اللهم

اللهم اشفني شفاءا لا يغادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني رحمة واسعة مباركة طيبة واكفني همي كله وفرج كربي كله واكشف البأساء والضراء عني واعتقني من كل سوء في الدارين يا ربي

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020

في المنطق

 المنطق 


أولاً تعريف القضايا:

القضايا أو التصديقات هي الجملة الخبرية في علم البلاغة، وهي التي يصح تصديق قائلها أو تكذيبه. خلافاً للإنشاء الذي لا يقبل التصديق والتكذيب بذاته، كقولك السماء صافية، فهي قضية، ولا تشتغل بالملهيات فهذا إنشاء.
والبدهيات هي من القضايا، كقولك الواحد نصف الاثنين، لأنها تقبل التصديق بذاتها، وجاءها من المؤيدات والشواهد ما ينفي عنها احتمال الكذب.

ثانياً: أنواع القضايا الحملية والشرطية

القضايا الحملية: كقولك أحمد طالب، فهي مسند ومسند إليه، أي موضوع وهو أحمد، ومحمول وهو طالب. والمعنى حملنا المحمول وهو المسند، على الموضوع وهو المحمول عليه والمسند عليه.
القضايا الشرطية المتصلة: إن كان الفجر طالعاً فقد حان وقت صلاة الفجر. فوقوع الجزء الأول يعني وقوع الجزء الثاني.
 

القضايا الشرطية المنفصلة: العدد إما زوجاً أو فرداً، والإنسان إما شاكراً أو كفوراً، والناس إما إلى الجنة أو النار. والوصف بهذا لا يحتمل الجمع ولا يحتمل الرفع. كالنقيض.
وفي الشرط: يكون القسم الاول اسمه مقدماً أي الشرط عند النحاة، والثاني تالياً أي الجواب عند النحاة.
والقضايا بأجمعها، إما موجبة كمحمد صائم، أو سالبة كمحمد ليس صائماً.
والمتصلة نوعان: لزومية كما سبق، واتفاقية لا معنى للشرط فيها. كقولك إن كنت تاجراً فأنا طالب علم.
والمنفصلة أنواع: حقيقية: يمتنع فيها الجمع والخلو، أي لا يجتمع طرفاها ولا يفترقان، وتكون في الشرط الذي يتنافا ويتناقض طرفاه، كقولك العدد إما زوج أو فرد. فكل عدد يجب أن يتحقق بإحدى الصفتين، ولا يتصور انتفاؤهما عنه ولا تحققهما فيه. وكقولك هذا إما إنسان أو لا إنسان. وهذا الكتاب إما في المنطق أو ليس في المنطق.
أو مانعة للجمع: كقولك هذا الشيء إما إنسان أو حجر. فلا يصح أن يكون الشيء كلاهما، ولكن يصح أن يكون شيئاً آخر كالشجر. فالشجر أخص من نقيض الإنسان. وكقولك: إما أن تكون من المصلين أو تشتغل بالعلم، فيصح أن تكون نائماً مثلاً.
أو مانعة للخلو: كقولك إما أن تكون طالباً للعلم أو لا تكون طالباً في الأزهر. فيجب اجتماعهما لأنه اذا ارتفعا لكان طالباً في الأزهر وليس طالباً للعلم، فهذا لا يصح. وهي حالة مذكورة للقسمة العقلية فحسب، وليس لها أهمية القسمين السابقين.

 ملاحظة:
يجوز في القضايا المنفصلة ذكر الشيء ونقيضه، أو مساوي نقيضه. فتقول: الكلي إما جنس أو لا جنس. أو تقول: إما جنس أو نوع، وإما جنس أو فصل. فالنوع والفصل هو من أجزاء نقيض الجنس. ويجوز اجتماعها كلها، فتقول: الكلي إما جنس أو نوع أو فصل. فهي لا تجتمع في شيء، ولكنها ترتفع في الخاص والعرض.
وللقضايا تقسيمات أربعة أخرى:
القضية المخصوصة شخصية: زيد كاتب وسالبه: زيد ليس بكاتب.
القضية الكلية المسورة: كل إنسان كاتب، وسالبه: لا أحد أو لا شيء: لا أحد من الناس بكاتب.
قضية جزئية مسورة: بعض الناس كاتب، وسالبه: بعض الناس ليس بكاتب.
قضية مهملة موجبة: يطلق فيها الحكم الكلي، ويكون المراد الأعم الأغلب لا الجميع، فهي بقوة الجزئية المسورة، مثل سيد القوم خادمهم، الإنسان كاتب، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. والمعنى بعض السادة خدم لرعيتهم، وبعض الناس كاتبون. وسالبه: ليس البتة.

ثالثاً: التناقض:

هو اختلاف القضيتين بالإيجاب والسلب. فنقيض إنسان: لا إنسان، ونقيض الحي: لا حي، ونقيض يقظان لا يقظان.
وشرط تحقق التناقض: اتفاق القضيتين في الزمان والمكان، والموضوع والمحمول، والإضافة والقوة والفعل، والجزء والكل، والشرط.
فلا تناقض عند اختلاف:
  • الزمان: زيد نائم ليلاً، ليس بنائم نهاراً.
  • المكان: زيد في السوق، ليس في البيت.
  • الموضوع: زيد كاتب، عمرو ليس بكاتب.
  • المحمول: زيد كاتب، ليس بنائم.
  • الإضافة: زيد أبو عمرو، ليس بأبي بكرٍ.
  • القوة والفعل: المرأة حامل بعد الزواج، ليست بحامل قبل الزواج.
  • الجزء والكل: زيد قرأ بعض الكتاب، ولم يقرأ كل الكتاب.
  • الشرط: زيد يحل له الطعام في غير الصوم، ولا يحل له الطعام في الصيام. 
  • وأيضاً عند اختلاف الحمل، بين الحمل الشائع أي على الأفراد جميعاً، والحمل الأولي وهو تعريف الشيء، فمثلاً قولهم: الفعل لا يخبر عنه، فإنك أخبرت عنه أنه لا يخبر عنه وهذا تناقض، والجواب لا، فإن نوع الحمل قد اختلف، فهو لا يخبر عنه على الحمل الشائع، ويخبر عنه بالحمل الأولي.
 
ملاحظة:
نقائض الكليات الموجبة الكاذبة: كليات سلبية صادقة.
كل الماء حلو، كل الماء ليس بحلو: كلاهما كاذب.
بعض الماء حلو، بعض الماء ليس بحلو: كلاهما صادق.
وعكسه صحيح، فلو أتينا بكليات سلبية لكانت صادقة ولكانت نقائضها كاذبة: بعض الطلاب حنفي، بعض الطلاب ليس بحنفي، نقيضه: كل الطلاب حنفي، ليس بحنفي، وهذه قضية كاذبة.

رابعاً: العكس

العكس هو أن تجعل الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً، دون أن يتغير في القضية إيجابها وسلبها، وكليتها أو جزئيتها، وصدقها خلافاً لكذبها.

وعكس القضية الكلية الموجبة هو القضية ذاتها موجبة جزئية لتصدق، فالكلية لا تنعكس كلية لأنها لن تصدق فهي نقيضتها إذن: فعكس كل العلماء سعداء: بعض العلماء سعداء.

وكذلك الجزئية الموجبة تنعكس جزئية موجبة أيضاً مثل: بعض الحبر أسود، عكسه بعض الأسود حبر، فهي إيجابية جزئية. فإن كان الأصل صادقاً فإن العكس صادق، كما هنا.
ولكن إن كان الأصل كاذباً، فإن عكسه صادق أو كاذب.
فمثلاً: كل الحيوان إنسان: كاذب. عكسه بعض الحيوان إنسان وهو صادق.

وتنعكس الكلية السالبة كلية سالبة أيضاً: لا شيء من الإنسان حجر، لا شيء من الحجر إنسان. فإن صدقت الأولى صدقت الثانية.

وأما الجزئية السالبة فلا تنعكس، لأنها لا تصدق موجبة كلية أو جزئية، كقولك: بعض الحيوان ليس بإنسان، فلا يصح سلب الحيوان عن الإنسان لا كلياً ولا جزئياً.
والخلاصة إذن: أن الموجبة كلية أو جزئية: عكسها جزئية موجبة.
والسالبة الكلية عكسها سالبة كلية.
والسالبة الجزئية لا عكس يصدق عليها.

خامساً: القياس:

هو قول ملفوظ أو معقول، مؤلف من أقوال ومقدمات، متى سلمت، لزم عنها لذاتها قول آخر أي نتيجة.
فيشترط فيه المقدمات السليمة. وارتباطها بقدر مشترك يكون هو النتيجة. ويقصدون بالمقدمات اذا سلمت أي في ذهن القائل، ولا ضرورة أن يكون ذلك في الواقع.
وأما قولك لا شيء من الإنسان بحجر، ولا شيء من الحجر بحيوان، فلا يسمى هذا قياساً.

وهو نوعان:
قياس اقتراني: كل جسم مخلوق، وكل مخلوق حادث، فكل جسم حادث.
وقياس استثنائي: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، ولكن النهار ليس بموجود: فالشمس ليست بطالعة.

أركانه:
وهي تعرف من المثال: كل انسان جسم، سقراط انسان، سقراط جسم.
الحد الأوسط: هو الكلمة المكررة في المقدمتين في القياس الاقتراني، وهي هنا سقراط. وهي تكون أعم من موضوع المطلوب وأخص من المحمول.
الحد الأصغر: هو موضوع المطوب وهو الانسان. لأنه أخص من محموله.
الحد الأكبر هو المحمول وهو الأعم وهو الجسم.
والمقدمة الأولى التي فيها الحد الأصغر هي المقدمة الصغرى، والمقدمة الثانية والتي فيها الحد الأكبر هي المقدمة الكبرى.

أشكاله:
ترتبط أشكال القياس بالحد الأوسط، والذي هو مدار عملية القياس.
الشكل الأول: أن يكون الحد الأوسط موضوعاً في الجملة الكبرى، ومحمولاً في الجملة الصغرى. مثل: كل مسجد وقف، وكل وقف يحرم بيعه، فكل مسجد يحرم بيعه. فالحد الأوسط هو الوقف، كان محمولاً في الجملة الأولى الصغرى، وموضوعاً في الجملة الثانية الكبرى.

الشكل الثاني: أن يكون محمولاً في الجملتين: مثل كل ما بين السرة والركبة عورة، ولا يحل النظر إلى العورة، فلا يحل النظر إلى ما بين السرة والركبة. فالعورة وهي الحد الأوسط، ظهرت محمولاً في كلا الطرفين.

الشكل الثالث: أن يكون موضوعاً في الجملتين: كل سارق خائن، كل سارق تقطع يده، فبعض الخائن تقطع يده.

الشكل الرابع: أن يكون الحد الأوسط محمولاً في الجملة الكبرى، وموضوعاً في الجملة الكبرى، مثل كل ما يفسد الصوم هو الأكل عمداً، التنفس ليس بأكل عمد، بعض ما يفسد الصوم ليس بتنفس. فظهر الأكل عمداً موضوعاً في الجملة الأولى، ومحمولاً في الجملة الثانية الكبرى.
والعلاقة بين الأول والرابع علاقة عكسية، بمعنى إذا عكست موضوع ومحمول الأولى، حصلت على الثانية.
والطريق المألوف في استخراج القضايا وقياسها على بعضها هو الشكل الأول، وأما الرابع فأبعدها عن الطبع، لأنه أبعدها عن الأول، فهو معيار العلوم وميزانها، وتكتفي المختصرات في كتب المنطق بشرحه وحده.

وشرطه: إيجاب الصغرى وكلية الكبرى. فيكون الناتج له أربع صور:
الأولى: موجبة كلية مع موجبة كلية، والنتيجة موجبة كلية، مثالها: كل مؤمن محب لله، كل محب لله ملتزم بأوامره، كل مؤمن ملتزم بأوامر الله.
الثانية: موجبة كلية مع سالبة كلية، والنتيجة سالبة كلية: مثالها: كل قصب السكر يحتاج لتسعة أشهر لنموه، لا شيء مما يحتاج إلى تسعة أشهر لنموه يمكن زرعه مرتين في السنة، لا شيء من القصب ممكن زرعة مرتين في السنة.
الثالثة: موجبة جزئية مع موجبة كلية، والنتيجة: موجبة جزئية. بعض المسؤولين مهملون، كل المهملين خائنون، بعض المسؤولين خائنون.
الرابعة: موجبة جزئية، مع سالبة كلية، والنتيجة سالبة جزئية. بعض المسلمين تاركون للصلاة, ليس أحداً من تاركي الصلاة قريب من الله، بعض المسلمين ليس قريباً من الله.

أقسام القياس الاقتراني:
وهي ستة أقسام، أولها القياس المكون من مقدمتين حمليّتين كما سبق.
ثانيها: القياس المركب من متصلتين، كقوله: إن أعرض المسلمون عن التمسك بدينهم غضب الله عليهم، كلما غضب الله على قوم ألبسهم ثوب الذل، فإن أعرض المسلمون عن التمسك بدينهم ألبسهم الله ثوب الذل.
ثالثها: المركب من منفصلتين: من تجاوز الميقات يجب أن يكون محرما بعمرة أو بحج. من كان محرما بحج فإما أن يكون مفرداً أو قارناً، فعليه يكون من تجاوز الميقات محرماً بعمرة أو مفرداً أو قارناً.
رابعها: المركب من متصلة وحملية: كلما كان الأمير محافظا لحقوق رعيته كان مطاعاً في قومه، وكل مطاع في قومه شديد البأس على عدوه، فكلما كان الأمير محافظاً على حقوق رعيته كان شديد البأس على عدوه.
خامساً: المركب من منفصلة وحملية، إما أن تتدين أو تتبع هواك، وكل متبع لهواه لفي ضلال، فإما أن تتدين أو تكون في ضلال.
سادساً: المركب من متصلة ومنفصلة.

أقسام القياس الاستثنائي:
فاستثناء عين الأول، ينتج عين الثاني، فقولك: إن كان هذا إنسان فهو حيوان، ولكن هذا انسان فهو حيوان إذن.
واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم: فقولك: إن كان هذا انساناً فهو حيوان، لكنه ليس بحيوان فلا يكون إنساناً.
ولها تفصيلات أخرى لا يتسع المقام لذكرها.

للاطلاع على الجزء الأول اضغط هنا
للاطلاع على الجزء الثالث اضغط هنا
 
 
===============
 

تبسيط مباحث المنطق: أولاً التصورات



تبسيط مباحث المنطق:

تعريف علم المنطق وموضوعه:

يعرف المنطق فيقال فيه قواعد تعصم العقل من الخطأ. أو قوانين الاستدلال السليم.
فموضوعه القواعد والقوانين، وغايته الاستدلال السليم، عصمة الفكر من الزلل.
وهو من علوم الآلة كالنحو، فليس غاية بذاته، وإنما هو وسيلة تقويم، فالنحو يقوم اللسان، والمنطق يقوم العقل.
وهو علم معياري، يدرس ما يجب أن يكون عليه الفكر السليم، وبه تعرف صحة الرأي من فساده، وأحكامه أحكام وجوب.
ولقد قيل فيه: " أكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه" وهذا صحيح، لأنه قواعد عقلية لا يقع فيها العقل الذكي، ولا يتنبه إليها البليد، ولكن معظم الدارسين والقراء يقعون في منزلة بين هاتين المنزلتين، وهم الذين يستفيدون منه إذن.

الأول: مباحث التصورات

أولاً: أنواع العلاقات بين الدال والمدلول، وبين اللفظ والمضمون:

هي ثلاث علاقات: علاقة المطابقة وهي علاقة تامة بينهما، والتضمن وهي علاقة جزئية عموم وخصوص مطلق أو مقيد، والملازمة وهي علاقة تبعية مطردة في جميع الأفراد والمصاديق.
فكلمة إنسان: تطابق الحيوان الناطق (ومعناه عند أرسطو أي يدرك المفاهيم الكلية)، ويتضمنها كلمة حيوان، أو ناطق، فليس كل حيوان إنسان، وليس كل ناطق كذلك، ويلازمها معنى قابلية التعلم والكتابة والقراءة.
وكلمة ميزان تطابق الآلة المعروفة، وتتضمن الكفتين والمنجم بينهما، ويلازمها معنى واسطة العلم بمقادير الأشياء.
ملاحظات:
التضمن نوعان أكبر من الكلمة، وأصغر منها.
المقصود بالدلالات والعلاقات السابقة أصلها وحقيقتها، بعيداً عن المجاز والتشبيه والبلاغة، والدلالات العرفية.
الدلالات الالتزامية لا تكون إلا إذا كانت مطردة في جميع الأفراد، إلا أنها قد تكون بدهية، وقد تكون بحاجة إلى برهان، فمثلاً دلالة الصوت البشري على الإنسان مهما كان الصوت وكانت اللغة، هي دلالة بدهية، وأما دلالة المثلث على أن مجموع زواياه قائمتين، فهي لا تقوم إلا بالبرهان، ولا يؤثر هذه في الدلالة الالتزامية. والدلالة البدهية التي لا تحتاج برهاناً تسمى دلالة بيّنة، وهي نوعان: بين بالمعنى الأعم وبين بالمعنى الأخص، وليس له كبير فائدة.

ثانياً: أنواع الدلالات اللفظية:

دلالة عقلية: تستند إلى مجرد العقل في الإدراك، فمن سمع صوتاً بشرياً أدرك أن مصدره إنسان، وأنه حي، فالعلاقة بين الصوت، وبين الإنسانية والحياة علاقة عقلية.
دلالة طبيعية، اي بذاتها، فلا تحتاج إلى الإدراك العقلي ولا التواضع اللغوي، فقول الإنسان: آه، يعني أنه يتألم، وهي دلالة طبيعية.
دلالة وضعية: وهي دلالة الألفاظ اللغوية، وتختلف بحسب اللغات، كما تواضع عليها الناس.
دلالة فعلية: وهي الدلالات التي تخرج عن الأنواع الثلاثة الماضية، كالمجازات مثلاً، وهي تخرج عن نطاق المنطق كما سبق.
ملاحظة: الدلالة التي تنقسم إلى مطابقة وتضمن والتزام، هي الدلالة الوضعية.

ثالثاً: أنواع العلاقة بين اللفظ وأجزائه والمعنى

اللفظ قد يكون لفظاً مفرداً ليس له أجزاء، كهمزة الاستفهام، وواو العطف.
وقد يكون له أجزاء، لا تدل مفردها على معنى، كمحمد وقلم: ق ل م.
وقد تكون له أجزاء، لها معان قائمة بذاتها، لكنها ليست جزءاً من المعنى الموضوع له: كعبد الله، فعبد له معنى، وكذلك الله، ولكن المراد معنى ثالث عنهما.
وقد تكون له أجزاء، لها معان قائمة بذاتها، وهي جزء من المعنى الموضوع له، لكنها ليست مرادة من هذا الوجه: كقولك الإنسان حيوان عاقل.
وقد تكون له أجزاء، لها معان قائمة بذاتها، ويراد من كل جزء منها، جزءاً من المعنى، فهي الألفاظ المركبة المضافة، كقولك سيارة المدير، وباب الغرفة.
ملاحظة:
النوع الأخير هو المركب الوحيد، وما تبقى فهو من المفردات.
الاختصارات ك: رواه خم: بخاري ومسلم، هي ليست من المفردات بل من المركبات. لأن كل جزء منها وهو الحروف يدل على جزء مستقل من المعنى.
أنواع المركبات في المنطق: مركب وصفي: رجل كامل.
                     ومركب إضافي: وهو نوعان: خبري: كتابي، كلكم راعٍ، وإنشائي: أقم الصلاة، ولا تمش في الأرض مرحاً.

رابعاً: نوعا الألفاظ بحسب المعاني الموضوع لها:

لفظ كلي: يصدق مفهومه على كثيرين: كرجل وإنسان وحيوان.
لفظ جزئي: يمتنع تصور مفهومه على كثيرين: كأسماء الأعلام.
فالشمس لفظ كلي، ينطبق في مجموعتنا على نجم واحد، وكذلك "واجب الوجود" مفهوم كلي يقبل أن يكون له أفراد كثر، ولكن قام الدليل أنه ليس له إلا فرد واحد.
فاللفظ الكلي: يقبل الشركة بذاته، ويقبل انطباقه على كثيرين.
وأما قولك إن محمداً اسماً لذوات كثيرة، فالجواب: إن هذا يكون من باب تعدد الوضع، فهو قد وضع أصلاً لذات واحدة، ووضع أصلاً لذات أخرى وهكذا.
التقسيمان هذان، يختصان بالمعاني لا بالألفاظ.

خامساً: نوعا الكلي:

الكلي نوعان، إما ذاتي أو عرضي:
الكلي الذاتي يكون داخلاً في حقيقة أجزائه: حيوان: انسان وفرس. انسان: زيد وعمرو.
الكلي العرضي: يكون خارجاً عن حقيقة ما يصدق عليه من الجزئيات: إنسان: ضاحك وماشي ومتعقل..
ينقسم الذاتي إلى جنس ونوع وفصل، ويتغير جزئياته بحسب مستوى النظر والتصنيف.
وينقسم العرضي إلى عام وخاص.

سادساً: الجنس والنوع والفصل:

فأما الجنس: فهو الجزء المشترك بين الماهية وماهية أخرى تخالفها، بحيث يكون مرجع الاشتراك لا التميز.
فمثلاً ما هو زيد؟ هو إنسان، وهذه حقيقته ومرجعه المشترك، وأما حيوان فهو ليس مرجعاً مشتركاً بل ينضم إليه ماهية الفرس والأسد. ولا يقال هو ناطق لأنها ليست حقيقته، بل هي مميز له.
فإن قيل ما الإنسان والفرس: فالجواب حيوان لأنه مرجعهما المشترك.
وينقسم الجنس إلى نوعين: قريب وبعيد.
فجواب سؤال: ما الانسان والفرس: حيوان جنس قريب يشملهما. وجواب سؤال: ما الإنسان والحجر: جسم، جنس قريب يشمل ماهيتهما.
وأما قولك عن الانسان والاشجار أو الحيوان: جسم، فهذا جنس بعيد، لأنهم أجسام نامية، فهو ليس تمام الماهية بينهما. فالبعيد يشمل دائرة أوسع من السؤال.
وعليه يكون الجنس نوعان، ينقسم وهو ثلاثة أنواع، ولا ينقسم وهو الفرد.
فالمنقسم: يكون جنساً سافلاً ومتوسطاً وأعلى. وتطبيقه في قولنا على الإنسان: حيوان، جسم نام، جسم.
ويعود تصور الجنس العالي في الدنيا إلى الفيزياء لا النظر، ولعله الجوهر الاول وهو الذرة والنواة و...

وتحت الجنس يقع النوع، والنوع هو لفظ كلي تختلف أفراده في العدد لا في الحقيقة.
ويصح أن يكون جوابك عن : ما هو زيد، وما هو زيد وعمرو: إنسان، إذ النوع ينطبق على الفرد والجمع. وهو تمام الماهية المشتركة لهما.
فالنوع هو الجهة التي تلي الجنس السافل تماماً، فيقال عن الحيوان: إنسان وفرس، وهما أنواع.
ويصح إطلاق النوع على أي جهة تحت الجنس، فما تحت الجنس العالي: أنواع عالية أيضاً: فالجسم: نام وغير نام، وهما نوعان عاليان.
وبذلك ينتهي الجواب عن سؤال ما هو، أي الماهية.

وتحت النوع، يقع الفصل، وسؤاله أي شيءٍ، فهو ليس من ماهية الشيء، بل من مزاياه وخصائصه وفصله عن غيره. فهو من أنواع الصفات والقيود.
فالإنسان: حيوان ناطق، فحيوان هو جنس، ومميزه أنه ناطق، ميزه عن جميع ما يشترك معه في الجنس.
والفصل نوعان قريب وبعيد. فالقريب يفصله عن جميع ما يشترك معه كالناطق، فصله عن الحيوانات وما سواها.
والبعيد يفصله عن بعض ما يشترك معه، كالنامي في الإنسان يشترك في الحيوان والنبات.

سابعاً: العَرَض وأنواعه:

الأعراض: ما لا يدخل الماهية من الأوصاف، وهي نوعان:
أعراض لازمة لا تقبل الانفكاك عن الماهية، كالزوجية صفة للرقم أربعة، والفردية للرقم ثلاثة.
وأعراض مفارقة: تقبل الانفكاك عن الماهية، كالضاحك الشارب النائم الناطق صفاتٍ للإنسان.
والأعراض تكون بالفعل وبالقوة، فمن تحقق فيه الضحك من البشر: هو ضاحك بالفعل، ومن لم يكن ضاحكاً في ذلك الوقت ولكنه امتلك القابلية والقدرة، فهو ضاحك بالقوة.
والأعراض قد تكون مخصوصة بماهية واحدة، وهي الأعراض الخاصة كالضاحك الناطق للإنسان.
وقد تكون عامة لأكثر من ماهية، كالمتنفس، صفات للإنسان والحيوان والنبات. وما سبق من صفات كلها صفات بالقوة لا بالفعل فيما يخص الإنسان، لأنه يستطيع حبس ضحكه ونطقه وتنفسه.

ثامناً: القول الشارح أو الحد والتعريف:

لكي يتمكن الإنسان من شرح ماهية مجهولة، عليه أن يبحث عن أجزائها وخصائصها، ثم يؤلف من ذلك قولاً شارحاً.
والحد هو ما تضمن جنس الشيء وفصله، وهو نوعان:
الحد التام وهو الذي يتضمن الجنس والفصل القريب: كالإنسان حيوان ناطق.
والحد الناقص: وهو الذي يتضمن الجنس البعيد والفصل القريب، كالإنسان جسم ناطق ضاحك ماشٍ.
وكذلك يميزون بين الرسم التام والرسم الناقص:
فالرسم التام، هو الذي يأتي بالجنس القريب مع العرض الذي يميزه عن غيره: فالإنسان: حيوان ناطق.
والرسم الناقص: هو الذي لا يأتي بالجنس القريب، بل يأتي بالأعراض التي يختص مجموعها بحقيقة واحدة، لا أفرادها. فالإنسان: هو النامي الضاحك المتكلم العاقل.



للاطلاع على الجزء الثاني اضغط هنا
للاطلاع على الجزء الثالث اضغط هنا
 

ظاهرة الترادف، بين خصوص القرآن الكريم، وعموم اللغة

ظاهرة الترادف، بين خصوص القرآن الكريم، وعموم اللغة

يغلب على كثير من البحوث القرآنية اليوم الأخذ بقاعدة أن لا ترادف بين الألفاظ القرآنية، وأن وراء استخدام أي لفظة بل أي حرف سر مكنون يختص الله بمعرفته وفهمه أشخاصاً معينين وعلماء ماهرين يسبرون أغوار المعاني والمباني، فيأتون بالنفيس من التمييزات والفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة.
 
ولكن ما أصل هذه البحوث من حيث اللغة؟ وما هي أقوال أئمة العربية في ظاهرة الترادف؟

قبل عرض الآراء في المسألة لابد من شرح الترادف في اللغة، الترادف هو دلالة كلمتين أو أكثر على معنى واحد، كالليث والأسد والغضنفر، وقد تنازع هذه المسألة في اللغة رأيان شهيران، يقبل أحدهما بالترادف، ويرفض الثاني هذه الظاهرة، وتفصيلهما هو الآتي:

ذهب أصحاب المذهب الأول إلى أن لا ترادف في اللغة، وأن لكل شيء في اللغة اسماً واحداً، وما يتبقى صفات، وأن لكل حركة وحدث فعلاً وحيداً يعبر عنها، لا ينازعه فعل آخر في أداء المعنى ذاته، وإنما قد يؤدي معنىً مقارباً له يزيد ويقل ابتعاداً وقرباً منه. ويمثلون بالسيف الذي هو أداة الحرب المعروفة، وما عداها من أسماء هي صفات خاصة، ويستشهدون بالقصة الشهيرة قصة ابن خالويه القائل بالترادف، وأبي علي الفارسي القائل بعدمه... فالمهند عندهم هو السيف المصنوع في الهند، والبتار هو شديد البتر والقطع، ومثله الحسام شديد الفري والحسم. وكذلك فالفعل جاء يختلف عن أقبل، فالمجيء يأتي من الخلف، والإقبال يكون من الأمام، وأيضاً قعد وجلس، فالقعود يكون إثر القيام، والجلوس عن الاستلقاء، وأمثلته في الجوامع تترى، وممن ينحو هذا النحو من الأئمة: ثعلب وابن فارس وأبو هلال العسكري والثعالبي الذي طبق قوله عملياً في كتابه فقه اللغة وسر العربية.

وهذا باب جميل من اللغة ينازعه أصحاب القول الثاني في المسألة ولعله قول كثير من اللغويين، كسيبويه، والفيروز آبادي، والأصمعي، وآخرون، وهو أنَّ الترادف ممكن في اللغة بل حاصل فيها، في اللغة العربية وفي غيرها، ويستدلون على إمكان ذلك بوقوعه، كتوارد الألفاظ الكثيرة على المعاني الواحدة بحسب اختلاف اللغات والألسن، كما يستدلون عليه بالمشترك في اللغة العربية، وهي توارد اللفظ على المعنيين المختلفين، وهذا مقابل الترادف، ووقوع الأول يؤكد إمكان وقوع الثاني، كما يستدلون بالتاريخ وأثر الزمان في تبدل الدلالات وانحرافها، فما كان صفةً يوماً ما، قد يكون علماً على الشيء الذي وصف أولاً. كما يضربون على ذلك أمثلة كثيرة يستبدلون فيها بألفاظٍ معينة ألفاظاً أخرى فلا يتبدل المعنى ولا تتغير الدلالة عند نفوس السامعين، وقالوا أيضاً: وإنما يأتي الشاعر بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد في مكان واحد تأكيداً ومبالغة، ولو كان فيهما اختلافٌ لما ذكرهما معاً.

وتزداد المسألة أهمية فيما يخص ألفاظ القرآن الكريم، لأن القول بالترادف فيه لا يستساغ عند نفاة الترادف، بل لعله من وجهة نظرهم يخالف منطقَ القرآن الذي أُحكم من لدن حكيم خبير، ولا شك أن الإله لا شريك له، عندما اختص العربية لتحمل معاني كتابه الكريم، قد اختص كلماتٍ معينة لتحمل هذه المعان دون غيرها من الألفاظ. ويصح هنا التساؤل لم استخدم القرآن كلمات معينة وفضلها على أخرى تحمل دلالات قريبة منها، فمثلاً ما الفرق بين قوله تعالى {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49]، وقوله {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، فلم استخدم العام في الأولى، والسنة في الثانية، وكذلك "الخشية والخوف"، "والمطر والغيث"، "والريب والشك"، فالترادف وإن صح في العربية فإنه كما قال ابن تيمية: في اللغة قليل، وفي ألفاظ القرآن: إما نادر وإما معدوم.

إن الفروق الدقيقة في القرآن الكريم، وهي إحدى اهتمامات الباحثين والإعلام اليوم، لابد من عند الكلام فيها من التمييز بين مصدري تلك الفروق، فهي إما أن تأتي من جهة النقل والنص عليها من كبار العربية وأهل التفسير، وإما أن تكون نتيجة استقراء يقوم به الدارسون:

·      فما جاء من فروق بين الكلمات بالنص فهو ليس من المترادف بحال من الأحوال، بل يجب التنبيه عليه والتذكير به.
·       وأما ما جاء بالاستقراء فهو من قبيل الاجتهاد البشري الذي يعارضه الاجتهاد، والذي يقبل الصواب والخطأ، ولا يحمل فيه قول أحد الأئمة على أقوال غيره من العلماء، وتكون قوة كل قول بحسب حجته وبرهانه وتبحر قائله.

وإلا فإن التفريق هذا يؤدي إلى عكس ما أريد منهن ويفتح مجالاً لتحميل النصوص ما لا تحتمل.

فعلى سبيل التمثيل لما أريد من كلام لا الحصر أورد المسألة الآتية:

وكلامه يصب فيما ذهب إليه الراغب من حيث النتيجة بالتمييز بين المفردتين، ولكنه اجتهادٌ آخر في التفريق بينهما يؤكد أن القضية اجتهادية تتفاوت فيها أنظار الناظرين.

وهو بذلك يوافق في أصل التمييز بين الكلمات، ولكنه يذهب في اجتهاده إلى الطرف المقابل لما ذهب إليه الأصفهاني والسيوطي، ويرجح عكس ما رجحاه، باجتهادٍ مغايرٍ وبرهان جديد.

والنتيجة هذه، هي الغاية من ذكر المثال السابق، وأمثاله كُثر. فلابد من الحذر عند إطلاق هذه الأحكام، ولابد أن تبنى على استقراء تامٍ للمسائل، دونما تسرُّعٍ وقفز على النتائج، ودون تحميل العربية ما لا تحتمل، مع احترام الخلاف، واحترام أقوال وأدلة المخالِف.

ومن هنا تأتي أهمية البحوث المستجدة في أقسام علوم القرآن والتفسير من كليات الشريعة، وهي البحوث الموضوعية التي تتناول مفردةً معينة من القرآن والكريم، وتجمع سياقاتها، وتفرزها وتحللها تحليلاً لغوياً على مستوى المفردة والجملة والسياق، كما فعل الدكتور عبد الرحمن حللي في رسالته عن "النبوة والرسالة" ورسالته "القرآن والتلاوة والتدبر والترتيل"، ورسائل أخرى تأتي بنتائج هي أقرب إلى الصحة من غيرها التي تقوم على الاستقراء الناقص.

وأخيراً لابد من التنبيه أيضاً إلى أنها أي هذه الدراسات القرآنية تختص بالقرآن الكريم، باعتباره كلاماً مقدساً محفوظ الألفاظ والمباني
ومصون الدلالات والمعاني من جهة، وكلاماً محدداً بين دفتي المصحف من جهة أخرى، الاستقراء التام فيه من أنواع الممكنات، وهذا -في ظني- خلافاً للدراسات اللغوية التي تشمل العربية بأكملها والتي لا يحيط بنصوصها وآثارها ولهجاتها إلا نبي كما قال الشافعي. فما يصح في كتاب الله تعالى، لا يصح نقله إلى اللغة العربية، دونما دليل وبرهان آخر خارجي يناسب عموم اللغة بأكملها، والله تعالى أعلم.

1.     قال الراغب الاصفهاني في مفردات القرآن في التمييز بين "أعطى، وآتى" إن أعطى لا يكون إلا عند موافقة الطرف الآخر أي الآخذ، أما آتى فلا يشترط فيها رضى الفقير أو الطرف الثاني، لذلك هي أكرم وأقوى.
 2.     ووافقه السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، في قاعدة في الألفاظ التي يظن بها الترادف وليست منه، وافقه من حيث أصلُ الفكرة بالتفريق بين أعطى وآتى، وأن آتى أقوى من أعطى، ولكن استدل باجتهادٍ آخر فقال: "إن أعطى أضعف من آتى، لأن أتى لا تقبل المطاوعة (مثل كسرته فانكسر) أما أعطى تقبل المطاعة، يوجد: أعطاني فعطوت.. وهذا ضعف، أما آتى فلا يوجد لها مطاوع."
 3.     ولكن الزبيدي ت ١٢٠٥ه، لم يقتنع بمثل هذا الكلام من السيوطي، فانتقده وقال في تاج العروس في فصل الهمزة مع الواو والياء: "قلت وفي سياقه هذا عند التأمل نظر، والقاعدة التي ذكرها في المطاوعة لا يكاد ينسحب حكمها على كل الافعال بل الذي يظهر خلاف ما قاله –أي السيوطي- فإن الإعطاء أقوى من الإيتاء، ولذا خُص في دفع الصدقات الإيتاء، ليكون ذلك بسهولة من غير تطلُّع إلى ما يدفعه، وتأملْ سائر ما ورد في القرآن تجد معنى ذلك فيه".

والنتيجة هذه، هي الغاية من ذكر المثال السابق، وأمثاله كُثر. فلابد من الحذر عند إطلاق هذه الأحكام، ولابد أن تبنى على استقراء تامٍ للمسائل، دونما تسرُّعٍ وقفز على النتائج، ودون تحميل العربية ما لا تحتمل، مع احترام الخلاف، واحترام أقوال وأدلة المخالِف.

ومن هنا تأتي أهمية البحوث المستجدة في أقسام علوم القرآن والتفسير من كليات الشريعة، وهي البحوث الموضوعية التي تتناول مفردةً معينة من القرآن والكريم، وتجمع سياقاتها، وتفرزها وتحللها تحليلاً لغوياً على مستوى المفردة والجملة والسياق، كما فعل الدكتور عبد الرحمن حللي في رسالته عن "النبوة والرسالة" ورسالته "القرآن والتلاوة والتدبر والترتيل"، ورسائل أخرى تأتي بنتائج هي أقرب إلى الصحة من غيرها التي تقوم على الاستقراء الناقص.

وأخيراً لابد من التنبيه أيضاً إلى أنها أي هذه الدراسات القرآنية تختص بالقرآن الكريم، باعتباره كلاماً مقدساً محفوظ الدلالات والمعاني والألفاظ والمباني من جهة، وكلاماً محدداً بين دفتي المصحف من جهة أخرى، الاستقراء التام فيه من أنواع الممكنات، وهذا -في ظني- خلافاً للدراسات اللغوية التي تشمل العربية بأكملها والتي لا يحيط بنصوصها وآثارها ولهجاتها إلا نبي كما قال الشافعي. فما يصح في كتاب الله تعالى، لا يصح نقله إلى اللغة العربية، دونما دليل وبرهان آخر خارجي يناسب عموم اللغة بأكملها، والله تعالى أعلم.
=======
 
 

المنطلقات النظرية لابن رشد في نقده تهافت الفلاسفة للغزالي




 
اشتهرت تلك المناظرة الفكرية بين أبي حامد الغزالي وابن رشد، وكان موضوعها الفلسفة، فأما الأول فانتقدها في كتابه تهافت الفلاسفة، وأما الثاني فخصص كتاباً لانتقاد كتاب الغزالي، ووسمه بتهافت التهافت، وانطلق ابن رشد في نقده هذا على ثلاث نقاط منهجية، هي الآتية:
 
أولاً: انطلق من نقطة أن الغزالي ما كان متمكناً من علوم الفلسفة، وأنه لم يخصص لدراستها وقتاً يكفي للتعمق في مراميها ومصطلحاتها وحدودها، إذ نقل عنه أنه إنما اطلع عليها اطلاعاً سريعاً في وقت مسائي خصصه لها على مدار سنتين عند فراغه من البحثي العلوم الشرعية، وأشار الى انه اكتفى في قراءتها بكتب ابن سينا الذي صب عليه معظم انتقاده للفلسفة في كتاب التهافت. وانتقده في أن الفلسفة لا يجوز تؤخذ هكذا.
 

كما بين أن الغزالي الذي أخذ على نفسه مقاضاة الفلاسفة بقواعدهم، قد أخل بما التزم به من جهتين، أنه لم يسبر أغوار مقاصدهم، ولم يغص في أعماق أقوالهم، ولم يميز بين المقدمات والنتائج في مواضع عدة ذكرها في كتابه تهافت التهافت، وأنه من جهة اخرى اعتمد في مناظرته للفلاسفة على الأقيسة المنطقية الآتية من علومهم وفنونهم، ثم شنع عليهم علومهم، وتساءل أين الوفاء في هذا الصنيع؟
 

فأما كلام ابن رشد الاول عن عدم تمكن الغزالي من الفلسفة فيسلم له مأخذه، وإن كان هناك من يختلف معه في النتيجة، وهي مدى تمكن الغزالي منه، ويحق لنا أن نتساءل عن مدى واقعية هذا العلم الذي قد يخفى عن عقلية ساطعة كعقلية الغزالي تدرسه لسنتين متواصلتين.
 

وأما قولته الثانية عن اعتماد الغزالي المنطق وعلوم الفلسفة الأخرى في نقده الفلاسفة، فلا تصح هكذا بإطلاقها، لأن الرجل إنما يؤخذ كلامه كاملاً ومن كتبه كلها، ولا يجتزأ من موقع أو موقعين، والغزالي شهير بتصريحه في المنقذ من الضلال أن علوم الفلاسفة ليست بأجمعها ضلالاً، واستشهد على ذلك بالرياضيات والمنطق والطبيعيات، وإن سماه بغير اسمه، ونبه مراراً أن مراده من حربه على الفلسفة هو أجزاء الإلهيات وما وراء الطبيعيات.

ثانياً: ناقش أن الغزالي قد وقع في التعميم الخاطئ في الرد على الفلاسفة، عندما اعتمد آراء ابن سينا وحده، وقد صرح بذلك الغزالي، الذي عدَّ نقده لابن سينا كافٍ في نقد الفلسفة كلها، وأن هدم ما بناه ابن سينا هو هدم للبناء برمته.


ولم يقبل بذلك ابن رشد من جهتين، أولهما أنَّ ابن سينا في رأيه ليس إلا فيلسوفاً واحداً، ولا يمثل الفلسفة كلها، والفلسفة الحقيقية هي الفلسفة الأرسطية باعتبار أرسطو عند ابن رشد المعلم الأول.
ومن جهة أخرى فأنه أي ابن سينا فيلسوف خرج كثيراً عن مناهج الفلاسفة، وكان ابن رشد يراه متأثراً بالمتكلمين ومخلاً بمناهج الفلاسفة، كما في نظرية الفيض عنده، إذ علّق ابن رشد في تهافت التهافت عليها بقوله: "هي هوس أشبه بتخرصات المتكلمين، وأنه يحق لابي حامد ان يقول عن اقوالهم هذه إنها ظنية"، كما أن ابن رشد قد ألف كتاباً خاصاً في نقدِ آراء ابن سينا في المنطق، فقصته معه طويلة.
 
وهذا في الواقع رد علمي موفق من ابن رشد، لأنه بذلك نبه إلى خطأ منهجيٍّ بحسب أعراف المناطقة وهو التعميم، أو الاستدلال بالخاص على العام، وبه تخلّص من كثير من انتقادات التهافت للفلاسفة، بحملها على أنها أقوال مختصة بابن سينا، لا تمت لأقوال الفلاسفة الآخرين بأي صلة، وأنه هو أصلاً ينتقده فيه، وهو بذلك يثبت أن هدم بناء ابن سينا لا يهدم بناء الفلسفة أجمعها، بل يقيمها على أساس أنها تشترك مع الغزالي في انتقاد آراء ابن سينا في الموضوع.
إلا أنه وقع في الإشكالية ذاتها من وجه آخر، عندما حصر الفلسفة بأرسطو فقط، وأن القول ما يقول أرسطو، ومهما علا شأنه وارتفع قدره في هذا العلم، فإن فلسفته تسمى بفلسفة أرسطو وهي أخص من الفلسفة بعمومها. والحقيقة أن ابن رشد صرح مراراً بانبهاره بأرسطو وفكره، إلى حدٍ قد يصعب تصوره من عقلية كعقلية ابن رشد، وإني لأذكر في موضعٍ ما، رد قولاً لأحد الفلاسفة المسلمين بأن نتيجة قوله تعارض ما يقول به أرسطو إمام صنعة الفلسفة.!
كما أنه في هذا وقع في التعميم السلبي أيضاً، فقال كل ما ذهب إليه ابن سينا ليس من الفلسفة، وهذه قضية كاذبة بالطبع بحسب أعراف المناطقة، وعليه يكون بعض ما انتقده الغزالي على ابن سينا ينطبق على الفلسفة كلها، وبعض ما انتقده عليه هو مختص بابن سينا، وهكذا نكون أنصفنا الرجال والعلم.


ثالثاً: ناقش ابن رشد غاية الغزالي من تصنيف كتابه تهافت الفلاسفة، والتي صرح بها الغزالي في المقدمة، وهي كما قال الانصياع لأمر الأمير في الكتابة في الرد على أهل الفلسفة، بما يجعل الحامل على الكتاب سياسياً زمنياً، وأشار من طرفٍ خفيٍّ الى أن هذا دفعه إلى التحامل على الفلاسفة، والإغضاء عن تلمس الأعذار لهم في ما قد يصدر من أخطاء عنهم، واستخدام لغة تؤلب العوام عليهم، وانتقده في هذا كثيراً على أن هذه المواضيع إنما تطرح في كتب أكاديمية عُليا يستفيد منها من تمرس في العلم، وتدرج في قراءة مصادره وفنونه. وبناءً على ذلك قال في أكثر من موضع: "لا أدري ما دفعه –أي الغزالي- على قوله هذا، ولعله دُفع اليه". وهذا لا يقبل من ابن رشد بحال من الأحوال، إذ خلط فيه بين الشخصي والموضوعي، بما يغيب الحقيقة المجردة عن قارئه، ويجعله ينقلب على الإمام الغزالي، وهذا لا يجوز في أعراف العلماء، خصيصى إذا عرفنا أنه بذاته أيضاً قد صنّف عدداً من مصنفاته بطلب من أمراء زمانه قبيل نكتبه من قبلهم، كما أن فيه غمزاً في النوايا لا يقبل بحالٍ من الأحوال. إلا أنه وفي موضع من كتابه تهافت التهافت، التزم أخلاق العلماء وسموهم، واعتذر للغزالي بأسلوب لطيف المأخذ دقيق المغمز، فقال: "وهذا لا يأتي إلا من شرير أو جاهل، وأبو حامد –الغزالي- مبرأ من تلكما الجهتين"!.

نتيجة الكلام: إن ابن رشد ظهر بأنه كان علمياً موضوعياً في النقطتين الأولى والثانية من انتقاداته، أي في معظم ما سجّله من نقاط ومواقف في كتابه تهافت التهافت، إلا أنه وفي مواضع معينة غلب عليه الطابع الشخصي والانتصار الذاتي للفلاسفة، فوقع فيما انتقد عليه الغزالي من الغمز واللمز واستعمال الألفاظ التي تؤلب العامة وتؤجج عواطفها. وهذا هو الجانب الذي يهمنا في هذه الدراسة المبسطة، وهو جدلية النقد ونقد النقد، والارتقاء بالأفكار وتلاقحها، والذي هو وسيلة البناء المعرفة والتراكمي للآراء والمعارف والثقافات التي تفتقد إليها كثير من الدراسات العربية
 
====== 
 

الإعراب اللغوي بين التنظيم والتيسير

الإعراب اللغوي بين التنظيم والتيسير

محمد أنس سرميني




تختلف معاناةُ الباحثين مع العِلم باختلاف أصولهم وخلفياتهم الثقافية؛ فنظرة أهل اللغة في القرآن تكشِف لهم من حقائقه ما لا يتنبَّهُ له أهلُ الفقه والأحكام، ونظرة أهل الفقه في اللغة وقواعدهم تريهم ما قد يكون غفَل عنه أهل اللغة، ومثله نظرة العربي إلى لغته تختلف عن نظرة الأعجمي في العربية، فلربما تنتقل معاناته التي استقاها من لغته الأمِّ إلى اللغة العربية الوافدة إليه، بما يفتح له آفاقًا ومعانيَ قد يغفل عنها أبناءُ اللغة.

ولعل هذا المقال هو إحدى ثمار قُرب الكاتب من متعلمي العربية من غير العرب، ويناقش فيه مسألة الإعراب في اللغة من خلال جوانبَ تقرِّبُ اللغة إلى ناطقيها ومتعلِّميها، وتجدر أن تكون البداية من خلال شرح معنى الإعراب في المعاجم والقواميس، وهي تشير إلى معنى البيان والإيضاح والإفهام، فأعرَب عن نفسه؛ أي: أبان ما فيها وأظهره، وذكروا له معانيَ أخرى؛ كالتحبُّب، والتغيير، وإزالة الفساد، وبالتأمل يرجح أنها تؤُول إلى المعنى الأول، وهو البيان؛ (انظر: مادة: عرب، في لسان العرب لابن منظور، تاج العروس للزبيدي).

وأمَّا في النَّحو فله عدة معانٍ:
أولها: ما يرادف علم النَّحو وقواعد العربية كلها، ولعل هذا مصطلحُ أئمة القرون الأولى، فورد أن عمرَ بن الخطاب أراد من أبي الأسود أن يعلِّمَ أهل البصرة الإعراب، وكذلك كان الزَّجاج يسمِّي النَّحو إعرابًا.

ثانيها: ما يقابل البناء، فيعرِّفونه بأنه تغييرُ أواخر الكلمات بسبب اختلاف العوامل الداخلة عليها، لفظًا أو تقديرًا، وعليه يكون الإعرابُ أمرًا معنويًّا تكون العلامات دالة عليه، بمعنى أن الكلمة تكون مفعولاً به؛ أي معرَبة، أي منصوبة، والعلامة الفتحة، والأصحُّ فك الارتباط بين الإعراب والعلامة؛ لأنها قد تنفكُّ عنه وينوب عنها غيرها، وعليه يكون جواب سؤال: ما إعراب: زيد قائمٌ؟ أنها معربةٌ مرفوعة، وعلامة رفعها الضمة، والسبب وراء ذلك أنها جملة اسمية من مبتدأ وخبر.

ثالثها: تحليل الجملة اللغوية، وبيان وظائف الأدوات والكلمات فيها من حيث النَّحو والصرف، والتقديم والتأخير، وأحوال البناء والإعراب، والحركات الظاهرة والمقدَّرة، وما سوى ذلك في كتب سُميت بـ: إعراب القرآن للنحاس، وإعراب ثلاثين سورة من القرآن لابن خالويه، ومشكِل إعراب القرآن لمَكِّي بن أبي طالب، ويشبه ذلك قولُ الخضري: إن الإعراب هو تطبيق الكلام على قواعد العربية؛ كأن تقول: ما إعراب (زيدٌ قائمٌ)؟ فزيد مبتدأ، وقائمٌ خبر؛ (انظر: حاشية محمد الخضري على شرح ابن عقيل 1/36).

ومن الواضح أن المعنى الأول سبق المعانيَ الأخرى، وأن الأَولى اعتماد المعاني التي استقرت بعد تحرير وتنقيح المصطلحات، وأما المعنى الثاني والثالث فلقد ارتضاهما النَّحويون المتأخرون، وساروا عليهما معًا في التصنيف، وفي عملية التحليل والإعراب، إلا أنَّ واقع كتب الإعراب يبدو أنها اختطَّت أسلوب الإعراب بالفعل أو الفاعل أو المفعول أو المضاف إليه وغيره أولاً، ثم بيان موقعه الإعرابي بالرفع أو النصب أو الجر، وعلى هذا صُنِّفت كتب النَّحو على المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل والمفاعيل، والحال والتمييز والتوابع، خلافًا للكتب التي صُنِّفت على أن الكلمات إما مبنية أو معربة، وأن أنواع البناء كذا، وأنواع الإعراب هي المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، ولعل الأَولى في هذه المسألة هو الخيارُ الأول لا الثاني.

والخلاف في هذه القضية وإن كان اصطلاحيًّا - ولا مشاحة في الاصطلاح - فقد صدَرَتْ عنه نتائجُ سلبية، كان اعتماد النهج الأول يجنِّب اللغة هذه النتائج السلبية، وأذكر هنا عدة نتائج أراها تؤيد انتهاجَ هذا المسلك من مفهوم الإعراب:
الأُولى: إنَّ فهم القواعد وترتيبها في العقل وبناء تراتبيها المنطقية، يجب أن يقومَ على الوجه السليم الصحيح، وليس مقلوبًا رأسًا على عقب، وتفسير هذا الكلام، أن منطق التعليم عادة يبتدئ بذِكر الحُكم، ثم يستدل عليه بالأدلة، لا العكس، وبذلك تقف القواعد على أقدامها لا على رأسها، بحيث تبنى القواعد على الأدلة، فأن تقولَ: إن الكلمة في هذا السياق منصوبة، والدليل على ذلك كونها مفعولاً، هو الفهمُ المتبادر للأذهان، بعيدًا عن فلسفة العِلَل النَّحوية وفذلكاتها، أما لو تبتدئ بالدليل ثم تعقبه بالحُكم، فلا يحبَّذ؛ إذ لربما تغفُلُ عن الحُكم في إعرابك فتفوت الفائدة منه، وعلى سبيل المثال، في قوله تعالى: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4]، إن ﴿ شَيْبًا ﴾ هنا: منصوب؛ لأنه تمييز، فيدرك عقل المتلقي أن الإعرابَ هو النَّصب، وأن حركته الفتحة، وأن دليله على قوله هذا أن موقعَ الكلمة في الجملة هنا التمييز، وبذلك يكون الطالب قد استطاع توظيفَ الكلمة الأولى من إعرابه في صيانة لسانه عن الخلل واللَّحن، وهذا ينقُلُنا إلى النتيجة الثانية.

الثانية: موافقة مصطلح "النَّحو الوظيفي" بمعنى أن يكون تعلُّم النَّحو والقواعد للطالب غير مجرد لذاته؛ وإنما لتحسين لغته المنطوقة والمكتوبة، وتحسين استيعابه وفهمه له؛ فالنَّحو - بالاتفاق - من علوم الآلة، لا العلوم الأصيلة؛ أي إنه وسيلة لا غاية، وهذا يتطلبُ من الدارس أن يدرك أولاً أن الكلمة هنا إعرابها النصبُ أو الجرُّ أو الرَّفع؛ لأنه هو الأثرُ الذي سيظهر في كلامه المنطوق والمكتوب، وما سواه من أمور هي أدلةٌ على إعرابه تلزمه لنفسه فقط؛ فالسامع والقارئ يهتمُّ باستقبال لغة فصيحة البيان، وصحيحة الإعراب، بأكثرَ من اهتمامه بتحليل الجملة وتفصيلاتها الإعرابية، التي قد لا تشغل بالَه بمقدار أهل الاختصاص والمعرفة، وهذا ينقُلُنا إلى النتيجة الثالثة.

الثالثة: التَّطلُّع إلى التسهيل الذي لا يؤثِّرُ في فهم اللغة وحُسن استعمالها، بقدر ما يميِّز بين عمل المختص الذي ينشد فلسفة النَّحو وعلومه، وبين عمل المتكلِّم الذي ينشد الفصاحة والصحة؛ فالطالب عندما يعرف أن موقع الكلمة في جملةٍ ما هو النصبُ أو الجر مثلاً، يكون قد أنجز تِسعين بالمائة من واجبه، وبقي عليه إقامةُ الحجة على قوله، ولعل الأَولى في المراحل الأُولى لتعلُّم العربية أن يكون التركيز على موقع الإعراب فقط، بحيث يستطيع الطالب إنتاجَ جملة عربية فصيحة سليمة معربة - أي بالحركات، وليس بالتحليل اللغوي المشهور - وعندها يكون الدرس قد أثمر غايتَه وهدفه.

ويؤكد هذا الكلام أن هناك وفرةً في أعاريبَ معينة - بمعنى تحديد الدليل على الإعراب - اختلف فيها النحاةُ بما لا أثرَ له في الإعراب - بمعنى الرفع والنصب والجر - كاختلافهم في مسألة تعدُّد الخبر، أو أن للمبتدأ خبرًا واحدًا، والبقية صفات له، والأثر الإعرابي واحد أن الجميع مرفوع، فلو أدرك الدارس أن الجملةَ هنا مرفوعة، فقد حقق الغاية من فهمِه للإعراب، ويشبه ذلك أيضًا اختلاف النحاة في توجيه أعاريب معيَّنة في القرآن، وكلها تصب في الحركة الإعرابية الثابتة فيه بالتواتر، ومنه اختلافهم في قوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ﴾ [الأحقاف: 15]؛ إذ ذكَر محيي درويش في إعراب ﴿ إِحْسَانًا ﴾ عدةَ وجوه، فقال في كتابه: إعراب القرآن وبيانه، 9/ 176: "وإحسانًا: مصدر منصوب بفعل محذوف؛ أي: وصَّيْناه أن يحسن إليهما إحسانًا، وقيل: هو مفعول به على تضمين وصَّينا معنى: ألزمنا، فيكون مفعولاً ثانيًا، وقيل: بل هو منصوب على أنه مفعول من أجله؛ أي: وصيناه بهما إحسانا منَّا إليهما".

ومحتوى هذا الكلام لا يُهِم إلا المختصين، أما القارئ فيكفيه معرفةُ إعراب الكلمة بأنها منصوبة، وأن الدليل على ذلك كونها "كذا" على الأرجح.

وهذا هو الجانب الآخر للتسهيل النَّحوي هنا، فمن وجهة نظر الكاتب، يكفي أن يعرف الطالب غير المختص في المراحل التعليمية الأُولى، أن الكلمة منصوبة أو مرفوعة أو مجرورة، وفي مرحلة أكثر تخصُّصًا وتقدُّمًا عليه أن يقدِّم الدليل على ذلك، ثم في المراحل العُليا عليه أن يناقش وجوهَ الأدلة وتنوعها واختلافها وأثرها في اختلاف المعنى، وعليه أن يرجح أقربها للمعنى والسياق.

على أن منطق أبواب الحركات الأصلية والفرعية في الإعراب - كباب الممنوع من الصرف، وجمع المؤنَّث السالم، والمنقوص والممدود، والمضاف لياء المتكلِّم، أو المجرور بحرف جر زائد، أو المرفوع بنزع الخافض - كلها تؤكِّدُ هذا النظر؛ لأنه يتناول وجوه التعبير عن المرفوع في اللغة العربية، دونما اعتبار لكونه فاعلاً أو مبتدأ أو خبرًا، وكذلك المنصوب والمجرور، بل إن منطق اللغات الأخرى التي تمتلك من صفات الإعراب ما يقاربها بالعربية، يقارب ذلك أيضًا، فإنها قد شُرحت ونُظمت على هذا الترتيب، فهم يقسِّمون الجمل إلى مرفوع ومنصوب ومجرور، ويمثِّلون له بالفعل والفاعل والمفعول والتتمة، ثم يتوسعون في تفصيلاتها وشروحها.

فغاية ما ذكر في المقال هو ترجيحُ الخِيار الأول على الثاني في الإعراب، بحيث يكون الإعراب هو حقًّا الرفع والخفض والنَّصب، وأما ما عدا ذلك فهو إشارات وقرائن وأدلة الإعراب، وحبذا لو سار تدريسُ العربية لأبنائها ولغير أبنائها على هذا الترتيب، فيكون بذلك أكثرَ ترابطًا في البناء، وأكثر اتصالاً بمفاهيمِ وقواعد اللغات الأخرى، ومن جهة أخرى أسهل وأقرب للاستخدام والتوظيف، وحبذا لو صُنِّفت كتب تعليم العربية ورُتِّبت على هذا الأساس، وبالأخص كتب غير الناطقين بها، فيكون تصور القواعد وفهمها فيها أسهلَ مأخذًا وأكثر ارتباطًا بالجانب الوظيفي التطبيقي في اللغة.
 

5/21/2014

الإعراب اللغوي بين التنظيم والتيسير

الإعراب اللغوي بين التنظيم والتيسير

محمد أنس سرميني




تختلف معاناةُ الباحثين مع العِلم باختلاف أصولهم وخلفياتهم الثقافية؛ فنظرة أهل اللغة في القرآن تكشِف لهم من حقائقه ما لا يتنبَّهُ له أهلُ الفقه والأحكام، ونظرة أهل الفقه في اللغة وقواعدهم تريهم ما قد يكون غفَل عنه أهل اللغة، ومثله نظرة العربي إلى لغته تختلف عن نظرة الأعجمي في العربية، فلربما تنتقل معاناته التي استقاها من لغته الأمِّ إلى اللغة العربية الوافدة إليه، بما يفتح له آفاقًا ومعانيَ قد يغفل عنها أبناءُ اللغة.

ولعل هذا المقال هو إحدى ثمار قُرب الكاتب من متعلمي العربية من غير العرب، ويناقش فيه مسألة الإعراب في اللغة من خلال جوانبَ تقرِّبُ اللغة إلى ناطقيها ومتعلِّميها، وتجدر أن تكون البداية من خلال شرح معنى الإعراب في المعاجم والقواميس، وهي تشير إلى معنى البيان والإيضاح والإفهام، فأعرَب عن نفسه؛ أي: أبان ما فيها وأظهره، وذكروا له معانيَ أخرى؛ كالتحبُّب، والتغيير، وإزالة الفساد، وبالتأمل يرجح أنها تؤُول إلى المعنى الأول، وهو البيان؛ (انظر: مادة: عرب، في لسان العرب لابن منظور، تاج العروس للزبيدي).

وأمَّا في النَّحو فله عدة معانٍ:
أولها: ما يرادف علم النَّحو وقواعد العربية كلها، ولعل هذا مصطلحُ أئمة القرون الأولى، فورد أن عمرَ بن الخطاب أراد من أبي الأسود أن يعلِّمَ أهل البصرة الإعراب، وكذلك كان الزَّجاج يسمِّي النَّحو إعرابًا.

ثانيها: ما يقابل البناء، فيعرِّفونه بأنه تغييرُ أواخر الكلمات بسبب اختلاف العوامل الداخلة عليها، لفظًا أو تقديرًا، وعليه يكون الإعرابُ أمرًا معنويًّا تكون العلامات دالة عليه، بمعنى أن الكلمة تكون مفعولاً به؛ أي معرَبة، أي منصوبة، والعلامة الفتحة، والأصحُّ فك الارتباط بين الإعراب والعلامة؛ لأنها قد تنفكُّ عنه وينوب عنها غيرها، وعليه يكون جواب سؤال: ما إعراب: زيد قائمٌ؟ أنها معربةٌ مرفوعة، وعلامة رفعها الضمة، والسبب وراء ذلك أنها جملة اسمية من مبتدأ وخبر.

ثالثها: تحليل الجملة اللغوية، وبيان وظائف الأدوات والكلمات فيها من حيث النَّحو والصرف، والتقديم والتأخير، وأحوال البناء والإعراب، والحركات الظاهرة والمقدَّرة، وما سوى ذلك في كتب سُميت بـ: إعراب القرآن للنحاس، وإعراب ثلاثين سورة من القرآن لابن خالويه، ومشكِل إعراب القرآن لمَكِّي بن أبي طالب، ويشبه ذلك قولُ الخضري: إن الإعراب هو تطبيق الكلام على قواعد العربية؛ كأن تقول: ما إعراب (زيدٌ قائمٌ)؟ فزيد مبتدأ، وقائمٌ خبر؛ (انظر: حاشية محمد الخضري على شرح ابن عقيل 1/36).

ومن الواضح أن المعنى الأول سبق المعانيَ الأخرى، وأن الأَولى اعتماد المعاني التي استقرت بعد تحرير وتنقيح المصطلحات، وأما المعنى الثاني والثالث فلقد ارتضاهما النَّحويون المتأخرون، وساروا عليهما معًا في التصنيف، وفي عملية التحليل والإعراب، إلا أنَّ واقع كتب الإعراب يبدو أنها اختطَّت أسلوب الإعراب بالفعل أو الفاعل أو المفعول أو المضاف إليه وغيره أولاً، ثم بيان موقعه الإعرابي بالرفع أو النصب أو الجر، وعلى هذا صُنِّفت كتب النَّحو على المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل والمفاعيل، والحال والتمييز والتوابع، خلافًا للكتب التي صُنِّفت على أن الكلمات إما مبنية أو معربة، وأن أنواع البناء كذا، وأنواع الإعراب هي المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، ولعل الأَولى في هذه المسألة هو الخيارُ الأول لا الثاني.

والخلاف في هذه القضية وإن كان اصطلاحيًّا - ولا مشاحة في الاصطلاح - فقد صدَرَتْ عنه نتائجُ سلبية، كان اعتماد النهج الأول يجنِّب اللغة هذه النتائج السلبية، وأذكر هنا عدة نتائج أراها تؤيد انتهاجَ هذا المسلك من مفهوم الإعراب:
الأُولى: إنَّ فهم القواعد وترتيبها في العقل وبناء تراتبيها المنطقية، يجب أن يقومَ على الوجه السليم الصحيح، وليس مقلوبًا رأسًا على عقب، وتفسير هذا الكلام، أن منطق التعليم عادة يبتدئ بذِكر الحُكم، ثم يستدل عليه بالأدلة، لا العكس، وبذلك تقف القواعد على أقدامها لا على رأسها، بحيث تبنى القواعد على الأدلة، فأن تقولَ: إن الكلمة في هذا السياق منصوبة، والدليل على ذلك كونها مفعولاً، هو الفهمُ المتبادر للأذهان، بعيدًا عن فلسفة العِلَل النَّحوية وفذلكاتها، أما لو تبتدئ بالدليل ثم تعقبه بالحُكم، فلا يحبَّذ؛ إذ لربما تغفُلُ عن الحُكم في إعرابك فتفوت الفائدة منه، وعلى سبيل المثال، في قوله تعالى: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4]، إن ﴿ شَيْبًا ﴾ هنا: منصوب؛ لأنه تمييز، فيدرك عقل المتلقي أن الإعرابَ هو النَّصب، وأن حركته الفتحة، وأن دليله على قوله هذا أن موقعَ الكلمة في الجملة هنا التمييز، وبذلك يكون الطالب قد استطاع توظيفَ الكلمة الأولى من إعرابه في صيانة لسانه عن الخلل واللَّحن، وهذا ينقُلُنا إلى النتيجة الثانية.

الثانية: موافقة مصطلح "النَّحو الوظيفي" بمعنى أن يكون تعلُّم النَّحو والقواعد للطالب غير مجرد لذاته؛ وإنما لتحسين لغته المنطوقة والمكتوبة، وتحسين استيعابه وفهمه له؛ فالنَّحو - بالاتفاق - من علوم الآلة، لا العلوم الأصيلة؛ أي إنه وسيلة لا غاية، وهذا يتطلبُ من الدارس أن يدرك أولاً أن الكلمة هنا إعرابها النصبُ أو الجرُّ أو الرَّفع؛ لأنه هو الأثرُ الذي سيظهر في كلامه المنطوق والمكتوب، وما سواه من أمور هي أدلةٌ على إعرابه تلزمه لنفسه فقط؛ فالسامع والقارئ يهتمُّ باستقبال لغة فصيحة البيان، وصحيحة الإعراب، بأكثرَ من اهتمامه بتحليل الجملة وتفصيلاتها الإعرابية، التي قد لا تشغل بالَه بمقدار أهل الاختصاص والمعرفة، وهذا ينقُلُنا إلى النتيجة الثالثة.

الثالثة: التَّطلُّع إلى التسهيل الذي لا يؤثِّرُ في فهم اللغة وحُسن استعمالها، بقدر ما يميِّز بين عمل المختص الذي ينشد فلسفة النَّحو وعلومه، وبين عمل المتكلِّم الذي ينشد الفصاحة والصحة؛ فالطالب عندما يعرف أن موقع الكلمة في جملةٍ ما هو النصبُ أو الجر مثلاً، يكون قد أنجز تِسعين بالمائة من واجبه، وبقي عليه إقامةُ الحجة على قوله، ولعل الأَولى في المراحل الأُولى لتعلُّم العربية أن يكون التركيز على موقع الإعراب فقط، بحيث يستطيع الطالب إنتاجَ جملة عربية فصيحة سليمة معربة - أي بالحركات، وليس بالتحليل اللغوي المشهور - وعندها يكون الدرس قد أثمر غايتَه وهدفه.

ويؤكد هذا الكلام أن هناك وفرةً في أعاريبَ معينة - بمعنى تحديد الدليل على الإعراب - اختلف فيها النحاةُ بما لا أثرَ له في الإعراب - بمعنى الرفع والنصب والجر - كاختلافهم في مسألة تعدُّد الخبر، أو أن للمبتدأ خبرًا واحدًا، والبقية صفات له، والأثر الإعرابي واحد أن الجميع مرفوع، فلو أدرك الدارس أن الجملةَ هنا مرفوعة، فقد حقق الغاية من فهمِه للإعراب، ويشبه ذلك أيضًا اختلاف النحاة في توجيه أعاريب معيَّنة في القرآن، وكلها تصب في الحركة الإعرابية الثابتة فيه بالتواتر، ومنه اختلافهم في قوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ﴾ [الأحقاف: 15]؛ إذ ذكَر محيي درويش في إعراب ﴿ إِحْسَانًا ﴾ عدةَ وجوه، فقال في كتابه: إعراب القرآن وبيانه، 9/ 176: "وإحسانًا: مصدر منصوب بفعل محذوف؛ أي: وصَّيْناه أن يحسن إليهما إحسانًا، وقيل: هو مفعول به على تضمين وصَّينا معنى: ألزمنا، فيكون مفعولاً ثانيًا، وقيل: بل هو منصوب على أنه مفعول من أجله؛ أي: وصيناه بهما إحسانا منَّا إليهما".

ومحتوى هذا الكلام لا يُهِم إلا المختصين، أما القارئ فيكفيه معرفةُ إعراب الكلمة بأنها منصوبة، وأن الدليل على ذلك كونها "كذا" على الأرجح.

وهذا هو الجانب الآخر للتسهيل النَّحوي هنا، فمن وجهة نظر الكاتب، يكفي أن يعرف الطالب غير المختص في المراحل التعليمية الأُولى، أن الكلمة منصوبة أو مرفوعة أو مجرورة، وفي مرحلة أكثر تخصُّصًا وتقدُّمًا عليه أن يقدِّم الدليل على ذلك، ثم في المراحل العُليا عليه أن يناقش وجوهَ الأدلة وتنوعها واختلافها وأثرها في اختلاف المعنى، وعليه أن يرجح أقربها للمعنى والسياق.

على أن منطق أبواب الحركات الأصلية والفرعية في الإعراب - كباب الممنوع من الصرف، وجمع المؤنَّث السالم، والمنقوص والممدود، والمضاف لياء المتكلِّم، أو المجرور بحرف جر زائد، أو المرفوع بنزع الخافض - كلها تؤكِّدُ هذا النظر؛ لأنه يتناول وجوه التعبير عن المرفوع في اللغة العربية، دونما اعتبار لكونه فاعلاً أو مبتدأ أو خبرًا، وكذلك المنصوب والمجرور، بل إن منطق اللغات الأخرى التي تمتلك من صفات الإعراب ما يقاربها بالعربية، يقارب ذلك أيضًا، فإنها قد شُرحت ونُظمت على هذا الترتيب، فهم يقسِّمون الجمل إلى مرفوع ومنصوب ومجرور، ويمثِّلون له بالفعل والفاعل والمفعول والتتمة، ثم يتوسعون في تفصيلاتها وشروحها.

فغاية ما ذكر في المقال هو ترجيحُ الخِيار الأول على الثاني في الإعراب، بحيث يكون الإعراب هو حقًّا الرفع والخفض والنَّصب، وأما ما عدا ذلك فهو إشارات وقرائن وأدلة الإعراب، وحبذا لو سار تدريسُ العربية لأبنائها ولغير أبنائها على هذا الترتيب، فيكون بذلك أكثرَ ترابطًا في البناء، وأكثر اتصالاً بمفاهيمِ وقواعد اللغات الأخرى، ومن جهة أخرى أسهل وأقرب للاستخدام والتوظيف، وحبذا لو صُنِّفت كتب تعليم العربية ورُتِّبت على هذا الأساس، وبالأخص كتب غير الناطقين بها، فيكون تصور القواعد وفهمها فيها أسهلَ مأخذًا وأكثر ارتباطًا بالجانب الوظيفي التطبيقي في اللغة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
==============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق