الأربعاء، 4 يوليو 2018

الصاواق المرسلة لابن القيم -ج2//1..


الجزء الثاني من (26/67) الي (27/219)
الصواعق المرسلة لابن القيم
ص -860- ولا يسمعه أحد وأن هذا محال فهو عندنا وعندكم بمنزلة كونه يأكل ويشرب وينام. فعند التحقيق نحن وأنتم متفقون على الأصول والقواعد التي نفت هذه الأمور وهي بعينها تنفي صحة نبوة من أخبر بها فكيف يمكن أن يصدق من جاء بها وقد اعترفتم معنا بأن العقل يدفع خبره ويرده فما للحرب بيننا وبينكم وجه وكما تساعدنا نحن وأنتم على إبطال هذه الأخبار التي عارضت صريح العقل فساعدونا على إبطال الأصل بنفس ما اتفقنا عليه جميعا في إبطال الأدلة النقلية.
فانظر هذا الإخاء ما ألصقه والنسب ما أقربه وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر حالهم مع هؤلاء الزنادقة في ردهم عليهم وبحوثهم معهم وخضوعهم لهم فيها ومقاومة أعداء الرسل لهم واستطالتهم عليهم ومقاتلتهم لهم بأسلحتهم التي استعاروها منهم.
فإن قلت كيف أصيب القوم مع عقولهم وبحثهم ونظرهم واجتهادهم قلت أصاب عقولهم ما أصاب عقول كفار قريش وغيرهم من الأمم الذين كذبوا الرسل مع تلك الأحلام
(26/67)
ص -861- والعقول ولكن كادها باريها عبرة لكل ذي عقل صحيح إلى يوم القيامة وهذا جزاء من لم يرض بوحي الله وما وهب لأنبيائه من العقول التي نسبتها إلى عقول العالمين كنسبتهم إليهم يوضحه:
الوجه الرابع والثلاثون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله ولم يجعله منقادا لهم مسلما لما جاءوا به مذعنا له بحيث يكون مع الرسول كمملوكه المنقاد من جميع الوجوه للمالك المتصرف فيه ليس له معه تصرف بوجه من الوجوه فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس حيث لم ينقد به لأمره وعارض النص بالعقل وذكر وجه المعارضة فأفسد عليه عقله غاية الإفساد حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين وقدوة الملحدين وشيخ ا لكفار والمنافقين ثم تأمل كيف أفسد عقول من أعرض عن رسله وعارض ما أرسلوا به فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصه الله عنهم في كتابه ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبي من النبيين ورضوا بإله من الحجر ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا
(26/68)
ص -862- العمى على الهدى وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما وبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.
وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرسول حتى آل أمرهم إلى مقالات الفلاسفة التي قدموها على ما جاءت به الرسل حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكار واستنبطوها بعقولهم لعجز غيرهم عنها لكن أفسد عليهم العقل الذي ينال به سعادة الأبد حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين.
وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مسخرا مدبرا مقهورا على حركة لا يمكنه الخروج منها وعلى مكان لا يمكنه مفارقته وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتبه هذا الترتيب ووضعه في هذا الموضع وقهره على هذه الحركة.
وكون سافله منفعلا غير فاعل متأثرا غير مؤثر كل وقت في مبدأ ومعاد وشواهد الفقر والحاجة والحدوث
(26/69)
ص -863- ظاهرة على أجزائه وأنواعه فجعلوه قديما غير مخلوق ولا مصنوع فعطلوه عن صانعه وخالقه ثم عطلوا الرب الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله فلم يثبتوا له ذاتا ولا صفة ولا فعلا ولا تصرفا باختياره في ملكه ولا عالما بشيء مما في العالم العلوي والسفلي وعاجزا من أنشأ النشأة الأولى أن يعيدها مرة ثانية.
وفي الحقيقة لم يثبتوا ربا أنشأ شيئا ولا ينشئه ولا أثبتوا لله ملائكة ولا رسلا ولا كلاما ولا إلهية ولا ربوبية.
وأما الاتحادية فأفسد عقولهم فلم يثبتوا ربا وظنوا أن في الخارج إنسانا كليا وحيوانا كليا وجعلوا وجود الرب وجودا مطلقا مجردا عن الماهيات وقالوا لا وجود للمطلق في الخارج.
وبالجملة فلم يصيبوا في الإلهيات في مسألة واحدة بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء.
(26/70)
ص -864- وأما متكلموا الجهمية والمعتزلة فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله كما تقدم التنبيه على اليسير منه وقالوا يتكلم الرب بغير كلام يقوم به وخالق بلا خلق يقوم به وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة وقدير بلا قدرة ومريد بلا إرادة وفعال لما يريد ولا فعل له ولا إرادة وقالوا الرب موجود قائم بنفسه ليس في العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره وقالوا إنه لم يزل معطلا عن الفعل والفعل ممتنع ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدد سبب أصلا وقالوا إن الأعراض لا تبقى زمانين وأنكروا القوى والطبائع والغرائز والأسباب والحكم وجعلوا الأجسام كلها متماثلة وأثبتوا أحوالا لا موجودة ولا معدومة وأثبتوا مصنوعا بلا صانع ومخلوقا بلا خالق إلى أضعاف ذلك مما يسخر منه العقلاء.
وكلما كان الرجل عن الرسول أبعد كان عقله أقل وأفسد فأكمل الناس عقولا أتباع الرسل وأفسدهم عقولا المعرض عنهم وعما جاءوا به ولهذا كان أهل السنة والحديث أعقل الأمة وهم في الطوائف كالصحابة في الناس
(26/71)
ص -865- وهذه القاعدة مطردة في كل شيء عصي الرب سبحانه به فإنه يفسده على صاحبه فمن عصاه بماله أفسده عليه ومن عصاه بجاهه أفسده عليه ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه وإن لم يشعر بفساده فأي فساد أعظم من فساد قلب خرب من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأنس به والفرح بالإقبال عليه وهل هذا القلب إلا قلب قد استحكم فساده والمصاب لا يشعر وأي فساد أعظم من فساد لسان تعطل عن ذكره وما جاء به وتلاوة كلامه ونصيحة عباده وإرشادهم ودعوتهم إلى الله وأي فساد أعظم من فساد جوارح عطلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته والمبادرة إلى مرضاته. وبالجملة فما عصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله وأتباعه والمعارضة بينه وبين كلام غيره فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرسول وبما جاء به وموجبا لشدة تمسكهم به ولقد أحسن القائل:
وإذا نظرت إلى أميري زادني نظري له حبا إلى الأمراء
(26/72)
ص -866- الوجه الخامس والثلاثون: هذه القاعدة التي أسسها من عارض بين العقل والنقل تقتضي أن لا ينتفع بخبر الأنبياء في باب الصفات والأفعال أحد من الخاصة والعامة. أما الخاصة فهم مصرحون بأن علم ذلك ومعرفته موكول إلى العقول فما دلت عليه وشهدت به قبل وما خالفها من السمع وجب رده فلم يستفيدوا من جهة الخبر شيئا وإنما استفادوا الحق من جهة العقل المعارض لما أخبرت به الرسل.
وأما العامة فإنهم اعتقدوا ما دل عليه الخبر وهو باطل في نفس الأمر فلم يستفيدوا منه معرفة الحق بل إنما حصلوا على اعتقاد الباطل فأي معاداة لما جاء به الرسول أعظم من هذه
الوجه السادس والثلاثون: إن الرجل إما أن يكون مقرا بالرسل أو جاحدا لرسالتهم فإن كان منكرا فالكلام معه في تثبيت النبوة فلا وجه للكلام معه في تعارض العقل والنقل فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن
(26/73)
ص -867- المعارض فمن لم يقر بالدليل العقلي لم يخاطب في تعارض الدليل العقلي والشرعي.
وكذلك من لم يقر بالدليل الشرعي لم يخاطب في هذا التعارض فمن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلا شرعيا فهذا يتكلم معه في إثبات النبوات أولا وإن كان مقرا بالرسالة فالكلام معه في مقامات:
أحدها: صدق الرسول فيما أخبر به فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنبوة وإن زعم أنه مقر بهما وأن الرسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحق تقريبا إلى أفهامهم ومضمون هذا أنهم كذبوا للمصلحة وهذا حقيقة قول هؤلاء وهو عندهم كذب حسن وإن أقر بأنه صادق فيما أخبر به فالكلام معه في:
المقام الثاني: وهو هل يقر بأنه أخبر بهذا أو لا يقر به فإن لم يقر به جهلا عرف ذلك بما يعرف به أنه ظهر ودعا إلى الله وحارب أعداءه فإن أصر على إنكاره ذلك فقد خرج من جملة العقلاء وأنكر الأمور الضرورية كوجود بغداد ومكة والهند وغيرها وإن أقر بأنه أخبر بذلك فالكلام معه في:
المقام الثالث: وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه
(26/74)
ص -868- ولفظه أو أراد خلافه فإن ادعى أنه أراده فالكلام معه في:
المقام الرابع: وهو أن هذا المراد حق في نفسه أم باطل فإن كان حقا لم يتصور أن يعارضه دليل عقلي البتة وإن كان باطلا انتقلنا معه إلى:
مقام خامس: وهو أنه هل كان يعلم الحق في نفس الأمر أو لا يعلمه فإن قال لم يكن عالما به فقد نسبه إلى الجهل وإن قال كان عالما به انتقلنا معه إلى:
مقام سادس: وهو أنه هل كان يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق كما فعلتم أنتم بزعمكم أو لم يكن ذلك ممكنا له فإن لم يكن ذلك ممكنا له كان تعجيزا له ولمرسله عن أمر قدر عليه أفراخ الفلاسفة وتلامذة اليهود وأوقاح المعتزلة والجهمية وإن كان ممكنا له ولم يفعله كان ذلك غشا للأمة وتوريطا لها في الجهل بالله وأسمائه وصفاته واعتقاد مالا يليق بعظمته فيه وأن الجهمية والمعتزلة وأفراخ اليونان وورثة الصابئين والمجوس هم الذين نزهوا الله سبحانه عما لا يليق به ووصفوه بما يليق به وتكلموا بالحلق الذي كتمه الرسول
(26/75)
ص -869- وهذا أمر لا محيد لكم عنه فاختاروا أي قسم شئتم من هذه الأقسام.
والظاهر أنكم متنازعون في الاختيار وأن عقلاءكم مختارون أن الرسول كان يدري الحق في خلاف ما أخبر به وإن كان قادرا على التعبير عنه ولكن ترك ذلك خشية التنفير فخاطب الناس خطابا جمهوريا يناسب عقولهم بما الأمر بخلافه وهذا أحسن أقوالكم إذا آمنتم بالرسول وأقررتم بما جاء به.
الوجه السابع والثلاثون: إنه إذا جوز أن يكون في العقل ما يعارض ما أخبر به الرسول كان الإيمان الجازم موقوفا على العلم بانتفاء ذلك المعارض ومشروطا به والمشروط بالشيء يعدم عند عدمه ومعلوم أن ما يستخرجه الناس بعقولهم أمر لا غاية له سواء كان حقا أو باطلا فإذا جوز المجوز أن يكون في المعقولات ما يناقض خبر الرسول لم يمكنه أن يثق بشيء من أخبار الرسول لجواز أن يكون في المعقولات
(26/76)
ص -870- التي لم تظهر له بعد ما يناقض خبره فإن قال أنا أقر من السمعيات بما لم ينفه العقل وأثبت من الصفات مالم يخالفه العقل لم يكن لقوله ضابط فإنه وقف التصديق بالسمع على أمر لا ضابط له وما كان مشروطا بعدم أمر لا ينضبط لم ينضبط فلا يبقى مع هذا الأصل إيمان جازم البتة.
ولهذا تجد من تعود معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه إيمان أبدا ولا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بالرسول إيمانا جازما ليس مشروطا بعدم معارض فإذا قال أنا أؤمن بخبره مالم يظهر له معارض يدفعه لم يكن مؤمنا به كما لو قال أنا أشهد أن لا إله إلا الله إلا أن يكون في العقل دليل يدل على إثبات إله آخر أو يقول أنا أؤمن بالمعاد إلا أن يكون في العقل دليل ينفيه أو يقول أنا أؤمن بالرسول إلا أن يكون في العقل ما يبطل رسالته فهذا وأمثاله ليس بمؤمن جازم بإيمانه وأحسن أحواله أن يكون شاكا.
الوجه الثامن والثلاثون: إن طرق العلم الحس والعقل والمركب منهما فالمعلومات ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما يعلم بالعقل
والثاني: ما يعلم بالسمع
والثالث: ما يعلم بالعقل والسمع
وكل منهما ينقسم إلى ضروري ونظري وإلى معلوم ومظنون وموهوم فليس كل ما يحكم به العقل علما بل قد يكون ظنا وقد يكون وهما كاذبا كما أن ما يدركه السمع والبصر كذلك.
(26/77)
ص -871- فلا بد من حكم يفصل بين هذه الأنواع ويميز بين معلومها ومظنونها وموهومها فإذا اتفق العقل والسمع والعقل والحس على قضية كانت معلومة يقينية وإن انفرد بها الحس عن العقل كانت وهمية كما ذكر من أغلاط الحس في رؤية المتحرك أشد الحركة وأسرعها ساكنا والساكن متحركا والواحد اثنين والإثنين واحدا والعظيم الجرم صغيرا والصغير كبيرا والنقطة دائرة وأمثال ذلك.
فهذه الأمور يجزم بغلطها تفرد الحس بها عن العقل وكذلك حكم السمع قد يكون كاذبا وقد يكون صادقا ضرورة ونظرا وقد يكون ظنيا فإذا قارنه العقل كان حكمه علما ضروريا أو نظريا كالعلم بمجرد الأخبار المتواترة فإنه حصل بواسطة السمع والعقل فإن السمع أدى إلى العقل ما سمعه من ذلك والعقل حكم بأن المخبرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فأفاده علما ضروريا أو نظريا على الاختلاف في ذلك بوجود المخبر به والنزاع في كونه ضروريا أو نظريا لفظي لا فائدة فيه.
وكذلك الوهم يدرك أمورا لا يدري صحيحة هي
(26/78)
ص -872- إم باطلة فيردها إلى العقل الصريح فما صححه منها قبله وما حكم ببطلانه رده فهذا أصل يجب الاعتناء به ومراعاته وبه يعلم الصحيح من الباطل فإذا عرف هذا فمعلوم أن السمع الذي دل العقل على صحته أصح من السمع الذي لم يشهد له عقل ولهذا كان الخبر المتواتر أعرف عند العقل من الآحاد وما ذاك إلا لأن دلالة العقل قد قامت على أن المخبرين لا يتواطؤن على الكذب وإن كان الذي أخبروا به مخالفا لما اعتاده المخبر وألفه وعرفه فلا تجد محيدا عن تصديقهم فالأدلة العقلية البرهانية على صدق الرسل وتثبيت نبوتهم أضعاف الأدلة الدالة على صدق المخبرين خبر التواتر فإن أولئك لم يقم على صدق كل واحد منهم دليل وإنما أفاد اجتماعهم على الخبر دليلا على صدقهم والرسل صلاة الله وسلامه عليهم قد قامت البراهين اليقينية على صدق كل فرد منهم وقد اتفقت كلمتهم وتواطأ خبرهم على إثبات العلو والفوقية لله وأنه على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه وأنه مكلم متكلم آمر ناه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويحب ويبغض.
فإفادة خبرهم العلم لمخبره أعظم من إفادة الأخبار المتواترة لمخبرها فإن الأخبار المتواترة مستندة إلى حس قد
(26/79)
ص -873-
يغلط وأخبار الأنبياء مستندة إلى وحي لا يغلط فالقدح فيها بالعقل من جنس شبه السوفسطائية القادحة في الحس والعقل ولو التفتنا إلى كل شبهة يعارض بها الدليل القطعي لم يبق لنا وثوق بشيء نعلمه بحس أو عقل أو بهما يوضحه
الوجه التاسع والثلاثون: إن المعلومات الغائبة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحس والعقل بل لا نسبة بينهما بوجه من الوجوه ولهذا كان إدراك السمع أعم وأشمل من إدراك البصر فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة والعلوم التي لا تدرك بالحس وهذه حجة من فضل السمع على البصر من النظار وغيرهم وخالفهم آخرون فرجحوا البصر على السمع لقوة إدراكه وجزمه بما يدركه وبعده من الغلط وبين الفريقين مباحثات يطول ذكرها قد ذكرها ابن قتيبة وأبو المعالي الجويني وغيرهما.
(26/80)
ص -874- وفصل النزاع بينهما أن ما يدرك بالسمع أعم وأشمل وما يدرك بالبصر أتم وأكمل فهذا له القوة والتمام وذاك له العموم والإحاطة والمقصود أن الأمور الغائبة عن الحس نسبه المحسوس إليها كقطر في بحر ولا سبيل إلى العلم بها إلا بخبر الصادق وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء نبأهم من هذا الغيب بما يشاء وأطلعهم منه على ما لم يطلع عليه غيرهم كما قال تعالى {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران179] وقال تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن26 , 27] وقال تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج75] فهو سبحانه يصطفي من يطلعه من أنباء الغيب على ما لم يطلع عليه غيره ولذلك سمي نبيا من الإنباء
(26/81)
ص -875- وهو الإخبار لأنه مخبر من جهة الله ومخبر عنه فهو منبأ ومنبىء وليس كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون خبرهم بل ولا أكثره ولهذا كان أكمل الأمم علما أتباع الرسل وإن كان غيرهم أحذق منهم في علم الرمل والنجوم والهندسة والسفسطة وعلم الكم المتصل والمنفصل وعلم النبض والقارورة والأبوال ومعرفة قوامها وطعومها ورائحتها ونحوها من العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بها وآثروها على علوم الرسل وما جاءوا به وهي كما قال الواقف على نهاياتها الواصل إلى غاياتها وهي بين ظنون كاذبة وإن بعض الظن إثم وبين علوم غير نافعة نعوذ بالله من علم
(26/82)
ص -876- لا ينفع وإن نفعت فنفعها بالنسبة إلى علوم الأنبياء كنفع العيش العاجل بالنسبة إلى الآخرة ودوامها.
فليس العلم في الحقيقة إلا ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل طلبا وخبرا فهو العلم المزكي للنفوس المكمل للفطر المصحح للعقول الذي خصه الله باسم العلم وسمى ما عارض ظنا لا يغني من الحق شيئا وخرصا وكذبا فقال تعالى {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران61] وشهد لأهله أنهم أولو العلم فقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم56] وقال {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران18] والمراد أولو العلم بما أنزله على رسله ليس إلا وليس المراد أولو العلم بالمنطق والفلسفة وفروعهما.
(26/83)
ص -877- وقال تعالى { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه114] فالعلم الذي أمره باستزادته هو علم الوحي لا علم الكلام والفلسفة والمنطق. وقال تعالى {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء166] أي أنزله وفيه علم لا يعلمه البشر. فالباء للمصاحبة مثل قوله {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود14] أي أنزل وفيه علم الله وذلك من أعظم البراهين على صحة نبوة من جاء به. ولم يصنع شيئا من قال إن المعنى أنزله وهو يعلمه وهذا وأن كان حقا فإن الله يعلم كل شيء فليس في ذلك دليل وبرهان على صحة الدعوى فإن البله يعلم الحق والباطل بخلاف ما إذا كان المعنى أنزله متضمنا لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلا من أطلعه عليه وأعلمه به
(26/84)
ص -878- فإن هذا من أعظم أعلام النبوة والرسالة وقال فيما عارضه من الشبه الفاسدة التي يسميها أربابها قواطع عقلية {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم28] وقال {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [148] وقال لمن أنكر المعاد بعقله {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [الجاثية24] والظن الذي أثبته سبحانه للمعارضين نصوص الوحي بعقولهم ليس هو الاعتقاد الراجح بل هو أكذب الحديث.
وقال {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات10 , 11] وأنت إذا تأملت ما عند هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم رأيته كله خرصا وعلمت أنهم هم الخراصون.
(26/85)
ص -879- وإن العلم في الحقيقة ما نزل به الوحي على الأنبياء والمرسلين وهو الذي أقام الله به حجته وهدى به أنبياءه ورسله وأتباعهم به وأمتن عليه فقال {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [151البقرة , 152] وقال {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء113] وقال {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران164] وقال {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة2]
(26/86)
ص -880- فهذه النعمة والمنة والتزكية إنما هي لمن عرف أن ما جاء به الرسول وأخبر به عن الله وصفاته وأفعاله هو الحق كما أخبر به لا كمن زعم أن ذلك مخالف لصريح العقل وأن العقول مقدمة عليه والله المستعان.
الوجه الأربعون: إن علم الأنبياء وما جاءوا به عن الله لا يمكن أن يدرك بالعقل ولا يكتسب وإنما هو وحي أوحاه الله إليهم بواسطة الملك أو كلام يكلم به رسوله منه إليه بغير واسطة كما كلم موسى وهذا متفق عليه بين جميع أهل الملل المقرين بالنبوة والمصدقين بالرسل وإنما خالفهم في ذلك جهلة الفلاسفة وسفلتهم الذين يقولون إن الأنبياء يعلمون ما يعلمونه بقوة عقلية وهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس ويسمونها القوة القدسية قالوا ويتميز النبي عن غيره بقون التخيل والتخييل فيتخيل الأمور للعقول في الصور المحسوسة ويخيلها إلى الناس في قوالب تلك الصور ويتميز أيضا بقوة النفس فيتصرف بقوتها في مواد العلم وعناصره بقلب بعضها إلى بعض فهذه عندهم خواص النبوة فالأنبياء عندهم من جنس غيرهم من البشر
(26/87)
ص -881- ونبواتهم من جنس صنائع الناس وسياساتهم ورياضاتهم حتى قال أقرب هؤلاء إلى الإسلام اعلم أن أصول الصناعات أربعة صنعة التجارة والحدادة والنساجة والسياسة وأصعبها صنعة السياسة وأصعب هذه الصناعة صناعة النبوة هذا كلامه بعينه في كتابه.
فلما كانت النبوة عندهم في هذه المرتبة كانت علومها وأعمالها من جنس علوم البشر وأعمالهم فالعقل مشترك بينهم وبين كافة العقلاء فلما جاءت الرسل بما لا تدركه عقولهم وليس في قواعدهم ونظرهم ومنطقهم ما يدل عليه قابلوه بالإنكار وقالوا قد تعارض العقل وما جئتم به وإذا تعارض العقل وخبركم فلا سبيل إلى تقديم أخباركم على العقل لأن ذلك يتضمن القدح فيه فهؤلاء هم الذين عارضوا أولا بين العقل والوحي وهم الذين أسسوا هذه القاعدة ووضعوا هذا البناء إذ كانت علوم الأنبياء وعقولهم عندهم من جنس علومهم وعقولهم وربما رجحوا علم الفيلسوف وعقله وبعضهم يرجح النبي من وجه والفيلسوف من وجه فهؤلاء إذا عارضوا بين العقل والنقل ثم قدموا العقل على النقل عملوا بمقتضى أصولهم وقواعدهم أما من عرف الرسل وأمرهم وعلم أن الله أرسلهم وأوحى إليهم من غيبه ما لم يطلع عليه سواهم وأن
(26/88)
ص -882- نسبة عقول العالمين وعلومهم إليهم أقل بكثير من نسبة عقول صبيان المكاتب إلى عقول العقلاء وأن بين ما جاءوا به من عند الله وبين ما عند هؤلاء كما يدخل الرجل أصبعه في اليم والأمر فوق ذلك يوضحه
الوجه الحادي والأربعون: وهو أن يقال لهؤلاء المعارضين بين العقل ونصوص الوحي أخبرونا عن خلق هذا النوع الإنساني من قبضة تراب وعن رجل دعا على قومه أن لا يدع الله منهم على الأرض ديارا فأرسل السماء عليهم وأنبع الماء من تحتهم حتى علا الماء فوق رؤوس شواهق الجبال علوا عظيما ثم ابتلعته الأرض شيئا فشيئا حتى عادت يبسا.
وعن رجل دعا على قومه وهم أعظم الناس أجساما وأشدهم قوة فأرسلت عليهم بدعوته ريح عاصف جعلت تحملهم بين السماء والأرض ثم تدق أعناقهم.
وعن أمة كذبت نبيها وسألوه آية فانفلقت صخرة بمحضر لهم وتمخضت عن ناقة من أعظم النوق قائمة وشكلا وهيئة فلما تمادوا على تكذيبه سمعوا صيحة من
(26/89)
ص -883- السماء قطعت أكبادهم وقلوبهم في أجوافهم فماتوا موتة رجل واحد.
وعن نار عظيمة أوقدت برهة من الدهر حتى كان الطير يمر عليها من عال فيقع مشويا ألقي فيها رجل مكتوفا فصارت عليه بردا وسلاما وعادت روضة خضرا وماء جاريا وعن رجل ألقى عصا في يده فعادت ثعبانا عظيما ابتلع ما بحضرته من حبال وعصي لا يحصيها إلا الله ثم عادت عصا كما كانت وعن يد أدخلها صاحب هذه العصا إلى جيبه ثم أخرجها فإذا لها شعاع كشعاع الشمس وعن ماء انقلب دما في آنيته ومواضعه وعن كثيب عظيم ضربه بعصاه فاستحال قملا كله سلط على أهل بلد عظيم وعن بحر ضربه بعصاه فانفلق إثني عشر طريقا ثم أرسلت عليه الريح والشمس فأيبسته في ساعة وقام الماء بين تلك الطرق كالحياض فلما جاوزه وسلكه آخرون ضربه بعصاه فالتأم عليهم فلم يفلت منهم إنسان وعن جبل قلع من مكانه على قدر عسكر عظيم
(26/90)
ص -884- حتى رفع فوق رؤوسهم وقيل لهم إن تقبلوا ما أمرتم به وإلا أطبق عليكم ثم رد إلى مكانه وعن قوم أمسوا وهم في صور بني آدم فأصبحوا وهم في صور القردة والخنازير.
وعن مدن قلعت من أصولها ثم رفعت في الهواء ثم أفلت بأهلها وجعل عاليها سافلها وأتبعت بمطر من الحجارة وعن رجل ولد من غير أب وامرأة خرجت من غير أم ورجل يمسح على عين الذي ولد أكمه ويدعو الله فإذا به يبصر بعينين كالصحيح ويمسح الأبرص ليبرأ كأن لم يكن به بأس وينفخ في كبة من الطير فينقلب طائرا له لحم ودم وريش وجماعة ينامون في غار ثلثمائة وتسع سنين لم تأكل الأرض لحومهم ثم ينتبهون من نومهم قياما ينظرون وعن رجل أدركه الموت هو وحماره فمكثا مائة عام ثم قام الرجل حيا وشاهد عظام حماره وهي تكسى اللحم ويتصل بعضها ببعض حتى قام الحمار حيا وشاهد طعامه لم يتغير بل هو على حاله وعن قتيل قتل بين ظهراني قوم فأمرهم نبيهم أن يذبحوا البقرة ويضربوه ببعضها ففعلوا فقام القتيل حيا ناطقا وقال فلان قتلني.
(26/91)
ص -885- وعن رسول سأله قومه آية فأومأ إلى القمر فانشق فلقتين وهم يشاهدونهما ثم عاد فالتأم وقدم السفر فأخبروا برؤية ذلك عيانا.
وأنه قبض قبضة من تراب ثم رمى بها في وجوه عسكر لا يلتقي طرفاه فلم يبق منهم أحد إلا ملأت عينه وأنه وضع يده في ماء لا يواريها فعاد الماء حتى ملأوا منه كل قربة وكل وعاء في العسكر الجرار وأن جماعة كثيرة
(26/92)
ص -886- شبعت من برمة بقدر جسم القطا وأن جذعا حن حنين الناقة العشار إلى ولدها إليه وأن الحصى كان يسبح في كفه وكف بعض أصحابه تسبيحا يسمعه الحاضرون وأن الحجر كان يسلم عليه سلاما يسمعه بأذنه وأن بطنه شق من ثغرة نحره إلى أسفله ثم استخرج قلبه فغسل ثم أعيد وهو حي ينظر وأن
(26/93)
ص -887- شجرتين دعا بهما فأقبلتا تجران الأرض حتى قامتا بين يديه فالتزقتا ثم رجعت كل واحدة منها إلى مكانها وأن ذيبا تكلم وأن بقرة
(26/94)
ص -888- تكلمت وأن نبيا كان يأمر بعسكره فيقعد على بساط فرسخ في فرسخ فيأمر الريح فترتفع به بين السماء والأرض فتحمل العسكر على متنها مسيرة شهر مقبلة ومسيرة شهر مدبرة في كل يوم واحد وأنه أمر بسرير عظيم لملكة فشق الأرض وصار بين يديه في اسرع من رد الطرف إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا مما يشاهده الناس بأبصارهم عيانا.
فهل مخالفة الأدلة القطعية لما أخبرت به الأنبياء عن الله أعظم من مخالفتها لهذه الأمور والشبه العقلية التي تذكر على استحالة هذه الأمور أكثر واقوى من الشبه التي يذكرونها في معارضة نصوص الوحي بل لا نسبة بينهما فإذا تعارضت أدلة العقول بزعمكم وهذه الأمور ماذا تصنعون؟
(26/95)
ص -889- أتقدمونها على أدلة العقول فتدخلون في المؤمنين بالله ورسله أم تكذبون بذلك وتقولون العقل يناقض ذلك ويبطله ومعارضة العقل عندكم لهذه الآيات من جنس معارضته لخبر الأنبياء لا فرق بينهما البتة بل الشبه التي يقيمها أعداء الرسل من العقل على بطلان هذه الآيات أقوى من الشبه التي ذكرها الجهمية والنفاة على بطلان ما أخبرت به الرسل من صفات الله وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه وكلامه وتكليمه وقيام أفعاله به.
فعلم أن من قدم ما يظنه من العقل على نصوص الوحي لم يبق معه من الإيمان بالرسل عين ولا أثر ولا حس ولا خبر.
وإذا كان هذا حالهم في الأمور التي قد وقعت وشاهدها الناس بأبصارهم فكيف حالهم في الإيمان ببشر ينزل من السماء بين ملكين واضعا يديه على مناكبهما والناس يرونه عيانا وكيف حالهم في الإيمان بأن الشمس تطلع من
(26/96)
ص -890- مغربها والناس يرونها عيانا وكيف بحالهم إلى غير ذلك مما أخبر به الصادق كدابة تنشق عنها الأرض فتخرج تكلم الناس وتخاطبهم إلى غير ذلك مما يقيمون بعقولهم شبها يسمونها أدلة عقلية تحيل ذلك فمن قدم العقل على الوحي لم يمكنه أن يجزم بصدق شيء من ذلك والله المستعان.
الوجه الثاني والأربعون: إن هؤلاء عكسوا شرعة الله وحكمته وضادوه في أمره فإن الله سبحانه جعل الوحي إماما والعقل مؤتما به وجعله حاكما والعقل محكوما عليه ورسولا والعقل مرسلا إليه وميزانا والعقل موزونا به وقائدا والعقل منقادا له فصاحب الوحي مبعوث وصاحب العقل مبعوث إليه
(26/97)
ص -891- والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي وفكرة وصاحب الوحي ملقى وصاحب العقل كادح طالب هذا يقول أمرت ونهيت وأوحى إلي وقيل لي وما أقول شيئا من تلقاء نفسي ولا من قبل عقلي ولا من جهة فكري ونظري وذاك المتخلف يقول نظرت ورأيت وفكرت وقدرت واستحسنت واستنتجت والمتخلف يقول معي آلة المنطق والكليات الخمس والمقولات العشر والمختلطات والموجهات أهتدي بها والرسول يقول معي كتاب الله وكلامه ووحيه والمتخلف يقول معي العقل والرسول يقول معي نور خالق العقل به أهدي وأهتدي والرسول يقول قال الله كذا قال جبريل عن الله كذا والمتخلف يقول قال أفلاطون قال بقراط قال أرسطو
(26/98)
ص -892- كذا قال ابن سينا قال الفارابي.
فيسمع من الرسول ظاهر التنزيل وصحيح التأويل وشرع سنة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وخبر عن السماء والملائكة واليوم الاخر ويسمع من الآخر الهيولى والصورة والطبيعة والاستقص والذاتي والعرض والجنس والنوع والفصل والخاصة والأيس والليس وعكس النقيض
(26/99)
ص -893- والعكس المستوي وما شاكل هذا مما لا يسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي إلا من رضي لنفسه بما يرضى به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم ورغب فيما رغبوا فيه وبالجملة فهما طريقان متباينان فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء فليعزل نظره عن الوحي ويخلي بينه وبين أهله ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغرز من جاء به ويسلم إليه أعظم من تسليم الصبي لأستاذه ومعلمه بكثير فإن
(26/100)
ص -894- التباين الذي بين النبي وبين صاحب المعقول أضعاف أضعاف التباين الذي بين الصبي والأستاذ.
ومن العجب أن هؤلاء المقدمين عقولهم على الوحي خاضعون لأئمتهم وسلفهم مستسلمون لهم في أمور كثيرة يقولون هم أعلم بها منا وعقولهم أكمل من عقولنا فليس لنا أن نعترض عليهم فكيف يعترض على الوحي بعقله من نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله وجماع الأمر أن قضايا المعقول مشتملة على العلم والظن والوهم وقضايا الوحي كلها حق فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عاجز عرضة للخطأ من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته
الوجه الثالث والأربعون: إن العقل تحت حجر الشرع فيما يطلبه ويأمر به وفيما يحكم به ويخبر عنه فهو محجور عليه في الطلب والخبر وكما أن من عارض أمر الرسل بعقله لم يؤمن بهم وبما جاءوا به فكذلك من عارض خبرهم بعقله ولا فرق بين الأمرين أصلا يوضحه أن الله سبحانه وتعالى حكى عن الكفار معارضة أمره بعقولهم كما حكى عنهم معارضة خبره بعقولهم.
(26/101)
ص -895- أما الأول: ففي قوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة275] فعارضوا تحريمه للربا بعقولهم التي سوت بين الربا والبيع فهذا معارضة النص بالرأي ونظير ذلك مما عارضوا به تحريم الميتة بقياسها على المذكي وقالوا تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله وفي ذلك أنزل الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام121].
(26/102)
ص -896- وعارضوا أمره بتحويل القبلة بعقولهم وقالوا إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركت الحق وإن كانت باطلا فقد كنت على باطل وإمام هؤلاء شيخ الطريقة إبليس عدو الله فإنه أول من عارض أمر الله بعقله وزعم أن العقل يقتضي خلافه.
وأما الثاني وهو معارضة خبره بالعقل فكما حكى سبحانه عن منكري المعاد أنهم عارضوا ما أخبر به عنه بعقولهم فقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس78] وأخبر سبحانه أنهم عارضوا ما أخبر به من التوحيد بعقولهم وعارضوا أخباره عن النبوات بعقولهم وعارضوا بعض الأمثال التي ضربها بعقولهم وعارضوا أدلة نبوة رسوله بمعارضة عقلية وهي قولهم:
(26/103)
ص -897- {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف31]. وأنت إذا صغت هذه المعارضة صوغا مزخرفا وجدتها من جنس معارضة المعقول بالمنقول وعارضوا آيات نبوته بمعارضة عقلية أخرى وهي قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان8 , 7] أي لو كان رسولا لخالق السموات والأرض لما أحوجه أن يمشي بيننا في الأسواق في طلب المعيشة ولأغناه عن أكل الطعام ولأرسل معه ملكا من الملائكة ولألقى إليه كنزا يغنيه عن طلب الكسب وعارضوا شرعه سبحانه ودينه الذي شرعه لهم على لسان رسوله وتوحيده بمعارضة عقلية استندوا فيها على القدر فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام149 , 148].
(26/104)
ص -898- وحكى مثل هذه المعارضة عنهم في سورة النحل وفي الزخرف وإذا تأملتها حق التأمل رأيتها أقوى بكثير من معارضه النفاة آيات الصفات وأخبارهم بعقولهم فإن إخوانهم عارضوا بمشيئة الله الكائنات والمشيئة ثابتة في نفس الأمر والنفاة عارضوا بأصول فاسدة وهم وضعوها من تلقاء أنفسهم أو تلقوها عن أعداء الرسل من الصابئة والمجوس والفلاسفة وهي خيالات فاسدة ووهميات ظنوها قضايا عقلية وبالجملة فمعارضة أمر الرسل وخبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار فهم سلف للخلف بعدهم فبئس السلف وبئس الخلف ومن تأمل معارضة المشركين والكفار للرسل بالعقول وجدها أقوى من معارضة الجهمية والنفاة لخبرهم عن الله وصفاته وعلوه على خلقه وتكليمه لملائكته ورسله بعقولهم فإن كانت تلك المعارضة باطلة فهذه أبطل وإن صحت هذه المعارضة فتلك أولى بالصحة منها وهذا لا محيد لهم عنه يوضحه
الوجه الرابع والأربعون: إن القرآن مملوء من ذكر الصفات والعلو على الخلق والاستواء على العرش وتكلم الله وتكليمه للرسل وإثبات الوجه واليدين والسمع والبصر والحياة والمحبة والغضب
(26/105)
ص -899- والرضى للرب سبحانه وهذا عند النفاة بمنزلة وصفه بالأكل والشرب والجوع والعطش والنوم والموت كل ذلك مستحيل عليه ومعلوم أن أخبار الرسول عنه سبحانه بما هو مستحيل عليه من أعظم المنفرات عنه ومعارضته فيه أسهل من معارضته فيما عداه ولم يعارضه أعداؤه في حرف واحد من هذا الباب ولا أنكروا عليه كلمة واحدة منه مع حرصهم على معارضته بكل ما يقدرون عليه فهلا عارضوه بما عارضته به الجهمية والنفاة وقالوا قد أخبرتنا بما يخالف العقل الصريح فكيف يمكننا تصديقك بل كان القوم على شركهم وضلالهم أعرف بالله وصفاته من النفاة الجهمية وأقرب إلى إثبات الأسماء والصفات والقدر والمشيئة والفعل من شيوخ هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من السيناوية والفارابية والطوسية الذين ليس للعالم عندهم رب يعبد ولا رسول يطاع ولا معاد للخليقة ولا يزيل الله هذا العالم ويأتي بعالم آخر فهذه الأصول قد اشتركت فيها أعداء الرسل وامتازت كفار قريش بإثباتهم الربوبية والصفات والملائكة وخلق العالم وكون الرب فاعلا
(26/106)
ص -900- بمشيئته وقدرته ولهذا لم يعارضوا الرسول في شيء من ذلك.
الوجه الخامس والأربعون: أنه لو جاز أن يكون في العقول ما يناقض خبر الرسول لم يتصور الإيمان به البتة لوجهين:
أحدهما: أنه لا سبيل إلى العلم بانتفاء جميع المعارض وما علق على الممتنع فهو ممتنع.
الثاني: أن تصديقهم والإيمان بهم يكون موقوفا على الشرط والإيمان لا يصح تعليقه بالشرط فلو قال آمنت بالرسول إن أذن لي أبي أو إن أعطيتموني كذا أو إن جعل لي الأمر من بعده ونحو ذلك لم يكن مؤمنا بالاتفاق كما قال مسيلمة إن جعل محمد الأمر لي من بعده آمنت به فلم يصر مؤمنا بذلك وكان من أكفر الكفار فهكذا إذا قال آمنت بما أخبر به إلا ان يعارضه دليل عقلي وهذا حقيقة قول هؤلاء فإن هذا لم يؤمن به باتفاق الأمة وهذا كما أنه كفر في الشرع فهو فاسد في العقل فالواجب على الخلق الإيمان بالرسول إيمانا مطلقا جازما غير معلق على شرط ومن قال أصدق بما صدق عقلي به وأرد ما رده عقلي أو عقل من هو أعقل مني أو مثلي فهو كافر باتفاق الأمة فاسد العقل وهو نظير طائفة من اليهود يقولون نصدق أنه رسول الله حقا ولكن لم يبعث إلينا وإنما بعث إلى العرب فهذا في إنكار عموم رسالته في المرسل إليهم نظير إنكار
(26/107)
ص -901- عموم رسالته في المرسل به فتأمله وهؤلاء شر من الذين قال الله فيهم {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام124] فأولئك وقفوا الإيمان على أن يؤتوا نظير ما جاءت به الرسل وهؤلاء وقفوه على ما يناقض ما جاءت به الرسل.
الوجه السادس والأربعون: إن هذه المعارضة ميراث بالتعصيب من الذين ذمهم الله في كتابه بجدالهم في آياته بغير سلطان وبغير علم وأخبر أن مصدر تلك المجادلة كبر واستكبار عن قبول الحق ممن يرون أنهم أعلم منهم كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر83] وهذا شأن النفوس الجاهلة الظالمة إذا كان عندها شيء من علم قد تميزت به عمن هو أجهل منها وحصل لها به نوع رياسة ومال فإذا جاءها من
(26/108)
ص -902- هو أعلم منها بحيث تمحى رسوم علومها ومعارفها في علمه ومعرفته عارضته بما عندها من العلم وطعنت فيما عنده بأنواع المطاعن قال تعالى {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر35 , 34] وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر56] والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء وقال تعالى {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقّ} [غافر5] وقال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً} [الكهف56] وهذا كثير في القرآن يذم به سبحانه الذين عارضوا كتبه
(26/109)
ص -903- ورسله بما عندهم من الرأي والمعقول والبدع والكلام الباطل مشتق من الكفر فمن عارض الوحي بآراء الرجال كان قوله مشتقا من أقوال هؤلاء الضلال قال مالك أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى النبي لجدله ومن وقف على أصول هؤلاء المعارضين ومصدرها تبين له أنها نشأت من أصلين:
من كبر عن اتباع الحق وهوى معمي للبصيرة وصادمته شبهات كالليل المظلم فكيف لا يعارض من هذا وصفه خبر الأنبياء بعقله وعقل من يحسن به الظن ثم دخلت تلك الشبهات في قلوب قوم لهم دين وعندهم إيمان وخير فعجزوا عن دفعها فاتخذوها دينا وظنوها تحقيقا لما بعث الله به رسوله فحاربوا عليها واستحلوا ممن خالفهم فيها ما حرمه الله ورسوله وهم بين جاهل مقلد ومجتهد مخطىء حسن القصد وظالم معتد متعصب والقيامة موعد الجميع والأمر يومئذ لله.
(26/110)
ص -904- الوجه السابع والأربعون: إن دلالة السمع على مدلوله متفق عليها بين العقلاء وإن اختلفوا في جهتها هل هي قطعية أو ظنية وهل أرادت الرسل إفهام مدلولها واعتقاد ثبوته أم أرادت إفهام غيره وتأويل تلك الأدلة وصرفها عن ظاهرها فلا نزاع بين العقلاء في دلالتها على مدلولها ثم قال أتباع الرسل مدلولها ثابت في نفس الأمر وفي الإرادة وقالت النفاة أصحاب التأويل مدلولها منتف في نفس الأمر وفي الإرادة وقال أصحاب التخييل مدلولها ثابت في الإرادة منتف في نفس الأمر وأما دلالة ما عارضها من العقليات على مدلوله فلم يتفق أربابها على دليل واحد منها بل كل طائفة منهم تقول في أدلة خصومها إن العقل يدل على فسادها لا على صحتها وأهل السمع مع كل طائفة تخالفه في دلالة العقل على فساد قول تلك الطائفة المخالفة للسمع فكل طائفة تدعي فساد قول خصومها بالعقل يصدقهم أهل السمع على ذلك ولكن يكذبونهم في دعواهم صحة قولهم بالعقل فقد تضمنت دعوى الطوائف فسادها بفهم من العقل بشهادة بعضهم على بعض وشهادة أهل الوحي والسمع معهم ولا يقال هذا ينقلب عليكم باتفاق شهادة
(26/111)
ص -905- الفرق كلها على بطلان ما دل عليه السمع وإن اختلفوا في أنفسهم لأن المطلوب أنهم كلهم متفقون على أن السمع دل على الإثبات ولم يتفقوا على أن العقل دل على نقيضه فيمتنع تقديم الدلالة التي لم يتفق عليها على الدلالة المتفق عليها وهو المطلوب.
الوجه الخمسون1: أن يقال كل ما عارض السمع من العقليات ففساده معلوم بالعقل وإن لم يعارض السمع فلسنا متوقفين في إبطاله والعلم بفساده على كونه عارض السمع بل هو باطل في نفسه وفي معارضة السمع له دليل سمعي على بطلانه فقد اتفق على فساده وبطلانه دليل العقل والسمع وما كان هكذا لم يصلح أن يعارض به عقل ولا سمع وتفصيل هذه الجملة ببيان شبهة المخالفين للسمع وبيان فسادها ومخالفتها لصريح العقل وهذا الأمر بحمد الله لم يزل أنصار الرسول يقومون به ويتكفلون ببيانه وهم فيه درجات عند الله على منازلهم من العلم والإيمان والبيان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ظ، م وكتب في هامشهما هكذا في الأصل، فقد ذكر الوجه السابع والأربعين وأتبعه بالوجه الخمسين ولم يذذكر الوجه الثامن والأربعين أو التاسع والأربعين فلعله سقط أو خطأ من الناسخ.
(26/112)
ص -906- ولا ترى مسألة واحدة عورض بها الرسول إلا وقد ردها أنصاره وحزبه وبينوا فسادها وسخافة عقل أربابها المعارضين بها في كل نوع من أنواع العلم وقد أجرى الله سنته وعادته أن يكشف عن عورة المعارض ويفضحه ويخذله في عقله حتى يقول ما يضحك منه الإنسان كما خذل المعارض بكلامه حتى أضحك عليه الناس فيما عارضه به وهذا من إتمام أدلة النبوة وبراهين صحة ا لوحي أن تجد المعارض له يأتي بما يضحك منه العقلاء فلعل قائلا يقول ما جاءت به الرسل قد يكون له معارض صحيح فإذا وقف على المعارض وسخفه وتحقق بطلانه زاده قوة في إيمانه ويقينه وصار ذلك بمثابة رجل ادعى أن معه طيبا ليس مع أحد مثله ولا مثل ريحه فعارضه آخر بأن معه مثله أو أفضل منه فلما أخرجه إذ هو أنتن شيء وأخبثه ريحا ولكن هناك عقول جعلية نشأت في النتن والحشوش فلا تألف غير ما نشأت فيه.
الوجه الحادي والخمسون: إن الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها كإثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه ورؤية العباد له في الآخرة وإثبات الصفات له هي ما علم بالاضطرار أن الرسول جاء بها وعلم بالاضطرار صحة نبوته
(26/113)
ص -907- ورسالته وما علم بالاضطرار امتنع أن يقوم على بطلانه دليل وامتنع أن يكون له معارض صحيح إذ لو جاز أن يكون له معارض صحيح لم يبق لنا وثوق بمعلوم أصلا لا حسي ولا عقلي وهذا يبطل حقيقة الإنسانية بل حقيقة الحيوانية المشتركة بين الحيوانات فإن لها تميزا وإدراكا للحقائق بحسبها وهذا الوجه في غاية الظهور غني بنفسه عن التأمل وهو مبني على مقدمتين قطعيتين إحداهما أن الرسول أخبر عن الله بذلك والثانية أنه صادق ففي أي المقدمتين يقدح المعارض بين العقل والنقل.
الوجه الثاني والخمسون: إن دليل العقل هو إخباره عن الذي خلقه وفطره أنه وضع فيه ذلك وعلمه إياه وأرشده إليه.
ودليل السمع هو الخبر عن الله أنه قال ذلك وتكلم به وأوحاه وعرف به الرسول وأمره أن يعرف الأمة ويخبرهم به ولا يكون أحدهما صحيحا حتى يكون الآخر مطابقا لمخبره وأن الأمر كما أخبر به وحينئذ فقد شهد العقل لخبر الرسول بأنه صدق وحق فعلمنا مطابقته لمخبره بمجموع الأمرين بخبر الرسول به وشهادة العقل الصريح بأنه لا يكذب في خبره وأما خبر العقل عن الله بما يضاد ذلك بأن الله وضع فيه ذلك وعلمه إياه فلم يشهد
(26/114)
ص -908- له الرسول بصحة هذا الخبر بل شهد ببطلانه فليس معه إلا شهادته لنفسه بأنه صادق فيما أخبر به فكيف يقبل شهادته لنفسه مع عدم شهادة الرسول له فكيف مع تكذيبه إياه فكيف مع تكذيب العقل الصريح المؤيد بنور الوحي له فكيف مع تهاتر أصحابه وتكاذبهم وتناقضهم يزيده إيضاحا:
الوجه الثالث والخمسون: وهو أن الأدلة السمعية نوعان نوع دل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي فهو عقلي سمعي ومن هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد ما تقدم التنبيه على اليسير جدا منه وإذا تدبرت القرآن رأيت هذا أغلب النوعين عليه وهذا النوع يمتنع أن يقوم دليل صحيح على معارضته لاستلزامه مدلوله وانتقال الذهن فيه من الدليل إلى المدلول ضروري وهو أصل للنوع الثاني الدال بمجرد الخبر فالقدح في النوعين بالعقل ممتنع بالضرورة أما الأول فلما تقدم وأما الثاني فلإستلزام القدح فيه القدح في العقل الذي أثبته
(26/115)
ص -909- وإذا بطل العقل الذي أثبت السمع بطل ما عارضه من العقليات كما تقدم تقريره يوضحه:
الوجه الرابع والخمسون: إنه ليس في القرآن صفة إلا وقد دل العقل الصريح على إثباتها لله فقد تواطأ عليها دليل العقل ودليل السمع فلا يمكن أن يعارض بثبوتها دليل صحيح البتة لا عقلي ولا سمعي بل إن كان المعارض سمعيا كان كذبا مفترى أو مما أخطأ المعارض في فهمه وإن كان عقليا فهو شبه خيالية وهمية لا دليل عقلي برهاني وأعلم أن هذه دعوى عظيمة ينكرها كل جهمي وناف وفيلسوف وقرمطي وباطني ويعرفها من نور الله قلبه بنور الإيمان وباشر قلبه معرفة الذي دعت إليه الرسل وأقرت به الفطر وشهدت به العقول الصحيحة المستقيمة لا المنكوسة الموكوسة التي نكست قلوب أصحابها فرأت الحق باطلا والباطل حقا والهدى ضلالة والضلالة هدى وقد نبه الله سبحانه في كتابه على ذلك وأرشد إليه ودل عليه في غير موضع منه وبين أن ما وصف به نفسه هو الكمال الذي لا يستحقه سواه فجاحده جاحد لكمال الرب فإنه يمدح بكل صفة وصف بها نفسه وأثنى بها على نفسه ومجد بها نفسه وحمد بها نفسه فذكرها سبحانه على وجه المدحة له والتعظيم
(26/116)
ص -910- والتمجيد وتعرف بها إلى عباده ليعرفوا كماله وعظمته ومجده وجلاله وكثيرا ما يذكرها عند ذكر آلهتهم التي عبدوها من دونه وجعلوها شركاء له فيذكر سبحانه من صفات كماله وعلوه على عرشه وتكلمه وتكليمه وإحاطة علمه ونفوذ مشيئته ما هو منتف عن آلهتهم فيكون ذلك من أدل الدليل على بطلان آلهيتها وفساد عبادتها من دونه ويذكر ذلك عند دعوته عباده إلى ذكره وشكره وعبادته.
فيذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما يجذب قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته والمسارعة إلى طاعته والتنافس في القرب منه ويذكر صفاته أيضا عند ترغيبه لهم وترهيبه وتخويفه ليعرف القلوب من تخافه وترجوه وترغب إليه وترهب منه ويذكر صفاته أيضا عند أحكامه وأوامره ونواهيه فقل أن تجد آية حكم من أحكام المكلفين إلا وهي مختتمة بصفة من صفاته أو صفتين وقد يذكر الصفة في أول الآية ووسطها وآخرها كقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة1] فيذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله عنه ويذكرها
(26/117)
ص -911- عند سؤالهم له عن أحكامه حتى إن الصلاة لا تنعقد إلا بذكر أسمائه وصفاته فذكر أسمائه وصفاته روحها وسرها يصحبها من أولها إلى آخرها وإنما أمر بإقامتها ليذكر بأسمائه وصفاته وأمر عباده أن يسألوه بأسمائه وصفاته ففتح لهم باب الدعاء رغبا ورهبا ليذكره الداعي بأسمائه وصفاته فيتوسل إليه بها ولهذا كان أفضل الدعاء وأجوبه ما توسل فيه الداعي إليه بأسمائه وصفاته قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف180] وكان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين آية الكرسي وفاتحة آل عمران لاشتمالهما على صفة الحياة
(26/118)
ص -912- المصححة لجميع الصفات وصفة القيومية المتضمنة لجميع الأفعال ولهذا كانت سيدة آي القرآن وأفضلها ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأنها أخلصت للخبر عن الرب تعالى وصفاته دون خلقه وأحكامه وثوابه وعقابه وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم" وسمع آخر يدعو "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي
(26/119)
ص -913- لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" فقال لأحدهما "لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" وقال للآخر "سل تعطه" وذلك لما تضمنه هذا الدعاء من أسماء الرب وصفاته وأحب ما دعاه الداعي به أسماؤه وصفاته وفي الحديث الصحيح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا" قالوا أفلا نتعلمهن يا رسول الله قال "بلى ينبغي لمن
(26/120)
ص -914- يسمعهن أن يتعلمهن".
وقد نبه سبحانه على إثبات صفاته وأفعاله بطريق المعقول فاستيقظت لتنبيهه العقول الحية واستمرت على رقدتها العقول الميتة فقال الله تعالى في صفة العلم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك14] فتأمل صحة هذا الدليل مع غاية إيجاز لفظه واختصاره وقال سبحانه {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل17] فما أصح هذا الدليل وما أوجزه وقال تعالى في صفة الكلام {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف148] نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم ولا يهدي لا يصلح أن يكون آلها وكذلك قوله في الآية الأخرى عن العجل:
(26/121)
ص -915- {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه89] فجعل امتناع صفة الكلام والتكليم وعدم ملك الضر والنفع دليلا على عدم الإلهية وهذا دليل عقلي سمعي على أن الإله لا بد أن يكلم ويتكلم ويملك لعابده الضر والنفع وإلا لم يكن إلها وقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد10 , 8] نبهك بهذا الدليل العقلي القاطع أن الذي جعلك تبصر وتتكلم وتعلم أولى أن يكون بصيرا متكلما عالما فأي دليل عقلي قطعي أقوى من هذا وأبين وأقرب إلى المعقول وقال تعالى في آلهة المشركين المعطلين: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف195] فجعل سبحانه عدم البطش والمشي والسمع والبصر دليلا على عدم إلهية من عدمت فيه هذه الصفات فالبطش والمشي من أنواع الأفعال والسمع والبصر من أنواع الصفات.
(26/122)
ص -916- وقد وصف نفسه سبحانه بضد صفة أربابهم وبضد ما وصفه به المعطلة والجهمية فوصف نفسه بالسمع والبصر والفعل باليدين والمجيء والإتيان وذلك ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصفات عليها منافيا لإلهيتها فتأمل آيات التوحيد والصفات في القرآن على كثرتها وتفننها واتساعها وتنوعها كيف تجدها كلها قد أثبتت الكمال للموصوف بها وأنه المتفرد بذلك الكمال فليس له فيه شبه ولا مثال وأي دليل في العقل أوضح من إثبات الكمال المطلق لخالق هذا العالم ومدبره وملك السموات والأرض وقيومها فإذا لم يكن في العقل إثبات جميع أنواع الكمال له فأي قضية تصح في العقل بعد هذا ومن شك في أن صفة السمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والقدرة والغضب والرضا والفرح والرحمة والرأفة كمال فهو ممن سلب خاصة الإنسانية وانسلخ من العقل بل من شك أن إثبات الوجه واليدين وما أثبته لنفسه معهما كمال فهو مؤوف مصاب في عقله ومن شك أن كونه يفعل باختياره ما يشاء ويتكلم إذا شاء وينزل إلى حيث شاء ويجيء إلى حيث شاء كمال فهو جاهل بالكمال والجامد عنده أكمل من الحي الذي تقوم به الأفعال الاختيارية كما أن عند شقيقه الجهمي
(26/123)
ص -917- أن الفاقد لصفات الكمال أكمل من الموصوف بها كما أن عند أستاذهما وشيخهما الفيلسوف أن من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا له حياة ولا قدرة ولا إرادة ولا فعل ولا كلام ولا يرسل رسولا ولا ينزل كتابا ولا يتصرف في هذا العالم بتحويل وتغيير وإزالة ونقل وإماتة وإحياء أكمل ممن يتصف بذلك فهؤلاء كلهم قد خالفوا صريح المعقول وسلبوا الكمال عمن هو أحق بالكمال من كل ما سواه ولم يكفهم ذلك حتى جعلوا الكمال نقصا وعدمه كمالا فعكسوا الأمر وقلبوا الفطر وأفسدوا العقول فتأمل شبههم ا لباطلة وخيالاتهم الفاسدة التي عارضوا بها الوحي هل تقاوم هذا الدليل الدال على إثبات الصفات والأفعال للرب سبحانه ثم اختر لنفسك بعد ما شئت.
وهذا قطرة من بحر نبهنا به تنبيها يعلم به اللبيب ما وراءه وإلا فلو أعطينا هذا الموضع حقه وهيهات أن يصل إلى ذلك علمنا أو قدرتنا لكتبنا فيه عدة أسفار وكذا كل وجه من هذه الوجوه فإنه لو بسط وفصل لاحتمل سفرا أو أكثر والله المستعان وبه التوفيق.
الوجه الخامس والخمسون: إن غاية ما ينتهي إليه من ادعى معارضة العقل للوحي أحد أمور أربعة لا بد له منها إما تكذيبها وجحدها وإما اعتقاد أن الرسل خاطبوا الخلق بها خطابا جمهوريا
(26/124)
ص -918- لا حقيقة له وإنما أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال وإما اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن حقائقها وما تدل عليه إلى المجازات والاستعارات وإما الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلا الله فهذه أربع مقامات وقد ذهب إلى كل مقام منها طوائف من بني آدم.
المقام الأول: مقام التكذيب والجحد وهؤلاء استراحوا من كلفة النصوص والوقوع في التجسيم والتشبيه وخلعوا ربقة الإيمان من أعناقهم وقالوا لسائر الطوائف منكم إلى هذه النصوص وأما نحن فلسنا منها في شيء لأن عقولنا لما عارضتها دفعناها في صدر من جاء بها وقابلناه بالتكذيب.
المقام الثاني: مقام أهل التخييل قالوا إن الرسل لم يمكنهم مخاطبة الخلق بالحق في نفس الأمر فخاطبوهم بما يخيل إليهم وضربوا لهم الأمثال وعبروا عن المعاني المعقولة بالأمور القريبة من الحس وسلكوا ذلك في باب الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته واليوم الاخر وأقروا باب الطلب على حقيقته ومنهم من سلك هذا المسلك في الطلب أيضا وجعل الأمر والنهي أمثالا وإشارات ورموزا فهم ثلاث فرق هذه إحداها.
(26/125)
ص -919- والثانية: سلكت ذلك في الخبر دون الأمر
والثالثة: سلكت ذلك في الخبر عن الله وصفاته دون المعاد والجنة والنار وذلك كله إلحاد في أسماء الرب وصفاته ودينه واليوم الاخر والملحد لا يتمكن من الرد على الملحد وقد وافقه في الأصل وإن خالفه في فروعه فلهذا استطال على هؤلاء الملاحدة كابن سينا وأتباعه غاية الاستطالة وقالوا القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص الصفات.
قالوا بل الأمر فيها أسهل من نصوص الصفات لكثرتها وتنوعها وتعدد طرقها وإثباتها على وجه يتعذر معه التأويل فإذا كان الخطاب بها خطابا جمهوريا فنصوص المعاد أولى قال فإن قلتم نصوص الصفات قد عارضها ما يدل على انتفائها من العقل قلنا ونصوص المعاد قد عارضها من العقل ما يدل على انتفائها ثم ذكر العقليات المعارضة للمعاد بما يعلم به العاقل أن العقليات المعارضة للصفات من جنسها أو أضعف منها.
المقام الثالث: مقام أهل التأويل قالوا لم يرد منا اعتقاد حقائقها وإنما أريد منا تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها وحقيقتها فتكلفوا لها وجوه التأويلات المستكرهة والمجازات
(26/126)
ص -920- المستنكرة التي يعلم العقلاء أنها أبعد شيء عن احتمال ألفاظ النصوص لها وأنها بالتحريف أشبه منها بالتفسير.
والطائفتان اتفقتا على أن الرسول لم يبين الحق للأمة في خطابه لهم ولا أوضحه بل خاطبهم بما ظاهره باطل ومحال ثم اختلفوا فقال أصحاب التخييل أراد منهم اعتقاد خلاف الحق والصواب وإن كان في ذلك مفسدة فالمصلحة المترتبة عليه أعظم من المفسدة التي فيه وقال أصحاب التأويل بل أراد منا أن نعتقد خلاف ظاهره وحقيقته ولم يبين لنا المراد تعريضا لنا إلى حصول الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر وإعمال الفكر في معرفة الحق بعقولنا وصرف تلك الألفاظ عن حقائقها وظواهرها لننال ثواب الاجتهاد والسعي في ذلك فالطائفتان متفقتان على أن ظاهر خطاب الرسول ضلال وكفر وباطل وأنه لم يبين الحق ولا هدى إليه الخلق.
المقام الرابع: مقام اللاأدرية الذين يقولون لا ندري معاني هذه الألفاظ ولا ما أريد منها ولا ما دلت عليه وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السلف وهي التي يقول المتأولون إنها أسلم ويحتجون عليها بقوله تعالى:
(26/127)
ص -921- {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران7] ويقولون هذا هو الوقف التام عند جمهور السلف وهو قول أبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وغيرهم من السلف والخلف وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصحابة والتابعون لهم بإحسان بل يقرأون كلاما لا يعقلون معناه ثم هم متناقضون أفحش تناقض فإنهم يقولون تجري على ظاهرها وتأويلها باطل ثم يقولون لها تأويل لا يعلمه إلا الله وقول هؤلاء أيضا باطل فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور وحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان وهؤلاء طرقوا لأهل الإلحاد والزندقة والبدع أن يستنبطوا الحق من عقولهم وآرائهم فإن النفوس طالبة لمعرفة هذا الأمر أعظم طلب والمقتضى التام لذلك فيها موجود فإذا قيل لها إن ألفاظ القرآن والسنة في ذلك لها تأويل لا يعلمه إلا الله
(26/128)
ص -922- ولا يعلم أحد معناها وما أريد بها وما دلت عليه فروا إلى عقولهم ونظرهم وآرائهم فسد هؤلاء باب الهدى والرشاد وفتح أولئك باب الزندقة والبدعة والإلحاد وقالوا قد أقررتم بأن ما جاءت به الرسل في هذا الباب لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء فإنا نحن نعلم ما نقوله ونثبته بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا تأويل ما قالوه ولا بينوا مراد المتكلم به وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك من الخطأ في العقل وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله فإن التأويل في عرف السلف المراد به التأويل في مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف53] وقوله تعالى {لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء59] وقول يوسف {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف100] وقول يعقوب {ويعلمك من تأويل الأحاديث} [يوسف6] وكذلك
(26/129)
ص -923- {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف45] وقال يوسف {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف37] فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به والمنهي عنه كما قال ابن عيينة السنة تأويل الأمر والنهي وقالت عائشة كان رسول الله يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يتأول القرآن وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة الاستواء معلوم والكيف مجهول
(26/130)
ص -924- وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهما من السلف إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه وقد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه وقال إنهم تأولوها على غير تأويلها وبين معناها وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي وإن لم يعلموا الكيفية كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته فمن قال من السلف إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهو حق وأما من قال إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله فهذا غلط والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها وقال عبدالله بن مسعود ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت وقال الحسن البصري ما أنزل الله آية إلا
(26/131)
ص -925- وهو يحب أن يعلم ما أراد بها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه وقال الشعبي ما ابتدع قوم بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها والمقصود أن من ادعى معارضة العقل للسمع لا بد له أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة وأسلمها هذا المسلك الرابع وقد علمت بطلانه وإنما كان أقل بطلانا لأنه لا يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله فإن صاحبه يقول لا أفهم من هذه النصوص شيئا ولا أعرف المراد بها وأصحاب تلك المسالك تتضمن أقوالهم تكذيب الله ورسوله أو الإخبار عن النصوص بالتكذيب وبالله التوفيق.
الوجه السادس والخمسون: إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة تحتمل معاني متعددة ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها
(26/132)
ص -926- بحق وباطل فبما فيها من الحق يقبل من لم يحط بها علما ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع كلها فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لما قبلت ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها ولو كانت حقا محضا لم تكن بدعة وكانت موافقة للسنة ولكنها تشتمل على حق وباطل ويلتبس فيها الحق بالباطل كما قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة42] فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان معنى صحيح ومعنى باطل فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ.
وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان هو حق من أحدهما وباطل من الآخر فيوهم إرادة الوجه
(26/133)
ص -927- الصحيح ويكون مراده الباطل فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ولا سيما إذا صادفت أذهانا مخبطة فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه وأن لا يوقعك في هذه الظلمات قال الإمام أحمد في خطبة كتابه في الرد على الجهمية الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بكتاب الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون
(26/134)
ص -928- للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين وهذه الخطبة تلقاها الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أو وافقه فيها فقد ذكرها محمد بن وضاح في أول كتابه في الحوادث والبدع فقال حدثنا أسد ثنا رجل يقال له يوسف ثقة عن أبي عبدالله الواسطي رفعه إلى عمر بن الخطاب أنه قال الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله أهل العمى كم من قتيل لإبليس قد أحيوه وضال تائه قد هدوه بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم وما نسيهم ربك وما كان ربك نسيا جعل قصصهم هدى
(26/135)
ص -929- وأخبر عن حسن مقالاتهم فلا تقصر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة اه.
فقوله يتكلمون بالمتشابه من الكلام هو الذي له وجهان يخدعون به جهال الناس كما ينفق أهل الزغل النقد المغشوش الذي له وجهان يخدعون به من لم يعرفه من الناس فلا إله إلا الله كم قد ضل بذلك طوائف من بني آدم لا يحصيهم إلا الله واعتبر ذلك بأظهر الألفاظ والمعاني في القرآن والسنة وهو التوحيد الذي حقيقته إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عن أضدادها وعبادته وحده لا شريك له فاصطلح أهل الباطل على وضعه للتعطيل المحض ثم دعوا الناس إلى التوحيد فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم وظن أن ذلك التوحيد هو الذي دعت إليه الرسل والتوحيد اسم لستة معان توحيد الفلاسفة وتوحيد الجهمية وتوحيد القدرية الجبرية وتوحيد الاتحادية فهذه الأربعة أنواع من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها ودل على بطلانها العقل والنقل فأما توحيد الفلاسفة فهو إنكار ماهية الرب
(26/136)
ص -930- الزائدة على وجوده وإنكار صفات كماله وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا كلام ولا وجه ولا يدين وليس فيه معنيان متميز أحدهما عن الآخر البتة قالوا لأنه لو كان كذلك لكان مركبا وكان جسما مؤلفا ولم يكن واحدا من كل وجه فجعلوه من جنس الجوهر الفرد الذي لا يحس ولا يرى ولا يتميز منه جانب عن جانب بل الجوهر الفرد يمكن وجوده.
وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده فلما اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد وسمعوا قوله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة163] وقوله {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة73]
نزلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحي وقالوا لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة أو علم أو حياة أو قدرة أو سمع أو بصر لم يكن واحدا وكان مركبا مؤلفا فسموا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء وهو التوحيد وكسوه ثوبه وسموا أصح الأشياء وأحقها بالثبوت وهو صفات الرب ونعوت كماله بأقبح الأسماء وهو التركيب والتأليف فتولد من بين هذه التسمية
(26/137)
ص -931- المنكرة للمعنى الصحيح وتلك التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحد حقائق أسماء الرب وصفاته بل وجحد ماهيته وذاته وتكذيب رسله ونشأ من نشأ على اصطلاحهم من إعراضه عن استفادة الهدى والحق من الوحي فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه فجعله أصلا لدينه فلما رأى ما جاءت به الرسل يعارضه قال إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل.
التوحيد الثاني: توحيد الجهمية وهو مشتق من توحيد الفلاسفة وهو نفي صفات الرب كعلمه وكلامه وسمعه وبصره وحياته وعلوه على عرشه ونفي وجهه ويديه وقطب رحى هذا التوحيد جحد حقائق أسمائه وصفاته.
التوحيد الثالث: توحيد القدرية الجبرية وهو إخراج أفعال العباد أن تكون فعلا لهم وأن تكون واقعة بكسبهم أو إرادتهم بل هي نفس فعل الله فهو الفاعل لها دونهم فنسبتها إليهم وأنهم فعلوها مناف للتوحيد عندهم.
التوحيد الرابع: توحيد القائلين بوحدة الوجود وأن الوجود عندهم واحد ليس عندهم وجودان قديم وحادث وخالق ومخلوق وواجب وممكن بل الوجود
(26/138)
ص -932- عندهم واحد بالعين والذي يقال له الخلق المشبه هو الحق المنزه والكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة.
فهذه الأنواع الأربعة سماها أهل الباطل توحيدا فاعتصموا بالاسم من إنكار المسلمين عليهم وقالوا نحن الموحدون ودعوا الناس إلى الباطل باسم التوحيد فجعلوه جنة وترسا ووقاية وسموا التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنبياءه تركيبا وتجسيما وتشبيها وجعلوا هذه الألقاب له سهاما وسلاحا يقاتلون بها أهله فتترسوا بما عند أهل الحق من الأسماء الصحيحة وقاتلوهم بالأسماء الباطلة التي سموا بها ما بعث الله به رسوله فقاتلوهم باسم التركيب والتجسيم والتشبيه وتترسوا منهم باسم التوحيد والتنزيه وقد قال جابر في الحديث الصحيح في حجة الوداع فأهل رسول الله بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك فهذا توحيد الرسول المتضمن لإثبات صفات الكمال التي يستحق عليها الحمد ولإثبات الأفعال التي استحق بها أن يكون منعما ولإثبات القدرة والمشيئة والإرادة والتصرف والغضب والرضا والغنى والجود الذي هو حقيقة ملكه وعند
(26/139)
ص -933- الفلاسفة والجهمية والمعطلة لا حمد له في الحقيقة ولا نعمة ولا ملك والله يعلم أنا لم نجازف في نسبة ذلك إليهم بل هو حقيقة قولهم فأي حمد لمن لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يتكلم ولا يفعل ولا هو في هذا العالم ولا خارج عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يسرته وأي نعمة لمن لا يقوم به فعل البتة وأي ملك لمن لا وصف له ولا فعل فانظر إلى توحيد الرسل وتوحيد من خالفهم ومن العجب أنهم سموا توحيد الرسل شركا وتجسيما وتشبيها مع أنه غاية الكمال وسموا تعطيلهم واتحادهم ونفيهم توحيدا وهو غاية النقص ثم نسبوا اتباع الرسل إلى نقص الرب وقد سلبوه كل كمال وزعموا أنهم أثبتوا له الكمال وقد نزهوه عنه فهذا توحيد الملاحدة والجهمية والمعطلة.
وأما توحيد الرسل: فهو إثبات صفات الكمال له سبحانه وإثبات كونه فاعلا بمشيئته وقدرته واختياره وأن له فعلا حقيقة وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويخاف ويرجى ويتوكل عليه فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذل وليس لخلقه من دونه وكيل ولا ولي ولا شفيع ولا واسطة بينه وبينهم في رفع حوائجهم إليه وفي تفريج كرباتهم وإغاثة لهفاتهم وإجابة دعواتهم وبينه
(26/140)
ص -934- وبينهم واسطة في تبليغ أمره ونهيه وخبره إليهم فلا يعرفون ما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ولا حقائق أسمائه وتفصيل ما يجب له ويمتنع عليه ويوصف به إلا من جهة هذه الواسطة فجاء هؤلاء الملاحدة فعكسوا الأمر وقلبوا الحقائق فنفوا كون الرسل وسائط في ذلك وقالوا تلقى بواسطة العقل ونفوا حقائق أسمائه وصفاته وقالوا هذا التوحيد.
فهذا توحيدهم وهذا إيمانهم بالرسل ويقولون نحن ننزهه عن الأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة فلا يشك أنهم يمجدونه ويعظمونه ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد وتكذيب الرسل وتعطيل الرب تعالى عما يستحقه من كماله فتنزيهه عن الأعراض هو جحد صفاته كسمعه وبصره وحياته وعلمه وكلامه وإرادته فإن هذه أعراض لا تقوم إلا بجسم فلو كان متصفا بها لكان جسما وكانت أعراضا له وهو منزه عن الأعراض وأما الأغراض فهي الغاية والحكمة التي لأجلها يفعل ويخلق ويأمر وينهى
(26/141)
ص -935- ويثيب ويعاقب وهي الغايات المحمودة المطلوبة له من أمره ونهيه وفعله فيسمونها عللا وأغراضا ثم ينزهونه عنها.
وأما الأبعاض: فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس له وجه ولا يدان ولا يمسك السموات على أصبع والأرض على أصبع والشجر على أصبع والماء على أصبع فإن ذلك كله أبعاض والله منزه عن الأبعاض وأما الحدود والجهات فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار إليه أعلم الخلق به ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا رفع المسيح إليه ولا عرج برسوله محمد إليه إذ لو كان ذلك للزم إثبات الحدود والجهات له وهو منزه عن ذلك وأما حلول الحوادث فيريدون به أنه لا يتكلم بقدرته وميشئته ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ولا يغضب بعد أن كان راضيا ولا يرضى بعد أن كان غضبان ولا يقوم به فعل البتة ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن مريدا له ولا يقول له كن حقيقة ولا استوى على
(26/142)
ص -936- عرشه بعد أن لم يكن مستويا عليه ولا يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا لهم ولا يقول للمصلي إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة2] حمدني عبدي فإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة3] قال أثنى علي عبدي وإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة4] قال مجدني عبدي فإن هذه كلها حوادث وهو منزه عن حلول الحوادث وبعضهم يختصر العبارة ويقول أنا أنزهه عن التعدد والتحدد والتجدد فيتوهم السامع الجاهل بمراده أنه ينزهه عن تعدد الآلهة وعن تحدد محيط به حدود وجودية تحصره وتحويه كتحدد البيت ونحوه وعن تجدد إلهيته وربوبيته ومراده بالتعدد الذي ينزه عنه تعدد أسمائه وصفاته وأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا ولا يتكلم ومراده بالتحدد أنه ليس فوق
(26/143)
ص -937- خلقه ولا هو مستو على عرشه ولا فوق العرش إله يعبد وليس فوق العرش إلا العدم.
ومراده بالتجدد أنه لا يقوم به فعل ولا إرادة ولا كلام بمشيئته وقدرته وبعضهم يقتصر على حرفين فيقول نحن ننزهه عن التكثر والتغير فيتوهم السامع تكثر الآلهة وتغيره سبحانه واستحالته من حال إلى حال وحقيقة هذا التنزيه أنه لا صفة له ولا فعل.
وكذلك قول الجهمية: نحن نثبت قديما واحدا ومثبتو الصفات يثبتون عدة قدماء قال والنصارى أثبتوا ثلاثة قدماء مع الله بفكرهم فكيف من أثبت سبعة قدماء أو أكثر فانظر إلى هذا التلبيس والتدليس الذي يوهم السامع أنهم أثبتوا قدماء مع الله وإنما أثبتوا قديما واحدا بصفاته وصفاته داخلة في مسمى اسمه.
إنما أثبتوا إلها واحدا ولم يجعلوا كل صفة من صفاته إلها بل هو الإله الواحد بجميع أسمائه وصفاته وهذا بعينه متلقى عن عباد الأصنام المشركين بالله المكذبين لرسوله حيث قالوا يدعو محمد إلى إله واحد ثم يقول يا الله يا رحمن يا سميع يا بصير فيدعو آلهة متعددة فأنزل الله عز وجل:
(26/144)
ص -938- {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء110] أي إنكم إنما تدعون إلها واحدا له الأسماء الحسنى فأي اسم دعوتموه فإنما دعوتم المسمى بذلك الاسم فأخبر سبحانه أنه إله واحد وإن تعددت أسماؤه الحسنى المشتقة من صفاته ولهذا كانت حسنى وإلا فلو كانت كما يقول الجاحدون لكماله أسماء محضة فارغة من المعاني ليس لها حقائق لم تكن حسنى ولكانت أسماء الموصوفين بالصفات والأفعال أحسن منها فنزلت الآية على توحيد الذات وكثرة النعوت والصفات ومن ذلك قول هؤلاء المعطلة أخص صفات الإله القديم فإذا أثبتم معه صفات قديمة لزم أن تكون آلهة فلا يكون الإله واحدا بل يكون لكم آلهة متعددة فيقال لهؤلاء المدلسين الملبسين على أمثالهم من أشباه الأنعام المحذور الذي نفاه العقل والشرع والفطرة وأجمعت الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على بطلانه أن يكون مع الله آلهة أخرى لا أن يكون إله العالمين الواحد القهار حيا قيوما سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه له الأسماء الحسنى والصفات العلى فلم ينف العقل والشرع والفطرة أن يكون للإله الواحد صفات كمال ونعوت جلال يختص بها لذاته فلبستم على المخدوعين
(26/145)
ص -939- المغرورين وأوهمتموهم أنه لو كان فوق عرشه موصوفا بصفات الكمال يرى بالأبصار عيانا يوم القيامة لم يكن إلها واحدا وكان هناك آلهة متعددة وقدماء متغايرة وأعراض وأبعاض وحدود وجهات وتكثر وتغير وتحدد وتجرد وتجسم وتشبيه وتركيب وأكثر الناس إذا سمعوا هذه الألفاظ نفرت عقولهم من مسماها ونبت أسماعهم عنها وقد علم المؤمنون المصدقون للرسول العارفون بالله وصفاته وأسمائه أنكم توسلتم بها إلى نفي صفاته وأفعاله وحقائق أسمائه فلم ترفعوا بها رأسا ولم تروا لها حرمة ولم ترقبوا فيها ذمة وغرت ضعاف العقول الجاهلين بحقائق الإيمان فضلوا بها وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
فلفط الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فتكون له حرمة الإثبات ولا نفيا فيكون له إلغاء النفي فمن أطلقه نفيا أو إثباتا سئل عما أراد به فإن قال أردت الجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه ولا يقال للهواء جسم لغة ولا للنار ولا للماء فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا فهذا المعنى منفي عن الله عقلا وسمعا وإن أردتم به المركب من المادة والصورة أو المركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعا
(26/146)
ص -940- والصواب نفيه عن الممكنات أيضا فليس الجسم المخلوق مركبا من هذا ولا من هذا.
وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب فهذه المعاني ثابتة للرب تعالى وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصب ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريا ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية.
ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسما مشبها.
فإن كان تجسيما ثبوت استوائه على عرشه إني إذا لمجسم
وإن كان تشبيها ثبوت صفاته فمن ذلك التشبيه لا أتكتم
وإن كان تنزيها جحود استوائه وأوصافه أو كونه يتكلم
فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا بتوفيقه والله أعلى وأعلم
(26/147)
ص -941- ورضي الله عن الشافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله
يا راكبا قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفها والناهض
إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافض
ورضي الله عن شيخنا إذ يقول
فإن كان نصبا ولاء الصحاب فإني كما زعموا ناصبي
وإن كان رفضا ولاء آله فلا برح الرفض من جانبي
هذا كله كأنه مأخوذ من قول الأول
وعيرني الواشون أني أحبها وذلك ذنب لست منه أتوب
وقول الآخر
فإن كان ذنبي حبكم وولاءكم فإني مصر ما بقيت على الذنب
وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار إليه أعرف الخلق به بأصبعه رافعا لها إلى السماء يشهد
(26/148)
ص -942- الجمع الأعظم مشيرا له أو أردتم بالجسم ما يقال أين هو فقد سأل أعلم الخلق به عنه بأين منبها على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه ولم يقل هذا السؤال إنما يكون عن المجسم.
وإن أردتم بالجسم ما يلحقه من وإلى فقد نزل جبريل من عنده ونزل كلامه من عنده وعرج برسوله إليه وإليه يصعد الكلم الطيب وعنده المسيح رفع إليه.
وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر عن أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة وهذه صفات متميزة متغايرة ومن قال إنها صفة واحدة فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء وقد قال أعلم الخلق به أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك والمستعاذ به غير المستعاذ منه وأما استعاذته به منه فباعتبارين مختلفين فإن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد فالمستعيذ
(26/149)
ص -943- بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف بهما منه.
وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه.
وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويا على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني التي دل عليها الوحي والعقل فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى وجناية على ألفاظ الوحي والعقل وحقائق صفات الرب أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسما مركبا مؤلفا مشبها لغيره وتسميتكم هذه الصفات تجسيما وتركيبا وتشبيها فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة ووضعتم لصفاته ألفاظا منكم بدأت وإليكم تعود وأما خطأكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن في العسل شفاء ولم يره فسأل عنه فقيل له مائع رقيق أصفر يشبه العذرة تتقيأه الزنابير ومن لم يعرف العسل ينفر عنه بهذا التعريف ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده إلا محبة له ورغبة فيه وما أحسن ما قال القائل:
(26/150)
ص -944- تقول هذا جني النحل تمدحه وإن تشاء قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
وأشد ما حاول أعداء الرسول من التنفير عنه سوء التعبير عما جاء به وضرب الأمثال القبيحة له والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين فوصلت إلى قلوبهم فنفرت منه وهذا شأن كل مبطل وكل من يكيد الحق وأهله هذه طريقه ومسلكه وأكثر العقول كما عهدت تقبل القول بعبارة وترده بعينه بعبارة أخرى وكذلك إذا قال الفرعوني لو كان فوق السموات رب أو على العرش إله لكان مركبا قيل له لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله كقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار8] وقولهم ركبت الخشبة والباب أو ما تركب من أخلاط وأجزاء بحيث كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمعت وركبت حتى صار شيئا واحدا كقولهم:
(26/151)
ص -945- ركبت الدواء وركبت الطعام من كذا وكذا فإن أردتم بقولكم لو كان فوق العرش كان مركبا هذا التركيب المعهود أو أنه كان متفرقا فاجتمع فهو كذب وفرية وبهت على الله وعلى الشرع وعلى العقل.
وإن أردتم أنه لو كان فوق عرشه لكان عاليا على خلقه بائنا منهم مستويا على عرشه ليس فوقه شيء فهذا المعنى حق وكأنك قلت لو كان فوق العرش لكان فوق العرش فنفيت الشيء بتغيير العبارة عنه وقلبها إلى عبارة أخرى وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم.
وإن أردت بقولك كان مركبا أنه يتميز منه شيء عن شيء فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها عن بعض فهل كان هذا عندك تركيبا فإن قلت هذا لا يقال لي وإنما يقال لمن أثبت شيئا من الصفات وأما أنا فلا أثبت له صفة واحدة فرارا من التركيب قيل لك العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سميته أنت تركيبا وهبك سميته تركيبا وقد دل العقل والوحي والفطر على ثبوته أفتنفيه لمجرد تسميتك الباطلة فإن التركيب يطلق ويراد به خمس معاني: تركيب الذات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها زائدا على ماهيتها فإذا نفيت هذا التركيب جعلته
(26/152)
ص -946- وجودا مطلقا إنما هو في الأذهان لا وجود له في الأعيان.
الثاني: تركيب الماهية من الذات والصفات فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتا مجردة عن كل وصف لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يقدر ولا يريد ولا له حياة ولا مشيئة ولا صفة أصلا فكل ذات في المخلوقات أكمل من هذه الذات فاستفدت بنفيك هذا التركيب كفرك بالله وجحدك لذاته وصفاته وأفعاله فكان اسم التركيب ملقيا لك في أعظم الكفر وموجبا لك أشد التعذيب.
الثالث: تركيب الماهية الجسمية من الهيولى والصورة كما يقوله الفلاسفة
الرابع: تركيبها من الجواهر الفردة كما يقوله كثير من أهل الكلام
الخامس: تركيب الماهية من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت
فإن أردت بقولك لو كان فوق العرش لكان مركبا ما تدعيه الفلاسفة والمتكلمون قيل لك جمهور العقلاء عندهم أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من هذا
(26/153)
ص -947- ولا من هذا فلو كان فوق العرش جسم مخلوق محدث لم يلزم أن يكون مركبا بهذا الاعتبار فكيف يلزم ذلك في حق خالق المفرد والمركب الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ويؤلف بين الأجزاء فيركبها كما يشاء والعقل إنما دل على إثبات إله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له ولا صفة له ولا وجه ولا يدين ولا هو فوق خلقه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه كما هي كذب صريح على الوحي وكذلك قولهم ننزهه عن الجهة إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف للمظروف وحصره له فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى. وإن أردتم بالجهة أمرا يوجب مباينة الخالق للمخلوق وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه فنفيكم لهذا المعنى باطل وتسميتكم له جهة اصطلاح منكم توسلتم به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل والفطرة فسميتم ما فوق العالم جهة وقلتم منزه عن الجهات وسميتم العرش حيزا وقلتم الرب ليس بمتحيز وسميتم الصفات
(26/154)
ص -948- أعراضا وقلتم الرب منزه عن قيام الأعراض به وسميتم حكمته غرضا وقلتم إنه منزه عن الأغراض وسميتم كلامه بمشيئته ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء وإرادته ومشيئته المقارنة لمراده وإدراكه المقارن لوجود المدرك وغضبه إذا عصى ورضاه إذا أطيع وفرحه إذا تاب إليه العباد ونداءه لموسى حين أتى إلى الشجرة ونداءه للأبوين حين أكلا من الشجرة في الجنة ونداءه لعباده يوم القيامة ومحبته لمن كان يبغضه في حال كفره ثم صار يحبه بعد إيمانه وسميتم شؤون ربوبيته التي هو كل يوم في شأن منها حوادث وقلتم الرب منزه عن حلول الحوادث وحقيقة هذا التنزيه أنه منزه عن الوجود وعن الإلهية وعن الربوبية وعن الملك وعن كونه فعالا لما يريد بل عن الحياة والقيومية ولا يتقرر كونه ربا للعالمين وإلها للعباد إلا بالتنزيه عن هذا التنزيه والإجلال عن هذا الإجلال فانظر ماذا تحت تنزيه المعطلة النفاة بقولهم ليس بجسم ولا جوهر ولا مركب ولا تقوم به الأعراض ولا يوصف بالأبعاض ولا يفعل الأغراض ولا تحله الحوادث ولا تحيط به الجهات ولا يقال في حقه أين.
وليس بمتحيز كيف كسوا حقائق أسمائه وصفاته وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكليمه لعباده ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته هذه الألفاظ ثم توصلوا إلى نفيها
(26/155)
ص -949- بواسطتها وكفروا وضللوا من أثبتها واستحلوا منه مالم يستحلوه من أعداء الله من اليهود والنصارى فالله الموعد وإليه التحاكم وبين يديه التخاصم.
ونحن وإياهم نموت ولا أفلح عند الحساب من ندما
فصل
ومن ذلك لفظ العدل جعلته القدرية اسما لإنكار قدرة الرب على أفعال عباده وخلقه لها ومشيئته فجعلوا إخراجها عن قدرته ومشيئته وخلقه هو العدل وجعل سلفهم إخراجها عن تقدم علمه وكتابته من العدل وسموا أنفسهم بالعدلية وعمدوا إلى إثبات عموم قدرته على كل شيء من الأعيان والأفعال وخلقه لكل شيء وشمول مشيئته له فسموه حيزا ثم نفوا هذا المعنى الصحيح وعبروا عنه بهذا الاسم المنكر واثبتوا ذلك المعنى الباطل وعبروا عنه بالاسم المعروف ثم سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد وسموا من أثبت صفات الرب وأثبت قدره وقضاءه أهل التشبيه والجبر.
وكذلك فعل الرافضة سواء سموا موالاة
(26/156)
ص -950- الصحابة نصبا ومعاداتهم موالاة لأهل بيت رسول الله وكذلك المرجئة سموا من قال في الإيمان بقول الصحابة والتابعين واستثنى فيه فقال أنا مؤمن إن شاء الله شكاكا.
وهكذا شأن كل مبتدع وملحد وهذا ميراث من تسمية كفار قريش لرسول الله وأصحابه الصبأة وصار هذا ميراثا منهم لكل مبطل وملحد ومبتدع يلقب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفرة فإذا أطلقوا لفظ الجسم صوروا في ذهن السامع جثة من الجثث الكثيفة أو بدنا له حامل يحمله وإذا قالوا مركبا صوروا في ذهنه أجزاء كانت متفرقة فركبها مركب وهذا حقيقة المركب لغة وعرفا فإذا قالوا يلزم أن تحله الحوادث صوروا في ذهنه ذاتا تعتور عليها الآفات وحوادث الزمان وإذا قالوا لا تقوم به الأعراض صوروا في الذهن ذاتا تنزل بها الأعراض النازلة بالمخلوقين كما مثل النبي ابن آدم وأمله
(26/157)
ص -951- وأجله والأعراض إلى جانبه إن أخطأه هذا أصابه هذا.
وإذا قالوا يقولون بالحيز والجهة صوروا في الذهن موجودا محصورا بالأحياز وإذا قالوا لزم الجبر صوروا في الذهن قادرا ظالما يجبر الخلق على ما لا يريدون ويعاقبهم على ما لا يفعلون وإذا قالوا أنتم نواصب صوروا في الذهن قوما نصبوا العداوة لآل رسول الله وأهل بيته واستحلوا حرماتهم وإذا قالوا لمن قال أنا مؤمن إن شاء الله شكاكا صوروا في الذهن قوما يشكون في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه لا يجزمون بذلك وإذا قالوا لمن أثبت الصفات إنه مشبه صوروا في الذهن قوما يقولون إن الله مثلهم وله وجه كوجوههم وسمع كأسماعهم وبصر كأبصارهم ويدان كأيديهم ونزول كنزولهم واستواء كاستوائهم وفرح كفرحهم. وإذا قالوا حشوية صوروا في ذهن السامع قوما قد حشوا في الدين ما ليس منه وأدخلوه فيه وهو حشو
(26/158)
ص -952- لا أصل له فتنفر القلوب من هذه الألقاب وأهلها ولو ذكروا حقيقة قولهم لما قبلت العقول السليمة والفطر المستقيمة سواه والله يعلم وملائكته ورسله وهم أيضا أنهم براء من هذه المعاني الباطلة وأنهم أبعد الخلق منها وأن خصومهم جمعوا بين أذى الله ورسوله بتعطيل صفاته وبين أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقعدوا تحت قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب57 , 58] أفيظن الجاهلون أنا نجحد صفات ربنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بالقرآن العربي وتكليمه لموسى حقيقة كلاما أسمعه إياه بغير واسطة وننكر سمعه وبصره وعلمه وقدرته وحياته وإرادته ووجهه الكريم ويديه كلتا يديه يمين اللتين يقبض سماواته بإحداهما والأرض بالأخرى ورؤية وجهه
(26/159)
ص -953- الكريم في جنات عدن ومحبته ورضاه وفرحه بتوبة التائبين ونزوله إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق لأسماء سموها هم وسلفهم ما أنزل الله بها من سلطان وألقاب وضعوها من تلقاء أنفسهم لم يأت بها سنة ولا قرآن وشبهات قذفت بها قلوب ما استنارت بنور الوحي ولا خالطتها بشاشة الإيمان وخيالات هي بتخييلات الممرورين وأصحاب الهوس أشبه منها بقضايا العقل والبرهان ووهميات نسبتها إلى العقل الصحيح كنسبة السراب إلى الإبصار في القيعان وألفاظ مجملة ومعان مشتبهة قد لبس فيها الحق بالباطل فصار داحضا وكتمان فدعونا من هذه الدعاوي الباطلة التي لا تفيد إلا إتعاب الإنسان وكثرة الهذيان وحاكمونا إلى الوحي والميزان لا إلى منطق يونان ولا إلى قول فلان ورأي فلان فهذا كتاب الله ليس فوق بيانه مرتبة في البيان وهذه سنة رسوله مطابقة له أعظم من مطابقة البنان للبنان وهذه أقوال أعقل الأمم بعده والتابعين لهم بإحسان لا يختلف منهم في هذا الباب إثنان ولا يوجد عنهم فيه قولان
(26/160)
ص -954- متنافيان بل قد تتابعوا كلهم على إثبات الصفات وعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه وإثبات تكلمه وتكليمه وسائر ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله كتابع الأسنان وقالوا للأمة هذا عهد نبينا إلينا وهو عهدنا إليكم وإلى من بعدكم إلى آخر الزمان وهذا هو الذي نادى به المنادي وأذن به على رؤوس الملأ في السر والإعلان فحي على الصلاة وراء هذا الإمام يا أهل الإيمان وحي على الفلاح بمتابعته يا أهل القرآن والصلاة خير من النوم في ظلمة ليلة الشكوك والإفك والكفران فلا تصح القدوة بمن أقر على نفسه وصدقه المؤمنون بأنه تائه في بيداء الآراء والمذاهب حيران وأنه لم يصل إلى اليقين بشيء منها لا هو ولا من قبله من أمثاله على تطاول الأزمان وأن غاية ما وصلوا إليه الشك والتشكيك والحيرة ولقلقة اللسان فالحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وخصهم بكمال العقول وصحة الفطر ونور البرهان وجعلهم هداة مهتدين مستبصرين مبصرين أئمة للمتقين يهدون بأمره ويبصرون بنوره ويدعون إلى داره ويحاربون كل مفتن فتان فحي على خير العمل بمتابعةالمبعوث بالفرقان وتحكيمه وتلقي حكمه
(26/161)
ص -955- بالتسليم والقبول والإذعان ومقابلة ما خالف حكمه بالإنكار والرد والهوان ومطاعنة المعارضين له بعقولهم بالسيف والسنان وإلا فبالقلم واللسان فالعقول السليمة والفطر المستقيمة لنصوص الوحي يسجدان ويصدقان بما شهدت به ولا يكذبان ويقران أن لها عليهما أعظم السلطان وأنهما إن خرجا عنها غلبا ولا ينتصران وإن لم يخرجا عنها ظفرا بالهدى والعلم.
الوجه السابع والخمسون: إن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لا تتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقا ولا على أصول أحد من أهل الملل المصدقين بحقيقة النبوة وليست هذه المعارضه من الإيمان بالنبوة في شيء وإنما تتأتى هذه المعارضة ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة ويجربها على أوضاعهم وأن الإيمان بالنبوة عندهم هو الاعتراف بموجود حكيم له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعا فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم وقدموها على خبره فهؤلاء هم الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في هذه الأصول الخمس بعقولهم فلم يصدقوا بشيء منها على
(26/162)
ص -956- طريقة الرسل ثم سرت معارضتهم في المنتسبين إلى الرسل فتقاسموها تقاسم الوارث لتركة مورثهم فكل طائفة كان الوحي على خلاف مذهبهم وقول من قلدوه لجأوا إلى هذه المعارضة واعتصموا بها دون نصوص الوحي ومعلوم أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة وإن تناقض القائل به فغايته أن يثبت كون النبي رسولا للعمليات دون العلميات أو في بعض العلميات التي أخبر بها دون البعض وهذا أسوأ حالا ممن جعله رسولا إلى بعض الناس دون بعض فإن القائل بهذا يجعله رسولا في العلميات والعمليات ولا يعارض بين خبره وبين العقل وإن تناقض في جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلف فهذا جحد عموم رسالته إلى المدعوين وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به ولم يؤمن في الحقيقة برسالته لا هذا ولا هذا فإنه يقال لهذا إن كان رسول الله إلى هؤلاءحقا فهو رسوله إلى الآخرين قطعا لأنه أخبر بذلك ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته ويقال للآخر إن كان رسول الله في العمليات وإنها حق من عند الله فهو رسوله في العلميات فإنه أخبر عنه بهذا وهذا.
(26/163)
ص -957- الوجه الثامن والخمسون: إن أمر النبوة وما يخبر به الرسول عن الله به طور آخر وراء مدارك الحس والعقل والخيال والوهم والمنام والكشف والعقل معزول عما يدرك بنور النبوة وطرق الوحي كعزل السمع عن إدراك الأكوان والبصر عن إدراك الأصوات وسائر الحواس عن إدراك المعقولات فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين يبصر بها أنواعا من المعقولات والحواس معزولة عنها فالنبوة طور آخر يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها أمور لا يدركها العقل بل هو معزول عنها كعزل الحواس عن مدارك العقول فتكذيب ما يدرك بنور النبوة يعجز العقل عن إدراكه وكونه معزولا عنه كتكذيب ما يدركه العقل لعجز الحواس عن إدراكه وكونها معزولة عنه فإن الإنسان كما قال الله عز وجل {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل78] فهو في أصل الخلقة خلق خاليا ساذجا لا علم له بشيء من المعقولات ولا المحسوسات البتة فأول ما يخلق فيه حاسة اللمس فيدرك بها أجناسا من الموجودات كالحرارة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة وغيرها فاللمس قاصر عن الألوان والأصوات بل هي كالمعدومة بالنسبة إليه ثم يخلق له البصر فيدرك به الألوان والأشكال والقرب والبعد والصغر والكبر والطول والقصر والحركة والسكون وغير ذلك
(26/164)
ص -958- ثم ينفتح له السمع فيسمع الأصوات الساذجة والنغمات ثم يترقى في مدارك هذه الحاسة على التدريج حتى يسمع من البعد مالم يكن يسمعه قبل ذلك ويتفاوت الناس في قوة هذين الإدراكين وضعفهما تفاوتا بينا حتى يدرك الواحد ما يجزم الآخر بكذبه فيه والمدرك مشاهد له لا يمكنه تكذيب نفسه فيه وذنبه عند المكذب له أنه اختص بإدراكه دونه ثم يخلق له الذوق فيدرك به تفاضل الطعوم من الحلاوة والحموضة والمرارة وما بين ذلك مالم يكن له به شعور قبل ذلك وكذلك الشم هو أكمله وليس عنده من المعقولات عين ولا أثر ولا حس ولا خبر ثم يخلق فيه التمييز وهو طور آخر من أطوار وجوده فيدرك في هذا الطور أمورا أخر زائدة على المحسوسات لم يكن يدركها قبل ذلك ثم يترقى إلى طور آخر يدرك به الواجب والجائز والمستحيل وأن حكم الشيء حكم مثله والضد لا يجتمع مع ضده والنقيضان إذا صدق أحدهما كذب الآخر ونحو ذلك من أوائل العلوم الضرورية ثم يترقى إلى طور آخر يستنتج فيه العلوم النظرية من تلك الضروريات التي تقدم علمه بها ثم يترقى في هذا الطور من أمر إلى أمر فوقه وأغمض منه نسبة ما قبله إليه كنسبة الحس إلى العقل ثم وراء ذلك كله طور آخر نسبة ما قبله إليه كنسبة أطوار
(26/165)
ص -959- الإنسان إلى طور العقل أو دون هذه النسبة ينفتح فيه عين يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمور العقل معزول عنها كعزل الحس عن مدركات العقل وهذا هو طور النبوة الذي نسبة نور العقل المجرد إليه دون نسبة ضوء السراج إلى الشمس فإنكار العقل لما يخبر به النبي عين الجهل ولا مستند له في إنكاره إلا أنه لم يبلغه ولم يصل إليه فيظن أنه غير ثابت في نفسه يوضحه:
الوجه التاسع والخمسون: وهو أنك إذا جعلت العقل ميزانا ووضعت في أحد كفتيه كثيرا من الأمور المشاهدة المحسوسة التي ينالها العيان ووضعت في الكفة الأخرى الأمور التي أخبرت بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجدت ترجيحه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحه للتي قبلها وتصديقه بها أقوى ولولا الحس والمشاهدة تمنعه من إنكار ذلك لأنكره وهذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممن يدعيها وتنسبه إلى المجازفة وقلة التحصيل والخطابة التي تليق بالعامة ولعمر الله إن مدعيها ليعجب من إنكارك لها وتوقفك فيها بعد البيان فنقول وبالله التوفيق انسب إلى
(26/166)
ص -960- العقل حيوانا يرى ويسمع ويحس ويتكلم ويعمل فغشيه أمر ألقي له كأنه خشبة لا روح فيها وزال إحساسه وإدراكه وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله بحيث لا يعلم شيئا فأدرك في هذه الحال من العلوم العجيبة والأمور الغائبة مالم يدركه حال حضور ذهنه واجتماع حواسه ووفور عقله وعلم من أمور الغيب المستقبلة مالم يكن له دليل ولا طريق إلى العلم به وأنسب إليه أيضا حيوانا خرج من إحليله مجة ماء مستحيلة عن حصول الطعام والشراب كالمخطة فامتزجت بمثلها في مكان ضيق فأقامت هناك برهة من الدهر فانقلبت دما قد تغير لونها وشلكها وصفاتها فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت قطعة لحم فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت عظاما وأعصابا وعروقا وأظفارا مختلفة الأشكال والأوضاع وهي جماد لا إحساس لها ثم عادت حيوانا يتحرك ويتغذى وينقلب ثم أقام ذلك الحيوان مدة طويلة في مكان لا يجد فيه متنفسا وهو داخل أوعية بعضها فوق بعض ثم انفتح له باب ضيق عن مسلك الذكر فلا يسلكه إلا بضغطه وعصره فوسع له ذلك الباب حتى خرج منه وانسب إليه أيضا شيئا بقدر الحبة ترسله في مدينة عظيمة من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها ثم يقبل على نفسه فيأكلها
(26/167)
ص -961- وهو النار وأنسب إليه أيضا شيئا بقدر بزر الخشخاش يحمله الإنسان بين ثيابه مدة فينقلب حيوانا يتغذى بورق الشجر برهة ثم إنه يبني على نفسه قبابا مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناء محكما متقنا فيقيم في ذلك البناء مدة من الزمان لا يتغذى بشيء البتة فينقلب في القبة طائرا له أجنحة يطير بها بعد أن كان دودا يمشي على بطنه فيفتح على نفسه باب القبة ويطير وذلك دود القز إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا مما يشاهد بالعيان مما لو جلي لمن لم يره لعجب من عقل من حكاه له وقال وهل يصدق بهذا عاقل وضرورة العقل تدفع هذا وأقام الأدلة العقلية على استحالته فقام في النائم مثلا القوى الحساسة أسباب لإدراك الأمور الوجودية وآلة لها فمن لا يدرك الشيء مع وجودها واستجماعها ووفورها فأن يتعذر عليه إدراكه مع وجودها وبطلان أفعالها أولى وأحرى وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يعارض بها خبر الأنبياء والحس والعيان يدفعه ومن له خبرة بمواد الأدلة وترتيب مقدماتها وله أدنى بيان يمكن أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثير من الأمور المشاهدة المحسوسة وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تعارض بها النصوص أو اصح منها وأنسب إلى العقل وجود ما أخبرت به الرسل عن الله
(26/168)
ص -962- وصفاته وأفعاله وملائكته وعن اليوم الآخر وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها ومالم نذكره ولم يخطر لنا ببال أعجب من ذلك بكثير نجد تصديق العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور ولولا المشاهدة لكذب بها فيالله العجب كيف يستجيز العقل إنكار ما أخبرت به الرسل بعد أن رأى وعاين وسمع ما لولا الحس لأنكره غاية الإنكار ومن هاهنا قال من صح عقله وإيمانه إن نسبة العقل إلى الوحي أدق وأقل بكثير من نسبة منادى سن التمييز إلى العقل.
الوجه الستون: إن هؤلاء المعارضين بين العقل والوحي لا يمكنهم إثبات الصانع بل نفيه بالكلية لازم قولهم لزوما بينا ولا أن العالم مخلوق له ولا يمكنهم إقامة الدليل على استحالة إلهين ولا يمكنهم إقامة دليل واحد على استحالة كون الصانع جسما ولا يمكنهم إثبات كونه عالما ولا قادرا ولا ربا فهم عاجزون عن إثبات وجود الصانع فضلا عن تنزيهه ونقتصر من هذه الجملة على بيان عجزهم عن إثبات وجوده سبحانه فضلا عن تنزيهه عن صفات كماله فنقول المعارضون بين الوحي والعقل في الأصل هم الزنادقة المنكرون للنبوات وحدوث العالم والمعاد ووافقهم في هذا الأصل الجهمية والمعطلة لصفات الرب وأفعاله
(26/169)
ص -963- والطائفتان لم تثبت للعالم صانعا البتة فإن الصانع الذي أثبتوه وجوده مستحيل فضلا عن كونه واجب الوجود قديما.
أما زنادقة الفلاسفة فإنهم أثبتوا للعالم صانعا لفظا لا معنى ثم لبسوا على الناس وقالوا إن العالم صنعه وفعله وخلقه وهو في الحقيقة عندهم غير مصنوع ولا مخلوق ولا مفعول ولا يمكن على أصلهم أن يكون العالم مخلوقا ولا مفعولا قال أبو حامد وذلك لثلاثة أوجه:
وجه في الفاعل ووجه في الفعل ووجه في نسبة مشتركة بين الفعل والفاعل أما الذي في الفاعل فهو أنه لا بد أن يكون مريدا مختارا عالما بما يريده حتى يكون فاعلا لما يريده والله تعالى عندهم ليس مريدا بل لا صنعة له أصلا وما يصدر عنه فيلزم لزوما ضروريا.
والثاني: أن العالم قديم عندهم والفعل هو الحادث
والثالث: أن الله تعالى عندهم واحد من كل وجه
(26/170)
ص -964- والواحد لا يصدر عنه عندهم إلا واحد والعالم مركب من مختلفات فكيف يصدر عنه قال ولنحقق وجه كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة مع جدالهم في دفعه فنقول الفاعل عبارة عمن يصدر عنه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار ومع العلم بالمراد وعندهم أن العالم مع الله كالمعلول مع العلة يلزم لزوما ضروريا لا يتصور من الله دفعه كلزوم الظل للشخص والنور للشمس وليس هذا من الفعل في شيء بل من قال إن السراج يفعل الضوء والشخص يفعل الظل فقد تجوز وتوسع في التجوز توسعا خارجا عن الحد واستعار اللفظ اكتفاء بوقوع المشاركة بين المستعار له والمستعار منه في وصف واحد وهو أن الفاعل سبب على الجملة والسراج سبب للضوء والشمس سبب
(26/171)
ص -965- للنور والفاعل لم يسم فاعلا صانعا بمجرد كونه سببا بل بكونه سببا على وجه الإرادة والاختيار حتى لو قال قائل الجدار ليس بفاعل والحجر ليس بفاعل والجماد ليس بفاعل وإنما الفعل للحيوان لم ينكر ذلك ولم يكن قوله كذبا وللحجر فعل عندهم وهو الهوي إلى السفل والميل إلى المركز كما أن للنار فعلا وهو التسخين وللحائط فعلا وهو الميل إلى المركز ووقوع الظل لأن ذلك صادر عنه وهذا محال.
قال فإن قيل كل موجود ليس بواجب الوجود لذاته بل هو موجود بغيره فإنا نسمي ذلك الشيء
(26/172)
ص -966- مفعولا ونسمي سببه فاعلا ولا نبالي كان المسبب فاعلا بالطبع أو بالإرادة كما أنكم لا تبالون أنه كان فاعلا بآلة أو بغير آلة بل الفعل جنس ينقسم إلى ما يقع بآلة وإلى ما يقع بغير آلة فكذلك هو جنس ينقسم إلى ما يقع بالطبع وإلى ما يقع بالاختيار بدليل أنا إذا قلنا فعل بالطبع لم يكن قولنا بالطبع ضدا لقولنا فعل ولا دفعا ولا نقضا له بل كان بيانا لنوع الفعل كما أنا إذا قلنا فعل مباشرة بغير آله لم يكن نقضا بل كان تنويعا وبيانا وإذا قلنا فعل بالاختيار لم يكن تكرارا بل كان بيانا لنوع الفعل كقولنا فعل بآلة ولو كان قولنا فعل يتضمن الإرادة وكانت الإرادة ذاتية للفعل من حيث إنه فعل لكان قولنا فعل بالطبع متناقضا كقولنا فعل وما فعل.
قلنا هذه التسمية فاسدة لا يجوز أن يسمى كل سبب
(26/173)
ص -967- بأي وجه كان فاعلا ولا كل سبب مفعولا ولو كان ذلك ما صح أن يقال الجماد لا فعل له وإنما الفعل للحيوان وهذه من الكليات المشهورة الصادقة فإن سمي الجماد فاعلا فبالإستعارة كما يسمى طالبا مريدا على سبيل المجاز إذ يقال الحجر يهوي لأنه يريد المركز ويطلبه والطلب والأمر حقيقة لا يتصور إلا مع العلم بالمراد المطلوب فلا يتصور إلا مع الحيوان.
وأما قولكم إن قولنا فعل عام وينقسم إلى ما هو بالطبع وإلى ما هو بالإرادة غير مسلم وهو كقول القائل قولنا أراد عام وينقسم إلى من يريد مع العلم بالمراد وإلى من يريد ولا يعلم ما يريد وهو فاسد إذ الإرادة تتضمن العلم بالضرورة وكذلك الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة.
وأما قولكم إن قولنا فعل بالطبع ليس بنقض
(26/174)
ص -968- للأول فليس كذلك فإنه نقض له من حيث الحقيقة ولكنه لا يسبق إلى الفهم التناقض ولا يشتد نفور الطبع عنه فإنه لما أن كان سببا بوجه ما والفاعل أيضا سبب سمي فعلا مجازا.
وإذا قال فعل بالاختيار فهو تكرير على التحقيق كقوله أراد وهو عالم بما أراد إلا أنه لما تصور أن يقال فعل وهو مجاز ويقال فعل وهو حقيقة لم تنفر النفس عن قوله فعل بالاختيار وكان معناه فعل فعلا حقيقيا لا مجازيا كقول القائل تكلم بلسانه ونظر بعينه فإنه لما جاز أن يستعمل النظر في القلب مجازا أو الكلام في تحريك الرأس واليد مجازا لم يستقبح أن يقال قال بلسانه ونظر بعينه ويكون معناه نفي احتمال المجاز فهذه مزلة القدم.
(26/175)
ص -969- فإن قيل تسمية الفاعل إنما تعرف من اللغة وإلا فقد ظهر في العقل أن ما يكون سببا للشيء ينقسم إلى ما يكون مريدا وإلى مالا يكون فوقع النزاع في أن اسم الفاعل على كلا القسمين حقيقة أم لا.
إذ العرب تقول النار تحرق والثلج يبرد والسيف يقطع والخبز يشبع والماء يروي فقولنا يقطع معناه يفعل القطع وقولنا تحرق معناه تفعل الإحراق فإن قلتم إن ذلك مجاز فأنتم متحكمون من غير مستند قال والجواب أن ذلك بطريق المجاز وإنما الفعل الحقيقي ما يكون بالإرادة والدليل عليه أنا لو فرضنا حادثا توقف حصوله على أمرين أحدهما إرادي والآخر غير إرادي أضاف العقل الفعل إلى الإرادي فكذا اللغة فإن من ألقى إنسانا في نار فمات فيقال هو القاتل دون النار حتى إذا قيل ما قتله إلا فلان كان صادقا فإن كان اسم
(26/176)
ص -970- الفاعل على المريد وعلى غير المريد على وجه واحد لا بطريق كون أحدهما أصلا والأخر مستعارا فلم يضاف القتل إلى المريد لغة وعرفا وعقلا مع أن النار هي العلة القريبة في القتل وكأن الملقي لم يتعاط إلا الجمع بينه وبين النار ولكن لما كان الجمع بالإرادة وتأثير النار بغير إرادة سمي قاتلا ولم تسم النار قاتلة إلا بمعنى استعارة فعلم أن الفاعل من يصدر الفعل عن إرادته وإذا لم يكن الله مريدا عندهم ولا مختارا لفعل العالم لم يكن صانعا ولا فاعلا إلا مجازا فإن قيل نحن نعني بكون الله فاعلا أنه سبب لوجود كل موجود سواه وأن العالم قوامه به ولولا وجود الباري لما تصور وجود العالم ولو قدر عدم الباري لانعدم العالم كما لو قدر عدم الشمس لانعدم الضوء فهذا ما نعنيه بكونه فاعلا فإن كان الخصم يأبى أن يسمي هذا المعنى فعلا فلا مشاحة في الأسامي
(26/177)
ص -971- بعد ظهور المعنى قلنا غرضنا أن نبين أن هذا المعنى لا يسمى فعلا وصنعا وإنما يسمى بالفعل والصنع ما يصدر عن الإرادة حقيقة وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل ونطقتم بلفظه تجملا بالإسلاميين ولا يتم الدين بإطلاق الألفاظ الفارغة عن المعاني فصرحوا بأن الله لا فعل له حتى يتضح أن معتقدكم مخالف لدين المسلمين ولا تلبسوا بقولكم إن الله صانع العالم وإن العالم صنعه فإن هذه لفظة أطلقتموها ونفيتم حقيقتها ومقصود هذه المسألة الكشف عن هذا التلبيس فقط ثم ساق الكلام إلى آخر المسألة قلت ولا ريب أن أصولهم التي عارضوا بها الوحي تنفي وجود الصانع فضلا عن كونه صانعا للعالم بل تجعله ممتنع الوجود فضلا عن كونه واجب الوجود لأن الصفات التي وصفوه بها صفات معدوم ممتنع في العقل والخارج فلا العقل يتصور إلا على سبيل الفرض الممتنع كما يفرض المستحيلات ولا يمكن في الخارج وجوده فإن ذاتا هي وجود مطلق لا ماهية لها سوى الوجود المطلق المجرد على
(26/178)
ص -972- كل ماهية ولا صفة لها البتة ولا فيها معنيان متغايران في المفهوم ولا هي هذا العالم ولا صفة من صفاته ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه ولا مجانبة له ولا مباينة ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا يسرته ولا ترى ولا يمكن أن ترى ولا تدرك شيئا ولا تدرك هي بشيء من الحواس ولا هي متحركة ولا ساكنة ولا توصف بغير السلوب والإضافات العدمية ولا نعتت بشيء من الأمور الثبوتية هي بامتناع الوجود أحق منها بإمكان الوجود فضلا عن وجوبه وتكليف العقل بالإعتراق بوجود هذه الذات ووجوبها كتكليفه الجمع بين النقيضين ومعلوم أن مثل هذه الذات لا تصلح لفعل ولا ربوبية ولا إلهية وأي ذات فرضت في الوجود فهي أكمل منها فالذي جعلوه واجب الوجود هو أعظم استحالة من كل ما يقدر مستحيلا فلا يكثر عليهم بعد هذا إنكارهم لصفاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ولا إنكارهم لكلامه وتكليمه فضلا عن استوائه على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه وإتيانه وفرحه وحبه وغضبه ورضاه فمن هدم قواعد البيت من أصلها هان عليه هدم السقف والجدران ولهذا كان
(26/179)
ص -973- حقيقة قول هؤلاء القول بالدهر وإنكار الخالق بالكلية وقولهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية24] وإنما صانعوا المسلمين بألفاظ لا حقيقة لها واشتق إخوانهم الجهمية النفي والتعطيل من أصولهم فسدوا على أنفسهم طريق العلم بإثبات الخالق وتوحيده بمشاركتهم لهم في الأصل المذكور وإن باينوهم في بعض لوازمهم كإثباتهم كون الرب تعالى قادرا مريدا فاعلا بالاختيار وإثباتهم معاد الأبدان والنبوة ولكن لم يثبتوا ذلك على الوجه الذي جاءت به الرسل ولا نفوه نفي إخوانهم الملاحدة بل اشتقوا مذهبا بين المذهبين وسلكوا طريقا بين الطريقين لا للملاحدة فيه وافقوا ولا للرسل اتبعوا ولهذا عظمت بهم البلية على الإسلام وأهله بانتسابهم إليه وظهورهم في مظهر ينصرون به الإسلام ويردون به على الملاحدة فلا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا بل أتباع الرسل كفروهم وضللوهم وصاحوا بهم من أقطار الأرض امتازوا من المسلمين أيها المعطلون وانحازوا إلى إخوانكم من الملاحدة الذين هم بربهم يعدلون وخلوا عن نصوص الوحي فكم بها تتلاعبون فمرة تقولون هي أدلة لفظية معزولة عن إفادة العلم واليقين ومرة تقولون هي مجازات واستعارات لا حقيقة لها عند العارفين ومرة تقولون:
(26/180)
ص -974- لا سبيل إلى تحكيمها والالتفات إليها وقد عارضها المعقول وقواطع البراهين ومرة تقولون أخبار أحاد فلا يحتج بها في المسائل القطعية التي يطلب منها اليقين فأرضيتم بذلك إخوانكم من الملاحدة أعداء الدين وكنتم بذلك لهم موافقين فصالوا عليكم به فيما أثبتموه وكنتم به من الإسلام وأهله متقربين وصال عليكم المسلمون بما وافقتم فيه إخوانكم من الضلال المبين فتدافعكم الفريقان تدافع الكرة بين الضاربين فدعونا من التلبيس والمصانعة بالله هل أثبتم للعالم ربا بائنا عنه وهل عندكم فوق العرش إله يعبد ويصلى له ويسجد أم ليس فوق العرش إلا العدم الذي لا شيء هو وهل أثبتم لصانع العالم سبحانه صفة ثبوتية تقوم به فهل أثبتم له علما حقيقة وسمعا وبصرا وحياة ومشيئة وإرادة حقيقية وهل تعتقدون أنه تكلم أو كلم أحدا حقيقة أو أمر أو نهي أو قال أو يقول أو نادى أو ينادي أو أخبر أو نبأ أو أنبأ أو عهد أو وصى أو خاطب أو ناجى أو أثنى على نفسه أو على أحد من خلقه أو قال قط {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} [طه14] أو نزل من عنده شيء أو صعد إليه شيء أو قام به
(26/181)
ص -975- فعل البتة يجب أن يكون به فاعلا أو قام به حب أو بغض أو رضى أو سخط أو له وجه أعلى أو خلق آدم بيديه أو غرس جنة عدن بيده أو كتب التوراة بيده أو يقبض سمواته السبع بيده والأرضين السبع بيده أو كتب بيده كتابا فهو عنده موضوع على العرش إن رحمته سبقت غضبه أو يراه أنبياؤه ورسله والمؤمنون في دار الجزاء فضلا عن أن يتجلى لهم من فوقهم يضحك إليهم ويسلم عليهم فبالله هل لهذا كله عندكم حقيقة أم إذا تجملتم وأجملتم قلتم كل ذلك مجازات واستعارت ليس له حقيقة فاسألوا بالله إذن إخوانكم من أرباب المعقولات هل يصدق أحد منكم أن إنسانا خلق من تراب وأنه يعود حيا بعدما صار إلى التراب وأن عصا انقلبت فصارت حية عظيمة أكلت ما مرت عليه
(26/182)
ص -976- ثم انقلبت فصارت عصا كما كانت وأن يدا خرجت بيضاء لها ضوء مثل ضوء الشمس وأن بحرا من بحار العالم انفلق بعسكر عظيم اثني عشر طريقا وصار الماء بين الطرق كالحيطان وأن جبلا قلع من موضعه على قدر عسكر عظيم ووقف على رؤوسهم بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه عيانا ثم عاد إلى مكانه وأن حجرا مربعا يحمل مع قوم يضرب بعصا فينفجر منه اثنا عشر نهرا كل نهر لطائفة عظيمة يختصون بمشربه لا يشركهم فيه الآخرون وأن قتيلا ضرب بعضو من بقرة مذبوحة فقام القتيل حيا وأن إنسانا رمي به في نار تأجج فلم تحرق منه شيئا وعادت خضراء وروضة وأن مدائن قلعت من أصولها كما يقلع الشجر ثم رفعت في الهواء ثم قلبت بمن فيها فماتوا موتة رجل واحد وأن صخرة تمخضت وتحركت ثم انفلقت عن ناقة كأحسن النوق وأن قمرا انشق في السماء شقتين ثم عاد فالتأم كما كان وأن يدا وضعت في ماء لا يغمرها فتفجر
(26/183)
ص -977- الماء من بين أصابعها وثار كأمثال العيون حتى روي منه عسكر عظيم جرار وملئوا منه كل قربة وكل إناء معهم وأن رجلا ولد من غير أب وأن امرأة ولدت من غير أم وأن رجلا حمل من مكة إلى بيت المقدس ثم رفع حتى جاوز السموات السبع ثم عاد إلى فراشه في ليلته وأن عسكرا عظيما قاموا بدوابهم وخدمهم وعددهم على بساط واحد بين السماء والأرض عل متن الريح مسيرة شهر في مقدار غدوة من النهار ثم يرجعون في مقدار ذلك ولا تمس ركابهم الأرض فبالله يا أرباب المعقولات ويا أهل الذاتي والعرضي وأهل المقولات العشر والكليات الخمس ويا أهل المختلطات والموجهات والقضايا المسورات والمهملات ويا أهل الشكل الأول والثاني والثالث
(26/184)
ص -978- والرابع وأصحاب القياس الحملي والشرطي وأهل العقول المقدمة بزعم أربابها على الوحي هل تصدقون بشيء من هذا وهل يصدق أفراخكم وتلامذتكم بشيء مما ذكرنا من شأن الربوبية أم التكذيب بها وهذا ثمرة عقولكم وحاصل معقولكم.
فعلى عقولكم العفاء فإنكم عاديتم المعقول والمنقولا
وطلبتم أمرا محالا وهو إدراك الهدى لا تبتغون رسولا
وزعمتم أن العقول كفيلة بالحق أين العقل كان كفيلا
وهو الذي يقضي فينقض حكمه عقل ترون كليهما معقولا
(26/185)
ص -979- وتراه يجزم بالقضاء وبعد ذا يلفى لديه باطلا معلولا
لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا
كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلا
وإذا الظلام تلاطمت أمواجه وطمعت بالإبصار كنت محيلا
فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلا
نور النبوة مثل نور الشمس للعين البصيرة فاتخذه دليلا
طرق الهدى مسدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلا
فإذا عدلت عن الطريق تعمدا فاعلم بأنك ما أردت وصولا
يا طالبا درك الهدى بالعقل دون النقل لن تلق لذاك دليلا
كم رام قبلك ذاك من متلذذ حيران عاش مدى الزمان جهولا
(26/186)
ص -980- ما زالت الشبهات تغزو قلبه حتى تشحط بينهن قتيلا
فتراه بالكلي والجزئي والذاتي والعرضي طول زمانه مشغولا
فإذا أتاه الوحي لم يأذن له ويقوم بين عداه مثيلا
ويقول تلك أدلة لفظية معزولة عن أن تكون دليلا
وإذا تمر عليه قال لها إذهبي نحو المجسم أو خذي التأويلا
وإذا أبت إلا النزول عليه كان لها القرى التحريف والتبديلا
فيحل بالأعداء ما تلقاه من كيد يكون لحقها تعطيلا
(26/187)
ص -981- واضرب لهم مثلا بعميان خلوا في ظلمة لا يهتدون سبيلا
فتصادموا بأكفهم وعصيهم ضربا يدير رحا القتال طويلا
حتى إذا ملوا القتال رأيتهم مشجوجا أو مفجوجا أو مقتولا
وتسامع العميان حتى أقبلوا للصلح فازداد الصياح عويلا
الوجه الحادي والستون: وهو أن الطرق التي سلكها هؤلاء المعارضون بين الوحي والعقل في إثبات الصانع هي بعينها تنفي وجوده فإنها متضمنة لنفي صفاته وأفعاله صريحا وهي تنفي وجوده لزوما فإن هؤلاء المعارضين صنفان الفلاسفة والجهمية:
أما الفلاسفة فأثبتوا وجود الصانع بطريق التركيب وهو أن الأجسام مركبة والمركب يفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر ممكن والممكن لا بد له من وجود واجب وتستحيل الكثرة في ذات الواجب بوجه من الوجوه إذ يلزم
(26/188)
ص -982- تركيبه وافتقاره وذلك ينافي وجوبه وهذا هو غاية توحيدهم وبه أثبتوا الخالق على زعمهم ومعلوم أن هذا من أعظم الأدلة على نفي الخالق فإنه ينفي قدرته ومشيئته وعلمه وحياته إذ لو ثبتت له هذه الصفات بزعمهم لكان مركبا والمركب مفتقر إلى غيره فلا يكون واجبا بنفسه وفي هذه الشبهة من التلبيس والتدليس والألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ما يطول وصفه وقد انتدب لإفسادها جنود الإسلام على اختلاف مذاهبهم فإن المركب لفظ مجمل يراد به ما ركبه غيره وما كان متفرقا فاجتمعت أجزاؤه وما يمكن تفريق بعضه عن بعض والله سبحانه منزه عن هذه التراكيب ويراد به في اصطلاح هؤلاء ماله ماهية خاصة يتميز بها عن سائر الماهيات وما له ذات وصفات بحيث يتميز بعض صفاته عن بعض وهذا ثابت له سبحانه وإن سماه هؤلاء تركيبا كما تقدم وكذلك لفظ الافتقار لفظ مجمل يراد به فقر الماهية إلى موجد غيرها بتحقيق وجودها به والله سبحانه غني عن هذا الافتقار ويراد به أن الماهية مفتقرة في ذاتها إلى ذاتها ولا قوام لذاتها إلا بذاتها وأن الصفة لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بالموصوف وهذا المعنى حق وإن سماه هؤلاء الملبسون فقرا وكذلك لفظ الغير فيه إجمال يراد بالغيرين ما مفارقة أحدهما للآخر ذاتا أو مكانا أو زمانا فصفات القديم
(26/189)
ص -983- سبحانه ليست غيرا له بهذا الاعتبار ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر وهذا المعنى حق في ذاته وصفاته سبحانه وإن سماها هؤلاء أغيارا.
فإن المخلوق يعلم من الخالق صفة بعد صفة وقد قال أعلم الخلق به: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وهذا لكثرة أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وقال: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك" والمستعاذ به غير المستعاذ منه والمقصود أن تسمية هذا تركيبا وافتقارا وغيرا وضع وضعه هؤلاء وليس الشأن في الألفاظ إنما الشأن في المعاني وقولهم إنه مفتقر إلى جزئية تلبيس فإن القديم الموصوف بالصفات اللازمة له تمتنع أن تفارقه صفاته وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال إن تلك الحقيقة مفتقرة إلى غيرها وإن سميت تلك الصفة غيرا فالذات والصفات متلازمان لا يوجد أحدهما إلا مع
(26/190)
ص -984- الآخر وهذا التلازم لا يقتضي حاجة الذات والصفات إلى موجد أوجدها وفاعل فعلها والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه فإما أن لا يكون له صفة ولا ذات ولا يتميز منه أمر عن أمر فلا يلزم ذلك من وجوبه وكونه غنيا بنفسه عن كل ما سواه فقول الملبس إنه مفتقر إلى ذلك كقوله لو كان له ماهية لكان مفتقرا إلى ماهيته والله سبحانه اسم للذات المتصفة بكمال العلم والقدرة والحياة والمشيئة وسائر صفات الكمال ليس اسما لذات مجردة عن الأوصاف والنعوت فكل ذات أكمل من هذه الذات تعالى الله عن قول الملحدين في أسمائه وصفاته علوا كبيرا والمقصود أن هذه الطريق التي سلكها هؤلاء في إثبات الصانع هي أعظم الطرق في نفيه وإنكار وجوده وكذلك كان سالكوها لا يؤمنون بالله ولا بملائكته وكتبه ولا رسله ولا باليوم الآخر وإن صانع من صانع منهم لأهل الملل بألفاظ لا حاصل لها.
فصل
وأما المتكلمون فلما رأوا بطلان هذه الطريق عدلوا عنها إلى طريق الحركة والسكون والاجتماع
(26/191)
ص -985- والافتراق وتماثل الأجسام وتركبها من الجواهر المفردة وأنها قابلة للحوادث وما يقبل الحوادث فهو حادث فالأجسام كلها حادثة فإذا يجب أن يكون لها محدث ليس بجسم فنفوا العلم بإثبات الصانع على حدوث الأجسام واستدلوا على حدوثها بأنها مستلزمة للحركة والسكون والاجتماع والافتراق ثم قالوا إن تلك أعراض والأعراض حادثة ومالا يخلو عن الحوادث فهو حادث فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا ثم إثبات لزومها للجسم ثانيا ثم إبطال حوادث لا أول لها ثالثا ثم التزام بطلان حوادث لا نهاية لها رابعا عند فريق منكم وإلزام الفرق عند فريق آخر ثم إثبات الجوهر الفرد خامسا ثم إلزام كون العرض لا يبقى زمانين سادسا فيلزم حدوثه والجسم لا يخلو منه ومالا يخلو عن الحوادث فهو حادث ثم إثبات تماثل الأجسام سابعا فيصح على بعضها ما يصح على جميعها فعلمهم بإثبات الخالق سبحانه مبني على هذه الأمور الشنيعة فلزمهم من سلوك هذه الطريق إنكار كون الرب تعالى فاعلا في الحقيقة وإن سموه فاعلا بألسنتهم فإنه لا يقوم به عندهم فعل وفاعل بلا فعل كقائم بلا قيام وضارب بلا ضرب وعالم بلا علم وضم الجهمية إلى ذلك أنه لو قام به صفة لكان جسما ولو كان جسما لكان حادثا
(26/192)
ص -986- فيلزم من إثبات صفاته إنكار ذاته فعطلوا صفاته وأفعاله بالطريق الذي أثبتوا بها وجوده فكانت أبلغ الطرق في تعطيل صفاته وأفعاله وعن هذه الطريق أنكروا علوه على عرشه وتكلمه بالقرآن وتكليمه لموسى ورؤيته بالأبصار في الآخرة ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة ومجيئه لفصل القضاء بين الخلائق وغضبه ذلك اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وجميع ما وصف به نفسه من وصف ذاتي أو معنوي أو فعلي فأنكروا وجهه الأعلى وأنكروا أن له يدين وأن له سمعا وبصرا وحياة وأنه يفعل ما شاء حقيقة وإن سمي فاعلا فلم يستحق ذلك الفعل الذي قام به بل فعله هو عين مفعوله.
(26/193)
ص -987- وكذلك الطريق التي سلكوها في إثبات النبوة لم يثبتوا بها نبوة في الحقيقة فإنهم بنوها على مجرد خرق العادة وهو مشترك بين النبي وغيره وحاروا في الفرق فلم يأتوا فيه بما يثلج له الصدر ولا يحصل به برد اليقين مع أن النبوة التي أثبتوها لا ترجع إلى وصف وجودي بل هي تعلق الخطاب الأزلي بالنبي والتعلق عندهم أمر عدمي فعادت النبوة عندهم إلى أمر عدمي وقد صرحوا بأنها لا ترجع إلى صفة ثبوتية قائمة بالنبي وأيضا فحقيقة النبوة والرسالة إنباء الله سبحانه وتعالى لرسوله وأمره بتبليغ كلامه إلى عباده وعندهم أن الله لا يتكلم ولا يقوم به كلام.
وأما اليوم الآخر فإن جمهورهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد وقالوا لا يتأتى التصديق بالمعاد إلا بإثباته وهو في الحقيقة باطل لا أصل له والمثبتون له يعترفون بأن القول به في غاية الإشكال وأدلته متعارضة وكثير منهم له قولان في إثباته ونفيه وسلكوا في تقرير المعاد ما خالفوا فيه جمهور العقلاء ولم يوافقوا ما جاءت به الأنبياء فقالوا إن الله سبحانه يعدم أجزاء العالم كلها حتى تصير عدما محضا ثم يعيد المعدوم ويقلبه وجودا حتى إن يعيد زمنه
(26/194)
ص -988- بعينه وينشئوه لا من مادة كما قالوا في المبدأ فجنوا على العقل والشرع وأغروا أعداء الشرع به وحالوا بينهم وبين تصديق الرسل.
وأما المبدأ فإنهم قالوا كان الله سبحانه معطلا في الأزل والفعل غير ممكن مع قولهم كان قادرا عليه ثم صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا من غير تجدد أمر أصلا وانقلب الفعل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وذات الفاعل قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل واحدة فهذا غاية عقولهم التي عارضوا بها بين الوحي والعقل وهذه طرقهم العقلية التي لم يثبتوا بها ربا ولا رسالة ولا مبدأ ولا معادا ونحن إنما أشرنا إلى ذلك أدنى إشارة وإلا فبسط ذلك في غير هذا الموضع وقد بسطه شيخنا في عامة كتبه المطولات والمبسوطات وبينه بيانا شافيا فمن أحب الوقوف عليه وجده في مظانه وبالله التوفيق.
الوجه الثاني والستون: إن هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم ارتكبوا أربع عظائم إحداها ردهم لنصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم الثانية إساءة الظن به وجعله منافيا للعقل مناقضا له الثالثة جنايتهم على العقل بردهم
(26/195)
ص -989- ما يوافق النصوص من المعقول فإن موافقة العقل للنصوص التي زعموا أن العقل يردها أظهر للعقل من معارضته لها الرابعة تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم لمن خالفهم في أصولهم التي اخترعوها وأقوالهم التي ابتدعوها مع أنها مخالفة للعقل والنقل فصوبوا رأي من تمسك بالقول المخالف للعقل والنقل وخطأوا من تمسك بما يوافقهما وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورا ولم يشرق على قلبه نور النبوة.
الوجه الثالث والستون: أن من عارض بين الوحي والعقل فقد قال بتكافؤ الأدلة لأن العقل الصحيح لا يكذب والوحي أصدق منه وهما دليلان صادقان فإذا تعارضا تكافآ فإن لم يقدم أحدهما بقي في الحيرة والشك وإن قدم أحدهما على الآخر أبطل موجب الدليل الصحيح وأخرجه عن كونه دليلا فيبقى حائرا بين أمرين لا بد له من أحدهما إما أن يسيء الظن بالوحي أو بالعقل والعقل عنده أصل الوحي فلا يمكنه أن يسيء الظن به فيسطو على الوحي تارة بالتحريف والتأويل وتارة بالتخييل وتارة بالدفع والتكذيب إن أمكن وذلك في نصوص السنة
(26/196)
ص -990- وتارة يدعي ذلك في نصوص القرآن كما يدعيه غلاة الرافضة وكثير من القرامطة وأشباههم وهذا كله إنما نشأ من ظنونهم الفاسدة أن العقل الصحيح يعارض الوحي الصريح وأما أهل العلم والإيمان أهل السمع والنقل فعندهم أن فرض هذه المسألة محال وأن فرضها كفرض مسألة إذا تعارض العقل وأدلة ثبوت النبوة والرسالة وإذا تعارض العقل وأدلة ثبوت الخالق وتوحيده والمعارضة بين العقل والوحي كالمعارضة بين العقل وإثبات الصانع وتوحيده ورسالة رسله ولهذا طردوا منع هذه القاعدة في ذلك الأصل وقالوا الباب كله واحد.
الوجه الرابع والستون: إن هؤلاء المعارضين للوحي بالعقل بنوا أمرهم على أصل فاسد وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها وجعلوها أصول دينهم ومعتقدهم في رب العالمين هي المحكمة وجعلوا قول الله ورسوله هو المتشابه الذي لا يستفاد منه علم ولا يقين فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه ثم ردوا تشابه الوحي إلى محكم كلامهم وقواعدهم وهذا كما جعلوا ما أحدثوه من الأصول التي نفوا بها صفات الرب
(26/197)
ص -991- جل جلاله ونعوت كماله ونفوا بها كلامه وتكليمه وعلوه على عرشه ورؤيته في الدار الآخرة محكما وجعلوا النصوص الدالة على خلاف تلك القواعد والأصول متشابهة يقضي بتلك القواعد عليها وترد النصوص إليها فتارة يحرفون النصوص عن مواضعها ويسمون ذلك التحريف تأويلا في اللفظ وتنزيها في المعنى وتارة يقول من تجمل منهم فأحسن أراد الله ورسوله من هذه النصوص أمورا لا نعرفها ولا ندري ما أراد وتارة يقولون قصد خطاب الجمهور فأفهمهم الأمر على خلاف حقيقته لأن مصلحتهم في ذلك وتارة يفسرون صفة بصفة كما يفسرون الحب والبغض والغضب والرضا والرحمة بالإرادة والسمع والبصر والكلام بالعلم ثم يجعلون ذلك نفس الذات ومنهم من يجعل العلم نفس المعلوم كما قاله أفضل متأخريهم عندهم وأجهلهم بالله وأكفرهم نصير الكفر والشرك الطوسي فأما أهل العلم والإيمان فطريقهم عكس هذه الطريقة من كل وجه يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه ويرد ما يتنازع الناس فيه إليه فما وافقه كان حقا وما خالفه كان باطلا وإذا ورد عليهم لفظ مشتبه ليس في القرآن ولا في السنة لم يتلقوه بالقبول ولم يردوه بالإنكار حتى يستفصلوا قائله عن مراده فإن كان حقا موافقا للعقل
(26/198)
ص -992- والنقل قبلوه وإن كان باطلا مخالفا للعقل والنقل ردوه ونصوص الوحي عندهم أعظم وأكبر في صدورهم من أن يقدموا عليها ألفاظا مجملة لها معان مشتبهة وبنوا أصولهم على أربع قواعد
أحدها: بيان أن ما جاء به الوحي هو الهدى والحق واليقين
الثانية: بيان أن ما يقدر من الاحتمالات المعارضة لظاهره وحقيقته باطل لغة
الثالثة: بيان أن ما يدعى أنه معارض لذلك من العقل فهو باطل
الرابعة: بيان أن العقل موافق له معاضد لا معارض مناقض فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون
الوجه الخامس والستون: إن هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل قد فارقوا العقل والنقل فلا عقل ولا نقل وهم الذين يقولون {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك10] أما النقل فإنهم قد سمحوا بمفارقته وهان عليهم أمره وأما العقل فلو تدبروا أقوالهم ومعقولهم الذي عارضوا به النقل لاستحيوا من أهل العقل الذين هم أهله فإن هؤلاء يجعلون الاثنين واحدا والواحد اثنين
(26/199)
ص -993- والمستحيل واجبا والواجب ممتنعا والكلي جزءا من المعين الجزئي والمعدوم موجودا والموجود معدوما والثابت منتفيا والمنتفي ثابتا ويفرقون بين الشيء ونظيره في الحكم ويحملون على الشيء بحكم ضده ونقيضه وينفون النقيضين تارة ويثبتونهما تارة ويثبتون الشيء وينفون لازمه البين للزوم اللازم ويثبتون ملزومه فيجعلون الصفة هي عين الصفة الأخرى ثم يجعلونها هي نفس الموصوف كما يقولون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة والسمع هو البصر ثم يقولون إن ذلك هو نفس العالم القادر المريد ويجعلون تارة العلم هو المعلوم وتار يجعلون الفعل هو عين المفعول ويجعلون الصفة التي لا تقوم إلا بمحل قائمة بنفسها كما يقولون الرب تعالى مريد بإرادة قديمة لا في محل ويجعلون الأمر هو عين النهي وهما عين الخبر وهو عين الاستفهام ويجعلون وجود الرب تعالى وجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو بلا شرط ثم يصرحون بأن المطلق لا وجود له في الخارج ويجعلون الشيء المعين لهذا الإنسان مثلا عدة جواهر حيوانا
(26/200)
ص -994- وناطقا وحساسا ويجعلون كلا من هذه الجواهر عين الآخر ومعلوم أنه جوهر واحد له صفات متعددة ويفرقون بين المادة والصورة ويجعلونها جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما والمعقول قيام الصفات بالموصوفات والأعراض بالجواهر ويجعلون الصور الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات المادة وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلا النفس الناطقة إذا فارقت البدن بالموت والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها ويجعلون المعدوم الممتنع الذي لا يتصور وجوده هو الواجب الذي يمتنع عدمه كما أثبتوا لصانع العالم وجودا مطلقا مقيدا بسلب الأمور الثبوتية ليس له ماهية غير ذلك الوجود ويثبتون كونه حيا بلا حياة وعالما بلا علم وقادرا بلا قدرة إلى أضعاف أضعاف ذلك من ضلالهم في عقلياتهم التي جعلوها معارضة للوحي وقدموها عليه وكلما تدبر العاقل الذكي المنصف أحوال هؤلاء ومن وافقهم على بعضها تبين له أن القوم لا عقل ولا نقل وتفصيل هذا يستدعي بسطا طويلا والله المستعان.
(26/201)
ص -995- الوجه السادس والستون: إن هؤلاء في معارضتهم للوحي سلكوا طريقا سحروا بها عقول ضعفاء الناس وبصائرهم فشبهت عليهم وخيل إليهم أنها حق فأصابهم في ذلك مثل ما أصاب السحرة حين عارضوا عصى موسى بما خيل إلى أبصار الناظرين أنه حق فإن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة تحتها معاني مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وأدخلوا فيها من المعاني غير المفهوم منها في لغات الأمم ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض ففكروا فيه وقدروا وأطالوا التفكير والتقدير ثم عظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وسمع منهم ما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض عليهم قالوا له أنت لا تفهم هذا وهذا لا يصلح لك وهذا أمر قد صقلته الأذهان على تطاول الأزمان وتلقته العقول بالقبول والتسليم وفزعت إليه عند التخاصم والتحاكم فيبقى ما في النفوس من الحمية والإلفة يحملها على تسليم تلك الأمور قبل تحقيقها وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل فيأخذها مسلمة فإذا جاءت لوازمها لم يجد بدا من التزامها ويرى أن التزام
(26/202)
ص -996- تلك اللوازم أهون عليه من القدح في تلك القواعد وإبطالها فهذا أصل ضلال من ضل من أهل النظر والبحث في المعقولات وأما الأعمى المقلد فليس معه أكثر من هكذا قال العقلاء وهذا القدر الذي وقع من ضلال هؤلاء لم يقصده عقلاؤهم ابتداء بل كان قصدهم تحصيل العلوم والمعارف ولكن أخطأوا بطلبها من غير طريقها فضلوا وأضلوا وقد سئل شيخنا رضي الله عنه عن بعض رؤساء هؤلاء ممن له علم وعقل وسلوك وقصد ثم أخطأ الصواب فقال طلب الأمور العلية من غير الطرق النبوية فقادته قسرا إلى المناهج الفلسفية وما أحسن ما قال فإن من طلب أمرا عاليا من غير طريقه لم يحصل إلا على ضده فالواجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وامثالهم أن لا يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين معناه ويعرف مقصوده فيكون الكلام في معنى معقول يتوارد النفي والإثبات فيه على محل واحد لا في لفظ مجمل مشتبه المعنى وهذا نافع في الشرع والعقل والدين والدنيا وبالله التوفيق.
السابع والستون: إن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسوله وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذرهم من حبوط أعمالهم بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات21].
(26/203)
ص -997- فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه فأي تقدم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به قال غير واحد من السلف ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر ومعلوم قطعا أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبي وأشدهم تقدما بين يديه وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به ومن المعلوم قطعا أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلا الكفار والمنافقون فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم وصارت تلك المعارضة ميراثا في أشباههم كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره بقضائه وقدره وورثهم في هذه المعارضة طائفتان إحداهما إخوانهم المباحية الذين خلعوا ربقة الشريعة من أعناقهم ودانوا بالقدر.
والثانية: الذين عارضوا قضاءه وقدره بأمره وقالوا
(26/204)
ص -998- لا يمكن الجمع بينهما فأبطلوا القدر بالأمر وأولئك أقعد بالميراث من هؤلاء وقد ذكر سبحانه الأمثال العقلية التي عارض المشركون بها الوحي لتكون عبرة للمؤمنين ومثلا للمعارضين: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال42]
الوجه الثامن والستون: إن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين حمليتين:
إحداهما: قوله {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} فهذه هي
(26/205)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق