الأربعاء، 4 يوليو 2018

الصاواق المرسلة لابن القيم -ج1//4..


ص -708- دون الغابرين فيكون نفعه وعائدته على البعض دون البعض لكان في ذلك ما يوجب النفرة عن ذلك والرغبة عنه وبحكمة بالغة عدل الرب تعالى عن تسمية من ذكر هؤلاء أنه مراد باللفظ إلى ذكر الأوصاف والأفعال التي يأخذ كل أحد منها حظه ولو سمى سبحانه أصحابها بأسمائهم لقال القائل لست منهم يوضح ذلك.
الوجه الخامس والثلاثون إن ألفاظ القرآن التي وقعت في باب الحمد والذم وقعت بما فيها من الفخامة والجلالة عامة وكان عمومها من تفخيمها وجلالة قدرها وعظمة شأنها وذلك أن من شأن من يقصد تفخيم كلامه من عظماء الناس أن يستعمل فيه أمرين أحدهما العدول بكلامه عن الخصوص إلى العموم إلى حيث تدعو الحاجة إلى ذكر الخصوص لأمر لا بد منه ليكون خطابه كليا شاملا يدخل تحته الخلق الكثير وكلما كان الداخلون تحت خطابه أعم واكثر كان ذلك أفخم لكلامه وأعظم لشأنه فأين العظمة والجلالة في قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة 21]
(25/78)
ص -709- إلى العظمة في قوله يا أهل مكة اعبدوا ربكم فمن فخامة الكلام وجلالة المتكلم به أن يدخل في اللفظة الواحدة جميع ما يصلح له فيدل باللفظ القصير على المعاني الكثيرة العظيمة فتجمع العموم والإيجاز والاختصار والبيان وحسن الدلالة فتأتي بالمعنى طبق اللفظ لا يقصر عنه ولا يوهم غيره ومن علم هذا وتدبر القرآن وصرف إليه فكره علم أنه لم يقرع الأسماع قط كلام أوجز ولا أفصح ولا أشد مطابقة بين معانيه وألفاظه منه
وليس يوجد في الكتب المنزلة من عند الله كتاب جمعت ألفاظه من الإيجاز والاختصار والإحاطة بالمعاني الجليلة والجزالة والعذوبة وحسن الموقع من الأسماع والقلوب ما تضمنته ألفاظ القرآن وقد شهد له بذلك أعداؤه وسمع بعض الأعراب قارئا يقرأ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر94] فسجد فقيل له ليست بآية سجود فقال سجدت لفصاحة هذا الكلام. فإذا تأملت طريقته وجدتها طريقة مخاطبة ملك الناس كلهم لعبيده ومماليكه وهذا أحد الدلائل الدالة على أنه كلامه الذي تكلم به حقيقة لا كلام غيره من المخلوقين وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلام وبين كلامه وكلام الله مالا يحصره نسبة فكيف
(25/79)
ص -710- يجوز في الأوهام والعقول أن تحمل جوامع كلمات الرب تعالى على ما يناقض عمومها ويحطها من مرتبة عظمة العموم ومحاسنه وجلالة شأنه إلى حضيض الخصوص بل الواجب أن يقال إن خطاب الله عز وجل في كل ما أمر به ونهى عنه وحمد أو ذم عليه ووعد عليه بثوابه وعقابه خرج في ذلك كله مخرجا عاما كليا بحسب ما تقتضيه جلالة الربوبية ومرتبة الملك والسلطان العام لجميع الخلق.
ولو ترك المتأولون ألفاظه تجري على دلائلها الكلية وأحكامها العامة وظواهرها المفهومة منها وحقائقها الموضوعة لها لأفادتهم اليقين وجزموا بمراد المتكلم بها ولانحسمت بذلك مواد أكثر التأويلات الباطلة والتحريفات التي تأباها العقول السليمة ولما تهيأ لكل مبطل أن يعمد إلى آيات من القرآن فينزلها على مذهبه الباطل ويتأولها عليه ويجعلها شاهدة له وهي في التحقيق شاهدة عليه ولسلم القرآن والحديث من الآفات التي جناها عليهما المتأولون وألصقها بهما المحرفون والله المستعان فهذا ما يتعلق بقوله إن الأدلة النقلية موقوفة على العلم بعدم التخصيص بالأزمنة والأمكنة والأشخاص.
الوجه السادس والثلاثون قوله وعدم الإضمار يقال الإضمار على ثلاثة أنواع نوع يعلم انتفاؤه قطعا وأن إرادته باطلة وهو الحال
(25/80)
ص -711- وهو حال أكثر الكلام فإنه لو سلط عليه الإضمار فسد التخاطب وبطلت العقود والأقارير والطلاق والعتاق والوصايا والوقوف والشهادات ولم يفهم أحد مراد أحد إذ يمكنه أن يضمر كلمة تغير المعنى ولا يدل المخاطب عليها.
وباب الإضمار لا ضابط له فكل من أراد إبطال كلام متكلم ادعى فيه إضمارا يخرجه عن ظاهره فيدعي ملحد الإضمار في قوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء164] أي وكلم ملك الله موسى ويدعي في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] إضمار ملك الرحمن كما ادعى بعضهم الإضمار في قوله ينزل ربنا أي ملك ربنا وفي قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر22] أي ملك ربك ولو علم هذا القائل أنه قد نهج الطريق وفتح الباب لكل ملحد على وجه الأرض وزنديق وصاحب بدعة يدعي فيما يحتج به لمذهبه عليه إضمار كلمة أو كلمتين نظير ما ادعاه لاختار أن يخرس لسانه
(25/81)
ص -712- ولا يفتح هذا الباب على نصوص الوحي فإنه مدخل لكل ملحد ومبتدع ومبطل لحجج الله من كتابه ومن رأى ما أضمره المتأولون من الرافضة والجهمية والقدرية والمعتزلة مما حرفوا به الكلم عن مواضعه وأزالوه به عن ما قصد له من البيان والدلالة.
علم أن لهم أوفر نصيب من مشابهة أهل الكتاب الذين ذمهم الله بالتحريف واللي والكتمان أفترى يعجز الجهمي عن الإضمار في قوله إنكم ترون ربكم عيانا فيضمر ملك ربكم ونعيمه وثوابه ونحو ذلك ويعجز الملحد عن الإضمار في قوله {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج7] أي أرواح من في القبور وإذا انفتح سد يأجوج ومأجوج أقبلوا من كل حدب ينسلون.
(25/82)
ص -713- النوع الثاني ما يشهد السياق والكلام به فكأنه مذكور في اللفظ وإن حذف اختصارا كقوله تعالى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء63] فكل واحد يعلم أن المعنى فضربه فانفلق فذكره نوع من بيان الواضحات فكان حذفه أحسن فإن الوهم لا يذهب إلى خلافه.
وكذلك قوله تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} [يوسف 62 , 63] فكل أحد يفهم من هذا السياق أنهم جعلوها في رحالهم وأنهم وصلوا بها إلى أبيهم ومثل هذا في القرآن كثير جدا وفهم الكلام لا يتوقف على أن يضمر فيه ذلك مع أنه مراد ولا بد فكيف يتوقف فهم الكلام الذي لا دليل فيه على الإضمار بوجه وهو كلام مفيد قائم بنفسه معط لمعناه على دليل منفصل يدل على أن المتكلم لم يضمر فيه خلاف ما أظهره وهل يتوقف أحد من العقلاء في فهم خطاب غيره له على هذا الدليل أو يخطر بباله.
والنوع الثالث كلام يحتمل الإضمار ويحتمل عدمه فهذا إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد قصده البيان والهدى والدلالة والإيضاح بكل طريق وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ وأن هذا هو المعروف المألوف من
(25/83)
ص -714- خطابه وأنه اللائق بحكمته لم يشك السامع في أن مراده ما دل عليه ظاهر كلامه دون ما يحتمله باطنه من إضمار مالم يجعل للسامع عليه دليلا ولا له إلى معرفته سبيلا إلا أن يجوز عليه أنه أراد منه ذلك وكلفه ما لا يطيقه وعرضه للعناء والمشقة والعزلة ولم يقصد البيان ولا نكير على من ظن ذلك في المتكلم أن يظن بكلامه ما هو مناسب لظنه به يوضحه
الوجه السابع والثلاثون إن الإضمار هو الإخفاء وهو أن يخفي المتكلم في نفسه معنى ويريد من المخاطب أن يفهمه فهذا إما أن يجعل له عليه دليلا من الخطاب أو لا فإن جعل له عليه دليلا من السياق لم يكن ذلك إضمارا محضا بل يكون قد أظهره له بما دله عليه من السياق ودلالة اللفظ قد تحصل من صريحه تارة ومن سياقه ومن قرائنه المتصلة به فهذا لا محذور فيه إذا كان المخاطب قد دل السامع على مقصوده ومراده وإن لم يجعل له عليه دليلا فإنه لم يقصد بيانه له بل عدل عن بيانه إلى بيان المذكور فلا يقال إن كلامه دل عليه بالإضمار فإن هذا كذب صريح عليه فتأمله فإنه واضح.
الوجه الثامن والثلاثون قوله وعدم التقديم والتأخير فهذا أيضا من نمط ما قبله فإنه نظم الكلام الطبيعي المعتاد الذي علمه الله للإنسان نعمة منه عليه أن يكون جاريا على المألوف المعتاد
(25/84)
ص -715- منه فالمقدم مقدم والمؤخر مؤخر فلا يفهم أحد قط من المضاف والمضاف إليه في لغة العرب إلا تقديم هذا وتأخير هذا وحيث قدموا المؤخر من المفعول ونحوه وأخروا المقدم من الفاعل ونحوه فلا بد أن يجعلوا في الكلام دليلا على ذلك لئلا يلتبس الخطاب فإذا قالوا ضرب زيدا عمرو لم يكن في هذا التقديم والتأخير إلباس فإذا قالوا ضرب موسى عيسى لم يكن عندهم المقدم إلا الفاعل فإذا أرادوا بيان أنه المفعول أتوا بما يدل السامع على ذلك من تابع منصوب يدل على أنه مفعول فلا يأتون بالتقديم والتأخير إلا حيث لا يلتبس على السامع ولا يقدح في بيان مراد المتكلم كقوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة124] وقوله {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج37] وقوله {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم47] وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء8] وقوله {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا} [الأعراف82]
(25/85)
ص -716- ونحوه فهذا من التقديم الذي لا يقدح في المعنى ولا في الفهم وله أسباب تحسنه وتقتضيه مذكورة في علم المعاني والبيان.
وأما ما يدعى من التقديم والتأخير في غير ذلك كما يدعي من التقديم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ} [يوسف 24] وإن هذا قد تقدم فيه جواب لولا عليها فهذا أولا لا يجيزه النحاة ولا دليل على دعواه ولا يقدح في العلم بالمراد وكذلك ما يدعون من التقديم والتأخير في قوله {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل28] قالوا تقديره فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم فكأنهم لما فهموا من قوله {تَوَلَّ عَنْهُمْ} مجيئه إليه ذاهبا عنهم احتاجوا إلى أن يتكلفوا ذلك وهذا لا حاجة إليه وإنما أمره بما جرت به عادة المرسل كتابه إلى غيره ليعلم ما يصنع به أن يعطيه الكتاب ثم ينعزل عنه حتى ينظر ماذا يقابله به وليس مراده بقوله {تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أقبل إلي ولو أراد ذلك لقال فألقه إليهم وأقبل وقد علم من كونه رسولا له أنه لا بد أن يرجع إليه فليس في ذلك كبير فائدة بخلاف أمره بتأمله أحوال القوم عند قراءة كتابه وقد انعزل عنهم ناحية.
(25/86)
ص -717- والتقديم والتأخير نوعان: نوع يخل تقديم المؤخر وتأخير المقدم فيه بفهم أصل المعنى فهذا لا يقع في كلام من يقصد البيان والتفهيم وإنما يقع في الألغاز والأحاجي وما يقصد المتكلم تعمية المعنى فيه وقد يقع بسبب شدة الاختصار وضيق القافية عن الترتيب المفهم كقول الفرزدق
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
فهذه شبيه باللغز ومعناه وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه وهذا النوع لا يقع في كلام الله ولا رسوله.
النوع الثاني التقديم والتأخير الذي لا يخل بأصل المعنى وإن أخل بالغرض المقصود فيكون مراعاته من باب إخراج الكلام على مقتضى الحال وهذا هو الذي يتكلم
(25/87)
ص -718- عليه علماء المعاني والبيان قال سيبويه وهو يذكر الفاعل والمفعول كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم انتهى كلامه.
وهذا يقع في باب الاستفهام والنفي والمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول فمن ذلك أنك إذا قلت أفعلت كذا وبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه وكان الغرض بالاستفهام علمك بوجوده وإذا قلت أنت فعلت كذا فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو وكان التردد فيه ففرق بين قولك أكتبت الكتاب وبين قولك أأنت كتبته وهذا كما أنه قائم في الاستفهام فكذلك هو في التقرير فإذا قلت أنت فعل هذا? كان المقصود تقريره بأنه هو الفاعل كما قال قوم إبراهيم له {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء62] فلم يكن مرادهم السؤال عن الفعل هل وجد أم لا ولو أرادوا ذلك لقالوا أكسرت أصنامنا? وإنما مرادهم السؤال عن الفاعل ولهذا كان الجواب قوله:
(25/88)
ص -719- {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء63] قالقائل أفعلت? سائل عن الفعل من غير تردد بين الفاعل وغيره وإذا قال أأنت فعلت? كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره ولم يكن منه تردد في نفس الفعل ومن هذا استفهام الإنكار كقوله تعالى {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء40] وقوله: (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات153] وقوله: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف45] فهذا إذا قدم الاسم فيه استحال الكلام من إنكار الفعل إلى الإنكار في الفاعل مثل قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة116] {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس59] وقول أهل النار {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} [سبأ32] فهذا سؤال عن فعل وقع فتوجه الإنكار إلى نسبته إلى الفاعل الذي نسب إليه وهذا كما إذا بلغك قول عن من لم تكن تظنه به قلت أفلان قال ذلك ? وأما قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام143]
(25/89)
ص -720- فإن الإنكار وإن توجه إلى نفس التحريم والمراد إنكاره من أصله فإنه خطاب لمن قد أثبت تحريما في أشياء وحلا في نظائرها فسئل عن عين المحرم أهو هذا فيشمل التحريم نظيره مما حلله أو الآخر فيشمل نظيره أيضا فكأنهم قيل لهم أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيم هو أفي هذا أم في ذاك أم في الثالث?ليتبين بطلان قولهم وتظهر فريتهم على الله وهذا كما تقول لمن يدعي أمرا وأنت تنكره متى كان هذا أفي ليل أم نهار? وكذلك تقول من أمرك بهذا? أو من إذن لك فيه? وأنت لا تريد أن آمر أمرعه به وأذن له فيه ولكن أخرجت الكلام مخرج من كان قد يتنزل مع مخاطبه إلى أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان عينه ووقته ومكانه والآمر به لكي يضيق عليه الجواب ويظهر كذبه حيث لا يمكنه أن يحيل على شيء مما سئل عنه فيفتضح وكذلك إذا قلت أتفعل كذا? كنت مستفهما له عن نفس الفعل وإذا قلت أأنت تفعل كذا? كنت مستفهما له عن كونه هو الفاعل فقوله تعالى {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس99] فخرجه غير مخرج قوله {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف28] وقوله {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة3]
(25/90)
ص -721- وقوله {نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود28] فأنت تجد تحت قولك أأنت الذي تقهرني? أن القاهر لي غيرك لا أنت وكذلك قوله {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} [يونس99] {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف40] وكذلك الشأن في تقديم المفعول وتأخيره كقوله تعالى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام14] {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام114] وقوله {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام40 , 41] فلو أخر لكان الاستفهام عن مجرد الفعل فلما قدم كان الاستفهام عن الفعل وكون المفعول المقدم مختصا به وكذلك قوله {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر24] لما كان الإنكار متوجها إلى كون المتبوع بشرا وأنه
(25/91)
ص -722- منهم وأنه واحد وردوه ولم يقع إنكارهم على مجرد الاتباع في قوة كلامهم أنه لو كان ملكا أو من غيرنا لا تلحقنا غضاضة برئاسته علينا أو عصبة كثيرة لا يمتنع من متابعتهم لاتبعناهم وكذلك التقديم بدل التأخير في النفي فإذا قلت ما فعلت كنت قد نفيت عنك الفعل ولم تتعرض لكونه فعل أو لم يفعل وإذا قلت ما أنا فعلت كنت قد نفيته عن نفسك مدعيا بأن غيرك فعله ومن ها هنا كان ذلك تعريضا بالقذف يوجب الحد في أصح القولين وبه عمل الصحابة في قول القائل أنا زنيت كما رفع إلى عمر بن الخطاب رجل لاحى آخر فقال ما أنا بزان ولا أمي بزانية فضربه الحد وهذا مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وكذلك إذا قلت ما ضربت زيدا كنت قد نفيت الضرب لزيد عنك ولم تتعرض لضرب وقع منك على غيره نفيا وإثباتا وإذا قلت ما زيدا ضربت كنت مفهما أن الضرب قد وقع منك على إنسان غير زيد.
(25/92)
ص -723- وكذلك الأمر في المبتدأ والخبر فهذا التقديم والتأخير يرجع إلى إيراد الكلام على مقتضى الحال التي يقصدها المتكلم ومن عرف أسلوب كلام العرب وطريقتهم في كلامهم فهم أحكام التقديم والتأخير وهذا غير مخرج لاستفادة السامع اليقين من كلام المتكلم ولا موقف لفهمه على دليل يدل على أنه أراد تأخير ما قدمه وتقديم ما أخره ليفهم خلاف المعنى الظاهر من كلامه.
الوجه التاسع والثلاثون: قوله وموقوف على نفي المعارض العقلي لئلا يفضي إلى القدح في العقل الذي يفتقر إليه النقل جوابه أنا لا نسلم أن القدح فيما عارض النقل من المعقول قدح فيما يحتاج إليه النقل فإن صحة النقل.
لا شيء عنده بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته.
وتأمل دلائلهم على ذلك يتبين أن العقل الصريح مع رسل الله كما معهم الوحي الصحيح.
وتأمل أقوالهم على تناقضها واختلافها في كلامه كيف? تجدها مخالفة لصريح العقل مخالفة بينة ودلائلهم على تلك
(25/93)
ص -724- الأقوال المختلفة أبطل منها وكيف يجد العقل الصريح أنا نشهد بما جاءت به الرسل أن الله سبحانه تكلم بكلام سمعه منه جبريل وبلغه إلى من أمر بتبليغه وكلم نبيه موسى وكلم ملائكته بكلام حقيقي سمعوه منه وأنه يتكلم بمشيئته وإرادته وكل قول خالف هذا فهو خلاف العقل الصريح وإن زخرفت له الألفاظ ونسجت له الشبه وتأمل ما جاءت به النصوص إن كلماته لا نهاية لها وهل يقتضي العقل الصريح غير ذلك? وتأمل ما جاءت به النصوص من شمول قدرته ومشيئته لجميع الكائنات أعيانها وصفاتها وأفعالها وما خالف ذلك فهو مخالف لصريح العقل.
كما أن النصوص جاءت بأن أفعال العباد أعمال لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم ليست أفعالا لله وإن كانت مفعولة له تجد ما خالف ذلك مخالفا لصريح العقل.
وتأمل ما جاءت به النصوص أنه سبحانه لم يزل ملكا ربا غفورا رحيما محسنا قادرا لا يعجزه الفعل ولا يمتنع عليه وكيف لا تجد ما خالف ذلك مخالفا لصريح العقل كقول الفلاسفة أنه لا يفعل باختياره ومشيئته وقول المتكلمين أنه كان من الأزل إلى حيث خلق هذا العالم
(25/94)
ص -725- معطلاعن الفعل غير متمكن منه والفعل مستحيل ثم انقلب من اإلإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي بأن تجدد سبب اقتضى ذلك فانظر أي هذه المذاهب مخالف لصريح العقل كما هو مخالف لصحيح النقل وتأمل قولهم في الإرادة والقدرة والعلم كيف أثبتوا إرادة لا تفعل وقدرة لا تفعل وعلما لا يعقل فقابلهم طائفة من الفلاسفة كيحيى بن عدي النصراني قولها في الكلمة إنها الله كقول المتكلمين في السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة أنها نفس الذات فانظر مخالفة هذه الطوائف لصريح العقل وتأمل قولهم إن السمع هو عين البصر والبصر هو عين السمع والبصر هو عين العلم والكل صفة واحدة فهل في مخالفة العقل الصريح أشد من ذلك وتأمل قولهم إن الرب تعالى علة ثابتة في الأزل لجميع المعلولات.
(25/95)
ص -726- ووجودها في آن واحد مستحيل فجلعوه علة ثابتة لنا هو ممتنع الوجود في غير وقته وهذا قول الفلاسفة فقابلهم المتكلمون في ذلك ولم يجعلوا الفعل ممكنا له في الأزل بحال ولم يفرقوا بين نوع الفعل وعينه وخالف الفريقان صريح العقل.
فتأمل قول الفريقين في الموجب بالذات والفاعل بالاختيار كيف تجدهم قد خرجوا فيه عن صريح العقل وقالوا ما يشهد العقل ببطلانه.
وتأمل قولهم في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كيف خرجوا عن صريح العقل في المصدر والصادر عنه.
وتأمل قولهم في إنكار قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه التي ترجموها بمسألة حلول الحوادث كيف خرجوا فيها عن المعقول الصريح وكابروه أبين مكابرة والتزموا لأجله تعطيل الحي الفعال عن كل فعل والتزموا لأجله حصول مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق فإن الفعل عندهم عين المفعول والخلق نفس المخلوق وهذا مكابرة لصريح العقل.
(25/96)
ص -727- وتأمل خروجهم عن العقل الصريح في إنكار الحكم والغايات التي يفعل الرب تعالى لأجلها وإنه لا يرى عيانا لا فوق الذاتي ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره ثم زادوا جواز تعلق الرؤية بكل موجود من الأصوات والروائح والمعاني وتعلق الإدراكات الخمس بذلك فجوزوا سماع الرائحة وشم الأصوات وسماع الطعوم فخرجوا عن صريح المعقول كما خرجوا عن صحيح المنقول أن المسلمين يرون ربهم من فوقهم.
وتأمل خروجهم عن صريح العقل في مسألة الطفرة والأحوال والكسب ومسألة النبوات وأن النبوة
(25/97)
ص -728- لا ترجع إلى صفة وجودية وإنما هي تعلق الخطاب القديم بالشيء والتعلق أمر عدمي.
وتأمل خروجهم عن صريح العقل بتجويزهم رؤية الشيء في غير جهة من الذاتي وقولهم بأن المتولدات لا فاعل لها وقولهم بأن الله مريد بإرادة يخلقها لا في محل فخالفوا صريح العقل من وجهين من إثبات كونه مريدا من غير قيام صفة الإرادة به ومن جعلهم صفة الإرادة قائمة بغير محل ومن ذلك خروجهم عن صريح العقل في قولهم إن الرب تعالى عالم بلا علم سميع بلا سمع بصير بلا بصر قادر بلا قدرة حي بلا حياة فأنكر ذلك عليهم طوائف العقلاء ففر بعضهم إلى أن قال علمه وسمعه وبصره وقدرته وحياته هي ذاته وقال أعقلهم عند نفسه وعند أتباعه إنه سبحانه علم كله وقدرة كله وحياة كله وسمع كله وبصر كله إلى إضعاف أضاف ما ذكرنا من
(25/98)
ص -729- أقوالهم التي خرجوا فيها عن صريح العقل فهل تجد في نصوص الوحي التي عارضوا فيها بين العقل والنقل مثل ذلك أو قريبا منه فتأملها وتأمل أقوالهم تعلم أي النوعين معه العقل ومن الذي خرج عن صريحه وبالله التوفيق.
الوجه الأربعون: إن الأدلة القاطعة قد قامت على صدق الرسول في كل ما يخبر به ودلالتها على صدقه أبين وأظهر من دلالة تلك الشبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء ولا يستريب في ذلك إلا موؤف في عقله مصاب في قلبه وفطرته فأين الشبه النافية لعلو الله على خلقه وتكلمه بمشيئته وتكليمه لخلقه ولصفات كماله ولرؤيته بالأبصار في الدار الآخرة ولقيام أفعاله به إلى براهين نبوته وصدقه التي زادت على الألف وتنوعت كل تنوع فكيف يقدح في البراهين العقلية الضرورية بالشبه الخيالية المتناقضة إلا من هو من أفسد
(25/99)
ص -730- الناس عقلا ونظرا وهل ذلك إلا من جنس الشبه التي أوردوها في التشكيك في الحسيات والبديهيات فإنها وإن عجز كثير من الناس عن حلها فهم يعلمون أنها قدح فيما علموه بالحس والإضطرار فمن قدر على حلها وإلا لم يتوقف جزمه بما علمه بحسه واضطراره على حلها وكذلك الحال في الشبه التي عارضت ما أخبر به الرسول سواء فإن المصدق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في صدقه ولا في الإيمان به وإن عجز عن حلها فإن تصديقه بما جاء به الرسول ضروري وهذه الشبه عنده لا تزيل ما علمه بالضرورة فكيف إذا تبين بطلانها على التفصيل يوضحه:
الوجه الحادي والأربعون: وهو أن الرسول بين مراده وقد بين لنا أكثر مما تبين لنا كثيرا من دقائق المعقولات الصحيحة فمعرفتنا بمراد الرسول من كلامه فوق معرفتنا بتلك الدقائق إذا كانت صحيحة المقدمات في نفسها صادقة النتيجة غير كاذبة فكيف إذا كان الأمر فيها بخلاف ذلك فتلك التي تسمى معقولات قد تكون خطأ
(25/100)
ص -731- ولكن لم يتفطن لخطئها وأما كلام المعصوم فقد قام البرهان القاطع على صدقه وأنه حق ولكن قد يحصل الغلط في فهمه فيفهم منه ما يخالف صريح العقل فيقع التعارض بين ما فهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل فهذا لا يدفع ولكن إذا تأمله من وهبه الله حسن القصد وصحة التصور تبين له أن المعارضة واقعة بين ما فهمه النفاة من النصوص وبين العقل الصريح وأنها غير واقعة بين ما دل عليه النقل وبين العقل.
ومن أراد معرفة هذا فليوازن بين مدلول النصوص وبين العقل الصريح ليبين له مطابقة أحدهما للآخر ثم يوازن بين أقوال النفاة وبين العقل الصريح فإنه يعلم حينئذ أن النفاة أخطأوا خطأين خطأ بينا على السمع بأن فهموا منه خلاف مراد المتكلم وخطأ على العقل بخروجهم عن حكمه فخرجوا عن العقل والسمع جميعا.
الوجه الثاني والأربعون: إن المعارضين بين العقل والنقل وبين ما أخبر به الرسول قد اعترفوا بأن العلم بانتفاء المعارض مطلقا لا سبيل إليه إذ ما من معارض بنفسه إلا ويحتمل أن يكون له معارض آخر وهذا مما اعتمد عليه صاحب نهاية
(25/101)
ص -732- العقول وجعل السمعيات لا يحتج بها على العلم بحال وحاصل هذا أنا لا نعلم ثبوت ما أخبر به الرسول حتى نعلم انتفاء ما يعارضه ولا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض مطلقا لما تقدم وأيضا فلا يلزم من انتفاء العلم بالمعارض العلم بانتفاء المعارض ولا ريب أن هذا القول من أفسد أقوال العالم وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد والزندقة وليس في عزل الوحي عن مرتبته أبلغ من هذا.
الوجه الثالث والأربعون: أن الله سبحانه قد أخبر في كتابه أن على الرسول البلاغ المبين فقال تعالى {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور54] , [العنكبوت18] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة67]
(25/102)
ص -733- وقال {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل44] وقد شهد الله له وكفى به شهيدا بالبلاغ الذي أمر به فقال {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات54] وشهد له أعقل الخلق وأفضلهم وأعلمهم بأنه قد بلغ فأشهد الله عليهم بذلك في أعظم مجمع وأفضله فقال في خطبته بعرفات في حجة الوداع إنكم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون قالوا نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت فرفع إصبعه إلى السماء مستشهدا بربه الذي فوق سمواته وقال اللهم اشهد فلو لم يكن قد عرف المسلمون وتيقنوا ما أرسل به وحصل لهم منه العلم اليقين لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين ولما رفع الله عنه اللوم ولما شهد له أعقل الأمة بأنه قد بلغ وبين وغاية ما عند النفاة أنه بلغهم ألفاظا لا تفيدهم علما ولا يقينا وأحالهم في
(25/103)
ص -734- طلب العلم واليقين على عقولهم ونظرهم وأبحاثهم لا على ما أوحي إليه وهذا معلوم البطلان بالضرورة.
الوجه الرابع والأربعون: إن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق فلو وزن عقله بعقولهم لرجح بها كلها وقد أخبر سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان كما لم يكن يدري الكتاب.
فقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى52] وقال تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى7 , 6] وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر الشورى فإذا كان أعقل خلق الله على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال تعالى {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ50].
(25/104)
ص -735- فكيف يحصل لسفهاء العقول وأخفاء الأحلام وفراش الألباب الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الأنبياء: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم90 , 89]
الوجه الخامس والأربعون: إن الله سبحانه قد أقام الحجة على خلقه بكتابه ورسله فقال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان1] وقال {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام19] فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله به وقال تعالى:
(25/105)
ص -736- {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء165] وقال تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء15] وقال تعالى {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك9 , 8] {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك11 , 10] وقال تعالى {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر71] وقال {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام130]
(25/106)
ص -737- فلو كان كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين والعلم والعقل معارض للنقل فأي حجة تكون قد قامت على المكلفين بالكتاب والرسول وهل هذا القول إلا مناقض لإقامة حجة الله على خلقه بكتابه من كل وجه وهذا ظاهر لكل من فهمه ولله الحمد.
الوجه السادس والأربعون: إن الله سبحانه وصف نفسه بأنه بين لعباده غاية البيان وأمر رسوله بالبيان وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبين للناس ولهذا قال الزهري من الله البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده أو المعنى وحده أو اللفظ والمعنى جميعا ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى فإن هذا لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الرسالة وبيان المعنى وحده بدون دليله وهو اللفظ الدال عليه ممتنع فعلم قطعا أن المراد بيان اللفظ والمعنى. والله تعالى أنزل كتابه ألفاظه ومعانيه وأرسل رسوله ليبين اللفظ والمعنى فكما أنا نقطع ونتيقن أنه بين اللفظ
(25/107)
ص -738- فكذلك نقطع ونتيقن أنه بين المعنى بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ وهذا هو الذي ينبغي فإن المعنى هو المقصود وأما اللفظ فوسيلة إليه ودليل عليه فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود وكيف نتيقن بيانه للوسيلة ولا نتيقن بيانه للمقصود وهل هذا إلا من أبين المحال فإن جاز عليه أن لا يبين المراد من ألفاظ القرآن جاز عليه أن لا يبين بعض ألفاظه فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها ومدلولاتها وقد كتمه عن الأمة ولم يبينه لها كان ذلك قدحا في رسالته وعصمته وفتحا للزنادقة والملاحدة من الرافضة وإخوانهم باب كتمان بعض ما أنزل عليه وهذا مناف للإيمان به وبرسالته يوضحه:
(25/108)
ص -739- الوجه السابع والأربعون: إن القائل بأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين إما أن يقول إنها تفيد ظنا أو لا تفيد علما ولا ظنا فإن قال لا تفيد علما ولا ظنا فهو مع مكابرته للعقل والسمع والفطرة الإنسانية من أعظم الناس كفرا وإلحادا وإن قال بل تفيد ظنا غالبا وإن لم تفد يقينا قيل له فالله سبحانه قد ذم الظن المجرد وأهله فقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم28] فأخبر أنه ظن لا يوافق الحق ولا يطابقه وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم23] وقال أهل النار {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية32] ولكان قوله تعالى عنهم {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة4] خبرا غير مطابق فإن علمهم بالآخرة إنما استفادوه من
(25/109)
ص -740- الأدلة اللفظية لا سيما وجمهور المتكلمين يصرحون بأن المعاد إنما علم بالنقل فإذا كان النقل لا يفيد يقينا لم يكن في الأمة من يوقن بالآخرة إذ الأدلة العقلية لا مدخل لها فيها وكفى بهذا بطلانا وفسادا فإنه سبحانه لم يكتف من عباده بالظن بل أمرهم بالعلم كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد19] وقوله {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة98] وقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة223] ونظائر ذلك وإنما يجوز اتباع الظن في بعض المواضع للحاجة كحادثة يخفى على المجتهد حكمها أو في الأمور الجزئية كتقويم السلع ونحوه.
وأما ما بينه الله في كتابه وعلى لسان رسوله فمن لم يتيقن بل ظنه ظنا فهو من أهل الوعيد ليس من أهل الإيمان فلو كانت الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لكان ما بينه الله ورسوله بالكتاب والسنة لم يتيقنه أحد من الأمة.
(25/110)
ص -741- الوجه الثامن والأربعون: إن الله سبحانه أخبر أن قلوب المؤمنين مطمئنة بذكره وهو كتابه الذي هدى به عباده فقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد28 , 27] أجابهم سبحانه عن سؤالهم ترك إنزال آيات الاقتراح بجوابين:
أحدهما أنها لا توجب إيمانا بل الله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا الآيات التي اقترحتموها
الثاني أنه نبههم على أعظم الآيات وأشدها اقتضاء للإيمان وأنها في اقتضائها للإيمان أبلغ من الآيات التي تقترحونها وهي كتابه الذي هو ذكره وما تضمنه من الحق الذي تطمئن إليه القلوب وتسكن إليه النفوس ولو كان باطلا لم يزد القلوب إلا شكا وريبا فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة فلو كانت كلماته وألفاظه لا تفيد اليقين بمدلولها لم تطمئن به القلوب فإن الطمأنينة هي سكون القلب إلى الشيء ووثوقه به وهذا لا يكون إلا مع اليقين بل هو اليقين بعينه.
ولهذا تجد قلوب أصحاب الأدلة السمعية مطمئنة بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته واليوم
(25/111)
ص -742- الآخر لا يضطربون في ذلك ولا يتنازعون فيه ولا يعرض لهم الشك عند الموت ولا يشهدون على أنفسهم ويشهدون على غيرهم بالحيرة والوقوف والشك فيكفي في صحة مدلول الأدلة اللفظية وبطلان مدلول الشبه العقلية التي تخالفها هذا القدر وحده.
فمتى رأيت أصحاب الأدلة السمعية يقول أحدهم عند الموت نهاية إقدام العقول عقال أو يقول لعمري لقد طفت المعاهد كلها أو يقول فيك يا أغلوطة الفكر أو يقول والله ما أدري على أي عقيدة أموت إلى أضعاف ذلك من أحوال أصحاب الشبه العقلية وبالله التوفيق.
الوجه التاسع والأربعون: قوله إن العلم بمدلول الأدلة اللفظية موقوف على نقل اللغة كلام ظاهر البطلان فإن دلالة القرآن والسنة على معانيها من جنس دلالة لغة كل قوم على ما يعرفونه ويعتادونه من تلك اللغة وهذا لا يخص العرب بل هو أمر
(25/112)
ص -743- ضروري لجميع بني آدم يتوقف العلم بمدلول ألفاظهم على كونهم من أهل تلك اللغة التي وقع بينهم بها التخاطب ولهذا لم يرسل الله رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم فتقوم عليهم الحجة بما فهموه من خطابه لهم.
فدلالة اللفظ هي العلم بقصد المتكلم به ويراد بالدلالة أمران نقل الدال وكون اللفظ بحيث يفهم معنى ولهذا يقال دله بكلامه دلالة ودل الكلام على هذا دلالة فالمتكلم دال بكلامه وكلامه دال بنظامه وذلك يعرف من عادة المتكلم في ألفاظه فإذا كانت عادته أنه قصد بهذا اللفظ هذا المعنى علمنا متى خاطبنا به أنه أراده من وجهين:
أحدهما: أن دلالة اللفظ مبناها على عادة المتكلم التي يقصدها بألفاظه ولهذا استدل على مراده بلغته التي عادته أن يتكلم بها فإذا عرف السامع ذلك المعنى وعرف أن عادة المتكلم إذا تكلم بذلك اللفظ أن يقصده علم أنه مراده قطعا وإلا لم يعلم مراد المتكلم أبدا وهو محال.
الثاني: إن المتكلم إذا كان قصده إفهام المخاطبين كلامه وعلم السامع من طريقته وصفته أن ذلك قصده لا أن قصده التلبيس والإلغاز أفاده مجموع العلمين اليقين بمراده ولم يشك فيه ولو تخلف عنه العلم لكان ذلك قادحا في أحد العلمين إما قادحا في علمه بموضوع ذلك
(25/113)
ص -744- اللفظ وإما في علمه بعبارة المتكلم به وصفاته وقصده فمتى عرف موضوعه وعرف عادة المتكلم أفاده ذلك القطع يوضحه:
الوجه الخمسون: إن السامع متى سمع المتكلم يقول لبست ثوبا وركبت فرسا وأكلت لحما وهو عالم بمدلول هذه الألفاظ من عرف المتكلم وعالم أن المتكلم لا يقصد بقوله لبست ثوبا معنى ذبحت شاة ولا من قوله ركبت فرسا معنى لبست ثوبا علم مراده قطعا.
فإن من قصد خلاف ذلك عد ملبسا مدلسا لا مبينا مفهما وهذا مستحيل على الله ورسوله أعظم استحالة وإن جاز على أهل التخاطب فيما بينهم فاءذا إفادة كلام الله ورسوله لليقين فوق استفادة ذلك من كلام كل متكلم وهو أدل على كلام الله ورسوله من دلالة كلام غيره على مراده.
وكلما كان السامع أعرف بالمتكلم وصفاته وقصده وبيانه وعادته كان استفادته للعلم بمراده أكمل وأتم.
الوجه الحادي والخمسون: إن معرفة مراد المتكلم تعرف بإطراد استعماله ذلك اللفظ في ذلك المعنى في مجاري كلامه ومخاطباته فإذا ألف منه إطلاق ذلك اللفظ أو اضطراده في استعماله في معنى ألف منه أنه متى أطلقه أراد ذلك المعنى وألف منه تجريده في
(25/114)
ص -745- موارد استعماله من اقتران ما يدل على خلاف موضوعه أفاد ذلك علما يقينا لا ريب فيه لمراده.
الوجه الثاني والخمسون: إن من تأمل عامة ألفاظ القرآن وجدها نصوصا صريحة دالة على معناها دلالة لا تحتمل غيرها بوجه من الوجوه وهذا كأسماء الأنبياء وأسماء الأجناس وكأسماء الأعلام وكأسمائه سبحانه التي أطلقها على نفسه فإنها لا تصلح أن يكون المراد بها غيره البتة ظاهرة كانت أم مضمرة وكأسماء يوم القيامة والجنة والنار والسماء والأعداد وذكر الثقلين وخطابهم وعامة ألفاظ القرآن فهل يفهم أحد قط من قوله {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [الناس3 , 1] غير الله سبحانه ومن {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس4] غير الشيطان ومن {صُدُورِ النَّاسِ} [الناس5].
(25/115)
ص -746- غير بني آدم وهل يفهم من قوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الصمد1] غير ذات رب العالمين وأنه واحد لا شريك له وأنه لم يولد من غيره ولم يلد منه غيره وليس له من يماثله ويكائفه وهل يفهم من {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها [المسد5 , 1] غير ما دلت عليه وهكذا جميع سور القرآن وآياته مفيدة لليقين بالمراد منها وإن أشكل على كثير من الناس كثير من ألفاظه فإن هذا لا يخرجه عن إفادته اليقين ولا يسلب الأدلة اللفظية عن إفادتها اليقين بل كل علم من علوم بني آدم اليقينية القطعية تشتمل على مسائل يتيقنها أصحاب ذلك العلم وهي مسلمة عندهم ومجهولة عند كثير منهم ولا يخرج ذلك العلم عن كونه يقينيا قطعيا فعزل الأدلة اللفظية جملة عن اليقين لألفاظ يسيرة مشتبهة على بعض الناس كعزل العلوم اليقينية القطعية عن موضوعها لمسائل يسيرة فيها غير يقينية ولا قطعية.
الوجه الثالث والخمسون: إن قوله إن فهم الأدلة اللفظية موقوف على نقل النحو والتصريف جوابه إن القرآن نقل إعرابه كما نقلت ألفاظه
(25/116)
ص -747- ومعانيه لا فرق في ذلك كله فألفاظه متواترة وإعرابه متواتر ونقل معانيه أظهر من نقل ألفاظه وإعرابه كما تقدم بيانه فإن القرآن لغته ونحوه وتصريفه ومعانيه كلها منقولة بالتواتر لا يحتاج في ذلك إلى نقل غيره بل نقل ذلك كله بالتواتر أصح من نقل كل لغة نقلها ناقل على وجه الأرض وقواعد الإعراب والتصريف الصحيحة مستفادة منه مأخوذة من إعرابه وتصريفه وهو الشاهد على صحة غيرها مما يحتج له بها فهو الحجة لها والشاهد وشواهد الإعراب والمعاني منه أقوى وأصح من الشواهد من غيره حتى إن فيه من قواعد الإعراب وقواعد علم المعاني والبيان مالم تشتمل عليه ضوابط النحاة وأهل علم المعاني إلى الآن كما أن فيه من قواعد البراهين العقلية والأدلة القطعية ووجوهها مالم تشتمل عليه قواعد الأصوليين والجدليين إلى الآن وفيه من علم الأحكام وفقه القلوب وأعمال الجوارح وطرق الحكم بين العباد مالم تتضمنه قواعد الفقهاء إلى الآن وهذا أمر يتسارع الجهال والمقلدون إلى إنكاره والذين أوتوا العلم يعرفونه حقا فبطل قولا هؤلاء إن الأدلة اللفظية تتوقف دلالتها على عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ ورواة إعرابها وتصريفها وظهر تدليسهم وتلبيسهم في هذا القول وبالله التوفيق.
(25/117)
ص -748- الوجه الرابع والخمسون: أن يقال هب أنه يحتاج إلى نقل ذلك لكن عامة ألفاظ القرآن منقول معناها وإعرابها بالتواتر لا يحتاج الناس فيه إلى النقل عن عدول أهل العربية كالخليل وسيبويه والأصمعي وأبي عبيدة والكسائي
(25/118)
ص -749- والفراء حتى الألفاظ الغريبة في القرآن مثل {أُبْسِلُوا} و {قِسْمَةٌ ضِيزَى} و {عَسْعَسَ} ونحوها معانيها منقولة في اللغة بالتواتر لا يختص بنقلها الواحد والاثنان فلم تتوقف دلالتها على عصمة رواة معانيها فكيف في الألفاظ الشهيرة كالشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والجبال والشجر والدواب فهذه الدعوى باطلة في الألفاظ الغريبة والألفاظ الشهيرة.
الوجه الخامس والخمسون: إن أصحاب هذا القانون الذي عزلوا به نصوص الوحي عن إفادتها للعلم واليقين قالوا إن أظهر الألفاظ لفظ الله وقد اختلف الناس فيه أعظم اختلاف هل
(25/119)
ص -750- هو مشتق أم لا وهل هو مشتق من التأله أو من الوله أو من لاه إذا احتجب وكذلك اسم الصلاة وفيه من الاختلاف ما فيه وهل هو مشتق من الدعاء أو من الاتباع أو من تحريك الصلوين فإذا كان هذا في أظهر الأسماء فما الظن بغيره فتأمل هذا الوهم والإيهام واللبس والتلبيس فإن جميع أهل الأرض علمائهم وجهالهم ومن يعرف الاشتقاق ومن لا يعرفه وعربهم وعجمهم يعلمون أن الله اسم لرب العالمين خالق السموات والأرض الذي يحيي ويميت وهو رب كل شيء ومليكه فهم لا يختلفون في أن هذا الاسم يراد به هذا المسمى وهو أظهر عندهم وأعرف وأشهر من كل اسم وضع لكل مسمى وإن كان الناس متنازعين في اشتقاقه فليس ذلك بنزاع منهم في معناه وكذلك الصلاة لم يتنازعوا في معناها الذي أراده الله ورسوله وإن اختلفوا في اشتقاقها وكذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال64] لم يتنازعوا في المراد به وأنه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب وإن اختلفوا في اشتقاقه هل هو من النبأ أو من النبوة فليس ذلك نزاعا منهم في مسماه وكذلك مواضع كثيرة تتنازع النحاة في وجه دلالتها مع اتفاقهم على المعنى كقوله:
(25/120)
ص -751- {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف3] فالبصريون يجعلونها مخففة من الثقيلة واللام فارقة بين المخففة والنافية والكوفيون يجعلونها نافية واللام بمعنى إلا. وليس هذا نزاعا في المعنى وإن كان نزاعا في وجه الدلالة عليه وكذلك قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء176] يقدره البصريون كراهة أن تضلوا والكوفيون لئلا تضلوا وكذلك اختلافهم في التنازع وأمثال ذلك إنما هو نزاع في وجه دلالة اللفظ على ذلك المعنى مع اتفاقهم على أن المعنى واحد وهذا القدر لا يخرج اللفظ عن إفادته للسامع اليقين بمسماه.
الوجه السادس والخمسون أن يقال هذه الوجوه العشرة مدارها على حرف واحد وهو أن الدليل اللفظي يحتمل أزيد من معنى واحد فلا نقطع بإرادة المعنى الواحد فهذه الوجوه العشرة مضمونها كلها احتمال اللفظ لمعنيين فصاعدا حتى لا يعرف
(25/121)
ص -752- عين مراد المتكلم فنقول من المعلوم أن أهل اللغة لم يسوغوا للمتكلم أن يتكلم بما يريد به خلاف ظاهره إلا مع قرينة تبين المراد والمجاز إنما يدل مع القرينة بخلاف الحقيقة فإنها تدل على التجرد وكذلك الحذف والإضمار لا يجوز إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه وكذلك التخصيص ليس لأحد أن يدعيه إلا مع قرينة تدل عليه فلا يسوغ العقلاء لأحد أن يقول جاءني زيد وهو يريد ابن زيد إلا مع قرينة كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف82] واسأل العير عند من يقول إنه من هذا الباب فإنه يقول القرية والعير لا يسألون فعلم أنه أراد أهلها ومن جعل القرية اسما للسكان والمسكن والعير اسما للركبان والمركوب لم يحتج إلى هذا التقدير وإذا كانت هذه الأنواع لا تجوز مع تجرد الكلام عن القرائن المبينة للمراد فحيث تجردت علمنا قطعا أنه لم يرد بها ذلك وليس لقائل أن يقول قد تكون القرائن موجودة ولا نعلم بها لأن من القرائن ما يجب أن يكون لفظيا كمخصصات الأعداد وغيرها ومنها ما يكون معنويا كالقرائن الحالية
(25/122)
ص -753- والمقالية والنوعان لا بد أن يكونا ظاهرين للمخاطب ليفهم من تلك القرائن مراد المتكلم فإذا تجرد الكلام عن القرائن فهم معناه المراد عند التجرد وإذا اقترن بتلك القرائن فهم معناه المراد عند الاقتران فلم يقع لبس في الكلام المجرد ولا في الكلام المقيد إذ كل من النوعين مفهم لمعناه المختص به.
وقد اتفقت اللغة والشرع على أن اللفظ المجرد إنما يراد به ما ظهر منه وما يقدر من احتمال مجاز أو اشتراك أو حذف أو إضمار ونحوه إنما يقع مع القرينة أما مع عدمها فلا والمراد معلوم على التقديرين يوضحه:
الوجه السابع والخمسون: إن غاية ما يقال إن في القرآن ألفاظا استعملت في معان لم تكن تعرفها العرب وهي الأسماء الشرعية كالصلاة والزكاة والصيام والاعتكاف ونحوها والأسماء الدينية كالإسلام والإيمان والكفر والنفاق ونحوها وأسماء
(25/123)
ص -754- مجملة لم يرد ظاهرها كالسارق والسارقة والزاني والزانية ونحوه وأسماء مشتركة كالقرء وعسعس ونحوهما فهذه الأسماء لا تفيد اليقين بالمراد منها فيقال هذه الأسماء جارية في القرآن ثلاثة أنواع نوع بيانه معه فهو مع بيانه يفيد اليقين بالمراد منه ونوع بيانه في آية أخرى فيستفاد اليقين بالمراد من مجموع الإثنين ونوع بيانه موكول إلى الرسول فيستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرسول ولم نقل نحن ولا أحد من العقلاء إن كل لفظ فهو مفيد لليقين بالمراد منه بمجرده من غير احتياج إلى لفظ آخر متصل به أو منفصل عنه بل نقول إن مراد المتكلم يعلم من لفظه المجرد تارة والمقرون تارة ومنه ومن لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارة ومنه ومن بيان آخر بالفعل أو القول يحيل المتكلم عليه تارة وليس في القرآن خطاب أريد منه العلم بمدلوله إلا وهو داخل في هذه الأقسام.
(25/124)
ص -755- فالبيان المقترن كقوله {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة187] وكقوله {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء95] وقوله {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت14] ونظائر ذلك والبيان المنفصل كقوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة233] وقوله {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان14] مع قوله {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف15] فأفاد مجموع اللفظين بأن مدة الحمل ستة أشهر وكذلك قوله:
(25/125)
ص -756- {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء12] مع قوله {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الآية [النساء176] أفاد مجموع النصين العلم بالمراد من الكلالة وأنه من لا ولد له وإن سفل ولا والد له وإن علا وكذلك قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق6] مع قوله {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق2] أفاد مجموع الخطابين في الرجعيات دون البوائن ومنه قوله {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير17/18] مع قوله {كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر34-32] فإن مجموع الخطابين يفيدان العلم بأن الرب سبحانه أقسم بإدبار هذا وإقبال هذا أو بإقبال كل منهما على من
(25/126)
ص -757- فسر أدبر بأنه دبر النهار أي جاء في دبره وعسعس بأقبل فعلى هذا القول يكون الإقسام بإقبال الليل وإقبال النهار وعلى القول الأول يكون قد وقع الإقسام بإدبار الليل وإقبال النهار وقد يقال وقع الإقسام في الاثنين بالنوعين.
وأما البيان الذي يحيل المتكلم عليه فكما أحال الله سبحانه وتعالى على رسوله في بيان ما أمر به عباده من الصلاة والزكاة والحج وفرائض الإسلام التي إنما علم مقاديرها وصفاتها وهيئاتها من بيان الرسول فلا يخرج خطاب القرآن عن هذه الوجوه ولم يخاطب الله عباده بلفظ إلا وقد بين لهم مراده به بأحد هذه الوجوه الأربعة فصار الخطاب مع بيانه مفيدا لليقين بالمراد منه وإن لم يكن بيانه متصلا به وذلك لا يعزل كلام الله ورسوله عن إفاة العلم واليقين.
الوجه الثامن والخمسون: إن حصول اليقين بمدلول الأدلة السمعية والعلم بمراد المتكلم بها أيسر وأظهر من حصوله بمدلول الأدلة العقلية.
(25/127)
ص -758- فإن الأدلة السمعية تدل بقصد الدال وإرادته وعلم المخاطب بذلك أيسر عليه من علمه باقتضاء الدليل العقلي مدلوله ولهذا كان أول ما يفعله الطفل معرفة مراد أبويه بخطابهما له قبل علمه بالأدلة العقلية وأيضا فمن قصد تعليم غيره مقتضى الدليل العقلي لم يمكنه ذلك حتى يعرفه مدلول الألفاظ التي صاغ بها الدليل العقلي فعلمه بمدلول الدليل السمعي الدال على مقتضى الدليل العقلي أسبق إليه وأيسر عليه وهذا هو الترتيب الطبيعي الموجود في الناس كما يخاطب المعلم المتعلم بالألفاظ الدالة على الدليل العقلي فلا بد أن يعرف مدلول تلك الألفاظ أولا ثم يرتب مدلولها في ذهنه ترتيبا ينتج له العلم بالنتيجة وليس أحد من البشر يستغني عن التعلم السمعي كيف وآدم أبوهم أول من علمه الله أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها وكلمه قبيلا ونبأه وعلمه بخطاب الوحي مالم يعلمه بمجرد العقل وهكذا جميع الأنبياء من ذريته علمهم بالأدلة السمعية وهي الوحي مالم يعلموه بمجرد عقولهم وحصل لهم من اليقين
(25/128)
ص -759- والعلم بالأدلة السمعية التي هي خطاب الله لهم مالم يحصل لهم بمجرد العقل وأحيلوا هم وأممهم على الأدلة السمعية ولم يحالوا على العقل وهداهم الله بالأدلة السمعية لا بمجرد العقل وأقام حجته على أممهم بالأدلة السمعية لا بالعقل يوضحه:
الوجه التاسع والخمسون: وهو ما اتفقت عليه أهل الملل أن النبوة خطاب سمعي بوحي يوحيه الملك إلى النبي عن الرب تعالى ليست مجرد معرفة الحقائق بقوة قدسية في البشر تميز بها عن غيره وقوة تخيل وتخييل يتمكن بها من التصور وحسن البصيرة وقوة تأثير يتمكن بها من التصرف في عناصر العالم كما يقول المتفلسفة ويقولون إن ما يحصل للنبي من المعارف إنما هو بواسطة القياس العقلي كغيره من البشر لكن هو أسرع وأكمل إدراكا للحد الأوسط من غيره ويزعمون أن علم الرب كذلك والقائلون بأن اليقين والعلم إنما يحصل من الأدلة العقلية لا من الأدلة السمعية هم هؤلاء وعنهم تلقى هذا الأصل ومنه أخذ فهو أحد أصول الفلسفة
(25/129)
ص -760- والإلحاد والزندقة الذي يتضمن عزل النبوات وما جاءت به الرسل عن الله من الأدلة السمعية وتولية القواعد المنطقية والآراء الفلسفية فأخذه منهم متأخرو الجهمية فصالوا به على أهل الكتاب والسنة ولقد كان قدماؤهم لا يصرحون بذلك ولا يتجاسرون عليه فكشف المتأخرون القناع وألقوا جلباب الدين وصرحوا بعزل الوحي عن درجه والمسلمون بل وأهل الملل قاطبة يعلمون بالضرورة أن أكمل التعليم تعليم الله لصفيه آدم الأسماء كلها وأكمل التكليم تكليمه سبحانه لكليمه موسى وأعلى أنواع العلوم وأعظمها إفادة لليقين العلوم التي ألقاها الله سبحانه إلى أنبيائه بواسطة السمع وأن نسبة العلوم العقلية المشتركة بين الناس إليها أقل وأصغر من نسبة علوم العجائز والأطفال إلى تلك العلوم فبين العلوم الحاصلة من الأدلة السمعية للرسل وأتباعهم وبين العلوم الصحيحة الحاصلة بأفكار العقلاء من التفاوت أضعاف ما بين الخردلة إلى الجبل
(25/130)
ص -761- العظيم فكيف النسبة بين العلوم السمعية اليقينية للرسل وأتباعهم وبين الشبه الخيالية التي هي من جنس شبه السوفسطائية في التحقيق فدعوى هؤلاء المخدوعين المخادعين أن ما جاءت به الأنبياء لا يفيد اليقين وأن تلك الهذيانات التي بنوا عليها واستدلوا بها هي المفيدة لليقين من جنس دعوى فرعون وقوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر29] وقال عن موسى وما جاء به {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر26] فدعوى هؤلاء من جنس دعواه سواء وبالله التوفيق.
الوجه الستون: إن دلالة الأدلة السمعية على مدلولها من جنس دلالة الآيات المعينة على مدلولها وهذان النوعان هما أكمل الأدلة وهما المستلزمان للعلم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته والمعاد وإثبات صدق الرسل بخلاف الأدلة العقلية الكلية التي
(25/131)
ص -762- طريقها صناعة المنطق فإنها إذا صحت مقدماتها وكانت يقينية وكانت منتجة فإنما تنتج مطلوبا كليا لا يحصل به إثبات رب معين ولا رسول معين ولا إثبات شيء من أصول الإيمان التي لا سعادة للعبد بدونها فإن غاية ما عند هؤلاء أن الممكن يفتقر إلى واجب فبعد تقرير إمكان العالم والتخلص من الشبه الواردة على الإمكان إنما استفادوا إثبات وجود واجب ومعلوم أن فرعون وهامان ونمرود بن كنعان والمجوس والصابئة لا يشكون في إثبات وجود واجب بل عباد الأصنام أهدى من هؤلاء حيث اعترفوا برب قيوم خالق قادر يفعل بمشيئته وقدرته وأصحاب هذه الأدلة العقلية التي تفيد اليقين لم يصلوا فيما استفادوه بها إلى هذا ولا قريب منه بل أثبتوا وجودا واجبا وهل هو هذا الفلك أو فلك وراءه أو وجود مطلق أو علة أولى أو الوجود الكلي العام الساري في الموجودات كما قال بكل من ذلك طائفة وأما كونه الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم القاهر فوق عباده الذي استوى على عرشه يعلم ما تخفيه الضمائر ويرى ويسمع
(25/132)
ص -763- ويتكلم ويكلم ويرضى ويغضب ويخلق ما يشاء فهذا لا تدل عليه مقدماتهم المنطقية وأدلتهم الكلية فلا تفيد شيئا من مطالب الإيمان المشتركة بين أهل الملل البتة وأما أدلة الرب سبحانه بآياته السمعية والخلقية فهي التي دلت عباده على توحديه وصفات كماله ونعوت جلاله وصدق رسله وصحة معاد الأبدان وقيام الناس من قبورهم إلى دار شقاوة وسعادة فلولا هذه الآيات السمعية لم يعرفوا شيئا من ذلك وقد أخبر سبحانه عن هذه الآيات السمعية والخلقية بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت53] فبين سبحانه أنه يري عباده من الآيات المشهودة العيانية في الآفاق وفي أنفسهم ما يبين لهم به أن آياته السمعية القرآنية حق وصدق فآيات الرب تعالى العيانية الأفقية والنفسية مستلزمة لإثبات الأدلة السمعية ثم دلالة آياته السمعية التي لا تفيد اليقين عند هؤلاء أكمل دلالة على المطالب الإيمانية من الأدلة الكلية المؤلفة من القياسات المنطقية بل دلالتها على تلك المطالب كدلالة الشمس على
(25/133)
ص -764- النهار ودلالة ضوء الصبح علىالصباح ودلالة الدخان على النار والمصنوع على الصانع ودلالة النجوم على الطرق ونحو ذلك وهذا يبين أن أضعف أنواع الأدلة هي الأدلة القياسية العقلية التي هي عند كثير من الفلاسفة والمتكلمين أكمل الأدلة ثم الدليل القياسي التمثيلي أقوى وأظهر دلالة من الدليل القياسي الشمولي خلاف ما يدعيه المنطقيون ومن اتبعهم فأدلة هؤلاء هي آخر المراتب وأضعفها وأدلة القرآن في أعلى مراتب الأدلة وأشدها ارتباطا بمدلولها واستلزاما له خلاف لمن عكس ذلك كابن سينا وابن الخطيب والآمدي وأشباههم.
فدلالة المقال أكمل من دلالة الحال ودلالة الحال المعينة
(25/134)
ص -765- أكمل من الدلالة الكلية المنطقية ودلالة كلام الله أكمل من دلالة كل كلام وإفادته اليقين فوق إفادة كل دليل اليقين بمدلوله ودلالة آياته العيانية على مدلولها فوق إفادة كل دليل عقلي لمدلوله فقول من قال إنها لا تفيد اليقين بمكدلولها لأنها أدلة لفظية والأدلة العقلية لا تفيد لكونها أمثالا جزئية لا أقيسة كلية فيسمون آياته السمعية أدلة لفظية وآياته العيانية تمثيلات جزئية ويقولون هذا تمثيل لا دليل وفي الأول هذا دليل لفظي لا عقلي فقول هؤلاء قلب للحقائق وعكس لما فطر الله عليه عباده وقدح في المعلوم قطعا ويقينا بالشبه الخيالية والأقيسة المنطقية وقد أفسدوا من الفطر وغيروها عما فطرت عليه خلائق لا يحصيهم إلا الله وهؤلاء للملل بمنزل السوس في الخشب والثياب وغيرهما ولهذا سماهم أنصار الله ورسوله سوس الملل وإذا شئت أن تعرف حقيقة الأمر فانظر إلى أهل الأدلة السمعية وأهل الأدلة المنطقية العقلية ووازن بين معارف هؤلاء وعلومهم وإيمانهم وهدايتهم ونفع الخلق بهم وسيرتهم وبين علوم أولئك ومعارفهم وسيرتهم وضرر الخلق بهم وإخراجهم لمن أنشبوا مخالبهم فيه من العقل والدين خروج الشعرة من العجين.
(25/135)
ص -766- الوجه الحادي والستون إنه من أعظم المحال أن يكون المصنفون في جميع العلوم قد بينوا مرادهم وعلم الناس مرادهم منها يقينا سواء كان ذلك المعلوم مطابقا للحق أو غير مطابق له ويكون الله ورسوله لم يبين مراده بكلامه ولا تيقنت الأمة إلى الآن ما أراد بكلامه فهذا لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس بالله ورسوله وكلامه ونحن لا ننكر أن في أرباب المعقولات من هو في غاية البعد عن معرفة الله ورسوله وما جاء به وأنه لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله وذلك لبعده منه وعدم الثقة به وسوء ظنه به واعتقاده أن كلامه خطابة لا برهان وإنه تخييل خيل به إلى النفوس وشبه لها الأمور العقلية وأخرجها في الصور المحسوسة وأن القرآن إنما هو خطاب للعرب الجهال الذين هم من أجهل الأمم بالعلوم والحقائق وأنهم لم تمكن دعوتهم إلا بالطريق الخطابية التخييلية لا بالطريق البرهانية العقلية الحكمية وأن طريق الحكمة والبرهان هي طرق الفلاسفة والمنطقيين والصابئة وأتباعهم فلا ريب أن القرآن في حق مثل هذا لا يفيده اليقين بل هو عمى عليه وضلال في حقه كما قال تعالى:
(25/136)
ص -767- {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت44] قال مجاهد بعيد من قلوبهم فهم ما يتلى عليهم وقال الفراء تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك أنت تنادي من مكان بعيد وقال صاحب النظم أي أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم وهذا حال هؤلاء الذين لا يستفيدون من كلام الله ورسوله يقينا ولا علما وهذه أيضا حال الجهال ومن نشأ بالبوادي ومن لا فهم له من أهل البله والبلادة وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء لا يستفيدون من كلام الله ورسوله علما ولا يقينا فقول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لم يذكر المفعول بل حذفه فإن أراد أنها لا تفيد اليقين لهاتين الطائفتين فصدق وإن أراد أنها لا تفيده للراسخين في العلم وأهل الذكاء الذين هم أحسن الناس قصودا وأصحهم أذهانا فقد كذب عليهم وبهتهم فإنهم قد استفادوا
(25/137)
ص -768- منها من اليقين مالم يستفده أهل منطق اليونان وأتباع الفلاسفة وأفراخ الصابئة وورثة الملاحدة وأوقاح الجهمية من قواعدهم الباطلة فدعواهم أنهم لم يستفيدوا منها يقينا مكابرة لهم في الأمور الوجدانية الحاصلة لهم.
وإن قالوا نحن لم نستفد منها يقينا قيل لهم لا يلزم من ذلك أن لا تفيد اليقين لأهل العلم والإيمان وقد قال من لم يستفد العلم واليقين من القرآن للنبي ما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت5] ولم يمنع هذا ارتفاع هذه الموانع واستفادة الهدى واليقين في حق المؤمنين المصدقين بل كان في حقهم هدى وشفاء.
وإن قال هي لا تفيد اليقين في نفسها وليست موضعا لذلك فهذا غاية البهت والإلحاد يوضحه:
الوجه الثاني والستون أن يقال لهم ما تريدون بهذا النفي أتريدون بالأدلة اللفظية جنس كلام بني آدم الدال على مرادهم في الخطاب والتصنيف وغيره أو كلام الله ورسوله وهل مرادكم بهذا
(25/138)
ص -769- السلب أن شيئا منها لا يفيد اليقين أو أن مجموعها لا يفيده وإن أفاده بعضها. وهل المراد أنه لا يستفيد أحد منها اليقين البتة أو أن الناس كلهم لا يستفيدون منها اليقين بل يستفيده بعضهم دون البعض.
وهل المراد بها لا تفيد اليقين بمراد المتكلم بها أو لا تفيد اليقين بثبوت ما أخبر بثبوته ونفي ما أخبر بنفيه وإن تيقنا مراده فهما مقامان والفرق بينهما معلوم فهذه ثمانية تقادير فبينوا مرادكم منها فإن أحدا من العقلاء لا يمكنه أن ينفي حصول اليقين منها على هذه التقادير كلها.
وإذا كان المراد نفي اليقين على بعض التقادير المذكورة فبينوه بالدعوى ليتوارد النفي والإثبات على محل واحد والظاهر والله أعلم أنكم تريدون أن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم ولا يقين في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وإثبات ملائكته وصفاتهم وأنواعهم وإذا لم يفد اليقين في ذلك وهو أعظم أقسام القرآن وأظهرها وأكثرها ورودا فيه فكيف يفيد في باب المعاد والأحكام كما تقدم تقريره
الوجه الثالث والستون: إن هذا القانون مضمونه جحد الرسالة في الحقيقة وإن أقر بها صاحبه بلسانه بل مضمونه إن ترك الناس بلا رسول
(25/139)
ص -770- يرسل إليهم خير من أن يرسل إليهم رسول وإن الرسل لم يهتد بهم أحد في أصول الدين بل ضل بهم الناس وذلك أن القرآن على ما اعتقده أرباب هذا القانون لا يستفاد منه علم ولا حجة بل إذا علمنا بعقولنا سببا اعتقدناه ثم نظرنا في القرآن فإن كان موافقا لذلك أقررناه على ظاهره لكونه معلوما بذلك الدليل العقلي الذي استفدناه به لا بكون الرسول أخبر به وإن كان ظاهره مخالفا لما عرفناه واستنبطناه بعقولنا اتبعنا العقل وسلكنا في السمع طريقة التأويل أو الإعراض والتفويض فأي فائدة حصلت إذا بإخبار الرسول بل مضمون ذلك أنا حصلنا على العناء الطويل لاستخراج وجوه التأويلات المستلزمة أو التعرض لاعتقاد الباطل والضلال بحمل الكلام على ظاهره فكانت الأدلة اللفظية مقتضية لضلال هؤلاء ولعناء أولئك فأين الهدى والشفاء الذي حصل بها لهؤلاء وهؤلاء ومن العجب اعتراف أرباب هذا القانون بهذا وجوابهم عنه بجواب أهل الإلحاد وهو أن المخاطبين لم يكونوا يفهمون الحقائق فضربت لهم الأمثال من غير أن يكون المخبر ثابتا في نفس الأمر فراجع كتب القوم تجد ذلك فيها.
(25/140)
ص -771- الوجه الرابع والستون: إن أصحاب هذا القانون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك فتارة يقولون نحن نعلم انتفاء الظاهر قطعا وأنه غير المراد وإن كنا لا نعلم عين المراد وتارة يقولون بل الرسول خاطب الخلق خطابا جمهوريا يوافق ما عندهم وما ألفوه ولو خاطبهم بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يتكلم ولا يكلم ولا يرى عيانا ولا يشار إليه لقالوا هذه صفات معدوم لا موجود فوقعوا في التعطيل فكان الأصلح أن يأتي بألفاظ دالة على ما يناسب ما نحلوه وألفوه فيخلصهم من التعطيل.
فكيف يجمع هذا القول وقولهم إن الظاهر غير مراد فإن كان قد أراد منهم الظاهر بطل قولهم إن الظاهر غير مراد وإن أراد منهم التأويل يبطل قولهم إنه قصد خطابهم بما يخيل إليهم ويتمكنون معه من إثبات الصانع ويتخلصون من التعطيل فأي تناقض أشد من هذا فإن اراد الظاهر فقد أراد عندكم إفهام الباطل الذي دل عليه لفظه وإن لم يرد الظاهر بل أراد منهم التأويل لم يحصل الغرض الذي ذكرتموه ولم يخلصوا من التعطيل وهذا لا حيلة لكم في دفعه. فهما طريقتان باطلتان مضادتان لقصد الرسالة هؤلاء
(25/141)
ص -772- يقولون أراد منهم أن يتخيلوا ما ينفعهم وإن لم يكن حقا في نفس الأمر وأصحاب التأويل يقولون أراد منهم ضد ذلك المعنى الذي دل عليه كلامه ونصه وتارة يقولون أراد منهم تأويل النصوص وتارة يقولون أراد منهم تفويضها وقد نزه الله رسوله عن أن يريد المعاني الباطلة أو يقصر في بيان ما أراده فإن الأول كذب وتدليس وتلبيس والثاني تقصير في البيان وإذا كان الرسول منزها عن هذا وهذا فالرب تعالى أولى بتنزيهه عن الأمرين.
وقد قام الدليل القطعي على تنزيه الله ورسوله عن ذلك فلا يقدح فيه بالشبه الخيالية الفاسدة.
الوجه الخامس والستون: إن الله سبحانه قسم الأدلة السمعية إلى قسمين محكم ومتشابه وجعل المحكم أصلا للمتشابه وأما له يرد إليه فما خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يرد إلى المحكم وقد اتفق المسلمون على هذا وأن المحكم هو الأصل والمتشابه مردود إليه وأصحاب هذا القانون جعلوا الأصل المحكم ما يدعونه من العقليات وجعلوا القرآن كله مردودا إليه فما خالفه فهو متشابه وما وافقه فهو المحكم ولم يبق
(25/142)
ص -773- عند أهل القانون في القرآن محكم يرد إليه المتشابه ولا هو أم الكتاب وأصله.
الوجه السادس والستون إنه على قول أرباب القانون لا سبيل لأحد أن يعرف أن شيئا من القرآن محكم فإن ذلك إنما يعرف إذا حصل اليقين بانتفاء المعارض العقلي وهذا النفي غير معلوم إذ غاية ما يمكن انتفاء العلم بالمعارض لا العلم بانتفائه.
فإن قلتم نحن نقول إن صرف اللفظ عن ظاهره وإخراجه عن كونه محكما لا يجوز إلا عند قيام الدليل العقلي القطعي على أن ظاهره محال ممتنع قيل وأنتم تقولون مع ذلك إن حمله على ظاهره لا يجب إلا إذا قام الدليل العقلي على أن ظاهره حق فما لم يعضده دليل عقلي لم يجزم بثبوته فالمعتمد إذا عندكم في النفي والإثبات على الدليل العقلي والقرآن عديم التأثير لا يجزم بنفي ما نفاه ولا بإثبات ما أثبته وهذا قول من لم يؤمن بما أنزل الله من الكتاب ولا بما أرسل به الرسول.
الوجه السابع والستون: إن أصحاب القانون لا يمكنهم إنكار أن الأدلة اللفظية تفيد ظنا غالبا وإن لم تفدهم يقينا وما عندهم مما يسمونه أدلة عقلية على نفي ما دل عليه القرآن والسنة من الصفات
(25/143)
ص -774- إنما هي أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علما ولا ظنا بل جهلا مركبا يظن صاحبها أن معه علما وإنما معه الجهل المركب فهي في العلوم كأعمال من خالف الرسل في الأعمال: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور39] فهذا مثل أعمال هؤلاء وعلوم أولئك ولا ريب أن الظن المستفاد من الأدلة السمعية خير من هذا الجهل المركب إلا أن يقول أرباب القانون إن الأدلة اللفظية لا يستفاد منها علم ولا ظن البتة ولا يبتعد هذا من قولهم. وهم يقولون إن ظاهرها باطل وتشبيه وتجسيم وإذا انتهى الأمر إلى هنا انتقلنا إلى إثبات أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن زاعم ذلك غير مقر برسالته في نفس الأمر كما تقدم والله أعلم.
الوجه الثامن والستون: إن هذا يتضمن القدح في أعظم آيات الرب الدالة على ربوبيته وحكمته وجحد ما هو من أعظم نعمه على عباده.
(25/144)
ص -775- أما الأول فلأن الله سبحانه جعل من آيات ربوبيته الهداية العامة لخلقه كما قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى3-1] وقال فرعون لموسى {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه50 , 49] فهدى كل نفس لجلب ما يصلحها وينفعها ودفع ما يضرها ويفسدها وخص النوع الإنساني بأنواع أخر من الهداية التي يعرفها ويتمكن من النطق بها لهداية غيره ومن أعلى أنواع هذا الهدى هدى البيان والدلالة وتعريف الإنسان ومعرفته مراده ومراد غيره وذلك إنما هو بصفة النطق التي هي أظهر ما في الإنسان ولذلك شبه الله سبحانه بها ما أخبر به من الغيب فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات23].
(25/145)
ص -776- وأما أن ذلك من أعظم نعم الله على عباده فلأن الإنسان إنما يميز عن سائر الحيوان بكمال هذه القوة وتمامها فيه واقتداره منها على مالم تقتدر عليه الحيوانات العجم.
ولذلك عدد ذلك من نعمه على عباده في جملة ما أنعم به عليهم فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن4-1] وقال {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [اقرأ5-3] وقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد10-8] فإنكار حصول العلم واليقين من كلام المتكلم قدح في أعظم آيات الله وجحد لما هو من أعظم نعمه.
وكنا نظن أن قائل ذلك أراد أن بعض الأدلة اللفظية لا تفيد العلم واليقين حتى رأيناه قد صرح بأن شيئا منها لا يفيد اليقين البتة ولا قدح في آياته ولا جحد لنعمه أبلغ من ذلك.
(25/146)
ص -777- الوجه التاسع والستون: إن هذا القول الذي قاله أصحاب القانون لم يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم لا طوائف المسلمين ولا اليهود ولا النصارى ولا أحد من أهل الملل ولا طوائف الأطباء ولا النحاة ولا أهل اللغة ولا أهل المعاني والبيان ولا غيرهم قبل هؤلاء وذلك لظهور العلم بفساده فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق فإن بني آدم يتخاطبون ويكلم بعضهم بعضا مخاطبة ومكاتبة وقد أنطق الله سبحانه بعض الجمادات وبعض أنواع الحيوانات بمثل نطق بني آدم فلم يسترب سامع ذلك النطق في حصول العلم واليقين به بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية.
فقالت النملة لأمة النمل {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل18] فلم يشك النمل ولا سليمان في مرادها وفهموه يقينا ولما علم سليمان مرادها يقينا تبسم ضاحكا منه وخاطب الهدهد وخاطبه الهدهد فحصل للهدهد العلم اليقيني بمراد سليمان من كلامه وحصل لسليمان ذلك من كلام
(25/147)
ص -778- الهدهد وذهب الهدهد بكتاب سليمان لما حصل له اليقين من كلامه وأرسل سليمان الهدهد والكتاب وفعل ما حكى الله لما حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه.
وأنطق سبحانه الجبال بالتسبيح مع داود وعلم سليمان منطق الطير وسمع الصحابة تسبيح الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع رسوله تسليم الحجر عليه أفيقول مؤمن أو عاقل إن اليقين لم يكن
(25/148)
ص -779- يحصل للسامع بشيء من مدلول هذا الكلام فعلم أن هذا القول في غاية السفسطة ومجد الحقائق وقلبها وإفساد العقول والفطر.
الوجه السبعون: إن حاصل كلام أرباب القانون يدور على ثلاث مقدمات
الأولى: إن العلم بمراد المتكلم موقوف على حصول العلم بما يدل على مراده
الثانية: إنه لا سبيل إلى العلم بمراده إلا بانتفاء هذه الأمور العشرة
الثالثة: إنه لا سبيل إلى العلم بانتفائها فهذه ثلاث مقدمات الأولى منها صادقة والأخريان كاذبتان أما المقدمة الأولى فصحيحة والعلم بمراد المتكلم كثيرا ما يكون علما اضطراريا كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة فإن الإنسان إذا سمع مخبرا يخبر بأمر حصل عنده ظن ثم يقوى بالمخبر الآخر حتى يصير علما ضروريا فكذلك إذا سمع كلام المتكلم فقد يعلم مراده ابتداء بالضرورة وقد يظنه ثم يتكرر كلام المتكلم
(25/149)
ص -780- أو يتكرر سماعه له ولما يدل على مراده فيصير علمه بمراده ضروريا.
وقد يكون الكلام بالمراد استدلالا نظريا وحينئذ فقد يتوقف على مقدمة واحدة وقد يتوقف على مقدمتين أو أكثر بحسب حاجة السامع وما عنده من القوة القريبة والبعيدة وسرعة إدراكه وبطئه وقلة تحصيله وكثرته وحضور ذهنه وغيبته وكمال بيان المتكلم وضعفه فدعوى المدعي أن كل استدلال بدليل لفظي فإنه يتوقف على عشر مقدمات فهذا باطل قطعا.
وأبطل منه دعواه أن كل مقدمة فهي ظنية فإن عامة المقدمات التي يتوقف عليها فهم مراد المتكلم قطعية في الغالب.
وأبطل من ذلك دعواه أنه لا يعلم المراد إلا بعد العلم بانتفاء الدليل الدال على نقيضه فإن هذا باطل قطعا إذ من المعلوم أن العلم بثبوت أحد الضدين ينفي العلم بثبوت الضد الآخر فنفس العلم بالمراد ينفي كل احتمال يناقضه.
وهكذا الكلام في نفي المعارض العقلي والسمعي فإنه
(25/150)
ص -781- إذا علم المراد علم قطعا أنه لا ينفيه دليل آخر لا عقلي ولا سمعي لأن ذلك نقيض له. وإذا علم ثبوت الشيء علم انتفاء نقيضه وحينئذ فينقلب هذا القانون عليهم بأن نقول العلم بمدلول كلام الله ورسوله علم يقيني قطعي لا يحتمل النقيض فنحن نستدل على بطلان كل ما يخالفه ويناقضه بثبوت العلم به.
فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الضد الاخر وحينئذ فيقطع ببطلان كل شبهة عقلية تناقض مدلول كلام الله ورسوله وإن لم ينظر فيها على التفصيل.
وهذا الأصل العظيم أصح من قانونهم وأقرب إلى العقل والإيمان وتصديق الرسل وإقرار كلام الله ورسوله على حقيقته وما يظهر منه يوضحه.
الوجه الحادي والسبعون: وهو أن أرباب هذا القانون الذي منعهم استفادة اليقين من كلام الله ورسوله مضطربون في العقل الذي يعارض النقل أشد اضطراب فالفلاسفة مع شدة اعتنائهم بالمعقولات أشد الناس اضطرابا في هذا الباب من طوائف أهل الملل ومن أراد معرفة ذلك فليقف على مقالاتهم في
(25/151)
ص -782- كتب أهل المقالات كالمقالات الكبير للأشعري والآراء والديانات للنوبختي وغير ذلك وأما المتكلمون فاضطرابهم في هذا الباب من أشد اضطراب في العالم فتأمل اختلاف فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة وطوائف أهل الكلام ومقالاتهم المذكورة في كتب المقالات. وقد ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات
(25/152)
ص -783- المصلين وغيره ممن صنف في المقالات وكل منهم يدعي أن صريح العقل معه وأن مخالفه قد خرج عن صريح العقل فنحن نصدق جميعهم ونبطل عقل كل فرقة بعقل الفرقة الأخرى ثم نقول للجميع بعقل من منكم يوزن كلام الله ورسوله وأي عقولكم تجعل معيارا له فما وافقه قبل وأقر على ظاهره وما خالفه رد أو أول أو فوض.
وأي عقولكم هو إحدى المقدمات العشر التي تتوقف إفادة كلام الله ورسوله لليقين على العلم بعدم معارضته له أعقل أرسطو وشيعته
(25/153)
ص -784- أم عقل أفلاطون وشيعته أم فيثاغورس أم أنبادقليس....................
(25/154)
ص -785- أم سقراط أم تامسطيوس أم الإسكندر بن فيلبس أم عقل الفارابي أم عقل جهم بن
(25/155)
ص -786- صفوان أم عقل النظام أم عقل العلاف أم عقل الجبائي أم عقل بشر المريسي أم عقل
(25/156)
ص -787- الإسكافي أم عقل حسين النجار أم أبي يعقوب الشحام أم أبي الحسين الخياط أم أبي القاسم
(25/157)
ص -788- البلخي أم ثمامة بن أشرس أم جعفر بن مبشر أم جعفر بن حرب أم أبي الحسين الصالحي
(25/158)
ص -789- أم أبي الحسين البصري أم أبي معاذ التومني أم معمر بن عباد أم هشام الفوطي أم عباد بن سليمان
(25/159)
ص -790- أم ترضون بعقول المتأخرين الذين هذبوا العقليات ومحضوا زبدتها واختاروا لنفوسهم ولم يرضوا بعقول سائر من تقدمهم فهذا أفضلهم عندكم محمد بن عمر الرازي فبأي معقولاته تزنون نصوص الوحي وأنتم ترون اضطرابه فيها في كتبه أشد الاضطراب فلا يثبت على قول فعينوا لنا عقلا واحدا من معقولاته ثبت عليه ثم اجعلوه ميزانا.
أم ترضون بعقل نصير الشرك والكفر والإلحاد الطوسي فإن له عقلا آخر خالف فيه سلفه من الملحدين ولم يوافق فيه أتباع الرسل.
أم ترضون عقول القرامطة والباطنية والإسماعيلية
(25/160)
ص -791- أم عقول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود فكل هؤلاء وأضعافهم وأضعاف أضعافهم يدعي أن المعقول الصريح معه وأن مخالفيه خرجوا عن صريح المعقول وهذه عقولهم تنادي عليهم في كتبهم وكتب الناقلين عنهم ولولا الإطالة لعرضناها على السامع عقلا عقلا وقد عرضها المعتنون بذكر المقالات فاجمعوها إن استطعتم أو خذوا منها عقلا واجعلوه ميزانا لنصوص الوحي وما جاءت به الرسل وعيارا على ذلك ثم اعذروا بعد من قدم كتاب الله وسنة رسوله الذي يسمونه الأدلة اللفظية على هذه العقول المضطربة المتناقضة بشهادة أهلها وشهادة أنصار الله ورسوله عليها وقال إن كتاب الله وسنة رسوله يفيد العلم واليقين وهذه العقول المضطربة المتناقضة إنما تفيد الشكوك والحيرة والريب والجهل المركب فإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذ بالنقل الصريح ورمي بهذه العقول تحت الأقدام وحطت حيث حطها الله وحط أصحابها.
الوجه الثاني والسبعون: إن الله سبحانه دعى إلى تدبر كتابه وتعقله وتفهمه وذم الذين لا يفهمونه ولا يعقلونه وأسجل عليهم بالكفر والنفاق فقال عن المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد16].
(25/161)
ص -792- وقال {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام25] وقال {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس42] وقال {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة78] فالقائل إن كتاب الله وسنة رسوله لا يستفاد منهما يقين من جنس هؤلاء لا فرق بينهم وبينه وأما من يستفيد منهما العلم واليقين فهم الذين قال الله فيهم {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقّ} [سبأ6] وهؤلاء يرونه غير مفيد وقد كشف سبحانه حال الفريقين بقوله {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد19].
(25/162)
ص -793- وقال {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود24]
الوجه الثالث والسبعون: إن أدلة القرآن والسنة التي يسميها هؤلاء الأدلة اللفظية نوعان
أحدهما يدل بمجرد الخبر
والثاني يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة عليه وعلى ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدل على صدق النوع الأول وهو مجرد الخبر فلم يتجرد إخباره سبحانه عن آيات تدل على صدقها بل قد بين لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه شفاء وهدى وكفاية فقول القائل إن تلك الأدلة لا تفيد اليقين إن أراد به النوع المتضمن لذكر الأدلة العقلية العيانية فهذا من أعظم البهت والوقاحة والمكابرة فإن آيات الله التي جعلها أدلة
(25/163)
ص -794- وحججا على وجوده ووحدانيته وصفات كماله إن لم تفد يقينا لم يفد دليل بمدلول أبدا. وإن أراد به النوع الأول الدال بمجرد الخبر فقد أقام سبحانه الأدلة القطعية والبراهين اليقينية على ثبوته فلم يحل عباده فيه على خبر مجرد لا يستفيدون ثبوته إلا من الخبر نفسه دون الدليل الدال على صدق الخبر.
وهذا غير الدليل العام الدال على صدقه فيما أخبر به بل هو الأدلة المتعددة الدالة على التوحيد وإثبات الصفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان فلا تجد كتابا قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن فأدلته لفظية عقلية فإن لم يفد اليقين: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية6]
انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله فصل فهذا الطاغوت الأول
(25/164)
الصواعق المرسلة - الجزء الثالث
الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان (تابع)
(26/1)
ص -795- فصل
فهذا الطاغوت الأول وهو قولهم إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فإن قيل فقد دل القرآن على أن فيه محكما ومتشابها ومعلوم أن المتشابه هو الذي يشبه المراد به بغيره وهو آيات الصفات فلو أفادت اليقين لم تكن متشابهة.
قيل هذا السؤال مبني على ثلاث مقدمات
أحدها: أن القرآن متضمن للمتشابه
الثانية: أن المتشابه هو آيات الصفات
الثالثة: أن المتشابه لا يمكن حصول العلم واليقين بمعناه.
وسنفرد الكلام على هذا بفصل مستقل بعد كسر الطواغيت الأربعة التي نصبوها لهدم معاقل الدين ونبين معنى المحكم بمعناه ونبين أن آيات الصفات محكمة فإنها من أبين الكتاب إحكاما وإن ما تضمنته من الإحكام أعظم مما تضمنه ما عداها بعون الله وتوفيقه.
(26/2)
ص -796- فصل
في الطاغوت الثاني: وهو قولهم إن تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا إبطالهما ولا تقديم النقل لأن العقل أصل النقل فلو قدمنا عليه النقل لبطل العقل وهو أصل النقل فلزم بطلان النقل فيلزم من تقديم النقل بطلان العقل والنقل فتعين القسم الرابع وهو تقديم العقل فهذا الطاغوت آخو ذلك القانون فهو مبني على ثلاث مقدمات
الأولى: ثبوت التعارض بين العقل والنقل
الثانية: انحصار التقسيم في الأقسام الأربعة التي ذكرت فيه.
الثالثة: بطلان الأقسام الثلاثة ليتعين ثبوت الرابع.
وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مزيد عليه وبين بطلان هذه الشبهة وكسر هذا الطاغوت في
(26/3)
ص -797- كتابه الكبير ونحن نشير إلى كلمات يسيرة هي قطرة من بحره يتضمن كسره ودحضه وذلك يظهر من وجوه
الوجه الأول: إن هذا التقسيم باطل من أصله والتقسيم الصحيح أن يقال إذا تعارض دليلان سمعيان أو عقليان أو سمعي وعقلي فإما أن يكونا قطعيين وإما أن يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا.
فأما القطعيان فلا يمكن تعارضهما في الأقسام الثلاثة لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعا فلو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين وهذا لا يشك فيه أحد من العقلاء.
وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا تعين تقديم القطعي سواء كان جمعيا ظنين صرنا إلى الترجيح ووجب تقديم الراجح منهما سمعيا كان أو عقليا.
فهذا تقسيم واضح متفق على مضمونه بين العقلاء.
(26/4)
ص -798- فأما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقا فخطأ واضح معلوم الفساد عند العقلاء. الوجه الثاني: إن قوله إذا تعارض العقل والنقل فإما أن يريد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض وإما أن يريد به الظنيين فالتقديم للراجح مطلقا وإما أن يريد ما يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فالقطعي هو المقدم مطلقا فإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي لا لأنه عقلي فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ وأن جعل جهة الترجيح كونه عقليا خطأ وأن جعل سبب التأخير والاطراح كونه نقليا خطأ.
الوجه الثالث: إنا لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكره من الأقسام الأربعة إذ من الممكن أن يقال تقدم العقلي تارة والسمعي تارة فأيهما كان قطعيا قدم فدعواه أنه لا بد من تقديم العقل مطلقا أو السمع مطلقا أو اعتبار الدليلين معا أو إلغائهما معا دعوى كاذبة بل ههنا قسم غير هذه الأقسام وهو الحق وهو ما ذكرناه.
(26/5)
ص -799- الوجه الرابع: قوله: إن قدمنا النقل لزم الطعن فحاصله ممنوع فإن قوله العقل أصل النقل إما أن يريد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر أو أصل في علمنا بصحته فالأول لا يقوله عاقل فإن ما هو ثابت في نفس الأمر ليس موقوفا على علمنا به فعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في نفس الأمر.
فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفسه سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه كما أن رسول الله حق وإن كذبه من كذبه كما أن وجود الرب تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حق سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه.
فلا يتوقف ذلك على وجودنا فضلا عن علومنا وعقولنا فالشرع المنزل من عند الله مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا فإذا علم العقل ذلك حصل له كمال لم يكن قبل ذلك وإذا فقده كان ناقصا جاهلا.
وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل على صحته وهذا هو مراده.
(26/6)
ص -800- فيقال له أتعني بالعقل هنا القوة والغريزة التي فينا أم العلوم المستفادة بتلك الغريزة؟
فالأول: لم ترده وتمتنع إرادته بأن تلك الغريزة ليست علما يمكن معارضته للنقل وإن كانت شرطا في كل علم عقلي أو سمعي وما كان شرطا في الشيء امتنع أن يكون منافيا له.
وإن أردت العلم والمعرفة الحاصل بالعقل.
قيل لك ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا على صحته فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول من العقليات وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول بل ذلك يعلم بالآيات والبراهين الدالة على صدقه.
فعلم أن جميع المعقولات ليس أصلا للنقل لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها ولا بمعنى توقف ثبوته في نفس الأمر عليها لا سيما وأكثر متكلمي أهل الإثبات كالأشعري في أحد قوليه وأكثر أصحابه يقولون إن
(26/7)
ص -801- العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات الحادثة التي تجري مجرى تصديق الرسول بالقول علم ضروري فحينئذ فما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير مع أن العلم بصدقه له طرق كثيرة متنوعة.
وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات مالا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحا في أصل السمع وهذا بحمد الله بين واضح وليس القدح في بعض العقليات قدحا في جميعها كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها فلا يلزم من صحة المعقولات التي يبنى عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ولا من فساد هذه فساد تلك فلا يلزم من تقديم السمع على ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله
(26/8)
ص -802- الوجه الخامس: أن يقال العقل إما أن يكون عالما يصدق الرسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر وإما أن لا يكون عالما بذلك وإن لم يكن عالما امتنع التعارض عنه لأن المعقول إن كان معلوما له لم يتعارض معلوم ومجهول وإن لم يكن معلوما لم يتعارض مجهولان وإن كان عالما بصدق الرسول امتنع أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر إذا علم أنه أخبر به وهو عالم بصدقه لزم ضرورة أن يكون عالما بثبوت مخبره وإن كان كذلك استحال أن يقع عنده دليل يعارض ما أخبر به ويكون ذلك المعارض واجب التقديم.
إذ مضمون ذلك أن يقال لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أن المخبر صادق وحقيقة ذلك لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه فيقول وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور.
فإذا قيل لي لا تصدقه لئلا يلزم عدم تصديقه كان كما لو قيل كذبه لئلا يلزم تكذيبه فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به بعد علمهم أنه رسول لئلا يفضي تصديقهم إلى عدم تصديقه يوضحه
(26/9)
ص -803- الوجه السادس: وهو أن المنهي عنه من قبول هذا الخبر وتصديقه فيه هو عين المحذور فيكون واقعا في المنهي عنه سواء أطاع أو عصى ويكون تاركا للمأمور به سواء أطاع أو عصى ويكون وقوعه في المخوف المحذور على تقدير الطاعة أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية والمنهي عنه على هذا التقدير هو التصديق والمأمور به هو التكذيب وحينئذ فلا يجوز النهي عنه سواء كان محذورا أو لم يكن فإن لم يكن محذورا لم يجز أن ينهى عنه وإن كان محذورا فلا بد منه على التقديرين فلا فائدة في النهي عنه.
الوجه السابع: إنه إذا قيل له لا تصدقه في هذا كان أمرا له بما يناقض ما علم به صدقه وكان أمرا له بما يوجب ألا يثق بشيء من خبره فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك في غيره ولهذا آل الأمر بمن سلك هذه الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله سبحانه وأفعاله بل وباليوم الآخر عند بعضهم لاعتقادهم أن هذه الأخبار على ثلاثة أنواع:
نوع يجب رده وتكذيبه ونوع يجب تأويله وإخراجه عن حقيقته ونوع يقر.
(26/10)
ص -804- وليس لهم في ذلك أصل يرجعون إليه بل هذا يقول ما أثبته عقلك فأثبته وما نفاه عقلك فانفه وهذا يقول ما أثبته كشفك فأثبته وما لا فلا.
ووجود الرسول عندهم كعدمه في المطالب الإلهية ومعرفة الربوبية بل على قولهم وأصولهم وجوده أضر من عدمه لأنهم لم يستفيدوا من جهته علما بهذا الشأن واحتاجوا إلى دفع ما جاء به إما بتكذيب وإما بتأويل وإما بإعراض وتفويض.
فإن قيل لا يمكن أن يعلم أنه أخبر بما ينافي العقل فإنه منزه عن ذلك وهو ممتنع عليه.
قيل هذا إقرار باستحالة معارضة العقل للسمع واستحالة المسألة وعلم أن جميع أخباره لا يناقض العقل فيها شيء.
فغدا النقل سالما من مناف واسترحنا من الصداع جميعا
فإن قيل بل المعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يفهم بظاهر اللفظ وليست ثابتة بين العقل وبين نفس ما أخبر به الرسول فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يظهر أنه دليل
(26/11)
ص -805- وليس بدليل وأن يكون دليلا ظنيا لتطرق الظن إلى بعض مقدماته إسنادا أو متنا.
قيل وهذا يرفع صورة المسألة ويحيلها بالكلية وتصير صورتها هكذا إذا تعارض الدليل العقلي وما ليس بدليل صحيح وجب تقديم العقلي.
وهذا كلام لا فائدة فيه ولا حاصل له وكل عاقل يعلم أن الدليل لا يترك لما ليس بدليل ثم يقال إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته جهل أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل فإن كان السمعي في نفس الأمر كذلك لكونه خبرا مكذوبا أو صحيحا وليس فيه ما يدل على معارضة القول بوجه وأثبتم التعارض والتقديم بين هذين النوعين فساعدناكم عليه وكنا بذلك منكم فإنا أشد نفيا للأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد إبطالا لما تحمله من المعاني الباطلة وأولى بذلك منكم.
وإن كان الدليل السمعي صحيحا في نفسه ظاهر الدلالة بنفسه على المراد لم يكن ما عارضه من العقليات إلا خيالات فاسدة ومقدمات كاذبة إذا تأملها العاقل حق التأمل ومشى إلى آخرها وجدها مخالفة لصريح المعقول وهذا ثابت في كل دليل عقلي خالف دليلا سمعيا صحيح
(26/12)
ص -806- الدلالة وحينئذ فإذا عارض هذا المسمى دليلا عقليا السمع وجب إطراحه لفساده وبطلانه.
ولبيان العلم ببطلانه طريقان كلي وجزئي.
أما الكلي فنقطع بأن كل دليل عقلي خالف السمعي الصريح الصحيح فهو باطل في نفسه مخالف للعقل قبل أن ينظر في مقدماته.
أما الجزئي فإنك إذا تأملت جميع ما يدعوك به معارض السمع وجدته ينتهي إلى مقدمات باطلة بصريح العقل لكن تلقاها معود عن معود فظنوها عقليات وهي في التحقيق جهل مركب وحينئذ فالواجب تقديم الدليل السمعي للعلم بصحته وما عارضه فإما معلوم البطلان وإما غير معلوم الصحة وذلك أحسن أحواله.
الوجه الثامن: إنه إذا اعتقد في الدليل السمعي أنه ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته على مخالف ما زعمتوه من العقل جهل أمكن اتباع الرسل المصدقين بما جاءوا به أن يعتقدوا في أدلتكم العقلية أنها ليست بأدلة في نفس الأمر وأن اعتقاد دلالتها جهل ويرمون أدلتكم بما رميتم به
(26/13)
ص -807- الأدلة السمعية ثم الترجيح من جانبهم من وجوه متعددة وكانوا في هذا الرمي أحسن حالا منكم وأعذر.
فإن معهم من البراهين الدالة على صحة ما أخبر به السمع إجمالا وتفصيلا من المعقول أصح مما معكم ولا تذكرون معقولا يعارض ما ورد به الوحي إلا ومعهم معقول أصح منه يصدقه ويؤيده
الوجه التاسع: أن يقال لو قدر تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع لأن العقل قد صدق الشرع ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ولا العلم بصدق الشرع موقوف على كل ما يخبر به العقل ومعلوم أن هذا المسلك إذا سلك أصح من مسلكهم كما قال بعض أهل الإيمان يكفيك من العقل أن يعرفك صدق الرسول ومعاني كلامه ثم يخلي بينك وبينه.
وقال آخر العقل سلطان ولى الرسول ثم عزل نفسه ولأن العقل دل على أن الرسول يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر ولأن العقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة ولا يدل على صدق قضايا نفسه دلالة عامة ولأن العقل يغلط كما يغلط الحس وأكثر من غلطه بكثير فإذا كان حكم الحس من أقوى الأحكام ويعرض فيه من الغلط ما يعرض فما الظن بالعقل؟
(26/14)
ص -808- الوجه العاشر: إن العقل مع الوحي كالعامي المقلد مع المفتي العالم بل ودون ذلك بمراتب كثيرة لا تحصى فإن المقلد يمكنه أن يصير عالما ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولا فإذا عرف المقلد عالما فدل عليه مقلدا آخر ثم اختلف المفتي والدال فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون المقلد الذي دله وعرفه بالمفتي.
فلوا قال له الدال الصواب معي دون المفتي لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت فلزم القدح في فرعه فيقول له المستفتي أنت لما شهدت بأنه مفت ودللت على ذلك شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك كما شهد به دليلك وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتك في كل مسألة وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد واستدلال ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئا الاجتهاد
(26/15)
ص -809- والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده واتباع قوله وإن أصبت في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه مفت مجتهد يجب عليك تقليده هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله ولا يجوز عليه الخطأ.
الوجه الحادي عشر: إن الدليل الدال على صحة الشيء أو ثبوته أو عدالته أو قبول قوله لا يجب أن يكون أصلا له بحيث إذا قدم قول المشهود له والمدلول عليه على قوله يلزم إبطاله وهذا لا يقوله من يدري ما يقول غاية ما يقال إن العلم بالدليل أصل للعلم بالمدلول فإذا حصل العلم بالمدلول لم يلزم من ذلك تقديم الدليل عليه في كل شيء فإذا شهد الناس لرجل بأنه خبير بالطب أو التقويم أو العيافة دونهم ثم تنازع الشهود والمشهود له في ذلك وجب تقديم قول المشهود له فلو قال نحن شهدنا لكم وزكيناكم وبشهادتنا ثبتت أهليتكم فتقديم قولكم علينا والرجوع إليكم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولكم.
قالوا لهم أنتم شهدتم بما علمتم أنا أهل لذلك دونكم وأن أقوالنا فيه مقبولة دون أقوالكم فلو قدمنا
(26/16)
ص -810- قولكم على أقوالنا فيما اختلفنا فيه لكان ذلك قدحا في شهادتكم وعلمكم بأنا أعلم منكم وحينئذ فهذا
وجه ثاني عشر: مستقل بكسر هذا الطاغوت وهو أن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه وأنه لا نسبة له إليه وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي تعلق بالأصبع بالنسبة إلى البحر فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحا في شهادته وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع وهذا ظاهر لا خفاء به يوضحه
الوجه الثالث عشر: وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملكي والبشري بينه وبين عباده مؤيدا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة ويستحسنه تارة ويجوزه تارة ويكع عن دركه تارة ولا سبيل له إلى
(26/17)
ص -811- الإحاطة به ولا بد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول وهناك يسقط لم ويبطل كيف ويزول هلا ويذهب لو وليت في الريح لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة واعتراض المعترض عليه مردود واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سفه وجهل فالشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علما وعملا التي لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم يكنى لها إليها نسبة وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان فهي متكفلة بتعريف الخليقة ربها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه وكرامته والداعي لديه وتعريف حال السالكين بعد الوصول إليه ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الداعي إلى الباطل والطرق الموصلة إليه وحال السالكين تلك الطرق وإلى أين تنتهي بهم ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل وقابلتها بالتسليم والإذعان واستدارت حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها.
فبين ناصر باللغة السائغة وحام بالعقل الصريح
(26/18)
ص -812- وذاب عنه بالبراهين ومجاهد بالسيف والرمح والسنان ومتفقه في الحلال والحرام ومعني بتفسير القرآن وحافظ لمتون السنة وأسانيدها ومفتش عن أحوال رواتها وناقد لصحتها من سقيمها ومعلولها من سليمها فهي الشريعة ابتداؤها من الله وانتهاؤها إليه فمنه بدأت وإليه تعود ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك وهيآتها ومقادير الأجرام ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس والمقارنة ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها واشتباك الاستقصات وامتزاجها وقواها وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة
(26/19)
ص -813- وما الفاعل منها وما المنفعل وكم درجاتها وإلى أين تسري قواها ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها وما الكرة وما الدائرة وما الخط المستقيم والمنحني ولا فيها هذيان المنطقيين وتحذلقهم في النوع والجنس والفصل والخاصة والعرض العام
(26/20)
ص -814- والمقولات العشر
(26/21)
ص -815- والمختلطات والموجهات الصادرة عن رجل مشرك من يونان كان يعبد الأوثان ولا يعرف الرحمن ولا يصدق بمعاد الأبدان ولا أن الله يرسل رسولا بكلامه إلى نوع الإنسان فجعل هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل عقل هذا الرجل عيارا على كتب الله المنزلة وما أرسل به رسله فما زكاه منطقه وآلته وقانونه الذي وضعه بعقله قبلوه وما لم يزكه تركوه ولو كانت هذه الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء وأتباعهم صحيحة لكان صاحب
(26/22)
ص -816- الشريعة يقوم شريعته بها ويكملها باستعمالها وكان الله سبحانه يثيبه عليها ويحض على التمسك بها ويتقدم إلى عباده بالتمسك بها وبعلمها وتعليمها ويفرض عليهم القيام بها.
فيا للعقول التي لم يخسف بها أين الدين من الفلسفة? وأين كلام رب العالمين إلى آراء اليونان والمجوس وعباد الأصنام والصابئين وأين المعقولات المؤيدة بنور النبوة إلى المعقولات المتلقاة عن أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وأتباع هؤلاء ممن لا يؤمن بالله ولا صفاته ولا أفعاله ولا ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر? وأين العلم المأخوذ عن الوحي النازل من عند رب العالمين من الشبه المأخوذة عن آراء المتهوكين والمتحيرين? فإن أدلوا بالعقل فلا عقل أكمل من عقول ورثة الأنبياء وإن أدلوا برؤسائهم وأئمتهم كفرعون ونمرود
(26/23)
ص -817- وبطليموس وأرسطاطاليس ومقلدتهم وأتباعهم فلم يزل أعداء الرسل يعارضونهم فهؤلاء وأمثالهم يقدمون عقولهم على ما جاءوا به ويالله العجب كيف يعرض قول الرسول بقول الفيلسوف وعلى الفيلسوف أن يتبع الرسل وليس على الرسل أن تتبع الفيلسوف فالرسول مبعوث والفيلسوف مبعوث إليه والوحي حاكم والعقل محكوم عليه ولو كان العقل يكتفي به لم يكن للوحي فائدة ولا غنى على أن منازل الخلق متفاوتة في العقل أعظم تفاوت وأبصارهم مختلفة وليس العقل بأسره في واحد من الناس أو طائفة معينة حتى يكون تقديم عقولهم على ما جاءت به الرسل بل لكل طائفة معقول مخالف معقول الأخرى فمن أظلم وأشد عداوة للرسل ممن جوز لكل طائفة من طوائف العقلاء أن يقدم عقولها على ما جاءت به الرسل فإن قالوا
(26/24)
ص -818- إنما نقدم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح الذي لا يختلف فيه اثنان وهذا وقد شهد الله وكفى به شهيدا وشهد بشهادته الملائكة وأولو العلم أن طريقة الرسل هي الطريقة البرهانية المتضمنة للحكمة كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء174] وقال {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [113] قالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي الناطقة بالرشد الداعية إلى الخير الواعدة بحسن المآب المبينة لحقائق الأنبياء المعرفة بصفات رب الأرض والسماء وأن التقليدية التخمينية الخرصية هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى التي ليس مع أصحابها إلا الرجوع إلى رجل من يونان كان يعبد الأوثان ويجحد الرحمن
(26/25)
ص -819- فوضع بعقله قانونا يصحح به بزعمه علوم الخلائق وعقولهم فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شيء من علوم بني آدم بل ما وزن به علم إلا أفسده وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان فما استفيد بهذا العقل العائل إلا تعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وعن أفعاله والكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ومن العجب أن هؤلاء الأوقاح جعلوا نصوص الأنبياء من باب الظنون وهي من الوحي وجعلوا كلمات المنطقيين وقواعد الفلاسفة والجهمية من باب اليقين ثم عارضوا بينهما وقدموا هذا على نصوص الأنبياء فالشريعة ظهرت من الله على لسان أكمل الخلق عقلا وأعظمهم معرفة وأتمهم يقينا وعقلياتكم ظهرت من جهة رجال فكروا وقدروا وظنوا وخرصوا وتعبوا وما أغنوا ونصبوا وما أخذوا وحاموا وما وردوا ونسجوا فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا.
سافروا في درك المطالب العالية على غير الطريق فما
(26/26)
ص -820- ربحوا إلا أذى السفر وبعثوا في البلاد بغير دليل فلم يقفوا للمطلوب على عين ولا أثر.
رضوا بالدعاوى وابتلوا بخيالهم وخاضوا بحار الفكر والقوم ما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
لهم كل وقت حيرة بعد حيرة وجهل على جهل فلا بورك الجهل
الوجه الرابع عشر: إن الأمة اختلفت ضروبا من الاختلاف في الأصول والفروع وتنازعوا فنونا من التنازع في المشكل من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والأخبار وتفرقت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافا وفرقا كالخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة فما فزعت طائفة من طوائف الأمة في اختلافها إلى منطق ولا فيلسوف ولا إلى عقل يخالف صريح النقل ولا قالت طائفة من هذه الطوائف عقولنا مقدمة على ما جاء به الرسول وإن أشقوا مذاهبهم بالتأويل بما جاء به فلم تقدم طائفة منهم على ما أقدمت عليه هذه الفرقة وقالوا العقل أولى بالاتباع مما جاء به
(26/27)
ص -821- الرسول ولا قالت فرقة من هذه الفرق لأصحاب هذه المعقولات أعينونا بما عندكم وأشهدوا لنا وعلينا بما قبلكم ولا حققت مقالتها بشهادتهم ولا استعانت بطريقتهم ولا وجدت عندها علما ومعرفة لم تجده في كتاب ربها وسنة نبيها وكما لم تجد أحدا من فرق هذه الأمة يفزع إلى أرباب هذه العقول في شيء من دينها فلذلك كانت أمة موسى وعيسى لم تعول على هؤلاء في شيء من أمر دينها بل ما زال أهل الملل يحذرون من هؤلاء أشد التحذير وينفرون منهم أشد التنفير علما بأنهم سوس الملل وأعداء الرسل وأنت إذا تأملت أصول الفرق الإسلامية كلها وجدتها متفقة على تقديم الوحي على العقل ولم يؤسسوا مقالاتهم على ما أسسها عليه هؤلاء من تقديم آرائهم وعقولهم على نصوص الوحي فإن هذا أساس طريقة أعداء الرسل فهم متفقون على هذا الأصل ومنهم أخذ وعنهم تلقي كما حكى الله سبحانه عنهم في كتابه أنهم عارضوا شرعه ودينه بآرائهم وعقولهم ولكن الفرق بينهم وبين هؤلاء أن أولئك جاهروا بتكذيب الرسل ومعاداتهم وهؤلاء أقروا برسالاتهم وانتسبوا في الظاهر إليهم ثم نقضوا ما أقروا به وقالوا يجب تقديم عقولنا وآرائنا على ما جاءوا به فهم أعظم ضررا على الإسلام وأهله من أولئك لأنهم انتسبوا إليه وأخذوا في هدم قواعده وقلع أساسه وهم يتوهمون ويوهمون أنهم ينصرونه.
(26/28)
ص -822- الوجه الخامس عشر: إن التفاوت الذي بين الرسل وبين أرباب هذه المعقولات أعظم بكثير من التفاوت الذي بين هؤلاء وبين أجهل الناس على إلإطلاق فإن هذا الجاهل يمكنه مع الطلب والتعليم أن يصير عالما بما عند هؤلاء ولا يمكن أشد هؤلاء حرصا وذكاء وقوة وفراغا أن يصير نبيا فإن النبوة خاصة من الله يختص بها من يشاء من عباده لا تنال بكسب ولا باجتهاد فإذا علم الإنسان بعقله أن هذا الرسول وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينافي خبره كان الواجب عليه أن يسلم لما أخبر به الصادق الذي هو أعلم منه وينقاد له ويتهم عقله ويعلم أن عقله بالنسبة إليه أقل من عقل أجهل الخلق بالنسبة إليه هو وأن التفاوت الذي بينهما في العلم والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه أعظم بكثير كثير من التفاوت الذي بين من لا خبرة له بصناعة الطب ومن هو أعلم أهل زمانه بها فيا لله العجب إذا كان عقله يوجب عليه أن ينقاد لطبيب يهودي فيما يخبر به من قوى الأدوية والأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات وصفاتها وكمياتها ودرجاتها مع ما عليه في ذلك من الكلفة والألم ومقاساة المكروهات لظنه أن هذا اليهودي أعلم بهذا الشأن منه وأنه إذا صدقه كان في تصديقه حصول الشفاء والعافية
(26/29)
ص -823- مع علمه بأنه يخطىء كثيرا وأن كثيرا من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب بل يكون استعماله لما يصفه سببا من أسباب هلاكه وأن أسباب الموت أغلاط الأطباء فكم لهم من قتيل أسكنوه المقابر بغلطهم وخطئهم وإن كان خطأ الطبيب إصابة المقادير وكيف لا يسلك هذا المسلك مع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وهم الصادقون المصدقون ولا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به والذين عارضوا أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال المركب والبسيط ما لا يحصيه إلإ من هو بكل شيء محيط.
الوجه السادس عشر: أن يقال تقديم العقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف فوجب الثاني وامتنع الأول بيانه أن يكون الشيء معلوما بالعقل أو غير معلوم بالعقل ليس هو صفة لازمة لشيء من الأشياء بل هو من الأمور النسبية الإضافية فإن زيدا قد يعلم بعقله مالا يعلمه بكر بعقله وقد يعلم الأنسان في حال تعقله ما يجهله في وقت آخر والمسائل التي يقال قد تعارض فيها العقل والشرع جميعا قد اضطرب فيها أرباب العقل ولم يتفقوا فيها على أمر واحد بل كل منهم يقول إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر أن العقل نفاه
(26/30)
ص -824- أو أحاله أو منع منه بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية فيقول هذا نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر إنه غير معلوم بالضرورة العقلية وأبلغ من هذا أن يدعي بعضهم أن هذا محال بضرورة العقل فيدعي الآخر أنه ممكن بضرورة العقل فأكثر العقلاء يقولون نحن نعلم بضرورة العقل امتناع رؤيا مرئي من غير معاينة ومقابلة ويقول آخرون من المنتسبين إلى المعقولات بل ذلك ممكن لا يحيله العقل.
ويقول أكثر العقلاء نحن نعلم أن حدوث حادث بلا سبب حادث ممتنع ويقول آخرون بل ذلك ممكن.
ويقول أكثر العقلاء إن كون العالم عالما بلا علم وحيا بلا حياة ومريدا بلا إرادة وسميعا بصيرا بلا سمع ولا بصر محال بضرورة العقل وآخرون يقولون بل هو ممكن غير مستحيل بل هو الواجب في حق الله عز وجل.
ويقول جمهور العقلاء أن يكون المعنى الواحد أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا ممتنع في ضرورة العقل.
وآخرون يقولون هو ممكن واقع.
وجمهور العقلاء يقولون إن إثبات موجودين قائمين بأنفسهما ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له ولا داخلا
(26/31)
ص -825- فيه ولا خارجا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه مكابرة لصريح العقل وآخرون يقولون بل هو ممكن واجب في العقل.
وجمهور العقلاء يقولون إن إثبات كون المريد مريدا بإرادة لا في محل ممتنع في ضرورة العقل وآخرون ينازعونهم في ذلك وجمهور العقلاء يقولون إن الحروف والأصوات من المتكلم الواحد مقترنة بعضها ببعض في آن واحد محال بضرورة العقل.
وآخرون يقولون بل هو ممكن بل واجب في حق القديم إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا فلو قيل بتقديم العقل على نصوص الوحي وهذا شأن العقل لزم المحال واجتماع النقيضين أو أحيل الناس على شيء لا سبيل لهم إلى ثبوته ومعرفته.
وأما الوحي فهو قول الصادق وهو صفة لازمة لا تختلف باختلاف أحوال الناس والعلم بذلك ممكن ورد الناس إليه ممكن ولهذا جاء الوحي من الله سبحانه برد الناس عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء59]
(26/32)
ص -826- فأمر المؤمنين عند التنازع بالرد إلى كتابه وسنة رسوله وهذا نص في تقديم السمع. قال هؤلاء بل الواجب الرد إلى العقل ورد السمع إن عارضه ولو رد الناس الأمر عند النزاع إلى عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافا واضطرابا وشكا وارتيابا فلا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء يرجع الجميع إلى حكمه وإلا فكل واحد من أرباب المعقولات يقول عقلي أولى بالثقة به من عقل منازعي وهذا يدلي بمعقول وهذا يدلي بمعقول.
الوجه السابع عشر: إن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة3] وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره فقال {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت51]
(26/33)
ص -827- ذكر هذا جوابا لطلبهم آية تدل على صدقه فأخبر أنه يكفيهم من كل آية فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلا على صدقه فضلا عن أن يكون كافيا وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهانا على صحة النبوة والمقصود ان الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه فلو عارضه العقل وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيا للأمة ولا كان تاما في نفسه في مراسيل أبي داود أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة فيها شيء من التوراة فقال: "كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتابهم أنزل على نبي غير نبيهم" فأنزل الله عز وجل {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت51]
(26/34)
ص -828- وقال سبحانه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ( النساء65] فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا بحكمه فلا يبقى منها حرج ونسلم لحكمه تسليما فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه وقال تعالى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى10] وهذا نص صريح في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده وهو الحاكم فيه على لسان رسوله فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه وقال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف3]
(26/35)
ص -829- فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهى عن اتباع ما خالفه وأخبر سبحانه أن كتابه بينة وشفاء وهدى ورحمة ونور وفضل وبرهان وحجة وبيان فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك بل كانت هذه الصفات للعقل دونه وكان عنها بمعزل فكيف يشفي ويهدي ويبين ويفصل ما يعارضه صريح العقل.
الوجه الثامن عشر: إن ما علم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء لايتصور أن يعارضه الشرع البتة ولا يأتي بخلافه ومن تأمل ذلك في ما ينازع العقلاء فيه من المسائل الكبار وجد ما خالفت النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للنقل فتأمل ذلك في مسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد تجد ما يدل عليه صريح العقل لم يخالفه سمع قط بل السمع الذي يخالفه إما أن يكون حديثا موضوعا أو لا تكون دلالته مخالفة لما دل عليه العقل.
ونحن نعلم قطعا أن الرسل لا يخبرون بمحال العقول
(26/36)
ص -830- وإن أخبروا بمحارات العقول فلا يخبرون بما يحيله العقل وإن أخبروا بما يحار فيه العقل ولا يستقل بمعرفته ومن تأمل أدلة نفاة الصفات والأفعال والقدر والحكمة والمعاد وأعطاها حقها من النظر العقلي علم بالعقل فسادها وثبوت نقيضها ولله الحمد.
الوجه التاسع عشر: إن المسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والسمع من المسائل المعلومة بصريح العقل كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات اليقينية.
فلم يجىء في القرآن ولا في السنة حرف واحد يخالف العقل في هذا الباب وما جاء من ذلك فهو مكذوب ومفترى كحديث إن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق وحديث نزوله
(26/37)
ص -831- عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان ويعانق المشاة.
وكقول اليهود إنه سبحانه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وإنه ندم على ذلك حتى عض أصابعه وإنه تبدى لإسرائيل وصارعه.
وكقول النصارى إنه اتخذ مريم زوجة وأولدها عيسى فهي صاحبته وعيسى ابنه تعالى الله عما يقول أعداؤه فيه علوا كبيرا وكقولهم إنه نزل عن كرسي عظمته ودخل في فرج مريم والتحم بناسوت المسيح.
وقول مشركي العرب إنه صاهر الجن فولدت له الملائكة وأمثال ذلك من الأقوال المخالفة لصريح
(26/38)
ص -832- العقل فكيف يجعل ما أثبته الله لنفسه في كتابه من صفاته وأفعاله وما صح عن رسوله أنه أثبته له من علوه فوق سماواته على عرشه واستوائه عليه وتكلمه وتكليمه وثبوت علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه الأعلى ورحمته وغضبه ورضاه وفرحه وضحكه ويديه التي يمسك بإحداهما السماوات السبع وبالأخرى الأرضين السبع ثم يهزهن ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ونحو ذلك من صفات كماله ونعوت جلاله كيف يجعل هذا بمنزلة ذاك في مخالفة كل منهما لصريح العقل؟ ويجعل إثبات هذا كإثبات ذلك ووصفه بهذا كوصفه بذاك كما صرح به النفاة وقالوا إن هذا تشبيه وتجسيم فلا فرق بينه وبين ذاك التشبيه والتجسيم فليبك على عقله وما أصيب به من سوى بين الأمرين أحسن الله عزاءه في عقله ولا بورك له في علم هذه غايته التي لا يرضاها أعظم الناس انغماسا في جهله.
(26/39)
ص -833- الوجه العشرون: إنه لا يعلم آية من كتاب الله ولا نص صحيح عن رسول الله في باب أصول الدين اجتمعت الأمة على خلافه وغاية ما يقدر اختلاف الأمة في القول بموجبه ومن له خبرة بمذاهب الناس وأقوال السلف يعلم قطعا أن الأمة اجتمعت على القول به قبل ظهور المخالف كما اجتمعت بأن الله مستو على عرشه فوق سماواته وأن المؤمنين يرونه عيانا بالأبصار من فوقهم في الجنة وأنه سبحانه كلم نبيه موسى منه إليه بلا واسطة تكليما سمع به كلامه ولم يشك أنه هو الذي كان يكلمه.
وأنه كتب مقادير الخلائق وقدرها قبل أن يخلقهم وأنه علم ما هم عاملوه قبل أن يعملوه وأنه يحب ويبغض ويرضى ويغضب ويضحك ويفرح وأن له وجها ويدين.
فهذا إجماع معلوم متيقن عند جميع أهل السنة والحديث فالعقل الذي يعارض هذا لم تجمع عليه الأمة ولم يعرف عن رجل واحد من السلف والأئمة أنه قاله وغايته أ , يكون عقل فرقة من الفرق اشتقت لأنفسها مذهبا وادعت له معقولا فلما صالت عليها نصوص الوحي التجأت إلى العقل وادعت أنه يخالفها وصدقت وكذبت.
(26/40)
ص -834- أما صدقها فإن نصوص الوحي تخالف معقولها هي وذلك من أدل دليل على فساده في نفسه إذ شهدت له نصوص الوحي بالبطلان.
وأما كذبها فزعمها أن نصوص الوحي تخالف العقل المتفق عليه بين العقلاء فهذا لم يقع ولا يقع ما دامت السماء سماء والأرض أرضا بل تزول السماء والأرض وهذا لا يكون فأي ذنب للنصوص إذا خالفت عقول بعض الناس فقد وافقت عقول أصح الناس عقلا {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام89]
الوجه الحادي العشرون: إن الأدلة السمعية هي الكتاب والسنة والإجماع وهو إنما يصار إليه عند تعذر الوصول إليهما فهو في المرتبة الأخيرة ولهذا أخره عمر في كتابه إلى أبي موسى حيث كتب إليه اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن في السنة فبما قضى به الصالحون قبلك وهذا السلوك
(26/41)
ص -835- هو كان سلوك الصحابة والتابعين ومن درج على آثارهم من الأئمة أول ما يطلبون النازلة من القرآن فإن أصابوا حكمها فيه لم يعدوه إلى غيره وإن لم يصيبوها فيه طلبوها من سنة رسول الله فإن أصابوها لم يعدوها إلى غيرها وإن لم يصيبوها طلبوها من اتفاق العلماء وقد صان الله الأمة أن تجمع على خطأ أو على ما يعلم بطلانه بصريح العقل فإذا كان الإجماع معصوما أن ينعقد على ما يخالف العقل الصريح بل إذا وجدنا معقولا يخالفه الإجماع علمنا قطعا أنه معقول فاسد فلأن يصان كتاب الله وسنة رسوله عن مخالفة العقل الصريح أولى وأحرى.
الوجه الثاني والعشرون: إنه إذا قدر تعارض العقل والكتاب فرد العقل الذي لم تضمن لنا عصمته إلى الكتاب المعلوم العصمة هو الواجب.
الوجه الثالث والعشرون: إن هؤلاء الخائضين في صفات الرب وأفعاله وما يجوز عليه ومالا يجوز بآرائهم وعقولهم تراهم مختلفين متنازعين حيارى متهوكين وحاصل ما مع أكثرهم حسن
(26/42)
ص -836- الظن بإمامه الذي سلك طريقته وتقليده في أصوله وهو يرى بعقله خلافها ويستشكلها ويقر بأنها مشكلة جدا ثم ينكس على رأسه ويقول هو أعلم بالمعقول مني.
فنجد أتباع أرسطو الملحد المشرك عابد الأوثان يتبعونه فيما وضعه لهم من قواعد المنطق الطبيعي والإلهي.
وكثير منهم يرى بعقله نقيض ما قاله ولكن لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته وينسب التقصير إلى فهمه والنقص إلى عقله لعظمة أرسطو في نفسه ولعلمه بأنه أعقل منه وهكذا شأن جميع أرباب المقالات والمذاهب يرى أحدهم في كلام متبوعه ومن يقلده ما هو باطل وهو يتوقف في رد ذلك لاعتقاده أن إمامه وشيخه أكمل منه علما وأوفر عقلا هذا مع علمه وعلم العقلاء أن متبوعه وشيخه ليس بمعصوم من الخطأ فهلا سلكوا هذا المسلك مع نبيهم ورسولهم المضمون له العصمة المعلوم صدقه في كل ما يخبر به وهلا قالوا عقله أوفر من عقولنا وعلمه أصح من علومنا فنحن ننكر كل معقول يخالفه ونرده ولا نقبله كما فعلوه مع شيوخهم ومتبوعيهم ولكن
(26/43)
ص -837- {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة41]
الوجه الرابع والعشرون: إن كل من أعرض عن السمع لظنه أن العقل يخالفه إذ لكون أدلته لا تفيد اليقين أو لأنه خاطب الخلق خطابا جمهوريا تخييليا لا خطابا برهانيا تجد بينهم من النزاع والتفرق والشهادة من بعضهم على بعض بالضلالة بحسب إعراضهم عن السمع وكل من كان عنه أبعد كان قوله أفسد واختلاف طائفته أشد.
فالمعتزلة أكثر اختلافا من متكلمة أهل الإثبات وبين البصريين والبغداديين منهم من النزاع ما يطول ذكره والبصريون أقرب إلى الإثبات والسنة من البغداديين فالبصريون يثبتون كونه سبحانه سميعا بصيرا حيا عالما قديرا ويثبتون له الإرادة ولا يوجبون عليه الأصلح في الدنيا ويثبتون خبر الواحد والقياس ولا يؤثمون المجتهدين ثم بين المشايخية والحسينية من النزاع ما هو معروف.
(26/44)
ص -838- وأما الشيعة فأعظم تفرقا واختلافا من المعتزلة حتى قيل إنهم يبلغون ثنتين وسبعين فرقة وذلك لأنهم أبعد طوائف الملة عن السنة.
وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع فتلاعب بالنبوات ولا تقف مع حدودها وقل بعقلك ما شئت وقد صرت فيلسوفا حكيما وهم أعظم اختلافا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب المنطق وبينه وبين سلفه من النزاع ما يطول ذكره ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه.
وأما سائر طوائف الفلاسفة فلو حكى لك اختلافهم في علم الهيئة وحده لرأيت العجب العجاب هذا
(26/45)
ص -839- والهيئة علم رياضي حسابي هو من أصح علومهم فكيف باختلافهم في الطبيعيات فكيف بالإلهيات.
واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية والطبيعية كما نقله الأشعري في كتاب مقالات غير الإسلاميين وابن الباقلاني في كتاب الدقائق وفي هذين الكتابين من الاختلاف بينهم أضعاف ما ذكره الشهرستاني وابن الخطيب والكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم وهو المجسطي لبطليموس فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليل صحيح وقضايا ينازعه فيها غيره وقضايا مبنية على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب وفيه قضايا برهانية صادقة وهذا من أجود علومهم وأصحها.
(26/46)
ص -840- وأما الطبيعيات ففيها من الاضطراب والاختلاف ما ما لا يكاد يحصى وهو أكثر من أن يذكر هذا وهو أقرب إلى الحس من العلم الإلهي.
وأما الإلهيات فإذا شئت مثالا يقرب إليك حالهم فمثلهم كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض في ليلة ظلماء فهجم عليهم العدو فقاموا في الظلمة هاربين على وجوههم في كل ناحية ولا إله إلا الله كم لهم فيه من خبط وخرص وتخمين وليسوا متفقين فيه على شيء أصلا وأساطينهم قد صرحوا بأنهم لا يصلون فيه إلى اليقين وإنما يتكلمون فيه بالأولى والأخلق ولهذا ظهر في السالكين خلفهم من الحيرة والتوقف والاعتراف بأنهم لم يصلوا إلى شيء ما فيه عبرة لأهل الوحي اتباع الرسل المقدمين لما نزل به الوحي على عقول هؤلاء وأشباههم وقد تقدم إقرار الشهرستاني وابن الخطيب وابن أبي الحديد والخونجي والجويني وغيرهم على أنفسهم بذلك وقد
(26/47)
ص -841- قال ابن رشد وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم في كتابه تهافت التهافت ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به وهذا أفضل المتأخرين في زمانه أبو الحسن الآمدي واقف في المسائل الكبار يذكر حجج الطوائف ويبقى واقفا حائرا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء88] وهذا صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها من
(26/48)
ص -842- فرط ذكائه ومعرفته بالفلسفة والكلام ينتهي وقت الموت في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ثم أعرض عن تلك الطرق واقبل على طريقة أهل الحديث وأقبل على صحيح البخاري فمات وهو على صدره وحدثني شيخ الإسلام قال حكى لي بعض الأذكياء وكان قد قرأ على أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة وهو ابن واصل الحموي أنه قال له الشيخ أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ولهذا ذهب طائفة من أهل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة ومعناه أنها قد تكافأت وتعارضت فلم يعرف الحق من الباطل وصدقوا وكذبوا. أما صدقهم فإن أدلتهم وطرقهم قد تكافأت وتصادمت حتى قال شاعرهم:
(26/49)
ص -843- ونظيري في العلم مثلي أعمى فترانا في حندس نتصادم
ولقد صدق هذا الأعمى البصر والبصيرة ووصف حال القوم فأحسن والله الفقه وعبر عن حالهم بأشد عبارة مطابقة بزمرة عميان قاموا في ليلة مظلمة يتهاوشون ويتصادمون.
وأما كذبهم فإن أدلة الحق وشبه الباطل لا تتكافأ حتى يتكافأ الضوء والظلام والبياض والسواد والمسك وأنتن الجيف فسبحان من أعمى عن الحق بصائر من شاء من خلقه كما أعمى عن الشمس أبصار من شاء منهم فالذنب لكلل البصائر لا للحق كما أن الحجاب في تلك العيون لا في الشمس ولقد أحسن القائل في وصف هؤلاء وبصائرهم أنها بمنزلة أبصار الخفاش تعجز عن ضوء النهار ولا تفتح أعينها فيه ويلائمها ظلام الليل فتذهب فيه وتجيء ولهذا تجد أكثر هؤلاء لما لم يتبين له الهدى في شيء من تلك الطرق نكص على عقبيه وخلع العذار
(26/50)
ص -844- ونزع قيد الشريعة من قلبه وأقبل على شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله فأقبل على اللذات وسماع المطربات ومعاشرة الصور المستحسنات وذلك لخلو قلبه عن حقائق العلم والإيمان الذي بعث الله به رسوله فلم يصل إليه ولا وصل من طرق أصحابه إلا إلى الشك والحيرة فهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: {نْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم23] فعلومهم ظنون {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم28] وإرادتهم هوى نفوسهم وعلومهم تدعو إلى إرادتهم وإرادتهم تدعو إلى علومهم فإن اتباع الهوى يصد عن الحق ويضل عن سبيل الله فتولوا عن القرآن وآثروا عاجل الدنيا وهؤلاء الذين أمر الله رسوله بالإعراض عنهم بعد إقامة الحجة عليهم فقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم29].
(26/51)
ص -845- الوجه الخامس والعشرون: إن الله سبحانه لما أهبط الأبوين من الجنة عهد إليهما عهدا تناولهما وتناول ذريتهما إلى يوم القيامة وضمن لمن تمسك بعهده أنه لا يضل ولا يشقى ولمن أعرض عنه الضلال والشقاء فقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه126 , 123] قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه124].
(26/52)
ص -846- يتناول الذكر الذي أنزله وهو الهدى الذي جاءت به الرسل ويدل عليه سياق الكلام وهو قوله {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه126] فهذا هو الإعراض عن ذكره فإذا كان هذا حال المعرض عنه فكيف حال المعارض له بعقله أو عقل من قلده وأحسن الظن به فكما أنه لا يكون مؤمنا إلا من قبله وانقاد له فمن أعرض عنه وعارضه من أبعد الناس عن الإيمان به.
الوجه السادس والعشرون: إن طالب الهدى في غير القرآن والسنة قد شهد الله ورسوله له بالضلال فكيف يكون عقل الذي قد أضله الله مقدما على كتاب الله وسنة رسوله قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها وحيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية23] وقال {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام153].
(26/53)
ص -847- وقال فيمن قدم عقله على ما جاء به {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم23] والقرآن مملوء بوصف من قدم عقله على ما جاء به بالضلال وروى الترمذي وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول إنها ستكون فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم
(26/54)
ص -848- وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن2 , 1] من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم
الوجه السابع والعشرون: إن ما عارض به هؤلاء نصوص الأنبياء من المعقولات قد شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك فيها وأنهم لم يجزموا فيها بشيء ولم يظفروا منها بعلم ولا يقين كما تقدم ذكر
(26/55)
ص -849- اليسير منه عن أفاضلهم وشهد به عليهم تناقضهم واضطرابهم واختلافهم فإن ما كان من عند غير الله لا بد أن يقع فيه الاختلاف الكثير وشهد عليهم بذلك أتباع الرسول وشهد به عليهم من هو على كل شيء شهيد وسيشهد به عليهم يوم القيامة من أنزل عليه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء41] وشهد به عليهم نصوص الكتاب والسنة وشهد به عليهم أدلة العقول الصريحة الموافقة للنصوص فهل عندهم مثل هؤلاء الشهود على صحة العقل الذي عارضوا به نصوص الأنبياء نعم شهودهم أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف والنظام وأوقاح الجهمية والمعتزلة
(26/56)
ص -850- وأفراخ الصابئين والمجوس ومن تعارضت عنده هذه البينات فلا ننكر أن يتعارض عنده العقل والنقل وأن يقدم العقل على النقل.
الوجه الثامن والعشرون: إن أصحاب القرآن والإيمان قد شهد الله لهم وكفى به شهيدا بالعلم واليقين والهدى وأنهم على بصيرة وبينة من ربهم وأنهم هم أولو العقل والألباب والبصائر وأن لهم نورا على نور وأنهم المهتدون المفلحون.
قال تعالى في حق الذين يؤمنون بالغيب ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة5 , 1] وقال {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ6].
(26/57)
ص -851- وهذا دليل ظاهر أن الذي نراه معارضا للنقل ويقدم العقل عليه ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير ولا قليل ولا كثير.
وقال {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد19] وهذه شهادة من الله على عمى هؤلاء وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك وشهادة المؤمنين عليهم.
وقال {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور35].
فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به وبأسمائه وصفاته وأفعاله وصدق رسله في قلوب عباده وموافقة
(26/58)
ص -852- ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع النور المشهود وأنه نور على نور. نور الوحي ونور العقل نور الشرعة ونور الفطرة نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية.
وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى52] وقال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام122]. وقال تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف157] وقال تعالى:
(26/59)
ص -853- {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة257] ثم أخبر سبحانه عن حال المعرضين عن هذا النور المعارضين للوحي بالعقل بمثلين يتضمن أحدهما وصفهم بالجهل المركب والآخر بالجهل البسيط لأنهم بين ناظر وباحث ومقدر ومفكر وبين مقلد يحسن الظن بهم فقال في الطائفتين: {بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور40 , 39]
الوجه التاسع والعشرون: أن يقال إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين
(26/60)
ص -854- وإبطالهما معا إبطال للنقيضين وتقديم العقل ممتنع لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل وإذا بطلت دلالته لم يصلح أن يكون معارضا للنقل لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة الدليل فكان تقديم العقل موجبا لعدم تقديمه فلا يجوز تقديمه وهذا بين جدا فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لمخبره فإما أن تكون هذه الدلالة صحيحة أو باطلة فإن كانت صحيحة امتنع أن يكون في العقل ما يبطلها وإن كانت باطلة لزم أن لا يكون العقل دليلا صحيحا وإذا لم يكن دليلا صحيحا لم يتبع بحال فضلا عن أن يقدم على الدليل السمعي الصحيح فصار تقديم العقل على النقل قدحا في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه والقدح فيه يمنع دلالته وذلك يمنع معارضته استحال تقديمه عند المعارضة لأن تقديمه عند المعارضة يبطل المعارضة وذلك يحيل المسألة من أصلها يوضحه:
(26/61)
ص -855- الوجه الثلاثون: وهو أن يقال معارضة العقل لما دل العقل على أنه حق دليل على تناقض دلالته وذلك يوجب فسادها وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها وتناقضها في نفسها وإن قدر أنه لم يعلم صحتها.
وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم مالم يعلم فساده أقرب إلى الصواب من تقديم ما يعلم فساده وهذا كالشاهد إذا علم كذبه وفسقه لم يجز تقديم شهادته على شاهد مجهول لم يعلم كذبه فكيف إذا كان الشاهد الكاذب هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال إنه أخبر بخلاف الحق قد شهد للسمع بأنه يجب قبول قوله وشهد له بأنه لا يجوز قبول قوله وشهد بأن ما أخبر به ليس بحق وشهد له بأن ما أخبر به حق وهذا قدح في شهادته مطلقا وفي تزكيته ولا تقبل شهادته الأولى ولا الثانية يوضحه:
الوجه الحادي والثلاثون: إن الآيات والبراهين اليقينية والأدلة القطعية قد دلت على صدق الرسل وأنهم لا يخبرون عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض فهم صادقون فيما يبلغونه عن الله في الطلب والخبر وهذا أول درجات
(26/62)
ص -856- الإيمان فمتى علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما لا يحتمل النقيضين أنه حق وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي لا عقلي ولا سمعي فإن كل ما يظن أنه يعارضه من ذلك فهي حجج داحضة وشبه فاسدة من جنس شبه السفسطة والقرمطة وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه ممتنع أن يعارض خبره دليلا صحيحا كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما عارض ما أخبر به الرسول فهو باطل فيكون هذا العقل الصحيح والسمع قد شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع.
الوجه الثاني والثلاثون: إن الشبهات القادحة في نبوات الأنبياء ووجود الرب ومعاد الأبدان التي يسميها أصحابها حججا عقلية هي كلها معارضة للنقل وهي أقوى من الشبه التي يدعي النفاة للصفات أنها معقولات خالفت النقل أو من جنسها أو قريبة منها كما قيل:
(26/63)
ص -857- دع الخمر يشربها الغواة فإنني رأيت أخاها مغنيا بمكانها
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
فقد أورد على القدح في النبوات ثمانون شبهة أو أكثر وهي كلها عقلية وأورد على إثبات الصانع سبحانه نحو أربعين شبهة كلها عقلية وأورد على المعاد نحو ذلك والله يعلم أن هذه الشبه من شبه جنس نفاة الصفات وعلو الله على خلقه وتكلمه وتكليمه ورؤيته بالأبصار عيانا في الآخرة لكن نفقت هذه الشبهة بجاه نسبة أربابها إلى الرسول والإسلام وأنهم يذبون عن دينه وينزهون الرب عما لا يليق به وإلا فعند التحقيق يسفر القاع عن فخ
(26/64)
ص -858- كله ولا فرق بين الشبه المعارضة لأصل نبوة الرسول والشبه المعارضة لما أخبر به الرسول. ومن تأمل هذا وهذا تبين له حقيقة الحال وربما وجد الشبه القادحة في أصل النبوة أكثر من الشبه القادحة فيما أخبرت به الرسل فيقال لمن قدم المعقول المعارض لما أخبر به الرسول هل تقدم المعقول المعارض لأصل الرسالة والنبوة وأنت قد أوردته وأجبت عنه بما يعلم أن صدرك لم يثلج له فإن تلك الأجوبة مبنية على قواعد قد اضطرب فيها قولك فمرة تثبتها ومرة تنفيها ومرة تقف فيها أم تطرح تلك المعقولات وتهدرها وتشهد بفسادها فحينئذ فهلا سلكت في المعقولات المعارضة لخبر الرسول ما سلكت في تلك وكانت السبيل واحدة.
والطريق في ردها واضحة وأنت من أنصار الله ورسوله محام عن أصل الرسالة وعما جاء به الرسول جازم له بعقلك لا تعارض خبره بعقلك وهذا في غاية الظهور بحمد الله ولولا خشية الإطالة لذكرنا ما ذكره من الشبه العقلية القادحة في إثبات الصانع ورسالة رسله وفي اليوم الآخر وفي الشبه القادحة في علوه على خلقه وصفاته
(26/65)
ص -859- وكلامه ورؤيته وعرضنا عليك الجميع ثم إليك الوزن يوضحه:
الوجه الثالث والثلاثون: وهو أن أرباب تلك الشبه إنما استطالوا على النفاة والجهمية بما ساعدوهم عليه من تلك الشبه وقالوا كيف يكون رسولا صادقا من يخبر بما يخالف صريح العقل وأنتم قد سلمتم لنا ذلك وساعدتمونا على أن خالق العالم لا يختص بمكان ولا يتكملم ولا يرى ولا يشار إليه ولا ينتقل من مكان إلى مكان ولا تحله الحوادث ولا له وجه ولا يد ولا إصبع ولا سمع ولا بصر ولا علم ولا حياة ولا قدرة زائدة على مجرد ذاته ومن أصولنا وأصولكم أنه لم يقم بذاته فعل ولا وصف ولا حركة ولا استواء ولا نزول ولا غضب في الحقيقة ولا رضا فضلا عن الفرح والضحك.
ونحن وأنتم متفقون في نفس الأمر على أنه لم يتكلم بهذا القرآن ولا بالتوراة ولا بالإنجيل وإنما ذلك كلام الشيء عنه بإذنه عندكم وبواسطة العقل الفعال عندنا ونحن وأنت متفقون على أنه لم يتكلم به ولم يسمع منه ونحن وأنتم متفقون على أنه لم يره ولا يراه ولم يسمع كلامه
(26/66)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق