الخميس، 26 نوفمبر 2020

التأويل 2 الإيمان بالنصوص على ظاهرها ورد التأويل والحكم علي الاخرين ضوابطه وضوابط الحكم على الناس


الإيمان بالنصوص على ظاهرها ورد التأويل

يقصد بظاهر النصوص مدلولها المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، لا ما يقابل النص عند متأخري الأصوليين، 

 والظاهر عندهم ما احتمل معنى راجحاً وآخر مرجوحاً، والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، (فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين) (1) ، فالواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، واعتقاد أن هذا المعنى هو مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيباً للمتكلم، أو اتهاما له بالعي وعدم القدرة على البيان عما في نفسه، أو اتهاما له بالغبن والتدليس وعدم النصح للمكلف، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.

ومراد المتكلم يعلم إما باستعماله اللفظ الذي يدل بوضعه على المعنى المراد مع تخلية السياق عن أية قرينة تصرفه عن دلالته الظاهرة، أو بأن يصرح بإرادة المعنى المطلوب بيانه، أو أن يحتف بكلامه من القرائن التي تدل على مراده، وعلى هذا فصرف الكلام عن ظاهره المتبادر - من غير دليل يوجبه أو يبين مراد المتكلم - تحكم غير مقبول سببه الجهل أو الهوى، وهذا وإن سماه المتأخرون تأويلاً إلا أنه أقرب إلى التحريف منه إلى التأويل (2) ، ولا يسلم لهذا المتأول تأويله حتى يجيب على أمور أربعة:

أحدهما: أن يبين احتمال اللفظ لذلك المعنى الذي أورده من جهة اللغة.

الثاني: أن يبين وجه تعيينه لهذا المعنى أنه المراد.

الثالث: أن يقيم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره؛ لأن الأصل عدمه، قال ابن الوزير رحمه الله: من النقص في الدين رد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل.. (3) .

الرابع: أن يبين سلامة الدليل الصارف عن المعارض، إذ دليل إرادة الحقيقة والظاهر قائم، وهو إما قطعي، وإما ظاهر، فإن كان قطعيا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلابد من الترجيح (4) .

ومما يدل على إعمال الظواهر أنه لا يتم بلاغ ولا يكمل إنذار، ولا تقوم الحجة ولا تنقطع المعذرة بكلام لا تفيد ألفاظه اليقين، ولا تدل على مراد المتكلم بها؛ بل على خلاف ذلك، فينتفي عن القرآن – والعياذ بالله – معنى الهداية، وشفاء الصدور، والرحمة، التي وصف الله تعالى بها كتابه الكريم، ومعاني الرأفة والرحمة والحرص على رفع العنت والمشقة عن الأمة، التي وصف الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، وهو الذي ترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلا التباس في أمره ونهيه، ولا إلغاز في إرشاده وخبره، باطنه وظاهره سواء، كيف لا، وهو القائل: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم...)) (5) .

ودلالته صلى الله عليه وسلم للأمة في شأن اعتقادها أهم أعماله، وأولاها بالإيضاح والإفهام بلسان عربي مبين، والجزم واقع بأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموها على وجهها الذي يفهمه العربي، بغير تكلف ولا تمحل في صرف ظواهرها، ومن كان باللسان العربي أعرف ففهمه لنصوص الوحي أرسخ، وقد قال عمر رضي الله عنه: (يا أيها الناس، عليكم بديوان شعركم في الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم) (6) .

وقال ابن تيمية رحمه الله: لم يكن في الصحابة من تأول شيئا من نصوصه – أي نصوص الوحي – على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت... (7) .

وفي إنكار التأويل الكلامي ومناهج الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل – ولو كان مستكرهاً – ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف (8) .

ويقول ابن تيمية رحمه الله مبيناً خطورة التأويل: فأصل خراب الدين والدنيا، إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط؛ بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد (9) .

ففي لزوم الإيمان بالنصوص على ظاهرها ودفع التأويل المتعسف بغير دليل موافقة لنصوص الكتاب والسنة لفظا ومعنى، مع بعد عن التكلف في الدين، والقول على الله بغير علم، والافتراء على رسوله الأمين، فضلاً عن ما في ذلك من مصلحة سد باب الخروج على العقيدة ببدعة محدثة، وسد باب الخروج على الشريعة، والاجتراء على الحرمات، والتهاون بالطاعات والوقوع في المنكرات، بصرف ألفاظ الوعد والوعيد عن حقيقتها وظاهرها، ودعوى أن كل ذلك غير مراد.

(وهذه القاعدة تفيد بطلان مذهب المفوضة في الصفات، الذين يفوضون معاني النصوص إلى الله، مدعين أن هذا هو مذهب السلف، وقد علم براءة مذهب السلف من هذا المذهب بتواتر الأخبار عنهم بإثبات معاني هذه النصوص على الإجمال والتفصيل، وإنما فوضوا العلم بكيفيتها لا العلم بمعانيها) (10) .

قال ابن تيمية رحمه الله: إن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها، ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه (11) .

بل كان قول أهل العلم: من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم.

ومما يشهد للصحابة في فهمهم مراد الله ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم، والأخذ بظواهر النصوص، وتفسيرها مما يظهر منها: قول ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (12) .

وقال مسروق رحمه الله: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحثنا فيها ويفسرها عامة النهار (13) ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: نعم ترجمان القرآن ابن عباس (14) .

وقال مجاهد رحمه الله: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها (15) .

فلم يتوقف الصحابة عن تفسير النصوص والأخذ بظواهرها؛ ويستثنى من ذلك النصوص الخاصة بصفات الله تعالى، فقد أخذوا بظواهرها فأثبتوها دون تفسير أو تكييف لمعناها.

قال الذهبي: قال سفيان (16) وغيره: قراءتها – أي آيات الصفات – تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف (17) . (18)

والواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها.

ودليل ذلك: السمع، والعقل.

أما السمع: فقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192-195] وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3]. وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.

وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان. فقال: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75]. وقال تعالى:مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا الآية [النساء: 46].

وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة. (19)

واعلم أن من قواعد أهل السنة المقررة أن الأصل أن يحمل النص على ظاهره، وأن الظاهر مراد، وأن الظاهر ما يتبادر إلى الذهن من المعاني، وأنه لا يخرج عن هذا الظاهر إلا بدليل، فإن عدم الدليل كان الحمل على الظاهر هو المتعين، والحمل على خلافه تحريف، فالنصوص الشرعية نصوص هداية ورحمة لا نصوص إضلال، فلو قدر أن المتكلم أراد من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته من غير قرينة ولا دليل ولا بيان لصادم هذا الفعل مقصود الإرشاد والهداية وأن ترك المخاطب والحالة هذه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى...ومن أسباب إخراج النصوص عن ظواهرها عند البعض دعوى معارضتها للمعقول كالشأن في كثير من العقائد الإسلامية، إذ أن من طالع كتب المؤولة وجد عندهم توسعا عجيبا في هذا الباب، وكلما خاضوا بالتأويل في باب جرهم ذلك إلى استسهال التأويل في باب آخر وهكذا حتى آل الأمر بالباطنية مثلا إلى تأويل جملة الشريعة حتى ما يتعلق منها بالأحكام الشرعية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وجعل ذلك كله من قبيل الباطن المخالف للظاهر،... والذي يعنينا هنا أن نؤكد على أن هذه النصوص الشرعية يجب حملها على ظواهرها ولا يصح تأويلها لمجرد تنزيلها على واقع حالي أو لتوهم معارضتها للمعقول، وأن تأويلها والحالة هذه مخرج لها عن قصد الشارع وبالتالي فتنزيلها بعد التأويل تنزيل لها على واقع غير مراد ولا مقصود للشارع. (20)

 

 

 

 

 

 

انظر أيضا:

تمهيد: .

المبحث الأول: انضباط مصادر أدلة الاعتقاد والاعتماد على ما صح منها.

المبحث الثاني: حجية فهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنة.

المبحث الثالث: الإيمان والتسليم والتعظيم لنصوص الوحيين.

 

--------------

 

كتاب الوجيز في اصول الفقه

 

فصول الكتاب

 

 

 

  مقدمة

 

    الباب التمهيدي المدخل إلى أصول الفقه

 

    الباب الأول في مصادر التشريع الإسلامي

 

    الباب الثاني في الأحكام الشرعية

 

  الباب الثالث تفسير النصوص أو دلالات الألفاظ

 

 

 

  مقدمة: التفسير والدلالات

 

    الفصل الأول كيفية استعمال اللفظ للمعنى

 

    الفصل الثاني صيغ التكليف

 

    الفصل الثالث دلالة اللفظ لغة علي المعنى باعتبار الشمول وعدمه

 

  الفصل الرابع وضوح الألفاظ وخفاؤها

 

 

 

المبحث الأول اللفظ الواضح الدلالة

 

 

 

أولا: طريقة الحنفية في تقسيم الواضح

 

-1 - الظاهر

 

-2 - النص

 

-3 - المفسر

 

 

 

4 - المحكم

 

 

 

  أنواع المحكم

 

  -حكم المحكم

 

 

 

التعارض والترجيح بين أنواع الواضح

 

-1 - تعارض الظاهر والنص

 

-2 - تعارض النص مع المفسر

 

-3 - تعارض المفسر مع المحكم

 

-4 - تعارض النص مع المحكم

 

-5 - تعارض الظاهر مع المحكم

 

    ثانيا: طريقة الجمهور في تقسيم الواضح

 

    ملحق: التأويل

 

    المبحث الثاني اللفظ المبهم [اللفظ غير الواضح الدلالة]

 

    الفصل الخامس طرق دلالة اللفظ علي المعنى

 

    الفصل السادس حروف المعاني

 

    الفصل السابع النسخ

 

    الباب الرابع الاجتهاد والتقليد والإفتاء

 

  الباب الخامس التعارض والترجيح في الأدلة

 

-الخاتمة

 

-أهم المصادر والمراجع المضافة على ما ورد في الجزء الأول

 

مسار الصفحة الحالية:

 

فهرس الكتاب الباب الثالث تفسير النصوص أو دلالات الألفاظ الفصل الرابع وضوح الألفاظ وخفاؤها المبحث الأول اللفظ الواضح الدلالة أولا: طريقة الحنفية في تقسيم الواضح 4 - المحكم التعارض والترجيح بين أنواع الواضح 5 - تعارض الظاهر مع المحكم

 

5 - تعارض الظاهر مع المُحْكم:

 

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، فهذا لفظ محكم يفيد تحريم الزواج من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده، وقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، فهو ظاهر في إباحة جميع النساء، فتعارض الحكمان، فيقدم المحكم؛ لأنه أقوى وأوضح من الظاهر (1).ثانيًا: طريقة الجمهور في تقسيم الواضح:قسم الجمهور اللفظ الواضح بحسب درجة الوضوح للدلالة على المعنى إلى قسمين فقط، وهما: الظاهر، والنَّص، ويشملهما المبيَّن وهو اللفظ الدال على المعنى وليس مُجْملًا.وأساس التفريق عند الجمهور بين الظاهر والنص هو قبول الاحتمال أو عدمه، فالظاهر ما يقبل الاحتمال، وتكون دلالته ظنية، والنص ما لا يقبل الاحتمال، وتكون دلالته على معناه بدرجة القطع، فالظاهر عند الجمهور يقابل الظاهر والنص عند الحنفية، والنصُّ عند الجمهور يقابل المفسر عند الحنفية، كما يقابل المحكم عندهم؛ لانتهاء فترة النسخ بوفاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وانقطاع الوحي (2).[1 - الظاهر]الظاهر عند الجمهور المتكلمين هو: اللفظ الذي يدل على معناه المتبادر للذهن من الصيغة نفسها، ولكنه يحتمل التأويل، ويدل على معناه دلالة ظنية راجحة، سواء كانت هذه الدلالة ناشئة من الوضع اللغوي؛ كدلالة العام على جميع أفراده، أو من العرف؛ كدلالة الصلاة في الشرع على الأقوال والأفعال المخصوصة، وهذا يشمل كلًّا من الظاهر والنص عند الحنفية، أي: سواء

 

= ص 175، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 326)، تفسير النصوص (1/ 198، 203، 213).

(1) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 326).

(2) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 326).

 

 

 

 

 

-------

 

 

 

لظاهر من واضح الدلالة

 

الظاهر من واضح الدلالة

 

د. سامح عبدالسلام محمد

 

 

مقالات متعلقة

 

تاريخ الإضافة: 24/9/2014 ميلادي - 29/11/1435 هجري

زيارة: 40746

 

 

 

نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات

 

 

 

النص الكامل  تكبير الخطالحجم الأصليتصغير الخط

 

شارك وانشر

 

الظاهر من واضح الدلالة

 

 

 

وهو لغةً: مأخوذ من الظهور، الذي هو الوضوح والانكشاف[1].

 

 

 

وعند الأصوليين: هو لفظٌ معقول يحتمل التأويل؛ فالراجح منه ظاهر، والمرجوح مؤوَّل؛ فلفظ الأسَدِ دلالته على السَّبُع المفترس ظاهرة، وعلى الرجل الشجاع مؤوَّلة، عكس لفظ (الصلاة)؛ إذ اشتهرت بمعنى مخصوص في الشرع؛ فهي ظاهرة فيه، مؤوَّلة في المعنى المنقولة منه [2].

 

 

 

ومِن أمثلة الظاهر مُطلَق صيغة الأمر؛ فهي ظاهرة في الوجوب، مؤوَّلة في الندب والإباحة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ﴾ [المائدة: 2]، فظاهرُه يدلُّ على وجوب الصيد بعد التحلُّل، ولكنه مؤوَّل بالإباحة، وكذلك صيغة النهي ظاهرةٌ في التحريم، مؤوَّلة إذا حُمِلت على التنزيهِ، ومنه النفيُ الشرعي المطلق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صيام لِمن لَم يُبيِّتِ الصيامَ من الليل))[3]، فظاهرٌ في نفي الجواز، مؤوَّل في نفي الكمال، ومنه صيغ العموم؛ فهي ظاهرةٌ في اقتضاء العموم، مؤوَّلة إذا قُصِد بها بعض أفرادها.

 

 

 

ومثَّلوا له أيضًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن أسلم وقد تزوج من أختين: ((أمسِكْ إحداهما، وفارِقِ الأخرى))[4]، فهو ظاهرٌ في دوام النكاح بالعقد الأول، وأن له أن يختارَ أيهما شاء، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة، فقد ذهَب إلى أن المراد به ابتداءُ النكاح، والمعنى عنده: أمسك واحدةً فانكِحْها، وفارِق الأخرى؛ أي: انقطِعْ عنها، وظاهر لفظ الإمساك: الاستصحابُ والاستدامة، وما ذكره أبو حنيفة محتمل، غير أن جملةً من القرائن تُقوِّي أن المعنى الظاهر في هذا الحديث، منها: أنه المتبادر إلى الفهم، وأنه قابَل لفظ: (الإمساك) بالمفارَقة، وفوضه إلى اختياره، ولو كان لابتداء النكاح للزِم رضا المرأة، وغير ذلك من أمور تلزَمُ عند ابتداء النكاح[5].

 

 

 

ومثَّلوا له بقوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، فتدل الآيةُ بوضوح على تحليل البيع وتحريم الربا، من غير احتياج إلى قرينةٍ خارجية، وبمجرد سماعِ النص دون إعمال فِكر أو تأمُّل، لكن هذا المعنى ليس هو المقصودَ بالأصالة من سَوْق الآية، بل المقصود هو نفيُ المماثَلَة بين البيع والربا، وإثبات التفرقة بينهما؛ لأن الآيةَ إنما قيلت في الردِّ على أكَلةِ الربا الذين: ﴿ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275] في الآية نفسِها، وبذلك يكونُ المعنى الأول هو الظاهر منها؛ لأنه المقصودُ بالتبعية لغرضِ نفيِ المماثلة، ثم إن البيعَ والرِّبا في الآية لَمَّا كانا عامَّينِ، احتملا التخصيصَ والقصر على بعض أنواعِ البيوع، واحتملت الآيةُ كذلك النسخَ - وإن لم يقع - بوصفِها خطابًا متعلقًا بأحكامٍ جزئية تكليفية[6].

 

 

 

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ﴾ [النساء: 3]؛ فالخطابُ هنا سِيق كما تدل عليه العبارةُ لا لتحديد العددِ بالقصد أصالة - كما يذهب إليه كثيرٌ من الأصوليين - بل القصد الأولُ فيه الاحتياطُ في طلب القِسط في معاملة اليتامى من النساء، مع دلالته في ظاهره على إباحة العددِ مثنى وثُلاثَ ورُباعَ، وأنه لا تصحُّ الزيادة على ذلك[7]، ثم إن قوله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ ﴾ [النساء: 3]، ليس إلا جوابًا لشرطٍ قبله، وعليه فلا معنى لاقتطاعِه من الجملة الشرطية ليوافقَ تحديد المعنى بأنه مقصود أصالةً من الآية.

 

 

 

[1] لسان العرب، مادة: (ظهر).

 

[2] الإحكام؛ للآمدي (3/47).

 

[3] سنن النسائي (4/196).

 

[4] نيل الأوطار (6/288).

 

[5] المستصفى؛ للغزالي (2/283 - 284)، والإحكام؛ للآمدي (3/76).

 

[6] الخطاب الشرعي ص (212).

 

[7] أصول الفقه؛ لأبي زهرة ص (94).

 

الدلالة اللغوية

 

مفهوم الدلالة

 

نشأة الدلالة وتطورها

 

علاقة الدلالة بعلم أصول الفقه

 

من أقسام واضح الدلالة: النص

 

من أقسام واضح الدلالة: المفسر

 

من أقسام خفي الدلالة: الخفي

 

من أقسام خفي الدلالة: المشكل

 

دلالة الإيماء

 

الجاحظ وعلم الدلالة

 

 

 

مختارات من الشبكة

 

نظرة الإسلام الجمالية وأثر الباطن في الظاهر والظاهر في الباطن(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 

إيراد الكلام على خلاف مقتضى الظاهر(مقالة - حضارة الكلمة)

 

تعريف الأمر وصيغه وخروجه عن مقتضى الظاهر(مقالة - حضارة الكلمة)

 

النجم الزاهر في شيم الملك الظاهر جقمق لابن عرب شاه(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 

جمال الظاهر وجمال الباطن(مقالة - آفاق الشريعة)

 

خروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر في القرآن (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 

ميزان الظاهر: الاتباع(مقالة - آفاق الشريعة)

 

إبدال الظاهر من الضمير(استشارة - الاستشارات)

 

الظاهر والمؤول عند الأصوليين(محاضرة - مكتبة الألوكة)

 

أثر الباطن في الظاهر(مقالة - آفاق الشريعة)

 

 

 

 

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/76404/#ixzz6etyLnnoP

 

============================

 

 

 

المبحث الأول: الحكم بالظاهر وأدلته

 

 

هذه من المسائل العظيمة في مذهب أهل السنة في الحكم على الناس، فلا تكون أحكامهم مبنية على ظنون وأوهام أو دعاوي لا يملكون عليها بينات، وهذه من رحمة الله وتيسيره على عباده ومن باب تكليفهم بما يطيقون ويستطيعون، وكل ما سبق المقصود به الحكم الدنيوي على الشخص بالإسلام أو الكفر، أما الحكم على الحقيقة فلا سبيل إليه، يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله - مبيناً أهمية هذا الأصل وخطورة إهماله: (إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، و إن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه. لا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال: (خوفاً من أن يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه) (1) فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به فلا حرج. لأنا نقول: هذا أدل الدليل على ما تقرر، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولم يستثن من ذلك أحداً حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج في ذلك إلى البينة، فقال من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكذب الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر وهذا من ذلك والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية) (2) .

واستند أهل السنة في تقريرهم لهذا الأصل العظيم إلى أدلة كثيرة منها:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة النساء:94] قال الشوكاني رحمه الله: (والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية) (3) .

وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله تعالى: فتبينوا ولو كان لا يقتل إذا قالها للتثبت معنى، إلى أن يقول: (وإن من أظهر التوحيد و الإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك) (4) .

2- واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، و أن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) (5)

والشاهد من الحديث قوله (وحسابهم على الله) قال ابن رجب: (وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقاً أدخله الله بذلك الجنة، و إن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار) (6) . وقال الحافظ في الفتح: (أي أمر سرائرهم.. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر) (7) وقال الإمام البغوي: (وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضاً إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، و أن من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره، ولو وجد مختون فيما بين قتلى غلف، عزل عنهم في المدفن، ولو وجد لقيط في بلد المسلمين حكم بإسلامه) (8) .

3- واستدلوا أيضاً بقصة أسامة رضي الله عنه المشهورة قال:((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة (9) فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال لا إله إلا الله وقتلته قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ)) (10) .

والحديث فيه زجر شديد وتحذير من الإقدام على قتل من تلفظ بالتوحيد وتحذير صريح من تجاوز الظاهر والحكم على ما في القلب دون بينة، قال النووي – رحمه الله-: (وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))؟ الفاعل في قوله: ((أقالها)) هو القلب، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال أفلا شققت عن قلبه لتنظر، هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنت لست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب ولا تطلب غيره) (11) ، وقال أيضاً في تعليقه على قوله – صلى الله عليه وسلم-: ((أفلا شققت عن قلبه؟)): (وفيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام فيها بالظاهر والله يتولى السرائر) (12) .

4- ومن الأحاديث العظيمة في هذا الباب حديث جارية معاوية بن الحكم السلمي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) (13) .

قال شيخ الإسلام في تعليقه على هذا الحديث (…فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا، هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة، ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار) (14) ، (لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة) (15) .

ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين على ظواهرهم مع علمه بنفاق كثير منهم ليقرر هذا الأصل العظيم (فهم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون، ويحجون ويغزون والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم.. ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبدالله بن أبي بن سلول وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبدالله وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، و إذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين.. لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة، لا على المحبة التي في القلوب، فإنه لو علق بذلك لم تمكن معرفته، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، وهو ما أظهروه من موالاة المؤمنين.. وكذلك كانوا في الحقوق والحدود كسائر المسلمين) (16) (وهكذا كان حكمه صلى الله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم لا يستحل منها شيئاً إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم) (17) ومع ذلك (يجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب، فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمناً في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة) (18) .

وبعد هذا التقرير الواضح لهذا الأصل القطعي ترد بعض التساؤلات التي قد يظن أنها مخالفة لهذا الأصل ومنها:

أ - لماذا حصل الخلاف في قبول توبة الزنديق (19) ، مع أن الأصل يقتضي أخذه على ظاهره؟

ب- ما ذكر من أدلة ينطبق على من أظهر الإسلام، أو من أقر بالإسلام ونطق بالشهادتين من الكفار لكن هل ينطبق هذا الكلام على المسلم إذا أظهر الكفر فيحكم بكفره بمجرد ذلك بناءاً على هذا الأصل؟.

وللجواب عن ذلك يقال:

أما الأول فقد اختلف العلماء فيه فذهب بعضهم إلى قبول توبته وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، والبغوي والنووي وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء رحمهم الله، وذهب مالك و أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى عن أحمد وابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمه الله إلى عدم قبول توبته (20) .

ولا نريد أن ندخل في تفاصيل أدلة الفريقين ولا في الترجيح، وإنما الذي يهمنا هنا، قول من قال بقتله بعدما يظهر التوبة، هل ينافي الحكم بالظاهر؟.

الواقع أن (من تأمل أقوال العلماء في هذه المسألة وجد أنه لا خلاف بينهم في مناط الحكم وهو اعتبار الظاهر في الحكم على الناس، وإنما اختلفوا في تحقيق ذلك المناط، فيما يتعلق بالزنديق فمنهم من يرى ظاهره الإسلام لتظاهره بذلك (مستدلاً بالأدلة السابقة التي ذكرناها)، ومنهم من يرى أن ظاهره خداع المسلمين لا الرجوع إلى الإسلام، ولهذا لم يجزم من قال بقتله أنه لابد أن يكون كافراً في الباطن) (21) .

قال الإمام ابن القيم رحمه الله (والزنديق بالعكس (من الكافر الأصلي إذا تاب) فإنه كان مخفياً لكفره مستتراً به، فلم نؤاخذه بما في قلبه إذا لم يظهر عليه، فإذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع لم يرجع عن أمر كان مظهراً له غير خائف من إظهاره، وإنما رجع خوفاً من القتل) (22) . ثم ذكر قاعدة مهمة تنسجم مع قاعدة الحكم بالظاهر فقال: (وههنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره، بالإسلام لأنه ظاهر لا يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به، لأنه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه التوبة و الإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية، أما انتفاء القطع فظاهر، و أما انتفاء الظن فلأن الظاهر إنما يكون دليلاً صحيحاً إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن خلافه.. و إذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته، وتكذيبه واستهانته بالدين، وقدحه فيه، فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا.

وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة، فلا يجوز الاعتداء عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته) (23)

ب- أما التساؤل الآخر: حول المسلم إذا ظهر منه الكفر:

فيقال فيه إن هناك فرقاً بين الحكم بإسلام المعين والحكم بكفره فالحكم بإسلامه يكفي فيه الإقرار والظاهر، وهو إسلام حكمي قد يكون معه المعين منافقاً في الباطن.

أما الكفر فليس حكماً على الظاهر فقط، و إنما هو حكم على الظاهر والباطن بحيث لا يصح أن نحكم على معين بالكفر مع احتمال أن يكون غير كافر على الحقيقة. ولذلك لابد من النظر للعمل الذي عمله هذا المعين هل هو أمر لا يحتمل غير الكفر؟ أم أمر يحتمل الكفر وعدمه؟ أم أن الأمر كفر في ظاهره ولكن يحتمل أن يكون معذوراً بجهل أو تأول (24) . (25)

 

انظر أيضا:

 

  تمهيد.

 

  المبحث الثاني: تكفير المعين والفرق بينه وبين تكفير المطلق.

 

  المبحث الثالث: قيام الحجة.

 

  المبحث الرابع: عدم التكفير بكل ذنب.

 

 

 

 

 

أبو عاصم البركاتي المصري

 

 

مقالات متعلقة

 

تاريخ الإضافة: 5/4/2012 ميلادي - 13/5/1433 هجري

زيارة: 297105

 

 

 

نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات

 

 

 

النص الكامل  تكبير الخطالحجم الأصليتصغير الخط

 

شارك وانشر

 

ضوابط الحكم على الناس

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،،، وبعد:

 

فقد كثر كلام الناس بعضهم في بعض بلا زمام ولا خطام؛ وانشغل عدد من الدعاة وطلاب العلم عن العلم والدعوة بالحكم على الناس؛ فكتبت هذه الورقات مبينًا بعض الضوابط التي ينبغي مراعاتها في هذا الباب؛ وهذا أوان الشروع في المقصود:

 

الضابط الأول: لا يحكم على الناس إلا عالم خبير بأحوالهم:

 

فالكلام في الناس بغير علم جرم عظيم، والله عز وجل يقول: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور:15].

 

 

 

وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه معه شاهد يشهد، قال: ائت بمن يعرفك فجاء برجل، قال: هل تزكيه، هل عرفته؟، قال: نعم، فقال عمر رضي الله عنه وكيف عرفته؟، هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله، ومخرجه؟، قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم الذي بهما تعرف بهما أمانة الرجال؟، قال: لا، قال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟، قال: لا، قال: عمر رضي الله عنه: فلعلك رأيته في المسجد راكعًا وساجدًا فجئتَ تزكيه!!!!، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك[1].

 

 

 

الشروط التي لابد منها في الناقد:

 

أولًا: العلم والتقوى والورع.

 

الثاني: الصدق وعدم التعصب.

 

الثالث: معرفة أسباب الجرح والتزكية؛ لأنه إذا لم يعرف السبب الجارح فربما يجرح بما ليس بجارح.

 

 

 

قال الذهبي في ترجمة أبي بكر الصديق من كتابه تذكرة الحفاظ: "فحق على المحدث أن يتورع في ما يؤديه؛ وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكى نقله الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل:

 

فدع عنك الكتابة لست منها ♦♦♦ ولو سودت وجهك بالمداد

 

 

 

قال الله تعالى عز وجل: ﴿ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، فإن آنست يا هذا من نفسك فهمًا وصدقًا ودينًا وورعًا وإلا فلا تتعن وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأى والمذهب فبالله لا تتعب؛ وإن عرفت إنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك؛ فبعد قليل ينكشف البهرج؛ وينكب الزغل؛ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله؛ فقد نصحتك فعلم الحديث صلف فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب"[2].

 

 

 

الضابط الثاني: لا يحكم على الناس إلا عالم بطرائق النقد.

 

قال السبكي رحمه الله: من لا يكون عالِمًا بأسبابهما - يعني: أسباب الجرح والتعديل - لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد[3].

 

 

 

وقال بدر الدين بن جماعة رحمه الله: من لا يكون عالِمًا بالأسباب لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بإطلاق ولا بتقييد[4].

 

 

 

وقال ابن حجر رحمة الله عليه: إن صدر الجرح من غير عارف بأسبابه لم يعتبر به[5].

 

 

 

الضابط الثالث: محاكمة الناس بالكتاب والسنة لا بمناهج الرجال أو الطوائف.

 

حذر الأئمة من آراء الرجال، ومشارب المذاهب واختلاف الجماعات، فروى عن الإمام مالك أنه قال: " كلما جاءنا رجلٌ أجدلُ من رجلٍ، أرادنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم "[6].

 

 

 

قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة: "وأما من يرى أن الحق وقف مؤبد على طائفته وأهل مذهبه وحجر محجور على من سواهم ممن لعله أقرب إلى الحق والصواب منه فقد حرم خيرا كثيرا وفاته هدى عظيم".

 

 

 

الضابط الرابع: وجوب التجرد لله تعالى.

 

على المرء أن يخلص قوله وعمله لله، وأن يكون كلامه نصيحة للأمة ابتغاء وجه الله لا لغرض آخر، فيحرم على المرء ظلم إخوانه أو التشفي فيهم، أو الشماتة، كما يجب عليه تصفية النفس والقلب من الحسد، حتى لا يحمله ذلك على الكلام بغير حق، ورد من حديث الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ؛ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ؛ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا؛ أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ [7])).

 

 

 

الضابط الخامس: وجوب العدل والإنصاف.

 

يعنى العدل ونبذ البغي؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 9].

 

 

 

وأخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ[8]".

 

 

 

وفي قصة أهل الكوفة مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عبرة؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَعَزَلَهُ, وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ , فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ, إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللهِ, فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ, فَأَرْسَلَ مَعَهُ, رَجُلاً، أَوْ رِجَالاً, إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ, يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا, فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ, قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً, فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْني دَعْوَةُ سَعْدٍ, قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ(الراوي عن جابر بن سمرة): فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ[9].

 

 

 

الضابط السادس: اتهم نفسك أيها الناقد.

 

قال البخاري في " صحيحه " [10]: وقال ابنُ أبي مُليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه.

 

 

 

وفي " المسند " [11] عن حُذيفة، قال: " إِنَّكُمْ لَتَكَلَّمُونَ كَلاَمًا إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّفَاقَ".، وفي رواية [12] قال: " إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصِيرُ بِهَا مُنَافِقًا وَإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ الْيَوْمَ فِي الْمَجْلِسِ عَشْرَ مَرَّاتٍ ".

 

 

 

الضابط السابع: لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

المقرر في عقيدة المسلمين وقواعدهم المتفق عليها أنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيح أن مجموع الأمة معصوم بدلالة النص والأثر؛ فقال صلى الله عليه وسلم: " سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا [13]" وكما ورد في الحديث: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))[14].؛ ولهذا ليس من المنطقي ولا من المقبول شرعًا ولا عقلًا طلب العصمة في آحاد الناس؛ فهذا ليس إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة المباركة، فعلى أصحاب النقد ينبغي أن يعلموا أن من طلب عيبًا وجَدَه، وكما قيل:

 

من ذا الذي ما ساء قط ♦♦♦ ومن له الحسنى فقط

 

 

 

الضابط الثامن: الحكم على الناس إنما يكون بالظاهر لا بالظن.

 

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات:12]، وقال تعالى: ﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ﴾ [الإسراء:36].

 

 

 

وفي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ[15])).

 

 

 

الضابط التاسع: ليس كل النقد مقبول.

 

يعلم القاصي والداني أنه لو قُبِلَ كل نقدٍ فلن يَسْلَمَ لنا أحد من أَعْلام الأمة وعلمائها، بل لم يسلم عدد من الصحابة؛ لأن النقد طال بعضهم.

 

 

 

قال ابن عبد البر: "فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض فليقبل قول الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - بعضهم في بعض فإن فعل ذلك فقد ضل ضلالًا بعيدًا وخسر خسرانًا مبينًا"[16].

 

 

 

ومن ذلك قول بعضهم في الإمام البخاري إمام المحدثين: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ[17].

 

 

 

ومن الأمثلة أيضًا: أن شعبة أتى المنهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور في بيته، فتركه؛ فلم يقبل منه العلماء جرحه، وقالوا: قد يكون عمل بغير إذنه أو لعله لم يكن موجودًا.

 

 

 

ومنها أنه سئل الحكم بن عتيبة: لِمَ لَمْ ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام.

 

ومنها أيضًا: أن جريرًا رأى سماك بن حرب يبول قائمًا فتركه.

 

ولذلك تجد الناس اختلفوا فيما يجرح به، فلا بد من ذكر سببه لينظر هل هو سبب معتبر للجرح أم لا؟.

 

 

 

الضابط العاشر: الأصل في الناس العدالة.

 

فالأصل العدالة والجرح طارئ والأصل الصدق والكذب طارئ، والأصل التوحيد والشرك طارئ، والأصل الطهارة والنجاسة طارئة؛ وهكذا؛ وهذه قاعدة عظيمة ومن ثمارها قبول المسلم للمجتمع الذي يعيش فيه، فيعامل الناس على وفق هذه الأصول، فالأصل إحسان الظن بالمسلمين، وإساءة الظن لا تكون إلا إذا قامت أسبابها، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات:6]. فدلت الآية على أن التبين والتثبت إنما يكون من خبر الفاسق المعروف بالفسق.

 

 

 

الضابط الحادي عشر: وجوب التبين والتثبت وعدم التسرع.

 

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 94].

 

 

 

وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ غَنَمٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غَنَمَهُ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَمَّنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمَ السَّلاَمَ لَسْت مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعَندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ[18].

 

 

 

الضابط الثاني عشر: كلام الأقران لا يقبل إلا ببرهان.

 

قال ابن عبد البر: " لا يقبل فيمن صحت عدالته، وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون وكان خيره غالبًا وشره أقل عمله فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله[19]".

 

 

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في زُرُبِهَا[20]".

 

 

 

وعن مالك بن دينار قال: "يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس، تنصب لهم الشاة الضارب فينب[21] هذا من ههنا وهذا من ههنا"!!!

 

 

 

الضابط الثالث عشر: نهى الشرع عن التجسس والتحسس.

 

قال الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾ [الحجرات: 12].

 

 

 

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا))[22].

 

 

 

الضابط الرابع عشر: لا يحل الحكم بالمآل.

 

يقول الشاطبي في الاعتصام:" والذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول:" أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال"، كيف والكافر؟ ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به"[23] انتهى.

 

 

 

وعلى هذا فمن كانت بدعته سببًا لدخول النار كبدع الخوارج والقدرية وغيرهما ممن قيل فيهم: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً))، فلا يحكم على أفرادهم بالنار على وجه التعيين، لأن ذلك حكم المآل وهو في علم الله وحده، وإن كان ذلك لا يمنع من الحكم المطلق على أقوالهم وأفعالهم والتحذير منه، دون تعليق الحكم بالأشخاص المعينين.

 

 

 

الضابط الخامس عشر: لا يحل الحكم بلازم القول أو الفعل.

 

اللازم لغة: هو ما يمتنع انفكاكه عن الشيء [24].

 

 

 

وقد حصل تخبط واسع لدى من يتوسعون بالحكم على الناس بلازم القول أو الفعل، فتجد في أحكامهم شطط من هذا الباب، فمن أمثلة ذلك قولهم: لازم القول بمنع جواز التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته: القول بعدم محبته صلّى الله عليه وسلّم.

 

 

 

ويلزم من معرفته لفلان أنه على منهجه.

 

ويلزم من إصراره على المعصية استحلالها. وهكذا.

 

 

 

ولازم القول في الكتاب والسنة متوجه لأنّ الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما من عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويخفى عليه لازمه؛ ولذا فإنهم لا يؤاخذون بلازم قولهم.

 

 

 

وعليه فالقاعدة أن: لازم القول ليس بقول، ولازم المذهب ليس بمذهب، بمعنى: إذا تكلم الإنسان بكلام ويلزم على كلامه باطل، فلا تلزمه بهذا الباطل.

 

 

 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة، وكل من لم يثبت بين الاسمين قدراً مشتركاً لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيماناً، فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر، ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى[25] ". انتهى.

 

 

 

الضابط السادس عشر: لا يحل الحكم بالمحتمل.

 

لا يُفْتَى بكُفْر مسلم أو تبديعه إذا أمكنَ حمْلُ كلامه على مَحمل حسَنٍ، والقول المحتمل لا يحكم بردة صاحبه إلا بعد بيان الحق له وإصراره عليه

 

 

 

قال ابن مايابي في نظم نوازل العلوي:

 

والارتداد لا عليه يحمل ♦♦♦ لفظ له على سواه محمل

 

 

 

وكما في الأثر عن عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا[26]".

 

 

 

ومن الصور الجميلة التي تذكر في هذا المجال أن الربيع بن سليمان أحد تلامذة الشافعي دخل على الشافعي وهو مريض فقال له: " قوَّى الله ضعفك".

 

 

 

فقال الشافعي: لو قوى الله ضعفي لقتلني.

 

فقال الربيع: " والله ما أردت إلا الخير ".

 

فقال الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير [27].

 

 

 

الضابط السابع عشر: مراعاة المصلحة أو المفسدة المترتبة.

 

فأحيانًا يكون السكوت أبلغ من الكلام، والكلام في الفتنة أحيانًا يكون كبيع السلاح في الفتنة، والكلمة قد تفسد ما لا يفسده التقاتل، فالعالِم وحده يعرف إن كانت المصلحة في سكوته أم في كلامه، ويعرف متى يتكلم ومتى يسكت؟، وفي أي موضع؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رَحمه الله -:

 

وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي " الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ ": فِيمَا إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَوْ تَزَاحَمَتْ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَتَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ. فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَارِضِ لَهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ؛ بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ؛ لَكِنَّ اعْتِبَارَ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ هُوَ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ فَمَتَى قَدَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى اتِّبَاعِ النُّصُوصِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا وَإِلَّا اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَقُلْ إنْ تعوز النُّصُوصَ مَنْ يَكُونُ خَبِيرًا بِهَا وَبِدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ[28].

 

 

 

فاعلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، قال صلىّ الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ" [29].

 

 

 

الضابط الثامن عشر: من الناس من يُعْتَذَرُ عنه.

 

فمن الناس من ينبغي الاعتذار عنه، لفضله وسبقه وتوجيه قوله لمعنى من المعاني المقبولة، صيانة لجناب قائلها ومن ذلك:

 

موقف الصحابة مع أبي بكر الصديق:

 

وأخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ)). فَسَلَّمَ، وَقَالَ إِنِّى كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَىْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِى فَأَبَى عَلَىَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ: ((يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ)). ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِى بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا: لاَ. فَأَتَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِى إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ. وَوَاسَانِى بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِى صَاحِبِى)). مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِىَ بَعْدَهَا[30].

 

 

 

الاعتذار عن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.

 

 

 

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - يَقُولُ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ: ((انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا)). فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ. فَقَالَتْ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ. فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا)). قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لَقَدْ صَدَقَكُمْ)). قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. قَالَ: ((إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))[31].

 

 

 

وعند البخاري برقم (4274) ومسلم (2494) أيضًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾.

 

 

 

قال ابن بطال: " قال المهلب وغيره: لا خلاف بين العلماء أن كل متأول معذور بتأوله غير مأثوم فيه إذا كان تأويله ذلك مما يسوغ ويجوز في لسان العرب، أو كان له وجه في العلم[32]".

 

 

 

فظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عذر حاطب رضي الله عنه، مع ظهور خطأه واعترافه، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم بين منقبة من مناقبه، وهي شهوده لبدر؛ وأن أهل بدر من أهل الجنة.

 

 

 

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أَقِيلُوا ذَوِى الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلاَّ الْحُدُودَ [33])).

 

الاعتذار عن ابن حبان صاحب الصحيح.

 

 

 

جاء في السير للذهبي: "قال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري مؤلف كتاب " ذم الكلام ": سمعت عبد الصمد بن محمد بن محمد، سمعت أبي يقول: أنكروا علي أبي حاتم بن حبان قوله: "النبوة العلم والعمل "، فحكموا عليه بالزندقة، هُجر، وكُتِبَ فيه إلى الخليفة، فَكَتَبَ بقتله.

 

 

 

قلت: هذه حكاية غريبة، وابن حبان فمن كبار الأئمة، ولسنا ندعي فيه العصمة من الخطأ، لكن هذه الكلمة التي أطلقها، قد يطلقها المسلم، ويطلقها الزنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها لا ينبغي، لكن يعتذر عنه، فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " الحج عرفة " ومعلوم أن الحاج لا يصير بمجرد الوقوف بعرفة حاجًا، بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنما ذكر مهم الحج.

 

 

 

وكذا هذا ذكر مهم النبوة، إذ من أكمل صفات النبي كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيًا إلا بوجودهما، وليس كل من برز فيهما نبيًا، لأن النبوة موهبة من الحق تعالى، لا حيلة للعبد في اكتسابها، بل بها يتولد العلم اللدني والعمل الصالح.

 

 

 

وأما الفيلسوف فيقول: النبوة مكتسبة ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر، ولا يريده أبو حاتم أصلًا، وحاشاه[34].

 

الاعتذار عن قتادة بن دعامة السدوسي.

 

 

 

قال الذهبي رحمه الله في ترجمة التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي ما ملخصه:

 

"حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين... وكان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ... وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر، نسأل الله العفو.

 

 

 

ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل.

 

 

 

ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرِفَ صلاحُه وورعُه واتباعُه، يُغْفَرُ له زَلَلَهُ، ولا نُضَلِلُه ونطرحُه، وننسى محاسنَه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك"[35].ا هـ

 

 

 

هذا ما تيسر والله أعلم.

 

 

 

[1] أخرجه العقيلي(354) والبيهقى في السنن الكبرى(10/ 125) وصححه الألباني في الإرواء(8/ 260) برقم(2637).

 

[2] تذكرة الحفاظ للذهبي (1 / 10) دار الكتب العلمية.

 

[3] الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي ص 16؛ ط مكتبة ابن تيمية.

 

[4] السابق ص 17.

 

[5] نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 179.ط سفير بالرياض عام (1422هـ).

 

[6] أخرجه الخطيب شرف أصحاب الحديث رقم (1) وفي الفقيه والمتفقه(594) والبيهقي في شعب الإيمان(8490).

 

[7] أخرجه الترمذي (2510) وأحمد (1412)(1430)وانظر (الإرواء 3/ 238) و(صحيح الجامع 1/ 3361) وللحديث شواهد في الصحيح وغيره.

 

[8] أخرجه البخاري (4141) ومسلم(2770).

 

[9] أخرجه البخاري(755).

 

[10] ذكره البخاري 1/ 19 معلقاً، وأخرجه في " التأريخ الكبير " 5/ 43(6482) موصولاً.

 

[11] أخرجه أحمد في المسند (23262).

 

[12] أخرجه أحمد في المسند (23278) وفي الزهد لوكيع(469) والزهد لابن أبي عاصم(69) وعنده أربع مرات.

 

[13] أخرجه أحمد(27224).

 

[14] أخرجه الترمذي(2499) وابن ماجة(4251) وحسنه الألباني.

 

[15] أخرجه البخاري(5143)(6066)(6724) ومسلم(2563).

 

[16] جامع بيان العلم وفضله(2/ 313).

 

[17] وهي قول: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد نهى العلماء عنه لاحتماله المعنى المنهي عنه وهو القول بخلق القرآن.

 

[18] أخرجه البخاري(4591) ومسلم(3025) أحمد(2023)(2462)(2986) وابن أبي شيبة في المصنف(29544)(33777).

 

[19] (جامع بيان العلم وفضله(2/ 313).

 

[20] جامع بيان العلم(2/ 295).

 

[21] قال في لسان العرب: نب التيس ينب نبا، ونبيبا، ونباباً ونبيب: صاخ عند الهياج. أ.هـ

 

[22] أخرجه البخاري(5143)(6066)(6724) ومسلم(2563) وأبو داود (4917).

 

[23] الاعتصام ص 708 طبعة دار ابن عفان.

 

[24] شرح القاموس للزبيدي (9/ 59)، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص615.

 

[25] مجموع الفتاوى (20/ 217).

 

[26] أخرجه أحمد في(الزهد) كما قال السيوطي في(الدر المنثور) 6/ 92.

 

[27] آداب الشافعي للرازي ص274.

 

[28] مجموع الفتاوى(28/ 129).

 

[29] أخرجه البخاري(126) ومسلم(1333).

 

[30] أخرجه البخاري(3661)(4640).

 

[31] أخرجه البخاري (3007) ومسلم (2494).

 

[32] شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/ 595 - 596) ط مكتبة الرشد.

 

[33] أخرجه أحمد(25474) والنسائي في الكبرى(7253) (7258) والبخاري في الأدب المفرد(465) وابن حبان (94) وأبو نعيم في "الحلية" 9/ 43، والطحاوي في "مشكل الآثار" 3/ 129، والبيهقي 8/ 267 و334، والدار قطني في سننه(370) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

 

[34] سير أعلام النبلاء(16 / 95 - 96).

 

[35] سير أعلام النبلاء: 5 / 270 - 271.

 

قواعد في الحكم على الآخرين

 

لا تتعجل بالحكم على الناس من أشكالهم

 

الحكم التكليفي والحكم الوضعي والفرق بينهما(مقالة - آفاق الشريعة)

 

الحكم الوضعي والفرق بينه وبين الحكم التكليفي(مقالة - آفاق الشريعة)

 

معنى الحكم وأقسامه(مقالة - آفاق الشريعة)

 

مخطوطة رسالة في الحكم بالموجب والحكم بالصحة(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 

مخطوطة الحكم المستطاب بحكم القراءة في صلاة الجنازة بأم الكتاب(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 

نسخ الحكم الشرعي إلى بدل مساوٍ أو أخف أو أثقل(مقالة - آفاق الشريعة)

 

حكم من توفي صغيرا(مقالة - آفاق الشريعة)

 

الحكم التكليفي(مقالة - آفاق الشريعة)

 

حكم كتابة القصص التي بها كفر وحكم كاتبها وقارئها(استشارة - الاستشارات)

 

حكم من لم يكفر الكافر وحكم تكفير المعين وغيره(مقالة - آفاق الشريعة)

 

================

 

ضوابط الحكم على الناس

 

باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إِلَى الله تَعَالَى

 

49 - باب إجراء أحكام الناس عَلَى الظاهر وسرائرهم إِلَى الله تَعَالَى

قَالَ الله تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5].

1/390- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّه تَعَالَى متفقٌ عَلَيهِ.

2/391- وعن أَبي عبدِاللَّه طَارِقِ بن أشيم t قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: مَنْ قالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، محمدٌ رسولُ الله، وَكَفَرَ بِما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ حَرُمَ مالُهُ، وَدَمُهُ، وَحِسابُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى رواه مسلم.

3/392- وعن أَبي مَعْبدٍ المِقْدَادِ بنِ الأَسْوَدِ t قَالَ: قُلْتُ لرسُولِ اللَّه ﷺ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ للَّهِ، أَأَقْتُلُهُ يَا رسولَ اللَّه بَعْدَ أَنْ قَالَها؟ فَقَالَ: لا تَقْتُلْهُ، فَقُلْتُ: يَا رسُولَ اللَّهِ قطعَ إِحدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذلكَ بَعْدَما قَطعَها؟! فَقَالَ: لا تَقْتُلْهُ فإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمنزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ التي قَالَ متفقٌ عَلَيهِ.

 

 

الشيخ:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله، وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فهذه الأحاديث والآيات فيها الدلالة على إجراء أمور العباد على الظواهر، وأما القلوب فإلى الله U، فيُحْكَم عليهم بما ظهر منهم، وتُوكَل سرائرُهم إلى الله؛ إلا إذا أظهروا من السَّريرة ما يدل على خلاف الظاهر، وإلا فالأصل أنهم مُؤاخذون بما أظهروا، إلا مَن عُرِفَ نفاقُه قال الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وقال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة:11]، وبيَّن جلَّ وعلا أنهم متى أظهروا أمورَ الإسلام فهم إخواننا، ويُخلَّى سبيلهم، ولا يُفتش عن قلوبهم؛ إلا إذا أظهروا النِّفاق، فإذا تبين نفاقُهم صار لهم حكم المنافقين.

وهكذا قوله ﷺ في حديث ابن عمر: أُمِرْتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم، وأموالهم؛ إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله، مَن أظهر أمور الإسلام فحسابه على الله، يُكَفّ عنه ولا يُقتل.

وهكذا حديث المقداد في سؤاله عمَّن قطع إحدى يديه ثم لاذ بشجرةٍ وقال: أسلمتُ لله، أو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، هل أقتله؟ فنهاه النبيُّ ﷺ عن قتله، وأخبر أنه متى قتله فهو بمنزلته قبل أن يقول ما قال، يعني: فهو حلال الدم، وهذا وعيدٌ شديدٌ، فالواجب الحذر من ذلك، فمتى أظهر التوحيدَ والإيمانَ عُصِمَ دمُه.

 

وهكذا حديث أسامة بن زيد في قصة الذي لحقه فلما أهوى إليه ليقتله قال: "لا إله إلا الله"، فقتله أسامة، فقال له النبيُّ ﷺ: أقتلتَه بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: نعم يا رسول الله، إنما قالها تعوُّذًا! قال: هلا شققتَ عن قلبه؟! حتى تعلم أنه قالها تعوُّذًا! فأنكر عليه قتله بعدما أظهر التوحيد والإيمان، وهذا في حقِّ مَن لا يقول: لا إله إلا الله، ولا يشهد أن لا إلهَ إلا الله، وأمَّا مَن يقولها وهو يعبد القبورَ، وأصحابَ القبور فهذا ما تنفعه ولو قالها، يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِلَ، يُستتاب من عمله: كمَن يعبد الأموات، ويستغيث بالأموات، أو بالأصنام، ويقول: لا إله إلا الله، ما تنفعه؛ لأنه ينقضها بأفعاله، ولا بدّ أن يدع أعماله الشّركية.

 

وهكذا حديث طارق بن أشيم: أنَّ النبي ﷺ قال: مَن قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعْبَد من دون الله؛ حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله، وفي اللفظ الآخر: مَن وحَّد الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله، هذا كله يُؤيد أن الحكم يُناط بالظاهر في الأحكام الظاهرة، وتجري عليه الأحكام الظاهرة، ولا يُفتش عن قلبه، لكن متى ظهر من أعماله الأخرى أوأقواله الأخرى أشياء تدل على خلاف ما أظهر حُكِمَ عليه بما تقتضيه أعماله، وأقواله.

وفَّق الله الجميع.

 

الأسئلة:

 

س: أحيانًا يكون هناك نقاش بين بعض الإخوان: يقول مثلًا: هذا فلان أفضل من الملتزم فلان، مثلًا أنَّ هذا من ............. يعني: أفضل من الشخص الملتزم؟

ج: ينبغي التَّثبت في مثل هذه الأمور، فالتفضيل خطير؛ فإذا عرف ما يدل على تفضيله فهذا شيءٌ آخر، لكن لا بدّ من التثبت في الأمور، وإذا أظهر أعمالَ الإسلام، والآخر أظهر المعاصيح ما يُقال: إنَّه أفضل منه، ما يُقال: إنَّه أفضل ممن أظهر المعاصي، لا بدّ أن يتثبت في الأمر، فالذي يُظهر الإسلام والسَّلامة من المعاصي هو أفضل.

س: ما الرواية الصَّحيحة في حديث أبي عبدالله طارق؟ فلا يوجد فيها أنَّ محمدًا رسول الله، موجود فقط: لا إله إلا الله؟

ج: المعروف في الأحاديث: مَن قال: لا إله إلا الله، وفي لفظٍ: مَن وحَّد الله هكذا رواه مسلم في "الصحيح"، أمَّا زيادة "محمد رسول الله" فلعلها في روايةٍ أخرى، أو وقعت سهوًا من المؤلف، أو من بعض النُّسَّاخ، لكن لا بُدَّ منها حتى لو ما وقعت فلا بد من شهادة أنَّ محمدًا رسول الله في الإسلام.

س: ما المقصود: بمنزلتك في الحديث الثاني؟

ج: من باب الوعيد يعني: أنَّك كافر حلال الدم.

س: هل يُقال: فلان ملتزم، أو: فلان مستقيم؟

ج: الأحسن أن يُقال: ظاهره الخير؛ لأنَّ الاستقامة والالتزام قد تخفى على الناس، قد يكون في باطن الأمر ليس كذلك.

س: ما يُقال بالتفصيل؟

ج: يقال: ظاهره الخير، أو: ظاهره العدالة، فالناس ليس لهم إلا الظاهر.

س: ما يقال: هذا سابقٌ بالخيرات، وهذا مُقتصِدٌ، وهذا ظالمٌ لنفسه؟

ج: لا، هذا صعب، ألا يضبط الأمور، لكن مَن أظهر الخير يُقال: ظاهره الخير، ونشهد له بالخير، والحمد لله، فالعمل على الظواهر.

س: إذا كان الإنسانُ في الظاهر ملتزمًا؛ لكن هناك شواهد تدل على أنَّه غير ملتزمٍ؛ هل يُبلغون وليَّ الأمر؟

ج: هذا فيه تفصيل، إذا أظهر المعاصي يُبَلَّغ ولي الأمر، إن كان فيها حدودٌ يُبَلَّغ حتى يُقام عليه الحدّ، بعد النَّصيحة، وبعد التَّوجيه.

س: إن كان ملتزمًا أو مستقيمًا: نحسبه كذلك يعني: مَن زاد: نحسبه كذلك؟

ج: كذلك، طيب.

 

 

 

==============================

 

 

 

الحكم على الناس بالظاهر

 

د. بدر عبد الحميد هميسه

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

لا يوجد على الإطلاق ثمة تعارض بين الحكم على الناس من خلال التجربة والمعايشة , وأن لا ينخدع المرء في المظاهر الكاذبة وبين النهي عن التفتيش عما في قلوب الناس , فقد نهانا الإسلام عن التنقيب عما في قلوب الناس كلون من ألوان إساءة الظن بهم ,قال تعالى : \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ .. (12) سورة الحجرات , وروت كتب السنة أن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إِلَى الْحُرَقَاتِ ، فَنَذِرُوا بِنَا فَهَرَبُوا ، فَأَدْرَكْنَا رَجُلاً ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ ، فَعَرَضَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، فَذَكَرْتُهُ لَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : مَنْ لَكَ بلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟! قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلاَحِ وَالْقَتْلِ . فَقَالَ : أَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمْ لاَ ؟ مَنْ لَكَ ب ِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟! قَالَ : فَمَا زَالَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ.أخرجه أحمد 5/200(22088) و\"البُخَارِي\" 5/183(4269) و\"مسلم\" 1/67(190) و\"النَّسائي\" ، في \"الكبرى\" 8540.

وعَنِ الْحَسَنِ ، وَغَيْرِهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:رَأَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلاً يَسْرِقُ ، فَقَالَ لَهُ : يَا فُلاَنُ أَسَرَقْتَ ؟ قَالَ : لاَ وَاللهِ مَا سَرَقْتُ ، قَالَ : آمَنْتُ بِاللهِ ، وَكَذَّبْتُ بَصَرِي.أخرجه أحمد 2/383(8961) الألباني :صحيح الجامع الصغير ( 3450 ).

وكما نهانا الإسلام عن سوء الظن بالناس الذي قد يتبعه تتبع عوراتهم أو التجسس عليهم وترصد الخطأ منهم ؛ فإنه قد أمرنا بعدم الحكم على الناس من خلال المظاهر الخارجية وفقط بل لا بد من التثبت والتحقق , قال تعالى : \"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) سورة الحجرات , وعن سهل بن سعد الساعدي , قَالَ:مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رجل. فَقَالَ النبي : مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا ؟ قَالُوا : رأيك في هذا.نقول : هذا من أشرف الناس , هذا حَرِيٌّ , إِنْ خَطَبَ , أَنْ يخطب ، وَإِنْ شَفَعَ , أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْ يُسْمَعَ لقوله , فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم , وَمَرَّ رَجُلٌ آخر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مَا تَقُولُونَ في هَذَا ؟ قَالُوا : نقول : والله يا رسول الله , هذا من فقراء المسلمين , هذا حَرِيٌّ , إِنْ خَطَبَ , لمَ يُنْكَحَ , وَإِنْ شَفَعَ , لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ , أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله , فَقَالَ النبي صلى الله ع ليه وسلم : لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا.أخرجه البخاري 7/9(5091) و\"ابن ماجة\" 4120.

قال البارودي:

 

واختبر من شئت تَعْرِفهُ ، فما * * * يعرفُ الأخلاقَ إلا مَنْ فَحَصْ

 

فلربما رأيت شخصاً قد لا يدل مظهره على أنه من أهل الجاه والواجهات فتحتقره وهو عند الله تعالى من أهل الصدق والولايات , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ.أخرجه مسلم 8/36 و154.

وعَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ ، كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ ، وَأَهْلُ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ. أخرجه أحمد 4/306(18935) و\"البُخَارِي\" 6/198(4918) و\"مسلم\" 8/154(7289) .

ولقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام درساً عملياً في عدم احتقار المسلم لأخيه وازدراءه والحط من شأنه أو التعالي عليه لأنه رأى من مظهره ما لا يعجبه ,فعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ : أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلاَمَ ، فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللهِ ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ : بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ ، أَمَا وَاللَّهِ لَنُنَبِّئَنَّهُ ، قُمْ يَا فُلاَنُ ، رَجُلاً مِنْهُمْ ، فَأَخْبِرْهُ ، قَالَ : فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلاَنٌ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلاَمَ ، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلاَنًا قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللهِ ، فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلاَمَ يُبْغِضُنِي ؟ فَدَعَ اهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ ، فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَقَالَ : قَدْ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : فَلِمَ تُبْغِضُهُ ؟ قَالَ : أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّي صَلاَةً قَطُّ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، قَالَ الرَّجُلُ : سَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ : هَلْ رَآنِي قَطُّ أَخَّرْتُهَا عَنْ وَقْتِهَا ، أَوْ أَسَأْتُ الْوُضُوءَ لَهَا ، أَوْ أَسَأْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يَصُومُ قَطُّ إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْتُ فِيهِ ، أَوِ انْتَقَصْتُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُعْطِي سَائِلاً قَطُّ ، وَلاَ رَأَيْتُهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ ، إِلاَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، قَالَ : فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ كَتَمْتُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا قَطُّ ، أَوْ مَاكَسْتُ فِيهَا طَالِبَهَا ؟ قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لاَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : قُمْ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ. مسند أحمد (7 / 856)(23803) 24213- صحح إسناده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ( 3 / 145 - بهامش الإحياء ).

 

كما حكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة الرائعة لكي نتعلم منها عدم الحكم على الناس من خلال الثياب بل لا بد من التحقق والمعايشة والمعرفة , قال صلى الله عليه وسلم : \" .. وَبَيْنَا صَبِىٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ فَقَالَتْ أُمُّهُ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِى مِثْلَ هَذَا . فَتَرَكَ الثَّدْىَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِى مِثْلَهُ . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ . قَالَ فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَحْكِى ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ في فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا . قَالَ وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ سَرَقْتِ . وَهِىَ تَقُولُ حَسْبِىَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَتْ أُمُّهُ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِى مِثْلَهَا . فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِثْلَهَا . فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ فَقَالَتْ حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِى مِثْلَهُ . فَقُلْتَ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِى مِثْلَهُ . وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ سَرَقْتِ . فَقُلْتُ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِى مِثْلَهَا . فَقُلْتَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِثْلَهَا قَالَ إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِى مِثْلَهُ . وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ . وَلَمْ تَزْنِ وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِثْلَهَا. أخرجه أحمد 2/307(8057) و\"البُخاري\" 3/179(2482) و4/201(3436) و\"مسلم\" 8/4.

قال الشاعر:

 

واختر صديقك واصطفيه تفاخرا*** إن القرين إلى المقارن ينسب

 

روى الجاحظ أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه نظر إلى النخّار بن أوس العُذري، الخطيب الناسب، في عباءة في ناحية من مجلسه، فأنكره وأنكر مكانه زِرايةً منه عليه، فقال: من هذا؟ فقال النخّار: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها!.الدينوري : المجالسة وجواهر العلم 2/419, الوطواط : غرر الخصائص الواضحة 98.

وعَن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت فقلت: يا أبا أمية ما أظن هذه البائسة إِلَّا مظلومة؛ فقال: يا شعبي: إن إخوة يوسف:{جَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ[يوسف:16}وكيع : أخبار القضاة 2/221.

وجاء رجل يشهد لرجل بالصلاح عند أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال له: أأنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: أسافرت معه في سفر طويل يسفر عن أخلاق الرجال؟، قال: لا، قال: أعاملته بالدينار وبالدرهم ـ الذي به يظهر ورع المرء من شرهه ـ؟ قال: لا، قال: لعلك رأيته في المسجد يمسك بالمصحف، يقرأ القرآن، يرفع رأسه تارة ويخفضها تارة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: اذهب فلست تعرفه، وقال للرجل: ائتني بمن يعرفه.إحياء علوم الدين 2/83.

يقول ابن المقري:

 

ولا يغرَّنكَ ودٌ من أخي أملٍ * * * حتى تُجرِّبهُ في غَيبةِ الأمل

إذا العدوُّ أحاجتهُ الأِخا عِلًلٌ * * * عادت عداوته عندَ انقضاء العِلَلِ

 

رزقنا الله وإياكم حسن التفقه في الدين , وطيب الفهم له , وعز العمل به , وكرامة الإخلاص له .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق