اللهم

اللهم اشفني شفاءا لا يغادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني رحمة واسعة مباركة طيبة واكفني همي كله وفرج كربي كله واكشف البأساء والضراء عني واعتقني من كل سوء في الدارين يا ربي

الأربعاء، 4 يوليو 2018

ج3 الصواعق المرسلة لابن القيم ص1.


الجزء الثالث  ص1.
الصواعق المرسلة لابن القيم
ص -1425- ولزمهم منه أن يكون هذا العالم قد وجد من غير خالق أو أنه لم يزل موجودا قديما أزليا ولما كان اللازم الأول أشنع وأظهر فسادا لكل عاقل التزموا الثاني.
وأما الباطل الذي لزمهم في جانب الصادر فهو أن يكون واحدا من كل وجه ولا يكون فيه كثرة بوجه ما ليس مصدره واحد كذلك فالصادر عنه أيضا يجب أن يكون كذلك وهلم جرا والحس يكذبه ولا ينفعهم الجواب بأن الصادر له وجوه واعتبارات لأجلها تعدد الصادر عنه فإن تلك الوجوه إن كانت وجودية لزم صدور الكثرة عن الوحدة وبطل أصلهم وإن كانت عدمية لم يكن مصدرا للموجود وهذا قاطع.
فصل
ولما أصلوا هم وأتباعهم من الجهمية أن المختص بصفة أو حقيقة أو قدر لا بد له من تخصيص منفصل لزمهم من هذا الأصل إنكار حقيقته وذاته وصفاته إذ لو أثبتوا له ذلك بزعمهم لزم أن يكون له مخصص غيره خصصه بتلك الماهية والصفات والقدر فلزم أيضا من هذا الأصل الباطل ما لزم من الأصل الذي قبله وهم طردوا هذا الأصل وجحدوا حقيقة الرب وصفاته وإخوانهم من الجهمية لما لم يمكنهم أن يصرحوا به بين أظهر المسلمين
(27/220)
ص -1426- صرحوا بالأصل وبما أمكنهم أن يصرحوا به من اللوازم كنفي الصفات ونفي العلو والمباينة والكلام والوجه واليدين والاستواء والنزول ولما أصلوا ذلك لزمهم القول بأنه في كل مكان بذاته وأنه تعالى في الأجواف والأمكنة التي يتعالى عنها فلما صاح عليهم أهل العلم والإيمان من كل قطر من أقطار الأرض قالوا نقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العرش ولا تحته فلما رأى عبادهم ومتصوفوهم أن الإرادة والعبادة والطلب لا تعلق بمعبود هذا شأنه وأن القلوب لا تعرفه والألسنة لا تعرفه فروا إلى أن قالوا فهو عين هذا العالم لا غيره وكل هذه اللوازم أسست على ذلك الأصل الفاسد.
ولما أصلوا أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بأجسام لزمهم إنكارها رأسا ومن أثبت منهم صفة ونفى غيرها أضحك أهل العقل والنقل على عقله ولما أصلوا هذا الأصل لزمهم عنه أن الله لم يتكلم ولا يكلم أحدا من خلقه ولم ينزل له إلى الأرض كلام تكلم به وإنما خلق أصواتا وحروفا في الريح سميت كلامه مجازا لا حقيقة فلما فهم سفهاؤهم هذا وأنه ليس لله في الأرض كلام وأنه ليس في المصحف إلا صفة المخلوقين ومدادهم وما عملت أيديهم صار فيهم من يكتب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(27/221)
ص -1427- بما يستحي من ذكره ومنهم من يلقي المصحف في المكان الذي يرغب عن ذكره ويقول إنما ألقيت كاغدا ومدادا ومنهم من يجعله كرسيا له يضعه تحت رجليه ويرقى عليه ويتناول به حاجته ومنهم من يكون له وعاء يضع فيه المصحف ونعله وغيره ومنهم من يتوسده إلى غير ذلك من الأنواع التي فيها من الاستخفاف بالمصحف والإهانة له ما يدل على براءة فاعله من الله ورسوله وكتابه ودينه.
وأما إطلاقهم العبارات القبيحة الدالة على الاستهانة فهم لا يتحاشون منها بل يصرحون بقولهم أي شيء في المصحف سوى المداد والورق ويقولون ليس في المصحف كلام الله ولم ينزل إلى الأرض لله كلام وهذا الذي يقرأه المسلمون ليس بكلام الله حقيقة وقد رأينا نحن وغيرنا هؤلاء مشاهدة وسمعنا بعض أقوالهم التي حكيناها وهذه الفروع واللوازم فروع ذلك الأصل الباطل.
كما أنهم لما أصلوا تعطيل الرب من صفة العلو وتعطيل العرش من استواء ربه عليه لزمهم التكذيب بما لا يحصى من الآيات والأحاديث وإن أقروا بألفاظها ولزمهم الطعن في خيار الأمة وساداتها وأئمة الإسلام وأهل
(27/222)
ص -1428- السنة الحديث ولزمهم إنكار نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة وإنكار مجيئه وإتيانه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده وإن أقروا بذلك أقروا به مجازا لا حقيقة ولزمهم من ذلك التكذيب بمعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه ودنوه منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى وتردده بين موسى وبين ربه مرارا كل ذلك لا حقيقة له عندهم كما صرح به أفضل متأخريهم وملك مناظريهم في كلامه على المعراج وجعله خيالا لا حقيقة له.
ولما أصلوا أنه سبحانه لا تقوم به الأفعال الاختيارية وسموا ذلك حلول الحوادث لزمهم عنه أنه لا يفعل شيئا البتة فإنه لا يتكلم بمشيئته وأن يكون بمنزلة الجمادات التي لا تفعل شيئا فإنهم جعلوا المفعول عين الفعل ومن المعلوم أن مفعولا بلا فعل أبلغ في الاستحالة والبطلان من مفعول بلا فاعل أو هما سواء فلزمهم من هذا الأصل مخالفة صريح المعقول والمنقول والفطرة والتكذيب بما لا يحصى من النصوص.
ولما أصلت القدرية أن الله سبحانه لو شاء أفعال عباده وقدر عليها وخلقها ثم كلفهم بها وعاقبهم عليها لكان ذلك ظلما ينافي العدل.
لزمهم عن هذا الأصل لوازم مخالفة للعقل والشرع منها التكذيب بقدر الله وتكذيب غلاتهم بعلمه السابق وإنكار كمال قدرته ونسبته إلى أن يكون في ملكه
(27/223)
ص -1429- ما لا يشاء ويشاء مالا يكون وإخراج أشرف ما في ملكه عن أن يكون قادرا عليه أو خالقا له وهو طاعات أنبيائه ورسله وملائكته وأوليائه وأن تكون أفعالهم حدثت من غير خالق محدث أو يكونوا هم الخالقين المحدثين لها وأن تكون إرادتهم مشيآت حادثة بلا محدث ولزمهم تكذيبهم بنصوص القدر كله والطعن في نقلة أخبارها وتحريفها عن مواضعها بالتأويلات التي هي كذب على اللغة وعلى الله وعلى رسوله إلى أضعاف ذلك من اللوازم الباطلة ولزم هؤلاء كلهم أن الكتاب والسنة جاءا بما يخالف العقل الصريح وأنه إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل وأطرح النقل فهذه الأصول الرديئة الخبيثة تولدت عنها هذه الأولاد المناسبة لها ومن أشبه أباه فما ظلم فإذا قابلت بين أصول أهل الإثبات وما تولد عنها وبين أصول المعطلة النفاة وما تولد عنها تبين لك الفرق بين هذه الأصول وفروعها وهذه الأصول وفروعها والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الوجه السابع والتسعون بعد المائة: إن من تأمل أقوال هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم وآرائهم وجدها قد جمعت أمرين كل منهما يدل على بطلانها.
أحدهما اختلافها في نفسها واضطرابها وتهافتها وهذا يدل على أنها ليست من عند الله كما قال تعالى
(27/224)
ص -1430- {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء82] فيكفيك من فساد القول اختلافه واضطرابه وتناقضه.
الثاني أن مصدرها الخرص والظن والتخمين ليست صادرة عن وحي علمت عصمته ولا عن فطرة وعقل اشترك العقلاء فيما أثبته ونفاه.
وقد أخبر سبحانه عن حقيقة أقوال المخالفين لكتابه وسنة رسوله بهذين الأمرين في قوله {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات11-1] فأقسم سبحانه بمخلوقاته طبقا بعد طبق فأقسم أولا بالرياح الذاريات ثم بما فوقها وهي السحاب الحاملات وقرا ثم بما فوقها وهي النجوم الجاريات يسرا ثم بما فوقها وهي الملائكة المقسمات أمرا ثم أقسم بالسماء ذات الحبك وهي الطرائق التي هي كطرائق الماء حين تحركه الرياح ومنه في وصف الدجال شعره حبك
(27/225)
ص -1431- أي فيه تجعد وتثن ومنه قوله في السماء موج مكفوف وهذا يتضمن حسنها وبهجتها وكمال خلقها.
فأقسم بذلك على أن الرادين لما بعث به رسوله المعارضين له بعقولهم في قول مختلف ولهذا نجدهم دائما في قول مختلف لا يثبت لهم قدم على شيء يعولون عليه فتأمل أي مسألة أردت من مسائلهم ودلائلهم تجدهم مختلفين فيها غاية الاختلاف يقول هذا قولا وينقضه الآخر فيجيء الثالث فيقول قولا غير ذينك القولين وينقضهما ويبطل أدلتهما ولا تجد لهم مسألة واحدة إلا وقد اضطربوا فيها حكما ودليلا فهم أعظم الناس اختلافا حتى تجد الواحد منهم يقول القول ويدعي أنه قطعي ثم يقول خلافه ويبطله ويدعي أنه قطعي ثم أخبر سبحانه أن ذلك القول المختلف يؤفك عنه من أفك أي يصرف بشبه عن الحق من صرف فلما كان انصرافه عن الحق بشبه صار كأنه منفصل عنه وإفكه صادر عنه ثم قال تعالى {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات10] وأصل الخرص القول بلا علم بل بالظن والتخمين والقذف بالكلام من غير برهان على صحته ومنه سمي الكاذب خارصا وصاحب الظن والتخمين خارصا وهذا الوصف منطبق على هؤلاء أتم انطباق فليس معهم
(27/226)
ص -1432- إلا الخرص واتباع الظن كما قال تعالى في وصف سلفهم المعارضين لشرعه بالقدر {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام116] وهذا بخلاف متبع الوحي فإنه يتبع قولا يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض لا اختلاف فيه ولا اضطراب متصلا برب العالمين قوله ووحيه الذي نزله على رسوله قمصدره منه سبحانه ومظهره على لسان رسوله فعليه سبحانه البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم وقد فعل سبحانه ما عليه وفعل رسوله ما عليه فماذا نشأ بعد ذلك إلا أن نأتي بما علينا وبالله التوفيق.
الوجه الثامن والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء النفاة المعطلة لا بد لهم من أصل يقررون به قولهم الذي ابتدعوه وأصل ينفون به ما أخبرت به الرسل وهذا حال كل من وضع رأيا أو نصب مذهبا لا بد له من أصل يقرر به رأيه وأصل يبطل به قول مخالفه.
وعلى هذين الأصلين بنوا مذاهبهم الفاسدة فكلامهم كله يدور على هاتين القاعدتين فإذا تكلموا في توحيدهم الذي هو غاية الإلحاد والتعطيل والتشبيه بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم كما قال حافظ الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب خلق الأفعال
(27/227)
ص -1433- وهو من أجل كتبه الصغار وهذا لفظه وقال بعض أهل العلم إن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يخلق وقالت الجهمية كذلك لا يتكلم لا يبصر نفسه والمقصود أن توحيدهم غاية التعطيل والتشبيه فإذا تكلموا فيه قرروه بالأصل الأول فإذا جاءوا إلى الكتاب والسنة قرروا نفي دلالتهما بوجوه أحدها: أن النصوص أدلة لفظية لا تفيد علما ولا يقينا.
والثاني: أن الأخبار أخبار آحاد لا تفيد العلم وهذه المسائل علمية.
الثالث: أن العقل إذا عارض النقل وجب تقديم العقل عليه.
الرابع: استعمال التأويلات وأنواع الاستعارات والمجازات في نصوص الصفات وقد أوصاهم سلفهم بكلمتين يتداولونها عنهم آخر عن أول قالوا إذا احتج عليكم أهل الحديث بالقرآن فغالطوهم بالتأويل وإذا احتجوا بالأخبار فقابلوها بالتكذيب.
وإذا مهدوا هذين الأصلين انبنى لهم عليهما أصلان آخران أدهى منهما وأمر التكذيب بالحق الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وإساءة الظن به وتسليط التحريف عليه والتصديق بالباطل الذي يسمونه قواطع
(27/228)
ص -1434- عقلية وصدقوا وكذبوا فهي قواطع ولكن عن الإيمان بالله ورسوله وأسماء الرب وصفاته وهي خيالات جهلية شبهت عليهم فظنوها قواطع عقلية.
وترتب لهم على هذين الأصلين أصلان آخران تلقيب الحق المنزل وأصحابه بالألقاب الشنيعة المنفرة كتلقيبه بالتجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب.
وتلقيب الآخذين به بالمشبهة والمجسمة والحشوية وتلقيب الكفر والضلال والإلحاد بالألقاب المستحسنة كالتوحيد والتنزيه والعدل وتلقيب أصحابه بالموحدين أهل العدل والتوحيد والتنزيه.
فرتب لهم على ذلك أصلان آخران الإعراض عن القرآن والسنة جملة ومعارضتهما بآراء الرجال وعقولهم الفاسدة المتهافتة المتناقضة.
ثم ترتب لهم على ذلك أصلان آخران معاداة أهل الحق وموالاة أهل الباطل وبقي أمران آخران إنما يظهران إذا بعث ما في القبور وحصل ما في الصدور هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون.
الوجه التاسع والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء المعطلة النفاة من الجهمية ومن اتبعهم لا يمكن على أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها محبة الله ولا مدحه ولا حمده وتمجيده والثناء عليه
(27/229)
ص -1435- ولا الرضى به ولا الابتهاج بقربه ولا الفرح به ولا اللذة العظمى برؤية وجهه ولا لذة الآذان والأرواح بسماع كلامه بل ولا الشوق إليه ولا الأمان ولا الطمأنينة به وإليه ولا الأمن من عذابه لهم بغير جرم أصلا ومن إبطاله أعمالهم الصالحة بغير سبب بل أعظم من ذلك أنهم سدوا على أنفسهم طريق العلم بإثباته وإثبات ربوبيته إلا بما ينافي صفاته وأفعاله فليس لهم طريق إلى إثبات ذاته إلا بما يستلزم نفي ذاته وصفاته وأفعاله وسدوا علىأنفسهم طريق العلم بصدق رسله بتجويزهم عليه كل شيء حتى إنه يجوز عليه تأييد الكاذب المفتري عليه بأعظم المعجزات وليس في العقل ما يحيل ذلك عندهم وسدوا على أنفسهم طريق العلم بالمعاد لأنهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد ولا حقيقة له وهذه جملة إنما يظهر تفصيلها عند الكلام على مسائلهم ودلائلهم.
أما محبة الرب سبحانه فإنهم صرحوا بأنه لا يحب ولا يحب واستدلوا على ذلك بما هو مناقض للفطرة والعقل والشرائع كما سنذكره إن شاء الله وأصل الدين هو كونه سبحانه يحب ولا يحب فإن الشرائع مبناها على شهادة أن لا إله إلا الله والإله هو المستحق لكمال الحب بكمال التعظيم والإجلال والذل له والخضوع له فإنكار المحبة
(27/230)
ص -1436- إنكار لنفس الإلهية وأما فروعها فمبناها على كونه سبحانه يحب أقوالا وأعمالا ويمدح فاعليها ويثني عليهم ويقربهم منه ويبغض أقوالا وأعمالا ويذم فاعليها ويبغضهم ويبعدهم منه وعنده أنه لا يحب ولا يبغض بل كل ما شاءه فهو محبوب له ومالم يشأه فهو مبغوض فإن محبته عندهم هي إرادته ولهذا قالوا لا يحبه أحد لأن المحبة نوع من الإرادة والقديم لا يمكن أن يراد وأما أنه لا يمدح ولا يحمد فلما قرروا أن المدح هو مجرد الإخبار عن استحقاق الممدوح ما يلتذ به ويفرح به واللذة والألم عليه محال كما سنذكر ألفاظهم بعد هذا الوجه والكلام عليها.
وأما الرضا به والابتهاج والسرور بقربه فذلك من توابع المحبة وعندهم أنه لا يمكن تعلق المحبة به بوجه وأما اللذة برؤية وجهه وسماع كلامه فليس له عندهم وجه ولا يرى بحال ولا يكلم ولا يمكن أن يتكلم وأما الإنابة إليه فأصل الإنابة محبة القلب وخضوعه وذله للمحبوب المراد فمن لا يحب لا يمكن الإنابة إليه وكذلك الفرح والسرور بقربه عندهم أنه أمر محال. وأما الطمأنينة به والأمن من عذابه بغير جرم فلا طريق لهم إلى ذلك لأنهم يجوزون عليه أن يعذب أعظم أهل طاعته وينعم أكفر الخلق به وكلاهما بالنسبة إليه سواء عندهم وإنما يعلم ضد ذلك بخبر صادق والأدلة اللفظية عندهم لا تفيد اليقين وكثير منهم يشك في العموم أو ينكره والقدرة صالحة ولا حسن ولا قبح هناك البتة.
(27/231)
ص -1437- وأما طريق العلم بإثباته فإنهم إنما أثبتوه بطريق الجواهر والأعراض والحركة والسكون وأن ما قامت به الأعراض والحوادث يجب أن يكون حادثا فلزمهم نفي جميع صفاته وأفعاله إذ لو أثبتوها بزعمهم لأفسد عليهم طريق إثباته والعلم به ولزمهم إنكار علوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه وأن يكون له كلام يسمع منه فضلا أن ينزل إلى الأرض ومن استهجن منهم هذا ارتكب التناقض وأثبت بعضها ونفى بعضا ولم يوف ما أثبته حقه بل نفى حقيقته وأثبت لفظه أو أثبته من وجه ونفاه من غيره أو أثبت منه مالا يعقل فهم سلكوا في طريق إثبات وجوده أعظم الطرق المنافية لوجوده فضلا عن ثبوت صفات كماله وأفعاله.
وأما طريق العلم بالنبوة فإنهم أصلوا أنه سبحانه يجوز عليه كل ممكن وأنه يجوز عليه تأييد الكذابين بأنواع المعجزات وأنه لا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين ذلك وبين تأييد الصادقين بها فإن العقل لا يقبل ذلك ولا يحسن هذا وليس إلا مجرد القدرة والمشيئة فلما أورد عليهم العقلاء أن هذا يسد طريق العلم بالنبوة عدلوا إلى نوع من المعارضة لخصومهم من المعتزلة وقالوا هذا يلزمنا ويلزمكم فإن وجوب النظر في المعجزة عندكم وإن وجب بالعقل لكن وجوبه نظري فالمكلف يقول لا أنظر حتى يجب علي ولا يجب علي حتى أنظر فسددتم على أنفسكم
(27/232)
ص -1438- طريق إثبات النبوة فانظر كيف آل أمر الفريقين إلى الاعتراف بأن العلم بإثبات النبوة طريقه مسدودة عليهم وماذا يفيدكم مشاركة خصومكم لكم في هذا الضلال المبين والكفر المستبين فأبعد الله أصولا وقواعد هذا حاصلها ورأس مال أصحابها أفلا يستحي من هذا حاصل معقوله وعلمه ومنتهى معرفته أن يذكر أنصار الله ورسوله وحزبه بما لا يليق أو ينسبهم إلى ما هو أولى به منهم من الجهل ومخالفة المعقول والمنقول وهذا موضع المثل الساير رمتني بدائها وانسلت وقد تقدم ما ذكره إمام أهل السنة محمد بن إسماعيل البخاري عن بعض أهل العلم أن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا الله سبحانه بالأصنام والموات ومما يوضح الأمر
الوجه الموفي مائتين وجها: وهو أن هؤلاء كما وضعوا قانونا أصلوه لنفي كلامه وسمعه وبصره ومباينته لخلقه واستوائه على عرشه ومجيئه لفصل القضاء بين عباده ورؤية أنبيائه وأوليائه له في دار الكرامة بأن ذلك يستلزم التجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب وحلول الحوادث وضعوا قانونا آخر يتضمن نفي ما وصف به نفسه من الرأفة والرحمة والمحبة والمودة والحنان والغضب والرضى والفرح والضحك والتعجب قالوا
(27/233)
ص -1439- لأن هذه الأمور مضتمنة للألم واللذة والله سبحانه منزه عن ذلك قالوا ولأنها تستلزم الشهوة والنفرة وهو سبحانه منزه عنهما.
فانظر كيف توصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من هذه الأمور بهذه الألفاظ المجملة المتشابهة المتضمنة للحق والباطل فهي ذات وجهين حق وباطل فتقبل من الوجه الحق وترد من الوجه الباطل فلفظ الشهوة واللذة والألم والنفرة من الألفاظ التي فيها إجمال وإبهام فكثير من الناس إنما يطلقها بإزاء شهوة الحيوان من الأكل والشرب والنكاح والله تعالى قد جعل الباعث على إتيان الذكور الشهوة المجردة لا الحاجة إلى ذلك فإن الله لم يحرم على عباده ما يحتاج العباد إليه ويطلق الشهوة بإزاء ما هو أعم من ذلك كشهوة الجاه والمال والعز والنصر والعلم قال الإمام أحمد محمد بن إسحاق صاحب حديث يشتهى حديثه وقد قال تعالى في الجنة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف71] وهذا يعم كل ما تشتهيه الأنفس من مأكول ومشروب ومسموع ومرئي وغيره.
وتطلق الشهوة على الإرادة نفسها فيقال لمن له إرادة
(27/234)
ص -1440- في الشيء ومحبة له هو يشتهيه كما يقال فلان يشتهي لقاء فلان ويشتهي قربه ويشتهي الحج بل يقال لمن يريد ما تكره نفسه لمصلحة أنه يشتهيه كما يقال فلان يشتهي الشهادة في سبيل الله ويشتهي شرب الدواء.
فنقول أتعنون بالشهدة التي نفيتموها عن الله الشهوة الحيوانية أم الشهوة التي هي أعم أم الإرادة والمحبة فإن أردتم الأول فنفيه حق ودعواكم لزومه من ما أثبته لنفسه من الفرح والرضى والضحك ونحوها باطلة تتضمن الكذب والتلبيس.
وإن أردتم الثالث فنفيه باطل وتوسلكم إلى نفيه بتسميته شهوة تلبيس وتدليس ونفي للمعنى الحق الثابت بتسميته بالاسم المستهجن في حق من وصف به.
وإن أردتم الثاني استفصلناكم عن مرادكم فإن فسرتموه بما يمتنع وصفه به قبلناه وإن فسرتموه بما وصف به نفسه قابلناه بالإنكار والرد وإن فسرتموه بأمر مجمل محتمل استفصلناه فقبلنا حقه ورددنا باطله.
وهؤلاء النفاة تجدهم دائما يعتمدون هذه الطريقة المتضمنة للتلبيس والتدليس وينفون بها حقائق ما أخبر الله به عن نفسه فيأتون إلى ألفاظ معناها في اللغة الغربية أخص من معناها في اصطلاحهم فينفون معناها العام الذي اصطلحوا عليه ويوهمون الناس أنهم إنما نفوا معناها
(27/235)
ص -1441- المعروف في اللغة والناس أول ما يسمعون تلك الألفاظ إنما يفهمون منها معناها اللغوي فيوافقونهم على النفي تعظيما لله وتنزيها له ومرادهم نفي المعنى العام الذي اصطلحوا عليه وقد جمعوا في ذلك تحريف لغة العرب عن مواضعها وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه ولبس الحق بالباطل في النفي والإثبات.
فمعرفة مراد هؤلاء وكلامهم من تمام مقاصد الدين ليتمكن أهل السنة والحديث من رد باطلهم وتبيين إفكهم وقد أمر النبي زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود فكان يكتب له كتبهم ويقرأ له كتبهم وسأل رجل عبدالله بن عمر عن
(27/236)
ص -1442- الأنبذة وقال أخبرني عنها بلغتكم وفسرها لي بلغتنا فإن لكم لغة ولنا لغة فذكرها ابن عمر باللفظ الذي قاله النبي ثم فسرها بلغة السائل.
فنقول أنتم في هذا المقام إنما نظركم في المعاني العقلية لا في إطلاق الألفاظ فإن أهل السنة والحديث أعلم بذلك منكم وأولى بمراعاة الألفاظ الشرعية وهم أبعد عن أن يصفوا الله إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله منكم فما مقصودكم من نفي الشهوة والنفرة واللذة والألم عنه إن عنيتم به ما هو من خصائص المخلوقين فلا ريب في انتفائه عنه سبحانه لأن كماله المقدس ينفيه فإثباته نقص وعيب وأنتم قد اعترفتم أنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن العيوب والنقائص وإنما استندتم فيه إلى الإجماع واعترفتم بأن دلالته ظنية وهذا موجود في إرشادكم
(27/237)
ص -1443- ونهايتكم وغيرها ونحن نقرر نفي ذلك بالأدلة القطعية والبراهين اليقينية فإنه سبحانه لا يجوز أن يماثل خلقه في شيء من صفاتهم وأفعالهم فهو منزه عن أن يطلب ما يقبح طلبه أو يريد ما لا يحسن إرادته أو يطلب ويكره ويحب ما لا يصلح طلبه وكراهته ومحبته إلا للمخلوق وكل ما ينزه سبحانه عنه من العيوب والنقائص فهو داخل فيما نزه نفسه عنه وفيما يسبح به ويقدس ويحمد ويمجد وداخل في معاني أسمائه الحسنى وبذلك كانت حسنى أي أحسن من غيرها فهي أفعل تفضيل معرفة باللام أي لا أحسن منها بوجه من الوجوه بل لها الحسن الكامل التام المطلق وأسماؤه الحسنى وآياته البينات متضمنة لذلك ناطقة به صريحة فيه وإن ألحد فيها الملحدون وزاغ عنها الزائغون.
وقد بينا فيما تقدم أن كل ما ينزه الرب عنه إن لم يكن متضمنا لإثبات كماله ومستلزما لأمر ثبوتي يوصف به لم يكن في تنزيهه عنه مدح ولا حمد ولا تمجيد ولا تسبيح إذ العدم المحض كاسمه لا حمد فيه ولا مدح وإنما يمدح سبحانه بنفي أمور تستلزم أمورا هي حق ثابت موجود يستحق الحمد عليها وذلك الحق الموجود ينافي ذلك الباطل المنفي فيستدل برفع أحدهما على ثبوت الآخر فتارة يستدل بثبوت تلك المحامد والكمالات على نفي النقائص
(27/238)
ص -1444- التي تنافيها وتارة يستدل بنفي تلك النقائص على ثبوت الكمالات التي تنافيها فهو سبحانه القدوس السلام كما قال {تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة255] لكمال حياته وقيوميته و {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ3] لكمال علمه {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق38] لكمال قدرته {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف49] لكمال عدله وغناه ورحمته و {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه52] لكمال علمه وحفظه {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة255] لكمال قدرته وقوته {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام14] و {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص3] لكمال صمديته {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص4] لتفرده بالكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ} [الإسراء111] لكمال عزته وسلطانه {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس15]
(27/239)
ص -1445- فنفى عن نفسه خوف عاقبة ما فعله من إهلاك أعدائه بخلاف المخلوق فإنه إذا انتقم من عدوه يخاف عاقبة ذلك إما من الله وإما من المنتصرين لعدوه وذلك على الله محال والخوف يتضمن نقصان العلم والقدرة والإرادة فإن العالم بأن الشيء لا يكون لا يخافه والعالم بأنه يكون ولا بد قد يئس من النجاة منه فلا يخاف وإن خاف فخوفه دون خوف الراجي وأما نقص القدرة فلأن الخائف من الشيء هو الذي لا يمكنه دفعه عن نفسه فإذا تيقن أنه قادر على دفعه لم يخفه.
وأما نقص الإرادة فلأن الخائف يحصل له الخوف بدون مشيئته واختياره وذلك محال في حق من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير ومن لا يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهذا لا ينافي كراهته سبحانه وبغضه وغضبه فإن هذه الصفات لا تستلزم نقصا لا في علمه ولا في قدرته ولا في إرادته بل هي كمال لأن سببها العلم بقبح المكروه المبغوض المغضوب عليه وكلما كان العلم بحاله أهم كانت كراهته وبغضه أقوى ولهذا يشتد غضبه سبحانه على من قتل نبيه أو قتله نبيه.
فصل
وإن قال أعني بذلك ما هو أعم من شهوة الحيوان وألمه ولذته ونفرته قيل له الشهوة والنفرة جنسهما الحب
(27/240)
ص -1446- والبغض فكل مشته لشيء فهو محب له وكل نافر عن شيء فهو مبغض له وإن كان في المحبة والبغض ما لا يسمى في لغة القوم شهوة ونفرة كمحبتنا لله ورسوله وإذا كان كذلك فمعلوم أن الله سبحانه قد وصف نفسه بالمحبة والبغض في غير موضع من كتابه وسنة رسوله وهو موصوف بالإرادة والكراهة المتضمنة للحب والبغض والشهوة والنفرة أيضا تتضمن معنى الإرادة والكراهة فإن المشتهي فيه نوع إرادة والنافر فيه نوع كراهة والإرادة والكراهة من لوازم الحياة فكل حي مريد كاره والشهة والنفرة من لوازم الحيوان فإنه يشتهي ما يتضمن بقاء ذاته ويلائمه وينفر من ضد ذلك.
وهذه الأسماء قد تتنوع إما بحسب صفاتها في أنفسها وإما بحسب متعلقها وهو المحبوب المكروه لما في لغة العرب من التفريق بين اللفظين لأدنى فرق بين المعنيين لقوة التمييز في عقولهم وألسنتهم بخلاف الأمم الذين يضعف فيهم التمييز فإنهم يغلب عليهم الاقتصار على القدر المشترك في العقل واللسان وثبوت تلك الفروق اللفظية في المعاني والألفاظ لا يمنع ثبوت القدر المشترك بينها والذي تدركه سائر الأمم فيجب إثبات القدر المشترك والقدر المميز.
وإذا كان بين الشهوة والمحبة والإرادة والرضى والفرح قدر مشترك وبين النفرة والبغض والكراهة والسخط
(27/241)
ص -1447- ونحوها قدر مشترك فمن نفى مسمى أحد هذه الألفاظ فإن عنى به نفي جميع مسماه لزم نفي القدر المشترك الثابت في البواقي وإن نفى ما يختص به مما هو من خصائص المخلوقين فقد أصاب والله سبحانه منزه في جميع ذلك إن أثبت له وإن نفي عنه شيء من ذلك مما هو مختص به لأجل ما يظنه مستلزما لنقص فذلك لازم له في جميع ما يوصف به فإنه سبحانه إنما يوصف من كل نوع بأكمل ذلك النوع على وجه لا يستلزم نقصا ولا تمثيلا.
فصل
يبين ذلك أن الحب والبغض من لوازم الحياة فلا يكون حي إلا محب مبغض كما لا يكون حي إلا وله علم وإرادة وفعل بل حب الله سبحانه لما يحبه وبغضه لما يبغضه وإرادته لما يريده وكراهته لما يكرهه أكمل الحب والبغض والإرادة والكراهة كما قال تعالى {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر10] وقال تعالى {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء84] وهذا تابع لشدة غضبه ومقته وقال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت15] وكذلك هو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين فهو أكبر في كل صفة من صفاته كما هو أكبر في جميع صفاته وذاته وأفعاله.
(27/242)
ص -1448- فصل
وقد ذكر أفضل متأخريهم أدلتهم على امتناع هذه الأمور على الله وأبطلها كلها فكفانا مؤنتها ثم اختار لنفسه مسلكا هو أبطل منها فقال والمعتمد أن نقول لو صحت اللذة على الله تعالى لكان خلقه للملتذ به إما أن يكون في الأزل أو لا يكون والقسمان باطلان فالقول بصحة اللذة على الله محال وإنما قلنا إنه لا يصح خلقه للملتذ به في الأزل لأن الفعل الأزلي محال وإنما قلنا يستحيل أن يكون حادثا لأنه إذا كان حادثا كان ممكنا قبل كونه وإلا كان ممتنعا ثم انقلب إلى الإمكان وهو محال وإذا كان ممكنا فالله قادر على إيجاده قبل ذلك وإلا كان منتقلا من القدرة إلى العجز وهو محال وإذا ثبت ذلك.
فنقول كل من صحت عليه اللذة إذا كان عالما بقدرته على تحصيل الملتذ به وكان الملتذ به في نفسه ممكنا فإنه يكون كالملجأ إلى إيجاد الملتذ به وإذا كان كذلك لزم كونه تعالى فاعلا للملتذ به قبل فعله وذلك محال فثبت أن القول بصحة اللذة على الله محال لأنه يفضي إلى المحال وما أفضى إلى المحال محال ومضمون هذه الحجة بعد تطويل مقدماتها أن جواز ذلك عليه مستلزم لكون الملتذ به حادثا وكونه متقدما على حدوثه وكون الشيء
(27/243)
ص -1449- متقدما على وجوده محال وفسادها بين من وجوه
أحدها( الوجه الواحد والمائتان) النقض والمعارضة بالإرادة والمحبة والرحمة والرضى بأن يقال لو صحت على الله الإرادة والمحبة والرضى لكان فعله للمراد المحبوب المرضي إما في الأزل وهو محال وإما في مالم يزل وهو محال لما ذكره بعينه من مقدمات دليله.
الوجه الثاني والمائتان: أن لفظ اللذة والألم من الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه كلفظ الجسم والحيز والتركيب وغيرها وليس لها ذكر في الكتاب والسنة بنفي ولا إثبات بل جاء في القرآن والسنة وصفه بالمحبة والرضى والفرح والضحك ووصفه بأنه يصبر على ما يؤذيه وإن كان العباد لا يبلغون نفعه فينفعونه ولا ضره فيضرونه والذي نفاه هؤلاء يدرجون تحته ما وصف به نفسه وهو إبطال لما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ولما خلق الخلق لأجله فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليدعو الخلق إلى ما يحبه ويرضاه وينهوهم عما يبغضه ويسخطه وقد أخبر رسوله عنه من محبته ورضاه وفرحه وضحكه وتسليته لأوليائه وأحبائه وأهل طاعته وعن غضبه وسخطه وبغضه ومقته وكراهته لأعدائه
(27/244)
ص -1450- وأهل مخالفته مما يضيق هذا المكان عن استقصائه وعلى هذا الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح وقد ذكرناها مستوفاة في كتاب المفتاح وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلا وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" وقال: "لا احد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم" وقال حاكيا عن ربه: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك" وقد فرق الله بين أذاه وأذى رسوله وأذى المؤمنين والمؤمنات فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
(27/245)
ص -1451- بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب58 , 57] وليس أذاه سبحانه من جنس الأذى الحاصل للمخلوقين كما أن سخطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين.
الوجه الثالث والمائتان: إن ما وصف الله سبحانه به نفسه من المحبة والرضى والفرح والغضب والبغض والسخط من أعظم صفات الكمال إذ في العقول أنا إذا فرضنا ذاتين إحداهما لا تحب شيئا ولا تبغضه ولا ترضاه ولا تفرح به ولا تبغض شيئا ولا تغضب منه ولا تكرهه ولا تمقته.
والذات الأخرى تحب كل جميل من الأقوال والأفعال والأخلاق والشيم وتفرح به وترضى به وتبغض كل قبيح يسمى وتكرهه وتمقته وتمقت أهله وتصبر على الأذى ولا تجزع منه ولا تتضرر به كانت هذه الذات أكمل من تلك الموصوفة بصفات العدم والموات والجهل الفاقدة للحس فإن هذه الصفات لا تسلب إلا عن الموات أو عمن فقد حسه أو بلغ في النهاية والضعف والعجز والجهل إلى الغاية التي لم تدع له حبا ولا بغضا ولا غضبا ولا رضى بل اليهود الذين وصفوه بالغم والحزن والبكاء والندم أحسن حالا من الذين سلبوه هذا الكمال كما أن المشبهة المحضة
(27/246)
ص -1452- خير من المعطلة النفاة لصفات كماله وحقائق أسمائه الحسنى وأهل الحق أنصار الله ورسوله وكتبه والسنة براء من الفريقين.
الوجه الرابع والمائتان: أنه لا كمال في مجرد سلب ذلك عنه كما قدمنا أن السلب إن لم يتضمن إثباتا وإلا لم يكن مدحا ولا كمالا فليس له من مجرد كونه لا يحب ولا يرضى ولا يفرح ولا يضحك ولا يغضب حمد ولا كمال فإنه نفي صرف وعدم محض فلا يحمد به وهذا بخلاف نفي الغم والهم والحزن والندم عنه فإنه يتضمن ثبوتا وهو كمال قدرته وعلمه فإن أسباب هذه الأمور إما عجز مناف للقدرة وإما جهل مناف للعلم وكمال قدرته وعلمه يناقض وصفه بذلك وهذا وغيره مما يبين أن النفاة والمعطلة أقل الناس تحميدا وتمجيدا وتسبيحا وثناء على الله وأن أهل الإثبات أعظم تسبيحا وتحميدا وثناء على الله كما سنقرره فيما بعد إن شاء الله.
الوجه الخامس والمائتان: أن يقال ما المانع من أن يكون رضاه ومحبته وفرحه من كماله في نفسه وما هو عليه من الجلال والجمال ولا يحتاج في ذلك إلى شيء مخلوق بل يكفي في حصوله جماله وجلاله وحينئذ فيقال قولك لو صح الرضى والفرح
(27/247)
ص -1453- الذي تسميه أنت لذة عليه لكان خلق المفروح المرضي به إما في الأزل أو بعده إنما يجب ذلك إذا امتنع أن تكون محبته لنفسه ورضاه بنفسه وفرحه بنفسه سبحانه وحينئذ فلا ينتفي ينتفي المعنى الذي سميته لذة إلا إذا امتنع هذا وأنت لم تقم دليلا على امتناعه بل أنت في نفي هذاأضعف حجة ممن نفى التذاذ أوليائه بالنظر إلى وجهه فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين كلهم وأهل السنة كلهم متفقون على إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ولكن زعم بعض أهل الكلام أنه لا يحصل لهم بذلك لذة كما زعم أبو المعالي الجويني في رسالته النظامية أن نفس النظر إليه سبحانه لا لذة فيه إذ اللذة إنما تكون بالمناسب ولا مناسبة بين القديم والمحدث وزعم أن هذا من أسرار التوحيد وكذلك أبو الوفا بن عقيل سمع قائلا يقول أسألك لذة النظر إلى وجهك فقال يا هذا هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه وهذه نزعة اعتزالية وإلا فأهل المعرفة بالله وخاصة أولياء الله ليس عندهم شيء ألذ من النظر إلى وجهه الكريم وليس بين هذه اللذة ولذة الأكل والشرب والنعيم المنفصل نسبة أصلا كما لا نسبة بين
(27/248)
ص -1454- الرب جل جلاله وبين شيء من مخلوقاته فالنسبة بين اللذتين لا تدرك أصلا قال شيخنا وعلى ذلك جميع أهل السنة وسلف الأمة وأئمة الإسلام قال الحسن البصري شيخ الإسلام في زمن التابعين لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقا إليه.
وقال الشافعي رحمه الله لو علم محمد بن إدريس أنه لا يرى ربه في الآخرة لما عبده في الدنيا وقال أنا أخالف ابن علية في كل شيء حتى في قول لا إله إلا الله فإني أقول لا إله إلا الله الذي يرى في الآخرة وهو يقول لا إله إلا الله الذي لا يرى في الآخرة وكذلك جاءت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم
(27/249)
ص -1455- قال: "إذا أدخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة" فأخبر الصادق المصدوق أن نظرهم إليه أحب إليهم من كل ما أعطاهموه وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في صحيحه من حديث عمار بن ياسر أنه سمع النبي يدعو: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" يوضحه
الوجه السادس والمائتان: وهو أن اللذة والفرح تابعة للمحبة في الكمال والقوة والمحبة تابعة لمعرفة المحب بصفات المحبوب وجماله فكلما كان العلم به أكمل كانت محبته أقوى وكلما كانت المحبة
(27/250)
ص -1456- أقوى كانت اللذة والفرح به أكمل وأتم وإذا ثبت هذا فإذا كان العباد يحصل لهم بمعرفته وذكره ورؤيته واستماع كلامه منه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهو سبحانه أعلم بنفسه من غيره وكذلك كان حمده لنفسه وثناؤه على نفسه أعظم من حمد الحامدين له وثناء المثنين عليه فإن الحمد والثناء تابع للمعفرة والعلم بصفات المحمود ولهذا كان النبي أعظم الناس حمدا لربه وثناء عليه لما كان أعلم الخلق به فثناء الرب سبحانه على نفسه وحمده لنفسه وتمجيده لنفسه ومحبته لنفسه ورضاه عن نفسه فوق ما يخطر ببال الخلق أو يدور في قلوبهم أو تجري به ألسنتهم كما قال النبي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك يوضحه.
الوجه السابع والمائتان: أنه سبحانه إذا كان يحب بعض ما خلقه ويرضى عنه ويفرح به لما أعطاه من صفات الكمال فمحبته لنفسه ورضاه عن نفسه أولى وأحرى وأعظم من محبته لمخلوقه وأنه إذا أحب أهل العلم وأهل الرحمة وأحب المحسنين وأحب الصابرين وأحب الشاكرين وأثنى عليهم وهو الذي أعطاهم هذه الصفات وأحبهم لأجلها فما الظن بمحبته لنفسه وثنائه عليها ومن المعلوم أن محبته لهم وثناءه عليهم تبع لمحبته لنفسه وثنائه على نفسه.
(27/251)
ص -1457- الوجه الثامن والمائتان: إن الجهمي أبطل هذا بقوله إن اللذة إدراك الملائم فيلزم أن يقال ذات الله ملائمة لذاته وذلك غير معقول لأن الملائمة لا تتقرر إلا بين شيئين وهذا الذي قرره باطل من وجوه
أحدها: أن اللذة ليست نفس إدراك الملائم كما زعم بل هي حالة تنشأ عن الإدراك فالإدراك سببها لا نفسها فهاهنا ثلاثة أشياء ملائم وإدراكه وما ينشأ عن الإدراك من الالتذاذ والفرح والسرور وكذلك الألم ليس هو نفس إدراك المنافي بل حالة تنشأ عن إدراكه وعلى هذا فإدراك الذات ملائم والفرح والرضى الذي سميته لذة مترتب على إدراك الذات وهذا أمر معقول لكل عاقل فإن المخلوق يدرك من ذاته كما لا يلتذ بإدراكه ويسر ويفرح به مع كون ذلك الكمال ناقصا بين عدمين وهو من غيره ليس منه فكيف بمن له الكمال المطلق الواجب السرمد وهو لم يستنفده من غيره وهو أعلم بكماله وكل ما سواه
الثاني: قولك الملائمة لا تتقرر إلا بين اثنين جوابه أن مثل هذا يكون في الذات الواحدة باعتبارين كما قال تعالى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات40] وقال {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف51] وقال آدم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف23].
(27/252)
ص -1458- فالنفس واحدة وهي الناهية المنهية والأمارة المأمورة والظالمة المظلومة كما تكون هي العاقلة المعقولة والإنسان يحب نفسه فيكون المحب المحبوب فإذا كان هذا أمرا معقولا في المخلوق غير ممتنع فكيف يمتنع في حق الخالق
الثالث: أنه سبحانه يحب صفاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك عفو تحب العفو" وقال: "إن الله جميل يحب الجمال"، "وإن الله نظيف يحب النظافة"، "وإن الله وتر يحب الوتر"، "وإن الله
(27/253)
ص -1459- طيب لا يقبل إلا طيبا" وروي "إني عليم أحب كل عليم" وإذا كان يحب صفاته وهي قائمة بذاته فكيف بمحبته لذاته
الوجه التاسع والمائتان: أن يقال ما المانع أن يحب ويرضى ويفرح ويضحك بما يكون من الأمور الحادثة الموافقة لمحبته ورضاه كما في الأحاديث المستفيضة المتواترة مثلما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي"، "وأنا معه حيث يذكرني والله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة"
(27/254)
ص -1460- "ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإذا أقبل يمشي أقبلت إليه أهرول".
وفي الصحيح عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تقول بفرح عبد إذا انفلتت منه راحلته تجر زمامها بأرض قفر ليس فيها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه ثم مرت بجذل شجرة فتعلق زمامها فوجدها متعلقة به قلنا شديد يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لله أشد فرحا بتوبة عبده من الرجل براحلته" وفي الصحيح عن أنس أن
(27/255)
ص -1461- رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلاة" وفي كتاب العلل للدارقطني "لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد والمضل الواجد والظمآن الوارد" هذا أو نحوه ولو كان في المفروح به أعلى من هذا المثال لذكره فتأمل سائرا وحده بأرض مفازة معطشة لا ماء بها ولا زاد ضلت راحلته فيها فاشتد جوعه وظمأه فأيس من الحياة فاضطجع في أصل شجرة ينتظر الموت ثم استيقظ فإذا الراحلة قائمة على رأسه وعليها طعامه وشرابه كما جاء ذلك مصرحا به في بعض طرق هذا الحديث فهل في الفرح قط أعظم من هذا ولهذا الفرح بتوبة العبد سر أكثر الخلق محجوبون عنه لا تبلغه عقولهم وبه يعرف سر تقدير ما يثاب منه على العبد لأنه يترتب عليه ما هو أحب إلى الرب سبحانه من عدمه فلو لم يكن في تقدير الذنب من الحكم
(27/256)
ص -1462- إلا هذه وحدها لكانت كافية فكيف وفيه من الحكم ما لا يحصيه إلا الله مما ليس هذا موضعه
الوجه العاشر والمائتان: إن الجهمي احتج على امتناع ذلك عليه بأن هذا انفعال وتاثير عن العبد والمخلوق لا يؤثر في الخالق فلو أغضبه أو فعل ما يفرح به لكان المحدث قد أثر في القديم تلك الكيفيات وهذا محال وهذه الشبهة من جنس شبههم التي تدهش السامع أول ما تطرق وتأخذ منه وتروعه كالسحر الذي يدهش الناظر أول ما يراه ويأخذ ببصره وكصولة المبطل الجبان الذي يحمل أول أمره علىخصمه وهكذا شبه القوم كلها هي كحبال السحرة وعصيهم التي خيل إلى موسى أنها تسعى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه69-67] فهكذا الحجة الحق تبطل جميع الشبه الباطلة التي هي للعقول كحبال السحرة وعصيهم للأبصار وجواب هذه الشبهة من وجوه
أحدها: أن الله سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه وكل ما في الكون من أعيان وأفعال وحوادث فهو بمشيئته وتكوينه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
(27/257)
ص -1463- قضيتان لا تخصيص فيهما بوجه من الوجوه وكل ما يشاؤه فإنما يشاؤه بحكمة اقتضاها حمده ومجده فحكمته البالغة أوجبت كل ما في الكون من الأسباب والمشيئات فهو سبحانه خالق الأسباب التي ترضيه وتغضبه وتسخطه ويفرح بها والأشياء التي يحبها ويكرهها هو سبحانه خالق ذلك كله فالمخلوق أعجز وأضعف أن يؤثر فيه سبحانه بل هو الذي خلق ذلك كله على علمه بأنه يحب هذا ويرضى به ويبغض هذا ويسخط ويفرح بهذا فما أثر غيره فيه بوجه.
الثاني: أن التأثير لفظ فيه اشتباه وإجمال أتريد أن غيره يعطيه كمالا لم يكن له ولا وجد فيه صفة كان فاقدها فهذا معلوم بالضرورة أنه يريد به أن غيره لا يسخطه ولا يبغضه ولا يفعل ما يفرح به أو يحبه أو يكرهه أو نحو ذلك فهذا غير ممتنع وهو أول المسألة وليس معك في نفيه إلا نفس الدعوى بتسمية ذلك تأثيرا في الخالق وليس الشأن في الأسماء إنما الشأن في المعاني والحقائق وقد قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد28] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في أهل الصفة: "إن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك" فما الدليل العقلي أو النقلي على استحالة هذا
(27/258)
ص -1464- الثالث: أن هذا يبطل محبته لطاعات المؤمنين وبغضه لمعاصي المخالفين وكراهته لظلم الظالمين إذا فعلوا ذلك وهذا معلوم البطلان بالضرورة والعقل والفطرة الإنسانية واتفاق أهل الأديان كلهم وإطباق الرسل بل هذا حقيقة دعوة الرسل بعد التوحيد.
الرابع: أن هذا ينتقض بإجابة دعواتهم وإغاثة لهفاتهم وسماع أصواتهم ورؤية حركاتهم وأفعالهم فإن هذه كلها أمور متعلقة بأفعالهم فما كان جوابك عنها في محل الإلزام فهو جواب منازعيك لك في هذا المقام.
فصل
الوجه الحادي عشر والمائتان: إن قولك يستحيل أن يخلق الملتذ به في الأزل وأن لا يخلقه في الأزل إلى آخره مبني الحجة على مقدمتين
إحداهما: إنكار وجود الملتذ به قبل وجوده
والثانية: وجوب حصوله إذا كان كذلك ونحن نتكلم عن المقدمتين فنقول لا نسلم وجوب وجود الملتذ به والحالة هذه ولا أنه يكون كالملجأ إليه فإن قلت داعية اللذة إذا تحققت خالية عن الموانع وكان الملتذ به ممكن الحصول فالعلم الضروري حاصل بوجوب حصوله فالجواب أن الداعي الجازم مع القدرة التامة توجب وجود المقدور بلا ريب والداعي هو إما الإرادة الحادثة أو العلم المقتضي للإرادة أو مجموعهما وإما مجرد كون الشيء سببا للذة فهذا لا يوجب الإرادة
(27/259)
ص -1465- الحادثة بل العلم الضروري الحاصل بضد ذلك فقد يحصل للإنسان نوع ما من أنواع الالتذاذ بالشيء مع قدرته عليه ولا يفعله وذلك أن اللذة تتبع المحبة وقد لا تتم محبة الملتذ به وإرادته فلا يوجد لضعف المحبة والإرادة المتعلقة به أو لاستلزامه فوات ما هو أحب إليه منه أو لحصول ما هو أكره إليه والمعهود في بني آدم أن الإرادة الجارية لا يجب حصولها منهم إلا للذة التي يوجب فقدها ألما فمتى استلزم عدم اللذة بالعرض وقد يتعلق القصد الذاتي بالأمرين وقد يغيب بشعوره بأحدهما عن الآخر لاستيلاء سلطانه على الآخر أما إذا لم يكن أحدهم متألما بعدم اللذة ولكن في وجود الملتذ به زيادة لذة فقط وليس في فقده ألم فهذا ليس الواقع وجوب تعلق الإرادة به بل قد يريد ذلك وقد لا يريده استغناء بما عنده من اللذة عن تلك الزيادة فلا يجب فيه حصول الداعي التام وهذا أمر محسوس.
الوجه الثاني عشر والمائتان: إنا لو فرضنا في حقنا أنه يجب تحصيل المفروح به مع القدرة عليه فلم قلت إنه في حق الرب تعالى كذلك? وليس معك إلا مجرد القياس التمثيلي الذي يتضمن تمثيل الله بخلقه والقضية الكلية التي ادعيتها ممنوعة والعلم الضروري إذا سلم فإنما هو في حق المخلوق فأما في حق
(27/260)
ص -1466- الخالق فيس هناك إلا مجرد القياس وهو منتقض بسائر الأمور الفارقة بين الله وبين خلقه ومن جملتها الإرادة والمحبة والرضى فإن الإنسان إذا أراد الفعل وهو قادر عليه وجب وجوده منه والله تعالى مريد لجميع الكائنات وهو قادر عليها ومع هذا فلا توجد إلا في مواقيتها لا توجد قبل ذلك والعبد يقع مراده حين قدرته عليه والله تعالى متأخر مراده مع دوام قدرته عليه.
الوجه الثالث عشر والمائتان: أن العبد إنما يجب مع قدرته وداعية حصول مراده ولذته لأنه يتضرر بعدم حصوله فإن كماله وصلاحه بحصول ما يحبه ويريده ويلتذ به وبعدمه يكون متضررا ناقصا والله سبحانه لا يلحقه الضرر بوجه ما.
الوجه الرابع عشر والمائتان: لم قلت بأن كل ما يحبه الرب سبحانه ويرضاه ويفرح به يمكن وجوده في وقت واحد? فإن ذلك قد يستلزم الجمع بين النقيضين فإن الحوادث المتعاقبة يستحيل اجتماعها في آن واحد فإذا كان يحب ما يمتنع حصوله كله في آن واحد كانت محبته ورضاه وفرحه به متعلقا به وقت وجوده
(27/261)
ص -1467- وحصوله ووجوده قبل ذلك محال والمحال لاتتعلق به المحبة والفرح يوضحه.
الوجه الخامس عشروالمائتان: إنه سبحانه إذا كان يحب أمورا وتلك الأمور المحبوبة لها لوازم يمتنع وجودها بدونها كان وجود تلك الأمور مستلزما للوازمها التي لا توجد بدونها مثاله محبته للعفو والمغفرة والتوبة وهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه ويغفره ويتوب إليه العبد منه ووجود الملزوم بدون لازمه محال فلا يمكن حصول محبوباته سبحانه من التوبة والمغفرة والعفو بدون الذي يتاب منه ويغفره ويعفو عن صاحبه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم" وهذا هو الذي وردت الأحاديث الصحيحة بالفرح به وهذا المفروح به يمتنع وجوده قبل الذنب فضلا عن أن يكون قديما فهذا المفروح به يحب تأخره قطعا ومثل هذا ما روي "أن آدم لما رأى
(27/262)
ص -1468- بنيه ورأى تفاوتهم قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" ومعلوم أن محبته للشكر على ما فضل به بعضهم على بعض يوجب تفضيل بعضهم على بعض ولا يحصل ذلك مع التسوية بينهم فإن الجمع بين التسوية والتفضيل جمع بين النقيضين وذلك محال.
الوجه السادس عشر والمائتان: أن يقال اللذة التي هي الفرح والرضى والسرور ونحوها يجب وجودها من القادر إذا كان مستغنيا عنها بلذة أخرى أكمل منها أم مطلقا إن قلتم بالثاني فهو ممنوع وإن قلتم بالأول قيل فإن الله سبحانه مستغن عن أن يحدث كل ما يقدر عليه من هذه الأمور في وقت واحد بل إذا كان العبد مستغنيا عن فعل ا هو من جنس اللذات مع قدرته على ذلك فالله أجل وأعظم فإن قال إذا كان غنيا عنها لم تكن لذة قيل غن صح هذا فهو حجة عليكم ومبطل لحجتكم.
الوجه السابع عشر والمائتان: أن يقال هو لا يحدثها إلا إذا أحبها ورضيها ونضمنت فرحه بها وحيث لا يكون ذلك لا تكون محبوبة ولا مرضية له ولا مفروحا بها فالأمور التي يحبها الله ويرضاها ويفرح بها لها صفات ومقادير تقتضي أن تكون محبوبة مرضية مفروحا بها في وقت دون وقت كما تقتضي أن يكون مراده في وقت دون وقت ما فإن قلت هذا يقتضي حلول الحوادث
(27/263)
ص -1469- به قيل هذا لا يمتنع على أصول الطائفتين فمن قال بهذه المسألة من المتكلمين والصوفية والفقهاء وجمهور أهل الحديث وأكثر الفلاسفة لم يرد هذا عليه ومن منع ذلك فإنه يقول فيه ما يقوله في محبته ورضاه أنه قديم أزلي لم يزل محبا راضيا مواليا لمن أحبه ورضيه وولاه ولم يزل غضبان مبغضا لمن غضب عليه وأبغضه وعاداه ويقول إن المتجدد هو التعلق فقط وهذا قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقه من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين.
الوجه الثامن عشر والمائتان: أن يقال لو صح ما ذكرته كان مستلزما أن لا يخلق الرب تعالى شيئا أو يخلق كل شيء قبل خلقه إياه وهو من جنس شبه الدهرية الفلاسفة في قدم العالم قالوا المقتضي لوجود العالم إن كان تاما في الأزل وجب وجوده وإن لم يكن تاما لزم أن لا يوجد وهذا منقوض بما يوجد من الحوادث اليومية ووجه الإلزام أن يقال لو صح عليه الخلق والإبداع والإرادة لكان إما خالقا لمراده في الأزل وهو محال وإما أن لا يخلقه في الأزل وهو محال لأنه ممكن مقدور وكل من صحت عليه الإرادة والخلق والإبداع إذا كان عالما بقدرته على تحصيل مراده وهو ممكن مقدور فإنه يكون كالملجأ إلى إيجاد مراده فإن قلت الإرادة من شأنها أن تخصص وتميز والله سبحانه أراد وجود كل شيء في وقته على صفة
(27/264)
ص -1470- ومقدار وجعل لك شيء قدرا قلت هذا حق في نفسه ولكن هو حجة عليك لا لك فإنه سبحانه كما أراد وجود كل شيء في وقته على صفة ومقدار يختص به فهكذا محبته ورضاه لما يرضى به وفرحه بما يفرح به سواء.
الوجه التاسع عشر والمائتان: إنا متى رجعنا إلى الموجود فمتى علمنا أن أحدنا إذا كانت إرادته جازمة وقدرته تامة وجب وجود الفعل منه مقترنا بإرادته وقدرته ولا يتأخر الفعل إلا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه وهذا النافي لا ينازع في ذلك ويقر به ويقرره فإذا كان هذا حالنا فيما نريده ونقدر عليه فإذا كان الله عندك قادرا مريدا إرادة جازمة وجب وجود جميع مراده في الأزل وذلك محال ووجب أن لا يكون في الأزل لأنه متعاقب وهو محال لوجود القدرة التامة والإرادة الجازمة وما أفضى إلى المحال فهو محال فيلزم انتفاء القدرة والإرادة كما ذكرت في انتفاء المحبة والفرح والرضى الذي أدخلته في قسم اللذة سواء بسواء ومهما أجيب به عن هذا فهو بعينه جوابنا لك إن قلت إن إرادة الله لا تقاس بإرادة خلقه قيل لك وفرحه ورضاه لا يقاس بفرحهم ورضاهم وإن قلت إرادة الله تخصيص الأشياء بخواصها قيل لك هذا بعينه موجود في محبته ورضاه فإنه مستلزم للإرادة أو نوع منها وذلك مستلزم لما نفيته من لوازمه وهو للفلاسفة
(27/265)
ص -1471- ألزم فإن كل كائن له ما يختص به صفة وقدرا وللحوادث أوقات يختص بها فذاته سبحانه إن كانت مقتضية لوجود كل موجود وجب وجود كل ممكن مقارنا لوجوده وإن لم تكن مقتضية للوجود لزم أن لا يوجد عنه شيء فإذا قالوا لا يمكن للأمر إلا كذا كان هذا جوابنا بعينه في هذا المقام.
الوجه العشرون والمائتان: إنهم فسروا في مسألة التحسين والتقبيح الحمد والذم بما يستلزم اللذة والألم كما فعل ابن الخطيب وغيره لما ناظروا القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين قال بعد مطالبته لهم بحقيقة المدح والذم فإن قيل فما حقيقة المدح والذم عندكم? قلنا المدح هو الإخبار عن كون الممدوح مستحقا لأن يفعل به ما يفرح به أو يلتذ به والذم هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يحزن به قال ولكن إذا فسرنا مستحق المدح والذم بذلك استحال تصوره في حق الله لاستحالة الفرح والغم عليه قال وقد حكينا أن توجه هذا السؤال ابتداء على سبيل المطالبة من غير التزام لنقسيم خاص فنقول معنى الاتضاع والاتفاع الأمر الذي يسوءه ويحزن به
(27/266)
ص -1472- والذي يسره ويفرح به أو أمر آخر وراء ذلك فإن كان الأول لم يتقرر معناه في حق الله تعالى لاستحالة الفرح والحزن عليه وإن كان الثاني فبينوه فإنا بعد الإنصاف جربنا أنفسنا فلم نجد للمدح والذم حاصلا وراء الفعل المؤدي إلى الفرح والحزن فليتدبر العاقل هذا الكلام حتى التدبر وما يلزم منه فإنه إذا كان حقيقة المدح هو الخبر الذي يتضمن فرح الممدوح ولذته والذم حبر يتضمن ألم المذموم فلا يتصور مدح ولا ذم عنده إلا مع اللذة والألم وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين كلهم بل ومن دين جميع الرسل أن الله سبحانه يحمد ويمدح ويثنى عليه وأنه يحب ذلك ويرضاه ويأمر به بل حمده والثناء عليه من أعظم الطاعات وأجل القربات.
وفي المسند من حديث الأسود بن سريع قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني قد حمدت ربي تبارك وتعالى بمحامد ومدح وإياك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن ربك تعالى يحب المدح هات ما امتدحت به ربك فقال فجعلت أنشده" وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود قال
(27/267)
ص -1473- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه" ولمسلم "وليس أحد أحب إليه العذر من الله ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ومن محبته سبحانه الثناء عليه صدق المثني عليه بأوصاف كماله" كما في النسائي والترمذي وابن ماجة من حديث الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر قال يقول تبارك وتعالى لا إله إلا أنا وأنا الله أكبر وإذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا شريك لي وإذا قال
(27/268)
ص -1474- ولا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي" فمن محبته للثناء عليه صسدق المثني عليه ووافقه في ثنائه عليه.
ونظير هذا ما في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه "يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله حمدني عبدي فإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله مجدني عبدي فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال هذه بيني وبين عبدي فإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل".
ولما كان حمده والثناء عليه وتمجيده هو مقصود الصلاة التي هي عماد اإسلام ورأس الطاعات شرع في أولها ووسططها وآخرها وجميع أركانها ففي دعاء الاستفتاح يحمد
(27/269)
ص -1475- ويثنى عليه ويمجد وفي ركن القراءة يحمد ويثنى عليه ويمجد وفي الركوع يثنى عليه بالتسبيح والتعظيم وبعد رفع الرأس منه يحمد ويثنى عليه ويمجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وفي السجود يثنى عليه بالتسبيح المتضمن لكماله المقدس والعلو المتضمن لمباينته لخلقه وفي التشهد يثنى عليه بأطيب الثناء من التحيات ويختم ذلك بذكر حمده ومجده.
فصل
ومن محبته للثناء عليه شرعه للداعي قبل سؤاله ودعائه ليكون وسيلة له بين يدي حاجته كالمتقرب إلى المسؤول بما يحبه ويسأله بين يدي مطلوبه كما في السنن والمسند من
(27/270)
ص -1476- حديث فضالة بن عبيد قال جاء رجل فصلى فقال اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجلت أيها المصلي إذا صليت ففرغت فاحمد الله ما هو أهله ثم صل على النبي ثم ادعه" قال ثم صلى رجل آخر بعد ذلك "فحمد الله وصلى على النبي فقال له النبي أيها المصلي ادع تجب" وفي السنن عن ابن مسعود قال كنت أصلي فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على النبي ثم دعوت لنفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سل تعطه سل تعطه".
وهكذا في أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح لما يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لهم فقال: "فأقول أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي فيلهمني محامد فأحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقول يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع" وفي لفظ فأثني على ربي بثناء وتمجيد يعلمنيه فمن محبته سبحانه للثناء عليه ألهم رسوله منه في ذلك المقام ما يكون وسيلة بين يدي شفاعته.
(27/271)
ص -1477- وفي الصحيح عنه أنه كان يقول في سجوده: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك وعد الجنة" وقد تقدم ذلك من حديث ابن مسعود وفي الدعاء المأثور "اللهم لك الحمد حمدا يشرق له وجهك" وفي الأثر الآخر "اللهم لك الحمد حتى ترضى" وفي الحديث الآخر "سبحان الله عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" أي تسبيح يبلغ رضى نفسه.
(27/272)
ص -1478- فصل
ومن محبته لحمده والثناء عليه أنه جعل حمده مفتاح كل كلام ذي بال وخاتمة كل أمر وافتتح كتابه بحمده ختم آخره بحمده وافتتح خلقه بحمده وجعل حمده خاتمة الفصل بينهم فقال تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر1] وقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام1] وقال {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر75] فافتتح خلقه وأمره بحمده وختمهما بحمده.
وفي المسند والسنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" ولهذا كانت سنة المسلمين في
(27/273)
ص -1479- صلاتهم وخطبهم كلها افتتاحها بالحمد حتى خطبة الحاجة ولقد كان أول من يدعى إلى الجنة الحامدون والنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بيده لواء الحمد وآدم ومن دونه تحت ذلك اللواء فخص اللواء بالحمد لأنه أحب شيء إلى الله واشتق لأحب خلقه إليه وألزمهم عليه من الحمد اسمين يتضمنان كثرة حمده وفضله وهما محمد وأحمد وسمى أمته الحامدين وأخبر النبي أن أفضل الدعاء الحمد.
(27/274)
ص -1480- فصل
ومن محبته للثناء عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أنه أمر من ذكره بما لم يأمر به في غيره فقال تعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الجمعة10] فعلق الفلاح بكثرة ذكره وقال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران191] فعم بذكره أحوال العباد كلها لأن العبد إما أن يكون قائما أو قاعدا أو مضطجعا فأراد منه ذكره في هذه الأحوال كلها وأخبر أنه من ألهاه ماله وولده عن ذكره فهو خاسر فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون9] وأمر بذكره في أعظم المواطن التي يذهل الإنسان فيها عن نفسه وهي حاله عند ملاقاة عدوه فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال45] وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه
(27/275)
ص -1481- وسلم أنه قال: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه". وجعل سبحانه ذكره سببا لصلاته على عبده وذكره له فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب 41 , 43] وقال تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة 152] وجعل ترك ذكره والثناء عليه سببا لنسيانه لعبده وإنسائه نفسه فلا يلهمه مصالحه ولا يوفقه لإرادتها وطلبها فقال تعالى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة 67] وقال تعالة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر 19] فلما نسوا ذكره والثناء عليه وتحميده وتمجيده نسيهم من رحمته وأنساهم مصالح نفوسهم فلم يعرفوها ولم يطلبوها بل تركوها مهملة معطلة مع نقصها وعيوبها.
(27/276)
ص -1482- فصل
ومن محبته للثناء عليه وتحميده وتمجيده أنه وعد عليه بما لم يعد به على غيره كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة كما في السنن والمسند من حديث جابر قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض فارتعوا في رياض الجنة قالوا وأين رياض الجنة? قال مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكروه أنفسكم من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه"
(27/277)
ص -1483- وفي الترمذي وصحيح الحاكم عن عبدالله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني بشيء أتشبث به فقال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله". وفي السنن وصحيح الحاكم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبق المفردون قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما المفردون? قال الذين يهمزون في ذكر الله" وفي لفظ "وضع الذكر عنهم أثقالهم فوردوا القيامة خفافا".
(27/278)
ص -1484- وفيهما عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه" وفيهما عنه أيضا "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرا لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا وما ذاك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم?قال ذكر الله" وقال معاذ بن جبل ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله وفيهما أيضا من
(27/279)
ص -1485- حديث النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذين يذكرون من جلال الله التحميد والتسبيح والتكبير والتهليل ينعطفن حول عرش الرحمن لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن أفلا يحب أحدكم أن يكون له عند الرحمن شيء يذكر به" وفي صحيح الحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في يوم مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لم يسبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد كان بعده إلا من عمل عملا أفضل من عمله".
(27/280)
ص -1486- وفيه أيضا عن خالد أن النبي قال: "من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة" وفي الترمذي وصحيح الحاكم أيضا عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض رجل يقول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر" وفي صحيح الحاكم أيضا عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا
(27/281)
ص -1487- معك إذا ذكرتني وفي صحيح الحاكم ابن حبان عن أنس قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد تشهد ودعا فقال اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى" وفيهما أيضا عن بريدة أن النبي سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" فأخبر أن هذا هو الاسم الأعظم لما تضمنه من الحمد والثناء والمجد والتوحيد ولمحبة الرب تعالى لذلك أجاب من دعا به وهذا باب يطول تتبعه جدا.
والمقصود أنه إذا كان لا معنى للمدح إلا الإخبار المتضمن فرح الممدوح وليس أحد أحب إليه المدح من الله وحمده والثناء عليه وذلك عنده بالمنزلة التي لا يمكن وصفها ولا يحيط بها البشر كان المنكر لفرحه وما يستلزمه فرحه منكر لحقيقة حمده ومدحه والثناء عليه وتمجيده وحينئذ فنقول في
(27/282)
ص -1488- الوجه الحادي والعشرين والمائتان: إن هؤلاء الجهمية يقرون بظاهر من القول وينكرون حقيقته ويصدون عن سبيل الله ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل وينفرون من أحب الأشياء إلى الله وأكرمها عليه وأعظمها عنده وهو ذكره بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه ومدحه بها وحمده عليها بل يكفرون من يثني عليه بها وينسبونه إلى التشبيه والتجسيم ويستحلون منه مالا يستحله المحاربون من أعدائهم وذلك عين العداوة لله ولرسوله كما قال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق أنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال ما عادى عبد ربه أشد عليه من أن يكره ذكره وذكر من يذكره ومن المعلوم أن ذكره سبحانه إنما يتم بإثبات حقائق أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله لا بألفاظ مجردة لا حقيقة لها.
فهؤلاء المعطلة النفاة أبعد شيء عن حقيقة ذكر الله كما هم أبعد شيء عن محبته كما أقروا بذلك على أنفسهم من أنه لا يحبه أحد ولا يحب أحدا فهم لا يحبونه ولا يذكرونه وإن ذكروه فإنما يذكرونه بالسلب والعدم الذي هو أنقص النقص وإن أحبوه فإنما يحبون ثوابه المنفصل لا ذاته ولا صفاته ولا يثبتون ألذ ما في الجنة وأطيب ما فيها وأعظم نعيمها وهو النظر إلى وجهه وسماع كلامه فهم
(27/283)
ص -1489- عمدوا إلى لب الدين وقلبه فنبذوه وأبطلوه ووقفوا في طريق الرسل وعارضوهم في دعوتهم وبيانه
بالوجه الثاني والعشرين والمائتان : وهو أن دعون الرسل تدور على ثلاثة أمور: تعريف الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله.
الأصل الثاني: معرفة الطريق الموصلة إليه وهي ذكره وشكره وعبادته التي تجمع كمال حبه وكمال الذل له.
الأصل الثالث: تعريفهم ما لهم بعد الوصول إليه في دار كرامته من النعيم الذي أفضله وأجله رضاه عنهم وتجليه لهم ورؤيتهم وجهه الأعلى وسلامه عليهم وتكليمه إياهم ومحاضرتهم في مجالسهم.
فيثبت الأصل الأول بذكر أوصاف الرب تعالى ونعوت جلاله على التفصيل وإثبات حقائق أسمائه على وجه التفصيل ونفوا عنه ما يتضمن هذا الإثبات ويستلزمه كالنسيان واللغوب والظلم والسنة والنوم والمثل والكفوء والند والصاحبة والولد والسمي والجهمية عكسوا الأمر فسلبوا صفاته على التفصيل وأثبتوا له ما يتضمن نفي ذاته وصفاته.
وأما الأصل الثاني فإن الرسل أمرت الأمم بإدامة ذكره وشكره وحسن عبادته فصدت النفاة القلوب والألسنة عن
(27/284)
ص -1490- ذكره بإنكار صفاته وهم في الحقيقة لا يشكرونه لأن الشكر إنما يكون على الأفعال وعندهم لا يقوم به فعل لأنه يستلزم حلول الحوادث به فلا يشكر على فعل يقوم به وإن شكروه فإنما يشكرونه على مفعولاته وهي منفصلة عنه فلم يشكر على أمر يقوم به عندهم.
وأيضا فإن رأس الشكر الثناء والحمد وقد اعترفوا بأنه لا حقيقة له إلا ما يقتضي فرح المحمود المثنى عليه وذلك في حقه محال عندهم كما تقدم حكاية لفظهم.
وكذلك هم منكرون لحقيقة عبادته وإن قاموا بصورها وظواهرها فإن حقيقة العبودية كمال محبته وكمال الذل له وهم قد أقروا بأنه لا يحبه أحد ولا يمكن أن يحب واحتجوا على ذلك بأن المحبة تستلزم المناسبة بين المحب والمحبوب ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق وهذا إنكار لحقيقة لا إله إلا الله فأن الإله هو المألوه المستحق لغاية الحب بغاية التعظيم فنفوا هذا المعنى بتسميته مناسبة كما نفوا محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكرامته ورأفته ورحمته وضحكه وتعجبه بتسميتها كيفيان محسوسة ونفوا حياته وسمعه وبصره وقدرته وكلامه وعلمه بتسميتها أعراضا ونفوا أفعاله بتسميتها حوادث ونفوا علوه على خلقه
(27/285)
ص -1491- واستوائه على عرشه والمعراج برسوله إليه بتسمية ذلك تجسيما وتركيبا.
وأما الأصل الثالث: وهو تعريف الأمم حالهم بعد الوصول إليه فإنهم أنكروا أجل ما فيه وأشرفه وأفضله وهو رؤية وجهه وسماع كلامه وإنما أثبتوا أمورا منفصلة يتنعم بها من الأكل والشرب والنكاح ونحوها ومما يوضح ذلك
الوجه الثالث والعشرون والمائتان: وهو ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر قال: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن" فأخبر أن حمد الناس للمؤمن بشارة معجلة في الدنيا كالرؤية الصالحة كما في الصحيح عن
(27/286)
ص -1492- عبادة بن الصامت أنه سأل النبي عن قوله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس 64] قال هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له فجعل حمد الناس له في اليقظة والرؤيا الصالحة في المنام بشارة له في الدنيا والبشارة نوع من الخبر وهو الخبر بما يسر فالحمد هو الخبر بما يسر المحمود ويفرحه فإنكار فرحه ولوازم فرحه إنكار للحمد في الحقيقة.
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي لما بعثه ومعاذا إلى اليمن قال لهما: "بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا" وعند مسلم كان
(27/287)
ص -1493- إذا بعث أحدا من الصحابة قال بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا وذلك أن الكلام نوعان إنشاء وإخبار فأمرهم في الإإخبار ألأن يبشروا ولا ينفروا وفي الإنشاء أن ييسروا ولا يعسروا فمن جعل المحمود والممدوح يحمد ويمدح بما لا يحبه ولا يفرح به فقد عطل حقيقة حمده ومدحه التي تعطيلها تعطيل لحقيقة الدين ومما يوضح ذلك
الوجه الرابع والعشرون والمائتان: وهو أن الحسن والقبح سواء عرف بالشرع أو بالعقل إنما يعود إلى الملائم والمنافي.
والملائم يعود إلى الفرح ولوازمه والمنافي يعود إلى الغضب ولوازمه والمثبتون للحسن والقبح العقليين رأوا ما يعلمه العبد بضرورته وفطرته من حسن بعض الأعمال وقبح بعضها وأن ذلك من لوازم الفطرة فأثبتوه ولكن أخطأوا في موضعين.
أحدهما قياس الخالق على المخلوق في ذلك وأن ما حسن وقبح منهم حسن وقبح منه وكذلك كانوا مشبهة لأفعال معطلة الصفات.
الموضع الثاني: نفيهم لوازم ذلك من الفرح والرضى والمحبة وتسميتهم ذلك لذة وألما وكيفيات نفسانية.
وأما النفاة فأصابوا في الفرق بين الله وبين الخلق وأن لا يقاس بخلقه ولا يلزم أن ما حسن وقبح منهم يقبح
(27/288)
ص -1494- ويحسن منه وأصابت أيسضا في رد ذلك إلى الملائمة والمنافرة وأخطأت في موضعين: أحدهما سلب الأفعال صفاتها التي باعتبارها كانت حسنة وقبيحة وجعلهم ذلك مجرد نسب وإضافات عدمية.
والموضع الثاني نفيهم لوازم ذلك عن الرب تعالى من محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكراهته ومقته بتسميتها ذلك لذة وألما والفريقان جميا لم يهتدوا في تحقيق المسألة إلى أن كل حسن وقبح ثبت بشرع أو عقل أو عرف أو فطرة فإنما يعود إلى الملائمة والمنافرة ولم يهتدوا أيضا إلى ثبوت الحسن في أفعال الله بمعنى محبته ورضاه وفرحه وأنه لا يفعل إلا ما يمدح على فعله ويحمد عليه وحمده ومدحه خبر بما يرضى به ويفرح به ويحبه وأنه منزه عن أن يفعل ما يذم عليه والذم هو الخبر المتضمن لما يؤذي المذموم ويؤلمه وإن كان أعداؤه من المشركين يؤذونه ويشتمونه كما في الحديث الصحيح لا أحد أصبر على أذى من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم في الصحيح أيضا يقول الله شتمني عبدي ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فزعم أني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ومن ذلك قول أعدائه إنه فقير وإن يده مغلولة وإنه اتخذ صاحبة
(27/289)
ص -1495- وولدا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وحينئذ فنقول في
الوجه الخامس والعشرين والمائتان: إنه سبحانه كما يبغض هذا الإفك والباطل الذي قاله فيه أعداؤه ويشتد غضبه منه ويؤذيه ذلك إذ لا ينقصه كما أخبر به عن نفسه بقوله "يؤذيني ابن آدم" فهو سبحانه يفرح بثناء المثني عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أعظم فرح ويرضى به ويحبه وإذا كان يفرح بتوبة التائب أعظم فرح يقدر فكيف فرحه سبحانه بالثناء عليه وحمده ومدحه وتمجيده بما يصفه به أعداؤه مما لا يليق بكماله مما يتضمن فرحه ومحبته ورضاه أعظم من ذلك فإن محبته تغلب غضبه وفضله أوسع من عدله وهو سبحانه كما أنه موصوف بكل كمال فهو منزه عن كل نقص وعيب فكما أنه موصوف في أفعاله بكل حمد وحكمة وغاية محمودة فهو منزه فيها عن كل عيب وظلم وقبيح وبهذا استحق أن يكون محمودا على كل حال وأن يكون محمودا على المكاره كما هو محمود على المحاب كما في صحيح الحاكم وغيره من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: "الحمد لله على كل حال". واللفظ العام إذا ورد على سبب وجب دخول السبب فيه
(27/290)
ص -1496- فيوجب هذا الحمد أنه محمود على هذا الأمر المكروه لأنه حسن منه وحكمة وصواب فيستحق أن يحمد عليه وممايوضح ذلك
الوجه السادس والعشرون والمائتان: وهو أن النبي جمع بين محبة الرب سبحانه للمدح ومحبته للعذر كما في حديث المغيرة بن شعبة "لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الجنة" وكذلك جمع بينهما في حديث ابن مسعود فهو سبحانه شديد المحبة لأن يحمد وأن يعذر ومن محبته للعذر إرسال رسله وإنزال كتبه ومن محبته للحمد ثناؤه على نفسه فهو يحب أن يعذر على عقاب المجرمين المخالفين لكتبه ورسله ولا يلام على ذلك ولا يذم عليه ولا ينسب فيه إلى جور ولا ظلم كما يحب أن يحمد على إحسانه وإنعامه وأياديه عند أوليائه وأهل كرامته وحمده متضمن هذا وهذا فهو محمود على عدله في أعدائه وإحسانه إلى أوليائه كما قال تعالى {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر75] فأخبر عن حمد الكون أجمعه له عقيب قضائه بالحق بين الخلائق وإدخال هؤلاء إلى جنته وهؤلاء إلى ناره وحذف
(27/291)
ص -1497- فاعل الحمد إرادة لعمومه وإطلاقه حتى لا يسمع إلا حامد له من أوليائه وأعدائه كما قال الحسن البصري لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا وهو سبحانه قد أعذر إلى عباده وأقام عليهم الحجة وجمع صلى الله عليه وسلم في الحديث بين ما يحبه ويبغضه فإنه قال فيه: "لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه" فإن الغيرة تتضمن البغض والكراهة فأخبر أنه لا أحد أغير منه وأن من غيرته حرم الفواحش ولا أحد أحب إليه المدحة منه والغيرة عند المعطلة النفاة من الكيفيات النفسية كالحياء والفرح والغضب والسخط والمقت والكراهية فيستحيل وصفه عندهم بذلك ومعلوم أن هذه الصفات من صفات الكمال المحمودة عقلا وشرعا وعرفا وفطرة وأضدادها مذمومة عقلا وشرعا وعرفا وفطرة فإن الذي لا يغار بل تستوي عنده الفاحشة وتركها مذموم غاية الذم مستحق للذم القبيح وهؤلاء المعطلة النفاة لحقيقة محبته ورضاه وغضبه عندهم الأمران سواء بالنسبة إليه وأن ما وجد من ذلك فهو يحبه ويرضاه وما لم يوجد من طاعاته وامتثال أوامره فهو يبغضه ويسخطه بناء على أصلهم الفاسد أن
(27/292)
ص -1498- المحبة هي عين الإرادة والمشيئة فكل ما شاءه فقد أحبه ورضيه وإذا جاء هؤلاء إلى النصوص الدالة علىلا أنه لا يرضى بها ولا يحبها ولا يريدها ألوها بميعنى أنه لا يشرعها ولا يأمر بها ولا يحبها ولا يرضاها دينا وهو التأويل الأول بتغيير العبارة وحينئذ فنقول في
الوجه السابع والعشرين والمائتان: إنه سبحانه عما يقول الجاهلون به إذا كان لا يفرح ولا يرضى بمدحه وحمده الثناء عليه ولا يغضب ولا يسخط ويبغض شتمه وما قال فيه أعداؤه بل نسبة الأمرين إلى ذاته وصفاته بنسبة واحدة إذ لو حصل فيه سبحانه فرح ورضى ومحبة من ذلك وغضب وسخط وكراهة من هذا للحقته الكيفيات النفسية كان لا فرق عنده بين الحسن والقبيح والمدح والذم وهذا غاية النقص والعيب شرعا وعقلا وفطرة وعادة ومن كلام الشافعي من استرضي ولم يرض فهو جبار ومن استغضب ولم يغضب فهو حمار وهذا يدل على موت القلب وبطلان الحسن وفقد الحياة ولهذا كان أكمل الناس حياة أشدهم حياء وكان
(27/293)
ص -1499- رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها لكمال حياة قلبه والله سبحانه الحي القيوم وقد وصف نفسه بالحياء ووصفه سوله فهو الحيي الكريم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا" وقالت أم سليم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يستحي من الحق وأقرها على ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن".
(27/294)
ص -1500- والحياء عند هؤلاء من الكيفايات النفسانية فلا يجوز عندهم وصف القديم بها ولمقصود أنه كلما كانت صفات الكمال في الحي كان فرحه ومحبته ورضاه وغضبه ومقته أكمل ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وفي الأثر إن موسى كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته وكان أشد بني إسرائيل حياء حتى أنه لا يغتسل إلا وحده من شدة حيائه.
وذا كانت هذه صفات كمال فلا يجوز سلبها عمن هو أحق بالكمال المطلق من كل أحد بمجرد تسميتها كيفيات نفسية وأعراضا وانفعالات ونحو ذلك فإن هذا من اللبس والتلبيس وتسمية المعاني الصحيحةالثابتة بالأسماء القبيحة المنفرة وتلك طريقة للنفاة مألوفة وسجية معروفة وإذا عرف هذا تبين أن هؤلاء المعطلة النفاة أضاعوا
(27/295)
ص -1501- حق الله الذي يستحقه لنفسه والذي بعث به رسله وأنزل به كتبه والذي هو أصل دينه ومنتهى عبادته بما هم متناقضون فيه.
وقد سبق لك أنهم معترفون بما فطر الله عليه خلقه أن المدح يتضمن فرح الممدوح ولوازمه ولهذا لزمهم القول بخلاف ما يعلم بالضرورة من دين الرسل من أولهم إلى آخرهم إن الله لا يفرح بمدحه وحمده وتمجيده والثناء عليه ولا يرضى نفسه بذلك ولا يكون محبوبا له على الحقيقة وهذا هم معترفون به لا يتحاشون منه ولا يستكنفون من إطلاقه وإنما العجب تصريحهم بأنه لا يمدح بمدح والمدح هو أصل الثناء والحمد.
وقد صرحوا باستحالة ذلك في حقه كما قالوا المدح هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يفرح به ويلتذ به والذم هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يحزن به ويتألم به قالوا وإذا فسرنا المدح والذم بذلك استحال تصورهما في حق الله تعالى لاستحالة الفرح والغم عليه وقد أبطل فأضلهم طرق الناس وعول على هذه الطريقة كما تقدم حكاية لفظه وهذا اعتراف منه
(27/296)
ص -1502- بأنه ليس للمدح والذم حاصل إلا ما لا يتصور في حق الله فلا يتصور عنده أن يكون الله محمودا ممدوحا بحال ومعلوم أن فساد هذا في دين الرسل كلهم وجميع فطر بني آدم من أوضح الواضحات وحينئذ فنقول في
الوجه الثامن والعشرين والمائتان: قولكم إن المدح يستحيل تصوره في حق الله من أوضح الكفر وأقبح المعاداة لله والمناقضة لكتبه ورسله واستدلالكم على ذلك بأن الفرح يستحيل عليه أبطل وأبطل بل قد علم بالاضطرار عقلا وفطرة وشرعا أن المستحق لغاية المدح الكامل المطلق هو الرب سبحانه فهذا أحق الحق ولازمه حق فإنه لا يلزم من الأحق إلا حق فإن كان الفرح لازما لهذا المدح فهو حق وقد أثبته له سبحانه أعلم خلقه وأعرفهم وبصفاته وما يجب له ويمتنع عليه وقرب فرحه سبحانه إلى الأذهان بما هو أعظم من أنواع الفرح وهو فرحه بتوبة التائب إليه فكيف بما هو أعظم من ذلك من حمد الحامدين له ومدحهم له وثنائهم عليه فإذا كان المدح مستلزما للفرح وقد علم أنه يستحق المدح أجمع علم أنه يفرح بمدحه وإثبات الملزوم ونفي لازمه محال ولهذا لما تفطن هؤلاء لذلك علموا أنه لا يمكن إثبات الملزوم ونفي لازمه صرحوا بنفي اللازم والملزوم وقالوا يستحيل ثبوت المدح والفرح في حقه فنقول في
(27/297)
ص -1503- الوجه التاسع والعشرين والمائتان: إنه من المعلوم أن كونه سبحانه يستحق المدح والمحامد أبين في الشرع والعقل والفطرة من كونه لا يفرح والواجب أن يستدل بالمعلوم على المجهول وبالواضح على الخفي أما أن يستدل بانتفاء الفرح على انتفاء كونه مستحقا للمدح فهذا من أبطل الباطل وهو خروج عن مقتضى السمع والعقل وهو من فعل أهل التلبيس والتدليس وإذا تبين ذلك عرف أن هؤلاء الجهمية المعطلة الذي يذكرون ما وصف الله به نفسه من الرضى والفرح يلزم لزوما بينا أن يجحدوا حمده سبحانه ومدحه والثناء عليه واستحقاقه لذلك بموجب هذه القضية الكاذبة الباطلة التي قرروها وهذا شأن جميع قضاياهم الكاذبة التي تتضمن تعطيل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فإنها تستلزم إثبات الباطل وإبطال الحق ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه والحمد لله رب العالمين.
الوجه الثلاثون والمائتان: أن يقال قولكم إن المدح والذم لا معنى لهما إلا بمجرد الخبر عن استحقاق ما يفرح ويؤلم ليس كذلك والتحقيق أن فيهما معنى زائدا على الخبر المجرد سواء دل اللفظ على ذلك المعنى الزائد بالتضمن أو باللزوم فإن الحامد المادح يقترن بحمده ومدحه محبة المحمود والرضى عنه وتعظيمه وكذلك
(27/298)
ص -1504- الذام يقترن بذمه بغض المذموم وتنقصه وقلاه ولهذا فسر كثير من الناس الحمد بالرضى واختاره الآمدي في ابكاره وغيره فالآمدي فسره بالرضى وهو من باب الإرادات والرازي فسره بالخبر وهو من باب الاعتقادات والتحقيق أن الحمد والذم يتمضن الأمرين جميعا فالمادح يعتقد أن في الممدوح والمحمود ما يحبه ويرضى به ويفرح به ويكون مع هذا الاعتقاد والخبر في قلبه من محبته والرضا به والفرح ما استحق به أن يكون حامدا له ومادحا وهذا أمر يجده الحامد المادح من نفسه إذا كان مادحا بحق وصدق بخلاف المدح بالباطل فإنه كذب لا يستلزم شيئا من ذلك فالمدح والحمد أصلهما الخبر ويتبعه الحب والرضا والذم أصله الخبر ويتبعه البغض والسخط والصلاة على من يصلى عليه أصلها الطلب والإرادة ويتبعها الخبر ولعنة من يلعن أصلها طلب إهانته وإقصائه ويتبعها الخبر وهذان النوعان من الخبر وهما الإخبار عن الشيء بالخبر السيء وطلب السوء له والإخبار عنه بالخبر الحسن وطلب الخير له الأول أصل اللعن والثاني أصل الصلاة وهو سبحانه يلعن أعداءه ومن يفعل ما يبغضه ويسخطه ويصلي على أوليائه وأهل طاعته وذكره وفي صحيح مسلم
(27/299)
ص -1505- عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يكون الطعانون واللعانون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" فإن الشهادة من باب الخبر والشفاعة من باب الطلب ومن يكون كثير الطعن على الناس وهو الشهادة عليهم بالسوء وكثير اللعن لهم وهو طلب السوء لهم لا يكون شهيدا عليهم ولا شفيعا لهم لأن الشهادة مبناها على الصدق وذلك لا يكون فيمن يكثر الطعن فيهم ولا سيما فيمن هو أولى بالله ورسوله منه والشفاعة مبناها على الرحمة وطلب الخير وذلك لا يكون ممن يكثر اللعن لهم ويترك الصلاة عليهم ومن أعظم أسباب سعادة العبد أن يكون موافقا لربه سبحانه في صلاته على من صلى عليه ولعنته لمن لعنه كما في مسند الإمام أحمد وصحيح الحاكم من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وأمره أن يتعاهد أهله في كل صباح لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك ومنك وإليك اللهم فما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بك إنك على كل شيء قدير اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة
(27/300)
ص -1506- النظر إلى وجهك وشوقا إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وأعوذ بك فأن أظلم أو أظلم أو أعتدي أو يعتدى علي أو أكسب خطيئة أو ذنبا لا تغفره اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا وأشهدك وكفى بك شهيدا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك وأشهد أن وعدك حق ولقاءك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأنك تبعث من في القبور وأنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لي ذنوبي كلها إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" فهذه ثلاثون وجها مضافة إلى المائتين فصارت مائتين وثلاثين وجها تبطل معارضتهم للنصوص بالتوهمات والظنون الكاذبة التي يسمونها عقليات.
الوجه الحادي والثلاثون بعد المائتين: أن نقول إذا عارضتم بين المعقول والمنقول فإما أن تكذبوا المنقول وإما أن تصدقوه فإن كذبتموه ألحقتم بأعداء الرسل المكذبين لهم وانسلختم من العقل والدين كانسلاخ الشعرة من العجين وإن صدقتم المنقول فإما أن تعتقدوا أن له معنى أو تقولوا لا معنى له ولا يمكنكم أن تقولوا بالثاني إذ تستحيل المعارضة على هذا التقدير وتبطل المسألة التي
(27/301)
ص -1507- أصلتموها من أصلها وإن قلتم بل للمنقول معان قصدها المتكلم وأراد من العباد اعتقادها والإقرار بها فإما أن يدل اللفظ عليها أو لا يدل فإن لم يدل اللفظ عليها كان ذلك متضمنا للمحال والعبث والقدح في الرب تعالى ورسله وكلامه من وجوه متعددة فكيف إليهم أن يخاطبهم بكلام يريد منهم أن يفهموا منه مالا يدل عليه بوجه ما وهو سبحانه قد أكذب هذا الظن الكاذب الجائر بقوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم4] وقوله {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت44] فخطابهم بذلك من جنس خطاب كل أمة بلغة لا تفهمها البتة بل أبعد منه لأنها يمكنها التوصل إلى معرفة المراد بهذا الخطاب بالترجمة كما يترجم التراجم بين الرسل والملوك وأما الخطاب بما لا يدل على المعنى المراد بوجه في لغة من اللغات وإرادة اعتقاد ذلك المعنى منه فلا يفعله عاقل ويصان عنه عقلاء البشر فضلا عن أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعدل العادلين وهذا لو كان المراد منه معاني لا يناقضها الكلام ولا يدل عليها بنفي ولا إثبات فكيف إذا كان الكلام المخاطب به له معان تناقض تلك المعاني التي أراد منهم فهمها ومخالفتها فهذا أبلغ في
(27/302)
ص -1508- الإحالة وإن قلتم بل له معان ظاهرة مفهومة أراد من العباد اعتقادها والإقرار بها فإما أن تقولوا هي في نفسها حق مطابق للواقع أو تقولوا ليس لها وجود بل هي منتفية في نفس الأمر فإن قلتم بالأول صدقتم ورجعتم إلى موجب العقل والنقل وإن قلتم بالثاني لزمكم أن يكون الله ورسوله أراد من العباد اعتقاد الباطل والضلال والتشبيه والتجسيم وهذا غاية المشقة والقدح في الحكمة والرحمة وإن قلتم له معان ظاهرة مفهومة أراد من العباد نفيها وإنكارها وعدم اعتقادها وهذا هو حقيقة قولكم لزمكم نسبة الله ورسوله إلى ما لا يليق بآحاد العقلاء فضلا عن رب الأرض والسماء وخاتم الرسل وسيد الأنبياء فإنه يكون قد خاطبهم بإثبات ما أراد منهم نفيه وتحقيق ما أراد منهم إبطاله وعرضهم لأنواع الكفر والضلال والتشبيه وكان بمنزلة من أراد أن يصف لعليل دواء يستشفي به فوصف له دواء قاتلا وأخبره أن فيه الشفاء والعافية وأراد منه أن يأخذ من ألفاظ ذلك الدواء ما لا يدل عليه بل على خلافه فهل يكون هذا المداوي إلا من أجهل الناس وأعظمهم تلبيسا وتدليسا فلا بد لكم من أحد هذه الأقسام المذكورة فإن كان ها هنا قسم آخر فبينوه وبينوا صحته يوضحه.
الوجه الثاني والثلاثون بعد المائتين: وهو أن الأدلة العقلية التي زعمتم أنها تعارض النقل وتنفي موجبه هي بعينها تنفي المعاني التي تأولتم النقل عليها وحرفتم معناه إليها فإنكم لا يمكنكم تعطيل دلالة
(27/303)
ص -1509- النصوص بالكلية وجعلها بمنزلة الكلام المهمل الذي لم يستعمله العقلاء بل لا بد لكم من حملها على معاني أخر غير حقائقها التي دلت عليها وحينئذ فالأدلة العقلية التي نفيتم بها حقائق النصوص تنفي تلك المعاني التي تأولتموها عليها بعينها مثاله أنكم تأولتم الرحمة والرأفة بالإرادة وزعمتم أن الدليل العقلي يقتضي نفي الرحمة والرأفة حقيقة وهو إما دليل الإعراض وإما دليل التركيب وإما الدليل الذي نفي التجسيم والتشبيه وإما دليل التوحيد الذي ينفي ثبوت شيء من الصفات وإما دليل امتناع الكيفيات النفسانية عليه وإما دليل امتناع الاختصاص بغير مخصص أو غير ذلك فجميع هذه الشبه الباطلة تنفي كل معنى حملتم عليه النصوص ويلزمكم فيما أثبتموه نظير ما لزمكم فيما نفيتموه وإذا كان الإلزام ثابتا على التقديرين لم تستفيدوا بتأويل النصوص وحملها على خلاف حقائقها إلا تحريف الكلم عن مواضعه والقول على الله بلا علم والجناية على الكتاب والسنة فلو أنكم تخلصتم بالتحريف مما فررتم منه من التشبيه والتجسيم كنتم قد صنعتم شيئا ولكن أصابكم في ذلك ما أصاب القائل.
وأفقرني فيمن أحب وما استغنى
فهذان وجهان يعمان كل ما ينفون من الصفات الإلهية ويتأولونه على غير تأويله من النصوص النبوية ويعتمدون عليه من الأقيسة العقلية.
(27/304)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق