر بن عبد الله t يقول سمعت النبي r :" يقول قبل أن يموت بشهر تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله ، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة" .
وروى عن جابر أيضا قال قال نبي الله r :" ما من نفس منفوسة تبلغ مائة سنة " فقال سالم تذاكرنا ذلك عنده إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ .   وروى عن أبي سعيد t قال لما رجع النبي r من تبوك سألوه عن الساعة فقال رسول الله r " لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم " [102] .
_ تأويل الحديث :
إن زيادة الشيخين في استدراك ابن عمر على من وهل من الصحابة ، يبين الخطأ الذي وقع إما في النقل أو الفهم ، أما من جهة النقل فقد وردت أكثر الروايات على الإطلاق من غير كلمة " اليوم" ومن ذلك رواية ابن عمر ، فيصحح لهم بأن النبي r ذكر " ممن هو اليوم "  ، أما من جهة الفهم فقد حمل الحديث ليس على قيام الساعة وإنما أوله على أن المراد انخرام القرن ، ولا يبقى أحد ممن هو حي بعد مائة سنة .
وأكد ابن حجر أن ابن عمر قد أوّل الحديث بقوله :" وقد بين ابن عمر في هذا الحديث مراد النبي r وأن مراده أن عند انقضاء مائة سنة من مقالته تلك ينخرم ذلك القرن فلا يبقى أحد ممن كان موجودا حال تلك المقالة"[103]. ويلاحظ أن ابن حجر زاد على تأويل ابن عمر بمن كان موجودا حال تلك المقالة ، أي يفهم منه ممن كان في مجلس النبي r وليس كل حي موجود في تلك اللحظة كما هو ظاهر من تأويل ابن عمر .
إن خصوصية هذا التأويل أنه وقع من صحابي في عصر النبي r ، فرغم أن الصحابة فزعوا وخافوا من مقالة النبي r التي تتحدث عن سنة مائة ، ويبرر العيني ذلك :" حيث تؤولونها بهذه التأويلات التي كانت مشهورة بينهم مشارا إليها عندهم في المعنى المراد عن مائة سنة مثل إن المراد بها انقراض العالم بالكلية ونحوه لأن بعضهم كان يقول إن الساعة تقوم عند انقضاء مائة سنة "[104]، مع ذلك يكون جواب هذا الإشكال تأويل ابن عمر لما فهمه الصحابة من تلك المقالات ، دون الرجوع إلى النبي r  لفهم المراد على حقيقته .  
ولكن مع ذلك فإن مسلما يذكر في صحيحه رواية أخرى عن سالم عن جابر ، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر الذي روى الحديث السابق عن أبيه ، فإنه يروي هنا الحديث عن جابر ، ويؤول الحديث بقوله :" ما من نفس مخلوقة " ، أضاف كلمة مخلوقة في الحديث ، ليحل الإشكال .
بينما نقل مسلم أيضا عن عبد الرحمن وهو أحد رواة الحديث أن المراد هو نقص العمر .
إن ما ذكرناه من تأويلات جاءت ضمن سياق الروايات ومن كلام الرواة ، أما ما ذكره الشراح والنقاد من فهم وتأويل في كتبهم مختلف: فالنووي الذي فهم من كلام ابن عمر أنه أراد انخرام القرن ، فيقول :" المراد أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قلّ أمرها قبل ذلك أم لا ، وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة "، فإن هذا التأويل قيد بأن المراد من كان موجودا حال تلك المقالة ، ثم يضبط ابن حجر بالاستقراء ليكون آخر من ضبط أمره ممن كان موجودا حينئذ أبو الطفيل عامر بن واثلة [105]، علما أن النبي r قال مقولته قبل وفاته بقليل حسب ما ورد في الصحيح .
فإذا كان أبو الطفيل ولد عام أحد وكان عمره سبع سنين أو ثمان حين توفي النبي r [106]، فكيف نفهم الحديث على فهم ابن عمر والنووي أن المراد ما من نفس مخلوقة أو كائنة تلك الليلة ؟ ، فماذا كان مصير الأنفس من التابعين خلال ستة أعوام ، وقد ولدوا في حياة النبي r ولم يدركوه بالصحبة لصغر عمرهم ؟ .
 إن جواب ذلك جاء من خلال تقييد الحديث بمن سمع تلك المقالة فقط ، لينتهي الأمر عند أبي الطفيل فقط واعتباره آخر من توفي منهم ، مع اختلافهم في تاريخ وفاتهم حسب فهمه للحديث [107] .  
ولكن الروايات التي ذكرت لا تدل على هذا التقييد والتأويل ، بأن المراد هم الصحابة الذين حضروا المجلس ، لذلك حاول ابن قتيبة أن يضيف حرفا _ وهو منكم_ في الحديث قد أسقطه الرواة ، إما لأنهم نسوه أو لأن رسول الله r أخفاه فلم يسمعوه ، ثم يقول :" ونراه بل لا نشك أنه قال لا يبقى على الأرض" منكم " يومئذ نفس منفوسة يعني من حضره في ذلك المجلس أو يعني الصحابة فأسقط الراوي منكم ".
 لقد تبنى ابن قتيبة هذه الزيادة لاعتقاده أن أصل الحديث صحيح، ولا بد من التأويل لكي لا يحكم ببطلانه كما نَقلَ عن بعضهم ، بقولهم :" وهذا باطل بيّن للعيان ونحن طاعنون في سني ثلثمائة والناس أكثر مما كانوا "[108].
 فهل يستقيم جوابه مع قواعد المحدثين بنسبة الوهم والسهو لجميع الرواة ؟ أجاب الطحاوي ببراءة الرواة من ذلك لأن نقلهم عنه نقل الجماعة، ونقل الجماعة بريء من ذلك، وإنما يكون مثل هذا إذا كان في نقل الآحاد[109].  ومن ثم كيف استقام معه أن النبيr أخفاه ، وهو الذي كان إذا حدث أسمع،وكرر اللفظ ثلاث أو أربع مرات.
إلا أن الحرف الذي كان يبحث عنه ابن قتيبة ، وجد فيما بعد في صحيح ابن حبان عن جابر بن عبد الله " أن رسولr قال ما منكم من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي حية " [110]، وهذه الرواية قد حلت الإشكال برأيي كثير من الباحثين ، ليكون هذا الحديث معجزة من معجزات النبيr ، وكل من فهم الحديث بما جاء بطرقه الصحيحة فهو شاذ الفهم وعدو للسنة [111]، ولكن ما أحوج ابن قتيبة لهذه الإضافة في عصره بدل أن ينسب إلى النبيr ما ذكر ، وقد خلت جميع الروايات التي ذكرناها من هذا الحرف  .
أما الطحاوي فقد تبنى تأويل ابن قتيبة تقييده الحديث بالصحابة ، ثم يثير إشكالا ينسف به التأويل السابق فيقول :" فإن قال قائل : فقد كان في أصحاب رسول الله r مخضرمون ممن كان في الجاهلية وبقي في الإسلام حتى جاوز هذه المدة منهم أبو عثمان النهدي ....وآخرون ذكرهم ، فيجيب عن ذلك باحتمالين ، الأول : تأويل الحديث من جديد بأنه أراد به ممن كان اتبعه لا ممن سواهم والله أعلم ما أراد من ذلك ، والثاني :" غير أنه قد يحتمل أن يكون وفاة هؤلاء المعمرين في المائة سنة التي ذكرها رسول الله r قبل خروجها ، وهو أولى ما حملت عليه هذا المعنى إن شاء الله تعالى والله أعلم " [112].
ثانيا _ رد الحديث :
_  ذكر ابن القيم قاعدة يعرف بها الحديث الموضوع وهي :" أحاديث التواريخ المستقبلة وقد تقدمت الإشارة إليها ، وهي كل حديث فيه إذا كانت سنة كذا وكذا حل كذا وكذا ...  ، ثم يذكر مثالا لذلك : " حديث عند رأس مئة يبعث الله ريحا باردة يقبض الله فيها روح كل مؤمن " [113].
إن المتأمل في الحديثين يجد أن موضوع الحديث واحد ، وكلاهما يندرج تحت القاعدة التي ذكرت ، إلا أن الحديث الذي ذكره ابن القيم زاد فيه الوسيلة التي تقبض فيها الروح ، وخصص القبض لروح المؤمن فقط  بينما حديث الباب قد شمل كل روح ، ولكن بناء على تأويل الشراح فهذا الخلاف لا أثر له ، لأنهم خصوا الحديث بالصحابة أو من اتبعه r وهم مؤمنون ، ومما يؤكد أن معنى الحديث واحد ؛ صنيع الهيثمي فقد جمع أحاديث الباب ورواياته في موضع واحد ، ومن بينها حديث ابن القيم عن الصحابي بريدة [114].
_ إن ما سبق من تأويلات كان محاولة للتوفيق بين الحديث ومعارضته للواقع والتاريخ ، دون التعرض لمعارضته لصريح القرآن بناء على تأويله أن المراد به انخرام القرن وليس قيام الساعة ، إذ كيف يُسأل النبي r عن الساعة _كما ورد في حديث جابر وأبي سعيد عند مسلم _، فيجيب بتحديدها على رأس مائة سنة ، وقد صرح القرآن بأنه r لا يعلمها .
  قال تعالى ) يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( {الأعراف: 187} .
 وقوله تعالى ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا{42} فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا{43} إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا{44} إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا{45} كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا{46}[{ النازعات:42-46} .
 لذلك عاود بعض الشراح تأويل الحديث لنفي أن يكون النبي r حدد سنة قيام الساعة [115].
                              المبحث الثالث : التأويل في ضوء المقاصد

عرف ابن عاشور المقاصد بأنها المباني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة [116].
أما التأويل _أي الصحيح_ فقد نص ابن القيم على أن الهدف منه : إدراك الحقيقة التي يئول إليها المعنى التي هي أَخِيَّتُهُ وَأَصْلُهُ [117] .
فالعلاقة بين التأويل والمقاصد علاقة تكاملية ، فمجموع معرفة مراد الشارع من الأدلة هو الذي أتى بالمقصد ، ثم يختص المقصد بقوة احتكام بعض النصوص المتفردة ، في قبولها أو ردها ، أو فهمها فهما مقاصديا بحيث يكون هناك قرينة قوية في صرف ظاهر النص إلى ذاك التأويل .
  يقول الثعالبي الفاسي " فكان هذا الفريق من الفقهاء يبحث عن تلك العلل والحكم التي شرعت الأحكام لأجلها، ويجعل الحكم دائرا معها وجودا وعدما ، وربما رد بعض الأحاديث لمخالفتها لهذه العلل ولاسيما إذا وجد لها معارض " [118].
  إن الفريق الذي أشار إليه الفاسي يمثل رأي جمهور الفقهاء في تفعيل المقاصد في فهم الحديث فهما مقاصديا أو رده لمعارضته المقاصد ، وهذا النتيجة ظهرت من خلال الملاحظة في التطبيق.
  إن التأويل في ضوء المقاصد يقسم إلى تأويل سببه تعارض حديث آحاد مع مقصد قطعي ، وهذا يشمل القسم الأول من هذا المبحث ، أو تأويل سببه معطيات جديدة مرتبطة بحكمة الحديث وعلته التي يدور الحكم معها وليس مع ظاهر النص ، وأطلقنا عليه التأويل المعلل وهو محور القسم الثاني من المبحث.

          التـأويـل في ضوء تعارض الحديث مع المقاصد
إن الحكم على بعض الأحاديث بالصحة وقد عارضت مقاصد الشريعة ؛ هي التي ولدت ظاهرة التأويل التعارضي ، وقد يكون رد الحديث أولى من تأويله تأويلا بعيدا ، وقد ذكرنا فيما سبق أمثلة قد عارضت أدلة أخرى إضافة إلى المقاصد ، كما في حديث "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ".
إن من أوضح الأمثلة التي توضح المسألة ما روته عائشة عن النبي r " من مات وعليه صوم  صام عنه وليه " ومن طريق ابن عباس عند مسلم " أن امرأة أتت رسول الله r فقالت إن أمي ماتت وعليها صوم شهر فقال أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء " وعند البخاري رواية " وعليها صوم خمسة عشر يوما " ورواية أخرى عنده " إن أختي ماتت .." وزاد مسلم على البخاري طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي r مثل حديث ابن عباس وزاد فيه"  قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها " وأيضا مرة ذكر" وعليها صوم شهرين " وأخرى " صوم شهر" [119].
معارضة الحديث للمقاصد :
اعترض الشاطبي على هذا الحديث مقاصديا ، لكونه يتعارض مع أصل قطعي وهو أن <النيابة لا تدخل في العبادات البدنية>، والصوم عبادة بدنية[120]، ودلل على تلك القاعدة بنصوص قطعية كثيرة ، منها قوله تعالى ) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى({الأنعام: 164} وقوله تعالى) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ({النجم:39}...
التمسك بظاهر الحديث: قرر النووي العمل بظاهر الحديث،وأن ليس هناك تعارض بين الحديث والمقصد ثم قال:"وأي مانع يمنع من العمل بظاهره مع تظاهر الأحاديث مع عدم المعارض لها"، وهو مذهب طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبي ثور ، ونسب لأصحاب الحديث وهو مذهب البخاري كما يقرأ من ترجمته إذ قال : " بَاب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ" [121].
تأويل الحديث : ذكر الشاطبي أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا ، وتأولوها بأن سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم أن لا يمنعوا أحدا من فعل الخير ، يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم فأنفذوا ما سئلوا فيه من جهة كونه خيرا لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه .
أما الماوردي فأوّل الحديث بأن المراد بقوله " صَامَ عَنْهُ وَلِيّه " أيْ فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام ، قال ابن حجر : " وَتُعُقِّبَ بأنه صرف ٌ للفظ عن ظاهره بغير دليل "[122].
وقال النووي :" وتأولوا الحديث على أنه يطعم عنه وليه ، وهذا تأويل ضعيف ، بل باطل ، وأي ضرورة وأي مانع يمنع من العمل بظاهره مع تظاهر الأحاديث ، مع عدم المعارض لها "[123].
أما الإمام أحمد فقد جمع بين الأحاديث ، حملا للعموم الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس ، وأجاز الصوم عن الميت صوم النذر لا رمضان[124] .
 رد الحديث : اعتذر القاضي عياض والقرطبي وغيرهما عن عدم العمل بالحديث ، لأنه حديث مضطرب[125].
 وقال ابن عبد البر :" اعلم أن هذا الحديث مضطرب وقد كان ابن عباس يفتي بخلافة فدل على أنه غير صحيح عنه " [126]. وعلة مخالفة الراوي لفتواه استأنس بها الحنفية لرد الحديث ، وهذا دلالة على نسخه عندهم[127]  بينما زاد المالكية في رد الحديث على ما تقدم مخالفته لعمل أهل المدينة [128] .
أخيرا : لقد استعصى قبول ظاهر الحديث على جمهور الفقهاء ، رغم تسليم جمهور المحدثين بصحته ، ولم يسعفهم أي تأويل صحيح لفهم الحديث ، فاضطروا لتأويلات بعيدة كتفسير الصيام بالإطعام ، ولكن هل يدل الصيام على الصدقة أو إطعام الفقير مجازا ؟ وأي لغة استخدمها النبي r في بيان ذلك ؟
إلا أن النووي بتمسكه بظاهر الحديث ورفضه جميع التأويلات يدل على إشكالية حقيقة في تعريف التعارض ، فبرأيه أن ليس هناك تعارض بين الحديث والنصوص القطعية من كتاب الله ، وأنه يمكن أن يصوم إنسان عن ميت ، ومن باب أولى يحج عنه ، ضاربا بالأدلة القطعية عرض الحائط .
والغرابة أن النووي لامس علة الحديث بالاضطراب ، ولكن مع ذلك حل هذا الاضطراب حسب قاعدته بتعدد الواقعة ، وأنه أودعه مسلم في صحيحه ، مبطلا دعوى من رده من النقاد .
مثال آخر: روى الشيخان عن رافع بن خديج عن عمه ظهير قال: لقد نهانا رسول اللهrعن أمر كان بنا رافقا قلت: ما قال رسول الله فهو حق، قال دعاني رسول الله ، قال ما تصنعون بمحاقلكم، قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير قال لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها، قال رافع: قلت: سمعا وطاعة " [129] .
 معارضة الحديث للمقصد : لقد ورد في متن الحديث نفسه المقصد الذي خالفه ظاهر الحديث ، يقول  رافع : " نهانا رسول الله r عن أمر كان بنا رافقا" وهذا خلاف ما هو مقرر في الشريعة ، فالرفق والتيسير وعدم الحرج ، مقصد كلي قطعي[130].
_ تأويل الحديث :
أولا _ حمل الحديث على أنه حث من النبي r لمواساة الصحابة بعضهم بعضا ، فقد نقل طاووس عن ابن عباس أن النبي r لم ينه عنه ولكن قال: إن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئا معلوما ، وهذا الحديث جاء في معرض رد طاووس على مجاهد عندما أراد أن يحيله على رافع [131].
  إلا أن سبب ورود الحديث وسؤال النبيr عن طريقة تصرفهم بالأرض،فأجابهم بمنع كرائها حسب ما ذكر يضعف هذا التأويل، ولو كان المراد المواساة لما جعل أحد الاختيارات إمساكها، والمقام هنا مقام تفصيل. 
ثانيا_ حمل النهي في الحديث عن كرائها بغير الدينار والدرهم ، فقد سأل الراوي رافع " فقلت لرافع فكيف هي بالدينار والدرهم فقال رافع ليس بها بأس بالدينار والدرهم " [132].
  إن الإثارة في هذا المثال ما علق به ابن حجر على هذه الرواية فيقول :" يحتمل أن يكون ذلك قاله رافع باجتهاده ، ويحتمل أن يكون علم ذلك بطريق التنصيص على جوازه أو علم أن النهي عن كراء الأرض ليس على إطلاقه ، بل بما إذا كان بشيء مجهول ونحو ذلك فاستنبط من ذلك جواز الكراء بالذهب " [133].
إن هذه الاحتمالات التي ذكرها ابن حجر تَضْعُفُ أمام سكوت رافع عندما واجهه ابن عمر بما عهده في عصر النبي r قائلا :" قَدْ عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَبِشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ"[134]، فلماذا لم يوضح له الالتباس الذي وقع له،علما أن سماع ابن عمر لحديث رافع_كما ورد في بداية الحديث_ كان في إمارة معاوية ، والذي يدور في الخاطر أن أهل المدينة أهل زرع ، فالأولى أن يشتهر عندهم قولا وفعلا ، فكيف غاب هذا الحكم أو الحديث عن ابن عمر طول هذه السنين وهو مما تعم به البلوى.
  إن الاحتمال الأول الذي ذكره ابن حجر بأن رافع اجتهد في تخصيص الحديث ، أرجح من غيره ، لما ورد من روايات أخرى وشواهد على رواية النهي عن كراء الأرض على الإطلاق .
  ولكن قد نصل هنا إلى ربط الحديث بفكرة البحث من خلال توظيف رافع التأويل ، مستشهدا بملاحظة ابن عاشور في سبب اختلاف الروايات عن رافع ، فيقول :" ويظهر أن رافع لما أكثر الصحابة من مخالفته تأول روايته ... فجعل محمل النهي ما في عقود قومه من المخاطرة "[135].
_ رد الحديث : إن من عدل عن الحديث كليا هم كثر ، وقد ذكرهم النووي وعلى رأسهم الإمام أحمد والصاحبان وأجازوا كراء الأرض بجميع الصور التي نهي عنها فقالوا : تجوز إجارتها بالذهب والفضة وتجوز المزارعة بالثلث والربع وغيرهما ، ثم قال النووي : وهو الراجح المختار [136] . 
 وقد بين ابن عبد البر وابن رشد عن سبب عدول الإمام أحمد عن حديث رافع بأن ألفاظه مضطربة ومعانيه مختلفة، ويدل على ذلك ما جاء في إحدى روايات مسلم "ولا تبيعوها" وقد أوّل الراوي البيع بالكراء [137] .
             التـأويـل المـعلل برؤية مقاصدية
إن نسبة العلة للتأويل ، تعني أن سبب تأويل الحديث علة الحكم الذي دل عليه ظاهر الحديث ، وهذا ما  يميزه عما سبقه من توظيف ، فلا تعارض هنا بين حديث ودليل آخر ، ولا اعتراض على صحة الحديث ، إنما هناك مقصد شرعي فرض نفسه على حديث ما ، بانت علته ، فيعدل عن ظاهره ويحمل محملا آخر يصيب مراد الشارع حيث كانت تلك الأحكام معللة .
إن البعد الزماني ومعطيات العلوم الجديدة قد يخدم هذا التأويل ، ويجعل من ذاك ائتلافا وتوافقا يحقق صلوحية هذا الدين لكل زمان ومكان ، ونوضح ذلك من خلال مثالين :   
المثال الأول : عن عائشة أنها قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه ، انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته ، فنظر رسول الله r إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال هو لك يا عبد ، <الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة >  قالت فلم ير سودة قط " [138].
إن ظاهر الحديث يدل أن الولد إنما يلحق بالأب بعد ثبوت الفراش ، قال الشوكاني :" وهو لا يثبت إلا بعد إمكان الوطء في النكاح الصحيح أو الفاسد وإلى ذلك ذهب الجمهور "[139].
وسبب ورود الحديث يدل أيضا على أن الحديث جاء في مقام التنازع والقضاء ، لذلك خص كثير من العلماء الولد للفراش عند التنازع ، أما عند عدم التنازع فالأصل أن يلحق الولد بمن يدعيه ، وهذا ما عرف عن الصحابي عمر t في خلافته[140].
إن ظاهر الحديث يطرح تساؤلا لفهم جديد وهو: هل أثبت النبي r البنوة على من قال بها ، بناء على أن الفراش قرينة قوية تَرجُح على الشبه والقافة ، لما فيها من غلبة ظن ، وكون الأصل أن يكون الولد من صاحب الفراش ، أم أثبت البنوة لأن الفراش عقد شرعي يثبت به الحكم وما عداه ملغى ؟ .
إن ظاهر نص الحديث قد يفيد أن الفراش يعبر هنا عن عقد شرعي وليس قرينة ، ولكن هذا الاحتمال ينغصه ما أشكل على الفقهاء ، إذ كيف يحكم النبي r الولد لزمعة كونه على فراشه ثم يأمر بنت زمعة بالاحتجاب عنه ، والعقد الشرعي يقتضي المحرمية عليه ؟ [141].
أجاب العلماء بعدة احتمالات ، منها : أن أمر النبي r لسودة بالاحتجاب هو من باب الندب والاحتياط ، قال النووي :" لأنه في ظاهر الشرع أخوها ، لأنه ألحق بأبيها لكن لما رأى الشبه البين بعتبة بن أبي وقاص خشي أن يكون من مائه فيكون أجنبيا منها فأمرها بالاحتجاب منه احتياطا " [142].
ومن الأجوبة ما ذكره ابن القيم بعد أن جعل أحد الاحتمالين هو أنه من باب الورع والاحتياط [143]، فقد اتجه اتجاها آخر ، إذ اعتبر أن النبي r قد أعمل الدليلين ، فالفراش دليل لحوق النسب ، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعي وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة ، وقد انتصر لهذا الرأي، واستدل بذلك على تبعيض أحكام النسب [144].
ومنها ما حرره ابن العربي فقد رأى أن ابن زمعة قد ادعى أمرين : أحدها الأخوة ، والثاني ولادة الفراش  فأثبت له النبي r ولادة الفراش ولم يثبت له النسب ، فلو قال له النبي r هو أخوك الولد للفراش  لكان إثباتا للحكم ونفيا للعلة ، بَيدَ أن النبي r عدل عن الأخوة ، ولم يتعرض لها ، وأعرض عن النسب ولم يصرح به، وإنما قال هو لك معناه وأنت أعلم به [145].
وقريب من ذلك ما ذكره الشوكاني أن النبيr لم يثبت البنوة وإنما أثبت الملك أي أن ابن زمعة ورثه من فراش أبيه بدليل قوله هو" لك يا عبد " واللام للتمليك، ولو كان أخا لها لم تؤمر بالاحتجاب منه[146].
إن دلالة ألفاظ الحديث وما ذكرته من تأويلات ، واحتجاب سودة من ولد فراش أبيها ، ترجح أن الفراش لم يوظفه النبي r بصفته الشرعية ، وإنما قرينة راجحة على قرينة القافة . فاعتذارهم أن احتجابها من باب الاحتياط أو تجزئة النسب ، يشعر بأن الفراش لم يرتقِ إلى حقيقة شرعية توجب آثارها .
قال النووي:" الولد للفراش" دليل على أن الشبه وحكم القافة إنما يعتمد إذا لم يكن هناك أقوى منه كالفراش"[147].
إن من أقوى الأدلة على أن الفراش قد لا يثبت به النسب حتى في محل النزاع ، هو ما جاء في حديث المتلاعنين ، فقد لاعنت زوجها وهي حامل وعلى فراشه ، ومع ذلك فقد فرق النبي r بينهما ، وقد حلفت أنها لم تخنه ، فروى البخاري :" ففارقها فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين وكانت حاملا فأنكر حملها وكان ابنها يدعى إليها ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله له " وعند مسلم " ففرق رسول الله r بينهما وألحق الولد بأمه " [148] .
  فإذا كان الفراش قرينة قوية للحوق الولد بمدعيه ، فهل يمكن فهم الحديث فهما مقاصديا ، يعدل به عن ظاهر الحديث ، فنأخذ بقرينة أخرى أقوى من الفراش والقافة تحقق مقصد الشارع في حفظ النسب .
إن مقاصد الشارع متشوقة لحفظ الأنساب واتصالها والمحافظة عليها ، وحمايتها من العبث بها ، فقد حرم الله عز وجل الزنا وحرم التبني، وألحق كل بنسبه الحقيقي) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ({الأحزاب:5}  فهل نستعين بالعلم الحديث الذي جاء بقرينة لا تقبل الشك بلغت مبلغ اليقين ، في معرفة نسبة الولد لأبيه ، وهل نحكّمها هنا في مقام القضاء أو عند التنازع ؟ .
 إن البصمة الوراثية ، أو ما يسمى ببصمة < DNA > قد بلغت دقتها أن تميز أشلاء الناس عن بعضها البعض وتجمع أشلاء كل شخص لوحده ، وهي تحقق مقصد الشارع في نسبة الولد لأبيه الحقيقي[149].
 فإذا ادعى أحد بنوة ولد ليس على فراشه ، أو اتهم زوج زوجته بأن ما ولدته ليس ابنه ، أو ادعت امرأة أن ولدها من الزنا من ماء فلان ، فإن البصمة الوراثية تبين صحة دعوى هؤلاء أو عدمها بالقطع واليقين .
وبناء على ذلك قد نتساءل هل يثبت نسب الولد للفراش إذا أثبت العلم أنه ليس بابنه ، وقد أقر آخر أنه من مائه ؟ ، وإذا ألحق الولد بصاحب الفراش فهل يكون نوعا من التبني؟، مع ملاحظة أنه في حال عدم التنازع لا يمكن إلزام الزوج بأبناء ليسوا من صلبه على أنهم أولاده من الفراش، وذلك قياسا على الزوج الصغير أو العقيم ، قال الغزالي :" فإذا انسدت ثقبة المنى انتفى الولد من غير لعان لأنه يستحيل الإنزال "[150].
وقد حاول الدكتور القرضاوي تفعيل البصمة الوراثية ، فأجاز الاحتكام إلى البصمة الوراثية إذا طلبت الزوجة المقذوفة ذلك ، مخالفا رأي جمهور الفقهاء كما ذكر ذلك ، ويعتبره القرضاوي حق للزوجة دون الزوج ، ولا يجاب لطلب الزوج في ذلك ، لأنه يفوت على المرأة ما يوفره لها اللعان من الستر عليها وعلى ولدها، وهذا الستر مقصود للشارع لما فيه من مصلحتها ومصلحة ولدها [151].
المثال الثاني : عن أبي هريرة :" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين "[152] ، وفي رواية لابن عمر " فإن غم عليكم فاقدروا له "[153]، وعنه أيضا عن النبي r أنه قال:" إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين" [154].
  إن دور المقاصد هنا الغوص في عمق الحديث ، ومراعاة البعد الزماني ، ثم فهمه فهما يليق بالشريعة الغراء ، وبالأمة الإسلامية في هذا القرن ، لربط الوسيلة بالنص والحكم ، لا أن تكون مقصدا وغاية .
  إن الوقوف على ظاهر الحديث ، والتمسك بالرؤية البصرية ، وأننا متعبدون بها ، احتمال قائم على التمسك بظواهر النصوص دون الوقوف على مقصد الشارع ومراده .
فلو سألنا ما هو الهدف من رؤية الهلال ، وهل هو وسيلة أم غاية ؟، لكان الجواب أن الرؤية وسيلة نهدف منها صيام شهر رمضان كاملا دون زيادة أو نقصان) فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ( { البقرة:185}، فإذا كان كذلك فما المانع من الأخذ بوسيلة تحقق مراد الشارع في عبادة كاملة ، يندر فيها الخطأ أو أشبه بالمعدوم.
   إن التمسك برأي بعض الفقهاء المتقدمين برفضهم الحساب الفلكي وتمسكهم بالرؤية ، دون ربطه بزمانهم ومعطياتهم العلمية ظلم لهم ، قال ابن حجر :" المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير ، فعلق الحكم بالصوم بالرؤية لرفع الحرج عنهم"[155].
والحق هنا مع ابن حجر في رفضه الحساب الفلكي لكونه أبعد عن العلم ، واعتبر تعليق الصوم بالرؤية رخصة لرفع الحرج عن الأمة ، علما أن ابن دقيق وقد سبق ابن حجر بقرون ، عاتب بعض علماء المالكية والشافعية ، أخذهم بالحساب على الإطلاق اعتمادا على المنجمين _ أي علماء الفلك _ .
  ومع ذلك فإن ابن دقيق العيد كان منسجما مع عصره في هذا الحكم ، واستدل بعلماء الفلك في عصره ، فإنهم يرون أنه لا يجوز أن يعتمد على الحساب في الصوم لمفارقة القمر للشمس ، من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين ، فهذه العلة التي منعت ابن دقيق العيد الاعتماد كليا على الحساب .
ولكن أوجب الأخذ به إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلا فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي ، وهو [156].
 إن هذه الرؤية لفهم الحديث مقاصديا ؛ هو ما نادى به كثير من علماء عصرنا ، مرجحين ما وصل إليه العلم من تقدم وتقنية ، وصل إلى حد القطع واليقين [157]، منادين بوحدة الأمة بشعائرها وعباداتها المتصلة بأخص أمور دينها من صيام وفطر ، علما أن التمسك برؤية الواحد والاثنين والخطأ والوهم جائز بحقهما بلا شك ، يزيد الأمة اختلافا شديدا وتفرقا [158].
  إن تفعيل التأويل المقاصدي المعلل ينسجم مع مبادئ الشريعة ، ويعطي إضافة لها ، ومحله في الأحكام والفروع دون الأصول ، ويكون مدارَ تجديد الفقه الإسلامي [159]، بخلاف التأويل التعارضي الذي كشف عن خلل في مقومات وشروط التأويل ، وقد يكون منشأ الخلل فرض التأويل على أدلة متعارضة لا يجمع بينها ، وإنما هي من باب راجح ومرجوح . 
الخاتمـة :

إن التأويل في فهم الحديث النبوي وظف في جهتين : الأولى في التوفيق بين الحديث ونصوص أخرى ، وكشفت هذه الجهة عن ظاهرة غير طبيعية في تعارض الأدلة ، حاول التأويل في الجمع بينها ، ولكنه كان  في الغالب تعسفيا ، ولازمه مذهب برد الحديث لعدم صحة الحديث .
إن في جميع الأمثلة التي ذكرناها لم يعرض التأويل على أنه المعنى الحقيقي لظاهر النص ، وإنما مجرد احتمال يتبعه احتمال آخر ، مع افتقاره لدليل قوي ، مما جعله تأويلا ضعيفا .
إن بعض التأويلات جاءت للعدول عن الحديث كاملا لا عن ظاهره ، قال الشاطبي:" من العلماء من تأول الأحاديث _ الصوم عن الميت _على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا " ، وكانت طريقة مهذبه في الحفاظ على قبول الحديث شكلا ، ورده ضمنا . 
إن التمسك بقواطع القرآن ومقاصد الشريعة أمام بعض الأحاديث المشكلة ، وجعله ضابطا في قبول الحديث ورده ، كما نص الشاطبي على ذلك [160]، أولى من نصب خبر ظني أمام نص أو دليل قطعي ، ثم اللجوء إلى الاحتمالات والتأويلات للجمع بينهما ، والأصل عدم الاختلاف في الشريعة ، وقد ظهر واضحا اتفاق جمهور الفقهاء في اعتراضهم على بعض الأخبار لمخالفتها الأصول ، وكان جوابهم إما أنه غير محفوظ أو تأويله تأويلا بعيدا لقناعته بصحته .
ولكن هذا لا يقلل من أهمية التأويل وضرورته في فهم الحديث عند عدم التعارض ، وهي الوجهة الثانية في توظيف التأويل ، فلا معنى للتمسك بحرفية النص إذا كان المراد منه حكما معللا ، وجاء ما يؤكد ذلك الحكم بوسيلة أو دليل غير ما نص عليه الحديث يصيب مراد الشارع .
إذا كانت أحكام الله معللة برعاية مصالح العباد ، فإن هذه القاعدة تدعونا إلى مراعاة البعد الزماني ومعطيات هذا العصر من علوم ومكتشفات ؛ لفهم حديث النبي r فهما مقاصديا يليق بهذه الشريعة الغراء التي تتألق كلما تطور العلم ، ويكون مدار تجديد الفقه الإسلامي .


--------------

[1] ينظر : القاموس المحيط ، : 866 .
[2] ينظر : لسان العرب : 11/32 .
[3] ينظر : ن م : 11/33 .
[4] المستصفى : 1/196 .
[5] النهاية في غريب الحديث والأثر ، لابن الأثير : 1/80
[6] فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، لابن رشد : 32  .
[7] الإحكام للآمدي : 3/53 .
[8] الإحكام : 3/53 .
[9] المستصفى : 1/494 .
[10] فرق الغزالي بين كلمة نص وظاهر النص ، فالنص هو ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد ، أما الظاهر هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع . ينظر : المستصفى : 1/492 .
[11] الصواعق المرسلة ، لابن القيم : 1/187 .
[12] المستصفى:1/493. نقل بتصرف . وقد ذكر الغزالي أن دليل التأويل البعيد قد يكون قرينة أو قياسا أو ظاهرا آخر أقوى منه
[13] ينظر : المستصفى : 1/494 .
[14] صحيح البخاري: كتاب البيوع ،باب بيع الدينار بالدينار نساء: 7/401، صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلا بمثل: 8/283
[15] صحيح البخاري : كتاب البيوع ، باب بيع التمر بالتمر : 7/389 ، صحيح مسلم : كتاب البيوع ، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا : 8/261 .
[16] المستصفى : 1/494 . قد يكون مصدر تأويل الغزالي ما نص عليه الطبري حسب ما نقله عنه ابن حجر قال :" وَقَالَ الطَّبَرِيّ : مَعْنَى حَدِيث أُسَامَة " لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ " إِذَا اِخْتَلَفَتْ أَنْوَاع الْبَيْعِ وَالْفَضْل فِيهِ يَدًا بِيَد رِبًا جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْن حَدِيث أَبِي سَعِيد" . فتح الباري : 7/6 .
[17] صحيح البخاري : كتاب البيوع  ، باب بيع الدينار بالدينار نساء : 7/401 .
[18] روى مسلم في كتاب البيوع ، باب بيع الطعام مثلا بمثل : 8/280 عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ أَيَدًا بِيَدٍ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَأَخْبَرْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَقُلْتُ إِنِّي سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ أَيَدًا بِيَدٍ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَلَا بَأْسَ بِهِ قَالَ أَوَ قَالَ ذَلِكَ إِنَّا سَنَكْتُبُ إِلَيْهِ فَلَا يُفْتِيكُمُوهُ . ومفهوم ذلك أن ابن عباس كان يفتي بجواز التفاضل. ينظر : فتح الباري: 7/6 .
[19] فتح الباري : 7/6 .
[20] إعلام الموقعين : 5/127 .
[21] ينظر : الإحكام للآمدي : 3/54 ، والموافقات للشاطبي : 3/64-65 ، والبحر المحيط للزركشي : 4/328 ، والمناهج الأصولية للدريني : 1/204-220.
[22] ينظر : خياط ، مختلف الحديث : 130.
[23] المستصفى : 1/498 . وذكر مثالا على ذلك تأويل أبي حنيفة حديث " في كل أربعين شاة شاة " بجواز دفع مقدار قيمة الشاة من أي مال كان ، وهو الواجب ، فالشاة بعينها ليست واجبة ،فقال : هذا باطل ؛ لأن اللفظ نص في وجوب شاة ، وهذا رفع وجوب الشاة فيكون رفعا للنص .  
[24] ينظر : إعلام الموقعين لابن القيم  : 1/454 .
[25] صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب مرجع النبي r من الأحزاب .. :4/1510 ، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير ، باب المبادرة بالغزو ... : 3/1391.
[26] ينظر : فتح الباري : 7/410 .
[27] فتح المغيث للعراقي :  329 .
[28] الموافقات : 3/106 .
[29]  تأسيس النظر ، للدبوسي : 169-171 .
[30] المنخول : 1/379 .
[31] البحر المحيط : 5/408. قال الغزالي:" إن كل ما لا تأويل له فهو مردود وما صح وتطرق إليه التأويل قبل ". المنخول : 1/381 .
[32] وقد نقله الترمسي عن ابن السمعاني وغيره ، ينظر : منهج ذوي النظر ، للترمسي : 103-104 .
[33] أصول السرخسي : 2/12 .
[34] ينظر : التعارض في الحديث ، الصغير: 74-109 .
[35] شرح نخبة الفكر : 76 .
[36] ن م : 73 .
[37] الإحكام للآمدي : 4/293 .
[38] ومن أفضل الكتب التي تظهر مسائل الاختلاف ، وتحرر محل النزاع فيما كان سببه تعارض الأدلة ، كتاب بداية المجتهد لابن رشد .
[39] توجيه النظر : 2/741 . وممن سلك هذا المسلك ابن فورك في كتابه مشكل الحديث ، حيث دافع عن بعض الأحاديث بطريقة تأويلية تعسفية ، بل ولم ينطلق في تأويله من قبول اللفظ للتأويل ، وإنما قناعة منه أن الحديث مقبول ، ولذلك يُعنّون= =لتلك الأحاديث ، " ذكر خبر يقتضي التأويل ويوهم ظاهره التشبيه " ، وقد ذكر مثالا تحت هذا الباب يدافع عنه :" أن الله خلق الملائكة من شعر ذراعيه ، وصدره أو من نورهما " ينظر : مشكل الحديث ، لابن فورك : 41-42 .
[40] صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب ]فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً[ :4/1885 .
[41] ينظر : الكفاية : 17 .
[42] قال ابن القيم :" ويشبه هذا ما وقع فيه الغلط من حديث أبي هريرة خلق الله التربة يوم السبت الحديث وهو في صحيح مسلم ولكن وقع الغلط في رفعه إنما هو من قول كعب الأحبار...... " . المنار المنيف :80 .  
[43]  صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب قول النبي r " يعذب الميت .." : 1 /431 .
[44] قال ابن حجر :" وأما تعبير المصنف بالنوح فمراده ما كان من البكاء بصياح وعويل " فتح الباري : 4/327 .
[45] ينظر نفس الترجمة حديث أسامة بن زيد ، وأنس بن مالك y : 1/431-432  .
[46] مسلم ، كتاب الجنائز ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه : 2/639-640 ، وحديث المغيرة : 2/643  .
[47] فتح الباري : 4/327 .
[48] إن جوابه يُحتمل لو كان دليل عائشة في رد الحديث فقط هذه الآية ، ولكن ساق الشافعي عدة آيات تعارض الحديث شكلت مقصدا كليا كقوله تعالى ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ( {المدثر: 38} ) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ({النجم:39} ) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى( {النجم: 43} ، ينظر : اختلاف الحديث للشافعي : 224-225 ، والموافقات للشاطبي : 3/10-11 .
[49] تأويل مختلف الحديث : 250 .
[50] جميع هذه الروايات ضمن نفس الأبواب السابقة في الصحيحين .
[51] فتح الباري : 4/327 .
[52] رواه البخاري ومسلم تحت الأبواب السابقة .
[53] صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب البكاء عند المريض : 1/439 . 
[54] اختلاف الحديث للشافعي  : 224-225 .
[55] تحفة الأحوذي : 4/72 ،
[56] شرح النخبة لابن حجر : 73 .
[57] صحيح البخاري، كتاب الطب ، باب الجذام ، باب الطيرة باب الفأل ، باب لا هامة ولا صفر ، باب لا هامة : 5/ 2158 ، و2171 ، و2177 437 . وصحيح مسلم ، كتاب السلام ، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح ، وباب الطيرة والفأل ما يكون فيه من الشؤم :4/ 1742- 1746 ،
[58] صحيح مسلم ، كتاب السلام ، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح : 4/1743 ، والبخاري ، كتاب الطب ، باب لا هامة: 5/2177 . 
[59] صحيح مسلم ، كتاب السلام ، باب اجتناب المجذوم ونحوه : 4/1752 .
[60] ينظر : الطب الوقائي والمهني ، أحمد أديب دشاش : 19 -44 -144 .
[61] ينظر : تأويل مختلف الحديث : 104-105 .
[62] ينظر : مقدمة ابن الصلاح : 285 ، وهو ما ذهب إليه عدد من العلماء ، ينظر : النووي ، شرح مسلم : 14/213-214  ، وابن حجر ، فتح الباري : 10/160 .
[63] ينظر : شرح النخبة : 73 -74.
[64] صحيح البخاري ، كتاب الطب ، باب لا هامة : 5/2177 .
[65] صحيح مسلم ، باب لا عدوى ولا طيرة .... : 4/1743 .
[66]رواه البخاري: كتاب العلم ، باب حفظ العلم:1/55، ومسلم كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي هريرة :4 /1939 .
[67] ينظر : النهاية في غريب الحديث: 3 /334. قال ابن الأثير: " الطِّيَرة : هي التَّشاؤُم بالشَّيء ".
[68] التمهيد : 9/284 .
[69] رواه مسلم ، كتاب السلام ، باب الطيرة والفأل ما يكون فيه من الشؤم : 4 / 1748 .
[70] فتح الباري : 8/484 ، وينظر شرح مسلم للنووي : 7/382 .
[71] رواه مسلم ، نفس الكتاب والباب : 4/ 1747  .
[72] فتح الباري : 6/61 .
[73] الطحاوي ، شرح معاني الآثار : 4/314  .
[74] وهناك تأويلات أخرى ذكرها ابن حجر ، ومنها ما يتعلق بتفسير شؤم المرأة والدار : ينظر فتح الباري : 6/61 .
[75] مصنف عبد الرزاق : 10/411 .
[76] الموطأ : 2/972 .
[77] فتح الباري : 8/484 .
[78]  تأويل مختلف الحديث : 105 ، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده : 6/246 .
[79] ينظر : مسند الطيالسي : 215 ، وقد حكم ابن حجر على هذه الرواية بالانقطاع ، ينظر : فتح الباري 6/61
[80] ينظر : فتح الباري :6/61 .
[81] المسند  : 16 /85 .
[82] ينظر : سنن الترمذي ، كتاب الأدب ، باب ما جاء في الشؤم : 10/31 ، وينظر : فتح الباري : 6/62 .
[83] التمهيد : 9/285 .
[84] انظر : الشوكاني ، إرشاد الفحول : 145 .
[85] صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر : 1/ 489 ، واللفظ له .  صحيح البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب تأخير الظهر إلى العصر : 1/201 ، ولفظه أن النبي r صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقال أيوب لعله في ليلة مطيرة قال عسى .
[86] ينظر : العلل الصغير للترمذي : 1/736 ، و شرح علل الترمذي لابن رجب : 1/4  ، و شرح مسلم : 5/218 .
[87] صحيح البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب ...: 1/195 ، صحيح مسلم ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب أوقات الصلوات الخمس : 1/426 .
[88] فتح الباري : 2/24 ، وينظر : بداية المجتهد : 1/125 .
[89] موطأ مالك ، كتاب قصر الصلاة في السفر ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر :1/144، برواية يحيى الليثي.
[90] بداية المجتهد : 1/126 .
[91] ينظر : شرح مسلم : 5 /218 .
[92] فتح الباري : 2/24 .
[93] شرح مسلم : 5 /218 .
[94] فتح الباري : 2/24 .
[95] نيل الأوطار : 3/268 .
[96] جامع الترمذي : كتاب الصلاة ، بَاب مَا جَاءَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ : 1 / 313.، وعلق الترمذي على الحديث بأن فيه حنش وهو ضعيف عند أهل الحديث .
[97] الموضوعات : 1/106 . 
[98] ينظر : الرسالة ، الشافعي: 399 .
[99] المنار المنيف : 59 .
[100] ن م : 110 .
[101] صحيح البخاري ، كتاب العلم ، باب السمر في العلم : 1/55، صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب قوله r لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم : 4/1965 .
[102] جميع هذه الروايات في صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب قوله r لا تأتي مائة سنة .. : 4/1965-1967 .
[103] فتح الباري : 2/393 .
[104] عمدة القاري : 5/97 .
[105] ينظر : شرح مسلم : 16/89 ، وفتح الباري : 2/393 .
[106] ينظر : الإصابة : 3/353 ، وأسد الغابة : 2/67 .
[107] اختلف في وفاته: فقيل سنة مائة بناء على تفسير رأس مائة سنة ، فابن الصلاح يرجح أنه توفي سنة مائة ويكون المراد هنا من رأس القرن وهو مائة للهجرة ، وذهب آخرون إلى أن الأصح توفي سنة مائة وعشرة ، ويكون المراد من الحديث هنا رأس مائة سنة من وفاة النبيr وهو مائة وعشرة ينظر :مقدمة ابن الصلاح:300 ،وأسد الغابة:2/68 ، وفتح الباري: 2/393 . 
[108] ينظر : تأويل مختلف الحديث : 99 -100.
[109] مشكل الآثار : 1/161 .
[110] صحيح ابن حبان: 7/257
[111] إن أقوى حجة جاءت للدفاع عن الحديث أنه جاء من أوجه أخرى تفسر ما أبهم منه ، وهي رواية ابن حبان ، وبناء على ذلك اعتبر معجزة ، وكل روايات الحديث قد سلمت من الاضطراب والعلل ، ولك أن تتأمل كيف تحول الاضطراب من علة إلى وجه توفيق يوصل إلى معجزة حصلت للنبي r . ينظر: السنة قبل التدوين ، عجاج الخطيب : 256-257 ، وينظر : السنة مع المستشرقين والمستغربين ، الندوي : 11. وينظر : التعارض في الحديث، الصغير : 81-83.  
[112]  مشكل الآثار : 1/163-164 .
[113] المنار المنيف : 110 .
[114] ينظر : مجمع الزوائد : 1/199 ، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي : 4/504 .
[115] ينظر فتح الباري : 18/353 ، من ذلك ما نقله ابن حجر عن الداودي أن هَذَا الْجَوَاب مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ لَا أَدْرِي اِبْتِدَاءً مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْجَفَاءِ وَقَبْل تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ لَارْتَابُوا فَعَدَلَ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَرِضُونَ هُمْ فِيهِ= =وَلَوْ كَانَ تَمَكَّنَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ لَأَفْصَحَ لَهُمْ بِالْمُرَادِ " . فهل تأويل الداودي يستقيم مع صريح كتاب الله تعالى ، علما أن حديث الباب ذكر في آخر حياة النبي r كما جاء في رواية البخاري ، وسياق الحديث يدل أن المخاطب ليس أعرابا وإنما أصحابه المقربون الذين يشهدون معه الصلوات وخصوصا كان زمن التحديث بعد صلاة العشاء .
[116] مقاصد الشريعة : 50  .
[117] ينظر : إعلام الموقعين لابن القيم  : 1/454 .
[118] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ، الثعالبي الفاسي : 1/386 .
[119] رواه البخاري ، كتاب الصيام ، باب من مات وعليه صوم : 2/690 ، ومسلم ، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت:2/803-804 ،وأما حديث بريدة في نفس الباب:2/805.
[120] ينظر : الموافقات 2/156 ، وحديث النيابة في الحج مشهور عن ابن عباس أيضا ، رواه البخاري في كتاب الحج ، باب وجوب الحج : 2/551 ، ومسلم ، كتاب الحج ، باب الحج عن العاجز..: 2/973.
[121] شرح مسلم : 8/26 ، وفتح الباري : 4/193 .
[122] فتح الباري :4/193 .
[123] شرح مسلم : 8/26 .
[124] فتح الباري : 6/212 .
[125] ينظر : شرح مسلم : 8/26 . ورفض النووي هذه العلة ، وقال : ليس في الحديث اضطراب ، وإنما فيه اختلاف جمعنا بينه كما سبق ، ويكفي في صحته احتجاج مسلم به في صحيحهِ" . وينظر : فتح الباري : 6/212 ، والموافقات : 2/531.
[126] التمهيد : 9 / 27 . 
[127] ينظر : فتح القدير : 4 / 394 .
[128] ينظر : فتح الباري : 6/212، ولم أجد في كتب المالكية من صرح بذلك .ينظر : التمهيد : 9/28-29 ،والمنتقى : 2/342.
[129] صحيح البخاري ، كتاب المزارعة ، باب ما كان أصحاب النبي r يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة : 2/824 ، ر2214 ، مسلم ، كتاب البيوع ، باب كراء الأرض : 3/1161.
[130] الموافقات : 1/340، و2/136 ، وينظر مقاصد التشريع ، ابن عاشور : 39 .
[131] صحيح مسلم ، كتاب البيوع ، باب الأرض تمنح : 3/1184 .
[132] صحيح البخاري ، كتاب المزارعة ، باب كراء الأرض بالذهب والفضة : 2 /826.
[133] ينظر : فتح الباري : 5/26 .
[134] صحيح البخاري ، كتاب المزارعة ، باب ما كان أصحاب النبي r يواسي بعضهم .... : 2/825  .
[135] مقاصد الشريعة : 22 .
[136] ينظر : شرح مسلم : 10/198 . وأما أهل الظاهر فقد تجاوزوا حديث ابن عمر وابن عباس  وتمسكوا بحديث رافع وأطلقوا النهي في كراء الأرض ، ينظر : المحلى ، ابن حزم : 8/190 
[137] صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب كراء الأرض: 8/137، وينظر: التمهيد: 3/33 ، وبداية المجتهد : 2/ 199 . وإن ما يؤكد أن في الحديث جدلا ، ما علق به ابن حجر على صنعة البخاري الحديثية ، فقد ذكر شاهدين آخرين لحديث رافع من طريق أبي هريرة و جابر، ليرد على من زعم أن حديث رافع فرد أو أنه مضطرب ، مشيرا لصحته. ينظر: فتح الباري : 5/24 .
[138] صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب للعاهر الحجر: 6/2499 ، صحيح مسلم ، كتاب الرضاع ، باب الولد للفراش:2/1080
[139] نيل الأوطار : 7/47 .
[140] ينظر : القبس لابن العربي : 3/916-919 ، وابن القيم ، زاد المعاد :5/425 ، وابن حجر : فتح الباري : 12/34 .
[141] فتح الباري : 12/34 .
[142] شرح مسلم : 10/39 .
[143] ينظر : حاشية ابن القيم على سنن أبي داود : 6/261 .
[144] ينظر : الشوكاني ، م س : 7/78 .
[145] ينظر : القبس ، لابن العربي : 3/917  .
[146] ينظر : الشوكاني ، نيل الأوطار : 7/77 .
[147] ينظر : النووي ، شرح مسلم : 10/39 .
[148] ينظر : البخاري ، كتاب المتلاعنين ، باب ] وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ [ :4/1772، ومسلم ، كتاب اللعان ،2 /1132 .
[149] ينظر : قضايا البيولوجيا ومقاصد الشريعة ، مصدق حسن : 160 -162.
[150] ذكره المصنف في المجموع : 17/400 .
[151] موقع الدكتور يوسف القرضاوي ، نافذة فتاوى وأحكام ، مقال : إثبات النسب بالبصمة الوراثية حق للمرأة لا للرجل .
[152] رواه البخاري واللفظ له وقد رواه أيضا عن ابن عمر ، كتاب الصوم ، باب قول النبي r "إذا رأيتم الهلال فصوموا .." : 2/674 ، ومسلم ، كتاب الصيام ، باب وجوب صوم رمضان.. :2/762 . 
[153] البخاري ، كتاب الصوم ، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان : 2/672 ، ومسلم ، نفس الباب : 2/759 .
[154] البخاري ، كتاب الصوم ، باب قول النبي r "لا نكتب ولا نحسب" : 2/675 ، ومسلم ، نفس الباب : 2/761  .
[155] فتح الباري : 4/127 .
[156] شرح عمدة الأحكام : 2/154 .
[157] ينظر : المدخل لدراسة السنة النبوية ، يوسف القرضاوي : 183 ، وينظر : ثبوت الشهر القمري بين الحديث النبوي والعلم الحديث ، شرف القضاة ، موقع ملتقى أهل الحديث ، منتدى الدراسات الحديثية ، وقد أسهب الدكتور في إثبات قطعية الحساب الفلكي من خلال القرآن والعلم الحديث  .
[158] ينظر : العقل والفقه في فهم الحديث النبوي ، مصطفى الزرقا : 71-97 .
[159] والأمثلة كثيرة في هذا المقام ، من ذلك حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مرفوعا :" لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ " رواه الشيخان ، إن الفهم المقاصدي يدل على أن العلة وراء هذا النهي هو الخوف على المرأة من سفرها وحدها بلا محرم،  وكان في زمن السفرُ فيه على الجمال والبغال ، وفي بيئة صحراوية موحشة خالية من العمران والأحياء ، فلا يخلو سفرها من شر في نفسها أو سمعتها ، فإذا تغير الحال _ كما في عصرنا _ وأصبح السفر في طائرة أو قطار مزدحم بالركاب ، لم يعد هناك خوف على المرأة إذا سافرت وحدها ، فلا حرج عليها شرعا ولا يعد هذا مخالفة للحديث ، وقد أجاز بعض الفقهاء سفر المرأة من غير محرم مع نسوة ثقات للحج ، وقد ثبت في الصحيح أن عائشة وطائفة من أمهات المؤمنين حججن من غير محارم . ينظر : المدخل لدراسة السنة النبوية : للقرضاوي : 163-164 نقل بتصرف .  
[160] الموافقات : 3/18-19 .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق